عنوان الكتاب:

مجموع فتاوى ابن تيمية – الجزء الثالث عشر

تأليف:

أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

728هـ

دراسة وتحقيق:

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم

الناشر:

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية

1416هـ/1995م

مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد الثالث عشر
"التفسير"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
قال شيخ الإسلام أحمدُ بنُ تَيمية  طَيَّب اللَّه ثَرَاه  فيما صنفه بقلعة دمشق أخيرًا‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه، نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‏.‏

 

ص -5-

فَصْل
في الفرقان بين الحق والباطل
وأن اللّه بين ذلك بكتابه ونبيه، فمن كان أعظم اتباعًا لكتابه الذي أنزله ونبيه الذي أرسله كان أعظم فرقانًا، ومن كان أبعد عن اتباع الكتاب والرسول كان أبعد عن الفرقان، واشتبه عليه الحق بالباطل، كالذين اشتبه عليهم عبادة الرحمن بعبادة الشيطان، والنبي الصادق بالمتنبئ الكاذب، وآيات النبيين بشبهات الكذابين، حتى اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق‏.‏
فإن اللّه  سبحانه وتعالى  بعث محمدًا بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ففرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصدق والكذب، والعلم والجهل، والمعروف والمنكر، وطريق أولياء اللّه السعداء وأعداء اللّه الأشقياء؛

 

ص -6-

وبين ما عليه الناس من الاختلاف، وكذلك النبيون قبله، قال اللّه تعالى‏:‏‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏ النحل‏:‏ 63، 64‏]‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏1‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏1 4‏]‏‏.‏
قال جماهير المفسرين‏:‏ هو القرآن‏.‏ روى ابن أبي حاتم بإسناده عن الربيع بن أنس قال‏:‏ هو الفرقان فرق بين الحق والباطل‏.‏ قال‏:‏ وروى عن عطاء ومجاهد ومِقْسَم وقتادة ومقاتل بن حَيَّان نحو ذلك، وروى بإسناده عن شيبان، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏
{وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ قال‏:‏ هو القرآن الذي أنزله اللّه على محمد، ففرق به بين الحق والباطل، وبين فيه دينه وشرع فيه شرائعه، وأحل حلاله وحرم حرامه، وحد

 

ص -7-

حدوده، وأمر بطاعته ونهى عن معصيته‏.‏ وعن عباد بن منصور‏:‏ سألت الحسن عن قوله تعالى‏:‏ ‏{وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ قال‏:‏ هو كتاب بحق‏.‏
و‏[‏الفرقان‏]‏ مصدر فرق فرقانًا مثل الرجحان، والكفران، والخسران، وكذلك ‏[‏القرآن‏]‏ هو في الأصل مصدر قرأ قرآنا، ومنه قوله‏:‏
‏{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏17 19‏]‏، ويسمى الكلام المقروء نفسه ‏[‏قرآنا‏]‏  وهو كثير  كما في قوله‏:‏‏{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏98‏]‏، كما أن الكلام هو اسم مصدر كلم تكليما، وتكلم تكلما، ويراد به الكلام نفسه؛ وذلك لأن الإنسان إذا تكلم كان كلامه بفعل منه وحركة هي مسمى المصدر، وحصل عن الحركة صوت يقطع حروفًا هو نفس التكلم، فالكلام والقول ونحو ذلك يتناول هذا وهذا؛ ولهذا كان الكلام تارة يجعل نوعًا من العمل إذا أريد به المصدر، وتارة يجعل قسيمًا له إذا أريد ما يتكلم به، وهو يتناول هذا وهذا‏.‏ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن لفظ الفرقان‏]‏ إذا أريد به المصدر كان المراد أنه أنزل الفصل والفرق بين الحق والباطل، وهذا منزل في الكتاب؛ فإن في الكتاب الفصل، وإنزال الفرق هو إنزال الفارق، وإن أريد بالفرقان ما يفرق فهو الفارق أيضًا‏.‏ فهما في المعنى سواء، وإن أريد

 

ص -8-

بالفرقان نفس المصدر فيكون إنزاله كإنزال الإيمان وإنزال العدل؛ فإنه جعل في القلوب التفريق بين الحق والباطل بالقرآن، كما جعل فيها الإيمان والعدل، وهو  سبحانه وتعالى  أنزل الكتاب والميزان، والميزان قد فسر بالعدل، وفسر بأنه ما يوزن به ليعرف العدل، وهو كالفرقان يفسر بالفرق، ويفسر بما يحصل به الفرق، وهما متلازمان؛ فإذا أريد الفرق نفسه فهو نتيجة الكتاب وثمرته ومقتضاه، وإذا أريد الفارق فالكتاب نفسه هو الفارق، ويكون له اسمان،كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة الأخرى، سمي كتابًا باعتبار أنه مجموع مكتوب تحفظ حروفه ويقرأ ويكتب،وسمى فرقانا باعتبار أنه يفرق بين الحق والباطل كما تقدم، كما سمى هدى باعتبار أنه يهدي إلى الحق، وشفاء باعتبار أنه يشفي القلوب من مرض الشبهات والشهوات، ونحو ذلك من أسمائه‏.‏
وكذلك أسماء الرسول؛ كالمقفى، والماحي، والحاشر‏.‏ وكذلك أسماء اللّه الحسنى؛ كالرحمن، والرحيم، والملك، والحكيم، ونحو ذلك‏.‏
والعطف يكون لتغاير الأسماء والصفات، وإن كان المسمى واحدًا كقوله‏:‏ ‏
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ لْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏3‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

 

ص -9-

وهنا ذكر أنه نزل الكتاب، فإنه نزله متفرقًا، وأنه أنزل التوراة والإنجيل، وذكر أنه أنزل الفرقان، وقد أنزل  سبحانه وتعالى  الإيمان في القلوب، وأنزل الميزان، والإيمان‏.‏ و‏[‏الميزان‏]‏ مما يحصل به الفرقان أيضًا، كما يحصل بالقرآن، وإذا أنزل القرآن حصل به الإيمان والفرقان، ونظير هذا قوله‏:‏‏{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏48‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ الفرقان هو التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الحكم بنصره على فرعون، كما في قوله‏:‏‏{إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏41‏]‏‏.‏
وكذلك قوله‏:‏‏
{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏15‏]‏، قيل‏:‏ النور هو محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ هو الإسلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏174‏]‏، قيل‏:‏ البرهان‏:‏ هو محمد‏.‏ وقيل‏:‏ هو الحجة والدليل‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن والحجة والدليل تتناول الآيات التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه هناك جاء بلفظ ‏{آتَيْنَا‏}‏ و ‏{جَاءكُم‏}‏‏.‏ وهنا قال‏:‏ ‏{وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ جاء بلفظ الإنزال؛ فلهذا شاع بينهم أن القرآن والبرهان يحصل بالعلم والبيان كما حصل بالقرآن، ويحصل بالنظر والتمييز بين أهل الحق والباطل بأن ينجي هؤلاء وينصرهم ويعذب هؤلاء، فيكون قد فرق بين الطائفتين كما يفرق المفرق بين أولياء اللّه وأعدائه بالإحسان إلى هؤلاء وعقوبة هؤلاء‏.‏

 

ص -10-

وهذا كقوله في القرآن في قوله‏:‏ ‏{إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏14‏]‏، قال الوالبي عن ابن عباس‏:‏ ‏{يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏‏:‏يوم بَدْر، فرق اللّه فيه بين الحق والباطل‏.‏
قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروى عن مجاهد ومِقْسَم وعبيد اللّه بن عبد اللّه والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وبذلك فسر أكثرهم‏
{إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏29‏]‏، كما في قوله‏:‏ ‏{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2‏]‏، أي‏:‏ من كل ما ضاق على الناس، قال الوالبي عن ابن عباس في قوله‏:‏‏{إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ أي‏:‏ مخرجا، قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروى عن مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان كذلك، غير أن مجاهدًا قال‏:‏ مخرجًا في الدنيا والآخرة‏.‏ وروى عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ نصرًا، قال‏:‏وفي آخر قول ابن عباس والسدي‏:‏ نجاة‏.‏
وعن عُرْوَة بن الزبير‏:‏
‏{يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً‏}‏ أي‏:‏فصلا بين الحق والباطل، يظهر اللّه به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم، وذكر البغوي عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ مخرجًا في الدنيا من الشبهات، لكن قد يكون هذا تفسيرًا لمراد مقاتل بن حيان، كما ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، والضحاك وابن

 

ص -11-

قتيبة أنهم قالوا‏:‏ هو المخرج‏.‏ ثم قال‏:‏ والمعنى‏:‏ يجعل لكم مخرجًا في الدنيا من الضلال، وليس مرادهم، وإنما مرادهم المخرج المذكور في قوله‏:‏ ‏{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2‏]‏، والفرقان المذكور في قوله‏:‏‏{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏ 14‏]‏‏.‏
وقد ذكر عن ابن زيد أنه قال‏:‏ هدى في قلوبهم يعرفون به الحق من الباطل، ونوعا الفرقان‏:‏ فرقان الهدى والبيان، والنصر والنجاة هما نوعا الظهور في قوله تعالى‏:
‏‏{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏33،الفتح‏:‏28، الصف‏:‏9‏]‏، يظهره بالبيان والحجة والبرهان، ويظهر باليد والعِزّ والسِّنَان ‏[‏أي‏:‏ القوة، انظر‏:‏ لسان العرب، مادة‏:‏ سنن‏]‏‏.‏
وكذلك ‏"‏السلطان‏"‏ في قوله‏:‏
‏{وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏80‏]‏، فهذا النوع وهو الحجة والعلم، كما في قوله‏:‏‏{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، وقد فسر ‏[‏السلطان‏]‏ بسلطان القدرة واليد، وفسر بالحجة والبيان‏.‏
فمن الفرقان‏:‏ما نَعَتَهُ اللَّه به في قوله‏:‏‏
{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏156، 157‏]‏،

 

ص -12-

ففرّق بين المعروف والمنكر،أمر بهذا ونهى عن هذا،وبين الطيب والخبيث،أحل هذا وحرم هذا‏.‏
ومن الفرقان‏:‏ أنه فرق بين أهل الحق المهتدين المؤمنين المصلحين،أهل الحسنات، وبين أهل الباطل الكفار الضالين المفسدين،أهل السيئات، قال تعالى‏:‏‏
{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ٌ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏35، 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏24‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏9‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِير إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏1924‏]‏،

 

ص -13-

وقال تعالى‏:‏‏{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏122‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏18‏]‏،فهو  سبحانه  بين الفرق بين أشخاص أهل الطاعة للّه والرسول، والمعصية للّه والرسول، كما بين الفرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه‏.‏
وأعظم من ذلك أنه بين الفرق بين الخالق والمخلوق، وأن المخلوق لا يجوز أن يسوى بين الخالق والمخلوق في شيء، فيجعل المخلوق نِدّا للخالق، قال تعالى‏:
‏‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏165‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏65‏]‏، ‏{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏4‏]‏، ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، وضرب الأمثال في القرآن على من لم يفرق، بل عدل بربه وسوى بينه وبين خلقه، كما قالوا  وهم في النار يصطرخون فيها ‏:‏ ‏{تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏97، 98‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏17 21‏]‏‏.‏
فهو  سبحانه  الخالق العليم،الحق الحي الذي لا يموت،ومن سواه لا يخلق شيئًا، كما قال‏:
‏‏{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73، 74‏]‏‏.‏

 

ص -14-

 وهذا مثلٌ ضربه اللّه،فإن الذباب من أصغر الموجودات، وكل من يدعى من دون اللّه لا يخلقون ذبابًا ولو اجتمعوا له‏.‏ وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه‏.‏ فإذا تبين أنهم لا يخلقون ذبابًا، ولا يقدرون على انتزاع ما يسلبهم، فَهُمْ عن خلق غيره وعن مغالبته أعجز وأعجز‏.‏
و‏[‏المثل‏]‏ هو الأصل والنظير المشبه به، كما قال‏:‏
‏{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏57‏]‏، أي‏:‏ لما جعلوه نظيرًا قاسوا عليه آلهتهم، وقالوا‏:‏ إذا كان قد عُبِد وهو لا يعذب فكذلك آلهتنا، فضربوه مثلا لآلهتهم، وجعلوا يصدون، أي‏:‏ يضجون، ويعجبون منه احتجاجًا به على الرسول، والفرق بينه وبين آلهتهم ظاهر، كما بينه في قوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏101‏]‏، وقال في فرعون‏:‏ ‏{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏56‏]‏، أي‏:‏ مثلاً يعتبر به ويقاس عليه غيره، فمن عمل بمثل عمله جُوزِي بجزائه؛ ليتعظ الناس به فلا يعمل بمثل عمله‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏34‏]‏، وهو ما ذكره من أحوال الأمم الماضية، التي يعتبر

 

ص -15-

بها ويقاس عليها أحوال الأمم المستقبلة، كما قال‏:‏‏{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏، فمن كان من أهل الإيمان قيس بهم، وعلم أن اللّه يسعده في الدنيا والآخرة، ومن كان من أهل الكفر قيس بهم، وعلم أن اللّه يشقيه في الدنيا والآخرة، كما قال في حق هؤلاء‏:‏‏{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ‏}‏‏[‏القمر‏:‏43‏]‏، وقد قال‏:‏‏{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏137‏]‏، وقال في حق المؤمنين‏:‏‏{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏55‏]‏، وقال‏:‏‏{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87، 88‏]‏، وقال في قصة أيوب‏:‏ ‏{رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏84‏]‏، ‏{رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏43‏]‏، وقال‏:‏‏{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏90‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏214‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏120‏]‏‏.‏
فلفظ ‏[‏المثل‏]‏ يراد به النظير الذي يقاس عليه ويعتبر به، ويراد

 

ص -16-

به مجموع القياس، قال سبحانه‏:‏‏{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏78‏]‏، أي‏:‏ لا أحد يحييها وهي رميم‏.‏ فمثل الخالق بالمخلوق في هذا النفي، فجعل هذا مثل هذا، لا يقدر على إحيائها، سواء نظمه في قياس تمثيل أو قياس شمول، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن معنى القياسين قياس الشمول وقياس التمثيل واحد  والمثل المضروب المذكور في القرآن  فإذا قلت‏:‏ النبيذ مُسْكِر، وكل مسكر حرام، وأقمت الدليل على المقدمة الكبرى بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ فهو كقوله صلى الله عليه وسلم قياسًا على الخمر؛ لأن الخمر إنما حرمت لأجل الإسكار، وهو موجود في النبيذ‏.‏ فقوله‏:‏‏{ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73‏]‏‏.‏ جعل ما هو من أصغر المخلوقات مثلاً ونظيرًا يعتبر به؛ فإذا كان أدْوَن خلق اللّه لا يقدرون على خلقه ولا منازعته فلا يقدرون على خَلْق ما سواه، فيعلم بها من عظمة الخالق وأن كل ما يعبدون من دون اللّه في السماء والأرض لا يقدرون على ما هو أصغر مخلوقاته‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم جعلوا آلهتهم مثلاً للّه فاستمعوا لذكرها؛ وهذا لأنهم لم يفقهوا المثل الذي ضربه اللّه، جعلوا المشركين هم الذين ضربوا هذا المثل‏.‏
ومثل هذا في القرآن قد ضربه اللّه ليبين أنه لا يقاس المخلوق بالخالق، ويجعل له نِدّا ومِثْلا

 

ص -17-

كقوله‏:‏‏{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏31 36‏]‏‏.‏
ولما قرر الوحدانية قرر النبوة كذلك، فقال‏:‏‏
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏ يونس‏:‏ 37 39‏]‏، وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق، وهذا من تكذيبهم إياه، ولم يكن المشركون يسوون بين آلهتهم وبين اللّه في كل شىء، بل كانوا يؤمنون بأن اللّه هو الخالق المالك لهم، وهم مخلوقون مملوكون له، ولكن كانوا يسوون بينه وبينها في المحبة والتعظيم، والدعاء والعبادة، والنذر لها ونحو ذلك مما يخص به الرب،

 

ص -18-

فمن عدل باللّه غيره في شيء من خصائصهِ  سبحانه وتعالى  فهو مشرك، بخلاف من لا يعدل به ولكن يذنب، مع اعترافه بأن اللّه ربه وحده، وخضوعه له خوفًا من عقوبة الذنب، فهذا يفرق بينه وبين من لا يعترف بتحريم ذلك‏.‏

فَصْل
وهو  سبحانه وتعالى  كما يفرق بين الأمور المختلفة فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة، فيحكم في الشىء خلقًا وأمرًا بحكم مثله، لا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين شيئين غير متماثلين، بل إن كانا مختلفين متضادين لم يسو بينهما‏.‏
ولفظ ‏[‏الاختلاف‏]‏ في القرآن يراد به التضاد والتعارض؛ لا يراد به مجرد عدم التماثل  كما هو اصطلاح كثير من النظار  ومنه قوله‏:‏ ‏
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً‏}‏‏[‏النساء‏:‏82‏]‏، وقوله‏:‏‏{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏8، 9‏]‏، وقوله‏:‏‏{وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏
وقد بين  سبحانه وتعالى  أن ‏[‏السنة‏]‏ لا تتبدل ولا تتحول في غير

 

ص -19-

موضع، و‏[‏السنة‏]‏ هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول؛ ولهذا أمر  سبحانه وتعالى  بالاعتبار، وقال‏:‏‏{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏‏.‏
والاعتبار أن يقرن الشىء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه، كما قال ابن عباس‏:‏ هلا اعتبرتم الأصابع بالأسنان ‏؟‏ فإذا قال‏:‏ ‏
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ الحشر‏:‏ 2 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جُوزِي مثل جزائهم؛ ليحذر أن يعمل مثل أعمال الكفار؛ وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء، قال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏137‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏76، 77‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 60 62‏]‏‏.‏ وهذه الآية أنزلها اللّه قبل الأحزاب، وظهور الإسلام، وذَلَّ المنافقين فلم يستطيعوا أن يظهروا بعد هذا ما كانوا يظهرونه قبل ذلك، قبل بَدْر وبعدها، وقبل أُحُد وبعدها، فأخفوا النفاق وكتموه؛ فلهذا لم

 

ص -20-

يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وبهذا يجيب من لم يقتل الزنادقة، ويقول‏:‏ إذا أخفوا زندقتهم لم يمكن قتلهم، ولكن إذا أظهروها قتلوا بهذه الآية، بقوله‏:‏‏
{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن المنافقين كانوا يظهرون ما في أنفسهم من النفاق؛ فأوعدهم الله بهذه الآية، فلما أوعدهم بهذه الآية أسروا ذلك وكتموه ‏{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏ يقول‏:‏ هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق‏.‏ قال مقاتل بن حَيَّان‏:‏ قوله‏:‏ ‏{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ كما قُتِل أهل بَدْر وأسِرُوا فذلك قوله‏:‏‏{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏‏.‏
قال السدي‏:‏ كان النفاق على ثلاثة أوجه‏:‏
نفاق مثل نفاق عبد اللّه بن أُبَيّ، وعبد اللّه بن نُفيل، ومالك بن داعس، فكان هؤلاء وجوهًا من وجوه الأنصار، فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا، يصونون بذلك أنفسهم، ‏
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏ قال‏:‏ الزناة‏.‏ إن وجدوه عملوا به، وإن لم يجدوه لم يتبعوه‏.‏
ونفاق يكابرون النساء مكابرة، وهم هؤلاء الذين يجلسون

 

ص -21-

على الطريق، ثم قال‏:‏ ‏{مَلْعُونِينَ‏}‏ ثم فصلت الآية ‏{أَيْنَمَا ثُقِفُوا‏}‏ يعملون هذا العمل، مكابرة النساء‏.‏ قال السدى‏:‏ هذا حكم في القرآن ليس يعمل به، لو أن رجلاً أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم؛ أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم‏.‏ قال السدي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{سُنَّةَ‏}‏ كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم‏.‏ قال‏:‏ فمن كابر امرأة على نفسها فقتل فليس على قاتله دية؛لأنه مكابر‏.‏
قلت‏:‏ هذا على وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يقتل دفعًا لصَوْله عنها، مثل أن يقهرها، فهذا دخل في قوله‏:‏‏"‏من قتل دون حرمته فهو شهيد‏"‏، وهذه لها أن تدفعه بالقتل، لكن إذا طاوعت ففيه نزاع وتفصيل، وفيه قضيتان عن عمر وعلي معروفتان، وأما إذا فجر بها مستكرها ولم تجد من يعينها عليه فهؤلاء نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون له شوكة كالمحاربين لأخذ المال، وهؤلاء محاربون للفاحشة فيقتلون‏.‏ قال السدي‏:‏ قد قاله غيره‏.‏ وذكر أبو اللوبي أن هذه جرت عنده ورأي أن هؤلاء أحق بأن يكونوا محاربين‏.‏
والثاني‏:‏ ألا يكونوا ذوي شوكة، بل يفعلون ذلك غيلة

 

ص -22-

واحتيالا، حتى إذا صارت عندهم المرأة أكرهوها فهذا المحارب غيلة، كما قال السدي، يقتل أيضًا وإن كانوا جماعة في المِصْر، فهم كالمحاربين في المصر، وهذه المسائل لها مواضع أخر‏.‏
والمقصود أن اللّه أخبر أن سنته لن تُبَدّل ولن تتحول، وسنته عادته التي يسوى فيها بين الشىء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه  سبحانه  يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة؛ ولهذا قال‏:‏‏
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏43‏]‏،وقال‏:‏‏{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏22‏]‏، أي‏:‏ أشباههم ونظراءهم، وقال‏:‏ ‏{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قرن النظير بنظيره، وقال تعالى‏:‏‏{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏214‏]‏،وقال‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا‏}‏‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏،وقال‏:‏‏{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏‏.‏
فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة، وقد قال تعالى‏
:‏‏{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏75‏]‏،

 

ص -23-

وقال تعالى‏:‏‏{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏} ‏[‏الجمعة‏:‏3‏]‏‏.‏ فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم، وهم خير الناس بعد الأنبياء، فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد، كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏‏.‏
ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرًا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير وأصول الدين، وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم‏.‏
وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى‏:
‏‏{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏‏.‏

 

ص -24-

وأما المتأخرون، الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم، ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به، لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك، من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف، فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها، فتارة يحلون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين؛ طائفة أو طائفتين أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف، والأول كثير في ‏[‏مسائل أصول الدين وفروعه‏]‏ كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعًا ونزاعًا، ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجًا عن أقوالهم، كما تجد ذلك في مسائل أقوال اللّه وأفعاله وصفاته، مثل مسألة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك‏.‏
وهم إذا ذكروا إجماع المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع؛ فإنه لو أمكن العلم بإجماع المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به؛ لعدم علمهم بأقوال السلف، فكيف إذا كان المسلمون يتعذر القطع

 

ص -25-

بإجماعهم في مسائل النزاع بخلاف السلف، فإنه يمكن العلم بإجماعهم كثيرًا‏.‏
وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغًا لم يخالف إجماعًا؛ لأن كثيرًا من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام، مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعًا، كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، ممن قد اشتهرت لهم أقوال خالفوا فيها النصوص المستفيضة، المعلومة وإجماع الصحابة‏.‏
بخلاف ما يعرف من نزاع السلف فإنه لا يمكن أن يقال‏:‏ إنه خلاف الإجماع وإنما يرد بالنص، وإذا قيل‏:‏ قد أجمع التابعون على أحد قوليهم فارتفع النزاع، فمثل هذا مبني على مقدمتين‏:‏
إحداهما‏:‏ العلم بأنه لم يبق في الأمة من يقول بقول الآخر وهذا متعذر‏.‏
الثانية‏:‏ أن مثل هذا هل يرفع النزاع‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ مشهور، فنزاع السلف

 

ص -26-

يمكن القول به إذا كان معه حجة؛ إذ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏بياض بالأصل‏]‏ على خلافه، ونزاع المتأخرين لا يمكن‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏بياض بالأصل‏]‏ لأن كثيرًا منه قد تقدم الإجماع على خلافه، كما دلت النصوص على خلافه، ومخالفة إجماع السلف خطأ قطعًا‏.‏
وأيضًا، فلم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف، فلا بد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه، وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن، وأن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين، وأن المتأخرين أكثر خطأ وأفحش، وهذا في جميع علوم الدين؛ ولهذا أمثلة كثيرة يضيق هذا الموضع عن استقصائها،واللّه  سبحانه  أعلم‏.
فَصْل
ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة؛ فإنه قد عرف تفسيره وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا

 

ص -27-

قال الفقهاء‏:‏‏"‏الأسماء ثلاثة أنواع‏"‏ نوع يعرف حَدّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله‏:‏ ‏{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏19‏]‏‏.‏
وكان من أعظم ما أنعم اللّه به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏:‏ أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجْده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدي ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قَبْلَهم، وخبر ما بعدهم، وحُكْم ما بينهم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمَهُ اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل اللّه المتين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه، ولا يحرف به لسانه، ولا يَخْلَق ‏[‏أي‏:‏ يبلى‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ خلق‏]‏ عن كثرة الترداد، فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام، ولا تنقضى عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صَدَق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم‏.‏
فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به؛ ولهذا لا يوجد في

 

ص -28-

كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة،ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول‏:‏ فيجب تقديم العقل‏.‏ والنقل  يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين  إما أن يُفوَّض وإما أن يُؤوَّل‏.‏ ولا فيهم من يقول‏:‏ إن له ذوقًا أو وَجْدًا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث، فضلا عن أن يَدَّعِي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول، وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد، والأنبياء كلهم يأخذون عن مشكاته‏.‏ أو يقول‏:‏ الولي أفضل من النبي، ونحو ذلك من مقالات أهل الإلحاد؛ فإن هذه الأقوال لم تكن حدثت بَعْدُ في المسلمين، وإنما يعرف مثل هذه إما عن ملاحدة اليهود والنصارى؛ فإن فيهم من يجوز أن غير النبي أفضل من النبي، كما قد يقوله في الحواريين؛ فإنهم عندهم رسل، وهم يقولون‏:‏ أفضل من داود وسليمان، بل ومن إبراهيم وموسى، وإن سموهم أنبياء، إلى أمثال هذه الأمور‏.‏
ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه، وكانوا يسمون ما عارض الآية ناسخًا لها، فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل‏.‏ وإن كان ذلك المعنى لم

 

ص -29-

يرد بها، وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية، بل قد لا يفهم منها وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخًا، وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم‏.‏
وأصل ذلك من إلقاء الشيطان، ثم يحكم اللّه آياته، فما ألقاه الشيطان في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه، سمى هؤلاء ما يرفع ذلك الظن نسخًا، كما سموا قوله‏:
‏‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏ ناسخًا لقوله‏:‏‏{اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏102‏]‏ وقوله‏:‏‏{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏ ناسخًا لقوله‏:‏ ‏{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏‏.‏وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه‏.‏
إذ المقصود أنهم كانوا متفقين على أن القرآن لا يعارضه إلا قرآن، لا رأي ومعقول وقياس، ولا ذوق ووَجْد وإلهام ومكاشفة‏.‏
وكانت البدع الأولى مثل ‏[‏بدعة الخوارج‏]‏ إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي‏.‏ قالوا‏:‏ فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار‏.‏ ثم قالوا‏:‏ وعثمان

 

ص -30-

وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل اللّه، فكانت بدعتهم لها مقدمتان‏:‏
الواحدة‏:‏ أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر‏.‏
والثانية‏:‏ أن عثمان وعليا ومن والاهما كانوا كذلك؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفَّر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة في ذمهم والأمر بقتالهم‏.‏قال الإمام أحمد بن حنبل  رضي اللّه عنه ‏:‏صح فيهم الحديث من عشرة أوجه؛ ولهذا قد أخرجها مسلم في صحيحه،وأفرد البخاري قطعة منها، وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن، فكيف بمن تكون بدعته معارضة القرآن والإعراض عنه،وهو مع ذلك يكفر المسلمين، كالجهمية‏؟‏‏!‏ ثم الشيعة لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين، بل كان غرضه فاسدًا، وقد قيل‏:‏ إنه كان منافقًا زنديقًا، فأصل بدعتهم مبنية على الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،وتكذيب الأحاديث الصحيحة؛ولهذا لا يوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما يوجد فيهم، بخلاف الخوارج فإنه لا يعرف فيهم من يكذب‏.‏

 

ص -31-

والشيعة لا يكاد يوثق برواية أحد منهم من شيوخهم لكثرة الكذب فيهم؛ولهذا أعرض عنهم أهل الصحيح، فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث علىّ إلا عن أهل بيته كأولاده، مثل الحسن،والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع،أو أصحاب ابن مسعود وغيرهم، مثل عبيدة السلماني، والحارث التيمي، وقيس بن عباد وأمثالهم؛إذ هؤلاء صادقون فيما يروونه عن علي، فلهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم‏.‏
وهاتان الطائفتان  الخوارج والشيعة  حَدثوا بعد مقتل عثمان، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان  في السنة الأولي من ولايته  متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعًا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه، وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له حروراء، فكف عنهم أمير المؤمنين، وقال‏:‏ لكم علينا ألا نمنعكم حقكم من الفىء، ولا نمنعكم المساجد، إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم، فقتلوا عبد اللّه بن خباب، وأغاروا على سرح المسلمين؛ فعلم عليّ أنهم الطائفة التي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

 

ص -32-

حيث قال‏:‏‏"‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم فيهم رجل مخدج ‏[‏أي‏:‏ ناقص‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ خدج‏]‏ اليد عليها بضعة شعرات‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان‏"‏، فخطب الناس وأخبرهم بما سمع من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ هم هؤلاء القوم، قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس فقاتلهم، ووجد العلامة بعد أن كاد لا يوجد، فسجد للّه شكرًا‏.‏
وحدث في أيامه الشيعة لكن كانوا مختفين بقولهم، لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف‏:‏
طائفة تقول‏:‏ إنه إله، وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنار، وخَدَّ لهم أخاديد عند باب مسجد بني كندة، وقيل‏:‏ إنه أنشد‏:‏

 لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا

 أجَّجْت ناري ودعوت قنْبَرًا

قد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ أتى عَلِيٌّ بزنادقة فحرقهم بالنار، ولو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب اللّه، ولضربت أعناقهم لقوله‏:‏‏"‏من بدل دينه فاقتلوه‏"‏‏.‏

ص -33-

وهذا الذي قاله ابن عباس هو مذهب أكثر الفقهاء، وقد روى أنه أجَّلَهم ثلاثًا‏.‏
والثانية‏:‏ السابة‏:‏ وكان قد بلغه عن ابن السوداء ‏[‏في المطبوعة‏:‏‏"‏ أبي السوداء‏"‏ وهو خطأ‏.‏ والمراد عبد اللّه بن سبأ اليهودي، أظهر الإسلام وأبطن الكفر، رئيس فرقة السبئية من غلاة الشيعة، وإنما سمي بابن السوداء لسواد أمه‏]‏ أنه كان يسب أبا بكر وعمر فطلبه، قيل‏:‏ إنه طلبه ليقتله فهرب منه‏.‏
والثالثة‏:‏ المفضلة‏:‏ الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فتواتر عنه أنه قال‏:‏‏"‏خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر‏"‏، وروى ذلك البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية أنه سأل أباه‏:‏ مَنْ خير الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ أبو بكر‏.‏ قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر‏.‏
وكانت الشيعة الأولى لا يتنازعون في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان النزاع في علي وعثمان؛ ولهذا قال شريك بن عبد اللّه ‏[‏هو شريك بن عبد اللّه بن أبي نمر القرشي، وثقه ابن سعد، وقال يحيى بن معين والنسائي‏:‏ ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي سنة 140ه‏.‏ وقيل‏:‏ 144ه‏]‏‏:‏ إن أفضل الناس بعد رسول الّله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر‏.‏ فقيل له‏:‏ تقول هذا وأنت من الشيعة‏؟‏فقال‏:‏ كل الشيعة كانوا على هذا، وهو الذي قال هذا على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال‏؟‏ ولهذا قال سفيان الثوري‏:‏ من فضل عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى ‏[‏أي‏:‏ حطَّ من شأنهم‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ زري‏]‏ بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى اللّه  عز وجل  عمل وهو كذلك‏.‏ رواه أبو داود في سننه، وكأنه يعرض بالحسن بن صالح بن حيى، فإن الزيدية الصالحة وهم أصلح طوائف الزيدية ينسبون إليه‏.‏

 

ص -34-

ولكن الشيعة لم يكن لهم في ذلك الزمان جماعة ولا إمام، ولا دار ولا سيف يقاتلون به المسلمين، وإنما كان هذا للخوارج، تميزوا بالإمام والجماعة والدار، وسموا دارهم دار الهجرة، وجعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب‏.‏
وكلا الطائفتين تطعن بل تكفر ولاة المسلمين، وجمهور الخوارج يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما، والرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم، ولكن الفساد الظاهر كان في الخوارج، من سفك الدماء، وأخذ الأموال، والخروج بالسيف؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بقتالهم، والأحاديث في ذمهم والأمر بقتالهم كثيرة جدًا، وهي متواترة عند أهل الحديث مثل أحاديث الرؤية، وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والحوض‏.‏
وقد رويت أحاديث في ذم القدرية والمرجئة، روى بعضها أهل السنن، كأبي داود وابن ماجه، وبعض الناس يثبتها ويقويها، ومن العلماء من طعن فيها وضعفها، ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونحوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس‏.‏
وأما لفظ ‏[‏الرافضة‏]‏، فهذا اللفظ أول ما ظهر في الإسلام، لما خرج زيد بن علي ابن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن

 

ص -35-

عبد الملك، واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما وترحم عليهما، فرفضه قوم،فقال‏:‏رفضتموني رفضتموني، فسموا الرافضة؛ فالرافضة تتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيدًا وينسبون إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى‏:‏ زيدية، ورافضة إمامية‏.‏
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت ‏[‏القدرية‏]‏، وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر اللّه، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين اللّه، وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصى؛ لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضًا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد، فلما بلغ قولهم  بإنكار القدر السابق  الصحابة أنكروا إنكارًا عظيمًا وتبرؤوا منهم، حتى قال عبد اللّه بن عمر‏:‏ أخبر أولئك أني برىء منهم، وأنهم منى برآء، والذي يحلف به عبد اللّه بن عمر‏:‏ لو أن لأحدهم مثل أحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر، وذكر عن أبيه حديث جبريل وهذا أول حديث في صحيح مسلم، وقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أيضًا مختصرًا‏.‏
ثم كثر الخوض في القدر، وكان أكثر الخوض فيه بالبصرة والشام

 

ص -36-

وبعضه في المدينة، فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار نزاع الناس في ‏[‏الإرادة‏]‏ و‏[‏خلق أفعال العباد‏]‏ فصاروا في ذلك حزبين‏:‏
النفاة يقولون‏:‏ لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئًا من أفعال العباد‏.‏
وقابلهم الخائضون في القدر من ‏[‏المجبرة‏]‏ مثل الجهم بن صفوان وأمثاله، فقالوا‏:‏ ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا‏:‏ العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل اللّه هو الفاعل القادر فقط، وكان جهم مع ذلك ينفي الأسماء والصفات، يذكر عنه أنه قال‏:‏ لا يسمى اللّه شيئًا، ولا غير ذلك من الأسماء التي تسمى بها العباد إلا القادر فقط؛ لأن العبد ليس بقادر‏.‏
وكانت ‏[‏الخوارج‏]‏ قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا‏:‏ إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك، وخاض في ذلك القدرية بعد موت الحسن البصري، فقال عمرو بن عبيد وأصحابه‏:‏ لا هم مسلمون ولا كفار، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار، فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإسلام والإيمان شىء، ولكن لم يسموهم كفارًا، واعتزلوا

 

ص -37-

حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما‏.‏
فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ إن قتادة كان يقول‏:‏ أولئك المعتزلة‏.‏
وتنازع الناس في ‏[‏الأسماء والأحكام‏]‏ أي في أسماء الدين، مثل مسلم ومؤمن، وكافر وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة‏.‏ فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا، فلم يستحلوا من دمائهم وأموالهم ما استحلته الخوارج، وفي الأسماء أحدثوا المنزلة بين المنزلتين،وهذه خاصة المعتزلة التي انفردوا بها، وسائر أقوالهم قد شاركهم فيها غيرهم‏.‏
وحدثت ‏[‏المرجئة‏]‏، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبد اللّه من المرجئة ولا إبراهيم النخعي وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا‏:‏ إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيرًا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول، مثل حماد ابن أبي سليمان، وأبي حنيفة وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على أن اللّه يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لابد في الإيمان

 

ص -38-

أن يتكلم بلسانه‏.‏ وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب، فكان في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي؛ فإن الإيمان إذا أطلق دخلت فيه الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الإيمان بضع وستون شعبة  أو بضع وسبعون شعبة  أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏"‏، وإذا عطف عليه العمل كقوله‏:‏‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏107‏]‏، فقد ذكر مقيدًا بالعطف، فهنا قد يقال‏:‏ الأعمال دخلت فيه وعطفت عطف الخاص على العام، وقد يقال‏:‏ لم تدخل فيه ولكن مع العطف كما في اسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان كما في آية الصدقات، كقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏60‏]‏، وكما في آية الكفارة، كقوله‏:‏ ‏{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏، وفي قوله‏:‏‏{وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏271‏]‏، فالفقير والمسكين شيء واحد‏.‏
وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر والتقوى والمعروف وفي الإثم والعدوان والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن، وقد بسط هذا بسطًا كبيرًا في الكلام على الإيمان، وشرح حديث جبريل الذي فيه بيان أن الإيمان أصله في القلب؛ وهو الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، كما في

 

ص -39-

المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏الإسلام علانية والإيمان في القلب‏"‏، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏‏"‏ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،ألا وهي القلب‏"‏، فإذا كان الإيمان في القلب فقد صلح القلب، فيجب أن يصلح سائر الجسد؛ فلذلك هو ثمرة ما في القلب؛ فلهذا قال بعضهم‏:‏الأعمال ثمرة الإيمان‏.‏وصحته لما كانت لازمة لصلاح القلب دخلت في الاسم،كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع‏.‏
وفي الجملة، الذين رموا بالإرجاء من الأكابر، مثل طلق بن حبيب ‏[‏هو طلق بن حبيب العنزي البصري، من الزهاد والعلماء العاملين، قال أبو حاتم‏:‏ صدوق، يرى الإرجاء، ووثقه أبو زرعة وابن حبان، ذكره البخاري فيمن مات بين التسعين إلى المائة‏]‏، وإبراهيم التيمي ونحوهما‏:‏ كان إرجاؤهم من هذا النوع، وكانوا أيضًا لا يستثنون في الإيمان، وكانوا يقولون‏:‏ الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونحن نقطع بأنا مصدقون، ويَرَوْن الاستثناء شَكا، وكان عبد اللّه بن مسعود وأصحابه يستثنون، وقد روى في حديث أنه رجع عن ذلك لما قال له بعض أصحاب معاذ ما قال، لكن أحمد أنكر هذا وضعف هذا الحديث، وصار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال‏:‏
قول‏
:‏ إنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعًا‏.‏
وقول‏:‏ إن الاستثناء محظور؛ فإنه يقتضى الشك في الإيمان‏.‏

 

ص -40-

والقول الثالث  أوسطها وأعدلها ‏:‏ أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار؛ فإذا كان مقصوده أنى لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب اللّه علي، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن وقصده ألا يزكي نفسه، وألا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة، والنفاق مخوف على عامة الناس‏.‏
قال ابن أبي مُلَيْكة‏:‏ أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، لا يقول واحد منهم‏:‏ إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل‏.‏ والبخاري في أول صحيحه بوب أبوابًا في الإيمان والرد على المرجئة، وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة، قال‏:‏ وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كرهوا أن يقول الرجل‏:‏ إيماني كإيمان جبريل وميكائيل  قال محمد‏:‏ لأنهم أفضل يقينًا  أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيمان أبي بكر، أو كإيمان هذا، ولكن يقول‏:‏ آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر‏.‏
وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان، وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه‏.‏ فإذا علق الإيمان

 

ص -41-

بالشرط كسائر المعلقات بالشرط لا يحصل إلا عند حصول الشرط‏.‏ قالوا‏:‏ وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار فقد ظهرت المشيئة وصح العقد، فلا معنى للاستثناء؛ ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمنا، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله‏.‏
قلت‏:‏ فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له‏:‏ آمن‏.‏ فيقول‏:‏ أنا أومن إن شاء اللّه، أو آمنت إن شاء، أو أسلمت إن شاء اللّه، أو أشهد إن شاء اللّه أن لا إله إلا اللّّه، وأشهد إن شاء اللّه أن محمدًا رسول اللّه، والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان، فاستثنوا إما أن الإيمان المطلق يقتضى دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة، كأنه إذا قيل للرجل‏:‏ أنت مؤمن‏.‏ قيل له‏:‏ أنت عند اللّه مؤمن من أهل الجنة، فيقول‏:‏ أنا كذلك إن شاء اللّه‏.‏ أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب‏.‏
ولهذا كان من جواب بعضهم  إذا قيل له‏:‏ أنت مؤمن ‏:‏ آمنت باللّه وملائكته وكتبه، فيجزم بهذا ولا يعلقه، أو يقول‏:‏ إن كنت تريد

 

ص -42-

الإيمان الذي يعصم دمي ومالي فأنا مؤمن، وإن كنت تريد قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حقًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، فأنا مؤمن إن شاء اللّه، وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم آمن وأسلم جزمًا بلا تعليق‏.‏
فتبين أن النزاع في المسألة قد يكون لفظيًا، فإن الذي حرمه هؤلاء غير الذي استحسنه وأمر به أولئك، ومن جزم جزم بما في قلبه من الحال، وهذا حق لا ينافى تعليق الكمال والعاقبة، ولكن هؤلاء عندهم الأعمال ليست من الإيمان، فصار الإيمان هو الإسلام عند أولئك‏.‏
والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام‏.‏ وهو المشهور عن أحمد  رضي اللّه عنه  وقد روى عنه فيه الاستثناء، كما قد بسط هذا في شرح حديث جبريل وغيره من نصوص الإيمان التي في الكتاب والسنة‏.‏

 

ص -43-

ولو قال لامرأته‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه، ففيه نزاع مشهور، وقد رجحنا التفصيل، وهو أن الكلام يراد به شيئان‏:‏ يراد به إيقاع الطلاق تارة،ويراد به منع إيقاعه تارة، فإن كان مراده أنت طالق بهذا اللفظ، فقوله‏:‏ إن شاء اللّه مثل قوله‏:‏ بمشيئة اللّه، وقد شاء اللّه الطلاق حين أتى بالتطليق فيقع، وإن كان قد علق لئلا يقع، أو علقه على مشيئة توجد بعد هذا لم يقع به الطلاق حتى يطلق بعد هذا، فإنه حينئذ شاء اللّه أن تطلق‏.‏
وقول من قال‏:‏ المشيئة تنجزه، ليس كما قال، بل نحن نعلم قطعًا أن الطلاق لا يقع إلا إذا طلقت المرأة، بأن يطلقها الزوج أو من يقوم مقامه، من ولي أو وكيل، فإذا لم يوجد تطليق لم يقع طلاق قط، فإذا قال‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه، وقصد حقيقة التعليق لم يقع إلا بتطليق بعد ذلك، وكذلك إذا قصد تعليقه لئلا يقع الآن‏.‏ وأما إن قصد إيقاعه الآن وعلقه بالمشيئة توكيدًا وتحقيقًا، فهذا يقع به الطلاق‏.‏
وما أعرف أحدًا أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده‏:‏ أنا مؤمن إن شاء اللّه، أنا أومن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنًا، مثل الذي يقال له‏:‏ هل تصير من أهل دين الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ أصير إن شاء اللّه، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر‏.‏ وإن كان قصده‏:‏ إني قد آمنت وإيماني بمشيئة اللّه صار مؤمنًا، لكن إطلاق اللفظ يحتمل

 

ص -44-

هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضًا فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا،فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا‏:‏‏{آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏136‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعًا بلا استثناء‏.‏
وعلى كل أحد أن يقول‏:‏ آمنا باللّه وما أنزل إلينا  كما أمر اللّه  بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي‏.‏ فقول القائل له‏:‏ أنت مؤمن هو عندهم كقوله‏:‏ هل أنت بَرٌّ تقي ‏؟‏ فإذا قال‏:‏ أنا بر تقي، فقد زكى نفسه‏.‏ فيقول‏:‏ إن شاء اللّه، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك أن الإيمان التام يتعقبه قبول اللّه له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر، فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال‏:‏ هذا حاصل بمشيئة اللّه وفضله وإحسانه، وقوله فيه‏:‏ إن شاء اللّه بمعني إذا شاء اللّه، وذلك تحقيق لا تعليق‏.‏

 

ص -45-

والرجل قد يقول‏:‏ واللّه ليكونن كذا إن شاء اللّه، وهو جازم بأنه يكون‏.‏ فالمعلق هو الفعل، كقوله‏:‏ {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏27‏]‏ واللّه عالم بأنهم سيدخلونه، وقد يقول الآدمي‏:‏ لأفعلن كذا إن شاء اللّه وهو لا يجزم بأنه يقع، لكن يرجوه فيقول‏:‏ يكون إن شاء اللّه، ثم عزمه عليه قد يكون جازمًا، ولكن لا يجزم بوقوع المعزوم عليه، وقد يكون العزم مترددًا معلقًا بالمشيئة أيضًا، ولكن متى كان المعزوم عليه معلقًا لزم تعليق بقاء العزم، فإنه بتقدير أن تعليق العزم ابتداء أو دوامًا في مثل ذلك؛ ولهذا لم يَحْنَثْ المطلق المعلق وحرف‏"‏إن‏"‏ لا يبقى العزم، فلابد إذا دخل على الماضي صار مستقبلا، تقول‏:‏ إن جاء زيد كان كذلك ‏{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏137‏]‏ وإذا أريد الماضي دخل حرف ‏"‏إن‏"‏ كقوله‏:‏‏{ن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي‏}‏ [‏آل عمران‏:‏31‏]‏ فيفرق بين قوله‏:‏ أنا مؤمن إن شاء اللّه، وبين قوله‏:‏ إن كان اللّه شاء إيماني‏.‏
وكذلك إذا كان مقصوده‏:‏ إني لا أعلم بماذا يختم لي، كما قيل لابن مسعود‏:‏ إن فلانًا يشهد أنه مؤمن‏.‏ قال‏:‏ فليشهد أنه من أهل الجنة، فهذا مراده إذا شهد أنه مؤمن عند اللّه يموت على الإيمان، وكذلك إن كان مقصوده‏:‏ إن إيماني حاصل بمشيئة اللّه‏.‏
ومن لم يستثن قال‏:‏ أنا لا أشك في إيمان قلبي، فلا جناح عليه إذا

 

ص -46-

لم يُزَكِّ نفسه ويقطع بأنه عامل كما أمر، وقد تقبل اللّه عمله، وإن لم يقل‏:‏ إن إيمانه كإيمان جبريل وأبي بكر وعمر ونحو ذلك من أقوال المرجئة، كما كان مِسْعَر بن كِدَام يقول‏:‏ أنا لا أشك في إيماني، قال أحمد‏:‏ ولم يكن من المرجئة، فإن المرجئة الذين يقولون‏:‏ الأعمال ليست من الإيمان، وهو كان يقول‏:‏ هي من الإيمان، لكن أنا لا أشك في إيماني‏.‏
وكان الثوري يقول لسفيان بن عيينة‏:‏ ألا تنهاه عن هذا، فإنهم من قبيلة واحدة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن النزاع في هذا كان بين أهل العلم والدين من جنس المنازعة في كثير من الأحكام، وكلهم من أهل الإيمان والقرآن‏.‏
وأما جَهْم، فكان يقول‏:‏ إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووَكِيع وغيرهما كفَّروا من قال بهذا القول، ولكن هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك‏:‏ إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة، وقد بسط الكلام على أقوالهم وأقوال غيرهم في ‏"‏الإيمان‏"‏‏.‏

 

ص -47-

والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنًا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء، كما كان أصل القدر عجزهم عن الإيمان بالشرع والقدر جميعًا، فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين‏.‏ قالت الخوارج والمعتزلة‏:‏ قد علمنا يقينًا أن الأعمال من الإيمان، فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار؛ إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء‏.‏
وقالت المرجئة  مقتصدتهم وغلاتهم كالجهمية ‏:‏ قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما تواترت بذلك الأحاديث‏.‏ وعلمنا بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة أنهم ليسوا كفارًا مرتدين؛ فإن الكتاب قد أمر بقطع السارق لا بقتله، وجاءت السنة بجلد الشارب لا بقتله، فلو كان هؤلاء كفارًا مرتدين لوجب قتلهم؛ وبهذا ظهر للمعتزلة ضعف قول الخوارج فخالفوهم في أحكامهم في الدنيا‏.‏
والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها، دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم، فلا يرجمون الزاني، ولا يرون للسرقة

 

ص -48-

نصابًا، وحينئذ فقد يقولون‏:‏ ليس في القرآن قتل المرتد، فقد يكون المرتد عندهم نوعين‏.‏
وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة، والزيدية والكرّامية والأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء‏.‏
وقد بسط الكلام على تفصيل القول في أقوال هؤلاء في غير هذا الموضع‏.‏
وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام‏:‏
منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج‏.‏
ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة، ويختم بالجهمية، كما فعله كثير من أصحاب أحمد  رضي اللّه عنه  كعبد الله ابنه ونحوه، وكالخلال، وأبي عبد اللّه بن بطة، وأمثالهما، وكأبي الفرج المقدسي، وكلا الطائفتين تختم بالجهمية؛ لأنهم أغلظ البدع، وكالبخاري في صحيحه فإنه بدأ ب ‏"‏كتاب الإيمان والرد على المرجئة‏"‏، وختمه ‏"‏بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية‏"‏‏.‏

 

ص -49-

ولما صنف الكتاب في الكلام صاروا يقدمون التوحيد والصفات، فيكون الكلام أولاً مع الجهمية، وكذلك رتب أبو القاسم الطبري كتابه في أصول السنة، والبيهقي أفرد لكل صنف مصنفًا، فله مصنف في الصفات، ومصنف في القدر، ومصنف في شعب الإيمان، ومصنف في دلائل النبوة، ومصنف في البعث والنشور، وبسط هذه الأمور له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن منشأ النزاع في ‏"‏الأسماء والأحكام‏"‏ في الإيمان والإسلام أنهم لما ظنوا أنه لا يتبعض، قال أولئك‏:‏ فإذا فعل ذنبًا زال بعضه فيزول كله فيخلد في النار، فقالت الجهمية والمرجئة‏:‏ قد علمنا أنه ليس يخلد في النار، وأنه ليس كافرًا مرتدًا، بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم لا يتبعض، فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئًا واحدًا يشترك فيه جميع أهل القبلة، فقال فقهاء المرجئة‏:‏ هو التصديق بالقلب والقول باللسان، فقالت الجهمية بعد تصديق اللسان قد لا يجب إذا كان الرجل أخرس أو كان مكرهًا فالذي لابد منه تصديق القلب، وقالت المرجئة‏:‏ الرجل إذا أسلم كان مؤمنًا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال‏.‏
وأنكر كل هذه الطوائف أنه ينقص، والصحابة قد ثبت عنهم

 

ص -50-

أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة السنة، وكان ابن المبارك يقول‏:‏ هو يتفاضل ويتزايد ويمسك عن لفظ ‏"‏ينقص‏"‏، وعن مالك  في كونه لا ينقص  روايتان، والقرآن قد نطق بالزيادة في غير موضع، ودلت النصوص على نقصه كقوله‏:‏‏"‏لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن‏"‏ ونحو ذلك، لكن لم يعرف هذا اللفظ إلا في قوله في النساء‏:‏ ‏"‏ناقصات عقل ودين‏"‏، وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص‏.‏
وذلك أن أصل أهل السنة‏:‏ أن الإيمان يتفاضل من وجهين‏:‏ من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد‏.‏
أما الأول‏:‏ فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان من الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة‏.‏
وأيضًا، فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن اللّه أوجب عليه ما لا يجب

 

ص -51-

على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان، وهذا من أصول غلط المرجئة؛ فإنهم ظنوا أنه شيء واحد وأنه يستوى فيه جميع المكلفين، فقالوا‏:‏ إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء؛ كما أنه إذا تلفظ الفاسق بالشهادتين أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس‏.‏
فيقال لهم‏:‏ قد تبين أن الإيمان الذي أوجبه اللّه على عباده يتنوع ويتفاضل ويتباينون فيه تباينًا عظيمًا، فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر، ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم،ويجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم، وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق والإقرار‏.‏
فإن الناس  وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول  فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به، وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلاً، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به، فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان

 

ص -52-

والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر اللّه به من الزكاة، ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فيجب عليه من العلم والإيمان والعمل مالا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان،وإن جعل جميع ذلك داخلا في مسمى الإيمان كان أبلغ، فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره‏.‏
ولهذا كان من الناس من قد يؤمن بالرسول مجملاً، فإذا جاءت أمور أخرى لم يؤمن بها فيصير منافقًا مثل طائفة نافقت لما حولت القبلة إلى الكعبة، وطائفة نافقت لما انهزم المسلمون يوم أحد، ونحو ذلك‏.‏
ولهذا وصف اللّه المنافقين في القرآن بأنهم آمنوا ثم كفروا، كما ذكر ذلك في سورة المنافقين، وذكر مثل ذلك في سورة البقرة، فقال‏:‏‏
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏17، 18‏]‏، وقال طائفة من السلف عرفوا ثم أنكروا وأبصروا ثم عموا‏.‏
فمن هؤلاء من كان يؤمن أولاً إيمانًا مجملاً، ثم يأتي أمورًا لا يؤمن

 

ص -53-

بها فينافق في الباطن، وما يمكنه إظهار الردة بل يتكلم بالنفاق مع خاصته، وهذا كما ذكر اللّه عنهم في الجهاد فقال‏:‏‏{فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏20، 21‏]‏‏.‏
وبالجملة، فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء‏:‏ ‏"
‏ناقصات عقل ودين‏"‏ وقال في نقصان دينهن‏:‏‏"‏إنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي‏"‏، وهذا مما أمر الله به، فليس هذا النقص دينا لها تعاقب عليه، لكن هو نقص، حيث لم تؤمر بالعبادة في هذا الحال، والرجل كامل حيث أمر بالعبادة في كل حال، فدل ذلك على أن من أمر بطاعة يفعلها كان أفضل ممن لم يؤمر بها وإن لم يكن عاصيًا، فهذا أفضل دينًا وإيمانًا، وهذا المفضول ليس بمعاقب ومذموم، فهذه زيادة كزيادة الإيمان بالتطوعات، لكن هذه زيادة بواجب في حق شخص، وليس بواجب في حق شخص غيره، فهذه الزيادة لو تركها بهذا لا يستحق العقاب بتركها، وذاك لا يستحق العقاب بتركها، ولكن إيمان ذلك أكمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا‏"‏‏.‏

 

ص -54-

 فهذا يبين تفاضل الإيمان في نفس الأمر به، وفي نفس الأخبار التي يجب التصديق بها‏.‏
والنوع الثاني‏:‏ هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استوائهم في الواجب، وهذا هو الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع‏.‏ وهذا أيضًا يتفاضلون فيه، فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل دينًا وبرًا وتقوى، فهو كذلك أفضل إيمانًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏‏"‏أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا‏"‏، وقد يجتمع في العبد إيمان ونفاق، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلَة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها‏:‏ إذا حَدَّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر‏"‏‏.‏
وأصل هؤلاء‏:‏ أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع العباد فيما أوجبه الرب من الإيمان، وفيما يفعله العبد من الأعمال، فغلطوا في هذا وهذا ثم تفرقوا، كما تقدم‏.‏
وصارت المرجئة على ثلاثة أقوال‏:‏ فعلماؤهم وأئمتهم أحسنهم

 

ص -55-

قولا؛ وهو أن قالوا‏:‏ الإيمان تصديق القلب وقول اللسان‏.‏
وقالت الجهمية‏:‏ هو تصديق القلب فقط‏.‏
وقالت الكرامية‏:‏هو القول فقط، فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقرًا بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذبًا بقلبه كان منافقًا مؤمنا من أهل النار‏.‏ وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان‏.‏ وبعض الناس يحكي عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون‏:‏ إنه مؤمن كامل الإيمان، وأنه من أهل النار، فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذبًا في النار، بل يكون مخلدًا فيها‏.‏ وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه‏:‏
‏"‏يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏"‏‏.
وإن قالوا‏:‏ لا يخلد وهو منافق، لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، والمنافقون قد قال اللّه فيهم‏:
‏‏{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏145‏]‏،وقد نهى اللّه نبيه عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم،وقال له‏:‏ ‏{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏80‏]‏،

 

ص -56-

وقال‏:‏‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏84‏]‏، وقد أخبر أنهم كفروا باللّه ورسوله‏.‏
فإن قالوا‏:‏ هؤلاء قد كانوا يتكلمون بألسنتهم سرًا فكفروا بذلك، وإنما يكون مؤمنا إذا تكلم بلسانه ولم يتكلم بما ينقضه، فإن ذلك ردة عن الإيمان، قيل لهم‏:‏ ولو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، قال تعالى‏:‏ ‏
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏64‏]‏‏.‏
وأيضًا، قد أخبر اللّه عنهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم كاذبون، فقال تعالى‏:‏
‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏1‏]‏‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الإسلام علانية، والإيمان في القلب‏"‏، وقد قال اللّه تعالى‏:‏‏{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، وفي الصحيحين عن سعد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه، أعطيت فلانًا وفلانًا، وتركت فلانًا وهو مؤمن‏؟‏ فقال‏:‏‏"‏أو مسلم‏"‏ مرتين أو ثلاثًا‏.‏ وبسط الكلام

 

ص -57-

في هذا له مواضع أخر، وقد صنفت في ذلك مجلدًا غير ما صنفت فيه غير ذلك‏.‏
وكلام الناس في هذا الاسم ومسماه كثير؛ لأنه قطب الدين الذي يدور عليه، وليس في القول اسم علق به السعادة والشقاء، والمدح والذم، والثواب والعقاب، أعظم من اسم الإيمان والكفر؛ ولهذا سمى هذا الأصل‏:‏‏"‏مسائل الأسماء والأحكام‏"‏، وقد رأيت لابن الهيصم فيه مصنفًا في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لابن الباقلاني فيه مصنفًا أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما في عصر واحد، وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة‏.‏
والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان‏.‏ فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعًا‏.‏ صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن؛

 

ص -58-

ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها‏.‏
ولهذا قال كثير منهم  كأبي الحسين البصري ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب ‏:‏ إن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين‏.‏ فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن يكون اللّه أنزل الآية وأراد بها معنىً لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا‏:‏ إن اللّه أراد معنى آخر، وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا هذا؛ فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يقولون قولين كلاهما خطأ والصواب قول ثالث لم يقولوه، لكن قد اعتادوا أن يتأولوا ما خالفهم، والتأويل عندهم مقصوده بيان احتمال في لفظ الآية بجواز أن يراد ذلك المعنى بذلك اللفظ، ولم يستشعروا أن المتأول هو مبين لمراد الآية، مخبر عن اللّه تعالى أنه أراد هذا المعنى إذا حملها على معنى‏.‏
وكذلك إذا قالوا‏:‏ يجوز أن يراد بها هذا المعنى، والأمة قبلهم لم يقولوا‏:‏ أريد بها إلا هذا أو هذا، فقد جوزوا أن يكون ما أراده اللّه لم يخبر به الأمة، وأخبرت أن مراده غير ما أراده، لكن الذي قاله هؤلاء يتمشى إذا كان التأويل أنه يجوز أن يراد هذا المعنى من غير

 

ص -59-

حكم بأنه مراد، وتكون الأمة قبلهم كلها كانت جاهلة بمراد اللّه، ضالة عن معرفته، وانقرض عصر الصحابة والتابعين وهم لم يعلموا معنى الآية، ولكن طائفة قالت‏:‏ يجوز أن يريد هذا المعنى، وطائفة قالت‏:‏ يجوز أن يريد هذا المعنى، وليس فيهم من علم المراد‏.‏ فجاء الثالث وقال‏:‏ هاهنا معنى يجوز أن يكون هو المراد‏.‏ فإذا كانت الأمة من الجهل بمعاني القرآن والضلال عن مراد الرب بهذه الحال توجه ما قالوه، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود أن كثيرًا من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف؛ فلهذا كان السلف أكمل علمًا وإيمانًا، وخطؤهم أخف، وصوابهم أكثر كما قدمناه‏.‏
وكان الأصل الذي أسسوه هو ما أمرهم اللّه به في قوله‏:‏ ‏{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏[‏الحجرات‏:‏1‏]‏، فإن هذا أمر للمؤمنين بما وصف به الملائكة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏26  29‏]‏، فوصفهم  سبحانه  بأنهم

 

ص -60-

لا يسبقونه بالقول، وأنهم بأمره يعملون،فلا يخبرون عن شىء من صفاته ولا غير صفاته إلا بعد أن يخبر  سبحانه  بما يخبر به؛ فيكون خبرهم وقولهم تبعًا لخبره وقوله،كما قال‏:‏ ‏{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ‏}‏ وأعمالهم تابعة لأمره، فلا يعملون إلا ما أمرهم هو أن يعملوا به، فهم مطيعون لأمره  سبحانه ‏.‏
وقد وصف - سبحانه- بذلك ملائكة النار، فقال‏:‏ ‏
{قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏6‏]‏، وقد ظن بعضهم أن هذا توكيل، وقال بعضهم‏:‏ بل لا يعصونه في الماضي، ويفعلون ما أمروا به في المستقبل‏.‏ وأحسن من هذا وهذا أن العاصي هو الممتنع من طاعة الأمر مع قدرته على الامتثال، فلو لم يفعل ما أمر به لعجزه لم يكن عاصيًا، فإذا قال‏: ‏{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ لم يكن في هذا بيان أنهم يفعلون ما يؤمرون، فإن العاجز ليس بِعاصٍ ولا فاعل لما أمر به، وقال‏:‏ ‏{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ليبين أنهم قادرون على فعل ما أمروا به، فهم لا يتركونه لا عجزًا ولا معصية‏.‏ والمأمور إنما يترك ما أمر به لأحد هذين، إما ألا يكون قادرًا، وإما أن يكون عاصيًا لا يريد الطاعة، فإذا كان مطيعًا يريد طاعة الآمر وهو قادر، وجب وجود فعل ما أمر به، فكذلك الملائكة المذكورون لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏.‏

 

ص -61-

وقد وصف الملائكة بأنهم ‏{عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏
فالملائكة مصدقون بخبر ربهم، مطيعون لأمره، ولا يخبرون حتي يخبر، ولا يعملون حتى يأمر، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏، وقد أمر اللّه المؤمنين أن يكونوا مع اللّه ورسوله كذلك، فإن البشر لم يسمعوا كلام الله منه، بل بينهم وبينه رسول من البشر، فعليهم ألا يقولوا حتى يقول الرسول ما بلغهم عن اللّّه، ولا يعملون إلا بما أمرهم به، كما قال تعالى‏:‏‏{‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏1‏]‏‏.‏
قال مجاهد‏:‏ لا تفتاتوا عليه بشيء حتى يقضيه اللّه على لسانه،‏
{تُقَدِّمُوا‏}‏ معناه‏:‏ تتقدموا، وهو فعل لازم، وقد قرئ ‏{تُقَدِّمُوا‏}‏، يقال‏:‏ قدم وتقدم، كما يقال‏:‏ بين وتبين، وقد يستعمل قدم متعديًا، أي قدم غيره، لكن هنا هو فعل لازم، فلا تقدموا معناه‏:‏ لا تتقدموا بين يدي اللّه ورسوله‏.‏
فعلى كل مؤمن ألا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به

 

ص -62-

الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لقوله، وعلمه تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شىء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله اللّه والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة‏.‏ وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلا‏.‏
فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة، وأهل النفاق والبدعة، وإن كان هؤلاء لهم من الإيمان نصيب وافر من اتباع السنة، لكن فيهم من النفاق والبدعة بحسب ما تقدموا فيه بين يدي اللّه ورسوله، وخالفوا اللّه ورسوله، ثم إن لم يعلموا أن ذلك يخالف الرسول، ولو علموا لما قالوه لم يكونوا منافقين، بل ناقصى الإيمان مبتدعين، وخطؤهم مغفور لهم لا يعاقبون عليه وإن نقصوا به‏.

 

ص -63-

 وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عنده علم بذلك ولا عدل، بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن ‏{وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏ وذلك لأن ما أخبر به الرسول فهو حق باطنًا وظاهرًا، فلا يمكن أن يتصور أن يكون الحق في نقيضه، وحينئذ فمن اعتقد نقيضه كان اعتقاده باطلاً، والاعتقاد الباطل لا يكون علمًا، وما أمر به الرسول فهو عدل لا ظلم فيه، فمن نهى عنه فقد نهى عن العدل، ومن أمر بضده فقد أمر بالظلم؛ فإن ضد العدل الظلم، فلا يكون ما يخالفه إلا جهلاً وظلمًا ظنًا وما تهوى الأنفس، وهو لا يخرج عن قسمين، أحسنهما أن يكون كان شرعًا لبعض الأنبياء ثم نسخ، وأدناهما أن يكون ما شرع قط، بل يكون من المبدل، فكل ما خالف حكم اللّه ورسوله، فإما شرع منسوخ وإما شرع مبدل ما شرعه اللّه، بل شرعه شارع بغير إذن من اللّه، كما قال‏:‏‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏21‏]‏، لكن هذا وهذا قد يقعان في خفي الأمور ودقيقها باجتهاد من أصحابها استفرغوا فيه

 

ص -64-

فَصْل وُسْعَهم في طلب الحق، ويكون لهم من الصواب والاتباع ما يغمر ذلك، كما وقع مثل ذلك من بعض الصحابة في مسائل الطلاق والفرائض ونحو ذلك، ولم يكن منهم مثل هذا في جلي الأمور وجليلها؛ لأن بيان هذا من الرسول كان ظاهرًا بينهم فلا يخالفه إلا من يخالف الرسول، وهم معتصمون بحبل اللّه يحكمون الرسول فيما شجر بينهم، لا يتقدمون بين يدي اللّه ورسوله، فضلا عن تعمد مخالفة اللّه ورسوله‏.‏
فلما طال الزمان،خفي على كثير من الناس ما كان ظاهرًا لهم، ودَقَّ على كثير من الناس ما كان جليًا لهم، فكثر من المتأخرين مخالفة الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف‏.‏
وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين، يغفر اللّه لهم خطاياهم، ويثيبهم على اجتهادهم‏.‏
وقد يكون لهم من الحسنات ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلاً يعملها في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك، وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا من يعينهم على ذلك، لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة، ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة؛ فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد، ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وتصديقه،

 

ص -65-

وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته، وتظهر كلمته، وتكثر أعوانه وأنصاره، وتنتشر دلائل نبوته، بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين، وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل اللّه ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقى يحصل مثله لأحد، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏"‏‏.‏
وقد استفاضت النصوص الصحيحة عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خير القرون قرْني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏‏.‏ فجملة القرن الأول أفضل من القرن الثاني، والثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل من الرابع، لكن قد يكون في الرابع من هو أفضل من بعض الثالث، وكذلك في الثالث مع الثاني، وهل يكون فيمن بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة المفضولين لا الفاضلين‏؟‏ هذا فيه نزاع، وفيه قولان، حكاهما القاضي عياض وغيره‏.‏ ومن الناس من يفرضها في مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، فإن معاوية له مزية الصحبة والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر له مزية فضيلته من العدل والزهد، والخوف من اللّه تعالى، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن من خالف الرسول فلابد أن يتبع الظن

 

ص -66-

وما تهوى الأنفس، كما قال تعالى في المشركين الذين يعبدون اللات والعزى‏:‏‏{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏‏.‏
وقال في الذين يخبرون عن الملائكة أنهم إناث‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏27 30‏]‏، وهم جعلوهم إناثًا كما قال‏:‏ ‏{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏19‏]‏،وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏"‏عند الرحمن إناثًا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون‏"‏،وهؤلاء قال عنهم‏:‏‏{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ‏}‏ لأنه خبر مَحْض ليس فيه عمل، وهناك‏:‏‏{وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ‏}‏ لأنهم كانوا يعبدونها ويدعونها، فهناك عبادة وعمل بهوى أنفسهم، فقال‏:‏ ‏{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ‏}‏ والذي جاء به الرسول كما قال‏:‏ ‏{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏1  5‏]‏‏.‏ وكل من خالف الرسول لا يخرج عن الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن كان ممن يعتقد ما قاله، وله فيه حجة يستدل بها، كان غايته الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا،

 

ص -67-

كاحتجاجهم بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب ألقى إليهم اعتقدوا أنه من اللّه وكان من إلقاء الشيطان‏.‏
وهذه الثلاثة هي عمدة من يخالف السنة بما يراه حجة ودليلا، إما أن يحتج بأدلة عقلية ويظنها برهانًا وأدلة قطعية، وتكون شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة، ومعان متشابهة، لم يميز بين حقها وباطلها، كما يوجد مثل ذلك في جميع ما يحتج به من خالف الكتاب والسنة، إنما يركب حججه من ألفاظ متشابهة، فإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وهذه هي الحجج العقلية‏.‏ وإن تمسك المبطل بحجج سمعية فإما أن تكون كذبًا على الرسول، أو تكون غير دالة على ما احتج بها أهل البُطُول، فالمنع إما في الإسناد وإما في المتن ودلالته على ما ذكر، وهذه الحجة السمعية هذه حجة أهل العلم الظاهر‏.‏
وأما حجة أهل الذوق والوَجْد والمكاشفة والمخاطبة، فإن أهل الحق من هؤلاء لهم إلهامات صحيحة مطابقة، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
:‏‏"‏قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُونَ، فإن يكن في أمتي أحد فَعُمَر‏"‏، وكان عمر يقول‏:‏ اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقُولون، فإنها تجلى لهم أمور صادقة‏.‏
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

 

ص -68-

قال‏:‏ ‏"‏اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللّه‏"‏، ثم قرأ قوله‏:‏ ‏{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏75‏]‏، وقال بعض الصحابة‏:‏ أظنه واللّه للحق يقذفه اللّه على قلوبهم وأسماعهم، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فَبِي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏"‏، فقد أخبر أنه يسمع بالحق ويبصر به‏.‏
وكانوا يقولون‏:‏ إن السكينة تنطق على لسان عمر  رضي اللّه عنه‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏من سأل القضاء واستعان عليه وُكِلَ إليه، ومن لم يسأله ولم يستعن عليه أنزل اللّه عليه مَلَكا يسدده‏"‏، وقال اللّه تعالى‏:‏‏{نُّورٌ عَلَى نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏35‏]‏، نور الإيمان مع نور القرآن، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏17‏]‏، وهو المؤمن على بينة من ربه، ويتبعه شاهد من اللّه، وهو القرآن، شهد اللّه في القرآن بمثل ما عليه المؤمن من بينة الإيمان، وهذا القدر مما أقر به حُذَّاق النظار لما تكلموا في وجوب النظر وتحصيله للعلم، فقيل لهم‏:‏ أهل التصفية والرياضة والعبادة والتأله تحصل لهم المعارف والعلوم اليقينية بدون النظر، كما قال الشيخ الملقب بالكبيري  للرازي ورفيقه، وقد قالا له‏:‏ يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين‏.‏ فقال‏:‏ نعم‏!‏ فقالا‏:‏ كيف تعلم ونحن نتناظر

 

ص -69-

في زمان طويل كلما ذكر شيئًا أفسدته، وكلما ذكرت شيئًا أفسده‏؟‏ فقال‏:‏ هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، فجعلا يعجبان من ذلك ويكرران الكلام، وطلب أحدهما أن تحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له، وكان من المعتزلة النفاة‏.‏
فتبين له أن الحق مع أهل الإثبات، وأن الله  سبحانه  فوق سمواته، وعلم ذلك بالضرورة، رأيت هذه الحكاية بخط القاضي نجم الدين أحمد بن محمد بن خلف المقدسي، وذكر أن الشيخ الكبيري حكاها له، وكان قد حدثني بها عنه غير واحد حتى رأيتها بخطه، وكلام المشايخ في مثل هذا كثير، وهذا الوصف الذي ذكره الشيخ جواب لهم بحسب ما يعرفون، فإنهم قد قسموا العلم إلى ضروري ونظري، والنظري مستند إلى الضروري، والضروري هو العلم الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه معه الانفكاك عنه، هذا حد القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره‏.‏ فخاصته أنه يلزم النفس لزومًا لا يمكن مع ذلك دفعه، فقال لهم‏:‏ علم اليقين عندنا هو من هذا الجنس، وهو علم يلزم النفس لزومًا لا يمكنه مع ذلك الانفكاك عنه، وقال‏:‏ واردات؛ لأنه يحصل مع العلم طمأنينة وسكينة توجب العمل به، فالواردات تحصل بهذا وهذا، وهذا قد أقر به كثير من حذاق النظار، متقدميهم كالكيا الهراسي والغزالي

 

ص -70-

وغيرهما  ومتأخريهم  كالرازي والآمدي  وقالوا‏:‏ نحن لا ننكر أن يحصل لناس علم ضروري بما يحصل لنا بالنظر، هذا لا ندفعه، لكن إن لم يكن علمًا ضروريًا فلابد له من دليل، والدليل يكون مستلزمًا للمدلول عليه، بحيث يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول عليه‏.‏ قالوا‏:‏ فإن كان لو دفع ذلك الاعتقاد الذي حصل له لزم دفع شىء مما يعلم بالضرورة، فهذا هو الدليل، وإن لم يكن كذلك فهذا هَوَس لا يلتفت إليه، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود أن هذا الجنس واقع، لكن يقع أيضًا ما يظن أنه منه كثير‏.‏ أو لا يميز كثير منهم الحق من الباطل، كما يقع في الأدلة العقلية والسمعية‏.‏ فمن هؤلاء من يسمع خطابًا أو يرى من يأمره بقضية ويكون ذلك الخطاب من الشيطان،ويكون ذلك الذي يخاطبه الشيطان وهو يحسب أنه من أولياء اللّه من رجال الغيب‏.‏
ورجال الغيب هم الجن، وهو يحسب أنه إنسي، وقد يقول له‏:‏أنا الخضر، أو إلياس‏.‏ بل أنا محمد، أو إبراهيم الخليل أو المسيح، أو أبو بكر، أو عمر، أو أنا الشيخ فلان، أو الشيخ فلان ممن يحسن بهم الظن، وقد يطير به في الهواء، أو يأتيه بطعام أو شراب أو نفقة، فيظن هذا كرامة، بل آية ومعجزة تدل على أن هذا من رجال الغيب أو من الملائكة، ويكون ذلك شيطانًا لَبَّس عليه، فهذا

 

ص -71-

ومثله واقع كثيرًا، أعرف منه وقائع كثيرة، كما أعرف من الغلط في السمعيات والعقليات‏.‏
فهؤلاء يتبعون ظنًا لا يغني من الحق شيئًا، ولو لم يتقدموا بين يدي اللّه ورسوله، بل اعتصموا بالكتاب والسنة، لتبين لهم أن هذا من الشيطان، وكثير من هؤلاء يتبع ذوقه ووَجْده وما يجده محبوبًا إليه بغير علم ولا هدى ولا بصيرة، فيكون متبعًا لهواه بلا ظن، وخيارهم من يتبع الظن وما تهوى الأنفس‏.‏ وهؤلاء إذا طلب من أحدهم حجة ذكر تقليده لمن يحبه من آبائه وأسلافه، كقول المشركين‏:‏ ‏
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏23‏]‏، وإن عكسوا احتجوا بالقدر، وهو أن اللّه أراد هذا وسلطنا عليه، فهم يعملون بهواهم وإرادة نفوسهم بحسب قدرتهم كالملوك المسلطين، وكان الواجب عليهم أن يعملوا بما أمر اللّه، فيتبعون أمر اللّه وما يحبه ويرضاه، لا يتبعون إرادتهم وما يحبونه هم ويرضونه، وأن يستعينوا باللّه، فيقولون‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏، لا حول ولا قوة إلا باللّه، لا يعتمدون على ما أوتوه من القوة والتصرف والحال؛ فإن هذا من الجَدّ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة وفي الاعتدال بعد الركوع‏:‏ ‏"‏اللّهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ‏"‏‏.‏

 

ص -72-

فالذوق والوَجْد هو يرجع إلى حب الإنسان ووجده بحلاوته وذوقه وطعمه، وكل صاحب محبة فله في محبوبه ذوق ووجد، فإن لم يكن ذلك بسلطان من اللّه  وهو ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم  كان صاحبه متبعًا لهواه بغير هدى، وقد قال اللّه تعالى‏:‏‏{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْر هُدًى مِّنَ اللَّهِ‏}‏‏[‏القصص‏:‏50‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{مَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏119‏]‏‏.‏
وكذلك من اتبع ما يرد عليه من الخطاب أو ما يراه من الأنوار والأشخاص الغيبية، ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة، فإنما يتبع ظنًا لا يغني من الحق شيئًا‏.‏
فليس في المحدثين الملهمين أفضل من عمر، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏إنه قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فَعُمَر منهم‏"‏، وقد وافق عمر ربه في عدة أشياء، ومع هذا فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول، ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، ولا يتقدم بين يدي اللّه ورسوله، بل يجعل ما ورد عليه إذا تبين له من ذلك أشياء خلاف ما وقع له فيرجع إلى السنة، وكان أبو بكر يبين له أشياء خفيت عليه، فيرجع إلى بيان

 

ص -73-

الصديق وإرشاده وتعليمه، كما جرى يوم الحديبية، ويوم مات الرسول، ويوم ناظره في مانعي الزكاة وغير ذلك، وكانت المرأة ترد عليه ما يقوله وتذكر الحجة من القرآن، فيرجع إليها؛ كما جري في مهور النساء، ومثل هذا كثير‏.‏
فكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة، تبعًا لما جاء به الرسول، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعًا لما ورد عليه، وهؤلاء الذين أخطؤوا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول‏.‏
وصار أحدهم يقول‏:‏ أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، فيقال له‏:‏ أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين، وإما من اليهود والنصارى، وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من اللّه‏؟‏ ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان‏؟‏
والوحي وحيان‏:‏ وحي من الرحمن، ووحي من الشيطان، قال تعالى‏:‏ ‏
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏}
‏ ‏[‏الأنعام‏:‏121‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏112‏]‏،

 

ص -74-

وقال تعالى‏:‏‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221‏]‏، وقد كان المختار بن أبي عبيد من هذا الضرب، حتى قيل لابن عمر وابن عباس، قيل لأحدهما‏:‏ إنه يقول‏:‏ إنه يوحى إليه، فقال‏:‏ ‏{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏}‏ وقيل للآخر‏:‏ إنه يقول‏:‏ إنه ينزل عليه، فقال‏:‏‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ‏}‏‏.‏
فهؤلاء يحتاجون إلى الفرقان الإيماني القرآني النبوي الشرعي أعظم من حاجة غيرهم، وهؤلاء لهم حسيات يرونها ويسمعونها، والحسيات يضطر إليها الإنسان بغير اختياره، كما قد يرى الإنسان أشياء ويسمع أشياء بغير اختياره، كما أن النظار لهم قياس ومعقول، وأهل السمع لهم أخبار منقولات، وهذه الأنواع الثلاثة هي طرق العلم‏:‏ الحس والخبر والنظر، وكل إنسان يستدل من هذه الثلاثة في بعض الأمور، لكن يكون بعض الأنواع أغلب على بعض الناس في الدين وغير الدين، كالطب فإنه تجربات وقياسات، وأهله منهم من تغلب عليه التجربة ومنهم من يغلب عليه القياس، والقياس أصله التجربة، والتجربة لابد فيها من قياس، لكن مثل قياس العاديات لا تعرف فيه العلة والمناسبة، وصاحب القياس من يستخرج العلة المناسبة ويعلق الحكم بها، والعقل خاصة القياس والاعتبار والقضايا الكلية، فلا بد له من الحسيات التي

 

ص -75-

هي الأصل ليعتبر بها، والحس إن لم يكن مع صاحبه عقل وإلا فقد يغلط‏.‏
والناس يقولون‏:‏ غلط الحس‏.‏ والغلط تارة من الحس، وتارة من صاحبه؛ فإن الحس يرى أمرًا معينًا، فيظن صاحبه فيه شيئًا آخر فيؤتي من ظنه، فلابد له من العقل‏.‏
ولهذا؛ النائم يرى شيئًا وتلك الأمور لها وجود وتحقيق، ولكن هي خيالات وأمثلة، فلما عَزَب ‏[‏أي‏:‏غاب وخفى‏.‏ انظر‏:‏ المصباح المنير، مادة‏:‏عزب‏]‏ ظنها الرائي نفس الحقائق كالذي يرى نفسه في مكان آخر يكلم أمواتًا ويكلمونه، ويفعل أمورًا كثيرة وهو في النوم، يجزم بأنه نفسه الذي يقول ويفعل؛ لأن عقله عزب عنه، وتلك الصورة التي رآها مثال صورته وخيالها؛ لكن غاب عقله عن نفسه، حتى ظن أن ذلك المثال هو نفسه، فلما ثاب إليه عقله علم أن ذلك خيالات ومثالات، ومن الناس من لا يغيب عقله بل يعلم في المنام أن ذلك في المنام، وهذا كالذي يرى صورته في المرآة أو صورة غيره، فإذا كان ضعيف العقل ظن أن تلك الصورة هي الشخص، حتى إنه يفعل به ما يفعل بالشخص‏.‏ وهذا يقع للصبيان والبُلْه، كما يخيل لأحدهم في الضوء شخص يتحرك ويصعد وينزل، فيظنونه شخصًا حقيقة، ولا يعلمون أنه خيال، فالحس إذا أحس حسًا صحيحًا لم يغلط، لكن معه عقل لم يميز بين هذا العين والمثال؛ فإن العقل قد عقل قبل

 

ص -76-

ذا أن مثل هذا يكون مثالاً، وقد عقل لوازم الشخص بعينه، وأنه لا يكون في الهواء ولا في المرآة، ولا يكون بدنه في غير مكانه، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين‏.‏
وهؤلاء الذين لهم مكاشفات ومخاطبات يرون ويسمعون ما له وجود في الخارج، وما لا يكون موجودًا إلا في أنفسهم كحال النائم، وهذا يعرفه كل أحد، ولكن قد يرون في الخارج أشخاصًا يرونها عيانًا، وما في خيال الإنسان لا يراه غيره ويخاطبهم أولئك الأشخاص، ويحملونهم ويذهبون بهم إلى عرفات فيقفون بها، وإما إلى غير عرفات، ويأتونهم بذهب وفضة، وطعام ولباس، وسلاح وغير ذلك، ويخرجون إلى الناس ويأتونهم أيضًا بمن يطلبونه، مثل من يكون له إرادة في امرأة أو صبي، فيأتونه بذلك إما محمولاً في الهواء وإما بسعي شديد، ويخبر أنه وجد في نفسه من الباعث القوي ما لم يمكنه المقام معه أو يخبر أنه سمع خطابًا، وقد يقتلون له من يريد قتله من أعدائه أو يمرضونه‏.‏ فهذا كله موجود كثيرًا، لكن من الناس من يعلم أن هذا من الشيطان، وأنه من السحر، وأن ذلك حصل بما قاله وعمله من السحر‏.‏
ومنهم من يعلم أن ذلك من الجن، ويقول‏:‏ هذا كرامة أكرمنا بتسخير الجن لنا، ومنهم من لا يظن أولئك الأشخاص إلا آدميين أو

 

ص -77-

ملائكة، فإن كانوا غير معروفين قال‏:‏ هؤلاء رجال الغيب، وإن تسموا فقالوا‏:‏ هذا هو الخضر، وهذا هو إلياس، وهذا هو أبو بكر وعمر، وهذا هو الشيخ عبد القادر أو الشيخ عدي أو الشيخ أحمد الرفاعي أو غير ذلك، ظن أن الأمر كذلك‏.‏
فهنا لم يغلط لكن غلط عقله حيث لم يعرف أن هذه شياطين تمثلت على صور هؤلاء، وكثير من هؤلاء يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أو غيره من الأنبياء أو الصالحين يأتيه في اليقظة، ومن يرى ذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الشيخ وهو صادق في أنه إياه من قال‏:‏ إنه النبي، أو الشيخ، أو قيل له ذلك فيه، لكن غلط حيث ظن صدق أولئك‏.‏
والذي له عقل وعلم يعلم أن هذا ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم، تارة لما يراه منهم من مخالفة الشرع، مثل أن يأمروه بما يخالف أمر اللّه ورسوله، وتارة يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يأتي أحدًا من أصحابه بعد موته في اليقظة، ولا كان يخاطبهم من قبره، فكيف يكون هذا لي، وتارة يعلم أن الميت لم يقم من قبره، وأن روحه في الجنة لا تصير في الدنيا هكذا‏.‏
وهذا يقع كثيرًا لكثير من هؤلاء، ويسمون تلك الصورة رقيقة

 

ص -78-

فلان، وقد يقولون‏:‏ هو معناه تَشَكّل، وقد يقولون‏:‏ روحانيته‏.‏ ومن هؤلاء من يقول‏:‏ إذا مت فلا تدعوا أحدًا يغسلني ولا فلانًا يحضرني، فإني أنا أغسل نفسي، فإذا مات رأوه قد جاء وغسل ذلك البدن، ويكون ذلك جِنِّيًّا قد قال لهذا الميت‏:‏ إنك تجىء بعد الموت، واعتقد ذلك حقًا؛ فإنه كان في حياته يقول له أمورًا، وغرض الشيطان أن يضل أصحابه، وأما بلاد المشركين  كالهند  فهذا كثيرًا ما يرون الميت بعد موته جاء وفتح حانوته، ورد ودائع وقضى ديونًا، ودخل إلى منزله ثم ذهب، وهم لا يَشُكُّون أنه الشخص نفسه، وإنما هو شيطان تصور في صورته‏.‏
ومن هؤلاء من يكون في جنازة أبيه أو غيره، والميت على سريره، وهو يراه آخذًا يمشي مع الناس بيد ابنه وأبيه قد جعل شيخًا بعد أبيه، فلا يشك ابنه أن أباه نفسه هو كان الماشي معه الذي رآه هو دون غيره، وإنما كان شيطانًا، ويكون مثل هذا الشيطان قد سمي نفسه خالدًا وغير خالد، وقال لهم‏:‏ إنه من رجال الغيب، وهم يعتقدون أنه من الإنس الصالحين،ويسمونه خالدًا الغيبي،وينسبون الشيخ إليه فيقولون‏:‏محمد الخالدي ونحو ذلك‏.‏
فإن الجن مأمورون ومنهيون كالإنس، وقد بعث اللّه الرسل من الإنس إليهم وإلى الإنس، وأمر الجميع بطاعة الرسل، كما قال

 

ص -79-

تعالى‏:‏‏{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏ الأنعام‏:‏130‏]‏، وهذا بعد قوله‏:‏ ‏{وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏128‏]‏‏.‏
قال غير واحد من السلف‏:‏ أي كثير من أغويتم من الإنس وأضللتموهم‏.‏ قال البغوي‏:‏ قال بعضهم‏:‏ استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون لهم من الأراجيف، والسحر، والكهانة، وتزيينهم لهم الأمور التي يهيئونها ويسهل سبيلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ هو طاعة بعضهم لبعض، وموافقة بعضهم بعضًا، وذكر ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال‏:‏ ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس، وعن محمد بن كعب قال‏:‏ هو الصِّحابة في الدنيا، وقال ابن السائب‏:‏ استمتاع الإنس بالجن استعاذتهم بهم، واستمتاع الجن بالإنس أن قالوا‏:‏ قد أسرنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا، فيزدادون شرفًا في أنفسهم، وعظمًا في نفوسهم، وهذا كقوله‏:‏ ‏{
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏‏.‏

 

ص -80-

قلت‏:‏ الاستمتاع بالشيء‏:‏هو أن يتمتع به، فينال به ما يطلبه ويريده ويهواه، ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم ببعض كما قال‏:‏ ‏{فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةًّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏24‏]‏‏.‏ ومن ذلك الفواحش، كاستمتاع الذكور بالذكور والإناث بالإناث‏.‏
ويدخل في هذا‏:‏الاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم، ويدخل في ذلك‏:‏ الاستمتاع بالأموال كاللباس، ومنه قوله‏:‏ ‏{
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏236‏]‏ وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته، ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة؛ ولهذا قال الفقهاء‏:‏ أعلى المتعة خادم، وأدناها كسوة تجزي فيها الصلاة‏.‏
وفي الجملة، استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس، قال تعالى‏:
‏‏{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏166‏]‏، وقال مجاهد‏:‏ هي المودَّات التي كانت لغير اللّه، وقال الخليل‏:‏‏{إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏23‏]‏ فالمشرك يعبد ما يهواه‏.‏ واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه‏.‏ وقد وقع في الإنس والجن هذا كله‏.‏

 

ص -81-

وتارة يخدم هؤلاء لهؤلاء في أغراضهم، وهؤلاء لهؤلاء في أغراضهم، فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه، والإنس تطيع الجن، فتارة تسجد له، وتارة تسجد لما يأمره بالسجود له، وتارة تمكنه من نفسه، فيفعل به الفاحشة، وكذلك الجنيات منهن من يريد من الإنس الذي يخدمنه ما يريد نساء الإنس من الرجال، وهذا كثير في رجال الجن ونسائهم، فكثير من رجالهم ينال من نساء الإنس ما يناله الإنسي، وقد يفعل ذلك بالذُّكْران‏.‏
وصرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة‏:‏ تارة يكون الجني يحب المصروع فيصرعه ليتمتع به، وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل‏.‏
وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم، أو صب عليهم ماء حارًا، أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى، وهذا أشد الصرع، وكثيرًا ما يقتلون المصروع‏.‏
وتارة يكون بطريق العبث به كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل‏.‏
ومن استمتاع الإنس بالجن‏:‏ استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة، كما يخبر الكهان، فإن في الإنس من له غرض في هذا؛ لما يحصل به من الرياسة والمال وغير ذلك، فإن كان القوم كفارًا- كما كانت العرب- لم تبال بأن يقال‏:‏ إنه كاهن كما كان بعض العرب كهانًا، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها كهان، وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى

 

ص -82-

الكهان، وكان أبو أيرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم، وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن، بل يجعل ذلك من باب الكرامات، وهو من جنس الكهان، فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي، بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده، إما في شرك، وإما في فاحشة، وإما في أكل حرام، وإما في قتل نفس بغير حق‏.‏
فالشياطين لهم غرض فيما نهى اللّه عنه من الكفر والفسوق والعصيان، ولهم لذة في الشر والفتن، يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم، وهم يأمرون السارق أن يسرق، ويذهبون إلى أهل المال، فيقولون‏:‏ فلان سرق متاعكم؛ ولهذا يقال‏:‏ القوة الملَكِيَّة والبهيمية والسَّبْعِيَّة والشيطانية، فإن الملكية فيها العلم النافع والعمل الصالح‏.‏ والبهيمية فيها الشهوات كالأكل والشرب‏.‏ والسبعية فيها الغضب وهو دفع المؤذي‏.‏ وأما الشيطانية فشَرٌّ مَحْض ليس فيها جلب منفعة ولا دفع مضرة‏.‏
والفلاسفة ونحوهم  ممن لا يعرف الجن والشياطين  لا يعرفون هذه، وإنما يعرفون الشهوة والغضب، والشهوة والغضب خلقا لمصلحة ومنفعة، لكن المذموم هو العدوان فيهما، وأما الشيطان فيأمر بالشر الذي لا منفعة فيه، ويحب ذلك، كما فعل إبليس بآدم لما وسوس له، وكما

 

ص -83-

امتنع من السجود له، فالحسد يأمر به الشيطان، والحاسد لا ينتفع بزوال النعمة عن المحسود، لكن يبغض ذلك، وقد يكون بغضه لفوات غرضه، وقد لا يكون‏.‏
ومن استمتاع الإنس بالجن‏:‏ استخدامهم في إحضار بعض ما يطلبونه من مال وطعام، وثياب ونفقة، فقد يأتون ببعض ذلك، وقد يدلونه على كنز وغيره، واستمتاع الجن بالإنس استعمالهم فيما يريده الشيطان من كفر وفسوق ومعصية‏.‏
ومن استمتاع الإنس بالجن‏:‏ استخدامهم فيما يطلبه الإنس من شرك وقتل وفواحش، فتارة يتمثل الجني في صورة الإنسي، فإذا استغاث به بعض أتباعه أتاه فظن أنه الشيخ نفسه، وتارة يكون التابع قد نادى شيخه وهتف به‏:‏ يا سيدي فلان، فينقل الجني ذلك الكلام إلى الشيخ بمثل صوت الإنسي حتى يظن الشيخ أنه صوت الإنسي بعينه، ثم إن الشيخ يقول‏:‏ نعم‏!‏ ويشير إشارة يدفع بها ذلك المكروه، فيأتي الجني بمثل ذلك الصوت والفعل، فيظن ذلك الشخص أنه شيخه نفسه وهو الذي أجابه، وهو الذي فعل ذلك حتى إن تابع الشيخ قد يكون يده في إناء يأكل، فيضع الجني يده في صورة يد الشيخ ويأخذ من الطعام، فيظن ذلك التابع أنه شيخه حاضر معه، والجني يمثل للشيخ نفسه مثل ذلك الإناء، فيضع يده فيه حتى يظن الشيخ أن يده

 

ص -84-

في ذلك الإناء، فإذا حضر المريد ذكر له الشيخ أن يدي كانت في الإناء فيصدقه، ويكون بينهما مسافة شهر، والشيخ موضعه، ويده لم تطل، ولكن الجني مثل للشيخ ومثل للمريد، حتى ظن كل منهما أن أحدهما عند الآخر، وإنما كان عنده ما مَثَّله الجني وخيله‏.‏
وإذا سئل الشيخ المخدوم عن أمر غائب إما سرقة وإما شخص مات، وطلب منه أن يخبر بحاله، أو علة في النساء أو غير ذلك، فإن الجني قد يمثل ذلك فيريه صورة المسروق، فيقول الشيخ‏:‏ ذهب لكم كذا وكذا، ثم إن كان صاحب المال معظمًا، وأراد أن يدله على سرقته، مثل له الشيخ الذي أخذه أو المكان الذي فيه المال فيذهبون إليه فيجدونه كما قال، والأكثر منهم أنهم يظهرون صورة المال ولا يكون عليه؛ لأن الذي سرق المال معه أيضًا جني يخدمه، والجن يخاف بعضهم من بعض كما أن الإنس يخاف بعضهم بعضًا، فإذا دل الجني عليه جاء إليه أولياء السارق فآذوه، وأحيانًا لا يدل لكون السارق وأعوانه يخدمونه ويرشونه، كما يصيب من يعرف اللصوص من الإنس تارة يعرف السارق ولا يعرف به، إما لرغبة ينالها منه، وإما لرهبة وخوف منه، وإذا كان المال المسروق لكبير يخافه ويرجوه عرف سارقه‏.‏ فهذا وأمثاله من استمتاع بعضهم ببعض‏.‏
والجن مكلفون كتكليف الإنس، ومحمد صلى الله عليه وسلم مرسل

 

ص -85-

إلى الثقلين الجن والإنس، وكفار الجن يدخلون النار بالنصوص وإجماع المسلمين‏.‏
وأما مؤمنوهم، ففيهم قولان، وأكثر العلماء على أنهم يثابون  أيضًا  ويدخلون الجنة، وقد روى أنهم يكونون في ربضها يراهم الإنس من حيث لا يرون الإنس عكس الحال في الدنيا، وهو حديث رواه الطبراني في معجمه الصغير يحتاج إلى النظر في إسناده‏.‏
وقد احتج ابن أبي ليلى وأبو يوسف على ذلك بقوله تعالى‏:‏‏
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏132‏]‏، وقد ذكر الجن والإنس‏:‏ الأبرار والفجار في الأحقاف والأنعام‏.‏ واحتج الأوزاعي وغيره بقوله تعالى‏:‏‏{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏74‏]‏، وقد قال تعالى في الأحقاف‏:‏‏{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا‏}‏ ‏[‏ الآيتان‏:‏ 18،19‏]‏،وقد تقدم قبل هذا ذكر أهل الجنة، وقوله‏:‏ ‏{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏16‏]‏، ثم قال‏:‏‏{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ درجات أهل الجنة تذهب علوًا ودرجات أهل النار تذهب سفلا، وقد قال تعالى عن قول الجن‏:‏‏{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ ‏[‏ الجن‏:‏ 11‏]‏، وقالوا‏:‏ ‏{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏‏[‏الجن‏:‏14، 15‏]‏،

 

ص -86-

ففيهم الكفار والفساق والعصاة، وفيهم من فيه عبادة ودين بنوع من قلة العلم كما في الإنس، وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس، فاليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، والمسلمون مع المسلمين، والفساق مع الفساق، وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع‏.‏
واستخدام الإنس لهم مثل استخدام الإنس للإنس بشيء، منهم من يستخدمهم في المحرمات من الفواحش، والظلم، والشرك، والقول على اللّه بلا علم، وقد يظنون ذلك من كرامات الصالحين، وإنما هو من أفعال الشياطين‏.‏
ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة،إما إحضار ماله،أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم،أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك،فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك‏.‏
والنوع الثالث‏:‏ أن يستعملهم في طاعة اللّه ورسوله، كما يستعمل الإنس في مثل ذلك، فيأمرهم بما أمر اللّه به ورسوله، وينهاهم عما نهاهم اللّه عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم، وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال من اتبعه واقتدى به من أمته، وهم أفضل الخلق، فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم اللّه به ورسوله،

 

ص -87-

وينهون الإنس والجن عما نهاهم اللّه عنه ورسوله؛ إذ كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثًا بذلك إلى الثقلين الإنس والجن، وقد قال اللّه له‏:‏ ‏{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏108‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏‏.‏
وعمر  رضي اللّه عنه  لما نادى‏:‏ يا سارية، الجبل، قال‏:‏ إن للّه جنودًا يبلغون صوتي، وجنود اللّه هم من الملائكة ومن صالحي الجن، فجنود اللّه بلغوا صوت عمر إلى سارية، وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر، وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة، وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه، فيقول‏:‏ يا فلان، فيعان على ذلك فيقول الواسطة بينهما‏:‏ يا فلان، وقد يقول لمن هو بعيد عنه‏:‏ يا فلان، احبس الماء، تعال إلينا، وهو لا يسمع صوته، فيناديه الواسطة بمثل ذلك‏:‏ يا فلان، احبس الماء، أرسل الماء، إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته، وإلا فلا يضر بأي صوت كان، إذا عرف أن صاحبه قد ناداه‏.‏
وهذه حكاية‏:‏ كان عمر مرة قد أرسل جيشًا، فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش وشاع الخبر، فقال عمر‏:‏ من أين لكم

 

ص -88-

هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ شخص صفته كيت وكيت فأخبرنا، فقال عمر‏:‏ ذاك أبو الهيثم بريد الجن، وسيجىء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام‏.‏
وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه فيخرج فيرى الناس يتحدثون به، فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس، والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان، لكن أعطى ملكًا لا ينبغي لأحد بعده، وسخرت له الإنس والجن، وهذا لم يحصل لغيره‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لما تَفَلَّتَ عليه العفريت ليقطع عليه صلاته قال‏:‏
‏"‏فأخذته، فَذَعَتُّه حتى سال لعابه على يدي، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته‏"‏ ‏[‏ قوله‏:‏ ‏"‏فَذَعَتُّهُ‏"‏‏:‏ أي خنقته‏]‏‏.‏ فلم يستخدم الجن أصلا، لكن دعاهم إلى الإيمان باللّه، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وبايعهم كما فعل بالإنس‏.‏
والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم أعظم مما أوتيه سليمان؛ فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة اللّه وحده، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه اللّه وطلب مرضاته، واختار أن يكون عبدًا رسولا على أن يكون نبيًا ملكا، فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد، فهو أفضل، كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين‏.‏ وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء، وكثير من أهل

 

ص -89-

الكلام والعلم لم يعرفوا الفرق بين الأنبياء والصالحين في الآيات الخارقة وما لأولياء الشيطان من ذلك  من السحرة والكهان والكفار من المشركين وأهل الكتاب، وأهل البدع والضلال من الداخلين في الإسلام  فجعلوا الخوارق جنسًا واحدًا، وقالوا‏:‏ كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها‏.‏
وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة فلابد أن يسلبه اللّه ما كان معه من ذلك، وأن يقيض له من يعارضه، ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه اللّه، فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي مما لم يكن معتادًا للناس، قالوا‏:‏ إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة، فهذه هي المعجزات عندهم، وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا‏:‏ المعجزات هي خرق العادة، لكن أنكروا كرامات الصالحين، وأنكروا أن يكون السحر والكهانة إلا من جنس الشعبذة والحيل، لم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك، وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي، قالوا‏:‏ فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحًا بهذا الإجماع‏.‏
وهؤلاء  أنفسهم  قد ذكروا أنه يكون للسحرة ما هو مثلها، وتناقضوا في ذلك، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -90-

فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان، وما يفعله الشياطين من العجائب، وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح، فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة، فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء، وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك، ثم يقولون‏:‏ الولي إذا تولى لا يعترض عليه، فمنهم من يراه مخالفًا لما علم بالاضطرار من دين الرسول مثل‏:‏ ترك الصلاة المفروضة،وأكل الخبائث كالخمر،والحشيشة، والميتة،وغير ذلك، وفعل الفواحش، والفحش والتفحش في المنطق، وظلم الناس، وقتل النفس بغير حق، والشرك باللّه، وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء اللّه قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل، فضلا من اللّه تعالى، ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين، وأن هذه من أولياء الشياطين تضل بها الناس وتغويهم‏.‏
ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك، فتارة يأتون الشخص في النوم، يقول أحدهم‏:‏ أنا أبو بكر الصديق، وأنا أتوِّبك لي، وأصير شيخك، وأنت تتوب الناس لي، ويلبسه فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه، فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان، وقد جرى مثل هذا لعدة من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام‏.‏ وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصًا‏.‏ وتارة يقول‏:‏ أنا الشيخ فلان، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره‏.‏

 

ص -91-

وكثيرًا ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وقد يخلصونه مما يكره فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه،أو أن ملكًا تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك باللّه أضلته الشياطين،والملائكة لا تجيب مشركًا‏.‏
وتارة يأتون إلى من هو خال في البرية، وقد يكون ملكًا أو أميرًا كبيرًا، ويكون كافرًا، وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه، فيسلم على يديه ويتوبه ويطعمه، ويدله على الطريق، ويقول‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا فلان ويكون ‏[‏ من مؤمني الجن‏]‏‏.‏
كما جرى مثل هذا لي‏.‏ كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص‏:‏ أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولاً وكنت في الحبس، فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيًا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم؛ لما جاؤوا إلى دمشق‏:‏ كنت أدعوهم إلى الإسلام، فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم

 

ص -92-

ما تيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك‏.‏
قال لي طائفة من الناس‏:‏ فلم لا يجوز أن يكون ملكًا‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ إن الملك لا يكذب، وهذا قد قال‏:‏ أنا ابن تيمية، وهو يعلم أنه كاذب في ذلك‏.‏
وكثير من الناس رأى من قال‏:‏ إني أنا الخضر، وإنما كان جنيًا‏.‏
ثم صار من الناس من يكذب بهذه الحكايات إنكارًا لموت الخضر، والذين قد عرفوا صدقها يقطعون بحياة الخضر، وكلا الطائفتين مخطئ، فإن الذين رأوا من قال‏:‏ إني أنا الخضر، هم كثيرون صادقون، والحكايات متواترات، لكن أخطؤوا في ظنهم أنه الخضر، وإنما كان جنيًا؛ ولهذا يجري مثل هذا لليهود والنصارى، فكثيرًا ما يأتيهم في كنائسهم من يقول‏:‏ إنه الخضر، وكذلك اليهود يأتيهم في كنائسهم من يقول‏:‏ إنه الخضر، وفي ذلك من الحكايات الصادقة ما يضيق عنه هذا الموضع، يبين صدق من رأى شخصًا وظن أنه الخضر، وأنه غلط في ظنه أنه الخضر، وإنما كان جنيًا، وقد يقول‏:‏ أنا المسيح، أو موسى، أو محمد، أو أبو بكر، أو عمر، أو الشيخ فلان، فكل هذا قد وقع، والنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏‏"‏من رآني في المنام فقد رآني حقا،

 

ص -93-

فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي‏"‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ في صورته التي كان عليها في حياته‏.‏ وهذه رؤية في المنام، وأما في اليقظة فمن ظن أن أحدًا من الموتى يجىء بنفسه للناس عيانًا قبل يوم القيامة، فمن جهله أتي‏.‏
ومن هنا ضلت النصارى؛ حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب  كما يظنون  أنه أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم‏.‏ وهذا مذكور في أناجيلهم، وكلها تشهد بذلك، وذاك الذي جاء كان شيطانًا، قال‏:‏ أنا المسيح، ولم يكن هو المسيح نفسه، ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين، ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذي يجب عليهم تبليغه، ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه، فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء‏.‏
وأصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول‏:‏ أنا الحلاج، فيرونه في صورته عيانًا، وكذلك شيخ بمصر يقال له‏:‏ الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة، وأراني صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله، فرأيته بخط الجن  وقد رأيت خط الجن غير مرة  وفيه كلام من كلام الجن، وذاك المعتقد يعتقد أن الشيخ حي، وكان يقول‏:‏ انتقل ثم مات‏.‏ وكذلك شيخ آخر كان بالمشرق وكان له خوارق من الجن‏.‏ وقيل‏:‏ كان بعد هذا يأتي خواص

 

ص -94-

أصحابه في صورته فيعتقدون أنه هو، وهكذا الذين كانوا يعتقدون بقاء على أو بقاء محمد ابن الحنفية، قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جني في صورته، وكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم أحيانًا ويكون المرئي جنيًا‏.‏
فهذا باب واسع واقع كثيرًا، وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر، ففي المشركين أكثر مما في النصارى، وهو في النصارى كما هو في الداخلين في الإسلام، وهذه الأمور يسلم بسببها ناس، ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها، فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كان عليه، كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس، قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيرًا مما كانوا، وإن كان قصد ذلك الرجل فاسدًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏إن اللّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم‏"‏‏.‏
وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي؛ فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل، ويقوى بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه‏.‏

 

ص -95-

وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين  من الرافضة والجهمية وغيرهم  إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوًا يظلم فيه المسلمين والكفار، ويكون آثمًا بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارًا فصاروا مسلمين، وذاك كان شرًا بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير‏.‏
وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه، وإن كانت كذبًا، وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه، فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرًا، فانتقل إلى خير مما كان عليه، وخف الشر الذي كان فيه، ثم إذا أراد اللّه هدايته أدخل الإيمان في قلبه‏.‏
والله  تعالى  بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان،

 

ص -96-

ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان،‏{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏19‏]‏‏.‏وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين، فيصير الكافر مسلمًا مبتدعًا، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة  كبدعة الرافضة  ببدعة أخف منها  وهي بدعة أهل السنة- وقد ذكرنا فيما تقدم أصناف البدع‏.‏
ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج؛ فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة، وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان، وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون عليًا، ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر، ولكن حكى عن بعض متقدميهم أنه قال‏:‏ فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين، ولا أعلم عينها‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه قال‏:‏ لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه، ولو شهد على مع آخر ففي قبول شهادته قولان، وهذا القول شاذ فيهم، والذي عليه عامتهم تعظيم على‏.‏
ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي، ومنهم من يكفر هؤلاء ويفسقهم، بخلاف طلحة والزبير

 

ص -97-

وعائشة، فإنهم يقولون‏:‏ إن هؤلاء تابوا من قتاله، وكلهم يتولى عثمان ويعظمون أبا بكر وعمر، ويعظمون الذنوب، فهم يتحرون الصدق كالخوارج، لا يختلقون الكذب كالرافضة، ولا يرون أيضًا اتخاذ دار غير دار الإسلام كالخوارج، ولهم كتب في تفسير القرآن ونصر الرسول، ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض، وهم قصدهم إثبات توحيد اللّه ورحمته، وحكمته وصدقه، وطاعته‏.‏ وأصولهم الخمس عن هذه الصفات الخمس، لكنهم غلطوا في بعض ما قالوه في كل واحد من أصولهم الخمس، فجعلوا من ‏[‏التوحيد‏]‏ نفي الصفات وإنكار الرؤية، والقول بأن القرآن مخلوق، فوافقوا في ذلك الجهمية‏.‏ وجعلوا من ‏[‏العدل‏]‏ أنه لا يشاء ما يكون، ويكون ما لا يشاء، وأنه لم يخلق أفعال العباد، فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل‏.‏وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة‏.‏
وكذلك هم والخوارج قالوا ب ‏[‏إنفاذ الوعيد‏]‏ ليثبتوا أن الرب صادق لا يكذب؛ إذ كان عندهم قد أخبر بالوعيد العام، فمتى لم يقل بذلك لزم كذبه، وغلطوا في فهم الوعيد‏.‏ وكذلك ‏[‏الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف‏]‏ قصدوا به طاعة اللّه ورسوله، كما يقصده الخوارج والزيدية، فغلطوا في ذلك‏.‏
وكذلك إنكارهم للخوارق غير المعجزات، قصدوا به إثبات النبوة

 

ص -98-

ونصرها،وغلطوا فيما سلكوه؛ فإن النصر لا يكون بتكذيب الحق، وذلك لكونهم لم يحققوا خاصة آيات الأنبياء‏.‏
والأشعرية ما ردوه من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية، وغيرهم، وبينوا ما بينوه من تناقضهم، وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة، فحصل بما قالوه من بيان تناقض أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير‏.‏
فإن الأشعري كان من المعتزلة، وبقى على مذهبهم أربعين سنة يقرأ على أبي علي الجبائي ‏[‏هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حُمْران بن أبان الجبائي، أحد أئمة المعتزلة، وله في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة كانت ولادته في سنة خمس وثلاثين ومائتين، وتوفى في سنة ثلاث وثلاثمائة‏]‏، فلما انتقل عن مذهبهم كان خبيرًا بأصولهم وبالرد عليهم، وبيان تناقضهم، وأما ما بقى عليه من السنة فليس هو من خصائص المعتزلة، بل هو من القدر المشترك بينهم وبين الجهمية، وأما خصائص المعتزلة فلم يوالهم الأشعري في شىء منها؛ بل ناقضهم في جميع أصولهم، ومال في ‏[‏مسائل العدل، والأسماء والأحكام‏]‏ إلى مذهب جَهْم ونحوه‏.‏
وكثير من الطوائف  ‏[‏كالنجارية‏]‏ أتباع حسين النجار، و‏[‏الضرارية‏]‏ أتباع ضرار بن عمرو  يخالفون المعتزلة في القدر والأسماء والأحكام، وإنفاذ الوعيد‏.‏ والمعتزلة من أبعد الناس عن طريق أهل الكشف والخوارق، والصوفية يذمونها ويعيبونها‏.‏

 

ص -99-

وكذلك يبالغون في ذم النصارى أكثر مما يبالغون في ذم اليهود، وهم إلى اليهود أقرب، كما أن الصوفية ونحوهم إلى النصارى أقرب؛ فإن النصارى عندهم عبادة وزهد وأخلاق بلا معرفة ولا بصيرة فهم ضالون، واليهود عندهم علم ونظر بلا قصد صالح ولا عبادة ولا زهد ولا أخلاق كريمة، فهم مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏.‏
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم‏:‏ ولا أعلم في هذا الحرف اختلافًا بين المفسرين، وروى بإسناده عن أبي رَوْق، عن ابن عباس‏:‏ وغير طريق الضالين وهم النصارى الذين أضلهم اللّه بفريتهم عليه، يقول‏:‏ فألهمنا دينك الحق  وهو لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له  حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود، ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا كما تعذبهم، يقول‏:‏ امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك ورأفتك وقدرتك‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ ولا أعلم في هذا الحرف اختلافًا بين المفسرين، وقد قال سفيان بن عيينة‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى‏.‏
فأهل الكلام أصل أمرهم هو النظر في العلم ودليله، فيعظمون العلم وطريقه، وهو الدليل، والسلوك في طريقه، وهو النظر‏.‏
وأهل الزهد يعظمون الإرادة والمريد، وطريق أهل الإرادة‏.‏

 

ص -100-

 

فهؤلاء يبنون أمرهم على الإرادة، وأولئك يبنون أمرهم على النظر، وهذه هي القوة العلمية، ولابد لأهل الصراط المستقيم من هذا وهذا، ولابد أن يكون هذا وهذا موافقًا لما جاء به الرسول‏.‏
فالإيمان قول وعمل وموافقة السنة، وأولئك عظموا النظر وأعرضوا عن الإرادة، وعظموا جنس النظر ولم يلتزموا النظر الشرعي، فغلطوا من جهة كون جانب الإرادة لم يعظموه، وإن كانوا يوجبون الأعمال الظاهرة، فهم لا يعرفون أعمال القلوب وحقائقها، ومن جهة أن النظر لم يميزوا فيه بين النظر الشرعي الحق الذي أمر به الشارع وأخبر به، وبين النظر البدعي الباطل المنهي عنه‏.‏
وكذلك الصوفية، عظموا جنس الإرادة إرادة القلب، وذموا الهوى وبالغوا في الباب، ولم يميز كثير منهم بين الإرادة الشرعية الموافقة لأمر اللّه ورسوله، وبين الإرادة البدعية، بل أقبلوا على طريق الإرادة دون طريقة النظر، وأعرض كثير منهم فدخل عليهم الداخل من هاتين الجهتين؛ ولهذا صار هؤلاء يميل إليهم النصارى ويميلون إليهم، وأولئك يميل إليهم اليهود ويميلون إليهم، وبين اليهود والنصارى غاية التنافر والتباغض‏.‏
وكذلك بين أهل الكلام والرأي، وبين أهل التصوف والزهد

 

ص -101-

تنافر وتباغض، وهذا وهذا من الخروج عن الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا‏.‏
نسأل اللّه العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين‏.‏
فَصْل
فإن قيل‏:‏ فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم وقال لهم‏:‏ أنا المسيح  ولا يقولون‏:‏ إن الشيطان تمثل على صورته، فالشيطان ليس هو لحم وعظم  وهذه أثر المسامير أو نحو هذا الكلام، فأين الإنجيل الذي قال اللّه عز وجل فيه‏:‏ ‏
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏47‏]‏، وقال قبل هذا‏:‏ ‏{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏46،47‏]‏،

 

ص -102-

وقد قال قبل هذا‏:‏ ‏{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏43، 44‏]‏، وقال أيضًا‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏66‏]‏، وقال أيضًا‏:‏ ‏{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏68‏]‏،وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأهل الكتاب الذين بعث إليهم  وهم من كان في وقته ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة ‏:‏ لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم، وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ‏}‏ إخبار عن اليهود الموجودين، وأن عندهم التوراة فيها حكم اللّه، وكذلك قوله‏:‏‏{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ‏}‏هو أمر من اللّه على لسان محمد لأهل الإنجيل، ومن لا يؤمر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
قيل قبل هذا‏:‏ إنه قد قيل‏:‏ ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل اللّه في التوراة والإنجيل، بل ذلك مبدل؛ فإن التوراة انقطع تواترها، والإنجيل

 

ص -103-

إنما أخذ عن أربعة‏.‏
ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرًا مما في التوراة أو الإنجيل باطل ليس من كلام اللّه، ومنهم من قال‏:‏ بل ذلك قليل‏.‏ وقيل‏:‏ لم يحرف أحد شيئًا من حروف الكتب، وإنما حرفوا معانيها بالتأويل، وهذان القولان قال كلا منهما كثير من المسلمين‏.‏ والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض نسخًا صحيحة، وبقيت إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخًا كثيرة محرفة‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه لم يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه، ومن قال‏:‏ جميع النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم حرفت، فقد قال ما يعلم أنه خطأ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل اللّه في التوراة والإنجيل، ويخبر أن فيهما حكمه، وليس في القرآن خبر أنهم غيروا جميع النسخ‏.‏
وإذا كان كذلك، فنقول‏:‏ هو  سبحانه  قال‏:‏ ‏
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏47‏]‏ وما أنزله اللّه هو ما تلقوه عن المسيح، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثها في التوراة ذكر وفاة موسى  عليه السلام  ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل  من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما  ليس هو مما أنزله اللّه، ومما تلقوه عن موسى وعيسى، بل هو مما كتبوه مع ذلك للتعريف بحال توفيهما، وهذا خبر محض من

 

ص -104-

الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله اللّه عليهما ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس‏.‏  وكذلك‏:‏ ‏{لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏، فإن إقامة الكتاب العملُ بما أمر اللّه به في الكتاب من التصديق بما أخبر به على لسان الرسول‏.‏ وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك، ليس هو مما أنزله اللّه على الرسول، ولا مما أمر به ولا أخبر به، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة،يصنف الشخص كتابًا، فيذكر ناسخه في آخره عمر المصنف ونسبه وسنه، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف‏.‏
ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن، وألا يكتب في المصحف غير القرآن، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير، ولا آمين ولا غير ذلك، والمصاحف القديمة كتبها أهل العلم على هذه الصفة، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور، والتخميس، والتعشير، والوقف، والابتداء، وكتب في آخر المصحف تصديقه، ودعا، وكتب اسمه، ونحو ذلك، وليس هذا من القرآن،

 

ص -105-

 فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح، وتوفيه، ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين، ليس هو مما قاله المسيح، وإنما هو مما رآه من بعده، والذي أنزله اللّه هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله‏.‏
فإن قيل‏:‏ فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب، وأنه أتاهم بعد أيام، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين  فقد دخلت الشبهة‏.‏
قيل‏:‏ الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء؛ فإن الحجة في كلام الأنبياء، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة إن كان حقًا قُبِل وإلا رُدّ؛ ولهذا كان ما نقله الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والحديث يجب قبوله، لاسيما المتواتر كالقرآن، وكثير من السنن‏.‏ وأما ما قالوه فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم، وما تنازعوا فيه رد إلى اللّه والرسول، وعمر قد كان أولاً أنكر موت النبي صلى الله عليه وسلم حتى رد ذلك عليه أبو بكر، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه، وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة، وتنازعوا في قتال مانعى الزكاة، فلم يكن هذا قادحًا فيما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح، ولم يشهد أحد منهم

 

ص -106-

 صلبه، فإن الذي صلب إنما صلبه اليهود، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضرًا، وأولئك اليهود الذين صلبوه قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح، وقد قيل‏:‏ إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح، ولكنهم كذبوا وشبهوا على الناس، والأول هو المشهور، وعليه جمهور الناس‏.‏
وحينئذ، فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب، لكن عمدتهم على ذلك الشخص الذي جاء بعد أيام، وقال‏:‏ أنا المسيح، وذاك شيطان، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيرًا ما تجىء ويدعى أحدهم أنه نبي أو صالح، ويقول‏:‏ أنا فلان النبي أو الصالح ويكون شيطانًا، وفي ذلك حكايات متعددة، مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاءٍ وقال‏:‏ أنا المسيح، جئت لأهديك، فعرف أنه الشيطان فقال‏:‏ أنت قد بلغت الرسالة، ونحن نعمل بها، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك‏.‏
فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب كما قال تعالى‏:
‏‏{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏157‏]‏، وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله‏:‏‏{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح، ومن جوز قتله فهو كمن قتله، فهم في هذا القول كاذبون وهم آثمون‏.‏ وإذا قالوه فخرًا لم يحصل لهم الفخر لأنهم لم يقتلوه، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال

 

ص -107-

النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول‏؟‏‏.‏ قال‏:‏‏"‏إنه كان حريصًا على قتل صاحبه‏"‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ‏}‏ قيل‏:‏ هم اليهود، وقيل‏:‏ النصارى، والآية تعم الطائفتين، وقوله‏:‏ ‏{لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ‏}‏ قيل‏:‏ من قتله، وقيل‏:‏ ‏{مِّنْهُ‏}‏ أي في شك منه، هل صلب أم لا، كما اختلفوا فيه فقالت اليهود‏:‏ هو ساحر، وقالت النصارى‏:‏ إنه إله، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا، وهم في شك من ذلك‏:‏ ‏{مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 157 ‏]‏، فإذا كان هذا في الصلب، فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال‏:‏ إنه هو المسيح‏؟‏
فإن قيل‏:‏ إذا كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذين قال فيهم‏:‏
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏[‏آل عمران‏:‏55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏14‏]‏‏؟‏
قيل‏:‏ ظن من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح، بل هو مقر بأنه عبد اللّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في

 

ص -108-

إيمانه؛ فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلاً له، وقتل النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرًا من الأنبياء‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏146‏]‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏‏.‏
وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم هو، مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في اليقظة، فإنهم لا يكفرون بذلك، بل هذا كان يعتقده من هو من أكثر الناس اتباعًا للسنة واتباعًا له، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره‏.‏ وكان يأتيه من يظن أنه رسول اللّه، فهذا غلط منه لا يوجب كفره، فكذلك ظن من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح، ولا يقدح فيما نقلوه عنه، وعمر لما كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه  لم يكن هذا قادحًا في إيمانه، وإنما كان غلطًا ورجع عنه‏.‏

 

ص -109-

فَصْل
وقوله تعالى في هذه‏:
‏‏{مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏157‏]‏، هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم، وكذلك قوله‏:‏‏{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، وكذلك قوله‏:‏‏{وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 28‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏66‏]‏، وقوله‏:‏‏{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35، 36‏]‏‏.‏
فهذه عدة مواضع يذم اللّه فيها الذين لا يتبعون إلا الظن، وكذلك قوله‏:
‏‏{قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148، 149‏]‏، مطالبة بالعلم وذم لمن يتبع الظن وما عنده علم، وكذلك قوله‏:‏‏{نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏143‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏119‏]‏،

 

ص -110-

وأمثال ذلك ذم لمن عمل بغير علم، وعمل بالظن‏.‏
وقد ثبت في السنة المتواترة وإجماع الأمة أن الحاكم يحكم بشاهدين، وإن لم يكن شهود حلف الخصم‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"
‏إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار‏"‏‏.‏
والاجتهاد في ‏"‏تحقيق المناط‏"‏ مما اتفق المسلمون عليه، ولابد منه كحكم ذوي عدل بالمثل في جزاء الصيد، وكالاستدلال على الكعبة عند الاشتباه ونحو ذلك، فلا يقطع به الإنسان، بل يجوز أن تكون القبلة في غير جهة اجتهاده، كما يجوز إذا حكم أن يكون قد قضى لأحدهما بشىء من حق الآخر، وأدلة الأحكام لابد فيها من هذا؛ فإن دلالة العموم في الظواهر قد تكون محتملة للنقيض، وكذلك خبر الواحد والقياس، وإن كان قوم نازعوا في القياس، فالفقهاء منهم لم ينازعوا في خبر الواحد كالظاهرية، ومن نازع في هذا وهذا لم ينازع في العموم كالمعتزلة البغداديين،وإن نازع في العموم والقياس منازع، كبعض الرافضة مثل الموسوي ونحوه لم ينازع في الأخبار؛ فإن الإمامية عمدتهم على ما نقل عن الاثنى عشر، فلابد لهم من الرواية، ولا يوجد من

 

ص -111-

يستغنى عن الظواهر والأخبار والأقيسة، بل لابد أن يعمل ببعض ذلك مع تجويز نقيضه، وهذا عمل بالظن، والقرآن قد حرم اتباع الظن‏.‏
وقد تنوعت طرق الناس في جواز هذا؛ فطائفة قالت‏:‏ لا يتبع قط إلا العلم ولا يعمل بالظن أصلا، وقالوا‏:‏ إن خبر الواحد يفيد العلم، وكذلك يقولون في الظواهر، بل يقولون‏:‏ نقطع بخطأ من خالفنا، وننقض حكمه، كما يقوله داود وأصحابه، وهؤلاء عمدتهم إنما هو ما يظنونه ظاهرًا‏.‏ وأما الاستصحاب، فالاستصحاب  في كثير من المواضع  من أضعف الأدلة وهم في كثير مما يحتجون به قد لا يكون ما احتجوا به ظاهر اللفظ، بل الظاهر خلافه، فطائفة قالت‏:‏ لما قام الدليل على وجوب العمل بالظن الراجح كنا متبعين للعلم، فنحن نعمل بالعلم عند وجود العلم، لا نعمل بالظن‏.‏ وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأتباعه‏.‏
وهنا السؤال المشهور في ‏[‏حد الفقه‏]‏‏:‏ إنه العلم بالأحكام الشرعية العملية‏.‏ وقال الرازي‏:‏ العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة قال‏:‏
فإن قلت‏:‏ الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علمًا‏؟‏
قلت‏:‏ المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناطا

 

ص -112-

لحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه، فالعلم حاصل قطعًا، والظن واقع في طريقه‏.‏ وحقيقة هذا الجواب أن هنا مقدمتين‏:‏ إحداهما‏:‏ أنه قد حصل عندي ظن، والثانية‏:‏ قد قام الدليل القطعي على وجوب اتباع هذا الظن‏.‏
ف ‏[‏المقدمة الأولى‏]‏ وجدانية و ‏[‏الثانية‏]‏ عملية استدلالية؛ فليس الظن هنا مقدمة في الدليل كما توهمه بعضهم، لكن يقال‏:‏العمل بهذا الظن هو حكم أصول الفقه، ليس هو الفقه، بل الفقه هو ذاك الظن الحاصل بالظاهر، وخبر الواحد والقياس والأصول تفيد أن العمل بهذا الظن واجب‏.‏ وإلا فالفقهاء لا يتعرضون لهذا، فهذا الحكم العملي الأصولي ليس هو الفقه، وهذا الجواب جواب القاضي أبي بكر، وهو بناه على أصله؛ فإن عنده كلَّ مجتهد مصيبٌ، وليس في نفس الأمر أمر مطلوب، ولا على الظن دليل يوجب ترجيح ظن على ظن، بل الظنون عنده بحسب الاتفاق‏.‏
وقال الغزالي وغيره  ممن نصر قوله ‏:‏ قد يكون بحسب ميل النفس إلى أحد القولين دون الآخر، كميل ذي الشدة إلى قول، وذي اللين إلى قول‏.‏
وحينئذ فعندهم متى وجد المجتهد ظنًا في نفسه، فحكم اللّه في حقه

 

ص -113-

اتباع هذا الظن‏.‏ وقد أنكر أبو المعالي وغيره عليه هذا القول إنكارًا بليغًا، وهم معذورون في إنكاره؛ فإن هذا أولاً مكابرة، فإن الظنون عليها أمارات ودلائل يوجب وجودها ترجيح ظن على ظن، وهذا أمر معلوم بالضرورة، والشريعة جاءت به ورجحت شيئًا على شىء، والكلام في شيئين‏:‏ في اتباع الظن، وفي الفقه هل هو من الظنون‏؟‏
أما الأول‏:‏ فالجواب الصحيح هو الجواب الثالث، وهو أن كل ما أمر اللّه تعالى به فإنما أمر بالعلم، وذلك أنه في المسائل الخفية عليه أن ينظر في الأدلة، ويعمل بالراجح، وكون هذا هو الراجح أمر معلوم عند أمر مقطوع به، وإن قدر أن ترجيح هذا على هذا فيه شك عنده لم يعمل به، وإذا ظن الرجحان فإنما ظنه لقيام دليل عنده على أن هذا راجح، وفرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد،أما اعتقاد الرجحان فقد يكون علمًا وقدلا يعمل حتى يعلم الرجحان، وإذا ظن الرجحان أيضًا فلابد أن يظنه بدليل يكون عنده أرجح من دليل الجانب الآخر، ورجحان هذا غير معلوم، فلابد أن ينتهي الأمر إلى رجحان معلوم عنده، فيكون متبعًا لما علم أنه أرجح، وهذا اتباع للعلم لا للظن وهو اتباع الأحسن، كما قال‏:‏‏
{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 145‏]‏، وقال‏:‏ ‏{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏18‏]‏،وقال‏:‏‏{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏55‏]‏‏.‏ فإذا كان

 

ص -114-

أحد الدليلين هو الأرجح فاتباعه هو الأحسن،وهذا معلوم‏.‏
فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين‏.‏ وحينئذ، فما عمل إلا بالعلم وهذا جواب الحسن البصري، وأبيّ وغيرهم‏.‏ والقرآن ذم من لا يتبع إلا الظن فلم يستند ظنه إلى علم بأن هذا أرجح من غيره؛ كما قال‏
:‏‏{مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏157‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، وهكذا في سائر المواضع يذم الذين إن يتبعون إلا الظن، فعندهم ظن مجرد لا علم معه، وهم يتبعونه، والذي جاءت به الشريعة وعليه عقلاء الناس أنهم لا يعملون إلا بعلم بأن هذا أرجح من هذا، فيعتقدون الرجحان اعتقادًا عمليًا، لكن لا يلزم إذا كان أرجح ألا يكون المرجوح هو الثابت في نفس الأمر‏.‏
وهذا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم،حيث قال‏:
‏‏"‏ولعل بعضكم أن يكون ألْحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع‏"‏، فإذا أتى أحد الخصمين بحجة، مثل بينة تشهد له، ولم يأت الآخر بشاهد معها، كان الحاكم عالمًا بأن حجة هذا أرجح، فما حكم إلا بعلم، لكن الآخر قد يكون له حجة لا يعلمها أو لا يحسن أن يبينها، مثل أن يكون قد قضاه أو أَبرأه، وله بينة تشهد بذلك، وهو لا يعلمها، أو لا

 

ص -115-

يذكرها، أو لا يجسر أن يتكلم بذلك، فيكون هو المضيع لحقه، حيث لم يبين حجته، والحاكم لم يحكم إلا بعلم وعدل، وضياع حق هذا كان من عجزه وتفريطه لا من الحاكم‏.‏
وهكذا أدلة الأحكام، فإذا تعارض خبران، أحدهما مسند ثابت والآخر مرسل، كان المسند الثابت أقوى من المرسل، وهذا معلوم؛ لأن المحدث بهذا قد علم عدله وضبطه، والآخر لم يعلم عدله ولا ضبطه، كشاهدين زكى أحدهما ولم يزك الآخر، فهذا المزكى أرجح، وإن جاز أن يكون في نفس الأمر قول الآخر هو الحق، لكن المجتهد إنما عمل بعلم، وهو علمه برجحان هذا على هذا، ليس ممن لم يتبع إلا الظن، ولم يكن تبين له إلا بعد الاجتهاد التام فيمن أرسل ذلك الحديث، وفي تزكية هذا الشاهد، فإن المرسل قد يكون راويه عدلاً حافظًا، كما قد يكون هذا الشاهد عدلا‏.‏
ونحن ليس معنا علم بانتفاء عدالة الراوي، لكن معنا عدم العلم بعدالتهما، وقد لا تعلم عدالتهما مع تقويتها ورجحانها في نفس الأمر، فمن هنا يقع الخطأ في الاجتهاد، لكن هذا لا سبيل إلى أن يكلفه العالم أن يدع ما يعلمه إلى أمر لا يعلمه لإمكان ثبوته في نفس الأمر، فإذا كان لابد من ترجيح أحد القولين وجب ترجيح هذا الذي علم ثبوته على ما لا يعلم ثبوته، وإن لم يعلم انتفاؤه من جهته، فإنهما إذا

 

ص -116-

تعارضا وكانا متناقضين، فإثبات أحدهما هو نفي الآخر، فهذا الدليل المعلوم قد علم أنه يثبت هذا وينفي ذلك، وذلك المجهول بالعكس، فإذا كان لابد من الترجيح وجب قطعًا ترجيح المعلوم ثبوته على ما لم يعلم ثبوته‏.‏
ولكن قد يقال‏:‏ إنه لا يقطع بثبوته، وقد قلنا‏:‏ فرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد، أما اعتقاد الرجحان فهو علم، والمجتهد ما عمل إلا بذلك العلم، وهو اعتقاد رجحان هذا على هذا، وأما رجحان هذا الاعتقاد على هذا الاعتقاد فهو الظن، لكن لم يكن ممن قال اللّه فيه‏:‏ ‏
{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، بل هنا ظن رجحان هذا وظن رجحان ذاك، وهذا الظن هو الراجح، ورجحانه معلوم، فحكم بما علمه من الظن الراجح ودليله الراجح، وهذا معلوم له لا مظنون عنده، وهذا يوجد في جميع العلوم، والصناعات، كالطب، والتجارة، وغير ذلك‏.‏
وأما الجواب عن قولهم‏:‏الفقه من باب الظنون‏:‏فقد أجاب طائفة  منهم أبو الخطاب  بجواب آخر، وهو أن العلم المراد به العلم الظاهر، وإن جوز أن يكون الأمر بخلافه، كقوله‏:
‏‏{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏10‏]‏‏.‏
والتحقيق أن عنه جوابين‏:‏

 

ص -117-

أحدهما‏:‏ أن يقال‏:‏ جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويفتون بها هي ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه الناس، وهذا موجود في سائر العلوم، وكثير مسائل الخلاف هي في أمور قليلة الوقوع ومقدرة، وأما ما لابد للناس منه من العلم مما يجب عليهم ويحرم ويباح فهو معلوم مقطوع به، وما يعلم من الدين ضرورة جزء من الفقه، وإخراجه من الفقه قول لم يعلم أحد من المتقدمين قاله، ولا احترز بهذا القيد أحد إلا الرازي ونحوه، وجميع الفقهاء يذكرون في كتب الفقه وجوب الصلاة والزكاة، والحج واستقبال القبلة، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وتحريم الخمر والفواحش، وغير ذلك مما يعلم من الدين ضرورة‏.‏
وأيضًا، فكون الشىء معلومًا من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة‏.‏
الجواب الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏الفقه لا يكون فقهًا إلا من المجتهد المستدل، وهو قد علم أن هذا الدليل أرجح وهذا الظن أرجح،

 

ص -118-

فالفقه هو علمه برجحان هذا الدليل وهذا الظن؛ ليس الفقه قطعه بوجوب العمل، أي بما أدى إليه اجتهاده، بل هذا القطع من أصول الفقه، والأصولي يتكلم في جنس الأدلة، ويتكلم كلامًا كليلاً، فيقول‏:‏ يجب إذا تعارض دليلان أن يحكم بأرجحهما، ويقول أيضًا‏:‏ إذا تعارض العام والخاص فالخاص أرجح، وإذا تعارض المسند والمرسل فالمسند أرجح، ويقول أيضًا‏:‏ العام المجرد عن قرائن التخصيص شموله الأفراد أرجح من عدم شموله، ويجب العمل بذلك‏.‏
فأما الفقيه‏:‏ فيتكلم في دليل معين في حكم معين، مثل أن يقول‏:‏ قوله‏:‏‏
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏5‏]‏، خاص في أهل الكتاب، ومتأخر عن قوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏221‏]‏ وتلك الآية لا تتناول أهل الكتاب، وإن تناولتهم فهذا خاص متأخر، فيكون ناسخًا ومخصصًا، فهو يعلم أن دلالة هذا النص على الحِلِّ أرجح من دلالة ذلك النص على التحريم، وهذا الرجحان معلوم عنده قطعًا، وهذا الفقه الذي يختص به الفقيه هو علم قطعي لا ظني، ومن لم يعلم كان مقلدًا للأئمة الأربعة والجمهور الذين جوزوا نكاح الكتابيات، واعتقاد المقلد ليس بفقه‏.‏
ولهذا قال المستدل على أعيانها‏:‏ والفقيه قد استدل على عين

 

ص -119-

الحكم المطلوب والمسؤول عنه، وحيث لا يعلم الرجحان فهو متوقف لا قول له، وإذا قيل له‏:‏ فقد قال‏:‏ ‏{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏10‏]‏ قال‏:‏ هذا نزل عام الحُدَيْبِيَة، والمراد به المشركات، فإن سبب النزول يدل على أنهن مرادات قطعًا، وسورة المائدة بعد ذلك، فهي خاص متأخر وذاك عام متقدم، والخاص المتأخر أرجح من العام المتقدم‏.‏
ولهذا لما نزل قوله‏:‏
‏{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ فارق عمر امرأة مشركة، وكذلك غيره، فدل على أنهم كانوا ينكحون المشركات إلى حين نزول هذه الآية، ولو كانت آية البقرة قد نزلت قبل هذه لم يكن كذلك، فدل على أن آية البقرة بعد آية الممتحنة، وآية المائدة بعد آية البقرة‏.‏ فهذا النظر وأمثاله هو نظر الفقيه العالم برجحان دليل، وظن على دليل، وهذا علم لا ظن‏.‏
فقد تبين أن الظن له أدلة تقتضيه، وأن العالم إنما يعلم بما يوجب العلم بالرجحان لا بنفس الظن إلا إذا علم رجحانه، وأما الظن الذي لا يعلم رجحانه فلا يجوز اتباعه، وذلك هو الذي ذم اللّه به من قال فيه‏:
‏‏{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، فهم لا يتبعون إلا الظن، ليس عندهم علم، ولو كانوا عالمين بأنه ظن راجح، لكانوا قد اتبعوا علمًا لم يكونوا ممن يتبع إلا الظن، واللّه أعلم‏.‏

 

ص -120-

فَصْل
فهاهنا ثلاثة أشياء‏:‏
أحدها‏:‏ الظن الراجح في نفس المستدل المجتهد‏.‏
والثاني‏:‏ الأدلة  التي يسميها بعض المتكلمين أمارات  التي تعارضت، وعلم المستدل بأن التي أوجبت ذلك الظن أقوى من غيرها‏.‏
الثالث‏:‏ أنه قد يكون في نفس الأمر دليل آخر على القول الآخر لم يعلم به المستدل، وهذا هو الواقع في عامة موارد الاجتهاد؛ فإن الرجل قد يسمع نصًا عامًا، كما سمع ابن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قطع الخفين، وأنه أمر ألا يخرج أحد حتى يودع البيت، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير وظاهره العموم، وهذا راجح على الاستصحاب النافي للتحريم، فعملوا بهذا الراجح، وهم يعلمون قطعًا أن النهي أولى من الاستصحاب، لكن يجوز أن يكون مع الاستصحاب دليل خاص، ولكن لما لم يعلموه لم يجزلهم أن يعدلوا عما علموه إلى ما لم يعلموه، فكانوا يفتون بأن الحائض عليها الوداع، وعليها قطع الخفين، وأن قليل الحرير وكثيره حرام‏.‏

 

ص -121-

وابن الزبير كان يحرمه على الرجال والنساء؛ لعموم قوله‏:‏‏"‏من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة‏"‏‏.‏
وكان في نفس الأمر نصوص خاصة بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تنفر بلا وداع، وأنها تلبس الخفين وغيرهما مما نهى عنه المحرم، ولكن تجتنب النقاب والقفازين، وأنه رخص في موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة من الحرير، كما بين ذلك في الصحيح في رواية عمر، ولم يعرف به ابنه عبد اللّه، وكان له جبة مكفوفة بالحرير، فلما سمع ابن عمر ونحوه هذه النصوص الخاصة رجعوا، وعلموا حينئذ أنه كان في نفس الأمر دليل أقوى من الدليل الذي يستصحبوه ولم يعلموا به، وهم في الحالين إنما حكموا بعلم لم يكونوا ممن لم يتبع إلا الظن، فإنهم أولا رجحوا العموم على استصحاب البراءة الأصلية، وهذا ترجيح بعلم، فإن هذا راجح بلا ريب، والشرع طافح بهذا‏.‏
فما أوجبه اللّه أو حرمه في كتابه  كالوضوء والصلاة والحج وغيرها - هي نصوص عامة، وما حرمه  كالميتة والدم ولحم الخنزير  حرمه بنصوص عامة، وهي راجحة ومقدمة على البراءة الأصلية النافية للوجوب والتحريم، فمن رجح ذلك فقد حكم بعلم، وحكم بأرجح الدليلين المعلوم الرجحان، ولم يكن ممن لم يتبع إلا الظن، لكن لتجويزه أن يكون النص مخصوصًا صار عنده ظن راجح، ولو علم أنه لا تخصيص هناك قطع بالعموم، وكذلك

 

ص -122-

لو علم إرادة نوع قطع بانتفاء الخصوص، وهذا القول في سائر الأدلة، مثل أن يتمسك بنصوص، وتكون منسوخة، ولم يبلغه الناسخ، كالذين نهوا عن الانتباذ في الأوعية، وعن زيارة القبور، ولم يبلغهم النص الناسخ، وكذلك الذين صلوا إلى بيت المقدس قبل أن يبلغهم النسخ، مثل من كان من المسلمين بالبوادي وبمكة والحبشة وغير ذلك، وهؤلاء غير الذين كانوا بالمدينة، وصلى بعضهم صلاة إلى القبلتين؛ بعضها إلى هذه القبلة وبعضها إلى هذه القبلة، لما بلغهم النسخ وهم في أثناء الصلاة فاستداروا في صلاتهم من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة، من جهة الشام إلى جهة اليمن‏.‏
فالقاضي أبو بكر ونحوه، من الذين ينفون أن يكون في الباطن حكم مطلوب بالاجتهاد أو دليل عليه، ويقولون‏:‏ ما ثم إلا الظن الذي في نفس المجتهد، والأمارات لا ضابط لها، وليست أمارة أقوى من أمارة  فإنهم إذا قالوا ذلك لزمهم أن يكون الذي عمل بالمرجوح دون الراجح مخطئًا، وعندهم ليس في نفس الأمر خطأ‏.‏
وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون‏:‏ بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى، فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به، ولا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه

 

ص -123-

كان مخطئًا معذورًا، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه‏.‏
فإذا أريد بالخطأ الإثم فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب مطيع للّه، فاعل ما أمره اللّه به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر فالمصيب واحد وله أجران، كما في المجتهدين في جهة الكعبة إذا صلوا إلى أربع جهات، فالذي أصاب الكعبة، واحد وله أجران لاجتهاده وعمله، كان أكمل من غيره، والمؤمن القوي أحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، ومن زاده اللّه علماً وعملا زاده أجرًا بما زاده من العلم والعمل، قال تعالى‏:‏
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏83‏]‏، قال مالك عن زيد بن أسلم‏:‏ بالعلم، وكذلك قال في قصة يوسف‏:‏ ‏{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏76‏]‏‏.‏

 

ص -124-

وقد تبين أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم، واتبعوا العلم، وأن ‏[‏الفقه‏]‏ من أجل العلوم، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر؛ إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏78، 79‏]‏‏.‏
وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع‏.‏
بل جعل الدين قسمين‏:‏ أصولا، وفروعًا، لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين‏:‏ إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيد اللّه بن الحسن العنبري‏[‏هو عبد اللّه بن الحسن بن حصين بن أبي الحر العنبري، وثقه النسائي وابن سعد وابن حبان، ولد سنة خمس ومائة، وتوفى في ذي القعدة سنة ثمان وستين ومائة‏]‏ أنه قال‏:‏ كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم‏.‏
وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما‏.‏
ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم، ومن ردها  كمالك وأحمد  فليس ذلك مستلزمًا لإثمهما، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، فإذا هجر ولم يصل خلفه ولم تقبل شهادته، كان ذلك منعًا له من إظهار البدعة؛ ولهذا فرق أحمد وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره، وكذلك قال الخِرَقي ‏[‏هو عمر بن الحسين بن عبد اللّه الخرقي أبو القاسم، كان من أعيان الفقهاء الحنابلة، ورحل عن بغداد لما ظهر فيها سب الصحابة، له تصانيف كثيرة احترقت، وبقى منها ‏[‏المختصر في الفقه‏]‏ ويعرف بمختصر الخرقي، توفى بدمشق ودفن بها سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة‏]‏‏:‏ ومن صلى خلف من يجهر ببدعة أو منكر أعاد، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

 

ص -125-

والذين فرقوا بين الأصول والفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين، بل تارة يقولون‏:‏ هذا قطعي وهذا ظني‏.‏ وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشىء قطعيًا وظنيًا أمر إضافي‏.‏ وتارة يقولون‏:‏ الأصول هي العلميات الخبريات، والفروع العمليات وكثير من العمليات من جحدها كفر؛ كوجوب الصلاة والزكاة، والصيام والحج‏.‏ وتارة يقولون‏:‏ هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ، فإن الكفر حكم شرعي يتعلق بالشرع، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس، وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى، كما في مسائل الأحكام، مثال ذلك‏:‏ ما تقدم في الأصول الخمسة‏:‏ التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، ومسائل الأسماء والأحكام، وإنفاذ الوعيد، وهي التي توالى المعتزلة من وافقهم عليها، ويتبرؤون ممن خالفهم فيها‏.‏ وقد قدمنا أنهم قصدوا توحيد الرب وإثبات عدله وحكمته ورحمته وصدقه وطاعة أمره، لكن غلطوا في كل واحدة من هذه الأمور، كما تقدم‏.‏
وكذلك الذين ناقضوهم من الجهمية ومن سلك مسلكهم  كأبي الحسن الأشعري وأصحابه  فإنهم ناقضوهم في الأصول الخمسة، وكان عندهم علم

 

ص -126-

ليس عند أولئك، وكان عند أولئك علم ليس عند هؤلاء، وكل من الطائفتين لم تُحِطْ علمًا بما في الكتاب والسنة من بيان هذه الأمور، بل علموا بعضا وجهلوا بعضًا؛ فإن هؤلاء المجبرة هم في الحقيقة لا يثبتون للّه عدلاً ولا حكمة، ولا رحمة ولا صدقًا‏.‏ فأولئك قصدوا إثبات هذه الأمور‏.‏
أما العدل فعندهم كل ممكن فهو عدل، والظلم عندهم هو الممتنع، فلا يكون ثَمَّ عدل يقصد فعله وظلم يقصد تركه؛ ولهذا يجوزون عليه فعل كل شيء وإن كان قبيحًا، ويقولون‏:‏ القبيح هو ما نهى عنه، وهو لا ناهي له، ويجوزون الأمر بكل شيء وإن كان منكرًا وشركًا، والنهي عن كل شىء وإن كان توحيدًا ومعروفًا، فلا ضابط عندهم للفعل؛ فلهذا ألزموهم جواز إظهار المعجزات على يد الكاذب، ولم يكن لهم عن ذلك جواب صحيح، ولم يذكروا فرقًا بين المعجزات وغيرها، ولا ما به يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا نقضوا أصلهم، وقد قال اللّه تعالى‏:‏
‏{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏، وعندهم هذا لا فائدة فيه، فليس في الممكن قسط وجور، حتى يكون قائمًا بهذا دون هذا، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
وكذلك الحكمة، عندهم لا يفعل لحكمة، وقد فسروا الحكمة إما بالعلم، وإما بالقدرة، وإما بالإرادة، ومعلوم أن القادر قد يكون

 

ص -127-

حكيمًا ويكون غير حكيم، كذلك المريد قد تكون إرادته حكمة وقد تكون سفها، والعلم يطابق المعلوم، وسواء كان حكمة أو سفها، فليس عندهم في نفس الأمر أن اللّه حكيم‏.‏
وكذلك الرحمة، ما عندهم في نفس الأمر إلا إرادة ترجيح أحد المثلين بلا مرجح نسبتها إلى نفع العباد وضررهم سواء، فليس عندهم في نفس الأمر رحمة ولا محبة أيضًا‏.‏
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبيَّن تناقضهم في الصفات والأفعال، حيث أثبتوا الإرادة مع نفي المحبة والرضا، ومع نفي الحكمة، وبيّن تناقضهم وتناقض كل من أثبت بعض الصفات دون بعض، وأن المتفلسفة  نفاة الإرادة  أعظم تناقضًا منهم، فإن الرازي ذكر في المطالب العالية ‏[‏مسألة الإرادة‏]‏، ورجح فيها نفي الإرادة؛ لأنه لم يمكنه أن يجيب عن حجة المتفلسفة على أصول أصحابه الجهمية والمعتزلة ففر إليهم، وكذلك في غير هذا من المسائل؛ فهو تارة يرجح قول المتفلسفة‏.‏ وتارة يرجح قول المتكلمة‏.‏ وتارة يحار ويقف، واعترف في آخر عمره بأن طريق هؤلاء وهؤلاء لا تشفي عليلا ولا تروي غليلاً‏.‏
وقال‏:‏ قد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات‏:‏‏
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏،

 

ص -128-

واقرأ في النفي‏:‏‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏ ‏{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏110‏]‏، ومن جَرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي‏.‏
فقد تبين أنهم لا يثبتون عدل الرب ولا حكمته ولا رحمته‏.‏
وكذلك الصدق، فإنهم لما أرادوا أن يقيموا الدليل على أن اللّه صادق تعذر ذلك عليهم، فقالوا‏:‏ الصدق في الكلام النفساني واجب؛ لأنه يعلم الأمور، ومن يعلم يمتنع أن يقوم في نفسه خبر بخلاف علمه، وعلى هذا اعتمد الغزالي وغيره‏.‏
فقيل لهم‏:‏ هذا ضعيف لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ الصدق في ذلك المعنى لا ينفع إن لم يثبت الصدق في العبارات الدالة عليه، ويميز بين الأفعال عندهم‏.‏
الثاني‏:‏ أنهم أثبتوا الخبر النفساني، فإن الإنسان يخبرك بالكذب، فيقوم في نفسه معنى ليس هو العلم، وهو معنى الخبر، فهذا يقتضي أنهم يقولون‏:‏ إن العالم قد يقوم في نفسه خبر بخلاف علمه، والرازي لما ذكر مسألة أنه لا يجوز أن يتكلم بكلام ولا يعني به شيئًا خلافًا للحشوية‏.‏قيل له‏:‏ هل قال أحد من طوائف الأمة‏:‏إن الله لا يعنى بكلامه شيئًا‏؟‏ وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم العباد معناه‏؟‏ وقيل

 

ص -129-

له‏:‏ هب أن في هذا نزاعًا، فهو لم يقم دليلا على امتناع ذلك، بل قال‏:‏ هذا عيب أو نقص، واللّه منزه عنه، فقيل له‏:‏ إما أن يريد المعنى القائم بالذات أو العبارات المخلوقة‏.‏ أما الأول فلا يجوز إرادته هنا؛ لأن المسألة هي فيمن يتكلم بالحروف المنظومة، ولا يعني به شيئًا وذلك القائم بالذات هو نفس المعنى، وإن أردت الحروف  وهو مراده فتلك عندك مخلوقة، ويجوز عندك أن يخلق كل شىء ليس منزها عن فعل من الأفعال، والعيب عندك هو ما لا تريده، فهذا ممتنع‏.‏
فتبين أنه ليس لهم حجة لا على صدقه، ولا على تنزيهه عن العيب في خطابه، فإن ذلك إنما يكون ممن ينزهه عن بعض الأفعال، وتبين بذلك أنهم لا يثبتون عدله ولا حكمته، ولا رحمته ولا صدقه، والمعتزلة قصدهم إثبات هذه الأمور؛ ولهذا يذكرونها في خطبة الصفات، كما يذكرها أبو الحسين البصري وغيره، كما ذكر في أول صور الأدلة خطبة مضمونها‏:‏ إن اللّه واحد عدل
‏{لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏44‏]‏، و‏{إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏143‏]‏ وأظن فيها إثبات صدقه؛ ولهذا يكفرون من يجوزه، أو يكذبه، أو يسفهه، أو يشبهه، ولكن قد غلطوا في مواضع كثيرة، كما قد نبه على هذا في غير موضع، فكلا الطائفتين معها حق وباطل، ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار، وآمن بما جاء به الرسول كله على

 

ص -130-

وجهه، لم يؤمن ببعض ويكفر ببعض، وهؤلاء هم أهل الرحمة الذين لا يختلفون، بخلاف أولئك المختلفين، قال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118، 119‏]‏‏.
فَصْل
والجهمية والمعتزلة مشتركون في نفي الصفات، وابن كلاب ومن تبعه- كالأشعري وأبي العباس القلانسي ومن تبعهم - أثبتوا الصفات، لكن لم يثبتوا الصفات الاختيارية مثل كونه يتكلم بمشيئته، ومثل كون فعله الاختياري يقوم بذاته، ومثل كونه يحب ويرضى عن المؤمنين بعد إيمانهم، ويغضب ويبغض الكافرين بعد كفرهم، ومثل كونه يرى أفعال العباد بعد أن يعملوها، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏، فأثبت رؤية مستقبلة، وكذلك قوله تعالى‏:‏‏{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏14‏]‏ ومثل كونه نادى موسى حين أتى، لم يناده قبل ذلك بنداء قام بذاته، فإن المعتزلة والجهمية يقولون‏:‏ خلق نداء في الهواء‏.‏ والكلابية والسالمية يقولون‏:‏ النداء قام بذاته وهو قديم، لكن سمعه موسى، فاستجدوا سماع موسى، وإلا فما زال عندهم مناديًا‏.‏

 

ص -131-

والقرآن والأحاديث وأقوال السلف والأئمة كلها تخالف هذا وهذا، وتبين أنه ناداه حين جاء، وأنه يتكلم بمشيئته في وقت بكلام معين، كما قال‏:‏‏{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏11‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏59‏]‏‏.‏
والقرآن فيه مئون من الآيات تدل على هذا الأصل، وأما الأحاديث فلا تحصى، وهذا قول أئمة السنة والسلف وجمهور العقلاء؛ ولهذا قال عبد اللّه بن المبارك والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما‏:‏ لم يزل متكلمًا إذا شاء وكيف شاء‏.‏ وهذا قول عامة أهل السنة؛ فلهذا اتفقوا على أن القرآن كلام اللّه منزل غير مخلوق، ولم نعرف عن أحد من السلف أنه قال‏:‏ هو قديم لم يزل‏.‏ والذين قالوا من المتأخرين‏:‏ هو قديم، كثير منهم من لم يتصور المراد، بل منهم من يقول‏:‏ هو قديم في علمه، ومنهم من يقول‏:‏ قديم، أي متقدم الوجود، متقدم على ذات زمان المبعث، لا أنه أزلي لم يزل، ومنهم من يقول‏:‏ بل مرادنا بقديم أنه غير مخلوق، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أنه على هذا الأصل إذا خلق المخلوقات رآها وسمع أصوات عباده، وكان ذلك بمشيئته وقدرته؛ إذ كان خلقه لهم بمشيئته وقدرته، وبذلك صاروا يرون ويسمع كلامهم‏.‏ وقد جاء في

 

ص -132-

القرآن والسنة في غير موضع أنه يخص بالنظر والاستماع بعض المخلوقات، كقوله‏:‏ ‏"‏ثلاثة لا يكلمهم اللّه، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم‏:‏ مَلِك كذاب، وشيخ زان، وعائل مُستكبر‏"‏‏.‏
وكذلك في الاستماع، قال تعالى‏:‏ ‏
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏2‏]‏ أي‏:‏ استمعت‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما أذِنَ اللّه لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏للّه أشد أذنًا إلى صاحب القرآن من صاحب الْقَيْنَة إلى قينته‏"‏، فهذا تخصيص بالأذن وهو الاستماع لبعض الأصوات دون بعض‏.‏
وكذلك سمع الإجابة، كقوله‏:‏ ‏"‏سمع اللّه لمن حمده‏"‏، وقول الخليل‏:‏ ‏
{إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏38‏]‏، وقوله‏:‏‏{إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏50‏]‏ يقتضي التخصيص بهذا السمع، فهذا التخصيص ثابت في الكتاب والسنة، وهو تخصيص بمعنى يقوم بذاته بمشيئته وقدرته  كما تقدم  وعند النفاة هو تخصيص بأمر مخلوق منفصل، لا بمعنى يقوم بذاته، وتخصيص من يحب بالنظر والاستماع المذكور يقتضي أن هذا النوع منتف عن غيره‏.‏
لكن مع ذلك هل يقال‏:‏ إن نفس الرؤية والسمع الذي هو مطلق الإدراك هو من لوازم ذاته، فلا يمكن وجود مسموع ومرئى إلا

 

ص -133-

وقد تعلق به كالعلم‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه أيضًا بمشيئته وقدرته فيمكنه ألا ينظر إلى بعض المخلوقات‏؟‏ هذا فيه قولان‏:‏ والأول قول من لا يجعل ذلك متعلقًا بمشيئته وقدرته، وأما الذين يجعلونه متعلقًا بمشيئته وقدرته فقد يقولون‏:‏ متى وجد المرئي والمسموع وجب تعلق الإدراك به‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أن جنس السمع والرؤية يتعلق بمشيئته وقدرته، فيمكن ألا ينظر إلى شيء من المخلوقات، وهذا هو المأثور عن طائفة من السلف، كما روى ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني قال‏:‏ ما نظر اللّّه إلى شيء من خلقه إلا رحمه، ولكنه قضى ألا ينظر إليهم‏.‏
وقد يقال‏:‏ هذا مثل الذكر والنسيان، فإن اللّه تعالى قال‏:‏
‏{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يقول اللّه تعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَةً‏"‏، فهذا الذكر يختص بمن ذكره، فمن لا يذكره لا يحصل له هذا الذكر، ومن آمن به وأطاعه ذكره برحمته، ومن أعرض عن الذكر الذي أنزله أعرض عنه، كما قال‏:‏ ‏{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏124 126‏]‏،

 

ص -134-

ومثله قوله‏:‏ ‏{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏67‏]‏‏.‏
وقد فسروا هذا النسيان بأنه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ وهذا النسيان ضد ذلك الذكر، وفي الصحيح في حديث الكافر يحاسبه قال‏:‏ ‏"‏أفظننت أنك ملاقي‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فاليوم أنساك كما نسيتني‏"‏، فهذا يقتضي أنه لا يذكره كما يذكر أهل طاعته، هو متعلق بمشيئته وقدرته أيضًا، وهو  سبحانه  قد خلق هذا العبد وعلم ما سيعمله قبل أن يعمله، ولما عمل علم ما عمل ورأى عمله، فهذا النسيان لا يناقض ما علمه  سبحانه  من حال هذا‏.‏
فَصْل
جماع الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك‏:‏ أن يجعل ما بعث اللّه به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه

 

ص -135-

يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملا لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده ولكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه، أو تكذيبه، فإنه يمسك فلا يتكلم إلا بعلم‏.‏
والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول‏.‏ وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في أمور دنيوية، مثل‏:‏الطب والحساب والفلاحة والتجارة‏.‏
وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية، فهذه العلم فيها مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم على بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة‏.‏ وهذه الثلاثة بها يتم المقصود، ومن سوى الرسول إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما ألا يكون له إرادة فيما علمه من ذلك، فلم يبينه إما لرغبة، وإما لرهبة، وإما لغرض آخر، وإما أن يكون بيانه ناقصًا ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان‏.‏
وبيان الرسول على وجهين‏:‏

 

ص -136-

تارة يبين الأدلة العقلية الدالة عليها، والقرآن مملوء من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على المعارف الإلهية والمطالب الدينية‏.‏
وتارة يخبر بها خبرًا مجردًا لما قد أقامه من الآيات البينات، والدلائل اليقينيات على أنه رسول اللّه المبلغ عن اللّه، وأنه لا يقول عليه إلا الحق، وأن اللّه شهد له بذلك، وأعلم عباده وأخبرهم أنه صادق مصدوق فيما بلغه عنه، والأدلة التي بها نعلم أنه رسول اللّه كثيرة متنوعة، وهي أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل، وهي أيضًا شرعية سمعية، لكن الرسول بينها ودل عليها وأرشد إليها، وجميع طوائف النظار متفقون على أن القرآن اشتمل على الأدلة العقلية في المطالب الدينية، وهم يذكرون ذلك في كتبهم الأصولية، وفي كتب التفسير، وعامة النظار أيضًا يحتجون بالأدلة السمعية الخبرية المجردة في المطالب الدينية، فإنه إذا ثبت صدق الرسول وجب تصديقه فيما يخبر به‏.‏
والعلوم ثلاثة أقسام‏:‏ منها ما لا يعلم إلا بالأدلة العقلية، وأحسن الأدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول، فينبغي أن يعرف أن أجلَّ الأدلة العقلية وأكملها وأفضلها مأخوذ عن الرسول؛ فإن من الناس من يذهل عن هذا، فمنهم من يقدح في الدلائل العقلية مطلقًا؛ لأنه قد صار في ذهنه أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه من أحدثه من المتكلمين، ومنهم من يعرض عن تدبر القرآن وطلب الدلائل اليقينية

 

ص -137-

العقلية منه؛ لأنه قد صار في ذهنه أن القرآن إنما يدل بطريق الخبر فقط، فلابد أن يعلم بالعقل قبل ذلك ثبوت النبوة وصدق الخبر، حتى يستدل بعد ذلك بخبر من ثبت بالعقل صدقه، ومنها ما لا يعلمه غير الأنبياء إلا بخبر الأنبياء، وخبرهم المجرد هو دليل سمعي، مثل تفاصيل ما أخبروا به من الأمور الإلهية، والملائكة والعرش، والجنة والنار، وتفاصيل ما يؤمر به وينهى عنه‏.‏
فأما نفس إثبات الصانع ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته وحكمته، ورحمته ونحو ذلك  فهذا لا يعلم بالأدلة العقلية، وإن كانت الأدلة والآيات التي يأتي بها الأنبياء هي أكمل الأدلة العقلية، لكن معرفة هذه ليست مقصورة على الخبر المجرد، وإن كانت أخبار الأنبياء المجردة تفيد العلم اليقيني أيضًا، فيعلم بالأدلة العقلية التي أرشدوا إليها، ويعلم بمجرد خبرهم لما علم صدقهم بالأدلة والآيات والبراهين التي دلت على صدقهم‏.‏
وقد تنازع الناس في العلم بالمعاد، وبحسن الأفعال وقبحها‏.‏ فأكثر الناس يقولون‏:‏ إنه يعلم بالعقل مع السمع، والقائلون بأن العقل يعلم به الحسن والقبح أكثر من القائلين بأن المعاد يعلم بالعقل، قال أبو الخطاب‏:‏ هو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، ومنهم من يقول‏:‏ المعاد والحسن والقبح لا يعلم إلا بمجرد الخبر، وهو قول الأشعري

 

ص -138-

وأصحابه ومن وافقهم من أتباع الأئمة كالقاضي أبي يعلي، وأبى المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي وغيرهم، وكلهم متفقون على أن من العلوم ما يعلم بالعقل والسمع الذي هو مجرد الخبر، مثل كون أفعال العباد مخلوقة للّه أو غير مخلوقة، وكون رؤيته ممكنة أو ممتنعة ونحو ذلك‏.‏
وكتب أصول الدين لجميع الطوائف مملوءة بالاحتجاج بالأدلة السمعية الخبرية، لكن الرازي طعن في ذلك في ‏[‏المطالب العالية‏]‏ قال‏:‏ لأن الاستدلال بالسمع مشروط بألا يعارضه قاطع عقلي، فإذا عارضه العقلي وجب تقديمه عليه‏.‏ قال‏:‏ والعلم بانتفاء المعارض العقلي متعذر، وهو إنما يثبت بالسمع ما علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به كالمعاد، وقد يظن أن هذه طريقة أئمته الواقفة في الوعيد، كالأشعري، والقاضي أبي بكر وغيرهما، وليس كذلك؛ فإن هؤلاء إنما وقفوا في أخبار الوعيد خاصة؛ لأن العموم عندهم لا يفيد القطع، أو لأنهم لا يقولون بصيغ العموم، وقد تعارضت عندهم الأدلة، وإلا فهم يثبتون الصفات الخبرية للّه، كالوجه واليد بمجرد السمع والخبر، ولم يختلف قول الأشعري في ذلك، وهو قول أئمة أصحابه، لكن أبو المعالي وأتباعه لا يثبتون الصفات الخبرية، بل فيهم من ينفيها ومنهم من يقف فيها كالرازي والآمدي، فيمكن أن يقال‏:‏ قول الأشعري ينتزع من قول هؤلاء

 

ص -139-

بأن يقال‏:‏ لا يعرف أنهم اعتمدوا في الأصول على دليل سمعي، لكن يقال‏:‏ المعاد يحتجون عليه بالقرآن والأحاديث، ولكن الرازي هو الذي سلك فيه طريق العلم الضروري أن الرسول جاء به‏.‏
وفي الحقيقة، فجميع الأدلة اليقينية توجب علمًا ضروريًا، والأدلة السمعية الخبرية توجب علمًا ضروريًا بأخبار الرسول، لكن منها ما تكثر أدلته كخبر الأخبار المتواترة، ويحصل به علم ضروري من غير تعيين دليل، وقد يعين الأدلة ويستدل بها، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن يؤخذ من الرسول العلوم الإلهية الدينية سمعيها وعقليها، ويجعل ما جاء به هو الأصول لدلالة الأدلة اليقينية البرهانية على أن ما قاله حق جملة وتفصيلا، فدلائل النبوة عامتها تدل على ذلك جملة، وتفاصيل الأدلة العقلية الموجودة في القرآن والحديث تدل على ذلك تفصيلا‏.‏
وأيضًا، فإن الأنبياء والرسل إنما بعثوا بتعريف هذا، فهم أعلم الناس به وأحقهم بقيامه وأولاهم بالحق فيه‏.‏
وأيضًا، فمن جرب ما يقولونه ويقوله غيرهم وجد الصواب معهم،

 

ص -140-

والخطأ مع مخالفيهم، كما قال الرازي  مع أنه من أعظم الناس طعنًا في الأدلة السمعية، حتى ابتدع قولاً ما عرف به قائل مشهور غيره، وهو أنها لا تفيد اليقين، ومع هذا فإنه يقول ‏:‏ لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروى غليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات‏:‏ ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، ‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، واقرأ في النفي‏:‏‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، ‏{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏110‏]‏، قال‏:‏ ومن جَرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي‏.‏
وأيضًا، فمن اعتبر ما عند الطوائف الذين لم يعتصموا بتعليم الأنبياء وإرشادهم وإخبارهم وجدهم كلهم حائرين، ضالين شاكين مرتابين، أو جاهلين جهلا مركبًا، فهم لا يخرجون عن المثلين اللذين في القرآن‏:‏‏
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏39، 40‏]‏‏.‏

 

ص -141-

فَصْل
وأهل الضلال، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، هم كما قال مجاهد‏:‏ أهل البدع والشبهات؛ يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل، كما قال فيهم الإمام أحمد، قال‏:‏ هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يحتجون بالمتشابه من الكلام، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم‏.‏
والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون‏:‏ نفوّض معناه إلى اللّه، وهذا فعل عامتهم‏.‏
وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة، يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول،

 

ص -142-

ويجعلون كلام اللّه ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا اللّه، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم، والراسخون عندهم من كان موافقًا لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم، كالنصارى، والخوارج، وغيرهم؛ إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام اللّه وجعلوه محكمًا، وجعلوا المحكم متشابهًا‏.‏
وأما أولئك  كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة  فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء، وإن كان صريحًا قد يعلم معناه بالضرورة، يجعلونه من المتشابه؛ ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط وعبد اللّه بن المبارك وغيرهما  كطائفة من أصحاب أحمد‏:‏ إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين وسبعين فرقة، قالوا‏:‏ وأصولها أربعة‏:‏ الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية‏.‏
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن في قوله تعالى‏:‏
‏{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏، في المتشابهات قولان‏:‏

 

ص -143-

أحدهما‏:‏ أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس‏.‏
والثاني  وهو الصحيح ‏:‏ أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال‏:‏ ‏
{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1‏]‏، وهذا كقوله‏:‏ ‏"‏الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس‏"‏، وكذلك قولهم‏:‏‏{إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏70‏]‏‏.‏
وقد صنف أحمد كتابًا في ‏"‏الرد على الزنادقة والجهمية‏"‏ فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق ابن عباس‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت، وماذا عني بها‏.‏
ومن قال من السلف‏:‏ إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه فقد أصاب أيضًا، ومراده بالتأويل ما استأثر اللّه بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجىء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه‏.‏

 

ص -144-

وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم، كقوله‏:‏ ‏{إنَّا‏}‏ و‏{نحن‏}‏، وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم الذي له أعوان، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة، فتأويل هذا الذي هو تفسيره يعلمه الراسخون، ويفرقون بين ما قيل فيه‏:‏ ‏{إيَّاي‏}‏ وما قيل فيه‏:‏ ‏{إنَّا‏}‏ لدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه، إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده؛ ولهذا لا يقول‏:‏ فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها الملائكة قال‏:‏ ‏{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏1‏]‏، ‏{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏18‏]‏، ‏{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏3‏]‏، ونحو ذلك، مع أن تأويل هذا  وهو حقيقة ما دل عليه من الملائكة وصفاتهم وكيفية إرسال الرب لهم  لا يعلمه إلا اللّه، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله اللّه ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ‏:‏ يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما

 

ص -145-

يوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد‏.‏
وهذا مثل لفظ ‏[‏المركب‏]‏ و ‏[‏الجسم‏]‏ و ‏[‏المتحيز‏]‏ و ‏[‏الجوهر‏]‏ و ‏[‏الجهة‏]‏ و ‏[‏العرض‏]‏ ونحو ذلك، ولفظ ‏[‏الحيز‏]‏ ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ، لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضًا، بل هم يختصون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن بالأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم، فإنها ملفقة من مقدمات مشتركة، يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل، وفي المعنى ليس بدليل، كمن يقول‏:‏ سهيل بعيد من الثريا، لا يجوز أن يقترن بها، ولا يتزوجها، والذي قال‏:‏
أيها المنكح الثريا سهيلا
أراد امرأة اسمها الثريا، ورجلا اسمه سهيل‏.‏ ثم قال‏:‏
عمرك اللّه كيف يلتقيان

 

ص -146-

 هي شامية إذا ما استقلت

 وسهيل إذا استقل يمان

وهذا لفظ مشترك، فجعل يعجبه، وإنكاره من الظاهر من جهة اللفظ المشترك، وقد بسط الكلام على أدلتهم المفصلة في غير موضع‏.‏
والأصل الذي بني عليه نفاة الصفات وعطلوا ما عطلوه حتى صار منتهاهم إلى قول فرعون الذي جحد الخالق، وكذب رسوله موسي في أن اللّه كلمه، هو استدلالهم على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة، واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث، ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، وهذا أصل قول الجهمية الذين أطبق السلف والأئمة على ذمهم، وأصل قول المتكلمين الذين أطبقوا على ذمهم، وقد صنف الناس مصنفات متعددة فيها أقوال السلف والأئمة في ذم الجهمية، وفي ذم هؤلاء المتكلمين‏.‏
والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر اللّه به رسوله، والاستدلال بما بينه اللّه ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضًا وهو الباطل، فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل‏.‏

ص -147-

ولكن كثيرًا من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام، فمنهم من اعتقده موافقًا للشرع والعقل، حتى اعتقد أن إبراهيم الخليل استدل به، ومن هؤلاء من يجعله أصل الدين ولا يحصل الإيمان أو لا يتم إلا به، ولكن من عرف ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة علم بالاضطرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، فصار من عرف ذلك يعرف أن هذا بدعة، وكثير منهم لا يعرف أنه فاسد، بل يظن مع ذلك أنه صحيح من جهة العقل، لكنه طويل أو يبعد المعرفة، أو هو طريق مخيفة مخطر يخاف على سالكه، فصاروا يعيبونه كما يعاب الطريق الطويل والطريق المخيف، مع اعتقادهم أنه يوصل إلى المعرفة، وأنه صحيح في نفسه‏.‏
وأما الحذاق العارفون تحقيقه فعلموا أنه باطل عقلا وشرعًا، وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة، بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك‏.‏
ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك؛ إذ كان حقيقته أن كل موجود فهو حادث مسبوق بالعدم، وليس في الوجود قديم، وهذا مكابرة؛ فإن الوجود مشهود، وهو إما حادث وإما قديم، والحادث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين‏.‏

 

ص -148-

وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك، كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع، وحقيقته أن كل موجود فهو ممكن ليس في الوجود موجود بنفسه، مع أنهم جعلوا هذا طريقًا لإثبات الواجب بنفسه، كما يجعل أولئك هذا طريقًا لإثبات القديم، وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه، مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة‏.‏
ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه، وقالوا‏:‏ هو اللّه، وأنكروا أن يكون للعالم رب مباين للعالم؛ إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لابد منه على كل قول، وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب، لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم، بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه‏.‏
ولكن وصفوه بصفات الممتنع، فقالوا‏:‏ لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو صفة ولا موصوف، ولا يشار إليه، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه، وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر، ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود، فدليلهم في نفس

 

ص -149-

الأمر يستلزم أنه ما ثَمَّ قديم ولا واجب، ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب، وهذا الذي أثبتوه هو ممتنع، فما أثبتوا قديمًا ولا واجبًا‏.‏
فجاء آخرون من جهميتهم فرأوا هذا مكابرة، ولابد من إثبات القديم والواجب، فقالوا‏:‏ هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون‏:‏ إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا‏:‏ هو عين الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الموجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه، وأما حقيقة قولهم فهو النفي أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولكن هذا لم تسمعه الأئمة، ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم؛ ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام‏:‏

 جهمية الأوصاف إلا أنها

 قد حليت بمحاسن الأشياء

وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر؛ إذ كان خلاف ما يعلمه كل أحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم، لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث

ص -150-

لا يحدث بنفسه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏‏{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏35‏]‏، وقد قيل‏:‏ ‏{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ‏}‏ من غير رب خلقهم، وقيل‏:‏ من غير مادة، وقيل‏:‏ من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابد له من خالق‏.‏
ومعرفة الفطر أن المحدث لابد له من محدث أظهر فيها، من أن كل محدث لابد له من مادة خلق منها وغاية خلق لها؛ فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم ينازع في الأول، طائفة قالت‏:‏ إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال‏:‏ إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، و إما أن يقول‏:‏ إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكي عمن لا يعرف‏.‏
ومثل هذا القول وأمثاله يقوله من يقوله ممن حصل له فساد في عقله، صار به إلى السفسطة، والسفسطة تعرض لآحاد الناس، وفي بعض الأمور، ولكن أمة من الأمم كلهم سوفسطائية في كل شيء، هذا لا يتصور؛ فلهذا لا يعرف عن أمة من الأمم أنهم قالوا بحدوث العالم من غير محدث‏.‏
وهؤلاء لما اعتقدوا أن كل موصوف أو كل ما قامت به صفة أو

 

ص -151-

فعل بمشيئته، فهو محدث وممكن، لزمهم القول بحدوث كل موجود؛ إذ كان الخالق جل جلاله متصفًا بما يقوم به من الصفات والأمور الاختياريات، مثل أنه متكلم بمشيئته وقدرته، ويخلق ما يخلقه بمشيئته وقدرته، لكن هؤلاء اعتقدوا انتفاء هذه الصفات عنه؛ لاعتقادهم صحة القول بأن ما قامت به الصفات والحوادث فهو حادث؛ لأن ذلك لا يخلو من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإذا كان حادثًا كان له محدث قديم، واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب، وأنه ذات مجردة عن الصفات، ووجوده مطلق لا يشار إليه ولا يتعين، ويقولون‏:‏ هو بلا إشارة ولا تعيين، وهذا الذي أثبتوه لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو في الذهن، فكان ما أثبتوه واعتقدوا أنه الصانع للعالم إنما يتحقق في الأذهان لا فى الأعيان، وكان حقيقة قولهم تعطيل الصانع‏.‏
فجاء إخوانهم في أصل المقالة‏.‏ وقالوا‏:‏ هذا الوجود المطلق المجرد عن الصفات هو الوجود الساري في الموجودات، فقالوا بحلوله في كل شيء‏.‏
وقال آخرون منهم‏:‏ هو وجود كل شيء، ومنهم من فرق بين الوجود والثبوت، ومنهم من فرق بين التعيين والإطلاق، ومنهم من جعله في العالم كالمادة في الصورة، ومنهم من جعله في العالم كالزبد في

 

ص -152-

اللبن وكالزيت والشيرج فى السمسم والزيتون، وقد بسط الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن الأصل الذي أضلهم قولهم‏:‏ ما قامت به الصفات والأفعال، والأمور الاختيارية أو الحوادث فهو حادث، ثم قالوا‏:‏ والجسم لا يخلو من الحوادث، وأثبتوا ذلك بطرق؛ منهم من قال‏:‏ لا يخلو عن الأكوان الأربعة‏:‏ الحركة والسكون والاجتماع والافتراق‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لا يخلو عن الحركة والسكون فقط‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لا يخلو عن الأعراض، والأعراض كلها حادثة، وهي لا تبقى زمانين، وهذه طريقة الآمدي، وزعم أن أكثر أصحاب الأشعرية اعتمدوا عليها، والرازى اعتمد على طريقة الحركة والسكون‏.‏
وقد بسط الكلام على هذه الطرق، وجميع ما احتجوا به على حدوث الجسم وإمكانه، وذكرنا في ذلك كلامهم هم أنفسهم فى فساد جميع هذه الطرق، وأنهم هم بينوا فساد جميع ما استدل به على حدوث الجسم وإمكانه، وبينوا فسادها طريقًا طريقًا بما ذكروه، كما قد بسط هذا فى غير هذا الموضع‏.‏
وأما الهشامية والكَرَّامية، وغيرهم، ممن يقول بأنه جسم قديم، فقد شاركوهم في أصل هذه المقالة، لكن لم يقولوا بحدوث كل جسم، ولا

 

ص -153-

قالوا‏:‏ إن الجسم لا ينفك عن الحوادث؛ إذ كان القديم عندهم جسمًا قديمًا وهو خال من الحوادث، وقد قيل‏:‏ أول من قال في الإسلام‏:‏ إن القديم جسم هو هشام بن الحكم‏[‏هو هشام بن الحكم الشيباني، من أهل الكوفة، متكلم مناظر، من كبار الرافضة ومشاهيرهم، له مصنفات كثيرة منها ‏[‏الإمامة‏]‏ و‏[‏القدر‏]‏ و‏[‏الرد على من قال بإمامة المفضول‏]‏، يقال‏:‏ إنه عاش إلى خلافة المأمون، وتوفى سنة 971ه‏]‏، كما أن أول من أظهر في الإسلام نفي الجسم هو الجهم بن صفوان‏.‏
وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية كثير مشهور، فإن مرض التعطيل شر من مرض التجسيم، وإنما كان السلف يذمون المشبهة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل  رضي اللّه عنه  وإسحاق بن راهويه وغيرهما، قالوا‏:‏المشبهة الذين يقولون‏:‏ بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي‏.‏ وابن كلاب ومن تبعه أثبتوا الصفات التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته، فأما التي تتعلق بمشيئته وقدرته فينفونها، قالوا‏:‏ لأنها حادثة ولو قامت به الحوادث لكان حادثًا؛ لأن ما قبل الشيء لم يخل عنه وعن ضده، فلو قبل بعض هذه الحوادث لم يخل منه ومن ضده فلم يخل من الحوادث فيكون حادثًا‏.‏
ومحمد بن كرَّام كان بعد ابن كُلاَّب في عصر مسلم بن الحجاج، أثبت أنه يوصف بالصفات الاختياريات، ويتكلم بمشيئته وقدرته، ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فلم يقل بقول السلف‏:‏ إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بل قال‏:‏ إنه صار يتكلم بمشيئته وقدرته، كما صار يفعل بمشيئته وقدرته بعد أن لم يكن كذلك، وقال هو وأصحابه في المشهور عنه‏:‏

 

ص -154-

إن الحوادث التي تقوم به لا يخلو منها ولا يزول عنها؛ لأنه لو قامت به الحوادث ثم زالت عنه كان قابلاً لحدوثها وزوالها، وإذا كان قابلاً لذلك لم يخل منه، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإنما يقبل على أصلهم أنه تقوم به الحوادث فقط، كما يقبل أن يفعلها ويحدثها، ولا يلزم من ذلك أنها لم تخل منه، كما لم يلزم أنه لم يزل فاعلا لها‏.‏ والحدوث عندهم غير الأحداث‏.‏ والقرآن عندهم حادث لا محدث؛ لأن المحدث يفتقر إلى إحداث بخلاف الحدوث‏.‏
وهم إذا قالوا‏:‏ كان خاليًا منها في الأزل وكان ساكنًا، لم يقولوا‏:‏ إنه قام به حادث، بل يقولون‏:‏ السكون أمر عدمي كما يقوله الفلاسفة ولكن الحركة أمر وجودي، بخلاف ما يقوله من يقوله من المعتزلة والأشعرية‏:‏ إن السكون أمر وجودي كالحركة، فإذا حصل به حادث لم يكن ثم عدم هذا الحادث، فإنما يعدم الحادث بإحداث يقوم به وهذا ممتنع، وهم يقولون‏:‏ إنه يمتنع عدم الجسم، وعندهم أن الباري يقوم به إحداث المخلوقات وإفناؤها، فالحوادث التي تقوم بهم تقوم به لو أفناها لقام به الإحداث والإفناء، فكان قابلاً لأن يحدث فيه حادث ويفني ذلك الحادث، وما كان كذلك لم يخل من إحداث وإفناء فلم يخل من الحوادث، و ما لم يخل منها فهو حادث، وإنما كان كذلك لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده كما قالت الكلابية، لكن المعتزلة يقولون‏:

 

ص -155-

‏السكون ضد الحركة فالقابل لأحدهما لا يخلو عنه وعن الآخر، وهؤلاء يقولون‏:‏ السكون ليس بضد وجودي، بل هو عدمي، وإنما الوجودي هو الإحداث والإفناء، فلو قبل قيام الإحداث والإفناء به لكان قابلاً لقيام الأضداد الوجودية، والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده‏.‏
وهؤلاء لما أراد منازعوهم إبطال قولهم، كان عمدتهم بيان تناقض أقوالهم، كما ذكر ذلك أبو المعالي وأتباعه، وكما ذكر الآمدي تناقضهم من وجوه كثيرة، قد ذكرت في غير هذا الموضع، وغايتها أنها تدل على مناقضتهم لا على صحة مذهب المنازع‏.‏
وثَمَّ طائفة كثيرة تقول‏:‏ إنه تقوم به الحوادث وتزول، وإنه كلم موسى بصوت وذلك الصوت عدم، وهذا مذهب أئمة السنة والحديث من السلف وغيرهم، وأظن الكرامية لهم في ذلك قولان، وإلا فالقول بفناء الصوت الذي كلم به موسى من جنس القول بقدمه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والحديث والفقه من السالمية وغيرهم، ومن الحنبلية والشافعية والمالكية، يقول‏:‏ إنه كلم موسى بصوت سمعه موسى، وذلك الصوت قديم، وهذا القول يعرف فساده ببديهة العقل، وكذلك قول من يقول‏:‏ كلمة بصوت حادث، وأن ذلك الصوت باق لا يزال هو وسائر ما يقوم به من الحوادث، هي أقوال يعرف فسادها بالبديهة‏.‏

 

ص -156-

وإنما أوقع هذه الطوائف في هذه الأقوال ذلك الأصل الذي تلقوه عن الجهمية، وهو أن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وهو باطل عقلاً وشرعًا، وهذا الأصل فاسد مخالف للعقل والشرع، وبه استطالت عليهم الفلاسفة الدهرية، فلا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل قد خالفوا السلف والأئمة، وخالفوا العقل والشرع، وسلطوا عليهم وعلى المسلمين عدوهم، من الفلاسفة والدهرية والملاحدة بسبب غلطهم في هذا الأصل الذي جعلوه أصل دينهم، ولو اعتصموا بما جاء به الرسول لوافقوا المنقول والمعقول، وثبت لهم الأصل، ولكن ضيعوا الأصول فحرموا الوصول، والأصول اتباع ما جاء به الرسول‏.‏
وأحدثوا أصولا ظنوا أنها أصول ثابتة، وكانت كما ضرب اللّه المثلين‏:‏ مثل البناء والشجرة، فقال في المؤمنين والمنافقين‏:‏ ‏
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏109‏]‏، وقال‏:‏‏{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏24-27‏]‏، والأصول مأخوذة

 

ص -157-

 من أصول الشجرة وأساس البناء؛ ولهذا يقال فيه‏:‏ الأصل ما ابتنى عليه غيره، أو ما تفرع عنه غيره‏.‏
فالأصول الثابتة هي أصول الأنبياء، كما قيل‏:‏
أيها المغتدى لتطلب علما
كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح حكما
ثم أغفلت أصل أصل الأصول
واللّه يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‏.‏
وهذه الأصول ينبني عليها ما في القلوب، ويتفرع عليها‏.‏ وقد ضرب اللّه مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين‏.‏ و‏[‏الكلمة]‏ هي قضية جازمة وعقيدة جامعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام، وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم قضية، فالكلمة الطيبة في قلوب المؤمنين  وهي العقيدة الإيمانية التوحيدية  كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فأصل أصول الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبات أصل الشجرة الطيبة وفرعها في السماء ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏ فاطر‏:‏10‏]‏ واللّّه- سبحانه - مَثَّل الكلمة الطيبة، أي‏:‏ كلمة التوحيد، بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء‏.‏
فبين بذلك أن الكلمة الطيبة لها أصل ثابت في قلب المؤمن، ولها فرع عال، وهي ثابتة في قلب ثابت، كما قال‏:‏ ‏{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏، فالمؤمن عنده يقين وطمأنينة، والإيمان في قلبه ثابت مستقر، وهو في نفسه ثابت على الإيمان مستقر لا يتحول عنه، والكلمة الخبيثة‏{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ‏}‏، استؤصلت واجتثت، كما يقطع الشيء يجتث من فوق الأرض

 

ص -158-



 

ص -159-


{مَا لَهَا مِن قَرَارٍ‏}‏‏:‏ لا مكان تستقر فيه ولا استقرار في المكان؛فإن القرار يراد به مكان الاستقرار، كما قال تعالى‏:‏‏{وَبِئْسَ الْقَرَارُ‏}‏ ‏[‏ ابراهيم‏:‏29‏]‏، وقال‏:‏‏{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا‏}‏ ‏[‏ غافر‏:‏64‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ فلان ما له قرار أي ثبات، وقد فسر القرار في الآية بهذا وهذا، فالمبطل ليس قوله ثابتًا في قلبه، ولا هو ثابت فيه ولا يستقر، كما قال تعالى في المثل الآخر‏:‏‏{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏ فإنه وإن اعتقده مدة فإنه عند الحقيقة يخونه، كالذي يشرك باللّه، فعند الحقيقة يضل عنه ما كان يدعو من دون اللّه‏.‏
وكذلك الأفعال الباطلة التي يعتقدها الإنسان عند الحقيقة تخونه ولا تنفعه، بل هي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فمن كان معه كلمة طيبة أصلها ثابت كان له فرع في السماء يوصله إلى اللّه، فإنه سبحانه
‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏ ومن لم يكن معه أصل ثابت فإنه يحرم الوصول؛ لأنه ضيع الأصول‏.‏ ولهذا تجد أهل البدع والشبهات لا يصلون إلى غاية محمودة، كما قال تعالى‏:‏{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏14‏]‏‏.‏
واللّه - سبحانه- بعث الرسل وأنزل الكتب، بأن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أمر به على ألسن رسله‏.‏
وأصل عبادته معرفته بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسله؛ ولهذا كان مذهب السلف أنهم يصفون اللّه بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون بعض ذلك ما قدروا اللّه حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، ولا وصفوه حق صفته، ولا عبدوه حق عبادته‏.‏
واللّه - سبحانه - قد ذكر هذه الكلمة ماقدروا اللّه حق قدره في ثلاثة مواضع؛ ليثبت عظمته في نفسه، وما يستحقه من الصفات، وليثبت وحدانيته وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وليثبت ما أنزله على

 

ص -160-

رسله، فقال في الزمر‏:‏ ‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏67‏]‏، وقال في الحج‏:‏‏{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73، 74‏]‏، وقال في الأنعام‏:‏ ‏{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏91‏]‏‏.‏
وفي المواضع الثلاثة ذم الذين ما قدروه حق قدره من الكفار، فدل ذلك على أنه يجب على المؤمن أن يقدر اللّه حق قدره، كما يجب عليه أن يتقيه حق تقاته، وأن يجاهد فيه حق جهاده، قال تعالى‏:‏
‏{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏78‏]‏، وقال‏:‏‏{اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏102‏]‏ والمصدر هنا مضاف إلى المفعول، والفاعل مراد أي حق جهاده الذي أمركم به، وحق قاته التي أمركم بها، واقدروه قدره الذي بينه لكم وأمركم به، فصدقوا الرسول فيما أخبر، وأطيعوه فيما أوجب وأمر‏.‏وأما ما يخرج عن طاقة البشر فذلك لا يذم أحد على تركه، قالت عائشة‏:‏ فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو‏.‏
ودلت الآية على أن له قدرًا عظيمًا، لا سيما قوله‏:
‏ ‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏67‏]‏ وفي تفسير ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال‏:‏ من آمن بأن اللّه على كل شيء قدير، فقد قدر اللّه حق قدره‏.

ص -161-

 وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، لما ذكر له بعض اليهود أن اللّه يحمل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر والثَّرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع؛ فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا لقول الحَبْرِ، وقرأ هذه الآية‏.‏
وعن ابن عباس قال‏:‏ مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أبا القاسم، ما تقول إذا وضع اللّه السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال والماء على ذه، وسائر الخلق على ذه‏؟‏ فأنزل اللّه تعالى‏:‏
‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الضحى عن ابن عباس، وقال‏:‏ غريب حسن صحيح‏.‏
وهذا يقتضى أن عظمته أعظم ما وصف ذلك الحبْر، فإن الذي في الآية أبلغ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏ ‏"‏يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين ملوك الأرض‏"‏‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏يطوي اللّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول‏:‏ أين الملوك‏؟‏أين الجبارون‏؟‏

 

ص -162-

أين المتكبرون‏؟‏‏"‏ ورواه مسلم أبسط من هذا، وذكر فيه أنه يأخذ الأرض بيده الأخرى‏.‏
وقد روى ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، ثنا عمرو بن رافع، ثنا يعقوب بن عبد اللّه، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ تكلمت اليهود في صفة الرب  تبارك وتعالى  فقالوا ما لم يعلموا ولم يروا، فأنزل اللّه على نبيه‏:‏
‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ فجعل صفته التي وصفوه بها شركا‏.‏
وقال‏:‏ حدثنا أبي، ثنا أبو نعيم، ثنا الحكم - يعني أبا معاذ- عن الحسن، قال‏:‏ عمدت اليهود فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فرغوا أخذوا يقدرونه، فأنزل اللّه تعالى على نبيه‏:‏
‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏، وهذا يدل على أنه أعظم مما وصفوه، وأنهم لم يقدروه حق قدره‏.‏
وقوله‏:‏
‏{عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ فكل من جعل مخلوقًا مثلا للخالق في شيء من الأشياء فأحبه مثل ما يحب الخالق، أو وصفه بمثل ما يوصف به الخالق فهو مشرك، سوى بين اللّه وبين المخلوق في شيء من الأشياء فعدل بربه، والرب تعالى لا كفؤ له، ولا سَمِيّ له، ولا مثل له، ومن

 

ص -163-

جعله مثل المعدوم والممتنع فهو شر من هؤلاء، فإنه معطل ممثل، والمعطل شر من المشرك‏.‏
واللّه ثني قصة فرعون في القرآن في غير موضع؛ لاحتياج الناس إلى الاعتبار بها، فإنه حصل له من الملك ودعوى الربوبية والإلهية والعلو ما لم يحصل مثله لأحد من المعطلين، وكانت عاقبته إلى ما ذكر اللّه تعالى، وليس للّه صفة يماثله فيها غيره، فلهذا لم يجز أن يستعمل في حقه قياس التمثيل، ولا قياس الشمول الذي تستوى أفراده، فإن ذلك شرك، إذ سوى فيه بالمخلوق، بل قياس الأولى، فإنه  سبحانه  ‏
{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏27‏]‏‏.‏فهو أحق من غيره بصفات الكمال، وأحق من غيره بالتنزيه عن صفات النقص‏.‏
وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، وبين أن من جعله الوجود المطلق والمقيد بالسلب أو ذاتًا مجردة، فهؤلاء مثلوه بأنقص المعقولات الذهنية، وجعلوه دون الموجودات الخارجية، والنفاة الذين قصدوا إثبات حدوث العالم بإثبات حدوث الجسم لم يثبتوا بذلك حدوث شيء، كما قد بين في موضعه‏.‏
ثم إنهم جعلوا عمدتهم في تنزيه الرب عن النقائص على نفي الجسم، ومن سلك هذا المسلك لم ينزه اللّه عن شىء من النقائص البتة، فإنه

 

ص -164-

ما من صفة ينفيها؛ لأنها تستلزم التجسيم وتكون من صفات الأجسام إلا يقال له‏:‏ فيما أثبته نظير ما يقوله هو في نفس تلك الصفة‏.‏
فإن كان مثبتًا لبعض الصفات قيل له‏:‏ القول في هذه الصفة التي تنفيها كالقول فيما أثبته، فإن كان هذا تجسيمًا وقولاً باطلاً فهذا كذلك، وإن قلت‏:‏ أنا أثبت هذا على الوجه الذي يليق بالرب، قيل له‏:‏ وكذلك هذا‏.‏ وإن قلت‏:‏ أنا أثبته وأنفى التجسيم، قيل‏:‏ وهذا كذلك، فليس لك أن تفرق بين المتماثلين‏.‏
وإن كان ممن يثبت الأسماء وينفي الصفات  كالمعتزلة  قيل له في الصفات ما يقوله هو في الأسماء، فإذا كان يثبت حيا عالمًا قادرًا، وهو لا يعرف من هو متصف بذلك إلا جسمًا كان إثبات أن له علمًا وقدرة، كما نطق به الكتاب والسنة كذلك‏.‏
وإن كان ممن لا يثبت لا الأسماء ولا الصفات كالجهمية المحضة والملاحدة، قيل له‏:‏ فلابد أن تثبت موجودًا قائمًا بنفسه، وأنت لا تعرف ذلك إلا جسمًا، وإن قال‏:‏ لا أسميه باسم لا إثبات ولا نفي، قيل له‏:‏ سكوتك لا ينفي الحقائق، ولا واسطة بين النفي والإثبات، فإما أن يكون حقًا ثابتًا موجودًا، وإما أن يكون باطلاً معدومًا‏.‏

 

ص -165-

‏وأيضًا، فإن كنت لم تعرفه فأنت جاهل فلا تتكلم، وإن عرفته فلابد أن تميز بينه وبين غيره بما يختص به، مثل أن تقول‏:‏ رب العالمين، أو القديم الأزلي، أو الموجود بنفسه ونحو ذلك، وحينئذ فقد أثبت حيًا موجودًا قائمًا بنفسه، وأثبته فاعلاً وأنت لا تعرف ما هو كذلك إلا الجسم‏.‏
وإن قدر أنه جاحد له قيل له‏:‏ فهذا الوجود مشهود، فإن كان قديمًا أزليًا موجودًا بنفسه فقد يثبت جسم قديم أزلي موجود بنفسه وهو ما فررت منه، وإن كان مخلوقًا مصنوعًا فله خالق خلقه، ولابد أن يكون قديمًا أزليًا، فقد ثبت الموجود القائم بنفسه القديم الأزلي على كل تقدير، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
وهنا قد نبهنا على ذلك، هو أنه كل من بني تنزيهه للرب عن النقائص والعيوب على نفي الجسم، فإنه لا يمكنه أن ينزهه عن عيب أصلاً بهذه الحجة، وكذلك من جعل عمدته نفي التركيب‏.‏
ومن تدبر ما ذكروه في كتبهم تبين له أنهم لم يقيموا حجة على وجوده، فلا هم أثبتوه وأثبتوا له ما يستحقه، ولا نزهوه ونفوا عنه ما لا يجوز عليه، إذ كان إثباته هو إثبات حدوث الجسم، ولم يقيموا على ذلك دليلاً، والنفي اعتمدوا فيه على ذلك، وهم متناقضون فيه لو

 

ص -166-

كانوا أقاموا دليلا على نفي كونه جسمًا، فكيف إذا لم يقيموا على ذلك دليلاً وتناقضوا‏؟‏‏!‏
وهذا مما يتبين لك أن من خرج عن الكتاب والسنة، فليس معه علم لا عقلي ولا سمعي، لاسيما في هذا المطلوب الأعظم، لكنهم قد يكونون معتقدين لعقائد صحيحة عرفوها بالفطرة العقلية، وبما سمعوه من القرآن ودين المسلمين، فقلوبهم تثبت ما تثبت وتنفي ما تنفي بناء على هذه الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة، لكنهم سلكوا هذه الطرق البدعية، وليس فيها علم أصلا، ولكن يستفاد من كلامهم إبطال بعضهم لقول المبطل الآخر، وبيان تناقضه‏.‏
ولهذا لما ذكروا المقالات الباطلة في الرب جعلوا يردونها بأن ذلك تجسيم، كما فعل القاضي أبو بكر في هداية المسترشدين وغيره، فلم يقيموا حجة على أولئك المبطلين، وردوا كثيرًا مما يقول اليهود بأنه تجسيم، وقد كان اليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكانوا أحيانًا يذكرون له بعض الصفات، كحديث الحبر، وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم‏:‏
‏{إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 181‏]‏ وأن يده مغلولة وغير ذلك، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط أنهم يجسمون، ولا أن في التوراة تجسيمًا ولا عابهم بذلك، ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله من النفاة‏.‏

 

ص -167-

فتبين أن هذه الطريقة مخالفة للشرع والعقل، وأنها مخالفة لما بعث اللّه به رسوله، ولما فطر عليه عباده، وأن أهلها من جنس الذين ‏{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏10‏]‏
وقد بينا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره الرازي من أن طريقة الوجوب والإمكان من أعظم الطرق، وبينا فسادها وأنها لا تفيد علمًا، وأنهم لم يقيموا دليلا على إثبات واجب الوجود، وأن طريقة الكمال أشرف منها وعليها اعتماد العقلاء قديمًا وحديثًا، وهو قد اعترف في آخر عمره بأنه قد تأمل الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما وجدها تشفى عليلا، ولا تروى ‏[‏في المطبوعة‏:‏ترى  والصواب ما أثبتناه‏]‏ غليلاً، ووجد أقرب الطرق طريقة القرآن‏.‏
وطريقة الوجوب والإمكان لم يسلكها أحد قبل ابن سينا، وهو أخذها من كلام المتكلمين الذين قسموا الوجود إلى محدث وقديم، فقسمه هو إلى واجب وممكن؛ ليمكنه القول بأن الفلك ممكن مع قدمه، وخالف بذلك عامة العقلاء من سلفه وغير سلفه، وخالف نفسه، فإنه قد ذكر في المنطق ما ذكره سلفه من أن الممكن لا يكون إلا محدثًا، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع‏.‏
ثم إن هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة انتهت بهم إلى قول فرعون؛ فإن

 

ص -168-

 فرعون جحد الخالق، وكذب موسى في أن اللّه كلمه، وهؤلاء ينتهي قولهم إلى جحد الخالق، وإن أثبتوه قالوا‏:‏ إنه لا يتكلم، ولا نادى أحدًا ولا ناجاه‏.‏
وعمدتهم في نفي ذاته على نفي الجسم، وفي نفي كلامه وتكليمه لموسى على أنه لاتحله الحوادث، فلا يبقى عندهم رب ولا مرسل‏.‏ فحقيقة قولهم يناقض شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه؛ فإن الرسول هو المبلغ لرسالة مرسله، والرسالة هي كلامه الذي بعثه به، فإذا لم يكن متكلمًا لم تكن رسالة‏.‏
ولهذا اتفق الأنبياء على أن اللّه يتكلم، ومن لم يقل‏:‏ إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته، لم يقل‏:‏ إنه يتكلم‏.‏ والنفاة منهم من يقول‏:‏ الكلام صفة فعل؛ بمعنى أنه مخلوق بائن عنه، ومنهم من يقول‏:‏ هو صفة ذات؛ بمعنى أنه كالحياة يقوم بذاته، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل طائفة مصيبة في إبطال باطل الأخرى‏.‏
والدليل يقوم على أنه صفة ذات وفعل تقوم بذات الرب، والرب يتكلم بمشيئته وقدرته، فأدلة من قال‏:‏ إنه صفة فعل كلها إنما تدل على أنه يتكلم بقدرته ومشيئته وهذا حق، وأدلة من قال‏:‏ إنه صفة ذات إنما تدل على أن كلامه يقوم بذاته وهذا حق، وأما من أثبت أحدهما

 

ص -169-

  كمن قال‏:‏ إن كلامه مخلوق، أو قال‏:‏ إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، فهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا أنه يتكلم، ولا أثبتوا له كلامًا؛ ولهذا يقولون ما لا يعقل‏.‏ هذا يقول‏:‏ إنه معنى واحد قام بالذات، وهذا يقول‏:‏ حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته، وهذا يقول‏:‏ مخلوق بائن عنه‏.‏
ولهذا لما ظهر لطائفة من أتباعهم ما في قولهم من الفساد، ولم يعرفوا عين هذه الأقوال الثلاثة  حاروا وتوقفوا، وقالوا‏:‏ نحن نقر بما عليه عموم المسلمين من أن القرآن كلام اللّه، وأما كونه مخلوقًا أو بحرف وصوت أو معنى قائم بالذات فلا نقول شيئًا من هذا‏.‏
ومعلوم أن الهدى في هذه الأصول ومعرفة الحق فيها هو معرفة ما جاء به الرسول، وهو الموافق لصريح المعقول، أنفع وأعظم من كثير مما يتكلمون فيه من العلم، لاسيما والقلوب تطلب معرفة الحق في هذه بالفطرة، ولما قد رأوا من اختلاف الناس فيها‏.‏
وهؤلاء يذكرون هذا الوقف في عقائدهم وفيما صنفوه في أصول الدين، كما قد رأيت منهم من أكابر شيوخ العلم والدين بمصر والشام قد صنفوا في أصول الدين ما صنفوه، ولما تكلموا في ‏[‏مسألة القرآن‏]‏ وهل هو مخلوق‏؟‏ أو قديم‏؟‏ أو هو الحروف والأصوات‏؟‏ أو معنى قائم بالذات‏؟‏ نهوا عن هذه الأقوال، وقالوا‏:‏الواجب أن يقال ما قاله

 

ص -170-

  المسلمون كلهم‏:‏ إن القرآن كلام اللّه، ويمسك عن هذه الأقوال‏.‏
وهؤلاء توقفوا عن حيرة وشك، ولهم رغبة في العلم والهدى والدين، وهم من أحرص الناس على معرفة الحق في ذلك وغيره، لكن لم يعلموا إلا هذه الأقوال الثلاثة‏.‏ قول المعتزلة، والكلابية، والسالمية  وكل طائفة تبين فساد قول الأخرى، وفي كل قول من الفساد ما يوجب الامتناع من قبوله، ولم يعلموا قولاً غير هذه فرضوا بالجهل البسيط، وكان أحب إليهم من الجهل المركب، وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا هؤلاء على أصل قولهم ودينهم، وهو الاستدلال على حدوث الأجسام وحدوث العالم بطريقة أهل الكلام المبتدع، كما سلكها من ذكرته من أجلاء شيوخ أهل العلم والدين، والاستدلال على إمكانها بكونها مركبة كما سلك الشيخ الآخر، وهذا ينفي عن الواجب أن يكون جسمًا بهذه الطريقة، وذلك نفي عنه أنه جسم بتلك الطريقة‏.‏ وحذاق النظار الذين كانوا أخبر بهذه الطرق وأعظم نظرًا واستدلالاً بها وبغيرها قد عرفوا فسادها، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
واللّّه  سبحانه  قد أخبر أنه
‏{أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏33، الفتح‏:‏28، الصف‏:‏9‏]‏ وأخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏.‏ والله  سبحانه  يجزي الإنسان بجنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه‏.‏ فإن كان قد قدح فيهم

 

ص -171-

 ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل، ابتلى في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به‏.‏
ومن قال عنهم‏:‏ إنهم تعمدوا الكذب، أظهر اللّه كذبه‏.‏ ومن قال‏:‏ إنهم جهال، أظهر اللّه جهله، ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى‏:‏ إنه ساحر كذاب، أخبر اللّه بذلك عنهم في قوله‏:‏
‏{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ‏.‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏23، 24‏]‏ وطلب فرعون إهلاكه بالقتل وصار يصفه بالعيوب، كقوله‏:‏‏{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏26‏]‏، وقال‏:‏‏{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏52‏]‏‏.‏
أهلك اللّه فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على اللّه وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع، فلم يبين حجة‏.‏ وفرعون هذه الأمة أبو جهل كان يسمى أبا الحكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أبا جهل، وهو كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو جهل، أهلك به نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة‏.‏
والذين قالوا عن الرسول‏:‏ إنه أبتر، وقصدوا أنه يموت فينقطع ذكره، عوقبوا بانبتارهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 3‏]‏ فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره اللّه حتى أهل البدع المخالفون لسنته‏.‏ قيل لأبي بكر بن عياش ‏[‏هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي، وثقه ابن معين وعبد اللّه بن أحمد بن حنبل وابن حبان، ولد سنة خمس أو ست وتسعين، وقيل‏:‏ إنه مات في سنة ثلاث وتسعين ومائة‏]‏‏:‏ إن بالمسجد قومًا يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة،

 

ص -172-

فقال‏:‏ من جلس للناس جلس الناس إليه، لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم‏.‏
وهؤلاء المشبهون لفرعون الجهمية نفاة الصفات، الذين وافقوا فرعون في جحده، وقالوا‏:‏ إنه ليس فوق السموات، وإن اللّه لم يكلم موسى تكليمًا، كما قال فرعون‏:‏
‏{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏36، 37‏]‏‏.‏
وكان فرعون جاحدًا للرب، فلولا أن موسى أخبره أن ربه فوق العالم لما قال‏:‏
‏{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏، قال تعالى‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38  42‏]‏‏.‏
ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى ربه، وفرض عليه الصلوات

 

ص -173-

 الخمس، ذكر أنه رجع إلى موسى، وأن موسى قال له‏:‏ ارجع إلى ربك فَسَلْهُ التخفيف إلى أمتك، كما تواتر هذا في أحاديث المعراج، فموسى صدق محمدًا في أن ربه فوق، وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق، فالمقرون بذلك متبعون لموسى ومحمد، والمكذبون بذلك موافقون لفرعون‏.‏
وهذه الحجة مما اعتمد عليها غير واحد من النظار، وهي مما اعتمد عليها أبو الحسن الأشعري في كتابه ‏[‏الإبانة‏]‏ وذكر عدة أدلة عقلية وسمعية، على أن اللّه فوق العالم وقال في أوله‏:‏
فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول الجهمية، والقدرية، والخوارج والروافض، والمعتزلة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون‏؟‏
قيل له‏:‏ قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها‏:‏ التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما جاء عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وبما كان يقول به أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قوله مجانبون، فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان اللّه به الحق، وأوضح به المناهج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمه اللّه من إمام مقدم

 

ص -174-

  وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين‏.‏ وذكر جملة الاعتقاد والكلام على علو اللّه على العرش، وعلى الرؤية ومسألة القرآن ونحو ذلك، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن المعطلة  نفاة الصفات أو نفاة بعضها  لا يعتمدون في ذلك على ما جاء به الرسول؛ إذ كان ما جاء به الرسول إنما يتضمن الإثبات لا النفي، لكن يعتمدون في ذلك على ما يظنونه أدلة عقلية، ويعارضون بذلك ما جاء به الرسول‏.‏
وحقيقة قولهم أن الرسول لم يذكر في ذلك ما يرجع إليه لا من سمع ولا عقل، فلم يخبر بذلك خبرًا بين به الحق على زعمهم، ولا ذكر أدلة عقلية تبين الصواب في ذلك على زعمهم، بخلاف غير هذا، فإنهم معترفون بأن الرسول ذكر في القرآن أدلة عقلية على ثبوت الرب، وعلى صدق الرسول‏.‏
وقد يقولون أيضًا‏:‏ إنه أخبر بالمعاد؛ لكن نفوا الصفات لما رأوا أن ما ذكروه من النفي لم يذكره الرسول، فلم يخبر به ولا ذكر دليلا عقليًا عليه، بل إنما ذكر الإثبات، وليس هو في نفس الأمر حقًا، فأحوج الناس إلى التأويل أو التفويض، فلما نسبوا ما جاء به الرسول إلى أنه ليس فيه لا دليل سمعي ولا عقلي، لا خبر يبين الحق

 

ص -175-

  ولا دليل يدل عليه، عاقبهم اللّه بجنس ذنوبهم، فكان ما يقولونه في هذا الباب خارجًا عن العقل والسمع، مع دعواهم أنه من العقليات البرهانية، فإذا اختبره العارف وجده من الشبهات الشيطانية، من جنس شبهات أهل السفسطة والإلحاد، الذين يقدحون في العقليات والسمعيات‏.‏
وأما السمع فخلافهم له ظاهر لكل أحد، وإنما يظن من يعظمهم ويتبعهم أنهم أحكموا العقليات، فإذا حقق الأمر وجدهم، كما قال أهل النار‏:‏ ‏
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏10‏]‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏39، 40‏]‏‏.‏
فلما كان حقيقة قولهم‏:‏ إن القرآن والحديث ليس فيه في هذا الباب دليل سمعي ولا عقلي  سلبهم اللّه في هذا الباب معرفة الأدلة السمعية والعقلية، حتى كانوا من أضل البرية مع دعواهم أنهم أعلم من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، بل قد يدعون أنهم أعلم من النبيين، وهذا ميراث من فرعون وحزبه اللعين‏.‏

 

ص -176-

وقد قيل‏:‏ إن أول من عرف أنه أظهر في الإسلام التعطيل  الذي تضمنه قول فرعون  هو الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري ‏[‏هو خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري، وثقه ابن حبان، وقد ولاه هشام بن عبد الملك على العراق عام ست ومائة ثم عزله سنة خمس وعشرين ومائة، وقتل سنة ست وعشرين ومائة‏]‏، وقال‏:‏ أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، إني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا‏.‏ ثم نزل فذبحه، وشكر له علماء المسلمين ما فعله، كالحسن البصري وغيره‏.‏
وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم اللّه ممن خالف الرسل، وانتصر لهم؛ ولهذا لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم، وهو حقيقة قول فرعون ‏[‏إنكار الصانع وإنكار عبادته‏]‏، وخيار ما كانوا يتظاهرون به الرفض، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد، حتى كان من كان ينزل الشام مثل بني حمدان الغالية ونحوهم متشيعين، وكذلك من كان من بني بويه في المشرق‏.‏
وكان ابن سينا وأهل بيته من أهل دعوتهم، قال‏:‏ وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة، وكان مبدأ ظهورهم من حين تولى المقتدر، ولم يكن بلغ بعد، وهو مبدأ انحلال الدولة العباسية، ولهذا سمي حينئذ بأمير المؤمنين الأموي الذي كان بالأندلس، وكان قبل ذلك لا يسمى

 

ص -177-

بهذا الاسم، ويقول‏:‏ لا يكون للمسلمين خليفتان، فلما ولى المقتدر قال‏:‏ هذا صبي لا تصح ولايته، فسمى بهذا الاسم‏.‏  وكان بنو عبيد اللّه القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلاً كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين‏.‏
فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شىء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة‏.

 

ص -178-

فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببًا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة‏.‏
فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم اللّه على الكفار؛ تحقيقًا لقوله‏:‏‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏10  13‏]‏‏.‏
وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار، قال تعالى‏:‏‏
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4  8‏]‏‏.‏

 

ص -179-

وكان بعض المشايخ يقول‏:‏ هولاكو  ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق، وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدًا، يقال‏:‏ قتل منهم ألف ألف، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ، كان بعض الشيوخ يقول‏:‏ هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل‏.‏
وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر، سماه ‏[‏السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم‏]‏، ويقال‏:‏ إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه، وكان من أعظم ملوك الأرض، وكان للرازي به اتصال قوي، حتى إنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتابًا سماه ‏[‏الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية‏]‏‏.‏
وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، كما قال جابر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا

 

ص -180-

الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول‏:‏ ‏"‏إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل‏:‏اللهم إني أستخبرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر  ويسميه باسمه  خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره، ثم بارك فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به‏"‏‏.‏ وأهل النجوم لهم اختيارات إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعًا سعيدًا، فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم‏.‏ وقد صنف الناس كتبًا في الرد عليهم، وذكروا كثرة ما يقع من خلاف مقصودهم فيما يخبرون به ويأمرون به، وكم يخبرون من خبر فيكون كذبًا، وكم يأمرون باختيار فيكون شرًا، والرازي صنف الاختيارات لهذا الملك، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك، كما ذكر في ‏[‏السر المكتوم‏]‏ في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها، والشرك بها ودعائها، مثلما يدعو الموحدون ربهم، بل أعظم، والتقرب إليها بما يظن أنه مناسب لها من الكفر والفسوق والعصيان، فذكر أنه يتقرب إلى الزهرة بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء، ونحو ذلك مما حرمه اللّه ورسوله‏.‏

 

ص -181-

وهذا في نفس الأمر يقرب إلى الشياطين، الذين يأمرونهم بذلك ويقولون لهم‏:‏ إن الكوكب نفسه يحب ذلك، وإلا فالكواكب مسخرات بأمر اللّه مطيعة للّه، لا تأمر بشرك ولا غيره من المعاصي، ولكن الشياطين هي التي تأمر بذلك ويسمونها روحانية الكواكب، وقد يجعلونها ملائكة وإنما هي شياطين، فلما ظهر بأرض المشرق بسبب مثل هذا الملك ونحوه، ومثل هذا العالم ونحوه ما ظهر من الإلحاد والبدع سلط اللّه عليهم الترك المشركين الكفار، فأبادوا هذا الملك، وجرت له أمور فيها عبرة لمن يعتبر، ويعلم تحقيق ما أخبر اللّه به في كتابه، حيث يقول‏:‏ ‏{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏53‏]‏ أي أن القرآن حق، وقال‏:‏‏{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل وغيره من الأسباب، التي أوجبت إدبارها، وفي آخر دولتهم ظهر الجهم بن صفوان بخراسان، وقد قيل‏:‏ إن أصله من ترمذ وأظهر قول المعطلة النفاة الجهمية، وقد قتل في بعض الحروب، وكان أئمة المسلمين بالمشرق أعلم بحقيقة قوله من علماء الحجاز والشام والعراق؛ ولهذا يوجد لعبد اللّه بن المبارك وغيره من علماء المسلمين بالمشرق من الكلام في الجهمية أكثر مما يوجد لغيرهم، مع أن عامة

 

ص -182-

  أئمة المسلمين تكلموا فيهم، ولكن لم يكونوا ظاهرين إلا بالمشرق، لكن قوى أمرهم لما مات الرشيد، وتولى ابنه الملقب بالمأمون بالمشرق، وتلقي عن هؤلاء ما تلقاه‏.‏
ثم لما ولى الخلافة اجتمع بكثير من هؤلاء، ودعا إلى قولهم في آخر عمره، وكتب إلى بغداد وهو بالثغر بطرسوس التي ببلدسيس  وكانت إذ ذاك أعظم ثغور بغداد، ومن أعظم ثغور المسلمين يقصدها أهل الدين من كل ناحية ويرابطون بها، رابط بها الإمام أحمد، رضي اللّه عنه، والسرى السقطى ‏[‏هو أبو الحسن السقطي البغدادي، ولد في حدود الستين ومائة، اشتهر بالصلاح والزهد والورع، وتوفى في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين‏]‏، وغيرهما، وتولي قضاءها أبو عبيد، وتولى قضاءها أيضًا صالح بن أحمد بن حنبل؛ ولهذا ذكرت في كتب الفقه كثيرًا فإنها كانت ثغرًا عظيمًا  فكتب من الثغر إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتابًا يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا‏:‏ القرآن مخلوق‏.‏ فلم يجبه أحد‏.‏ ثم كتب كتابًا ثانيًا يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه، فأجاب أكثرهم، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا، فأجاب منهم خمسة بعد القيد، وبقى اثنان لم يجيبا‏:‏ الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه، ثم أوصي إلى أخيه أبي إسحاق، وكان هذا سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقى أحمد في الحبس إلى سنة عشرين، فجرى ما جرى من المناظرة حتى قطعهم بالحجة، ثم لما خافوا الفتنة ضربوه وأطلقوه، وظهر مذهب

 

ص -183-

  النفاة الجهمية، وامتحنوا الناس فصار من أجابهم أعطوه وإلا منعوه العطاء وعزلوه من الولايات، ولم يقبلوا شهادته، وكانوا إذا افتكوا الأسرى يمتحنون الأسير، فإن أجابهم افتدوه وإلا لم يفتدوه‏.‏
وكتب قاضيهم أحمد بن أبي دؤاد ‏[‏هو أحمد بن أبي دؤاد القاضي الأباري، ولي القضاء للمعتصم والواثق، وكان موصوفًا بالجود وحسن الخلق، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وكان أحمد بن حنبل يطلق عليه الكفر، ولد سنة ستين ومائة، وتوفى سنة أربعين ومائتين من فالج أصابه‏]‏ على ستارة الكعبة ‏[‏ليس كمثلة شىء وهو العزيز الحكيم‏]‏، لم يكتب وهو ‏
{السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏.‏
ثم ولي الواثق واشتد الأمر إلى أن ولى المتوكل فرفع المحنة، وظهرت حينئذ السُّنَّة، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود أن أئمة المسلمين لما عرفوا حقيقة قول الجهمية بينوه، حتى قال عبد اللّه بن المبارك‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وكان ينشد‏:‏

 عجبت لشيطان دعا الناس جهرة

 إلى النار واشتق اسمه من جهنم

وقيل له‏:‏ بماذا يعرف ربنا‏؟‏ قال‏:‏ بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، قيل له‏:‏ بِحَدٍّ ‏؟‏ قال‏:‏ بحد‏.‏ وكذلك قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم من أئمة السنة‏.

ص -184-

 وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه، كما كان فرعون يفعل، فكان يجحد الخالق جل جلاله، ويقول‏:‏ ‏{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏، ويقول لموسى‏:‏ ‏{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏29‏]‏، ويقول‏:‏‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏ النازعات‏:‏24‏]‏، وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو يكون لموسى إله فوق السموات، ويريد أن يبطل عبادة اللّه وطاعته، ويكون هو المعبود المطاع‏.‏
فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يؤول إلى قول فرعون، كان منتهي قولهم إنكار رب العالمين، وإنكار عبادته، وإنكار كلامه حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد والعرفان، فصاروا يقولون‏:‏ العالم هو اللّه، والوجود واحد، والموجود القديم الأزلي الخالق هو الموجود المحدث المخلوق، والرب هو العبد، ما ثم رب وعبد وخالق ومخلوق بل هو عندهم فرقان‏.‏
ولهذا صاروا يعيبون على الأنبياء وينقصونهم؛ ويعيبون على نوح وعلى إبراهيم الخليل وغيرهما، ويمدحون فرعون، ويجوزون عبادة جميع المخلوقات، وجميع الأصنام، ولا يرضون بأن تعبد الأصنام حتى يقولوا‏:‏ إن عُبَّاد الأصنام لم يعبدوا إلا اللّه، وأن اللّه نفسه هو العابد وهو المعبود، وهو الوجود كله، فجحدوا الرب وأبطلوا دينه، وأمره ونهيه،

 

ص -185-

وما أرسل به رسله، وتكليمه لموسى وغيره‏.‏
وقد ضل في هذا جماعة لهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك، كابن سبعين، والصدر  القونوي تلميذ ابن عربي  والبلياني، والتلمساني، وهو من حذاقهم علمًا ومعرفة، وكان يظهر المذهب بالفعل، فيشرب الخمر ويأتي المحرمات‏.‏
وحدثني الثقة أنه قرأ عليه ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء اللّه العارفين، فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال‏:‏ فقلت له‏:‏ هذا الكلام يخالف القرآن، فقال‏:‏ القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول‏:‏ ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول‏.‏
وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه‏:‏ هذا أيضًا هو ذات اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ وهل ثم شيء خارج عنها‏؟‏ نعم ‏!‏ الجميع في ذاته‏!‏
وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدًا فينافقه فلم يثبت الخالق، وإن كان في الباطن مقرًا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض والظلم

 

ص -186-

دعاه إلى الجحود والإنكار، كما قال‏:‏‏{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏
وأما هؤلاء فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال يحسبون أنهم على حق، وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندًا مظهرًا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جُهَّال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر‏.‏
وحدثني الشيخ عبد السيد الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلامًا، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له‏:‏ الشرف البلاسي، يطلب منه المعرفة والعلم، قال‏:‏ فدعاني إلى هذا المذهب فقلت له‏:‏ قولكم يشبه قول فرعون، قال‏:‏ ونحن على قول فرعون‏!‏ فقلت لعبد السيد‏:‏ واعترف لك بهذا ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب، فقلت له‏:‏ هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون، فحدثني بهذا، فقلت له‏:‏ ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يُحتاج إلى بينة، قال عبد السيد‏:‏ فقلت له‏:‏ لا أدع موسىوأذهب

 

ص -187-

إلى فرعون، فقال‏:‏ ولم ‏؟‏ قلت‏:‏ لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد  وكان هذا قبل أن يسلم‏:‏ نفعتك اليهودية، يهودي خير من فرعوني‏.‏
وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه، وهم يحسبون أنه حق، وعامتهم  الذين يقرون ظاهرًا وباطنًا بأن محمدًا رسول اللّه، وأنه أفضل الخلق أفضل من جميع الأنبياء والأولياء  لا يفهمون حقيقة قولهم، بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء اللّه فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل ابن عبد اللّه، وأمثال هؤلاء‏.‏
وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك، ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه‏:‏ إن الأولياء أفضل من الأنبياء، وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة اللّه من مشكاة خاتم الأولياء، وإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء، فإنهم متجهمة متفلسفة، يخرجون أقوال المتفلسفة والجهمية في قالب الكشف‏.‏

 

ص -188-

وعند المتفلسفة‏:‏ أن جبريل إنما هو خيال في نفس النبي، ليس هو ملكًا يأتي من السماء، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال، وأما خاتم الأولياء في زعمهم فإنه يأخذ من العقل المجرد الذي يأخذ منه الخيال؛ فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول‏.‏
وهم يعظمون فرعون، ويقولون ما قاله صاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ قال‏:‏ ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي، لذلك قال‏:‏
‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏ أي وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم‏.‏ قال‏:‏ ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك‏.‏ وقالوا له‏:‏‏{فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏72‏]‏ قال‏:‏ فصح قول فرعون‏:‏ ‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ وإن كان فرعون عين الحق‏.‏
وحدثني الثقة  الذي كان منهم ثم رجع عنهم  أن أبغض الناس إليهم محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ وإذا نَهَق الحمار ونَبَح الكلب سجدوا له، وقالوا‏:‏ هذا هو اللّه، فإنه مظهر من المظاهر‏.‏ قال‏:‏ فقلت له‏:‏ محمد بن عبد اللّه أيضًا مظهر من المظاهر، فاجعلوه كسائر المظاهر، وأنتم تعظمون المظاهر كلها أو اسكتوا عنه، قال‏:‏ فقالوا لي‏:‏ محمد نبغضه؛ فإنه أظهر الفرق ودعا إليه، وعاقب من لم يقل به، قال‏:‏

 

ص -189-

فتناقضوا في مذهبهم الباطل، وجعلوا الكلب والحمار أفضل من أفضل الخلق، قال لي‏:‏ وهم يصرحون باللعنة له ولغيره من الأنبياء، ولا ريب أنهم من أعظم الناس عبادة للشيطان وكفرًا بالرحمن‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏إذا سمعتم صياح الديكة فَسَلُوا اللّه من فضله؛ فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار ونباح الكلب فتعوذوا باللّه من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانًا‏"‏، فهم إذا سمعوا نهيق الحمار ونباح الكلب تكون الشياطين قد حضرت، فيكون سجودهم للشياطين‏.‏
وكان فيهم شيخ جليل من أعظمهم تحقيقًا- لكن هذا لم يكن من هؤلاء الذين يسبون الأنبياء - وقد صنف كتابًا سماه ‏[‏فك الأزرار عن أعناق الأسرار‏]‏ ذكر فيه مخاطبة جرت له مع إبليس، وأنه قال له ما معناه‏:‏ إنكم قد غلبتموني وقهرتموني ونحو هذا، لكن جرت لي قصة تعجبت منها مع شيخ منكم، فإني تجليت له فقلت‏:‏ أنا اللّه لا إله إلا أنا، فسجد لي، فتعجبت كيف سجد لي‏.‏ قال هذا الشيخ‏:‏ فقلت له‏:‏ ذاك أفضلنا وأعلمنا وأنت لم تعرف قصده، ما رأى في الوجود اثنين وما رأى إلا واحدًا فسجد لذلك الواحد، لا يميز بين إبليس وغيره، فجعل هذا الشيخ - ذاك الذي سجد لإبليس - لا يميز

 

ص -190-

  بين الرب وغيره، بل جعل إبليس هو اللّه هو وغيره من الموجودات جعله أفضلهم وأعلمهم‏.‏
ولهذا عاب ابن عربي نوحًا أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وهو الذي جعل اللّه ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعظَّم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام، وأنهم ما عبدوا إلا اللّه، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه، وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم‏.‏
ومدح عُبَّاد العجل، وتنقص هارون، وافترى على موسى، فقال‏:‏ وكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن اللّه قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما قضى اللّه بشىء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فذكر عن موسى أنه عتب على هارون أنه أنكر عليهم عبادة العجل، وأنه لم يسع ذلك فأنكره؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء‏.‏

 

ص -191-

وهذا من أعظم الافتراء على موسى وهارون، وعلى اللّه، وعلى عُبَّاد العجل، فإن اللّه أخبر عن موسى أنه أنكر العجل إنكارًا أعظم من إنكار هارون، وأنه أخذ بلحية هارون لما لم يدعهم ويتبع موسى لمعرفته، قال تعالى‏:‏‏{وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83  94‏]‏‏.‏
قلت لبعض هؤلاء‏:‏ هذا الكلام الذي ذكره هذا عن موسى

 

ص -192-

وهارون يوافق القرآن أو يخالفه‏؟‏ فقال‏:‏ لا بل يخالفه، قلت‏:‏ فاختر لنفسك إما القرآن وإما كلام ابن عربي‏.‏
وكذلك قال عن نوح قال‏:‏ لو أن نوحًا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه؛ أي ذكر لهم فدعاهم جهارًا ثم دعاهم إسرارًا إلى أن قال‏:‏ ولما علموا أن الدعوة إلى اللّه مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية
‏{أَدْعُو إِلَى اللّهِ‏}‏ فهذا عين المكر ‏{عَلَى بَصِيرَةٍ‏}‏ ‏[‏ يوسف‏:‏108‏]‏، فنبه أن الأمر كله للّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم، فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى اللّه ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسمائه، فقال‏:‏‏{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏85‏]‏ فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين، فقالوا في مكرهم‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏23‏]‏ فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء؛ فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين‏:‏‏{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏ أي حكم، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير اللّه في كل معبود‏.‏

 

ص -193-

وهو دائمًا يحرف القرآن عن مواضعه، كما قال في هذه القصة‏:‏ ‏{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏25‏]‏ فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه وهي الحيرة، ‏{فَأُدْخِلُوا نَارًا‏}‏ في عين الماء في المحمديين ‏{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت‏}‏‏[‏ التكوير‏:‏6‏]‏ سجرت التنور‏:‏ أوقدته، ‏{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏25‏]‏ فكان اللّه عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد، وقوله‏:‏ ‏{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏ بمعنى‏:‏ أمر وأوجب وفرض‏.‏ وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏"‏ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏"‏، فجعل معناه‏:‏ أنه قدر وشاء ألا تعبدوا إلا إياه، وما قدره فهو كائن، فجعل معناها كل معبود هو اللّه، وإن أحدًا ما عبد غير اللّه قط، وهذا من أظهر الفرية على اللّه، وعلى كتابه، وعلى دينه، وعلى أهل الأرض‏.‏
فإن اللّه في غير موضع أخبر أن المشركين عبدوا غير اللّّه، بل يعبدون الشيطان، كما قال تعالى‏:‏‏
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏60 62‏]‏‏.‏ وقال تعالى عن يوسف أنه قال‏:‏‏{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏39، 40‏]‏، وقال تعالى‏:‏

 

ص -194-

‏{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏138 140‏]‏‏.‏
وقال تعالى عن الخليل‏:‏‏
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏42-50‏]‏‏.‏
فهو - سبحانه - يقول‏:‏
‏{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ وهؤلاء الملحدون يقولون‏:‏ ما عبدنا غير اللّه في كل معبود‏.‏ وقال تعالى‏:

 

ص -195-

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148-152‏]‏‏.‏
قال أبو قِلابة‏:‏ هي لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله اللّه‏.‏
والجهمية النفاة كلهم مفترون، كما قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ إنما يقودون قولهم إلى فرية على اللّه، وهؤلاء من أعظمهم افتراء على اللّه، فإن القائلين بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق هم أعظم افتراء ممن يقول‏:‏ إنه يحل فيه، وهؤلاء يجهلون من يقول بالحلول أو يقول بالاتحاد، وهو أن الخالق اتحد مع المخلوق، فإن هذا إنما يكون إذا كان شيئان متباينان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، كما يقوله النصارى من اتحاد اللاهوت مع الناسوت، وهذا إنما يقال في شىء معين‏.‏
وهؤلاء عندهم ما ثَمَّ وجود لغيره حتى يتحد مع وجوده، وهم من أعظم الناس تناقضًا، فإنهم يقولون‏:‏ ما ثم غير ولا سوى، وتقول السبعينية‏:‏ ليس إلا اللّه، بدل قول المسلمين‏:‏ لا إله إلا اللّه، ثم يقولون‏:‏

 

ص -196-

هؤلاء المحجوبون لا يرون هذا‏.‏ فإذا كان ما ثم غير ولا سوى فمن المحجوب ومن الحاجب‏؟‏ ومن الذي ليس بمحجوب، وعم حجب‏؟‏ فقد أثبتوا أربعة أشياء‏:‏ قوم محجوبون، وقوم ليسوا بمحجوبين، وأمرًا انكشف لهؤلاء، وحجب عن أولئك‏.‏
فأين هذا من قولهم‏:‏ ما ثم اثنان ولا وجودان‏؟‏ كما حدثني الثقة أنه قال للتلمساني‏:‏ فعلى قولكم‏:‏ لا فرق بين امرأة الرجل وأمه وابنته‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏:‏ حرام، فقلنا‏:‏ حرام عليكم، فقيل لهم‏:‏فمن المخاطب للمحجوبين أهو هم أم غيرهم‏؟‏ فإن كانوا هم فقد حرم على نفسه لما زعم أنه حرام عليهم دونه، وإن كانوا غيره فقد أثبت غيرين وعندهم ما ثم غير‏.‏
وهؤلاء اشتبه عليهم الواحد بالنوع بالواحد بالعين، فإنه يقال‏:‏ الوجود واحد، كما يقال‏:‏ الإنسانية واحدة، والحيوانية واحدة، أي يعني واحد كلي، وهذا الكلي لا يكون كليًا إلا في الذهن لا في الخارج، فظنوا هذا الكلى ثابتًا في الخارج، ثم ظنوه هو اللّه، وليس في الخارج كلي مع كونه كليًا، وإنما يكون كليًا في الذهن، وإذا قدر في الخارج كلى فهو جزء من المعينات وقائم بها، ليس هو متميزًا قائمًا بنفسه، فحيوانية الحيوان وإنسانية الإنسان سواء قدرت معينة أو مطلقة هي صفة له، ويمتنع أن تكون صفة الموصوف مبدعة له، ولو

 

ص -197-

قدر وجودها مجردًا عن العيان على رأي من أثبت ‏[‏المثل الأفلاطونية‏]‏ فتثبت الماهيات الكلية مجردة عن الموصوفات، ويدعى أنها قديمة أزلية، مثل إنسانية مجردة وحيوانية مجردة، وهذا خيال باطل‏.‏
وهذا الذي جعله مجردًا هو مجرد في الذهن وليس في الخارج كلي مجرد، وإذا قدر ثبوت كلي مجرد في الخارج  وهو مسمى الوجود  فهذا يتناول وجود المحدثات كلها، كما يتناول وجود القديم، وهذا لا يكون مبدعًا لشىء ولا اختصاص له بصفات الكمال، فلا يوصف بأنه حي عليم قدير؛ إذ ليس وصفه بذلك بأولى من وصفه بأنه عاجز جاهل ميت، والخالق لابد أن يكون حيًا عليمًا قديرًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
ثم لو قدر أن هذا هو الخالق فهذا غير الأعيان الموجودة المخلوقة، فقد ثبت وجودان أحدهما غير الآخر، وأحدهما محدث مخلوق، فيكون الآخر الخالق غير المخلوق، ولا يمكن جحد وجود الأعيان المعينة، ولكن الواحد من هؤلاء قد يغيب عن شهود المغيبات كما يغيب عن شهود نفسه، فيظن أن ما لم يشهده قد عدم في نفسه وفنى وليس كذلك، فإن ما عدم وفنى شهوده له وعلمه به ونظره إليه، فالمعدوم الفاني صفة هذا الشخص، وإلا فالموجودات في نفسها باقية على حالها لم تتغير، وعدم العلم ليس علمًا بالمعدوم، وعدم المشهود ليس شهودًا للعدم، ولكن هذه الحال يعترى كثيرًا من السالكين

 

ص -198-

يغيب أحدهم عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات، وقد يسمون هذا فناء واصطلامًا، وهذا فناء عن شهود تلك المخلوقات، لا أنها في نفسها فنيت، ومن قال‏:‏ فنى ما لم يكن وبقى مالم يزل، فالتحقيق - إذا كان صادقًا - أنه فني شهوده لما لم يكن، وبقى شهوده لما لم يزل‏.‏ لا أن ما لم يكن فني في نفسه، فإنه باق موجود، ولكن يتوهمون إذا لم يشهدوه أنه قد عدم في نفسه‏.‏
ومن هنا دخلت طائفة في الاتحاد والحلول، فأحدهم قد يذكر اللّه حتى يغلب على قلبه ذكر اللّه ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكور مشهود لقلبه إلا اللّه، ويفنى ذكره وشهوده لما سواه، فيتوهم أن الأشياء قد فنيت، وأن نفسه فنيت حتى يتوهم أنه هو اللّه، وأن الوجود هو اللّه‏.‏
ومن هذا الباب غلط أبي يزيد ونحوه حيث قال‏:‏ ما في الجبة إلا اللّه‏.‏
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أنه يعبر بالفناء عن ثلاثة أمور‏:‏
أحدها‏:‏ أنه يفنى بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه، وبمحبته وطاعته

 

ص -199-

وخشيته ورجائه والتوكل عليه عن محبة ما سواه وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه، وهذا هو حقيقة التوحيد الذي بعث اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فقد فنى من قلبه التأله لغير اللّه، وبقى في قلبه تأله اللّه وحده، وفنى من قلبه حب غير اللّه وخشية غير اللّه والتوكل على غير اللّه، وبقى في قلبه حب اللّه وخشية اللّه والتوكل على اللّه‏.‏
وهذا الفناء يجامع البقاء، فيتخلى القلب عن عبادة غير اللّه مع تحلي القلب بعبادة اللّه وحده، كما قال صلى الله عليه وسلم لرجل‏:
‏ ‏"‏قل‏:‏ أسلمت للّه وتخليت‏"‏ وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه بالنفي مع الإثبات؛ نفي إلهية غيره مع إثبات إلهيته وحده، فإنه ليس في الوجود إله إلا الله، ليس فيه معبود يستحق العبادة إلا اللّه؛ فيجب أن يكون هذا ثابتا في القلب؛ فلا يكون في القلب من يألهه القلب ويعبده إلا اللّه وحده، ويخرج من القلب كل تأله لغير اللّه، ويثبت فيه تأله اللّه وحده؛ إذ كان ليس ثم إله إلا اللّه وحده‏.‏
وهذه الولاية للّه مقرونة بالبراءة والعداوة لكل معبود سواه ولمن عبدهم، قال تعالى عن الخليل  عليه السلام‏:‏‏
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 28‏]‏،

 

ص -200-

 

وقال‏:‏ ‏{أ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏7577‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏‏.‏ قلت لبعض من خاطبته من شيوخ هؤلاء‏:‏ قول الخليل‏:‏ ‏{إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ ممن تبرأ الخليل‏؟‏ أتبرأ من اللّه تعالى وعندكم ما عبد غير اللّه قط‏؟‏ والخليل قد تبرأ من كل ما كانوا يعبدون إلا من رب العالمين، وقد جعله اللّه لنا وفيمن معه أسوة حسنة، لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر، قال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4  6‏]‏‏.‏
وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‏:‏

 

ص -201-

ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل"
وهذا تصديق قوله تعالى‏:‏ ‏{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏23‏]‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ قال طائفة من السلف‏:‏ كل عمل باطل إلاما أريد به وجهه، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}‏ ‏[‏القصص‏:‏87، 88‏]‏‏.‏
و ‏[‏الإله‏]‏ هو المألوه أي المستحق لأن يُؤْلَه أي يُعْبَد، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا اللّه وحده، وكل معبود سواه  من لدن عرشه إلى قرار أرضه  باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى المركوب والمحمول‏.‏ وكان الصحابة يرتجزون في حفر الخندق يقولون‏:‏

 هذا الحمال لا حمال خيبر

 هذا أبر ربنا وأطهر

وإذا قيل‏:‏ هذا هو الإمام فهو الذي يستحق أن يؤتم به، كما قال تعالى لإبراهيم‏:‏ ‏{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏124]

 

ص -202-

فعهده بالإمامة لا ينال الظالم، فالظالم لا يجوز أن يؤتم به في ظلمه، ولا يركن إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏113‏]‏ فمن ائتم بمن لا يصلح للإمامة فقد ظلم نفسه، فكيف بمن جعل مع اللّه إلهًا آخر، وعبد من لا يصلح للعبادة، واللّه تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏48، 116]‏‏.‏
وقد غلط طائفة من أهل الكلام فظنوا أن ‏[‏الإله‏]‏ بمعنى الفاعل، وجعلوا الإلهية هي القدرة والربوبية، فالإله هو القادر وهو الرب، وجعلوا العباد مألوهين كما أنهم مربوبون‏.‏
فالذين يقولون بوحدة الوجود متنازعون في أمور، لكن إمامهم ابن عربي يقول‏:‏ الأعيان ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها؛ فلهذا قال‏:‏ فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً‏.‏ فزعم أن المخلوقات جعلت الرب إلهًا لها حيث كانوا مألوهين‏.‏ ومعنى مألوهين  عنده  مربوبين، وكونهم مألوهين حيث كانت أعيانهم ثابتة في العدم‏.‏ وفي كلامهم من هذا وأمثاله مما فيه تنقص بالربوبية ما لا يحصى، فتعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
والتحقيق أن اللّه خالق كل شيء، والمعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن اللّه يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره

 

ص -203-

يخبر به فيكون سببًا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال‏:‏ ‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏ يس‏:‏ 28‏]‏‏.‏ واللّه  سبحانه  خالق الإنسان ومعلمه فهو الذي ‏{خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1، 2‏]‏ وهو ‏{الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3  5‏]‏، ولو قدر أن الإله بمعنى الرب فهو الذي جعل المربوب مربوبًا، فيكون على هذا هو الذي جعل المألوه مألوهًا، والمربوب لم يجعله ربًا، بل ربوبيته صفة، وهو الذي خلق المربوب وجعله مربوبًا؛وهو إذا آمن بالرب واعتقد ربوبيته وأخبر بها كان قد اتخذ اللّه ربا ولم يبغ ربا سوى اللّه ولم يتخذ ربًا سواه، كما قال تعالى‏:‏‏{الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق:‏ 3:5‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏14‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏80‏]‏‏.‏
وهو - أيضًا - في نفسه هو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وَحَّده من لم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره، قال تعالى‏:‏ ‏
{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏22‏]‏، وقال إبراهيم لأبيه آزر‏:‏‏{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏74‏]‏ فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه

 

ص -204-

إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره، كما أن الجاهل إذا اتخذ إمامًا ومفتيًا وقاضيًا كان ذلك باطلاً؛ فإنه لا يصلح أن يؤم ولا يفتى ولا يقضى، وغير اللّه لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو  سبحانه  لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا ينفع ذا الجَدِّ منه الجَدُّ‏.‏
ومن دعا من لا يسمع دعاءه، أو يسمع ولا يستجيب له، فدعاؤه باطل وضلال، وكل من سوى اللّه إما أنه لا يسمع دعاء الداعي، أو يسمع ولكن لا يستجيب له، فإن غير اللّه لا يستقل بفعل شيء البتة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏‏[‏سبأ‏:‏22، 23‏]‏ فغير اللّه لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا هو معاون للرب في شيء، بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة والأنبياء والصالحين ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلابد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا، كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا‏.‏ لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏.‏

 

ص -205-

فَصْل
وهؤلاء كان من أعظم أسباب ضلالهم مشاركتهم للفلاسفة وتلقيهم عنهم؛ فإن أولئك القوم من أبعد الناس عن الاستدلال بما جاء به الرسول، فإن الرسول بعث بالبينات والهدى، يبين الأدلة العقلية، ويخبر الناس بالغيب الذي لا يمكنهم معرفته بعقولهم‏.‏ وهؤلاء المتفلسفة يقولون‏:‏ إنه لم يفد الناس علمًا بخبره ولا بدلالته، وإنما خاطب خطابًا جمهوريًا ليصلح به العامة فيعتقدوا في الرب والمعاد اعتقادًا ينفعهم وإن كان كذبًا وباطلاً‏.‏
وحقيقة كلامهم أن الأنبياء تكذب فيما تخبر به، لكن كذبًا للمصلحة، فامتنع أن يطلبوا من خبرهم علمًا، وإذا لم تكن أخبارهم مطابقة للمخبر فكيف يثبتون أدلة عقلية على ثبوت ما أخبروا به‏؟‏‏!‏
والمتكلمون  الذين يقولون‏:‏ إنهم لا يخبرون إلا بصدق، ولكن يسلكون في العقليات غير طريقهم  مبتدعون، مع إقرارهم بأن القرآن اشتمل على الأدلة العقلية، فكيف بهؤلاء الملاحدة المفترين‏؟‏ ولهذا لا يعتنون بالقرآن، ولا بتفسيره، ولا بالحديث، وكلام السلف، وإن

 

ص -206-

  تعلموا من ذلك شيئًا فلأجل تعلق الجمهور به ليعيشوا بينهم بذكره، لا لاعتقادهم موجبه في الباطن، وهذا بخلاف طوائف المتكلمين فإنهم يعظمون القرآن في الجملة وتفسيره، مع ما فيهم من البدع‏.‏
ولهذا لما استولى التتار على بغداد وكان الطوسي مُنَجِّمًا لهولاكو، استولي على كتب الناس الوقف والملك، فكان كتب الإسلام مثل التفسير والحديث والفقه والرقائق يعدمها، وأخذ كتب الطب، والنجوم، والفلسفة، والعربية، فهذه عنده هي الكتب المعظمة، وكان بعض من أعرفه قارئًا خطيبًا، لكن كان يعظم هؤلاء ويرتاض رياضة فلسفية سحرية حتى يستخدم الجن، وكان بعض الشياطين ألقى إليه أن هؤلاء يستولون على دار الإسلام، فكان يقول لبعض أصحابنا‏:‏ يا فلان، عن قليل يرى هذا الجامع جامع دمشق يقرأ فيه المنطق والطبيعي والرياضي والإلهي، ثم يرضيه فيقول‏:‏ والعربية أيضًا، والعربية إنما احتاج المسلمون إليها لأجل خطاب الرسول بها، فإذا أعرض عن الأصل كان أهل العربية بمنزلة شعراء الجاهلية أصحاب المعلقات السبع ونحوهم من حطب النار‏.

 

ص -207-

فَصْل
أول التفرق والابتداع في الإسلام بعد مقتل عثمان وافتراق المسلمين، فلما اتفق علي ومعاوية على التحكيم أنكرت الخوارج وقالوا‏:‏ لا حكم إلا للّه، وفارقوا جماعة المسلمين، فأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نصفهم، والآخرون أغاروا على ماشية الناس واستحلوا دماءهم، فقتلوا ابن خباب، وقالوا‏:‏ كلنا قتله فقاتلهم على، وأصل مذهبهم تعظيم القرآن وطلب اتباعه، لكن خرجوا عن السنة والجماعة، فهم لا يرون اتباع السنة التي يظنون أنها تخالف القرآن كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك فضلوا؛ فإن الرسول أعلم بما أنزل اللّه عليه، واللّه قد أنزل عليه الكتاب والحكمة، وجوزوا على النبي أن يكون ظالما فلم ينفذوا لحكم النبي ولا لحكم الأئمة بعده بل قالوا‏:‏ إن عثمان وعليًا ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل اللّه ‏
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏ فكفروا المسلمين بهذا وبغيره، وتكفيرهم وتكفير سائر أهل البدع مبني على مقدمتين باطلتين‏:‏
إحداهما‏:‏ أن هذا يخالف القرآن‏.‏

 

ص -208-

 والثانية‏:‏ أن من خالف القرآن يكفر ولو كان مخطئًا أو مذنبًا معتقدًا للوجوب والتحريم‏.‏
وبإزائهم الشيعة، غلوا في الأئمة، وجعلوهم معصومين يعلمون كل شيء، وأوجبوا الرجوع إليهم في جميع ما جاءت به الرسل، فلا يعرجون لا على القرآن ولا على السنة، بل على قول من ظنوه معصومًا وانتهى الأمر إلى الائتمام بإمام معدوم لا حقيقة له، فكانوا أضل من الخوارج، فإن أولئك يرجعون إلى القرآن وهو حق وإن غلطوا فيه، وهؤلاء لا يرجعون إلى شىء بل إلى معدوم لا حقيقة له، ثم إنما يتمسكون بما ينقل لهم عن بعض الموتى، فيتمسكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم؛ ولهذا كانوا أكذب الطوائف، والخوارج صادقون، فحديثهم من أصح الحديث، وحديث الشيعة من أكذب الحديث‏.‏
ولكن الخوارج دينهم المعظم مفارقة جماعة المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم‏.‏ والشيعة تختار هذا لكنهم عاجزون، والزيدية تفعل هذا، والإمامية تارة تفعله وتارة يقولون‏:‏ لا نقتل إلا تحت راية إمام معصوم، والشيعة استتبعوا أعداء الملة من الملاحدة والباطنية وغيرهم؛ ولهذا أوصت الملاحدة  مثل القرامطة الذين كانوا في البحرين وهم من أكفر الخلق، ومثل قرامطة المغرب ومصر وهم كانوا يستترون بالتشيع  أوصوا بأن يدخل على المسلمين من باب التشيع، فإنهم

 

ص -209-

  يفتحون الباب لكل عدو للإسلام من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وهم من أبعد الناس عن القرآن والحديث، كما قد بسط هذا في مواضع‏.‏
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏إني تارك فيكم ثَقَلَيْن‏:‏ كتاب اللّه‏"‏ فحض على كتاب اللّه، ثم قال‏:‏ ‏"‏وعترتي أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي‏"‏ ثلاثَا‏.‏ فوصى المسلمين بهم، لم يجعلهم أئمة يرجع المسلمون إليهم، فانتحلت الخوارج كتاب اللّه، وانتحلت الشيعة أهل البيت، وكلاهما غير متبع لما انتحله؛ فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم ولهذا تأول سعد بن أبي وقاص فيهم هذه الآية ‏{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏26، 27‏]‏، وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله، من غير معرفة منهم بمعناه، ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن‏.‏
وأما مخالفة الشيعة لأهل البيت فكثيرة جدًا، قد بسطت في مواضع‏.‏

 

ص -210-

فَصْل
ثم حدث في آخر عصر الصحابة ‏[‏القدرية‏]‏، فكانت الخوارج تتكلم في حكم اللّه الشرعي، أمره ونهيه، وما يتبع ذلك من وعده ووعيده، وحكم من وافق ذلك ومن خالفه ومن يكون مؤمنًا وكافرًا، وهي ‏[‏مسائل الأسماء والأحكام‏]‏، وسموا مُحَكّمة لخوضهم في التحكيم بالباطل، وكان الرجل إذا قال‏:‏ لا حكم إلا للّه، قالوا‏:‏ هو محكم أي خائض في حكم اللّه، فخاض أولئك في شرع اللّه بالباطل، وأما ‏[‏القدرية‏]‏ فخاضوا في قدره بالباطل‏.‏
وأصل ضلالهم ظنهم أن القدر يناقض الشرع، فصاروا حزبين حزبًا يعظمون الشرع والأمر والنهي والوعد والوعيد، واتباع ما يحبه اللّه ويرضاه وهجر ما يبغضه وما يسخطه، وظنوا أن هذا لا يمكن أن يجمع بينه وبين القدر، فقطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، ونقضوا عهد اللّه من بعد ميثاقه، كما قطعت الخوارج ما أمر اللّه به أن يوصل من اتفاق الكتاب والسنة وأهل الجماعة، ففرقوا بين الكتاب والسنة، وفرقوا بين الكتاب وجماعة المسلمين، وفرقوا بين المسلمين، فقطعوا

 

ص -211-

ما أمر الله به أن يوصل، وكذلك ‏[‏القدرية‏]‏ فصاروا حزبين‏:‏
حزبًا يغلب الشرع فيكذب بالقدر وينفيه، أو ينفي بعضه‏.‏
وحزبًا يغلب القدر فينفي الشرع في الباطن أو ينفي حقيقته ويقول‏:‏ لا فرق بين ما أمر اللّه به وما نهى عنه في نفس الأمر، الجميع سواء، وكذلك أولياؤه وأعداؤه، وكذلك ما ذكر أنه يحبه وذكر أنه يبغضه، لكنه فرق بين المتماثلين بمحض المشيئة يأمر بهذا وينهي عن مثله، فجحدوا الفرق والفصل الذي بين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والمعصية، وبين الحلال والحرام، كما أن أولئك وإن أقروا بالفرق فأنكروا الجمع، وأنكروا أن يكون اللّه على كل شىء قدير، ومنهم من أنكر أن يكون اللّه بكل شىء عليمًا، وأنكروا أن يكون خالقًا لكل شىء، وأن يكون ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنكروا أن يكون اللّه فعالا لما يشاء، وأثبتوا لغير اللّه الانفراد بالأحداث وشركاء خلقوا كخلقه، كما فعلت المجوس، واعتقدوا أنه لا يمكن الإيمان بأمره ونهيه إلا مع تعجيزه أو تجهيله، وأنه لا يمكن أن يوصف بالإحسان والكرم إن لم يجعل عاجزًا وإلا لزم أن يكون بخيلاً‏.‏
كما أن ‏[‏القدرية المجبرة‏]‏ قالوا‏:‏ لا يمكن أن يجعل عالمًا قادرًا

 

ص -212-

إلا بتسفيهه وتجويره‏.‏
فهؤلاء نفوا حكمته وعدله، وأولئك نفوا قدرته ومشيئته أو قدرته ومشيئته وعلمه، وهؤلاء ضاهوا المجوس في الإشراك بربوبيته حيث جعلوا غيره خالقًا، وأولئك ضاهوا المشركين الذين لا يفرقون بين عبادته وعبادة غيره، بل يجوزون عبادة غيره كما يجوزون عبادته، ويقولون‏:
‏ ‏{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، وهؤلاء منتهى توحيدهم توحيد المشركين وهو توحيد الربوبية، فأما توحيد الإلهية المتضمن للأمر والنهي ولكون اللّه يحب ما أمر به ويبغض ما نهي عنه  فهم ينكرونه  ولهذا هم أكثر اتباعًا لأهوائهم، وأكثر شركًا وتجويزًا من المعتزلة، ومنتهى متكلميهم وعبادهم تجويز عبادة الأصنام، وأن العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرين، وأما عبادة الأصنام فباح بها متأخروهم كالرازي صنف فيها مصنفًا، وابن عربي وابن سبعين وأمثالهما يصرحون بجواز عبادتها، وبالإنكار على من أنكر ذلك، وهم متناقضون في ذلك‏.‏
فالقدرية أصلهم‏:‏ أنه لا يمكن إثبات قدرته وحكمته؛ إذ لو كان قادرًا لفعل غير ما فعل، فلما لم يفعله دل على أنه غير قادر، وقالوا‏:‏ تثبت حكمته كما يثبت حكمه؛ لأن نفي ذلك يوجب السفه والظلم وهو منزه عنه، بخلاف ما لم يقدر عليه فإنه معذور إذا لم يفعله،

 

ص -213-

  فلا يلام عليه‏.‏ وقالت المجبرة‏:‏ بل قدرته ثابتة بلا حكمة، ولا يجوز أن يفعل لحكمة؛ لأن ذلك إنما يكون لمن يحتاج إلى الفعل وهو منزه عن الحاجة، ولا عدل ولا ظلم، بل كل ما أمكن فعله فهو عدل، وليس في الأفعال ما هو حسن ينبغي الأمر به، وقبيح ينبغي النهي عنه، ولا معروف ومنكر، بل يجوز أن يأمر بكل شىء، وينهى عن كل شىء‏.‏
ثم من حقق منهم أنكر الشرع بالكلية وأنكر النبوات، مع أنه مضطر إلى أن يأمر بشىء وينهى عن شيء؛ فإن هذا لازم لجميع الخلق لا يجدون عنه محيصًا، لكن من اتبع الأنبياء يأمر بما ينفعه وينفع غيره وينهى عما يضره ويضر غيره، ومن خالف الأنبياء فلابد أن يأمر بما يضر وينهي عما ينفع فيستحق عذاب الدنيا والآخرة، وأما من كان منهم مقرًا بالنبوة فأنكر الشرع في الباطن، وقال‏:‏ العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة- صار منافقًا يظهر خلاف ما يبطن، ويقول الشرع لأجل المارستان؛ ولهذا يسمون ‏[‏باطنية‏]‏ كما سموا الملاحدة ‏[‏باطنية‏]‏، فإن كليهما يبطن خلاف ما يظهر، يبطنون تعطيل ما جاء به الرسول من الأمر والنهي‏.‏
فمنتهى الجهمية المجبرة إما مشركون ظاهرًا وباطنًا، وإما منافقون يبطنون الشرك؛ ولهذا يظنون باللّه ظن السوء، وأنه لا ينصر محمدًا

 

ص -214-

  وأتباعه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏6‏]‏ وهم يتعلقون بقوله‏:‏ ‏{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏32‏]‏، وبأنه‏{يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏40‏]‏، ولذلك لما ظهر المشركون التتار وأهل الكتاب كثر في عبادهم وعلمائهم من صار مع المشركين وأهل الكتاب، وارتد عن الإسلام إما باطنًا وظاهرًا، وإما باطنًا وقال‏:‏ إنه مع الحقيقة، ومع المشيئة الإلهية، وصاروا يحتجون لمن هو معظم للرسل عما لا يوافق على تكذيبه بأن ما يفعله من الشرك والخروج عن الشريعة وموالاة المشركين وأهل الكتاب والدخول في دينهم ومجاهدة المسلمين معهم هو بأمر الرسول، فتارة تأتيهم شياطينهم بما يخيلون لهم أنه مكتوب من نور، وأن الرسول أمر بقتال المسلمين مع الكفار، لكون المسلمين قد عصوا‏.‏
ولما ظهر أن مع المشركين وأهل الكتاب خفراء لهم من الرجال المسمين برجال الغيب، وأن لهم خوارق تقتضى أنهم أولياء اللّه  صار الناس من أهل العلم ثلاثة أحزاب‏:‏
حزب
يكذبون بوجود هؤلاء، ولكن عاينهم الناس، وثبت ذلك عمن عاينهم، أو حدثه الثقاة بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم أو تيقنوا وجودهم خضعوا لهم‏.‏

 

ص -215-

وحزب عرفوهم ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقًا إلى اللّه غير طريقة الأنبياء‏.‏
وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا أولياء اللّه خارجين عن دائرة الرسول، فقالوا‏:‏ يكون الرسول هو ممدًا للطائفتين لهؤلاء وهؤلاء، فهؤلاء معظمون للرسول، جاهلون بدينه وشرعه، والذين قبلهم يجوزون اتباع دينٍ غير دينه وطريق غير طريقه‏.‏
وكانت هذه الأقوال الثلاثة بدمشق لما فتحت عَكَّة، ثم تبين بعد ذلك أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، وأن الذين مع الكفار شياطين، وأن من وافقهم من الإنس فهو من جنسهم شيطان من شياطين الإنس أعداء الأنبياء، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏112‏]‏‏.‏
وكان سبب الضلال عدم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وأصله قول الجهمية الذين يسوون بين المخلوقات، فلا يفرقون بين المحبوب والمسخوط، ثم إنه بعد ذلك جرت أمور يطول وصفها‏.‏
ولما جاء قازان وقد أسلم دمشق انكشفت أمور أخرى، فظهر أن

 

ص -216-

 اليونسية كانوا قد ارتدوا وصاروا كفارًا مع الكفار‏.‏
وحضر عندي بعض شيوخهم واعترف بالردة عن الإسلام، وحدثني بفصول كثيرة، فقلت له  لما ذكر لي احتجاجهم بما جاءهم من أمر الرسول‏:‏ فهب أن المسلمين كأهل بغداد كانوا قد عصوا، وكان في بغداد بضعة عشر بغيّ، فالجيش الكفار المشركون الذين جاؤوا كانوا شرًا من هؤلاء، فإن هؤلاء كن يزنين اختيارًا، فأخذ أولئك المشركون عشرات الألوف من حرائر المسلمين وسراريهم بغير اختيارهم، وردوهم عن الإسلام إلى الكفر، وأظهروا الشرك وعبادة الأصنام، ودين النصارى، وتعظيم الصليب، حتى بقى المسلمون مقهورين مع المشركين وأهل الكتاب، مع تضاعيف ما كان يفعل من المعاصي، فهل يأمر محمد صلى الله عليه وسلم بهذا ويرضى بهذا‏؟‏ ‏!‏ فتبين له، وقال‏:‏ لا واللّه‏!‏ وأخبرني عن ردة من ارتد من الشيوخ عن الإسلام لما كانت شياطين المشركين تكرههم على الردة في الباطن، وتعذبهم إن لم يرتدوا، فقلت‏:‏ كان هذا لضعف إيمانهم وتوحيدهم والمادة التي يشهدونها من جهة الرسول، وإلا فالشياطين لا سلطان لهم على قلوب الموحدين، وهذا وأمثاله ما كانوا يعتقدون أنهم شياطين، بل إنهم رجال من رجال الغيب الإنس وكلهم اللّه بتصريف الأمر، فبينت لهم أن رجال الغيب هم الجن، كما قال تعالى‏:
‏{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏ الجن‏:‏ 6 ‏]‏

 

ص -217-

ومن ظن أنهم إنس فمن جهله وغلطه، فإن الإنس يؤنسون أي يشهدون ويرون، إنما يحتجب الإنسي أحيانًا لا يكون دائمًا محتجبًا عن أبصار الإنس، بخلاف الجن فإنهم كما قال اللّه‏:‏ ‏{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏27‏]‏‏.‏
وكان غير هذا من المشايخ من يذكر عن الشيخ محمد بن السكران أن هولاكو  ملك المشركين  لما دخل بغداد رأى ابن السكران شيخًا محلوق الرأس على صورة شيخ من مشايخ الدين والطريق، آخذًا بفرس هولاكو، قال‏:‏ فلما رأيته أنكرت هذا واستعظمت أن يكون شيخ من شيوخ المسلمين يقود فرس ملك المشركين لقتل المسلمين، فقلت‏:‏ يا هذا - أو كلمة نحو هذا- فقال‏:‏ تأمر بأمر، أو قال له‏:‏ هل يفعل هذا بأمر أو فعلت هذا بأمر‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم بأمر‏.‏ فسكت ابن السكران، وأقنعه هذا الجواب، وكان هذا لقلة علمه بالفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وظن أن ما يؤمر به الشيوخ في قلوبهم هو من اللّه، وأن من قال‏:‏ حدثني قلبي عن ربي، فإن اللّه هو يناجيه‏.‏ ومن قال‏:‏ أخذتم علمكم ميتًا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، هو كذلك، وهذا أضل ممن ادعى الاستغناء عن الأنبياء وأنه لا يحتاج إلى واسطتهم‏.‏
وجواب هذا أن يقال له‏:‏ بأمر من تأمر‏؟‏ فإن قال‏:‏ بأمر اللّه،

 

ص -218-

قيل‏:‏ بأمر اللّه الذي بعث به رسوله وأنزل به القرآن، أم بأمر وقع في قلبك‏؟‏
فإن قال بالأول، ظهر كذبه؛ فإنه ليس فيما يأمر اللّه به رسوله أن يأتي بالكفار المشركين وأهل الكتاب لقتل المسلمين وسبيهم وأخذ أموالهم لأجل ذنوب فعلوها، ويجعل الدار تعبد بها الأوثان، ويضرب فيها بالنواقيس، ويقتل قراء القرآن وأهل العلم بالشرع، ويعظم النجسية علماء المشركين وقساقسة النصارى وأمثال ذلك؛ فإن هؤلاء أعظم عداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم من جنس مشركي العرب الذين قاتلوه يوم أحد، وأولئك عصاة من عصاة أمته، وإن كان فيهم منافقون كثيرون، فالمنافقون يبطنون نفاقهم‏.‏
وإن قال‏:‏ بأمر وقع في قلبي لم يكذب، لكن يقال‏:‏ من أين لك أن هذا رحماني‏؟‏ ولم لا يكون الشيطان هو الذي أمرك بهذا ‏؟‏ وقد علمت أن ما يقع في قلوب المشركين وأهل الكتاب هو من الشيطان، فإن رجع إلى توحيد الربوبية وأن الجميع بمشيئته قيل له‏:‏ فحينئذ يكون ما يفعله الشيطان والمشركون وأهل الكتاب هو بالأمر، ولا ريب أنه بالأمر الكوني القدري، فجميع الخلق داخلون تحته، لكن من فعل بمجرد هذا الأمر لا بأمر الرسول فإنما يكون من جنس شياطين الإنس والجن، وهو مستوجب لعذاب اللّه في الدنيا والآخرة، وهو عابد لغير اللّه، متبع لهواه، وهو ممن قال اللّه فيه‏:‏‏
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏85‏]

 

ص -219-

وممن قال فيهم الشيطان‏:‏‏{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏82، 83‏]‏ قال اللّه‏:‏‏{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏42‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏99، 100‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏27، 28‏]‏‏.‏ فكيف تأمر بالشرك والكفر، وتسلط الكفار من المشركين وأهل الكتاب على المسلمين وقتل الكفار للمسلمين هذا لا يأمر اللّه به كما لا يأمر بالفحشاء‏؟‏‏!‏ فإن هذا من أفحش الفواحش إذا جعلت الفاحشة اسما لكل ما يعظم قبحه، فكانت جميع القبائح السيئة داخلة في الفحشاء‏.‏
وكان أيضًا بالشام بعض أكابر الشيوخ ببعلبك - الشيخ عثمان شيخ دير ناعس - يأتيه خفير الفرنج النصارى راكبًا أسدًا ويخلو به ويناجيه، ويقول‏:‏ يا شيخ عثمان، وكلت بحفظ خنازيرهم، فيعذره عثمان وأتباعه في ذلك، ويرون أن اللّه أمره بهذا كما أمر الخضر أن يفعل ما فعل، كما عذر ابن السكران وأمثاله خفراء المشركين التتار‏.‏
والجواب لهذا كالجواب لذلك، يقال له‏:‏ وكلك اللّه تعالى بهذا ‏؟

 

ص -220-

‏ الذي أنزل على لسان نبيه الدين أمر أن يوالي المسلمين وألا يتخذ اليهود والنصارى أولياء، بل أمرك أن تبغضهم وتجاهدهم بما استطعت، هو أمرك أن تتوكل بحفظ خنازيرهم‏؟‏‏!‏ فإن قال‏:‏ هذا ظهر كذبه، وإن قال‏:‏ بل هو أمر ألقى في قلبي لم يكذب، وقيل له‏:‏ فهذا من أمر الشيطان لا من أمر الرحمن الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله، ولكنه من الأمر الذي كونه وقدره كشرك المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏‏.‏
ومن هؤلاء من يظن الرجال الذين يؤيد بهم الكفار من المشركين وأهل الكتاب هم أولياء اللّه، ولا يجب عليهم اتباع الرسول، كالملائكة الموكلة ببني آدم المعقبات‏.‏
فقلت لشيخ كان من شيوخهم‏:‏ محمد أرسل إلى الثقلين الإنس والجن ولم يرسل إلى الملائكة، فكل إنسي أو جني خرج عن الإيمان به فهو عدو للّه لا ولى للّه، بخلاف الملائكة‏.‏
ثم يقال له‏:‏ الملائكة لا يعاونون الكفار على المعاصي ولا على قتال المسلمين، وإنما يعاونهم على ذلك الشياطين، ولكن الملائكة قد تكون موكلة بخلقهم ورزقهم وكتابة أعمالهم، فإن ذلك ليس بمعصية، فهذا الجواب بالفرق بينهم وبين الملائكة من هذين الوجهين‏.‏

 

ص -221-

وقد ظهر أنهم من جنس الشياطين لا من جنس الملائكة، وكان هذا الشيخ هو وأبوه من خفراء الكفار، وكان والده يقال له‏:‏ محمد الخالدي، نسبة إلى شيطان كان يقربه يقال له‏:‏ الشيخ خالد، وهم يقولون‏:‏ إنه من الإنس من رجال الغيب‏.‏
وحدثني الثقة عنه أنه كان يقول‏:‏ الأنبياء ضيعوا الطريق، ولعمري لقد ضيعوا طريق الشياطين؛ شياطين الإنس والجن‏.‏ وهؤلاء المشايخ، الذين يحبون المسلمين ولكن يوالون الشيوخ الذين يوالون المشركين الذين هم خفراء الكفار، ويظنون أنهم من أولياء اللّه، اشتركوا هم وهم في أصل ضلالة، وهو‏:‏ أنهم جعلوا الخوارق الشيطانية من جنس الكرامات الرحمانية، ولم يفرقوا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قال تعالى‏
:‏‏{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏36‏]‏ فهؤلاء وهؤلاء عشوا عن ذكر الرحمن الذي أنزله، وهو الكتاب والسنة، وعن الروح الذي أوحاه اللّه إلى نبيه الذي جعله اللّه نورًا يهدي به من يشاء من عباده، وبه يحصل الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولم يفرقوا بين آيات الأنبياء ومعجزاتهم وبين خوارق السحرة والكهان؛ إذ هذا ‏[‏مذهب الجهمية المجبرة‏]‏‏.‏
وهؤلاء كلهم يشتركون في هذا المذهب فلا يجعلون اللّه يحب ما أمر به ويبغض ما نهى عنه، بل يجعلون كل ما قدره وقضاه فإنه يحبه

 

ص -222-

ويرضاه، فبقى جميع الأمور عندهم سواه، وإنما يتميز بنوع من الخوارق؛ فمن كان له خارق جعلوه من أولياء اللّه، وخضعوا له إما اتباعًا له وإما موافقة له ومحبة، وإما أن يسلموا له حاله فلا يحبوه ولا يبغضوه؛ إذ كانت قلوبهم لم يبق فيها من الإيمان ما يعرفون به المعروف، وينكرون به المنكر في هذا الموضع‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
"‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏"‏من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خرْدَل‏"‏، وميت الأحياء الذين لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا‏.‏ وفي حديث حذيفة الذي في صحيح مسلم‏:‏‏"‏إن الفِتْنَةَ تُعْرض على القلوب كالحَصِير عودًا عودًا، فأيما قلب أنكرها نُكِتَتْ فيه نُكتَة بيضاء، وأيما قلب أُشْرِبَها نكتت فيه نكتة سوداء، حتى تبقى القلوب على قَلْبَيْنِ‏:‏ قلب أبيض مثل الصَّفَا لا يضره فتنة ما دامت السماء والأرض، وقلب أسود مُرْبادا ‏[‏في المطبوعة‏:‏ مرباد  وهو خطأ، ومعناها‏:‏ أن قلبه يتغير، فيكون لونه بين السّواد والغبرة‏]‏ لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه‏"‏‏.‏
فهؤلاء العباد الزهاد الذين عبدوا اللّه بآرائهم وذوقهم ووجدهم لا

 

ص -223-

  بالأمر والنهي منتهاهم اتباع أهوائهم ‏{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏50‏]‏، لاسيما إذا كانت حقيقتهم هي قول‏:‏‏"‏الجهمية المجبرة‏"‏، فرأوا أن جميع الكائنات اشتركت في المشيئة ولم يميزوا بعضها عن بعض بأن اللّّه يحب هذا ويرضاه وهذا يبغضه ويسخطه؛ فإن اللّه يحب المعروف ويبغض المنكر، فإذا لم يفرقوا بين هذا وهذا نكت في قلوبهم نكت سود فسوَّد قلوبهم، فيكون المعروف ما يهوونه ويحبونه ويجدونه ويذوقونه، ويكون المنكر ما يهوون بغضه وتنفر عنه قلوبهم، كالمشركين الذين كانوا ‏{عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏49  51‏]‏ ولهذا يوجد في هؤلاء وأتباعهم من ينفرون عن القرآن والشرع كما تنفر الحمر المستنفرة التي تفر من الرماة ومن الأسد، ولهذا يوصفون بأنهم إذا قيل لهم‏:‏ قال المصطفى، نفروا‏.‏
وكان الشيخ إبراهيم بن معضاد يقول  لمن رآه من هؤلاء كاليونسية والأحمدية‏:‏ يا خنازير يا أبناء الخنازير ما أرى للّه ورسوله عندكم رائحة ‏
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏52‏]‏ كل منهم يريد أن يحدثه قلبه عن ربه فيأخذ عن اللّه بلا واسطة الرسول ‏{وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏124‏]‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن قول ‏[‏القدرية الجهمية المجبرة‏]‏ أعظم مناقضة

 

ص -224-

  لما جاءت به الرسل من قول النفاة؛ ولهذا لم يكن هؤلاء مظهرين لهذا في زمن السلف، بل كلما ضعف نور النبوة أظهروا حقيقة قولهم، فإنه من جنس قول المشركين المكذبين للرسل، ومنتهاهم الشرك وتكذيب الرسل، وهذا جماع الكفر، كما أن التوحيد وتصديق الرسل جماع الإيمان؛ ولهذا صاروا مع أهل الكفر المحض من المشركين وأهل الكتاب، وبسط هذه الأمور له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن ‏[‏القدرية المجبرة‏]‏ من جنس المشركين، كما أن ‏[‏النافية‏]‏ من جنس المجوس، وأن المجبرة ما عندهم سوى القدرة والمشيئة في نفس الأمر، والنافية تنفي القدرة العامة والمشيئة التامة، وتزعم أنها تثبت الحكمة والعدل، وفي الحقيقة كلاهما ناف للحكمة والعدل والمشيئة والقدرة، كما قد بسط في مواضع‏.‏
وأولئك يتعلقون بقوله‏:‏
‏{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏23‏]‏ و{اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏40‏]‏، وهذا ذكره اللّه إثباتًا لقدرته لا نفيًا لحكمته وعدله، بل بين - سبحانه- أنه يفعل ما يشاء فلا أحد يمكنه أن يعارضه إذا شاء شيئًا بل هو قادر على فعل ما يشاء، بخلاف المخلوق الذي يشاء أشياء كثيرة ولا يمكنه أن يفعلها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏لا يقولن أحدكم‏:‏ اللّهم اغفر لي إن شئت، اللّهم ارحمني إن شئت؛ فإن اللّه لا مكره له، ولكن ليَعْزِم المسأله‏"‏،

 

ص -225-

 وذلك أنه إنما يقال‏:‏ افعل كذا إن شئت لمن قد يفعله مكرهًا فيفعل ما لا يريد لدفع ضرر الإكراه عنه واللّه تعالى لا مكره له، فلا يفعل إلا ما يشاء، فقوله تعالى‏:‏‏{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏18‏]‏ و ‏{يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏18‏]‏ ونحو ذلك هو لإثبات قدرته على ما يشاء، وهذا رد لقول القدرية النفاة الذين يقولون‏:‏ إنه لم يشأ كل ما كان، بل لا يشاء إلا الطاعة، ومع هذا فقد شاءها ولم يكن ممن عصاه، وليس هو قادرًا عندهم على أن يجعل العبد لا مطيعًا ولا عاصيًا‏.‏
فهذه الآيات التي تحتج بها المجبرة تدل على فساد مذهب النفاة، كما أن الآيات التي يحتج بها النفاة التي تدل على أنه حكم عادل، لا يظلم مثقال ذرة، وأنه لم يخلق الخلق عبثًا ونحو ذلك، تدل على فساد قول المجبرة، وليس في هذه الآيات ولا هذه ما يدل على صحة قول واحدة من الطائفتين، بل ما تحتج به كل طائفة يدل على فساد مذهب الأخرى، وكلا القولين باطل‏.‏ وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند وغيره وبعضه في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه خرج على أصحابه وهم يتمارون في القَدَر، هذا يقول‏:‏ ألم يقل اللّه كذا‏؟‏ وهذا يقول‏:‏ ألم يقل اللّه كذا‏؟‏ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال‏:‏
‏"‏أبهذا أمرتم‏؟‏ أم إلى هذا دعيتم أن تضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض‏؟‏‏"‏؛ ولهذا قال أحمد في بعض مناظرته- لمن صار يضرب الآيات

 

ص -226-

  بعضها ببعض‏:‏ إنا قد نهينا عن هذا‏.‏
فمن دفع نصوصًا يحتج بها غيره لم يؤمن بها، بل آمن بما يحتج، صار ممن يؤمن ببعض الكتاب ويَكْفُر ببعض‏.‏
وهذا حال أهل الأهواء، هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، وقد تركوا كلهم بعض النصوص وهو ما يجمع تلك الأقوال، فصاروا كما قال عن أهل الكتاب‏:‏‏
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏14‏]‏‏.‏
فإذا ترك الناس بعض ما أنزل اللّه وقعت بينهم العداوة والبغضاء، إذ لم يبق هنا حق جامع يشتركون فيه، بل
‏{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏53‏]‏، وهؤلاء كلهم ليس معهم من الحق إلا ما وافقوا فيه الرسول، وهو ما تمسكوا به من شرعه مما أخبر به وما أمر به، وأما ما ابتدعوه فكله ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وإيّاكُم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏"‏، وقد تكون تلك البدعة أعظم عندهم مما أخذوا به من الشرعة يجعلون تلك هي ‏[‏الأصول العقلية‏]‏ كالقدرية المجبرة والنفاة، فكلاهما يجعل ما أحدثوه من الكلام في الأصول - وهو الذي يسمونه العقليات - أعظم عندهم مما تلقوه من الشرع، فالمعتزلة يجعلون العقليات هي الخبريات والأمريات جميعًا كالواجبات الشرعية،

 

ص -227-

 لكن يقولون أيضًا‏:‏ إن الشرع أوجبها، ولكن لهم فيها تخليط ليس هذا موضعه‏.‏
وكذلك ما ابتدعوه في الخبريات كإثبات حدوث العالم بطريقة الأعراض واستلزامها للأجسام، وهم ينفون الصفات والقدر، ويسمون ذلك ‏[‏التوحيد‏]‏ و ‏[‏العدل‏]‏‏.‏
وجهْم بن صفوان وأتباعه هم أعظم نفيًا منهم؛ فإنهم ينفون الأسماء مع الصفات، وهم رؤوس المجبرة، والأشعرية وافقتهم في الجبر، لكن نازعوهم نزاعًا لفظيًا في إثبات الكسب والقدرة عليه، وهم يرون أن هذه الأصول العقلية  وهي العلم بما يجب للرب ويمتنع عليه وما يجوز عليه من الأفعال  هي أعظم العلوم وأشرفها، وأنهم برزوا بها على الصحابة، وأن النبي لم يعلمها الصحابة؛ إما لكونه وكلها إلى استنباط الأمة، وإما لكون الصحابة كانوا مشغولين عنها بالجهاد، وإما لكونه قال لهم في ذلك ما لم يبلغوه، ولم يشغلهم بالأدلة لاشتغالهم بالجهاد‏.‏
وهذه هي ‏[‏الأصول العقلية‏]‏ التي يعتمدون عليها هم ومن يوافقهم كالقاضي أبي يعلي وأبي المعالي وأبي الوليد الباجي، تبعًا للقاضي أبي بكر وأمثاله، وهو وأتباعه يناقضون عبد الجبار وأمثاله، كما ناقض الأشعري وأمثاله أبا علي وأبا القاسم‏.‏

 

ص -228-

وكل الأصول العقلية التي ابتدعها هؤلاء وهؤلاء باطلة في العقل والشرع، وإن كانت كل واحدة من الطائفتين تعتقد أنها من أعظم الدين ويقدمونها على الأصول الشرعية، فإنهم في ذلك بمنزلة ما يعظمه العباد والزهاد والفقراء والصوفية من الخوارق الشيطانية، ويفضلونها على العبادات الشرعية، والعبادات الشرعية هي التي معهم من الإسلام، وتلك كلها باطلة، وإن كانت أعظم عندهم من العبادات، حتى يقولوا‏:‏ نهاية الصوفي ابتداء الفقيه، ونهاية الفقيه ابتداء المولَه‏.‏ وكذلك صاحب ‏[‏منازل السائرين‏]‏ يذكر في كل باب ثلاث درجات، فالأولى  وهي أهونها عندهم  توافق الشرع في الظاهر، والثانية قد توافق الشرع وقد لا توافق، والثالثة‏:‏ في الأغلب تخالف، لا سيما في ‏[‏التوحيد‏]‏ و‏[‏الفناء‏]‏ و ‏[‏الرجاء‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ وهذا الذي ابتدعوه هو أعظم عندهم مما وافقوا فيه الرسل، وكثير من العباد يفضل نوافله على أداء الفرائض، وهذا كثير واللّه أعلم‏.‏
والحمد للّه وحده، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد للّه رب العالمين‏.

 

ص -229-

وسُئِلَ شَيخُ الإِسْلام  قَدسَ اللَّه روحه  عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا، وأن لذلك الباطن باطنًا إلى سبعة أبطن، ويروون في ذلك حديثًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏للقرآن باطن، وللباطن باطن إلى سبعة أبطن‏"‏، ويفسرون القرآن بغير المعروف عن الصحابة والتابعين والأئمة من الفقهاء، ويزعمون أن عليًا قال‏:‏ لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب كذا وكذا حمل جمل، ويقولون‏:‏ إنما هو من علمنا إذ هو اللّدُنِّي‏.‏
ويقولون كلامًا، معناه‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خص كل قوم بما يصلح لهم، فإنه أمر قومًا بالإمساك، وقومًا بالإنفاق، وقومًا بالكسب، وقومًا بترك الكسب‏.‏ ويقولون‏:‏ إن هذا ذكرته أشياخنا في ‏[‏العوارف‏]‏ وغيره من كتب المحققين، وربما ذكروا أن

 

ص -230-

  حذيفة كان يعلم أسماء المنافقين، خصه بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وبحديث أبي هريرة‏:‏‏"‏حفظت جِرَابين‏"‏‏.‏
ويروون كلامًا عن أبي سعيد الخراز أنه قال‏:‏ للعارفين خزائن أودعوها علومًا غريبة يتكلمون فيها بلسان الأبدية، يخبرون عنها بلسان الأزلية، ويقولون‏:‏ إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏
"‏إن من العلم كهيئة المخزون لا يعلمه إلا العلماء باللّه، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغِرَّة باللّه‏"‏ ‏[‏وقوله‏:‏ أهل الغِرَّة  أى أهل الغفلة‏]‏ ‏.‏ فهل ما ادعوه صحيحًا أم لا‏؟‏ فسيدي يبين لنا مقالاتهم؛ فإن المملوك وقف على كلام لبعض العلماء ذكر فيه أن الواحدي قال‏:‏ ألف أبو عبد الرحمن السلمي كتابًا سماه ‏[‏حقائق التفسير‏]‏ إن صح عنه فقد كفر، ووقفت على هذا الكتاب فوجدت كلام هذه الطائفة منه أو ما شابهه، فما رأى سيدي في ذلك‏؟‏ وهل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏للقرآن باطن‏]‏ الحديث يفسرونه على ما يرونه من أذواقهم ومواجيدهم المردودة شرعًا ‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجابَ الشيخ  رضي اللّه عنه‏:‏
الحمد للّه رب العالمين‏.‏ أما الحديث المذكور، فمن الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد

 

ص -231-

  من أهل العلم، ولا يوجد في شىء من كتب الحديث؛ ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفًا أو مرسلاً‏:‏ ‏"‏أن لكل آية ظهرًا وبطنًا وحدّا ومَطْلَعًا‏"‏ وقد شاع في كلام كثير من الناس‏:‏ ‏[‏علم الظاهر، وعلم الباطن‏]‏، و‏[‏أهل الظاهر، وأهل الباطن‏]‏‏.‏ ودخل في هذه العبارات حق وباطل‏.‏
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع؛ لكن نذكر هنا جملا من ذلك فنقول‏:‏
قول الرجل‏:‏ ‏[‏الباطن‏]‏، إما أن يريد علم الأمور الباطنة، مثل‏:‏ العلم بما في القلوب من المعارف والأحوال، والعلم بالغيوب التي أخبرت بها الرسل، وإما أن يريد به العلم الباطن، أي الذي يبطن عن فهم أكثر الناس، أو عن فهم من وقف مع الظاهر ونحو ذلك‏.‏
فأما الأول، فلا ريب أن العلم منه ما يتعلق بالظاهر، كأعمال الجوارح‏.‏ ومنه ما يتعلق بالباطن، كأعمال القلوب‏.‏ ومنه ما هو علم بالشهادة، وهو ما يشهده الناس بحواسهم‏.‏ ومنه ما يتعلق بالغيب، وهو ما غاب عن إحساسهم‏.‏
وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى‏:‏

 

ص -232-

  ‏{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏1 3‏]‏ والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان باللّه وأسمائه وصفاته، وملائكته والجنة، والنار‏.‏ فالإيمان باللّه وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب؛ فإن وصف الرسالة هو من الغيب، وتفصيل ذلك هو الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، كما ذكر اللّه تعالى ذلك في قوله‏:‏ ‏{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏136‏] والعلم بأحوال القلوب  كالعلم بالاعتقادات الصحيحة والفاسدة، والإرادات الصحيحة والفاسدة، والعلم بمعرفة اللّه ومحبته، والإخلاص له وخشيته، والتوكل عليه، والرجاء له، والحب فيه، والبغض فيه، والرضا بحكمه، والإنابة إليه، والعلم بما يُحْمَد ويُذَم من أخلاق النفوس، كالسخاء والحياء، والتواضع والكبر، والعجب والفخر، والخيلاء، وأمثال ذلك من العلوم المتعلقة بأمور باطنة في القلوب ونحوه  قد يقال له‏:‏ ‏[‏علم الباطن‏]‏ أي علم بالأمر الباطن، فالمعلوم هو الباطن‏.‏ وأما العلم الظاهر فهو ظاهر يتكلم به ويكتب، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وكلام السلف وأتباعهم، بل غالب آي القرآن هو من هذا

 

ص -233-

  العلم؛ فإن اللّه أنزل القرآن ‏{وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏57‏]‏‏.‏ بل هذا العلم هو العلم بأصول الدين، فإن اعتقاد القلب أصل لقول اللسان، وعمل القلب أصل لعمل الجوارح، والقلب هو مَلِكَ الْبَدَن، كما قال أبوهريرة  رضي اللّه عنه‏:‏ القلب مَلِك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏ألا وإن في الجسد مُضْغَة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏"‏‏.‏
ومن لم يكن له علم بما يصلح باطنه ويفسده، ولم يقصد صلاح قلبه بالإيمان ودفع النفاق- كان منافقًا إن أظهر الإسلام؛ فإن الإسلام يظهره المؤمن والمنافق وهو علانية، والإيمان في القلب، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏‏"‏الإسلام عَلانِية والإيمان في القلب‏"‏، وكلام الصحابة والتابعين والأحاديث والآثار في هذا أكثر منها في الإجارة والشفعة والحيض والطهارة بكثير كثير؛ ولكن هذا العلم ظاهر موجود مقول باللسان، مكتوب في الكتب؛ ولكن من كان بأمور القلب أعلم، كان أعلم به، وأعلم بمعاني القرآن والحديث‏.‏
وعامة الناس يجدون هذه الأمور في أنفسهم ذوقًا ووجْدًا، فتكون

 

ص -234-

  محسوسة لهم بالحس الباطن؛ لكن الناس في حقائق الإيمان متفاضلون تفاضلا عظيمًا، فأهل الطبقة العليا يعلمون حال أهل السفلى من غير عكس، كما أن أهل الجنة في الجنة ينزل الأعلى إلى الأسفل، ولا يصعد الأسفل إلى الأعلى، والعالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما؛ فلهذا كان في حقائق الإيمان الباطنة وحقائق أنباء الغيب التي أخبرت بها الرسل  ما لا يعرفه إلا خواص الناس، فيكون هذا العلم باطنًا من جهتين‏:‏ من جهة كون المعلوم باطنًا، ومن جهة كون العلم باطنًا لا يعرفه أكثر الناس‏.‏ ثم إن هذا الكلام في هذا العلم يدخل فيه من الحق والباطل ما لا يدخل في غيره، فما وافق الكتاب والسنة فهو حق، وما خالف ذلك فهو باطل كالكلام في الأمور الظاهرة‏.‏
فَصْل
وأما إذا أريد بالعلم الباطن العلم الذي يبطن عن أكثر الناس، أو عن بعضهم، فهذا على نوعين‏:‏ أحدهما‏:‏ باطن يخالف العلم الظاهر‏.‏ والثاني‏:‏ لا يخالفه‏.‏

 

ص -235-

فأما الأول فباطل؛ فمن ادعى علمًا باطنًا أو علمًا بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئًا؛ إما ملحدًا زنديقًا، وإما جاهلاً ضالاً‏.‏
وأما الثاني فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر، قد يكون حقًا، وقد يكون باطلا، فإن الباطن إذا لم يخالف الظاهر لم يعلم بطلانه من جهة مخالفته للظاهر المعلوم، فإن علم أنه حق قبل، وإن علم أنه باطل رد وإلا أمسك عنه‏.‏ وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم، ممن وافقهم من الفلاسفة وغلاة المتصوفة والمتكلمين‏.‏
وشَرُّ هؤلاء القرامطةُ؛ فإنهم يدعون أن للقرآن والإسلام باطنًا يخالف الظاهر؛ فيقولون‏:‏ الصلاة المأمور بها ليست هذه الصلاة، أو هذه الصلاة إنما يؤمر بها العامة، وأما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا‏.‏ والصيام‏:‏ كتمان أسرارنا‏.‏ والحج‏:‏ السفر إلى زيارة شيوخنا المقدسين‏.‏
ويقولون‏:‏ إن ‏[‏الجنة‏]‏ للخاصة‏:‏ هي التمتع في الدنيا باللذات، و‏[‏النار‏]‏ هي التزام الشرائع والدخول تحت أثقالها‏.‏ ويقولون‏:‏ إن ‏[‏الدابة‏]‏ التي يخرجها اللّه للناس هي العالم الناطق بالعلم في كل وقت، وإن ‏[‏إسرافيل‏]‏ الذي ينفخ في الصور هو العالم الذي ينفخ بعلمه في القلوب حتى تحيا، و ‏[‏جبريل‏]‏ هو العقل الفعال الذي تفيض عنه الموجودات، و‏[‏القلم‏]‏ هو العقل الأول

 

ص -236-

الذي تزعم الفلاسفة أنه المبدع الأول، وأن الكواكب والقمر والشمس التي رآها إبراهيم هي النفس والعقل وواجب الوجود، وأن الأنهار الأربعة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هي العناصر الأربعة، وأن الأنبياء التي رآها في السماء هي الكواكب‏.‏ فآدم هو القمر، ويوسف هو الزهرة، وإدريس هو الشمس، وأمثال هذه الأمور‏.‏
وقد دخل في كثير من أقوال هؤلاء كثير من المتكلمين والمتصوفين، لكن أولئك القرامطة ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، وعامة الصوفية والمتكلمين ليسوا رافضة يفسقون الصحابة ولا يكفرونهم، لكن فيهم من هو كالزيدية الذين يفضلون عليًا على أبي بكر، وفيهم من يفضل عليًا في العلم الباطن كطريقة الحربي وأمثاله، ويدعون أن عليًا كان أعلم بالباطن، وأن هذا العلم أفضل من جهته، وأبو بكر كان أعلم بالظاهر‏.‏ وهؤلاء عكس محققي الصوفية وأئمتهم، فإنهم متفقون على أن أعلم الخلق بالعلم الباطن هو أبو بكر الصديق‏.‏ وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أعلم الأمة بالباطن والظاهر، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد‏.‏
وهؤلاء الباطنية قد يفسرون‏:‏ ‏
{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏12‏]‏، أنه عليّ، ويفسرون قوله تعالى‏:‏ ‏{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏1‏]‏ بأنهما أبو بكر وعمر، وقوله‏:‏ ‏{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏12‏]‏ أنهم طلحة والزبير،

 

ص -237-

و ‏{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏60‏]‏ بأنها بنو أمية‏.‏
وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله تعالى‏:‏ ‏
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏17‏]‏‏:‏ إنه القلب، و‏{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏67‏]‏‏:‏إنها النفس، ويقول أولئك‏:‏ هي عائشة، ويفسرون هم والفلاسفة تكليم موسى بما يفيض عليه من العقل الفعال أو غيره، و يجعلون ‏[‏خلع النعلين‏]‏ ترك الدنيا والآخرة، ويفسرون ‏[‏الشجرة‏]‏ التي كلم منها موسى، و‏[‏الواد المقدس‏]‏ ونحو ذلك بأحوال تعرض للقلب عند حصول المعارف له، وممن سلك ذلك صاحب ‏[‏مشكاة الأنوار‏]‏ وأمثاله، وهي مما أعظم المسلمون إنكاره عليه، وقالوا‏:‏ أمرضه ‏[‏الشفاء‏]‏، وقالوا‏:‏ دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج فما قدر، ومن الناس من يطعن في هذه الكتب، ويقول‏:‏ إنها مكذوبة عليه، وآخرون يقولون‏:‏ بل رجع عنها، وهذا أقرب الأقوال؛ فإنه قد صرح بكفر الفلاسفة في مسائل، وتضليلهم في مسائل أكثر منها، وصرح بأن طريقتهم لا توصل إلى المطلوب‏.‏
وباطنية الفلاسفة يفسرون الملائكة والشياطين بقوى النفس، وما وعد الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها ويتألم بها‏.‏ وقد وقع في هذا الباب في كلام كثير من متأخري الصوفية، ما لم يوجد مثله عن أئمتهم ومتقدميهم، كما وقع في كلام كثير من متأخري أهل

 

ص -238-

الكلام والنظر من ذلك ما لا يوجد عن أئمتهم ومتقدميهم‏.‏
وهؤلاء المتأخرون  مع ضلالهم وجهلهم  يدعون أنهم أعلم وأعرف من سلف الأمة ومتقدميها، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا الوجود واحدًا، كما فعل ابن عربي صاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ وأمثاله؛ فإنهم دخلوا من هذا الباب حتى خرجوا من كل عقل ودين، وهم يدعون مع ذلك أن الشيوخ المتقدمين - كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد اللّه التستري، وإبراهيم الخواص، وغيرهم - ماتوا وما عرفوا التوحيد، وينكرون على الجنيد وأمثاله إذا ميزوا بين الرب والعبد كقوله‏:‏ ‏[‏التوحيد‏]‏ إفراد الحدوث عن القدم‏.‏ ولعمري إن توحيدهم الذي جعلوا فيه وجود المخلوق وجود الخالق هو من أعظم الإلحاد الذي أنكره المشايخ المهتدون، وهم عرفوا أنه باطل، فأنكروه وحذروا الناس منه، وأمروهم بالتمييز بين الرب والعبد، والخالق والمخلوق، والقديم والمحدث، وأن التوحيد أن يعلم مباينة الرب لمخلوقاته وامتيازه عنها، وأنه ليس في مخلوقاته شىء من ذاته ولا في ذاته شىء من مخلوقاته‏.‏
ثم إنهم يدعون أنهم أعلم باللّه من المرسلين، وأن الرسل إنما تستفيد معرفة اللّه من مشكاتهم، ويفسرون القرآن بما يوافق باطنهم الباطل، كقوله‏:
‏‏{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏25‏]‏ فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللّه، وقولهم‏:‏ إن العذاب مشتق من العذوبة، ويقولون‏:

 

ص -239-

إن كلام نوح في حق قومه ثناء عليهم بلسان الذم، ويفسرون قوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏6‏]‏ بعلم الظاهر، بل ‏{خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ‏}‏ فلا يعلمون غيره ‏{وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏7‏]‏ فلا يسمعون من غيره ولا يرون غيره، فإنه لا غير له فلا يرون غيره‏.‏ ويقولون في قوله‏:‏ ‏{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏، أن معناه‏:‏ قدر ذلك؛ لأنه ليس ثَمَّ موجود سواه، فلا يتصور أن يعبد غيره، فكل من عبد الأصنام والعجل ما عبد غيره؛ لأنه ما ثَم غير‏.‏ وأمثال هذه التأويلات والتفسيرات التي يعلم كل مؤمن وكل يهودي ونصراني علمًا ضروريًا أنها مخالفة لما جاءت به الرسل، كموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليهم أجمعين‏.‏
وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى المذكور باطلاً؛ لكونه مخالفًا لما علم، فهذا هو في نفسه باطل، فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضى أنه حق‏.‏
والثاني‏:‏ ما كان في نفسه حقًا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الذي يسمونه ‏[‏إشارات‏]‏، و‏[‏حقائق التفسير‏]‏ لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شىء كثير‏.‏

 

ص -240-

وأما النوع الأول، فيوجد كثيرًا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم؛ فإن من علم أن السابقين الأولين قد رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، علم أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك فهو باطل، ومن أقر بوجوب الصلوات الخمس على كل أحد  مادام عقله حاضرًا  علم أن من تأول نصًا على سقوط ذلك عن بعضهم فقد افترى، ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد- ما دام عقله حاضرًا- علم أن من تأول نصًا يقتضى تحليل ذلك لبعض الناس أنه مُفْتَرٍ‏.‏
وأما النوع الثاني، فهو الذي يشتبه كثيرًا على بعض الناس؛ فإن المعنى يكون صحيحًا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه، و هذان قسمان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يقال‏:‏ إن ذلك المعنى مراد باللفظ، فهذا افتراء على اللّه، فمن قال‏:‏ المراد بقوله‏:
‏‏{تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏67‏]‏ هي النفس، وبقوله‏:‏‏{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 17‏]‏ هو القلب، ‏{وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ أبو بكر ‏{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ‏}‏ عمر ‏{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏ عثمان ‏{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏ عليّ  فقد كذب على اللّه، إما متعمدًا وإما مخطئًا‏.‏
والقسم الثاني‏:‏ أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس،

 

ص -241-

لا من باب دلالة اللفظ، فهذا من نوع القياس؛ فالذي تسميه الفقهاء قياسًا هو الذى تسميه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك، فمن سمع قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏79‏]‏ وقال‏:‏ إنه اللوح المحفوظ أو المصحف، فقال‏:‏ كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة، وهي قلوب المتقين، كان هذا معنى صحيحًا واعتبارًا صحيحًا؛ ولهذا يروي هذا عن طائفة من السلف، قال تعالى‏:‏‏{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1، 2‏]‏ وقال‏:‏‏{بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 138‏]‏، وقال‏:‏‏{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏16‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏
وكذلك من قال‏:‏ ‏"‏لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كَلْبٌ ولا جُنُب‏"‏، فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان، إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد فقد أصاب، قال تعالى‏
:‏‏{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏146‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏
وكتاب ‏[‏حقائق التفسير‏]‏ لأبي عبد الرحمن السلمي يتضمن ثلاثة أنواع‏:‏

 

ص -242-

أحدها‏:‏ نقول ضعيفة عمن نقلت عنه، مثل أكثر ما نقله عن جعفر الصادق، فإن أكثره باطل عنه، وعامتها فيه من موقوف أبي عبد الرحمن، وقد تكلم أهل المعرفة في نفس رواية أبي عبد الرحمن، حتى كان البيهقي إذا حدث عنه يقول‏:‏ حدثنا من أصل سماعه‏.‏
والثاني‏:‏ أن يكون المنقول صحيحًا، لكن الناقل أخطأ فيما قال‏.‏
والثالث‏:‏ نقول‏:‏ صحيحة عن قائل مصيب، فكل معنى يخالف الكتاب والسنة فهو باطل، وحجته داحضة، وكل ما وافق الكتاب والسنة والمراد بالخطاب غيره إذا فسر به الخطاب فهو خطأ، وإن ذكر على سبيل الإشارة والاعتبار والقياس فقد يكون حقًا وقد يكون باطلاً‏.‏
وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على اللّه، ملحد في آيات اللّه، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام‏.‏
وأما ما يروي عن بعضهم من الكلام المجمل مثل قول بعضهم‏:‏لو

 

ص -243-

شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فهذا إذا صح عمن نقل عنه كعلي وغيره، لم يكن فيه دلالة على الباطن المخالف للظاهر، بل يكون هذا من الباطن الصحيح الموافق للظاهر الصحيح‏.‏
وقد تقدم أن الباطن إذا أريد به ما لا يخالف الظاهر المعلوم فقد يكون حقًا، وقد يكون باطلاً، ولكن ينبغي أن يعرف أنه قد كذب على عليّ وأهل بيته، لا سيما على جعفر الصادق ما لم يكذب على غيره من الصحابة، حتى إن الإسماعيلية والنصيرية يضيفون مذهبهم إليه وكذلك المعتزلة‏.‏
وكذلك فرقة التصوف يقولون‏:‏ إن الحسن البصري صحبه، وأنه دخل المسجد فرأي الحسن يقص مع القصاص، فقال‏:‏ ما صلاح الدِّين‏؟‏ قال‏:‏الوَرَع‏.‏ قال‏:‏ فما فساده‏؟‏ قال‏:‏ الطمع، فأقره وأخرج غيره‏.‏ وقد اتفق أهل المعرفة بالمنقولات أن الحسن لم يصحب عليًا، ولم يأخذ عنه شيئًا، و إنما أخذ عن أصحابه كالأحنف بن قيس، وقيس بن سعد بن عباد وأمثالهما، ولم يقص الحسن في زمن علي، بل ولا في زمن معاوية، وإنما قص بعد ذلك‏.‏ وقد كانوا في زمن علي يكذبون عليه حتى كان الناس يسألونه، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ أنه قيل له‏:‏ هل عندكم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاب تقرؤونه‏؟‏ فقال‏
:‏ لا والذي فَلَق الحَبَّةَ، وبَرَأ النَّسَمَة، إلا هذه الصحيفة‏.‏ وفيها أسنان الإبل، وفكاك الأسير، وألا يُقْتَل مُسِلمٌ بكافر‏.‏ وفي لفظ‏:‏ "هل عهد إليكم

 

ص -244-

رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئًا لم يعهده إلى الناس‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ وفي لفظ‏:‏ إلا فَهْمًا يؤتيه اللّه عبدًا في كتابه‏.‏
وأما العلم اللدني، فلا ريب أن اللّه يفتح على قلوب أوليائه المتقين، وعباده الصالحين  بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه، واتباعهم ما يحبه- ما لا يفتح به على غيرهم‏.‏ وهذا كما قال عليّ‏:‏ إلا فهما يؤتيه اللّه عبدًا في كتابه، وفي الأثر‏:‏ ‏"‏من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم‏"‏، وقد دل القرآن على ذلك في غير موضع، كقوله‏:‏
‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏66 68‏]‏‏.‏ فقد أخبر أنه من فعل ما يؤمر به يهديه اللّه صراطًا مستقيمًا، وقال تعالى‏:‏‏{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏} ‏[‏المائدة‏:‏16‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏17‏]‏، وقال‏:‏‏{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏20‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏203‏]‏‏.‏
وأخبر أن اتباع ما يكرهه يصرف عن العلم والهدى، كقوله‏:‏ ‏
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏109، 110‏]‏

 

ص -245-

أي‏:‏ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ونقلب أفئدتهم أي‏:‏ يتركون الإيمان، ونحن نقلب أفئدتهم لكونهم لم يؤمنوا أول مرة، أي‏:‏ ما يدريكم أنه لا يكون هذا وهذا حينئذ‏.‏
ومن فهم معنى الآية عرف خطأ من قال‏:‏ ‏[‏أن‏]‏ بمعنى لعل، واستشكل قراءة الفتح، بل يعلم حينئذ أنها أحسن من قراءة الكسر، وهذا باب واسع‏.‏ والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام، طرفان ووسط‏.‏
فقوم يزعمون‏:‏ أن مجرد الزهد وتصفية القلب ورياضة النفس، توجب حصول العلم بلا سبب آخر‏.‏
وقوم يقولون‏:‏ لا أثر لذلك، بل الموجب للعلم العلم بالأدلة الشرعية أو العقلية‏.‏
وأما الوسط‏:‏ فهو أن ذلك من أعظم الأسباب معاونة على نيل العلم، بل هو شرط في حصول كثير من العلم، وليس هو وحده كافيًا، بل لابد من أمر آخر إما العلم بالدليل فيما لا يعلم إلا به،

 

ص -246-

وإما التصور الصحيح لطرفي القضية في العلوم الضرورية‏.‏
وأما العلم النافع الذي تحصل به النجاة من النار، ويسعد به العباد، فلا يحصل إلا باتباع الكتب التي جاءت بها الرسل، قال تعالى‏:
‏ ‏{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن‏}‏ ‏[‏طه‏:‏123127‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وقال تعالى‏:‏‏{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏‏.‏ فمن ظن أن الهدى والإيمان يحصل بمجرد طريق العلم مع عدم العمل به، أو بمجرد العمل والزهد بدون العلم فقد ضل‏.‏
وأضل منهما من سلك في العلم والمعرفة طريق أهل الفلسفة والكلام، بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة، ولا العمل بموجب العلم، أو سلك في العمل والزهد طريق أهل الفلسفة والتصوف، بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة، ولا اعتبار العمل بالعلم، فأعرض هؤلاء عن العلم والشرع، وأعرض أولئك عن العمل والشرع، فَضَلَّ كل منهما من هذين الوجهين، وتباينوا تباينًا عظيمًا، حتى أشبه هؤلاء اليهود المغضوب عليهم، وأشبه هؤلاء النصارى الضالين، بل صار منهما من هو شر

 

ص -247-

من اليهود والنصارى، كالقرامطة والاتحادية وأمثالهم من الملاحدة الفلاسفة‏.
فَصْل
وأما قول القائل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم خص كل قوم بما يصلح لهم‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فهذا الكلام له وجهان‏:‏
إن أراد به أن الأعمال المشروعة يختلف الناس فيها بحسب اختلاف أحوالهم، فهذا لاريب فيه؛ فإنه ليس ما يؤمر به الفقير كما يؤمر به الغني، ولا ما يؤمر به المريض كما يؤمر به الصحيح، ولا ما يؤمر به عند المصائب هو ما يؤمر به عند النعم، ولا ما تؤمر به الحائض كما تؤمر به الطاهرة، ولا ما تؤمر به الأئمة كالذي تؤمر به الرعية، فأمر اللّه لعباده قد يتنوع بتنوع أحوالهم، كما قد يشتركون في أصل الإيمان باللّه وتوحيده، والإيمان بكتبه ورسله‏.‏
وإن أراد به أن الشريعة في نفسها تختلف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب زيدًا بخطاب يناقض ما خاطب به عَمْرًا، أو أظهر لهذا شيئًا يناقض ما أظهره لهذا  كما يرويه الكذابون‏:‏ أن عائشة سألته

 

ص -248-

هل رأيت ربك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏‏.‏ وسأله أبو بكر فقال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ وأنه أجاب عن مسألة واحدة بجوابين متناقضين لاختلاف حال السائلين  فهذا من كلام الكذابين المفترين، بل هو من كلام الملاحدة المنافقين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏"‏ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏"‏، والحديث في سنن أبي داود وغيره‏.‏وكان عام الفتح قد أهدر دم جماعة منهم ابن أبي سَرْح، فجاء به عثمان ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه مرتين أو ثلاثًا ثم بايعه، ثم قال‏:‏‏"‏أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيقتله‏؟‏‏"‏ فقال بعضهم‏:‏ هلا أومضت إلىَّ يارسول اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏"‏ وهذا مبالغة في استواء ظاهره وباطنه وسره وعلانيته، وأنه لا يبطن خلاف ما يظهر على عادة المكارين المنافقين‏.‏
ولا ريب أن القرامطة  وأمثالهم من الفلاسفة  يقولون‏:‏ إنه أظهر خلاف ما أبطن، وأنه خاطب العامة بأمور أراد بها خلاف ما أفهمهم لأجل مصلحتهم؛ إذ كان لا يمكنه صلاحهم إلا بهذا الطريق‏.‏ وقد زعم ذلك ابن سينا وأصحاب ‏"‏رسائل إخوان الصفا‏"‏ وأمثالهم من الفلاسفة والقرامطة الباطنية؛ فإن ابن سينا كان هو وأهل بيته من أتباع الحاكم القرمطي العبيدي، الذي كان بمصر‏.‏
وقول هؤلاء‏.‏ كما أنه من أكفر الأقوال، فجهلهم من أعظم الجهل؛

 

ص -249-

وذلك أنه إذا كان الأمر كذلك فلابد أن يعلمه أهل العقل والذكاء من الناس، وإذا علموه امتنع في العادة تواطؤهم على كتمانه كما يمتنع تواطؤهم على الكذب؛ فإنه كما يمتنع في العادة تواطؤ الجميع على الكذب يمتنع تواطؤهم على كتمان ما تتوفر الهِمَم والدواعي على بيانه وذِكْره، لا سيما مثل معرفة هذه الأمور العظيمة، التي معرفتها والتكلم بها من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي عليه‏.‏ ألا ترى أن الباطنية  ونحوهم  أبطنوا خلاف ما أظهروه للناس، وسعوا في ذلك بكل طريق، وتواطؤوا عليه ما شاء اللّه، حتى الْتبَسَ أمْرُهُم على كثير من أتباعهم، ثم إنهم مع ذلك اطَّلع على حقيقة أمرهم جميع أذكياء الناس من موافقيهم ومخالفيهم، وصنفوا الكتب في كشف أسرارهم ورفع أستارهم، ولم يكن لهم في الباطن حرمة عند من عرف باطنهم، ولا ثقة بما يخبرون به، ولا التزام طاعة لما يأمرون، وكذلك من فيه نوع من هذا الجنس‏.‏
فمن سلك هذه السبيل لم يبق لمن علم أمره ثقة بما يخبر به، وبما يأمر به، وحينئذ فينتقض عليه جميع ما خاطب به الناس، فإنه ما من خطاب يخاطبهم به إلا ويجوزون عليه أن يكون أراد به غير ما أظهره لهم، فلا يثقون بأخباره وأوامره، فيختل عليه الأمر كله فيكون مقصوده صلاحهم، فيعود ذلك بالفساد العظيم، بل كل من وافقه فلابد أن يظهر خلاف ما أبطن، كاتباع من سلك هذه السبيل من القرامطة

 

ص -250-

الباطنية وغيرهم، لا تجد أحدًا من موافقيهم إلا ولابد أن يبين أن ظاهره خلاف باطنه، ويحصل لهم بذلك من كشف الأسرار وهتك الأستار ما يصيرون به من شرار الكفار‏.‏
وإذا كانت الرسل تبطن خلاف ما تظهر، فإما أن يكون العلم بهذا الاختلاف ممكنًا لغيرهم وإما ألا يكون؛ فإن لم يكن ممكنًا كان مُدَّعِي ذلك كذابًا مفتريًا، فبطل قول هؤلاء الملاحدة الفلاسفة والقرامطة وأمثالهم، وإن كان العلم بذلك ممكنًا علم بعض الناس مخالفة الباطن للظاهر، وليس لمن يعلم ذلك حَدٌّ محدود؛ بل إذا علمه هذا، علمه هذا، وعلمه هذا، فيشيع هذا ويظهر؛ ولهذا كان من اعتقد هذا في الأنبياء  كهؤلاء الباطنية من الفلاسفة والقرامطة ونحوهم  معرضين عن حقيقة خبره وأمره، لا يعتقدون باطن ما أخبر به، ولا ما أمر، بل يظهر عليه من مخالفة أمره والإعراض عن خبره ما يظهر لكل أحد، ولا تجد في أهل الإيمان من يحسن بهم الظن، بل يظهر فسقهم ونفاقهم لعوام المؤمنين، فضلاً عن خواصهم‏.‏
وأيضًا، فمن كانت هذه حاله كان خواصه أعلم الناس بباطنه، والعلم بذلك يوجب الانحلال في الباطن‏.‏ ومن علم حال خاصة النبي صلى الله عليه وسلم  كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين الأولين  علم أنهم كانوا أعظم الناس تصديقًا لباطن أمر خبره وظاهره، وطاعتهم

 

ص -251-

له في سرهم وعلانيتهم، ولم يكن أحد منهم يعتقد في خبره وأمره ما يناقض ظاهر ما بينه لهم ودلهم عليه، وأرشدهم إليه؛ ولهذا لم يكن في الصحابة من تأول شيئًا من نصوصه على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به اللّه عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت، وأن ما ظهر من هذا ما ظهر إلا ممن هو عند الأمة من أهل النفاق والاتحاد، كالقرامطة والفلاسفة والجهمية نفاة حقائق الأسماء والصفات‏.‏
ومن تمام هذا أن تعلم‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص أحدًا من أصحابه بخطاب في علم الدين قصد كتمانه عن غيره، ولكن كان قد يسأل الرجل عن المسألة التي لا يمكن جوابها، فيجيبه بما ينفعه؛ كالأعرابي الذي سأله عن الساعة، والساعة لا يعلم متى هى‏.‏ فقال‏:‏ ‏"
‏ما أعددتَ لها‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ ما أعددتُ لها من كثير عَمَلٍ، ولكني أحب اللّه ورسوله، فقال‏:‏‏"‏المرء مع من أحب‏"‏، فأجابه بالمقصود من علمه بالساعة، ولم يكن يخاطب أصحابه بخطاب لا يفهمونه، بل كان بعضهم أكمل فهما لكلامه من بعض، كما في الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏"‏إن عبدًا خَيَّرَهُ اللّه بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبدُ ما عند اللّه‏"‏‏.‏ فبكى أبو بكر وقال‏:‏ بل نفديك بأنفسنا وأموالنا يا رسول اللّه، فجعل الناس يعجبون

 

ص -252-

أن ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره اللّه بين الدنيا والآخرة قال‏:‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبدًا مطلقًا لم يعينه، ولا في لفظه ما يدل عليه، لكن أبو بكر  لكمال معرفته بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم  علم أنه هو ذلك العبد، فلم يخص عنهم بباطن يخالف الظاهر، بل يوافقه ولا يخالف مفهوم لفظه ومعناه‏.‏
وأما ما يرويه بعض الكذابين عن عمر أنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما‏.‏ فهذا من أظهر الأكاذيب المختلفة لم يروه أحد من علماء المسلمين في شىء من كتب أهل العلم، وهو من أظْهِر الكذب؛ فإن عمر أفضل الأمة بعد أبي بكر، وهو المحدث الملهم الذي ضرب اللّه الحق على لسانه وقلبه، وهو أفضل المخاطبين المحدثين من هذه الأمة، فإذا كان هو حاضرًا يسمع الألفاظ ولم يفهم الكلام كالزنجي، فهل يتصور أن يكون غيره أفهم منه لذلك‏؟‏ فكيف من لم يسمع ألفاظ الرسول‏؟‏ بل يزعم أن ما يدعيه من المعاني هي تلك المعاني بمجرد الدعوى التي لو كانت مجردة لم تقبل، فكيف إذا قامت البينة على كذب مدعيها‏؟‏
وأما حديث حذيفة، فقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن حذيفة كان

 

ص -253-

يعلم السر الذي لا يعلمه غيره‏.‏
وكان ذلك ما أسره إليه النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك من أعيان المنافقين؛ فإنه روى أن جماعة من المنافقين أرادوا أن يحلوا حزام ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالليل ليسقط عن بعيره فيموت، وأنه أوحى إليه بذلك، وكان حذيفة قريبًا منه فأسر إليه أسماءهم‏.‏
ويقال‏:‏ إن عمر لم يكن يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة، وهذا ليس فيه شيء من حقائق الدين، ولا من الباطن الذي يخالف الظاهر؛ فإن اللّه قد ذكر في كتابه من صفات المنافقين وأخبارهم ما ذكره، حتى إن سورة ‏[‏براءة‏]‏ سميت الفاضحة؛ لكونها فضحت المنافقين، وسميت المبعثرة، وغير ذلك من الأسماء، لكن القرآن لم يذكر فلانًا وفلانًا، فإذا عرف بعض الناس أن فلانًا وفلانًا من هؤلاء المنافقين الموصوفين كان ذلك بمنزلة تعريفه أن فلانًا وفلانًا من المؤمنين الموعودين بالجنة، فإخباره صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر وعمر وغيرهما في الجنة، كإخباره أن أولئك منافقون، وهذا إذا كان من العلم الباطن، فهو من الباطن الموافق للظاهر المحقق له المطابق له‏.‏
ونظيره في ‏[‏الأمر‏]‏ ما يسمى‏:‏ ‏[‏تحقيق المناط‏]‏، وهو أن يكون الشارع قد علق الحكم بوصف، فنعلم ثبوته في حق المعين، كأمره باستشهاد ذوي عدل، ولم يعين فلانًا وفلانًا، فإذا علمنا أن هذا ذو

 

ص -254-

عدل، كنا قد علمنا أن هذا المعين موصوف بالعدل المذكور في القرآن‏.‏ وكذلك لما حرم اللّه الخمر والميسر، فإذا علمنا أن هذا الشراب المصنوع من الذرة والعسل خمرًا، علمنا أنه داخل في هذا النص، فَعِلْمُنَا بأعيان المؤمنين وأعيان المنافقين هو من هذا الباب، وهذا هو من تأويل القرآن‏.‏
وهذا على الإطلاق لا يعلمه إلا اللّه؛ فإن اللّه يعلم كل مؤمن وكل منافق، ومقادير إيمانهم ونفاقهم وما يُختم لهم‏.‏
وأما الرسول فقد قال تعالى‏:‏ ‏
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏101‏]‏ فاللّه يُطْلِعُ رسوله ومن شاء من عباده على ما يشاء من ذلك‏.‏
وأما حديث أبي هريرة، فهو حديث صحيح، قال‏:‏ حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جرابين، فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم‏.‏ ولكن ليس في هذا من الباطن الذي يخالف الظاهر شيء، بل ولا فيه من حقائق الدين، وإنما كان في ذلك الجراب الخبر عما سيكون من الملاحم والفتن، فالملاحم الحروب التي بين المسلمين والكفار، والفتن ما يكون بين المسلمين؛

 

ص -255-

ولهذا قال عبد اللّه بن عمر‏:‏ لو أخبركم أبوهريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتفعلون كذا وكذا لقلتم‏:‏ كذب أبو هريرة‏.‏ وإظهار مثل هذا مما تكرهه الملوك؛ وأعوانهم؛ لما فيه من الإخبار بتغير دولهم‏.‏
ومما يبين هذا‏:‏ أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر، فليس هو من السابقين الأولين، ولا من أهل بيعة الرضوان، وغيره من الصحابة أعلم بحقائق الدين منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه وغيره بالحديث فيسمعونه كلهم، ولكن كان أبو هريرة أحفظهم للحديث ببركة حصلت له من جهة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم ذات يوم حديثًا فقال‏:‏‏"‏أيكم يبسط ثوبه فلا ينسى شيئًا سمعه‏"‏ ففعل ذلك أبو هريرة‏.‏ وقد روى‏:‏ أنه كان يجَزِّئ الليل ثلاثة أجزاء‏:‏ثلثًا يصلي، وثلثًا ينام، وثلثًا يدرس الحديث‏.‏ ولم ينقل أحد قط عن أبي هريرة حديثًا يوافق الباطنية، ولا حديثًا يخالف الظاهر المعلوم من الدين‏.‏
ومن المعلوم أنه لو كان عنده شيء من هذا لم يكن بد أن ينقل عنه أحد شيئًا منه، بل النقول المتواترة عنه كلها تصدق ما ظهر من الدين، وقد روى من أحاديث صفات اللّه وصفات اليوم الآخر وتحقيق العبادات ما يوافق أصول أهل الإيمان، ويخالف قول أهل البهتان‏.

 

ص -256-

وأما ما يروى عن أبي سعيد الخراز وأمثاله في هذا الباب، وما يذكره أبو طالب في كتابه وغيره، وكلام بعض المشايخ الذي يظن أنه يقول بباطن يخالف الظاهر، وما يوجد من ذلك في كلام أبي حامد الغزالي أو غيره  فالجواب عن هذا كله أن يقال‏:‏
ما علم من جهة الرسول فهو نقل مصدق عن قائل معصوم، وما عارض ذلك فإما أن يكون نقلاً عن غير مصدق، أو قولا لغير معصوم‏.‏ فإن كثيرًا مما ينقل عن هؤلاء كذب عليهم، والصدق من ذلك فيه ما أصابوا فيه تارة وأخطؤوا فيه أخرى، وأكثر عباراتهم الثابتة ألفاظ مجملة متشابهة، لو كانت من ألفاظ المعصوم لم تعارض الحكم المعلوم، فكيف إذا كانت من قول غير المعصوم‏؟‏
وقد جمع أبو الفضل الفلكي ‏[‏هو علي بن الحسين الهمذاني، عرف بالفلكي، جمع الحديث وصنف كتبًا منها‏:‏ المنتهى في معرفة الرجال  في ألف جزء، وكان صوفيًا، توفى بنيسابور سنة سبع وعشرين وأربعمائة‏]‏ كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه ‏[‏النور من كلام طيفور‏]‏ فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد  رحمة اللّه عليه  وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن قيل له عن أبي يزيد أو غيره من المشائخ‏:‏ إنه قال لمريديه‏:

 

ص -257-

إن تركتم أحدًا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم برىء، فعارضه الآخر وقال‏:‏ قلت لمريدي‏:‏ إن تركتم أحدًا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم بريء، فصدق هذا النقل عنه، ثم جعل هذا المصدق لهذا عن أبي يزيد أو غيره يستحسنه ويستعظم حاله، فقد دل على عظيم جهله أو نفاقه؛ فإنه إن كان قد علم ما أخبر به الرسول من دخول من يدخل النار من أهل الكبائر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يشفع فيهم بعد أن تطلب الشفاعة من الرسل الكبار؛ كنوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، فيمتنعون ويعتذرون ، ثم صدق أن مريدي أبي يزيد أو غيره يمنعون أحدًا من الأمة من دخول النار، أو يخرجون هم كل من دخلها  كان ذلك كفرًا منه بما أخبر به الصادق المصدوق بحكاية منقولة، كذب ناقلها، أو أخطأ قائلها، إن لم يكن تعمد الكذب، وإن كان لا يعلم ما أخبر به الرسول كان من أجهل الناس بأصول الإيمان‏.‏
فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علمًا يقينيًا، وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك مثل من كان سائرًا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها، فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها ولا يعرف منتهاها، وهذا مثال من عدل

 

ص -258-

عن الكتاب والسنة إلى كلام من لايدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك‏.‏
وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك، فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة، فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنًا من كان‏.‏ فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور ما لا يحصيه إلا العليم بذات الصدور‏.‏
وأما الحديث المأثور‏:‏‏"‏إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم باللّه، فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغِرَّة باللّه‏"‏، فهذا قد رواه أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام في كتابه الذي سماه ‏[‏الفاروق بين المثبتة والمعطلة‏]‏، وذكر فيه أحاديث الصفات صحيحها وغريبها، ومسندها ومرسلها، وموقوفها‏.‏ وذكره أيضًا أبو حامد الغزالي في كتبه‏.‏ ثم هذا يفسره بما يناسب أقواله التي يميل فيها إلى ما يشبه أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم‏.‏
وذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أنه كان يقول‏:‏

 

ص -259-

لمراد بذلك أحاديث الصفات، فكان يفسر ذلك بما يناقض قول أبي حامد من أقوال أهل الإثبات‏.‏ والحديث ليس إسناده ثابتًا باتفاق أهل المعرفة، ولم يرو في أمهات كتب الحديث المعتمدة، فلا يحتاج إلى الكلام في تفسيره، وإذا قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كلام مجمل ليس فيه تعيين لقول معين، فحينئذ فما من مدع يدعى أن المراد قوله، إلا كان لخصمه أن يقول نظير ذلك‏.‏
ولا ريب أن قول يحيى بن عمار وأبي إسماعيل الأنصاري ونحوهما من أهل الإثبات‏.‏ أقرب من قول النفاة‏:‏ إن هذا العلم هو من علم النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق وعلم الصحابة‏.‏
ومن المعلوم أن قول النفاة لا ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، بخلاف مذهب المثبتة؛ فإن القرآن والحديث والآثار عن الصحابة مملوءة به، فكيف يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على علم لم ينقله عنه أحد، ويترك حمله على العلم المنقول عنه وعن أصحابه‏؟‏‏!‏
وكذلك ما ذكره البخاري عن على  رضي اللّه عنه  أنه قال‏:‏حَدِّثُوا الناس بما يعرفون، ودَعُوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَِّب اللَّهُ ورسولُه‏.‏ قد حمله أبو الوليد ابن رشد الحفيد الفيلسوف وأمثاله على علوم الباطنية

 

ص -260-

الفلاسفة نفاة الصفات‏.‏ وهذا تحريف ظاهر، فإن قول علي‏:‏ أتحبون أن يكذب اللّه ورسوله، دليل على أن ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال النفاة من الفلاسفة والجهمية والقرامطة والمعتزلة لم ينقل فيها مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا لا صحيحًا ولا ضعيفًا، فكيف يكذب اللّه ورسوله في شىء لم ينقله أحد عن اللّه ورسوله‏؟‏ بخلاف ما رواه أهل الإثبات من أحاديث صفات الرب وملائكته، وجنته وناره، فإن هذا كثير مشهور قد لا تحتمله عقول بعض الناس، فإذا حدث به خيف أن يكذب اللّه ورسوله‏.‏
ومن هذا الباب قول عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ما من رجل يُحدِّث قومًا حديثِا لا تَبْلُغُه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم‏.‏ وابن مسعود فيما يقول  ذاكرًا أو آمرًا  من أعظم الناس إثباتًا للصفات، وأرواهم لأحاديثها، وأصحابه من أجَلِّ التابعين وأبلغهم في هذا الباب، وكذلك أصحاب ابن عباس، فكل من كان من الصحابة أعلم، كان إثباته وإثبات أصحابه أبلغ، فعلم أن الصحابة لم يكونوا يبطنون خلاف ما يظهرون، ولا يظهرون الإثبات ويبطنون النفي، ولا يظهرون الأمر ويبطنون امتناعه؛ بل هم أقوم الناس بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر‏.‏
وهذا باب واسع دخل فيه من الأمور ما لا يتسع هذا الموضع

 

ص -261-

لتفصيله، ولكن نعلم جماع الأمر أن كل قول وعمل فلابد له من ظاهر وباطن، فظاهر القول لفظ اللسان، وباطنه ما يقوم من حقائقه ومعانيه بالجنان، وظاهر العمل حركات الأبدان، وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان‏.‏
فالمنافق لما أتى بظاهر الإسلام دون حقائق الإيمان، لم ينفعه ذلك، وكان من أهل الخسران، بل كان في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى‏:
‏‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏8، 9‏]‏ الآيات فإن اللّه أنزل في أول سورة البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏1‏]‏ السورة، وقال تعالى‏:‏ ‏{لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏
والملاحدة يظهرون موافقة المسلمين ويبطنون خلاف ذلك، وهم شر من المنافقين، فإن المنافقين نوعان‏:‏ نوع يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ولا يَدَّعِي أن الباطن الذي يبطنه من الكفر هو حقيقة الإيمان‏.‏ والملاحدة تدعي أن ما تبطنه من الكفر هو حقيقة الإيمان،

 

ص -262-

  وأن الأنبياء والأولياء هم من جنسهم يبطنون ما يبطنونه مما هو كفر وتعطيل، فهم يجمعون بين إبطان الكفر وبين دعواهم أن ذلك الباطن هو الإيمان عند أهل العرفان، فلا يظهرون للمستجيب لهم أن باطنه طعن في الرسول والمؤمنين، وتكذيب له، بل يجعلون ذلك من كمال الرسول وتمام حاله، وأن الذي فعله هو الغاية في الكمال، وأنه لا يفعله إلا أكمل الرجال من سياسة الناس على السيرة العادلة، وعمارة العالم على الطريقة الفاضلة، وهذا قد يظنه طوائف حقًا باطنًا وظاهرًا، فيؤول أمرهم إلى أن يكون النفاق عندهم هو حقيقة الإيمان، وقد علم بالاضطرار أن النفاق ضد الإيمان‏.‏
ولهذا كان أعظم الأبواب التي يدخلون منها باب التشيع والرفض؛ لأن الرافضة هم أجهل الطوائف وأكذبها، وأبعدها عن معرفة المنقول والمعقول، وهم يجعلون التُّقْيَة من أصول دينهم، ويكذبون على أهل البيت كذبًا لا يحصيه إلا اللّه، حتى يرووا عن جعفر الصادق أنه قال‏:‏ التقية ديني ودين آبائي‏.‏ و‏[‏التقية‏]‏ هي شعار النفاق، فإن حقيقتها عندهم‏:‏ أن يقولوا بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم وهذا حقيقة النفاق‏.‏
ثم إذا كان هذا من أصول دينهم، صار كل ما ينقله الناقلون عن علي أو غيره من أهل البيت، مما فيه موافقة أهل السنة والجماعة، يقولون‏:‏ هذا قالوه على سبيل التقية، ثم فتحوا باب النفاق للقرامطة الباطنية

 

ص -263-

 الفلاسفة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فجعلوا ما يقوله الرسول هو من هذا الباب أظهر به خلاف ما أبطن، وأسر به خلاف ما أعلن، فكان حقيقة قولهم‏:‏ أن الرسول هو إمام المنافقين، وهو صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق، المبين للناس ما نزل إليهم، المبلغ لرسالة ربه، والمخاطب لهم بلسان عربي مبين، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏ إبراهيم‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{َإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏97‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏103‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏44‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏17-19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏29‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏24]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏35‏] وقالت الرسل‏:‏ ‏{رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏1617‏]‏ وقال‏:‏‏{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏12‏]‏،

 

ص -264-

  وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏ فهذا ونحوه مما يبين أن الرسل عليهم أن يبلغوا البلاغ المبين‏.‏ يقال‏:‏ بان الشىء وأبان واستبان وتَبَيَّنَ وَبَيَّن، كلها أفعال لازمة‏.‏ وقد يقال‏:‏ أبان غيره وبَيَّنه وتَبَيَّنَهُ واستبانه‏.‏
ومعلوم أن الرسل فعلوا ما عليهم، بل قد أخذ اللّه على أهل العلم الميثاق بأن يبينوا العلم ولا يكتموه، وذم كاتميه فقال تعالى‏:‏
‏{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏187‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏140‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏159‏]‏ فقد لعن كاتمه، وأخبر أنه بينه للناس في الكتاب، فكيف يكون قد بينه للناس وهو قد كتم الحق وأخفاه، وأظهر خلاف ما أبطن‏؟‏ فلو سكت عن بيان الحق كان كاتمًا، ومن نسب الأنبياء إلى الكذب والكتمان مع كونه يقول‏:‏ إنهم أنبياء، فهو من أشر المنافقين وأخبثهم وأبينهم تناقضًا‏.‏
وكثير من أهل النسك والعبادة والعلم والنظر  ممن سلك طريق

 

ص -265-

بعض الصوفية والفقراء، وبعض أهل الكلام والفلسفة  يسلك مسلك الباطنية في بعض الأمور لا في جميعها، حتى يرى بعضهم سقوط الصلاة عن بعض الخواص، أو حِلَّ الخمر وغيرها من المحرمات لهم، أو أن لبعضهم طريقًا إلى اللّه  عز وجل  غير متابعة الرسول‏.‏
وقد يحتج بعضهم بقصة موسي والخِضْر، ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة؛ فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروح عن الشريعة، وهم في هذا ضالون من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن الخضر لم يخرج عن الشريعة، بل الذي فعله كان جائزًا في شريعة موسى؛ ولهذا لما بَيَّن له الأسباب أقره على ذلك، ولو لم يكن جائزًا لما أقره، ولكن لم يكن موسى يعلم الأسباب التي بها أبيحت تلك، فظن أن الخضر كالملك الظالم، فذكر ذلك له الخضر‏.‏
والثاني‏:‏ أن الخضر لم يكن من أمة موسى، ولا كان يجب عليه متابعته، بل قال له‏:‏ إني على علم من علم اللّه عَلَّمَنِيه اللّه لا تعلمه، وأنت على علم من علم اللّه علمكه اللّه لا أعلمه‏.‏ وذلك أن دعوة موسى لم تكن عامة؛ فإن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، بل بعث إلى الإنس والجن باطنًا وظاهرًا، فليس لأحد أن يخرج عن طاعته ومتابعته، لا في الباطن ولا

 

ص -266-

في الظاهر، لا من الخواص ولا من العوام‏.‏
ومن هؤلاء من يفضل بعض الأولياء على الأنبياء، وقد يجعلون الخضر من هؤلاء، وهذا خلاف ما أجمع عليه مشائخ الطريق المقتدى بهم، دع عنك سائر أئمة الدين وعلماء المسلمين، بل لما تكلم الحكيم الترمذي في كتاب ‏[‏ختم الأولياء‏]‏ بكلام ذكر أنه يكون في آخر الأولياء من هو أفضل من الصحابة، وربما لوح بشيء من ذكر الأنبياء  قام عليه المسلمون، وأنكروا ذلك عليه ونفوه من البلد بسبب ذلك، ولا ريب أنه تكلم في ذلك بكلام فاسد باطل لا ريب فيه‏.‏
ومن هناك ضل من اتبعه في ذلك، حتى صار جماعات يَدَّعِى كل واحد أنه خاتم الأولياء، كابن عربي صاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ وسعد الدين بن حمويه، وغيرهما‏.‏ وصار بعض الناس يدعي أن في المتأخرين من يكون أفضل في العلم باللّه من أبي بكر وعمر، والمهاجرين والأنصار، إلى أمثال هذه المقالات التي يطول وصفها، مما هو باطل بالكتاب والسنة والإجماع، بل طوائف كثيرون آل الأمر بهم إلى مشاهدة الحقيقة الكونية القدرية، وظنوا أن من شهدها سقط عنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وهذا هو دين المشركين الذين قالوا‏:‏‏
{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏841‏]‏‏.‏

 

ص -267-

وهؤلاء شر من القدرية المعتزلة، الذين يقرون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، ويكذبون بالقدر، فإن أولئك يشبهون المجوس، وهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين بالأنبياء والشرائع، فهم من شر الناس‏.‏ وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن الظاهر لابد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادَّعَى باطنا يخالف ظاهرًا فهو كافر منافق بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، فكما أن الإنسان لابد له من روح وبدن وهما متفقان، فلابد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه‏.‏
والقرآن مملوء من ذكر أحكام الباطن والظاهر، والباطن أصل الظاهر، كما قال أبوهريرة‏:‏ القلب مَلِك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏‏"‏ألا وإن في الجسد مُضْغَة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏"‏‏.‏ وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏الإسلام عَلانِيةٌ، والإيمان في القلب‏"‏ ، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏22‏]‏،

 

ص -268-

وقال تعالى‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏28‏]‏، وأمثال هذا كثير في القرآن‏.‏
وقال في حق الكفار‏:‏‏
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏، وقال‏:‏ ‏{خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏7‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏
فنسأل اللّه العظيم أن يصلح بواطننا وظواهرنا، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه من جميع أمورنا بِمنًّه وكرمه، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا‏.‏

 

ص -269-

وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيميّة الحرانى الدمشقى‏:‏
الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم‏.
فصل : الإكليل في المتشابه والتأويل
قوله تعالى‏:‏
‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏52 54‏]‏‏.‏
جعل اللّه القلوب ثلاثة أقسام‏:‏ قاسية، وذات مرض، ومؤمنة مخبتة؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة

 

ص -270-

جامدة لا تلين للحق اعترافًا وإذعانًا، أو لا تكون يابسة جامدة‏ لا تلين للحق اعترافا، وإذعانا، أو لا تكون يابسة جامدة.
فالأول‏:‏ هو القاسي‏:‏ وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع، ولا يكتب فيه الإيمان، ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعى محلا لينا قابلا‏.‏
والثاني‏:‏ لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتًا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف وانحلال‏.‏ فالثاني هو الذي فيه مرض، والأول هو القوي اللين‏.‏
وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد  كاليد مثلا  فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش، أو تبطش بعنف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها، فذلك مثل الذي فيه مرض، أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم، فبالرحمة خرج عن القسوة، وبالعلم خرج عن المرض؛ فإن المرض من الشكوك والشبهات‏.‏
ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏54‏]‏ دليل على أن العلم يدل على الإيمان، ليس أن أهل العلم

 

ص -271-

ارتفعوا عن درجة الإيمان  كما يتوهمه طائفة من المتكلمة  بل معهم العلم والإيمان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏162‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏56‏]‏‏.‏
وعلى هذا فقوله‏:‏‏
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏ نظير هذه الآية‏.‏ فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم، وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه‏:‏ ‏{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا‏}‏، وكلا الموضعين موضع ريب وشبهة لغيرهم؛ فإن الكلام هناك في المتشابه، وهنا فيما يلقي الشيطان مما ينسخه اللّه ثم يحكم اللّه آياته، وجعل المحكم هنا ضد الذي نسخه اللّه مما ألقاه الشيطان؛ ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين‏:‏ إن ‏[‏المحكم‏]‏ هو الناسخ، و‏[‏المتشابه‏]‏ المنسوخ‏.‏ أرادوا  واللّه أعلم  قوله‏:‏ ‏{فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏52‏]‏، والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه اللّه‏.‏
وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد، وهو‏:‏ أن اللّه جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى‏.‏ والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف  العام  كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام وتقييد المطلق؛ فإن هذا متشابه؛ لأنه يحتمل معنيين،

 

ص -272-

ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخًا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن؛ ولهذا كانوا يقولون‏:‏ هل عرفت الناسخ من المنسوخ‏؟‏ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم‏.‏ وعلى هذا فيصح أن يقال‏:‏ المحكم والمنسوخ، كما يقال‏:‏ المحكم والمتشابه‏.‏
وقوله بعد ذلك‏:‏
‏{ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ‏}‏ جعل جميع الآيات محكمة، محكمها ومتشابهها، كما قال‏:‏ ‏{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏1‏]‏ على أحد القولين‏.‏ وهنالك جعل الآيات قسمين‏:‏ محكمًا ومتشابها، كما قال‏:‏ ‏{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏‏.‏ وهذه المتشابهات مما أنزله الرحمن لا مما ألقاه الشيطان ونسخه اللّه‏.‏ فصار المحكم في القرآن تارة يقابل بالمتشابه، والجميع من آيات اللّه، وتارة يقابل بما نسخه اللّه مما ألقاه الشيطان‏.‏
ومن الناس من يجعله مقابلاً لما نسخه اللّه مطلقًا، حتى يقول‏:‏ هذه الآية محكمة ليست منسوخة، ويجعل المنسوخ ليس محكمًا، وإن كان اللّه أنزله أولا اتباعًا لظاهر قوله‏:‏ ‏
{فَيَنسَخُ اللَّهُ‏}‏ ‏{ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ‏}‏

 

ص -273-

فهذه ثلاث معان تقابل المحكم، ينبغي التفطن لها‏.‏
وجماع ذلك‏:‏ أن ‏[‏الإحكام‏]‏ تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان‏.‏ فالمحكم المنزل من عند اللّه أحكمه اللّه أي‏:‏ فصله من الاشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه؛ فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشىء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد، فالمنع جزء معناه لا جميع معناه‏.‏
وتارة يكون ‏[‏الإحكام‏]‏ في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع وهو اصطلاحي، أو يقال  وهو أشبه بقول السلف ‏:‏ كانوا يسمون كل رفع نسخًا، سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة‏.‏ وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ، وقد يكون في سمع المبلغ، وقد يكون في فهمه كما قال‏:‏
‏{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏}‏ الآية ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏‏.‏ ومعلوم أن من سمع النص الذي قد رفع حكمه أو دلالة له، فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ فيحكم اللّه آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد‏.‏ وعلى هذا التقدير فيصح أن يقال‏:‏ المتشابه المنسوخ بهذا الاعتبار، واللّه أعلم‏.‏
وتارة يكون ‏[‏الإحكام‏]‏ في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة

 

ص -274-

المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها‏.‏ وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا، فتكون محتملة للمعنيين‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ المحكم‏:‏ الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه‏:‏ الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا‏.‏
ولم يقل في المتشابه‏:‏ لا يعلم تفسيره ومعناه إلا اللّه، وإنما قال‏:‏
‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏، وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع؛ فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو‏.‏ والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة وعليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين وجماهير الأمة‏.‏
ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال‏:‏‏
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏29‏]‏، وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر‏.‏ وقال‏:‏ ‏{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏24‏]‏، ولم يستثن شيئًا منه نهى عن تدبره‏.‏ واللّه ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه  كما أمره اللّه وطلب فهمه ومعرفة معناه  فلم يذمه اللّه، بل أمر بذلك ومدح عليه‏.‏
يبين ذلك أن التأويل قد روى أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم  كحيى بن أخطب وغيره من

 

ص -275-

 طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عامًا؛ لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل بعد إسقاط المكرر، وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر‏.‏
وروى أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول ‏[‏إنا‏]‏ و‏[‏نحن‏]‏ على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع‏.‏ وهذا تأويل في الإيمان باللّه، فأولئك تأولوا في اليوم الآخر، وهؤلاء تأولوا في اللّه‏.‏ ومعلوم أن‏:‏ ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ من المتشابه، فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه، التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى، فصار هذا متشابهًا؛ لأن اللفظ واحد والمعنى متنوع‏.‏
والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وبعض المتواطئة أيضًا من المتشابه، ويسميها أهل التفسير ‏[‏الوجوه والنظائر‏]‏، وصنفوا كتب ‏[‏الوجوه والنظائر‏]‏، فالوجوه في الأسماء المشتركة، والنظائر في الأسماء المتواطئة‏.‏ وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه

 

ص -276-

والنظائر جميعًا في الأسماء المشتركة‏.‏ فهي نظائر باعتبار اللفظ، ووجوه باعتبار المعنى، وليس الأمر على ما قاله، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله‏.‏
والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل
‏{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏163‏]‏‏.‏ ‏{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏، ‏{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏91‏]‏، {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏} ‏[‏الفرقان‏:‏2‏]‏، ‏{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏3، 4‏]‏‏.‏ ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه، وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها‏.‏
وذلك أن الكلام نوعان‏:‏ إنشاء فيه الأمر، وإخبار، فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، كما قال من قال من السلف‏:‏ إن السنة هي تأويل الأمر‏.‏ قالت عائشة  رضي اللّه عنها ‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده‏:‏‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ‏"‏ يتأول القرآن، تعنى قوله‏:‏
‏{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏3‏]‏‏.‏
وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع، ليس تأويله فهم معناه‏.‏

 

ص -277-

وقد جاء اسم ‏[‏التأويل‏]‏ في القرآن في غير موضع وهذا معناه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 52، 53‏]‏، فقد أخبر أنه فصل الكتاب، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه، ثم قال‏:‏ ‏{هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي ينتظرون‏{إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وإنما ذلك مجىء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة، وأشراطها؛ كالدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ومجىء ربك والملك صفًا صفًا، وما في الآخرة من الصحف، والموازين، والجنة والنار، وأنواع النعيم والعذاب، وغير ذلك، فحينئذ يقولون‏:‏ ‏{قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏53‏]‏‏.‏
وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا اللّه؛ فإن اللّه يقول‏:‏
‏{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏17‏]‏ ويقول‏:‏ ‏"‏أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَرَ علَى قلب بَشَر‏"‏، وقال ابن عباس‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء؛ فإن اللّه قد أخبر أن في الجنة خمرًا ولبنًا وماءً وحريرًا وذهبًا وفضة وغير ذلك، ونحن نعلم قطعًا أن

 

ص -278-

تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه، كما في قوله‏:‏ ‏{وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً‏} ‏[‏البقرة‏:‏25‏]‏ على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه‏.‏ فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه‏.‏ وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر اللّه به‏.‏
وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم، فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن‏.‏ ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد، وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة، فكل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته‏.‏
وكان في هذا أيضًا متبعًا للمتشابه؛ إذ الأسماء تشبه الأسماء، والمسميات تشبه المسميات، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها‏.‏ فهؤلاء يتبعون هذا

 

ص -279-

المتشابه ‏{ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ‏}‏ بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن تكون في الجنة هذه الحقائق، ‏{وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ‏}‏ ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا، قال اللّه تعالى‏:‏‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، فإن تلك الحقائق قال اللّه فيها‏:‏ ‏{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏17‏]‏ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ‏}‏ إما أن يكون الضمير عائدًا على الكتاب، أو على المتشابه؛ فإن كان عائدًا على الكتاب كقوله‏:‏ ‏{مِنْهُ‏}‏ و ‏{منه‏}‏ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهذا يصح؛ فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا اللّه‏.‏ وقد يستدل لهذا أن اللّه جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله‏:‏ ‏{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ  يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏52، 53‏]‏‏.‏ فجعل التأويل الجائي للكتاب المفصل‏.‏
وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه  وقتًا وقدرًا ونوعًا وحقيقة  إلا اللّه، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا، وكذلك قوله‏:‏‏
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏39‏]‏‏.‏

 

ص -280-

وإذا كان التأويل للكتاب كله والمراد به ذلك ارتفعت الشبهة، وصار هذا بمنزلة قوله‏:‏‏{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏187‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏63‏]‏، فأخبر أنه ليس علمها إلا عند اللّه، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به‏.‏ فعلم تأويله كعلم الساعة، والساعة من تأويله‏.‏ وهذا واضح بين، ولا ينافى كون علم الساعة عند اللّه أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها، فهذا هذا‏.‏
وإن كان الضمير عائدًا إلى ما تشابه، كما يقوله كثير من الناس؛ فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه بخلاف الأمر والنهي؛ ولهذا في الآثار‏:‏ ‏"‏العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه‏"‏‏.‏ لأن المقصود في الخبر الإيمان، وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه بخلاف الأمر والنهي؛ ولهذا قال بعض العلماء‏:‏ المتشابه‏:‏ الأمثال والوعد والوعيد، والمحكم‏:‏ الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لابد أن نتصورها‏.‏

 

ص -281-

مما جاء من لفظ ‏[‏التأويل‏]‏ في القرآن قوله تعالى‏:‏‏{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏39‏]‏، والكناية عائدة على القرآن، أو على ما لم يحيطوا بعلمه وهو يعود إلى القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏37  40‏]‏‏.‏
فأخبر  سبحانه  أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون اللّه، وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله‏:‏
‏{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ‏}‏‏[‏هود‏:‏117‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏33‏]‏، لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله، كما تحداهم وطالبهم لما قال‏:‏‏{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏38‏]‏ فهذا تعجيز لجميع المخلوقين، قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏37‏]‏ أي‏:‏ مصدق الذي بين يديه‏{وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏37‏]‏ أي مفصل الكتاب فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب‏.‏ والكتاب اسم جنس، وتحدي القائلين‏:‏ ‏{افْتَرَاهُ‏}‏، ودل على أنهم هم

 

ص -282-

المفترون، قال‏:‏‏{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏39‏]‏ أي‏:‏ كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله، فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله؛ فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به، وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به، فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله‏.‏
و ‏[‏نكتة ذلك‏]‏ أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم، كذهن الإنسان مثلاً، ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم، واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة، فالتأويل هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية، وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن اللّه إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله‏.‏
ويبين ذلك أن اللّه يقول عن الكفار‏:‏ ‏
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏45، 46‏]‏،

 

ص -283-

فقد أخبر  ذمًا للمشركين  أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا‏.‏ فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك، وقوله‏:‏‏{أّن يّفًقّهٍوهٍ‏}‏ يعود إلى القرآن كله، فعلم أن اللّه يحب أن يفقه؛ ولهذا قال الحسن البصري‏:‏ ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عني بها، وما استثنى من ذلك، لا متشابهًا ولا غيره‏.‏
وقال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات، أقف عند كل آية وأسأله عنها‏.‏ فهذا ابن عباس حَبْر الأمة، وهو أحد من كان يقول‏:‏ لا يعلم تأويله إلا اللّه، يجيب مجاهدًا عن كل آية في القرآن‏.‏
وهذا هو الذي حمل مجاهدًا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله‏:‏
‏{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏ فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل؛لأن مجاهدًا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه، فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير اللّه‏.‏
وأصل ذلك أن لفظ ‏[‏التأويل‏]‏ فيه اشتراك بين ما عناه اللّه في

 

ص -284-

  القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن‏.‏ ومجاهد إمام التفسير‏.‏ قال الثوري‏:‏ إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به‏.‏ وأما التأويل فشأن آخر‏.‏
ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب اللّه، ولا قال‏:‏هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين‏:‏ إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه‏.‏
وإنما وضع هذه المسألة  المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها‏:‏‏"‏هل يجوز أن يشتمل القرآن على مالا يعلم معناه‏"‏‏.‏
وأما ‏"‏تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم‏"‏ فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية، وبأن اللّه يمتحن عباده بما شاء، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن

 

ص -285-

  مواضعه‏.‏ والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه‏:‏‏{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏78‏]‏ وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه‏.‏
ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال‏:‏ ‏"‏لايجوز أن يتكلم اللّه بكلام ولا يعنى به شيئًا خلافًا للحشوية‏"‏‏.‏ وهذا لم يقله مسلم أن اللّه يتكلم بما لا معنى له‏.‏
وإنما النزاع هل يتلكم بما لا يفهم معناه‏؟‏ وبين نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بَوْن عظيم‏.‏
ثم احتج بما لايجري على أصله فقال‏:‏ هذا عبث، والعبث على اللّه محال‏.‏ وعنده أن اللّه لا يقبح منه شىء أصلاً بل يجوز أن يفعل كل شىء، وليس له أن يقول‏:‏ العبث صفة نقص، فهو منتف عنه؛ لأن النزاع في الحروف وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة، فلا نقل صحيح ولا عقل صريح‏.‏
ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم‏:‏ أن مدعى التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإن الأولين لعلمهم

 

ص -286-

بالقرآن والسنن وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف وكلام العرب، علموا يقينًا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن؛ فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن اللّه وعن اليوم الآخر حتى عن أكثر أحوال الأنبياء  وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات‏.‏ وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان تغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضًا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه‏.‏
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة وأكثر أهل الكلام والبدع، رأوا أيضًا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن، ورأوا عجزًا وعيبًا وقبيحًا أن يخاطب اللّه عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه، وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطؤوا في معنى التأويل الذي نفاه اللّه، وفي التأويل الذي أثبتوه‏.‏ وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلامًا وجدالا ولكن بفرية على اللّه، وقول عليه ما لا

 

ص -287-

يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته، فهذا هذا‏.‏
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل‏.‏
فإن ‏"‏التأويل‏"‏ في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو‏:‏ صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به‏.‏ وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، فإذا قال أحدهم‏:‏ هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا، قال الآخر‏:‏ هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل، والمتأول عليه وظيفتان‏:‏ بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر‏.‏ وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو ذم التأويل، أو قال بعضهم‏:‏ آيات الصفات لا تؤول‏.‏ وقال الآخر‏:‏ بل يجب تأويلها، وقال الثالث‏:‏ بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ويترك عند المصلحة أو يصلح للعلماء دون غيرهم، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع‏.‏
وأما ‏[‏التأويل‏]‏ في لفظ السلف فله معنيان‏:‏
أحدهما‏:‏ تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربًا أو مترادفًا،

 

ص -288-

وهذا - واللّه أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله‏.‏ ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره‏:‏ القول في تأويل قوله كذا وكذا، واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك، ومراده التفسير‏.‏
و المعنى الثاني  في لفظ السلف  وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقًا ‏:‏ هو نفس المراد بالكلام؛ فإن الكلام إن كان طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرًا كان تأويله نفس الشىء المخبر به‏.‏
وبين هذا المعنى والذي قبله بون؛ فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي‏.‏ وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة‏.‏ فإذا قيل‏:‏ طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون ‏"‏التأويل‏"‏ من باب الوجود العيني الخارجي‏.‏ فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وإخبار، لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب؛ إما بضرب

 

ص -289-

المثل، وإما بالتقريب، وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها، وإما بغير ذلك‏.‏
وهذا الوضع والعرف الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها، وقد قدمنا التبيين في ذلك، ومن ذلك قول يعقوب  عليه السلام  ليوسف‏:‏ ‏
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ ‏[‏ يوسف‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏36، 37‏]‏، وقول الملأ‏.‏ ‏{أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏44، 45‏]‏، وقول يوسف  لما دخل عليه أهله مصر‏:‏‏{آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 99، 100‏]‏‏.‏
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه كما قال يوسف‏:‏
‏{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏}‏ والعالم بتأويلها‏:‏ الذي يخبر به، كما قال يوسف‏:‏ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏}‏، أي‏:‏ في المنام ‏{إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا‏}‏ أي‏:‏ قبل أن يأتيكما التأويل‏.‏

 

ص -290-

وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏ قالوا‏:‏ أحسن عاقبة ومصيرًا‏.‏ فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن، وكذلك في سورة آل عمران‏.‏
وقال تعالى في قصة موسى والعالم‏:‏
‏{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏78-82‏]‏، فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها، ومن قتل الغلام، ومن إقامة الجدار‏.‏ فهو تأويل عمل لا تأويل قول، وإنما كان كذلك؛ لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا، مثل حول تحويلا، وعول تعويلا‏.‏ وأول يؤول تعديه آل يؤول أَوْلاً مثل حال يحول حَوْلاً‏.‏ وقولهم‏:‏ آل يؤول، أي‏:‏ عاد إلى كذا ورجع إليه، ومنه ‏[‏المآل‏]‏ وهو ما يؤول إليه الشىء ويشاركه في الاشتقاق الأكبر ‏[‏الموئل‏]‏، فإنه من وأل وهذا من أول‏.‏ والموئل المرجع، قال تعالى‏:‏‏{لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏58‏]‏‏.‏
ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر ‏[‏الآل‏]‏ فإن آل الشخص من

 

ص -291-

يؤول إليه؛ ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم، بحيث يكون المضاف إليه أعظم من المضاف يصلح أن يؤول إليه الآل، كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون، بخلاف الأهل، والأول أفعل؛ لأنهم قالوا في تأنيثه أولى، كما قالوا جمادى الأولى، وفي القصص‏:‏‏{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏70‏]‏‏.‏
ومن الناس من يقول‏:‏ فوعل، ويقول‏:‏ أولة، إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل؛ فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف، سمى المتقدم أول  واللّه أعلم  لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه، فهو أس لما بعده وقاعدة له‏.‏ والصيغة صيغة تفضيل لا صفة‏.‏ مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى، لا من باب أحمر وحمراء؛ ولهذا يقولون‏:‏ جئته من أول أمس، وقال‏:‏
‏{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏108‏]‏ ‏{وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏163‏]‏، ‏{وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏41‏]‏ فإذا قيل‏:‏ هذا أول هؤلاء فهو الذي فضل عليهم في الأول؛ لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله فيعتمد عليه، وهذا السابق كلهم يؤول إليه، فإن من تقدم في فعل فاستن به من بعده كان السابق الذي يؤول الكل إليه، فالأول له وصف السؤدد والاتباع‏.‏
ولفظ ‏[‏الأول‏]‏ مشعر بالرجوع والعود، و‏[‏الأوّل‏]‏ مشعر بالابتداء والمبتدأ، خلاف العائد؛ لأنه إنما كان أولا لما بعده فإنه يقال‏:‏

 

ص -292-

[‏أول المسلمين‏]‏ و ‏[‏أول يوم‏]‏ فما فيه من معنى الرجوع والعود هو للمضاف إليه لا للمضاف‏.‏
وإذا قلنا‏:‏ آل فلان، فالعود إلى المضاف؛ لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعًا لغيره؛ لأن كونه مفضلا دل على أنه مآل ومرجع لا آيل راجع؛ إذ لا فضل في كون الشىء راجعًا إلى غيره آيلا إليه، وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤول إليه‏.‏ فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعًا، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضى أن يكون هو السابق المبتدئ‏.‏واللّه أعلم‏.‏
فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم، أو ما يؤول إليه الكلام، أو ما تأوله المتكلم؛ فإن التفعيل يجري على غير فعل، كقوله‏:‏‏
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏8‏]‏ فيجوز أن يقال‏:‏ تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا، وتأولت الكلام تأويلا، وأولت الكلام تأويلا‏.‏ والمصدر واقع موقع الصفة، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل، كعدل وصوم وفطر، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير وهذا خلق اللّه‏.‏
فالتأويل‏:‏ هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه، أو تأول هو إليه‏.‏ والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول ويؤوَّل إلى حقيقته

 

ص -293-

التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله‏:‏ ‏{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏67‏]‏ قال‏:‏ حقيقة؛ فإنه إن كان خبرًا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع، بل كان كذبًا، وإن كان طلبًا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع، وإن لم يكن مقصوده موجودًا ولا حاصلاً، ومتى كان الخبر وعدًا أو وعيدًا فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏ قال‏:‏ إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد‏.‏ وعن عبد اللّه قال‏:‏ خمس قد مضين‏:‏ البطشة واللزام والدخان والقمر والروم‏.‏
فصل
وأما إدخال أسماء اللّه وصفاته  أو بعض ذلك  في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر اللّه بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم  فإنهم، وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين‏:‏
الأول‏:‏ من قال‏:‏ إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، فنقول‏:‏ أما الدليل على بطلان ذلك‏:‏ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة  لا أحمد بن حنبل ولا غيره  أنه جعل ذلك من المتشابه

 

ص -294-

الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه‏.‏ وجعلوا أسماء اللّه وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا‏:‏ إن اللّه ينزل كلامًا لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات‏:‏ تمر كما جاءت‏.‏ ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه‏.‏
ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك‏.‏ وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات‏:‏ تمر كما جاءت، وفي أحاديث الوعيد مثل قوله‏:‏‏"‏من غشنا فليس منا‏"‏ وأحاديث الفضائل، ومقصوده بذلك‏:‏ أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه، ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر‏.‏
فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل، وكذلك نص أحمد في كتاب ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏]‏ أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن، وتكلم أحمد على ذلك المتشابه وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية، وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله‏.‏ فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه، وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء اللّّه وآياته‏.‏

 

ص -295-

 ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين‏.‏ و‏[‏التأويل المردود‏]‏ هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، فلو قيل‏:‏ إن هذا هو التأويل المذكور في الآية، وأنه لا يعلمه إلا اللّه، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها، لكن ذلك لا يعلمه إلا اللّه، وليس هذا مذهب السلف والأئمة، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها لا التوقف فيها، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني، لا تحرف ولا يلحد فيها‏.‏
والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه أن نقول‏:‏ لا ريب أن اللّه سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل‏:‏ الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرؤوف ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات مثل ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ و‏[‏آية الكرسي‏]‏ وأول ‏[‏الحديد‏]‏ وآخر ‏[‏الحشر‏]‏، وقوله‏:‏
‏{إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، و ‏{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، وأنه ‏{يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏، و‏{الْمُقْسِطِينَ‏}‏ و‏{الْمُحْسِنِينَ‏}‏، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ‏{فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏55‏]‏، ‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏28‏]‏، ‏{كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏46‏]‏، ‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏4‏]‏،

 

ص -296-

‏{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏84‏]‏، ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، ‏{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏46‏]‏، ‏{وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏3‏]‏، ‏{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، ‏{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء‏}‏‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏، ‏{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏27‏]‏، ‏{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏52‏]‏، ‏{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏39‏]‏ إلى أمثال ذلك‏.‏
فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه‏:‏ أتقول هذا في جميع ما سمى اللّه ووصف به نفسه أم في البعض‏؟‏ فإن قلت‏:‏ هذا في الجميع كان هذا عنادًا ظاهرًا وجحدًا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح‏.‏ فإنا نفهم من قوله‏
:‏‏{إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏75‏]‏ معنى، ونفهم من قوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏45‏]‏ معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله‏:‏ ‏{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏156‏]‏ معنى، ونفهم من قوله‏:‏ ‏{إنَّ اللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏47‏]‏ معنى‏.‏ وصبيان المسلمين، بل وكل عاقل يفهم هذا‏.‏ وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب  مع انتسابه إلى الحديث لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة  من يقول‏:‏ إنا نسمى اللّه الرحمن العليم القدير علمًا محضًا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط، وكذلك في قوله‏:‏ ‏{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏ يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم‏.‏

 

ص -297-

وهذا الغلو في الظاهر من جنس غلو القرامطة في الباطن، لكن هذا أيبس وذاك أكفر‏.‏
ثم يقال لهذا المعاند‏:‏ فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود وعلى حق موجود أم لا‏؟‏ فإن قال‏:‏ لا، كان معطلاً محضًا، وما أعلم مسلمًا يقول هذا‏.‏ وإن قال‏:‏ نعم، قيل له‏:‏ فلم فهمت منها دلالتها على نفس الرب ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم وكلاهما في الدلالة سواء‏؟‏ فلابد أن يقول‏:‏ نعم؛ لأن ثبوت الصفات محال في العقل؛ لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث بخلاف الذات‏.‏ فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني  كما سنذكره  وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض‏.‏ فيقال له‏:‏ ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه، فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع؛ لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة بخلاف الآخر، أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع‏؟‏‏.‏
أما الأول‏:‏ فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليّ عظيم، كدلالته على أنه عليم قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص، وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه، مثل ذكره لمشيئته وإرادته‏.‏

 

ص -298-

وأما الثاني‏:‏ فيقال لمن أثبت شيئًا ونفى آخر‏:‏ لم نفيت مثلاً حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته‏؟‏ فإن قال‏:‏ لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على اللّه، قيل له‏:‏ والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على اللّه‏.‏ فإن قال‏:‏ إرادته ليست من جنس إرادة خلقه، قيل له‏:‏ ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه وكذلك محبته‏.‏ وإن قال - وهو حقيقة قوله -‏:‏ لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل، وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين؛ لأن الفعل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة، قيل له الجواب من ثلاثة أوجه‏:‏
أحدهما‏:‏ أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضًا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة‏.‏ والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة، وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا‏.‏
الثاني‏:‏ يقال له‏:‏ هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل

 

ص -299-

  الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم، ودلالته أتم، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة، مع أن النصوص لم تفرق‏؟‏ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل‏.‏
الثالث‏:‏ يقال له‏:‏ إذا قال لك الجهمي‏:‏ الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورًا إن قال بقدمها، ومحذورًا إن قال بحدوثها‏.‏
وهنا اضطربت المعتزلة، فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم، ولا يقولون بتجدد صفة له لامتناع حلول الحوادث عند أكثرهم مع تناقضهم، فصاروا حزبين‏:‏
البغداديون  وهم أشد غلوًا في البدعة في الصفات وفي القدر نفوا حقيقة الإرادة‏.‏ وقال الجاحظ‏:‏ لا معنى لها إلا عدم الإكراه‏.‏ وقال الكعبي‏:‏ لا معنى لها إلا نفس الفعل إذا تعلقت بفعله ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده‏.‏
والبصريون  كأبي على وأبي هاشم  قالوا‏:‏ تحدث إرادة لا في محل، فلا إرادة، فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل،

 

ص -300-

 

وكلاهما عند العقلاء معلوم الفساد بالبديهة‏.‏
كان جوابه‏:‏ أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها والعقل أيضًا، فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطًا أو مقرمطًا، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي‏.‏
ثم يقال لخصومه‏:‏ بم أثبتم أنه عليم قدير‏؟‏ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير‏.‏ وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع؛ فإن ذلك لا يستلزم حدوثًا ولا تركيبًا مقتضيًا حاجة إلى غيره‏.‏
ويعارضون أيضًا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية والضرورة العقلية والقواطع النقلية واتفاق الأمم وغير ذلك من الدلائل، ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده أو بوجود يعلمون كيفيته، فلابد أن يفروا إلى إثبات ما لا تشبه حقيقته الحقائق‏.‏ فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه كالقول في نفسه  سبحانه وتعالى‏.‏

 

ص -301-

 ونكتة هذا الكلام، أن غالب من نفي وأثبت شيئًا مما دل عليه الكتاب والسنة لابد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه أو من وجه يجب به الإثبات، فإن كان المقتضى هناك حقًا فكذلك هنا، وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا‏.‏
وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودًا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر؛ فإنه إن كان حقًا نفاهما، وإن كان باطلاً لم ينف واحدًا منهما، فعليه أن يسوى بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي، فتعين الإثبات‏.‏
فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئًا، وما من أحد إلا ولابد أن يثبت شيئًا أو يجب عليه إثباته، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعى أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة وإن لم يعرف فسادها على التفصيل، وأما من حيث التفصيل فيبين فساد المانع وقيام المقتضى، كما قرر هذا غير مرة‏.‏

 

ص -302-

 فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض، كالحياة والعلم والقدرة ولم يثبت ما هو فينا أبعاض، كاليد والقدم‏:‏ هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم‏.‏
قيل له‏:‏ وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي؛ فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضًا أو تسميتها أعراضًا لا يمنع ثبوتها، قيل له‏:‏ وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبًا وأبعاضًا، أو تسميتها تركيبًا وأبعاضًا لا يمنع ثبوتها‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء، قيل له‏:‏ وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض‏.‏
فإن قال‏:‏ العَرَض ما لا يبقى وصفات الرب باقية، قيل‏:‏ والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق اللّه محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق اللّه تعالى مطلقًا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه‏.‏
فإن قال‏:‏ ذلك تجسيم والتجسيم منتف، قيل‏:‏ وهذا تجسيم والتجسيم منتف‏.‏

 

ص -303-

 فإن قال‏:‏ أنا أعقل صفة ليست عرضًا بغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير، قيل له‏:‏ فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير‏.‏ فإن نفي عقل هذا نفي عقل ذاك، وإن كان بينهما نوع فرق لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع؛ ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع، لكن ذاك أيضًا مستلزم لنفي الذات، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة، وهذا أيضًا ليس هو معقول النص ولا مدلول العقل، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق‏.‏
وأصل ذلك‏:‏ أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة، وهي ألفاظ مجملة مثل‏:‏ ‏[‏متحيز‏]‏ و ‏[‏محدود‏]‏ و ‏[‏جسم‏]‏ و ‏[‏مركب‏]‏ ونحو ذلك، ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة، ومدلولا عليها بنوع قياس، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل‏.‏ إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص، ومن جهة العقل من ناحية أخرى، فصاروا أحزابًا؛ تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول

 

ص -304-

كهشام بن الحكم الرافضي، فإنه قد قيل‏:‏ أول ما تكلم في الجسم نفيًا وإثباتًا من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف، فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس، فعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس، واعتقد الأولون إحالة ثبوته، واعتقد هذا إحالة نفيه، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض‏.‏
فما أعلم أحدًا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة، إلا ولابد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره؛ إذ كلامهم من عند غير اللّه، وقد قال اللّه تعالى‏:‏
‏{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏82‏]‏‏.‏
والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف اللّه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين أهل العلم والإيمان‏.‏ والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب الذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم يخرون عليها صمًا وعميانًا، ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏.‏ فهذا أحد الوجهين، وهو منع أن تكون هذه من المتشابه‏.‏

 

ص -305-

 الوجه الثاني‏:‏ أنه إذا قيل‏:‏ هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابهًا، فيقال‏:‏ الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا اللّه، إما المتشابه، وإما الكتاب كله  كما تقدم  ونفى علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة، وهذا الوجه قوي، إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران، أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ ونحو ذلك، ويؤيده أيضًا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابهًا وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المشابهة بين اللّّه وبين خلقه أعظم من نفي المشابهة بين موعود الجنة وموجود الدنيا‏.‏
وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولاً أن نفي علم التأويل ليس نفيًا لعلم المعنى، ونزيده تقريرًا أن اللّه  سبحانه  يقول‏:‏ ‏
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏27، 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏1، 2‏]‏ فأخبر أنه أنزله ليعقلوه، وأنه طلب تذكرهم‏.‏
وقال أيضًا‏:‏
‏{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏21‏]‏

 

ص -306-

‏ فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكر فيه ولم يستثن من ذلك شيئًا، بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه، مثل قوله‏:‏ ‏{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏24‏]‏، وقوله‏:‏‏{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏82‏]‏ ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفه ما لم يتدبر لما تدبر‏.‏
وقال علي  رضي اللّه عنه  لما قيل له‏:‏ هل ترك عندكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئًا ‏؟‏ فقال‏:‏ لا، والذي فلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأ النَّسَمَة إِلا فهما يؤتيه اللّه عبدًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة‏.‏ فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة، والفهم أخص من العلم والحكم، قال اللّه تعالى‏:‏
‏{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏79‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏رُبَّ مُبَلَّغ أَوْعَى من سامع‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏بَلِّغوا عني ولو آية‏"‏‏.‏
وأيضًا، فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن، وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم، مثل عبد اللّه بن مسعود الذي كان يقول‏:‏ لو أعلم أعلمَ بكتاب اللّه مني تبلغه آباط الإبل لأتيته‏.‏ وعبد اللّه ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم

 

ص -307-

وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتًا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به، بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس، ولو كان معاني هذه الآيات منفيًا أو مسكوتًا عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلامًا فيه‏.‏
ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية‏.‏
قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما؛ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل‏.‏
وكذلك الأئمة، كانوا إذا سئلوا عن شىء من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية، كقول مالك بن أنس  لما سئل عن قوله

 

ص -308-

تعالى‏:‏‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ كيف استوى، فقال‏:‏ الاستواء معلوم، والكَيْفِ مَجْهُول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏ وكذلك ربيعة قبله‏.‏ وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره‏.‏
وقد بين أن الاستواء معلوم كما أن سائر ما أخبر به معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال‏:‏ كيف استوى‏.‏ولم يقل مالك‏:‏ الكيف معدوم، وإنما قال‏:‏ الكيف مجهول‏.‏ وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة، غير أن أكثرهم يقولون‏:‏ لا تخطر كيفيته ببال، ولا تجري ماهيته في مقال، ومنهم من يقول‏:‏ ليس له كيفية ولا ماهية‏.‏
فإن قيل‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏"‏الاستواء معلوم‏"‏‏:‏ أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر اللّه بعلمه‏.‏
قيل‏:‏ هذا ضعيف؛ فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية‏.‏ وأيضًا، فلم يقل‏:‏ ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار اللّه بالاستواء، وإنما قال‏:‏

 

ص -309-

الاستواء معلوم‏.‏ فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة‏.‏
وأيضًا، فإنه قال‏:‏ ‏"‏والكيف مجهول‏"‏، ولو أراد ذلك لقال‏:‏ معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف اللّه به نفسه، لو قال في قوله‏:‏
‏{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏46‏]‏ كيف يسمع وكيف يرى‏؟‏ لقلنا‏:‏ السمع والرؤيا معلوم والكيف مجهول، ولو قال‏:‏ كيف كلم موسى تكليمًا‏؟‏ لقلنا‏:‏ التكليم معلوم والكيف غير معلوم‏.‏
وأيضًا، فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة، يقرون بأن اللّه فوق العرش حقيقة، وأن ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية‏.‏
ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ارتفع على العرش، علا على العرش‏.‏ وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب‏:‏ ‏[‏الرد على الجهمية‏]‏‏.‏وأما التأويلات المحرفة؛ مثل استولى وغير ذلك، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية‏.‏

 

ص -310-

وأيضًا، قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات، بل في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة‏:‏‏"‏يا عائشة، إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّي اللّهُ فاحذريهم‏"‏‏.‏ وهذا عام‏.‏وقصة صبيغ بن عَسْل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن، حتى رآه عمر، فسأل عمر عن ‏{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏1‏]‏، فقال‏:‏ ما اسمك‏؟‏ قال‏:‏ عبد اللّه صبيغ، فقال‏:‏ وأنا عبد اللّه عمر، وضربه الضرب الشديد، وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول‏:‏ ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ‏.‏
وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام‏
:‏‏"‏إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه‏"‏، وكما قال تعالى‏:‏‏{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏، فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد، كالذي يعارض بين آيات القرآن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال‏:‏‏"‏لا تضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض‏"‏، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم‏.‏ ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا اللّه، فكان مقصودهم مذمومًا ومطلوبهم معتذرًا مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها‏.‏

 

ص -311-

مما يبين الفرق بين ‏[‏المعنى‏]‏ و‏[‏التأويل‏]‏ أن صبيغاً سأل عمر عن ‏[‏الذاريات‏]‏ وليست من الصفات، وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها كره سؤاله لما رآه من قصده، لكن علي كانت رعيته ملتوية عليه لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه‏.‏و ‏[‏الذاريات‏]‏ و ‏[‏الحاملات‏]‏ و ‏[‏الجاريات‏]‏ و ‏[‏المقسمات‏]‏ فيها اشتباه لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة، ويحتمل غير ذلك، إذ ليس فى اللفظ ذكر الموصوف، والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها ومتى تهب، وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار، ومتى ينزل المطر، وكذلك فى ‏[‏الجاريات‏]‏ و‏[‏المقسمات‏]‏ فهذا لا يعلمه إلا الله‏.‏
وكذلك في قوله‏:‏ ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ ونحوهما من أسماء اللّه التي فيها معنى الجمع كما اتبعه النصارى؛ فإن معناه معلوم وهو اللّه سبحانه؛ لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني؛ بمنزلة الأسماء المتعددة مثل‏:‏ العليم، والقدير، والسميع، والبصير، فإن المسمى واحد ومعاني الأسماء متعددة، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع‏.‏
وأما التأويل الذي اختص اللّه به فحقيقة ذاته وصفاته كما قال مالك‏.‏والكيف مجهول‏.‏ فإذا قالوا‏:‏ ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره قيل‏:‏ هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا اللّه‏.‏

 

ص -312-

وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله‏.‏ فإذا قيل‏:‏ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس‏:‏ ‏"‏اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه، واللام هنا للتأويل المعهود، لم يقل‏:‏ تأويل كل القرآن، فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا اللّه، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله، وهذا كقوله‏:‏ ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏53‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏ يونس‏:‏39‏]‏ فإن المراد تأويل الخبر الذي أخبر فيه عن المستقبل، فإنه هو الذي ‏[‏ينتظر‏]‏ و‏[‏يأتي‏]‏ و ‏[‏لما يأتهم‏]‏‏.‏ وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر، وتأويل الخبر عن اللّه وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر‏.‏ واللّه  سبحانه  أعلم وبه التوفيق‏.‏

 

ص -313-

 وَقَالَ الشيخ الإمام العَلامة، القدوة العارف الفقيه، الحافظ الزاهد العابد، السالك الناسك، مفتى الفرق ركن الشريعة، عالم العصر، فريد الدهر، ترجمان القرآن، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني - تغمده اللّه برحمته‏:‏
فصل في أقسام القرآن
وهو  سبحانه  يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته‏.‏

 

ص -314-

 فالقسم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏23‏]‏‏.‏
وإما على جملة طلبية، كقوله تعالى‏:‏
‏{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏92، 93‏]‏ مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به محض القسم‏.‏ والمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلابد أن يكون مما يحسن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها‏.‏
فأما الأمور المشهودة الظاهرة كالشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والأرض، فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها، وما أقسم عليه الرب  عز وجل  فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسمًا به ولا ينعكس‏.‏
وهو - سبحانه - يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب، وتارة يحذفه كما يحذف جواب لو كثيرًا، كقوله تعالى‏:‏
‏{لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏‏{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏31‏]‏، ‏{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏50‏]‏، ‏{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏51‏]‏، ‏{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏27‏]‏، ‏{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏30‏]‏‏.‏
ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام؛ لأن المراد‏:‏ أنك لو رأيته

 

ص -315-

لرأيت هولاً عظيمًا، فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏سقط بالأصل‏]‏ المحرم وهو أيضًا تنبيه‏.‏ فإذا أقسم به وفيه الحلال، فإذا كان فيه الحرام كان أولى بالتعظيم، وكذلك إذا أريد الحلول فإنه هو السلبي، فالمعنى واحد‏.‏
وقد أقسم ب
‏{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏1‏]‏ و ‏{الْبَلَدِ الْأَمِينِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏3‏]‏‏.‏ والجواب مذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏4‏]‏، وهو مكابدة أمر الدنيا والآخرة‏.‏ وهذه المكابدة تقتضي قوة صاحبها، وكثرة تصرفه واحتياله، فقال تعالى‏:‏ ‏{أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5-7‏]‏ فهذا الإنسان من جنس أولئك الأمم، ومن جنس الذي قال‏:‏ ‏{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏28، 29‏]‏ له قوة يكابد بها الأمور، وكُلٍّ أهلكه، أفيظن مع هذا أنه لن يقدر عليه أحد فيجازيه بأعماله‏؟‏ ويحسب أن ما أهلكه من المال لم يره أحد، فيعلم ما فعل‏؟‏
والقدرة والعلم بهما يحصل الجزاء، بل بهما يحصل كل شىء، وإخباره  تعالى  بأنه قادر وأنه عالم يتضمن الوعيد والتهديد؛ فإنه إذا كان قادرًا أمكن الجزاء، وإذا كان عالمًا أمكن الجزاء، فبالعدل يقدر ما عمل، ومن لم يكن قادرًا عالمًا لم يمكنه الجزاء؛ فإن العاجز عن الشخص لا يمكنه

 

ص -316-

جزاؤه، والذي له قدرة لكن لا يرى ما فعل إن جازاه بلا علم كان ظالمًا معتديًا، فلابد له من العلم بما فعل‏.‏
ولهذا كان الحاكم يحتاج إلى الشهود، والملوك يحتاجون إلى أهل الديوان يخبرونهم بمقادير الأموال وغيرها؛ ليكون عملهم بعلم‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ ذكر أنه خلق الإنسان في كبد، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏؟‏ و‏[‏لن‏]‏ لنفي المستقبل، يقول‏:‏ أيحسب أن لن يقدر عليه في المستقبل أحد‏؟‏ ولهذا كان ذاك الخائف من ربه، الذي أمر أهله بإحراقه وذرايته، يعلم أن الجزاء متعلق بالقدرة، فقال‏:‏ ‏"‏لئن قَدَر اللّه عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين‏"‏‏.‏
وهو  سبحانه  يهدد بالقدرة لكون المقدور يقترن بها، كما يهدد بالعلم لكون الجزاء يقع معه، كما في قوله تعالى‏:
‏ ‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت‏:‏‏"‏أعوذ بوجهك، أعوذ بوجهك‏"‏ ‏{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏ فقال‏:‏ ‏"‏هاتان أهون‏"‏ وذلك لأنه تكلم في ذكر القدرة ونوع المقدور، كما يقول القائل‏:‏ أين تهرب مني ‏؟‏ أنا أقدر أن أمسكك‏.‏
وكذلك في العلم بالرؤية، كقوله هنا‏:‏
‏{أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏7‏]‏،

 

ص -317-

وقوله تعالى  في الذي ينهي عبدًا إذا صلى‏:‏ ‏{أَلَمْ يَعْلَمْ بأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏14‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏52، 53‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏ فذكر رؤيته الأعمال وعلمه بها وإحصائه لها يتضمن الوعيد بالجزاء عليها، كما يقول القائل‏:‏ قد علمت ما فعلت، وقد جاءتنى أخبارك كلها وأمثال ذلك، فليس المراد الإخبار بقدرة مجردة، وعلم مجرد؛ لكن بقدرة وعلم يقترن بهما الجزاء؛ إذ كان مع حصول العلم والقدرة يمكن الجزاء، ويبقى موقوفًا على مشيئة المجازي، لا يحتاج معه إلى شيء حينئذ، فيجب طلب النجاة بالاستغفار والتوبة إليه، وعمل الحسنات التي تمحو السيئات‏.‏
فصل
وهو  سبحانه وتعالى  لما أقسم ب ‏[‏الصافات‏]‏ و‏[‏الذاريات‏]‏ و ‏[‏المرسلات‏]‏ ذكر المقسم عليه‏.‏ فقال تعالى‏:‏
‏{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏5، 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏7‏]‏‏.‏ ولم يذكره في النازعات؛ فإن الصافات هي الملائكة، وهو لم يقسم على وجودها، كما لم يقسم على وجود نفسه؛

 

ص -318-

إذ كانت الأمم معترفة بالصافات، وكانت معرفته ظاهرة عندهم لا يحتاج إلى إقسام، بخلاف التوحيد، فإنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وكذلك الملائكة يقر بها عامة الأمم، كما ذكر اللّه عن قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، مع شركهم وتكذيبهم بالرسل، أنهم كانوا يعرفون الملائكة‏.‏ قال قوم نوح‏:‏ ‏{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13، 14‏]‏، وقال فرعون‏:‏ ‏{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏52، 53‏]‏‏.‏
وكذلك مشركو العرب، قال تعالى‏:‏ ‏{
وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏7‏]‏، وقال تعالى عن الأمم مطلقًا‏:‏ ‏{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏94، 95‏]‏‏.‏

 

ص -319-

 فكانت هذه الأمم المكذبة للرسل المشركة بالرب مقرة باللّه وبملائكته، فكيف بمن سواهم‏؟‏ فعلم أن الإقرار بالرب وملائكته معروف عند عامة الأمم؛ فلهذا لم يقسم عليه وإنما أقسم على التوحيد؛ لأن أكثرهم مشركون‏.‏
وكذلك ‏[‏الذاريات‏]‏ و‏[‏الحاملات‏]‏ و‏[‏الجاريات‏]‏، هي أمور مشهودة للناس، و‏[‏المقسمات أمرًا‏]‏ هم الملائكة، فلم يكن فيما أقسم به ما أقسم عليه، فذكر المقسم عليه، فقال تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏5، 6‏]‏‏.‏
و ‏[‏المرسلات‏]‏ سواء كانت هي الملائكة النازلة بالوحي والمقسم عليه الجزاء في الآخرة، أو الرياح، أو هذا وهذا، فهي معلومة أيضًا‏.‏
وأما ‏
{النازعات غرقا‏}‏ فهي الملائكة القابضة للأرواح، وهذا يتضمن الجزاء، وهو من أعظم المقسم عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61، 62‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏سقط بالأصل‏]‏ هو، ولا يعين على عبادته إلا هو، وهذا يقين يعطي الاستعانة والتوكل، وهو يقين بالقدر الذي لم يقع؛ فإن الاستعانة والتوكل

 

ص -320-

إنما يتعلق بالمستقبل‏.‏
فأما ما وقع فإنما فيه الصبر والتسليم والرضى، كما في حديث عمار بن ياسر  رضي اللّه عنه  مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏‏"‏أسألك الرضا بعد القضاء‏"‏، وقول‏:‏‏"‏لا حول ولا قوة إلا باللّه‏"‏ يوجب الإعانة؛ ولهذا سنها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال المؤذن‏:‏ ‏"‏حي على الصلاة‏.‏ فيقول المجيب‏:‏ لا حول ولا قوة إلا باللّه، فإذا قال‏:‏ حي على الفلاح‏.‏ قال المجيب‏:‏ لا حول ولا قوة إلا باللّه‏"‏‏.‏
وقال المؤمن لصاحبه‏:‏
‏{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏39‏]‏، ولهذا يؤمر بهذا من يخاف العين على شىء‏.‏ فقوله‏:‏ ما شاء اللّه، تقديره‏:‏ ما شاء اللّه كان، فلا يأمن، بل يؤمن بالقدر، ويقول‏:‏ لا قوة إلا باللّه‏.‏ وفي حديث أبي موسى الأشعري  رضي اللّه عنه  المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏هي كنز من كنوز الجنة‏"‏، و‏[‏الكنز‏]‏ مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع؛ وذلك أنها تتضمن التوكل والافتقار إلى الله تعالى‏.‏
ومعلوم أنه لا يكون شىء إلا بمشيئة اللّه وقدرته، وأن الخلق ليس منهم شيء إلا ما أحدثه اللّه فيهم، فإذا انقطع طلب القلب

 

ص -321-

للمعونة منهم وطلبها من اللّه فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلا هو، قال تعالى‏:‏‏{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِه‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏2‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ‏} ‏[‏يونس‏:‏107‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏‏.‏
وقال صاحب يس‏:‏
‏{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏23، 24‏]‏؛ ولهذا يأمر اللّه بالتوكل عليه وحده في غير موضع‏.‏ وفي الأثر‏:‏ من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يده‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏58‏]‏‏.‏
واللّه تعالى أمر بعبادته والتوكل عليه، قال تعالى‏:‏
‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقال موسى‏:‏ ‏{يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏‏.‏

 

ص -322-

 وقال شعيب‏:‏ ‏{وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏88‏]‏، وقال المؤمنون‏:‏ ‏{رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏، وَقال تعالى‏:‏ {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏8، 9‏]‏ وَقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً‏}‏‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏‏.‏
فافترق الناس هنا أربعة أصناف‏:‏
صنف
لا يعبدونه ولا يتوكلون عليه، وهم شرار الخلق‏.‏
وصنف يقصدون عبادته بفعل ما أمر، وترك ما حظر، لكن لم يحققوا التوكل والاستعانة، فيعجزون عن كثير مما يطلبونه، ويجزعون في كثير من المصائب‏.‏
ثم من هؤلاء من يكذب بالقدر، ويجعل نفسه هو المبدع لأفعاله، فهؤلاء في الحقيقة لا يستعينونه ولا يطلبون منه صلاح قلوبهم، ولا تقويمها ولا هدايتها، وهؤلاء مخذولون كما هم عند الأمة كذلك، وقوم يؤمنون بالقدر قولاً واعتقادًا، لكن لم تتصف به قلوبهم علمًا وعملاً، كما اتصفت بقصد الطهارة والصلاة، فهم أيضًا ضعفاء عاجزون‏.‏

 

ص -323-

 وصنف نظر إلى جانب القدرة والمشيئة، وأن اللّه تعالى هو المعطي والمانع، والخافض والرافع، فغلب عليهم التوجه إليه من هذه الجهة والاستعانة به، والافتقار إليه لطلب ما يريدونه، فهؤلاء يحصل لأحدهم نوع سلطان وقدرة ظاهرة أو باطنة وقهر لعدوه؛ بل قتل له ونيل لأغراضه، لكن لا عاقبة لهم؛ فإن العاقبة للتقوى، بل آخرتهم آخرة ردية‏.‏
وليس الكلام في الكفار والظلمة المعرضين عن اللّه، فإن هؤلاء دخلوا في القسم الأول الذين لا عبادة لهم ولا استعانة، ولكن الكلام في قوم عندهم توجه إلى اللّه وتأله، ونوع من الخشية والذكر والزهد، لكن يغلب عليهم التوجه بإرادة أحدهم وذوقه ووجده، وما يستحليه ويستحبه، لا بالأمر الشرعي وهم أصناف‏:‏
منهم المعرض عن التزام العبادات الشرعية، مع ما يحصل له من الشياطين من كشف له أو تأثير، وهؤلاء كثير منهم يموت على غير الإسلام‏.‏
ومنهم من يقوم بالعبادات الشرعية الظاهرة كالصلاة، والصيام، والحج، وترك المحرمات، لكن في أعمال القلوب لا يلتزم الأمر الشرعي؛ بل يسعى لما يحبه ويريده، واللّه تعالى قال‏:‏
‏{كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏20‏]‏،

 

ص -324-

وهو  سبحانه  يعطي السلطان والمال للبر والفاجر، فقد يعطي أحد هؤلاء تصرفًا؛ إما بقهر عدوه وإما بنصر وليه، كما تعطى الملوك، وقد يعطى نوعًا من المكاشفة؛ إما بإخبار بعض الجن له، وقد يعرف أنه من الجن، وقد لا يعرف، وإما بغير ذلك‏.‏
وقد يقول الواحد من هؤلاء‏:‏ أنا آخذ من اللّه وغيري يأخذ من محمد صلى الله عليه وسلم، فيرى بحاله في ذاك وتفرده أن ما أوتيه من التصرف والمكاشفة، يحصل له بغير طريق محمد صلى الله عليه وسلم وهو صادق في ذلك، لكن هذه في الحقيقة وبال عليه؛ فإن من تصرف بغير أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما لم يبحه له الرسول فولى وعزل، وأعطى ومنع بغير أمر الرسول، وقتل وضرب بغير أمره، وأكرم وأهان بغير أمره، وجاءه خطاب في باطنه بالأمر والنهي، فاعتقد أن الّله أمره ونهاه من غير واسطة الرسول، كانت حالته هذه كلها من الشيطان، وكان الشيطان هو الذي يأمره وينهاه، فيأمره فيتصرف، وهو يظن أنه يتصرف بأمر اللّه؛ ولعمري هو يتصرف بأمر اللّه الكوني القدري بواسطة أمر الشيطان، كما قال تعالى في السحرة‏:‏‏
{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏102‏]‏ كما أن المؤمن يتصرف بأمر اللّه الكوني القدري، لكن بواسطة أمر الرسول المبلغ له عن اللّه عز وجل‏.‏

 

ص -325-

 فالحلال عنده ما أحله اللّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللّه ورسوله، والدين ما شرعه اللّه ورسوله؛ بخلاف ذاك فإنه لا يأخذ عن الرسول الأمر والنهي الباطن، ولا ما يفعله ويأمر به، وهذا الضرب كثير في المشايخ أرباب القلوب والأحوال الذين ضعف علمهم بالكتاب والسنة ومتابعة الرسول، وغلب عليهم ما يجده أحدهم في قلبه، وما يؤمر به في باطنه، سواء وافق الرسول أو خالفه‏.‏
ثم تفاوتوا في ذلك بحسب قربهم من الرسول وبعدهم منه، فكثير منهم بعد عنه حتى صار يرى أنه يعاون الكفار على قتال المسلمين، ويرى أن اللّه  سبحانه  أمره بذلك، ويعتقد أن أهل الصُّفَّة فعلوا ذلك‏.‏
ومنهم من يرى أن الرسول لم يرسل إليه وإلى أشكاله، وإنما أرسل إلى العوام‏.‏
ومنهم من يعتقد أن الرسول كان خاضعًا لأهل الصفة، وكانوا مستغنين عنه، إلى أمثال هذه الأصناف التي كثرت في هذه الأزمنة‏.‏

 

ص -326-

 وهؤلاء كلهم يدعون علم الحقيقة، ويقولون‏:‏ الحقيقة لون والشريعة لون آخر، ويجمعهم شيئان‏:‏ أن لهم تصرفًا وكشفًا خارجًا عما للعامة، وأنهم معرضون عن وزن ذلك بالكتاب والسنة، وتحكيم الرسول في ذلك، فهم بمنزلة الملوك الذين لهم ملك يسوسونه بغير أمر اللّه ورسوله؛ لكن الملوك لا يقول أحدهم‏:‏ إن اللّه أمرني بذلك، ولا إني ولي اللّه، ولا إن لي مادة من اللّه خارجة عن الرسول، ولا إن الرسل لم تبعث إلى مثلي، وإنما الملوك يقصدون أغراضهم ولا يجعلونها دِينًا‏.‏
وهؤلاء يجعلون أغراضهم التي هي من أعظم الظلم والفساد بل والكفر، يجعلون ذلك دينا يدين به أولياء اللّه عندهم؛ لأن هذه الأمور إنما تحصل لهم بنوع من الزهادة والعبادة؛ ولكن ليس هو الزهد والعبادة التي بعث اللّه بها رسوله، بل يشبهه حال أهل الكتاب والمشركين من عباد الهند والنصارى وأمثالهم‏.‏
ولهذا تظهر مشابهتهم لعباد المشركين وأهل الكتاب، حتى إن من رأى عباد الهنود ثم رأى مُولِهي بيت الرفاعي أنكر وجود هؤلاء في ديار الإسلام‏.‏
وقال‏:‏ هؤلاء مثل عباد المشركين من الهند سواء، وأرفع من

 

ص -327-

هؤلاء من يشبه عباد النصارى ورهبانهم في أمور كثيرة خارجة عن شريعة الإسلام، فلما كان فيهم دين مبتدع من جنس دين المشركين، وأهل الكتاب ظنوا ما يظنه أولئك من أن هذا دين صحيح، وأنه دين يقرب إلى اللّه، وأن أهله أولياء اللّه، فإن جميع طوائف العلماء والعباد من جميع أهل الملل يظنون ‏[‏آخر ما وجد من الأصل‏]‏‏.‏

 

ص -328-

وقال شيخ الإسلام‏:‏ مقدمة التفسير
بسم اللّه الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن برحمتك
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى اللّه عليه وسلم تسليمًا‏.‏
أما بعد‏:‏ فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل؛ فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغَثِّ والسمين، والباطل الواضح والحق المبين‏.‏
والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم،

 

ص -329-

وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود‏.‏
وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل اللّه المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخْلَق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏‏[‏طه‏:‏ 123 126‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏ المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏ إبراهيم‏:‏ 1، 2 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏52، 53‏]‏

 

ص -330-

وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير اللّه تعالى من إملاء الفؤاد، واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد‏.‏
فصل
يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى‏
:‏ ‏{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏44‏]‏ يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن  كعثمان بن عفان، وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما  أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا‏.‏ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة‏.‏ وقال أنس‏:‏ كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَلَّ في أعيننا‏.‏ وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل‏:‏ ثماني سنين، ذكره مالك‏.‏
وذلك أن اللّه تعالى قال‏:
‏ ‏{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏29‏]‏،

 

ص -331-

 وقال‏:‏ ‏{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏82، محمد‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏‏{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏ وعقل الكلام متضمن لفهمه‏.‏
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك‏.‏ وأيضًا، فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم  كالطب والحساب  ولا يستشرحوه، فكيف بكلام اللّه الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم‏؟‏ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر‏.‏ ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال الثوري‏:‏ إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به؛ ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره  ممن صنف في التفسير  يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره‏.‏
والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة، كما تلقوا عنهم علم

 

ص -332-

السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال‏.‏
فصل
الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى  بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة  كما قيل في اسم السيف‏:‏ الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء اللّه الحسنى، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن، فإن أسماء اللّه كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادًا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏
{قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏110‏]‏‏.‏
وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي

 

ص -333-

تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة‏.‏ ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر، فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون‏:‏ لا يقال‏:‏ هو حي، ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين؛ فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسمًا هو علم محض كالمضمرات، وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقًا لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك‏.‏
وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته، وعلى ما في الاسم من صفاته، ويدل أيضًا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم، وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب‏.‏ وكذلك أسماء القرآن‏:‏ مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب، وأمثال ذلك‏.‏
فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم علمًا وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله‏:‏
‏{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏124‏]‏ ما ذكره‏؟‏ فيقال له‏:‏ هو القرآن مثلا، أو هو ما أنزله من الكتب‏.‏ فإن الذكر مصدر، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول‏.‏

 

ص -334-

فإذا قيل ذكر اللّه بالمعنى الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد‏:‏ سبحان اللّه، و الحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر‏.‏ وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه، وهذا هو المراد في قوله‏:‏ ‏{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي‏}‏؛ لأنه قال قبل ذلك‏:‏ ‏{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏123‏]‏ وهَداه هو ما أنزله من الذكر، وقال بعد ذلك‏:‏ ‏{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 125، 126‏]‏‏.‏
والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل، أو هو ذكر العبد له، فسواء قيل‏:‏ ذكرى كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك، كان المسمى واحدًا‏.‏
وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به، فلابد من قدر زائد على تعيين المسمى، مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن، وقد علم أنه اللّه، لكن مراده ما معنى كونه قدوسًا سلامًا مؤمنًا ونحو ذلك‏.‏
إذا عرف هذا، فالسلف كثيرًا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول‏:‏ أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب‏.‏ والقدوس هو الغفور،

 

ص -335-

والرحيم، أي أن المسمى واحد، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة‏.‏ ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس، مثال ذلك‏:‏ تفسيرهم للصراط المستقيم‏:‏
فقال بعضهم‏:‏ هو القرآن، أي اتباعه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من طرق متعددة‏:‏
‏"‏هو حبل اللّه المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم‏"‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم  في حديث النواس ابن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره ‏:‏‏"‏ضرب اللّه مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سُورَان، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط‏"‏، قال‏:‏‏"‏فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم اللّه، والداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مؤمن‏"‏، فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ ‏"‏صراط‏"‏ يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال‏:‏ هو السنة والجماعة‏.‏ وقول من قال‏:‏ هو طريق العبودية‏.‏ وقول من قال‏:‏ هو طاعة اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا

 

ص -336-

إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها‏.‏
الصنف الثاني‏:‏ أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع  لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى ‏[‏لفظ الخبز‏]‏ فأرى رغيفًا، وقيل له‏:‏ هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده  مثال ذلك‏:‏ ما نقل في قوله‏
:‏‏{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏32‏]‏
فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين
‏{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏10، 11‏]‏
ثم إن كلاً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل‏:‏ السابق الذي يصلى في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، ويقول الآخر‏:‏ السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع‏.‏ والناس في الأموال إما محسن، وإما عادل، وإما ظالم، فالسابق المحسن بأداء

 

ص -337-

المستحبات مع الواجبات‏.‏ والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة‏.‏ والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل‏.‏
فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق، والعقل السليم يتفطن للنوع، كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف، فقيل له‏:‏ هذا هو الخبز‏.‏
وقد يجىء كثيرًا من هذا الباب قولهم‏:‏ هذه الآية نزلت في كذا، لاسيما إن كان المذكور شخصًا؛ كأسباب النزول المذكورة في التفسير، كقولهم‏:‏ إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وأن آية اللعان نزلت في عويمر العَجْلاني أو هلال بن أمية، وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد اللّه، وأن قوله‏:‏ ‏
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏49‏]‏ نزلت في بني قُرَيْظَة والنَّضِير، وأن قوله‏:‏ ‏{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏ نزلت في بَدْر، وأن قوله‏:‏‏{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏106‏]‏ نزلت في قضية تَمِيم الداري وَعديّ بن بَدَّاء، وقول أبي أيوب إن قوله‏:‏ ‏{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏195‏]‏‏:‏ نزلت فينا معشر الأنصار، الحديث‏.‏ ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين‏.‏

 

ص -338-

 فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا‏؟‏ فلم يقل أحد من علماء المسلمين‏:‏ إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال‏:‏ إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ‏.‏
والآية التي لها سبب معين، إن كانت أمرًا ونهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبرًا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضًا‏.‏
ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب؛ ولهذا كان أصح قولي الفقهاء‏:‏ أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف، رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها‏.‏
وقولهم‏:‏ نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول‏:‏ عنى بهذه الآية كذا‏.‏

 

ص -339-

وقد تنازع العلماء في قول الصاحب ‏[‏أى الصحابى‏]‏‏:‏ نزلت هذه الآية في كذا، هل يجرى مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجرى مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند‏؟‏
فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند‏.‏
وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند‏.‏
وإذا عرف هذا، فقول أحدهم‏:‏ نزلت في كذا، لا ينافى قول الآخر‏:‏ نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببًا نزلت لأجله وذكر الآخر سببًا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب‏.‏
وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير، تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه، كالتمثيلات  هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف‏.‏
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين؛ إما لكونه مشتركًا في اللفظ كلفظ ‏{قَسْوَرَةٍ‏}‏ الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد، ولفظ ‏{عَسْعَسَ‏}‏ الذي يراد به إقبال الليل وإدباره،

 

ص -340-

وإما لكونه متواطئًا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله‏:‏ ‏{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏8، 9‏]‏، وكلفظ ‏{وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرٌِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏1-3‏]‏ وما أشبه ذلك‏.‏  فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، و وقد لا يجوز ذلك، فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه؛ إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء  المالكية، والشافعية، والحنبلية  وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئًا فيكون عامًا، إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني‏.‏
ومن الأقوال الموجودة عنهم  ويجعلها بعض الناس اختلافًا  أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقَلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن‏.‏ فإذا قال القائل‏:‏
‏{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏9‏]‏ ‏:‏ إن المور هو الحركة كان تقريبًا؛ إذ المور حركة خفيفة سريعة‏.‏

 

ص -341-

وكذلك إذا قال‏:‏ الوحي‏:‏ الإعلام، أو قيل‏:‏‏{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏163‏]‏‏:‏ أنزلنا إليك، أو قيل‏:‏ ‏{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏4‏]‏ أي‏:‏ أعلمنا، وأمثال ذلك، فهذا كله تقريب لا تحقيق؛ فإن الوحي هو إعلام سريع خفي، والقضاء إليهم أخص من الإعلام؛ فإن فيه إنزالاً إليهم وإيحاء إليهم‏.‏
والعرب تُضَمِّنُ الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله‏:‏ ‏
{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏24‏]‏ أي‏:‏ مع نعاجه و‏{مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏14‏]‏ أي‏:‏ مع اللّه ونحو ذلك‏.‏ والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏73‏]‏ ضمن معنى يزيغونك ويصدونك، وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏77‏]‏، ضمن معنى نجيناه وخلصناه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏6‏]‏ ضمن يروى بها، ونظائره كثيرة‏.‏
ومن قال‏:‏ ‏{لاريب‏}‏‏:‏ لا شك، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة، كما قال‏:‏ ‏"‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏"‏، وفي الحديث أنه مر بظبي حاقف ‏[‏أي‏:‏ نائم قد انحنى في نومه‏]‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا يريبه أحد‏"‏، فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة‏.‏ ولفظ ‏[‏الشك‏]‏ وإن قيل‏:‏ إنه يستلزم هذا المعنى، لكن لفظه لا يدل عليه‏.‏

 

ص -342-

وكذلك إذا قيل‏:‏ ‏{ذَلِكَ الْكِتَابُ‏}‏‏:‏ هذا القرآن، فهذا تقريب؛ لأن المشار إليه وإن كان واحدًا، فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ ‏[‏الكتاب‏]‏ يتضمن من كونه مكتوبًا مضمونًا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءًا مظهرًا باديًا‏.‏ فهذه الفروق موجودة في القرآن‏.‏ فإذا قال أحدهم‏:‏ ‏{أَن تُبْسَلَ‏}‏‏:‏ أي تحبس، وقال الآخر‏:‏ ترتهن، ونحو ذلك، لم يكن من اختلاف التضاد، وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنًا وقد لا يكون، إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم، وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدًا، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين، ومع هذا فلابد من اختلاف محقق بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام‏.‏
ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونصبها، وتعيين شهر رمضان، والطواف والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك‏.‏
ثم اختلاف الصحابة في الجد والأخوة وفي المشركة ونحو ذلك، لا يوجب ريبًا في جمهور مسائل الفرائض، بل ما يحتاج إليه عامة الناس هو عمود النسب من الآباء والأبناء، والكلالة من الأخوة والأخوات، ومن نسائهم كالأزواج؛ فإن اللّه أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة،

 

ص -343-

ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الأخوة لأبوين أو لأب، واجتماع الجد والأخوة نادر؛ ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو لذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله‏.
فصل
الاختلاف في التفسير على نوعين‏:‏ منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك؛ إذ العلم إما نقل مصدق وإما استدلال محقق، والمنقول إما عن المعصوم وإما عن غير المعصوم، والمقصود بأن جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم، وهذا هو النوع الأول منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه‏.‏ وهذا القسم الثاني من المنقول؛ وهو ما لاطريق لنا إلى الجزم بالصدق منه عامته مما لا فائدة فيه، فالكلام فيه من فضول الكلام‏.‏

 

ص -344-

وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن اللّه نصب على الحق فيه دليلاً، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه‏:‏ اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفي مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك‏.‏ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم  كاسم صاحب موسى أنه الخضر  فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب  كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن إسحاق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب  فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه‏"‏‏.‏
وكذلك ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم

 

ص -345-

الصاحب فيما يقوله، فكيف يقال‏:‏ إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم‏؟‏
والمقصود أن مثل هذا الاختلاف الذي لا يعلم صحيحه، ولا تفيد حكاية الأقوال فيه، هو كالمعرفة لما يروى من الحديث الذي لا دليل على صحته وأمثال ذلك‏.‏
وأما القسم الأول، الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود فيما يحتاج إليه وللّه الحمد، فكثيرًا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء  صلوات اللّه عليهم وسلامه  والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجود فيما مستنده النقل، و فيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل‏.‏
فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب اللّه الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم؛ ولهذا قال الإمام أحمد‏:‏ ثلاثة أمور ليس لها إسناد‏:‏ التفسير، والملاحم، والمغازي‏.‏ ويروي‏:‏ ليس لها أصل، أي إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومن بعدهم، كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي، ونحوهم في المغازي؛ فإن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت

 

ص -346-

عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد، فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم؛ ولهذا عظم الناس كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار‏.‏
وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء ابن أبي رباح، وعكرمة مولي ابن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذه عنه أيضًا ابنه عبد الرحمن، وأخذه عن عبد الرحمن عبد اللّه بن وهب‏.‏
والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصدًا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعًا، فإن النقل إما أن يكون صدقًا مطابقًا للخبر، وإما أن يكون كذبًا تعمد صاحبه الكذب، أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقًا بلا ريب‏.‏
فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات، وقد علم أن المخبرين لم يتواطئا على اختلاقه، وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقًا

 

ص -347-

بلا قصد علم أنه صحيح، مثل شخص يحدث عن واقعة جرت، ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطئ الأول، فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال، فيعلم قطعًا أن تلك الواقعة حق في الجملة؛ فإنه لو كان كل منهما كذبها عمدًا أو خطأ، لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه، فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتًا وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية ورَوِيٍّ فلم تجر العادة بأن غيره ينشئ مثلها لفظًا ومعنى مع الطول المفرط، بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه، وكذلك إذا حدث حديثًا طويلا فيه فنون، وحدث آخر بمثله، فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه، أو يكون الحديث صدقًا، وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات، وإن لم يكن أحدها كافيا إما لإرساله وإما لضعف ناقله، لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق فلا يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق؛ ولهذا ثبتت بالتواتر غزوة بَدْر وأنها قبل أُحُد، بل يعلم قطعًا أن حمزة وعليًا وعبيدة برزوا إلى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ والوليد،

 

ص -348-

وأن عليًا قتل الوليد، وأن حمزة قتل قرنه، ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أو شيبة‏.‏
وهذا الأصل ينبغي أن يعرف؛ فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك‏.‏
ولهذا إذا روى الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين، مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر، جزم بأنه حق، لا سيما إذا علم أن نَقَلَتَه ليسوا ممن يتعمد الكذب، وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط؛ فإن من عرف الصحابة  كابن مسعود وأبي بن كعب، وابن عمر، و جابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم  علم يقينًا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فضلاً عمن هو فوقهم، كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس، ويقطع الطريق، ويشهد بالزور ونحو ذلك‏.‏
وكذلك التابعون بالمدينة ومكة، والشام والبصرة، فإن من عرف مثل أبي صالح السمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم وأمثالهم، علم قطعًا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث،

 

ص -349-

فضلا عمن هو فوقهم، مثل محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد، أو سعيد بن المسيب، أو عبيدة السلماني، أو عَلْقَمة، أو الأسود أو نحوهم‏.‏ وإنما يخاف على الواحد من الغلط؛ فإن الغلط والنسيان كثيرًا ما يعرض للإنسان، ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جدًا، كما عرفوا حال الشعبي والزهري وعروة وقتادة والثوري وأمثالهم، لا سيما الزهري في زمانه، والثوري في زمانه، فإنه قد يقول القائل‏:‏ إن ابن شهاب الزهري لا يعرف له غلط، مع كثرة حديثه وسعة حفظه‏.‏
والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي  مثلا  من وجهين مختلفين، من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطًا، كما امتنع أن يكون كذبًا؛ فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة‏.‏
ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة، مثل حديث اشتراء النبي صلى الله عليه وسلم البعير من جابر؛ فإن من تأمل طرقه علم قطعًا أن الحديث صحيح، وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن‏.‏ وقد بين ذلك البخاري في صحيحه، فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق،

 

ص -350-

والأمة لا تجتمع على خطأ، فلو كان الحديث كذبًا في نفس الأمر، والأمة مصدقة له قابلة له، لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع، وإن كنا نحن  بدون الإجماع  نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر، فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطن، بخلاف ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنًا وظاهرًا‏.‏
ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن ‏"‏خبر الواحد‏"‏ إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقًا له أو عملاً به أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه، من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيرًا من أهل الكلام  أو أكثرهم  يوافقون الفقهاء، وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية، كأبي إسحاق وابن فُورَك، وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه مثل أبي المعالي وأبي حامد وابن عقيل وابن الجوزي وابن الخطيب والآمدي ونحو هؤلاء، والأول هو الذي ذكره الشيخ أبوحامد وأبو الطيب وأبو إسحاق وأمثاله من أئمة الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية،

 

ص -351-

وهو الذي ذكره أبو يعلي وأبو الخطاب، وأبو الحسن ابن الزاغوني، وأمثالهم من الحنبلية، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية، وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجبًا للقطع به، فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة‏.‏
والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة، يوجب العلم بمضمون المنقول، لكن هذا ينتفع به كثيرًا في علم أحوال الناقلين‏.‏ وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك؛ ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون‏:‏ إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره‏.‏ قال أحمد‏:‏ قد أكتب حديث الرجل لأعتبره، ومثل هذا بعبد اللّه بن لَهِيعة قاضي مصر؛ فإنه كان من أكثر الناس حديثًا ومن خيار الناس، لكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط، فصار يعتبر بذلك ويستشهد به، وكثيرًا ما يقترن هو والليث بن سعد والليث حجة ثَبْت إمام‏.‏
وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ، فإنهم أيضًا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا ‏"‏علم علل الحديث‏"‏،

 

ص -352-

وهو من أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطه فيه عرف؛ إما بسبب ظاهر، كما عرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال‏.‏ وأنه صلى في البيت ركعتين‏.‏ وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حرامًا؛ ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط، وكذلك أنه اعتمر أربع عمر‏.‏ وعلموا أن قول ابن عمر‏:‏ إنه اعتمر في رجب، مما وقع فيه الغلط، وعلموا أنه تمتع وهو آمن في حجة الوداع، وأن قول عثمان لعلي‏:‏ كنا يومئذ خائفين، مما وقع فيه الغلط، وأن ما وقع في بعض طرق البخاري ‏"‏أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ اللّه لها خلقًا آخر‏"‏ مما وقع فيه الغلط وهذا كثير‏.‏
والناس في هذا الباب طرفان‏:‏
طرف من أهل الكلام ونحوهم، ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشك في صحة أحاديث، أو في القطع بها، مع كونها معلومة مقطوعًا بها عند أهل العلم به‏.‏
وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظًا في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثًا بإسناد ظاهره الصحة، يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلاً له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط‏.‏

 

ص -353-

وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب ويقطع بذلك، مثل ما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من أهل البدع والغلو في الفضائل، مثل حديث يوم عاشوراء وأمثاله مما فيه أن من صلى ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبيًا‏.‏
وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة، مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم‏.‏
والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، والواحدي  صاحبه  كان أبصر منه بالعربية، لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف، والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة‏.‏
والموضوعات في كتب التفسير كثيرة، مثل الأحاديث الكثيرة الصريحة في الجهر بالبسملة، وحديث على الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم، ومثل ما روى في قوله‏
:‏‏{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏7‏]‏ أنه علي ‏{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏12‏]‏ أذنك يا علي‏.‏

 

ص -354-

فصل
وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف، وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين  حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؛ فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفًا لا يكاد يوجد فيها شىء من هاتين الجهتين، مثل تفسير عبد الرزاق، ووَكِيع، وعبد بن حُمَيد، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم‏.‏ ومثل تفسير الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وبَقِيّ بن مُخَلَّد، وأبي بكر ابن المنذر، وسفيان بن عيينة، وسُنَيْد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي سعيد الأشج، وأبي عبد اللّه بن ماجه، وابن مردويه‏:‏
إحداهما‏:‏ قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها‏.‏
والثانية‏:‏ قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه والمخاطب به‏.‏
فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان‏.‏

 

ص -355-

والآخرون راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام‏.‏ ثم هؤلاء كثيرًا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين كثيرًا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق‏.‏
والأولون صنفان‏:‏ تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقًا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول‏.‏
وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن، فإنه وقع أيضًا في تفسير الحديث، فالذين أخطؤوا في الدليل والمدلول  مثل طوائف من أهل البدع  اعتقدوا مذهبًا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة، كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم‏.‏ تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن

 

ص -356-

مواضعه، ومن هؤلاء فرق الخوارج، والروافض، والجهمية والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم‏.‏
وهذا كالمعتزلة  مثلا فإنهم من أعظم الناس كلامًا وجدالا، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبم؛ مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، ومثل كتاب أبي علي الجبائي، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجابر بن أحمد الهمداني، ولعلي بن عيسى الرماني، والكشاف لأبي القاسم الزمخشري، فهؤلاء وأمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة‏.‏
وأصول المعتزلة خمسة، يسمونها هم‏:‏التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏
وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك، قالوا‏:‏ إن اللّه لا يرى، وإن القرآن مخلوق، وإنه ليس فوق العالم، وإنه لا يقوم به علم ولا قدرة، ولا حياة ولا سمع، ولا بصر ولا كلام، ولا مشيئة ولا صفة من الصفات‏.‏
وأما عدلهم فمن مضمونه أن اللّه لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها، و لا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم

 

ص -357-

 

ص -358-

كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء اللّه‏.‏ وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك‏.‏
ثم إنه لسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية، ثم الفلاسفة، ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك، وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة، فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه، فتفسير الرافضة كقولهم‏:‏
‏{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏1‏]‏ هما أبو بكر وعمر، و ‏{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏65‏]‏، أي بين أبي بكر وعلى في الخلافة، و ‏{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏67‏]‏ هي عائشة، و‏{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏12‏]‏ طلحة والزبير، و‏{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏19‏]‏ على وفاطمة، و‏{اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏22‏]‏ الحسن والحسين، و‏{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏12‏]‏ فى علي بن أبي طالب، و‏{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏1، 2‏]‏ علي بن أبي طالب، و ‏{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏55‏]‏ هو علي‏.‏ ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم، وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة، وكذلك قوله‏:‏ ‏{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏157‏]‏ نزلت في علي لما أصيب بحمزة‏.‏

 

ص -359-

ومما يقارب هذا من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله‏:‏‏{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏17‏]‏ أن الصابرين رسول اللّه، والصادقين أبو بكر، والقانتين عمر، والمنفقين عثمان، والمستغفرين علي، وفي مثل قوله‏:‏‏{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ أبو بكر ‏{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ‏} عمر‏{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏ عثمان ‏{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏ علي‏.‏
وأعجب من ذلك قول بعضهم
‏{وَالتِّينِ‏}‏ أبو بكر ‏{وَالزَّيْتُونِ‏}‏ عمر ‏{وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ عثمان ‏{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏1-3‏]‏ علي، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال، فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص، وقوله تعالى‏:‏‏{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ كل ذلك نعت للذين معه، وهي التي يسميها النحاة خبرًا بعد خبر‏.‏ و‏"‏المقصود هنا‏"‏ أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه، ولا يجوز أن يكون كل منها مرادًا به شخص واحد، وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرًا في شخص واحد كقوله‏:‏إن قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ أريد بها على وحده، وقول بعضهم‏:‏إن قوله‏:‏ ‏{وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏33‏]‏ أريد بها أبو بكر وحده، وقوله‏:‏ ‏{لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏ أريد بها أبو بكر

 

ص -360-

وحده ونحو ذلك‏.‏
وتفسير ابن عطية  وأمثاله  أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرًا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرًا، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب‏.‏
فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان  صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا‏.‏
وفي الجملة من عَدَل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا، وإن كان مجتهدًا مغفورًا له خطؤه‏.‏ فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب‏.‏

 

ص -361-

ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث اللّه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا‏.‏ ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية، كما هو مبسوط في موضعه‏.‏
والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير، وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه، وفسروا كلام اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أريد به، وتأولوه على غير تأويله، فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق، وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم، وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع، ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه اللّه من الأدلة على بيان الحق‏.‏
وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين، من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره‏.‏
وأما الذين يخطؤون في الدليل لا في المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، يفسرون القرآن بمعان صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق

 

ص -362-

 التفسير، وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة، فإن ذلك يدخل في القسم الأول، وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعًا، حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدًا‏.‏
فصل
فإن قال قائل‏:‏ فما أحسن طرق التفسير‏؟‏
فالجواب‏:‏
إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اخْتُصِر من مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد اللّه محمد بن إدريس الشافعي‏:‏ كل ما حكم به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏105‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏64‏]‏، ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه‏"‏ يعني السنة‏.‏

 

ص -363-

والسنة  أيضًا  تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، لا أنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك‏.‏
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن‏:‏ ‏"‏بم تحكم ‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ بكتاب اللّه‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإن لم تجد ‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ بسنة رسول اللّه‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإن لم تجد‏؟‏
‏"‏قال‏:‏ أجتهد رأيي‏.‏ قال‏:‏ فضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال‏:‏‏"‏الحمد لله الذي وفق رسولَ رَسُولِ اللّه لما يرضى رسولَ اللّه‏"‏، وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد‏.‏
وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين؛ مثل عبد اللّه بن مسعود‏.‏ قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، قال‏:‏ أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق؛ قال‏:‏ قال عبد اللّه  يعني ابن مسعود‏:‏ والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب اللّه إلا وأنا أعلم

 

ص -364-

 يمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلمُ مكان أحد أعلمَ بكتاب اللّه مني تناوله المطايا لأتيته‏.‏ وقال الأعمش أيضًا عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال‏:‏ كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن‏.‏
ومنهم الحبر البحر عبد اللّه بن عباس، ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم له حيث قال‏
:‏‏"‏اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏"‏، وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وَكِيع، أنبأنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق؛ قال‏:‏ قال عبد اللّه  يعني ابن مسعود ‏:‏ نعم ترجمان القرآن ابن عباس‏.‏ ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صَبِيح أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود؛ أنه قال‏:‏ نعم الترجمان للقرآن ابن عباس‏.‏ ثم رواه عن بُنْدَار، عن جعفر بن عون، عن الأعمش به كذلك‏.‏ فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة‏.‏ وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعَمَّرَ بعده ابن عباس ستًا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود‏؟‏ وقال الأعمش عن أبي وائل‏:‏ استخلف عليٌّ عبدَ اللّه بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة  وفي

 

ص -365-

رواية‏:‏ سورة النور ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا‏.‏
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين؛ ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، حيث قال‏:‏‏"‏بَلِّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كَذَب علىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار‏"‏ رواه البخاري عن عبد اللّه بن عمرو؛ ولهذا كان عبد اللّه بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام‏:‏
أحدها‏:‏ ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح‏.‏
والثاني‏:‏ ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه‏.‏
والثالث‏:‏ ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته؛ لما تقدم‏.‏

 

ص -366-

وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا‏.‏ ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسي من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها اللّه لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم اللّه منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه اللّه في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى‏:‏‏{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏22‏]‏‏.‏
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا؛ فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا‏:‏
‏{قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم‏}‏ فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه اللّه عليه؛ فلهذا قال‏:‏ ‏{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا‏}‏ أي‏:‏ لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك؛ فإنهم

 

ص -367-

لا يعلمون من ذلك إلا رجْم الغيب‏.‏
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف؛ أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم‏.‏ فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضًا‏.‏ فإن صحح غير الصحيح عامدًا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالاً متعددة لفظًا، و يرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبي زور‏.‏ واللّه الموفق للصواب‏.‏
فصل
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر؛ فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق‏:‏حدثنا

 

ص -368-

أبان بن صالح، عن مجاهد قال‏:‏ عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها‏.‏ وبه إلى الترمذي، قال‏:‏ حدثنا الحسين بن مهدي البصري، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال‏:‏ مافي القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا‏.‏ وبه إليه قال‏:‏ حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش؛ قال‏:‏ قال مجاهد‏:‏ لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحْتَجْ أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب قال‏:‏ حدثنا طَلْق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مُلَيْكة؛ قال‏:‏ رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال‏:‏ فيقول له ابن عباس‏:‏ اكتب، حتى سأله عن التفسير كله؛ ولهذا كان سفيان الثوري يقول‏:‏ إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به‏.‏
وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة  مولي ابن عباس  وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المُسَيَّب، وأبى العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافًا، فيحكيها أقوالا وليس كذلك‏.‏فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من

 

ص -369-

ينص على الشىء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، واللّه الهادي‏.‏
وقال شعبة بن الحجاج وغيره‏:‏ أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير‏؟‏ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشىء فلا يرتاب في كونه حجة؛ فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك‏.‏
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام‏.‏حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار‏"‏‏.‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار‏"‏‏.‏ وبه إلى الترمذي قال‏:‏ حدثنا عبد بن حميد، حدثني حبان بن هلال، قال‏:‏ حدثنا سهيل  أخو حزم القطعي  قال‏:‏ حدثنا أبو عمران الجَوْنِي، عن جُنْدُب، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ‏"‏، قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب، وقد

 

ص -370-

تكلم بعض أهل الحديث في سهيل ابن أبي حزم‏.‏
وهكذا روى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم‏.‏ وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم‏:‏ أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم‏.‏ وقد روى عنهم ما يدل على ما قلنا، أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم‏.‏ فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به‏.‏ فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ، واللّه أعلم‏.‏ وهكذا سمى اللّه تعالى القَذَفَة كاذبين، فقال‏:‏‏
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏13‏]‏ فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به، واللّه أعلم‏.‏
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد اللّه بن مُرَّة، عن أبي مَعْمَر، قال‏:‏ قال أبو بكر الصديق‏:‏ أي أرض تُقلّني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب اللّه ما لم أعلم‏؟‏‏!‏‏.‏ وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام‏:‏ حدثنا محمود بن يزيد،

 

ص -371-

عن العَوَّام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي؛ أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله‏:‏‏{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏31‏]‏ فقال‏:‏ أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم‏؟‏  منقطع  وقال أبو عبيد أيضًا‏:‏ حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس؛ أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر‏:‏‏{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ فقال‏:‏هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبُّ‏؟‏ ثم رجع إلى نفسه فقال‏:‏إن هذا لهو التكلف يا عمر‏.‏ وقال عبد بن حميد‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، قال‏:‏حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس؛ قال‏:‏ كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ‏:‏‏{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ فقال‏:‏ ما الأب‏؟‏ ثم قال‏:‏ إن هذا لهو التكلف، فما عليك ألا تدريه‏.‏
وهذا كله محمول على أنهما  رضي اللّه عنهما  إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتًا من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏27  30‏]‏‏.‏
وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال‏:‏ حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها‏.‏ إسناده صحيح‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكة؛ قال‏:‏ سأل رجل ابن عباس عن‏:‏ ‏{
فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏5‏]‏ فقال

 

ص -372-

له ابن عباس فما‏:‏ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏ فقال الرجل‏:‏ إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس‏:‏ هما يومان ذكرهما اللّه في كتابه، اللّه أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب اللّه ما لا يعلم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏حدثني يعقوب يعني ابن إبراهيم  حدثنا ابن علية، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال‏:‏ جاء طَلْق بن حبيب إلى جُنْدُب بن عبد اللّه، فسأله عن آية من القرآن، فقال‏:‏ أحَرّج عليك إن كنت مُسْلِمًا لما قمتَ عني، أو قال‏:‏ أن تجالسني‏.‏ وقال مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيَّب؛ أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال‏:‏ إنا لا نقول في القرآن شيئًا‏.‏
وقال الليث عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن‏.‏ وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال‏:‏ سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال‏:‏لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء  يعني عكرمة‏.‏ وقال ابن شوْذَب‏:‏ حدثني يزيد بن أبي يزيد قال‏:‏ كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع‏.‏
وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن عَبْدَة الضَّبِيّ، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد اللّه بن عمر؛ قال‏:‏ لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم

 

ص -373-

ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد اللّه، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ حدثنا عبد اللّه بن صالح عن الليث عن هشام بن عُرْوَة قال‏:‏ ما سمعت أبي تأوَّل آية من كتاب الله قط‏.‏ وقال أيوب وابن عَوْن وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال‏:‏ سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن، فقال‏:‏ ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق اللّّه وعليك بالسداد‏.‏
وقال أبو عبيد‏:‏ حدثنا معاذ، عن ابن عون، عن عبيد اللّه بن مسلم بن يسار، عن أبيه؛ قال‏:‏ إذا حدثت عن اللّه فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده‏.‏ حدثنا هُشَيْم، عن مغيرة، عن إبراهيم؛ قال‏:‏ كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه‏.‏ وقال شعبة عن عبد اللّه ابن أبي السَّفْر؛ قال‏:‏ قال الشعبي‏:‏ واللّه ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن اللّه‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن مسروق؛ قال‏:‏ اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله‏.‏
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به‏.‏ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا فلا حرج عليه؛ ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما

 

ص -374-

لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏187‏]‏، ولما جاء في الحديث المروي من طرق‏:‏ ‏"‏من سئل عن علم فكَتَمَه أَُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار‏"‏‏.‏
وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشَّار، حدثنَا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان عن أبي الزِّنَاد، قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ التفسير على أربعة أوجه‏:‏ وجه تعرفه العرب من كلامها‏.‏ وتفسير لا يعذر أحد بجهالته‏.‏ وتفسير يعلمه العلماء‏.‏ وتفسير لا يعلمه إلا اللّه، واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.

 

ص -375-

وقال شيخ الإسلام  رَحِمَهُ اللَّه‏:‏
فَصْل فصل القرآن هو الهدى والشفاء والنور وأحسن القصص وهو الصراط المستقيم
لما بعث اللّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بكتابه الذي هو الهدى والشفاء والنور، وجعله أحسن الحديث، وأحسن القصص، وجعله الصراط المستقيم لأهل العقل والتدبر، ولأهل التلاوة والذكر، ولأهل الاستماع والحال؛ فالمعتصمون به علمًا وحالا وتلاوة وسمعًا باطنًا وظاهرًا هم المسلمون حقًا، خاصة أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم لما انحرف من انحرف من أهل الكلام والحروف إلى كلام غيره، ومن أهل السماع والصوت إلى سماع غيره‏.‏ كان الانحراف في أربع طوائف متجانسة‏:‏
قوم تركوا التعلم منه والنظر فيه والتدبر له إلى كلام غيره، من كلام الصابئة أو اليهود، أو ما هو مُوَلَّد من ذلك أو مجانس له أو نحو ذلك، وهم منحرفة المتكلمة‏.‏
وبإزائهم ‏[‏في المطبوعة‏:‏ بآرائهم  والصواب ما أثبتناه‏]‏ قوم أقاموا حروفه وحفظوه وتلوه من غير فقه فيه، ولا

 

ص -376-

 فهم لمعانيه، ولا معرفة للمقالات التي توافقه أو تخالفه، ووجه بيانه لمسائلها ودلائلها، وهم ظاهرية القراء والمحدثين ونحوهم‏.‏ وهذان الصنفان نظير متفقه لا يعرف الحديث، أو صاحب حديث لا يتفقه فيه‏.‏ وكذلك متكلم لا يتدبر القرآن أو قارئ لا يعرف من القرآن أنواع الكلام الحق والباطل، فهاتان فرقتان علميتان‏.‏
والثالثة‏:‏ قوم تركوا استماع القلوب له والتنعم به، وتحرك القلب عن محركاته وذوق حلاوته، ووجود طعمه إلى سماع أصوات تغيره من شعر أو ملاهٍ، من أصوات الصابئة أو النصارى، أو ما هو مولد عن ذلك ومجانس له، أو نحو ذلك، وهم منحرفة المتصوفة والمتفقرة‏.‏
وبإزائهم قوم يصوتون به، ويسمعون قراءته من غير تحرك عنه، ولا وجْد فيه، ولا ذوق لحقائقه ومعانيه، وهم ظاهرية العباد والمتطوعة والمتقرئة، فهذان الصنفان صاحب حال تحرك الأصوات حاله، وليست تلك الحركة والحال عن الصوت بالقرآن، وصاحب مقال يميز بين الأقوال وينظر فيها وليس ذلك النظر والمقال عن القرآن، وبإزائهما صاحب عبادة ظاهرة معه استماع ظاهر القرآن وتلاوته، وصاحب علم ظاهر معه حفظ حروف القرآن أو تفسير حروفه من غريبه وإعرابه، وأسباب نزوله ونحو ذلك‏.‏
فهذه الأقسام الأربعة الذين وقفوا مع ظاهر العلم والعمل المشروعين، والذين خاضوا في باطن العلم

 

ص -377-

 والعمل، لكن غير المشروعين جاء التفريط والاعتداء منهم‏.‏
ولهذا وقع بينهم التعادي؛ فالأولون يرمون الآخرين بالبدعة والضلالة، وقد صدقوا‏.‏ والآخرون ينسبون الأولين إلى الجهالة والعجز، وقد صدقوا‏.‏ ثم قد يكون مع بعض الأولين كثير من العلم والعمل المشروع، كما قد يكون مع بعض الآخرين كثير من العلم الباطن والحال الكامن، كما قد روى الحسن البصري  في مراسيله  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏العلم علمان‏:‏ علم في القلب، وعلم في اللسان‏.‏ فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة اللّه على عباده‏"‏‏.‏ وقال يحيى بن سعيد التيمي أبو حيان  فيما رواه الخلال في جامعه عن الثوري‏:‏ العلماء ثلاثة‏:‏ فعالم باللّه ليس عالمًا بأمر اللّه، وعالم بأمر الله ليس عالمًا باللّه، وعالم باللّه وبأمر الله‏.‏

 

ص -378-

وَقَالَ شَيخ الإسلام  قدسَ اللّهُ رُوحه ‏:‏
فَصْل

وأما سؤاله عن‏:‏ ‏[‏إجراء القرآن على ظاهره‏]‏ فإنه إذا آمن بما وصف اللّه به نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين‏.‏
ولفظ ‏[‏الظاهر‏]‏ في عرف المتأخرين قد صار فيه اشتراك، فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو من خصائص المخلوقين حتى يُشَبّّه اللّه بخلقه فهذا ضال، بل يجب القطع بأن اللّه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله‏.‏ فقد قال ابن عباس‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، يعني‏:‏ أن موعود اللّه في الجنة من الذهب، والحرير، والخمر، واللبن، تخالف حقائقه حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا؛ فاللّه تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا يدركه العباد،

 

ص -379-

ليست حقيقته كحقيقة شيء منها‏.‏
وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة، لا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يُلْحِد في أسماء اللّه تعالى، ولا يقرأ القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة، بل يجرى ذلك على ما اقتضته النصوص، وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة  فهذا مصيب في ذلك وهو الحق‏.‏
وهذه جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها، والله أعلم‏.‏

 

ص -380-

 وَسُئِلَ  رحمه اللَّه  عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار‏"‏ فاختلاف المفسرين في آية واحدة إن كان بالرأي فكيف النجاة‏؟‏ وإن لم يكن بالرأي فكيف وقع الاختلاف، والحق لا يكون في طرفي نقيض‏؟‏ أفتونا‏.‏
فأجاب  رحمه اللّه تعالى‏:‏
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ ليس فيه تضاد وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقًا، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات، وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب؛ فإن اللّه  سبحانه  إذا ذكر في القرآن اسمًا مثل قوله‏:‏
‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6‏]‏ فكل من المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق، بمنزلة ما يسمى اللّه ورسوله وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته، فيقول بعضهم‏:‏‏{الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ كتاب اللّه أو اتباع كتاب اللّه،

 

ص -381-

ويقول الآخر‏:‏‏{الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ هو الإسلام أو دين الإسلام، ويقول الآخر‏:‏ ‏{الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ هو السنة والجماعة، ويقول الآخر‏:‏ ‏{الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ طريق العبودية، أو طريق الخوف والرجا والحب، وامتثال المأمور واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة، أو العمل بطاعة اللّه أو نحو هذه الأسماء والعبارات‏.‏
ومعلوم أن المسمى هو واحد وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته، كما إذا قيل‏:‏محمد هو أحمد، وهو الحاشر، وهو الماحي، وهو العاقب، و هو خاتم المرسلين، وهو نبي الرحمة، وهو نبي الملحمة‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏القرآن هو الفرقان، والنور، والشفاء، والذكر الحكيم، والكتاب الذي أحكمت آياته ثم فُصِّلَت‏.‏
وكذلك أسماء اللّه
الحسنى‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم‏}‏‏[‏الحديد‏:‏3‏]‏ وهو ‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏2  5‏]‏، ‏{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏22، 23‏]‏ ‏{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ‏}‏‏[‏الحشر‏:‏24‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏

 

ص -382-

فهو سبحانه  واحد صَمَد، وأسماؤه الحسنى تدل كلها على ذاته ويدل هذا من صفاته على ما لا يدل عليه الآخر، فهي متفقة في الدلالة على الذات متنوعة في الدلالة على الصفات؛ فالاسم يدل على الذات والصفة المعينة بالمطابقة، ويدل على أحدهما بطريق التضَمُّن، وكل اسم يدل على الصفة التي دل عليها بالالتزام؛ لأنه يدل على الذات المتكنى به جميع الصفات، فكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه‏.‏
ومنه قسم آخر، وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التعيين والتمثيل، لا على سبيل الحد والحصر؛ مثل أن يقول قائل من العَجَم‏:‏ ما معنى الخبز‏؟‏ فيشار له إلى رغيف، وليس المقصود مجرد عينه وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص‏.‏
وهذا كما إذا سئلوا عن قوله‏:‏
‏{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏32‏]‏ أو عن قوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏128‏]‏ أو عن ‏[‏الصالحين‏]‏ أو ‏[‏الظالمين‏]‏ ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة، التي قد يتعسر أو يتعذر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه؛ إذ لا يكون محتاجًا إلى ذلك، فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه، وقد يستدل به على نظائره‏.‏
فإن الظالم لنفسه‏:‏ هو تارك المأمور فاعل المحظور‏.‏ والمقتصد‏:‏

 

ص -383-

هو فاعل الواجب وتارك المحرم‏.‏ والسابق‏:‏ هو فاعل الواجب والمستحب، وتارك المحرم والمكروه‏.‏
فيقول المجيب بحسب حاجة السائل‏:‏ الظالم‏:‏ الذي يفوت الصلاة والذي لا يُسبِغُ الوضوء، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك‏.‏ والمقتصد‏:‏ الذي يصلي في الوقت كما أمر‏.‏ والسابق بالخيرات‏:‏ الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها، ويأتي بالنوافل المستحبة معها، وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة، والصوم، والحج، وسائر الواجبات‏.‏
وقد روى عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما  أنه قال‏:‏ التفسير على أربعة أوجه‏:‏ تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه، فمن ادَّعى علمه فهو كاذب‏.‏
والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه، كما أخذوا عنه السُّنَّة، وإن كان من الناس من غيََّر السنة فمن الناس من غَيَّر بعض معاني القرآن؛ إذ لم يتمكن من تغيير لفظه‏.‏
وأيضًا، فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن، كما خفى عليه بعض السنة؛ فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب، واللّه أعلم‏.‏

 

ص -384-

سُئِلَ شيخ الإسلام عن جندي نسخ بيده صحيح مسلم والبخاري والقرآن، وهو ناو كتابة الحديث والقرآن العظيم، وإن سمع بورق أو أقلام اشترى بألف درهم، وقال‏:‏ أنا إن شاء اللّه أكتب في جميع هذا الورق أحاديث الرسول والقرآن، ويؤمل آمالاً بعيدة، فهل يأثم أو لا‏؟‏ وأي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة ‏؟‏ الزمخشري‏؟‏ أم القرطبي‏؟‏ أم البغوي‏؟‏ أو غير هؤلاء‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه، ليس عليه إثم فيما ينويه ويفعله من كتابة العلوم الشرعية‏.‏ فإن كتابة القرآن والأحاديث الصحيحة والتفاسير الموجودة الثابتة من أعظم القربات والطاعات‏.‏
وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ووكيع وابن أبي شيبة ‏[‏فى المطبوعة‏:‏ قتيبة‏]‏، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه‏.‏

 

ص -385-

وأما التفاسير الثلاثة المسؤول عنها، فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة ‏[‏البغوي‏]‏ لكنه مختصر من ‏[‏تفسير الثعلبي‏]‏ وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك‏.‏
وأما الواحدي، فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليدًا لغيره، وتفسيره وتفسير الواحدي ‏[‏البسيط والوسيط والوجيز‏]‏ فيها فوائد جليلة وفيها غَثٌّ كثير من المنقولات الباطلة وغيرها‏.‏
وأما الزمخشري، فتفسيره مَحْشُوّ بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بِخلْق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة‏.‏
وأصولهم خمسة، يسمونها‏:‏ التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏  لكن معنى التوحيد عندهم‏:‏ يتضمن نفي الصفات؛ ولهذا سمي ابن التومرت ‏[‏هو أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن تومرت، الفقيه الأصولي الزاهد، كان لهجا بعلم الكلام، وألف عقيدة لقبها بالمرشدة، وكان فيه تشيع، أخذ عن أبي حامد الغزالي‏]‏ أصحابه الموحدين، وهذا إنما هو إلحاد في أسماء اللّه وآياته‏.‏

 

ص -386-

ومعنى العدل عندهم‏:‏ يتضمن التكذيب بالقَدَر، وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على شىء‏.‏ ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب، لكن هذا قول أئمتهم، وهؤلاء منصب الزمخشري، فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي وأبي هاشم وأتباعهم‏.‏ ومذهب أبي الحسين والمعتزلة الذين على طريقته نوعان‏:‏ مسايخية وخشبية‏.‏
وأما المنزلة بين المنزلتين فهي عندهم‏:‏ أن الفاسق لا يسمى مؤمنًا بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافرًا، فنزلوه بين منزلتين‏.‏
وإنفاذ الوعيد عندهم معناه‏:‏ أن فُسَّاقَ الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك، كما تقوله الخوارج‏.‏
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضمن عندهم‏:‏ جواز الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف‏.‏ وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدى أكثر الناس إليها، ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين‏.‏
و‏[‏تفسير القرطبي‏]‏ خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدع، وإن كان كل من هذه الكتب لابد أن يشتمل على ما ينقد، لكن يجب العدل بينها،

 

ص -387-

وإعطاء كل ذي حق حقه‏.‏
و‏[‏تفسير ابن عطية‏]‏ خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلا وبحثًا، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها‏.‏
وثمَّ تفاسير أخر كثيرة جدًا، كتفسير ابن الجوزي والماوردي‏.‏

 

ص -388-

سُئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنزل القرآن على سبعة أحرف‏"‏ ما المراد بهذه السبعة ‏؟‏ وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة، أو واحد منها‏؟‏ وما السببب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف‏؟‏ وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن مُحيْصِن وغيرهما من القراءات الشاذة أم لا‏؟‏ وإذا جازت القراءة بها فهل تجوز الصلاة بها أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه رب العالمين‏.‏ هذه مسألة كبيرة، قد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم، حتى صنف فيها التصنيف المفرد، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي، المعروف بابن أبي شامة، صاحب ‏[‏شرح الشاطبية‏]‏‏.‏

 

ص -389-

فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا، فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وذكر ألفاظها، وسائر الأدلة، إلى ما لا يتسع له هذا المكان، ولا يليق بمثل هذا الجواب، ولكن نذكر النكت الجامعة، التي تنبه على المقصود بالجواب‏.‏
فنقول‏:‏ لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن ‏[‏الأحرف السبعة‏]‏ التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أُنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراقين والشام؛ إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها عِلْم النبوة من القرآن وتفسيره، والحديث والفقه من الأعمال الباطنة والظاهرة، وسائر العلوم الدينية، فلما أراد ذلك جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار؛ ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم‏.‏
ولهذا قال من قال من أئمة القراء‏:‏ لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المائتين‏.‏

 

ص -390-

ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقًا أو متقاربًا، كما قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ إنما هو كقول أحدكم‏:‏ أقبِل، وَهَلُمَّ، وَتَعَال‏.‏
وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض، وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديث‏:‏
‏"‏أنزل القرآن على سبعة أحرف، إن قلت‏:‏ غفورًا رحيمًا، أو قلت‏:‏ عزيزًا حكيمًا فاللّه كذلك، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة‏"‏‏.‏ وهذا كما في القراءات المشهورة ‏[‏ربنا بَاعَد‏]‏ و‏{بَاعِدْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏19‏]‏، ‏{إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏229‏]‏ و‏"‏إلا أن يُخافا ألا يقيما‏"‏، ‏{وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏}‏  و‏[‏ليزول‏]‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏46‏]‏، و ‏{بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ و ‏"‏بل عجبتُ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏12‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
ومن القراءات ما يكون المعنى فيها متفقًا من وجه متباينا من وجه، كقوله‏:‏
‏{يخدعون‏}‏ و‏{يُخَادِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏9‏]‏ و‏"‏يكذبون‏"‏ و‏{يكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏11‏]‏ و‏"‏لَمَسْتُم‏"‏ و‏{لامستم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏43، المائدة‏:‏60‏]‏ و‏{حَتَّىَ يَطْهُرْنَ‏}‏ و ‏"‏يطَّهَّرن‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ ونحو ذلك فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملاً، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى؛ ظنًا أن ذلك

 

ص -391-

تعارض، بل كما قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه‏:‏ من كفر بحرف منه فقد كفر به كله‏.‏
وأما ما اتحد لفظه ومعناه وإنما يتنوع صفة النطق به كالهمزات، والمدات، والإمالات، ونقل الحركات، والإظهار، والإدغام، والاختلاس، وترقيق اللامات والراآت، أو تغليظها ونحو ذلك مما يسمى القراءات الأصول فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى؛ إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا، ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه؛ ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها من أولى ما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى، وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النقط أو الشكل‏.‏
ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعين من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي، فله أن يقرأ

 

ص -392-

بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف، بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم، يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم على قراء حمزة والكسائي‏.‏
وللعلماء الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء؛ ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة، يجمعون ذلك في الكتب، ويقرؤونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم‏.‏
وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة، وجرت له قصة مشهورة، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف، كما سنبينه‏.‏
ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده، كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره، ولم يتصل به بعض هذه القراءات، فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه؛ فإن

 

ص -393-

القراءة - كما قال زيد بن ثابت- سنة يأخذها الآخر عن الأول، كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك كله حسن يشرع العمل به لمن علمه، وأما من علم نوعًا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلمه، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك، ولا أن يخالفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا‏"‏‏.‏
وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود، وأبي الدرداء  رضي اللّه عنهما ‏:‏ ‏"‏والليل إذا يغشى‏.‏ والنهار إذا تجلى‏.‏ والذكر والأنثى‏"‏ كما قد ثبت ذلك في الصحيحين، ومثل قراءة عبد اللّه‏:‏‏"‏فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏"‏ وكقراءته‏:‏‏"‏إن كانت إلاَّ زَقْيَة ‏[‏أي‏:‏ صيحة‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ زقا‏]‏ واحدة‏"‏ ونحو ذلك - فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة ‏؟‏ على قولين للعلماء، هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد، وروايتان عن مالك‏.‏
إحداهما‏:‏ يجوز ذلك؛لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرؤون بهذه الحروف في الصلاة‏.‏
والثانية‏:‏ لا يجوز ذلك، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه

 

ص -394-

القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس  رضي اللّه عنهم  أن جبريل  عليه السلام  كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين‏.‏ والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف، أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة على وغيره‏.‏
وهذا النزاع لابد أن يبني على الأصل الذي سأل عنه السائل، وهو أن القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا‏؟‏ فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة، بل يقولون‏:‏ إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول‏.‏ وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام،

 

ص -395-

كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره؛ بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شىء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها، ثم أرسل عثمان بمشاورة الصحابة إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف وأمر بترك ما سوى ذلك‏.‏
قال هؤلاء‏:‏ ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة، ومن نصر قول الأولين يجيب تارة  بما ذكر محمد بن جرير وغيره  من أن القراءة على الأحرف السبعة، لم يكن واجبًا على الأمة، وإنما كان جائزًا لهم مرخصًا لهم فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا بل مفوضًا إلى اجتهادهم؛ ولهذا كان ترتيب مصحف عبد اللّه على غير ترتيب مصحف زيد وكذلك مصحف غيره‏.‏
وأما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم، كما قدموا سورة على سورة؛ لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًا، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم‏.‏ قالوا‏:‏ فكذلك الأحرف السبعة، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك

 

ص -396-

اجتماعًا سائغًا، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور‏.‏
ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام؛ لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرًا عليهم، وهو أرفق بهم، أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون‏:‏ إنه نسخ ما سوي ذلك‏.‏
وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول‏:‏إن حروف أبي بن كعب، وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف - منسوخة‏.‏
وأما من قال عن ابن مسعود‏:‏ إنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال‏:‏ قد نظرت إلى القراء، فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم‏:‏ أقْبِلْ، وهَلُم َّ، وتَعَالَ، فاقرؤوا كما علمتم، أو كما قال‏.‏
ثم من جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال‏:‏ يجوز ذلك؛ لأنه من الحروف السبعة، التي أنزل القرآن عليها، ومن لم يجوزه فله ثلاثة مآخذ‏:‏ تارة يقول‏:‏ ليس هو من الحروف

 

ص -397-

السبعة، وتارة يقول‏:‏ هو من الحروف المنسوخة، وتارة يقول‏:‏ هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه، وتارة يقول‏:‏ لم ينقل إلينا نقلاً يثبت بمثله القرآن‏.‏ وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين‏.‏
ولهذا كان في المسألة قول ثالث، وهو اختيار جدي أبي البركات أنه إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة  وهي الفاتحة عند القدرة عليها  لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة لعدم ثبوت القرآن بذلك، وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته؛ لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها‏.‏ وهذا القول ينبني على أصل، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة، فهل يجب القطع بكونه ليس منها ‏؟‏ فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيًا‏.‏
وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه، حتى قطع بعض هؤلاء  كالقاضي أبي بكر  بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة آية من القرآن في غير سورة النمل؛ لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه، والصواب

 

ص -398-

القطع بخطأ هؤلاء، وأن البسملة آية من كتاب اللّه، حيث كتبها الصحابة في المصحف؛ إذ لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه عما ليس منه، كالتخميس والتعشير وأسماء السور، ولكن مع ذلك لا يقال‏:‏ هي من السورة التي بعدها، كما أنها ليست من السورة التي قبلها، بل هي كما كتبت آية أنزلها اللّه في أول كل سورة، وإن لم تكن من السورة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة‏.‏
وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات، فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت، بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء‏:‏ إن كل واحد من القولين حق، وأنها آية من القرآن في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين، وليست آية في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها بين السورتين‏.‏
وأما قول السائل‏:‏ ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف ‏؟‏ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية، لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله، إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه، بل القراءة سنة متبعة، وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي، وقد قرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء، لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف‏.‏

 

ص -399-

ومما يوضح ذلك‏:‏ أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء، ويتنوعون في بعض، كما اتفقوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏74‏]‏ في موضع وتنوعوا في موضعين، وقد بينا أن القراءتين كالآيتين، فزيادة القراءات كزيادة الآيات، لكن إذا كان الخط واحدًا واللفظ محتملاً كان ذلك أخصر في الرسم‏.‏
والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
"‏إن ربي قال لي أن قم في قريش فأنذرهم‏.‏فقلت‏:‏ أي رب، إذًا يثلغوا رأسي  أي يشدخوا  فقال‏:‏ إني مبتليك ومُبْتَلٍ بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظَانًا، فابعث جندًا أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك‏"‏ فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في نعت أمته‏:‏‏"‏أناجيلهم في صدورهم‏"‏ بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلب‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة، كالأربعة الذين من الأنصار، وكعبد اللّه بن عمرو، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع

 

ص -400-

 

وعاصم ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف‏.‏
وكذلك ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراء  كالأعمش ويعقوب، وخَلف، وأبي جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة بن نصاح ونحوهم  هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من ثبت ذلك عنده، كما ثبت ذلك‏.‏
وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام الذي أجمع عليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والتابعون لهم بإحسان، والأمة بعدهم، هل هو بما فيه من القراءات السبعة، وتمام العشرة، وغير ذلك‏؟‏ هل هو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها‏؟‏ أو هو مجموع الأحرف السبعة‏؟‏ على قولين مشهورين‏.‏ والأول قول أئمة السلف والعلماء، والثاني قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم، وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافًا يتضاد فيه المعنى ويتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، كما تصدق الآيات بعضها بعضًا‏.‏

 

ص -401-

وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم؛ إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع، لا إلى الرأي والابتداع‏.‏
أما إذا قيل‏:‏ إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل‏:‏ إن ذلك حرف من الأحرف السبعة؛ فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرؤوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم؛ فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أوْلَى وأحْرَى، وهذا من أسباب تركهم المصاحف أول ما كتبت غير مشكولة ولا منقوطة؛ لتكون صورة الرسم محتملة للأمرين، كالتاء والياء، والفتح والضم، وهم يضبطون باللفظ كلا الأمرين، ويكون دلالة الخط الواحد عل كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيها بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين؛ فإن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تلقوا عنه ما أمره اللّه بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي  وهو الذي روى عن عثمان، رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
:‏‏"‏خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه‏"‏ كما رواه البخاري في صحيحه، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة  قال‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرئوننا عثمان بن عفان وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما‏:‏ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى

 

ص -402-

يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا‏.‏
ولهذا دخل في معنى قوله‏:‏ ‏"‏خيركم من تعلم القرآن وعلمه‏"‏ تعليم حروفه ومعانيه جميعًا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان، كما قال جُنْدُب بن عبد اللّه وعبد الله بن عمر وغيرهما‏:‏ تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان‏.‏
وفي الصحيحين عن حذيفة قال‏:‏ حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا‏:‏ أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال، ونزل القرآن ‏[‏وقوله‏:‏ جَذْر  أي أصل‏]‏‏.‏ وذكر الحديث بطوله، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك، وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الناس‏.‏
وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن، حروفه ومعانيه، وذلك مما أوحاه اللّه إليه، كما قال تعالى‏:
‏ ‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏52‏]‏ وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف، كما ثبتت هذه القراءات، وليست شاذة حينئذ، واللّه أعلم‏.

 

ص -403-

سُئِلَ أيضا‏:‏ عن ‏[‏جمع القراءات السبع‏]‏ هل هو سنة أم بدعة ‏؟‏ وهل جمعت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أم لا ‏؟‏ وهل لجامعها مزية ثواب على من قرأ برواية أم لا‏؟‏
فأجَاب‏:‏
الحمد للّه‏.‏ أما نفس معرفة القراءة وحفظها فسنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول، فمعرفة القراءة ‏[‏في المطبوعة‏:‏القرآن والصواب ما أثبتناه‏]‏ التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، أو يقرهم على القراءة بها، أو يأذن لهم وقد أقروا بها سنة‏.‏
والعارف في القراءات الحافظ لها له مزية على من لم يعرف ذلك ولا يعرف إلا قراءة واحدة‏.‏
وأما جمعها في الصلاة أو في التلاوة فهو بدعة مكروهة، وأما جمعها لأجل الحفظ والدرس فهو من الاجتهاد الذي فعله طوائف في القراءة، وأما الصحابة‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏ بياض بالأصل‏]‏‏.‏

 

ص -404-

وقال شيخ الإسلام‏:‏
فَصْل في ‏[‏تحزيب القرآن‏]‏ وفي ‏[‏كم يقرأ‏]‏ وفي ‏[‏مقدار الصيام والقيام المشروع‏]‏‏.‏
عن عبد اللّه بن عمرو  رضي اللّه عنهما  قال‏:‏ أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد ابنته فيسألها عن بعلها فتقول‏:‏ نعم الرجل لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كَنَفًا مذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ألْقِنى به‏"‏، فلقيته بعد، فقال‏:‏ ‏"‏كيف تصوم‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ كل يوم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏متى  أو كيف  تختم‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ كل ليلة‏.‏ قال‏:‏‏"‏صم من كل شهر ثلاثة أيام، واقرأ القرآن في كل شهر‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ إني أطيق أكثر من ذلك‏.‏ قال‏:‏‏"‏صم ثلاثة أيام من كل جمعة‏"‏‏.‏قلت‏:‏ إني أطيق أكثر من ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أفطر يومين وصم يومًا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ إني أطيق أكثر من ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ القرآن في كل سبع ليال مرة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فليتني قبلت رخصة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أني كبرت وضعفت ‏[‏وقوله‏:‏كَنَفًا  أي جانبا، تعني أنه لم يقربها‏]‏، فكان يقرأ على

 

ص -405-

بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل؛ فإذا أراد أن يتقوى أفطر أيامًا وأحصى وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئًا فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ في ثلاث وفي خمس، وأكثرهم على سبع‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏
"‏اقرأ القرآن في شهر‏"‏، قلت‏:‏ إني أجد قوة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك‏"‏ رواه بكماله البخاري وهذا لفظه، وروى مسلم الحديث بنحوه واللفظ الآخر مثله‏.‏ وفي رواية‏:‏‏"‏ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة‏؟‏‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ نعم يانبي اللّه‏.‏ وفيه قال‏:‏ ‏"‏اقرأ القرآن في كل شهر‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قلت يانبي اللّه، إني أطيق أفضل من ذلك‏.‏ قال‏:‏‏"‏فاقرأه في كل عشر‏"‏‏.‏ قال‏:‏قلت‏:‏ يانبي اللّه، إني أطيق أفضل من ذلك‏.‏ قال‏:‏‏"‏فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فشدّدتُ فشُدِّدَ علي ّ‏.‏ وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنك لا تدري، لعلك يطول بك عمرك ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فصرت إلى الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعن عبد اللّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اقرأ القرآن في كل ثلاث‏"‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏
قلت‏:‏ هذه الرواية نبه عليها البخاري‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ في ثلاث، وهو معني ما روى عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال‏:‏ يا رسول اللّه، أقرأ القرآن في ثلاث‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ وكان يقرؤه حتى توفى،

 

ص -406-

رواه أحمد من طريق ابن لَهِيعة‏.‏ وذكر أن بعضهم قال‏:‏ في خمس وأكثرهم على سبع، فالصحيح عندهم في حديث عبد اللّه بن عمرو أنه انتهى به النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبع، كما أنه أمره ابتداء بقراءته في الشهر‏.‏ فجعل الحد ما بين الشهر إلى الأسبوع، وقد روى أنه أمره ابتداء أن يقرأه في أربعين، وهذا في طرف السعة يناظر التثليث في طرف الاجتهاد‏.‏
وأما رواية من روى‏:‏‏"‏من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه‏"‏ فلا تنافى رواية التسبيع؛ فإن هذا ليس أمرًا لعبد اللّه بن عمرو، ولا فيه أنه جعل قراءته في ثلاث دائمًا سنة مشروعة، وإنما فيه الإخبار بأن من قرأه في أقل من ثلاث لم يفقه، ومفهومه مفهوم العدد، وهو مفهوم صحيح أن من قرأه في ثلاث فصاعدًا فحكمه نقيض ذلك، والتناقض يكون بالمخالفة، ولو من بعض الوجوه‏.‏
فإذا كان من يقرؤه في ثلاث أحيانًا قد يفقهه حصل مقصود الحديث، ولا يلزم إذا شرع فعل ذلك أحيانًا لبعض الناس أن تكون المداومة على ذلك مستحبة؛ ولهذا لم يعلم في الصحابة على عهده من داوم على ذلك أعنى على قراءته دائمًا فيما دون السبع؛ ولهذا كان الإمام أحمد - رحمه اللّه- يقرؤه في كل سبع‏.‏

 

ص -407-

والمقصود بهذا الفصل أنه إذا كان التحزيب المستحب ما بين أسبوع إلى شهر  وإن كان قد روى ما بين ثلاث إلى أربعين  فالصحابة إنما كانوا يحزبونه سورًا تامة، لا يحزبون السورة الواحدة، كما روى أوس بن حذيفة، قال‏:‏ قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وَفْد ثقيف، قال‏:‏ فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، ونزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بني مالك في قُبَّة له‏.‏ قال‏:‏ وكان كل ليلة يأتينا بعد العشاء، يحدثنا قائمًا على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام، وأكثر ما يحدثنا ما لقى من قومه من قريش‏.‏ ثم يقول‏:‏ ‏"‏لا سواء كنا مستضعفين مستذلين بمكة، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجالٌ الحرب بيننا وبينهم، نُدال عليهم ويدالون علينا‏"‏، فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا‏:‏ لقد أبطأت عنا الليلة، قال‏:‏‏"‏إنه طرأ على حزبي من القرآن، فكرهت أن أجىء حتى أتمه‏"‏‏.‏
قال أوس‏:‏سألت أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف تحزبون القرآن‏؟‏ قالوا‏:‏ ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشره، وثلاث عشرة، وحزب المفصل واحد‏.‏ رواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد وابن ماجه، وفي رواية للإمام أحمد قالوا‏:‏ نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من ‏"‏ق‏"‏ حتى يختم‏.‏ ورواه الطبراني

 

ص -408-

في معجمه‏:‏ فسألنا أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحزب القرآن‏؟‏ فقالوا‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحزبه ثلاثًا، وخمسًا، فذكره‏.‏
وهذا الحديث يوافق معنى حديث عبد الله بن عمرو، في أن المسنون كان عندهم قراءته في سبع؛ ولهذا جعلوه سبعة أحزاب، ولم يجعلوه ثلاثة ولا خمسة، وفيه أنهم حزبوه بالسور، وهذا معلوم بالتواتر؛ فإنه قد علم أن أول ما جزئ القرآن بالحروف تجزئة ثمانية وعشرين، وثلاثين، وستين‏.‏ هذه التي تكون رؤوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة، وأثناء القصة ونحو ذلك، كان في زمن الحجاج وما بعده، وروي أن الحجاج أمر بذلك‏.‏ ومن العراق فشا ذلك ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك‏.‏
وإذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر؛ فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات فيقولون‏:‏ خمسون آية، ستون آية‏.‏ وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد، ولا ذكره أحد، فتعين التحزيب بالسور‏.‏
فإن قيل‏:‏ فترتيب سور القرآن ليس هو أمرًا واجبًا منصوصًا

 

ص -409-

عليه وإنما هو موكول إلى الناس؛ ولهذا اختلف ترتيب مصاحف الصحابة  رضي اللّه عنهم  ولهذا في كراهة تنكيس السور روايتان عن الإمام أحمد‏:‏ إحداهما‏:‏ يكره؛ لأنه خلاف المصحف العثماني المتفق عليه‏.‏ والثانية‏:‏ لا يكره، كما يلقنه الصبيان؛ إذ قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران‏.‏
قيل‏:‏ لا ريب أن قراءة سورة بعد سورة لابد أن يكون مرتبًا، أكثر ما في الباب أن الترتيب يكون أنواعًا، كما أنزل القرآن على أحرف، وعلى هذا فهذا التحزيب يكون تابعًا لهذا الترتيب، ويجوز أيضًا أن يكون هذا التحزيب مع كل ترتيب، فإنه ليس في الحديث تعيين السور‏.‏
وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن؛ لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن دائمًا الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده، حتى يتضمن الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ في اليوم الثاني مبتدئًا بمعطوف، كقوله تعالي‏
:‏‏{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏24‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏ ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض  حتى كلام المتخاطبين  حتى يحصل الابتداء

 

ص -410-

في اليوم الثاني بكلام المجيب، كقوله تعالى‏:‏‏{قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏75‏]‏‏.‏
ومثل هذه الوقوف لا يسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي؛ ولهذا لو ألحق بالكلام عطف أو استثناء أو شرط ونحو ذلك بعد طول الفصل بأجنبي لم يسغ باتفاق العلماء، ولو تأخر القبول عن الإيجاب بمثل ذلك بين المتخاطبين لم يسغ ذلك بلا نزاع، ومن حكي عن أحمد خلاف ذلك فقد أخطأ، كما أخطأ من نقل عن ابن عباس في الأول خلاف ذلك؛ وذلك أن المنقول عن أحمد أنه فيما إذا كان المتعاقدان غائبين، أو أحدهما غائب والآخر حاضرا فينقل الإيجاب أحدهما إلى الآخر، فيقبل في مجلس البلاغ وهذا جائز، بخلاف ما إذا كانا حاضرين، والذي في القرآن نقل كلام حاضرين متجاورين، فكيف يسوغ أن يفرق هذا التفريق لغير حاجة‏؟‏ بخلاف ما إذا فرق في التلقين لعدم حفظ المتلقن ونحو ذلك‏.‏
الثاني ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في الصلاة بسورة ك ‏"‏ق‏"‏ ونحوها، وكما كان عمر  رضي اللّه عنه  يقرأ ب ‏"‏يونس‏"‏ و ‏"‏يوسف‏"‏ و‏"‏النحل‏"‏، ولما قرأ صلى الله عليه وسلم بسورة ‏"‏المؤمنين‏"‏ في الفجر أدركته سُعْلَة فركع في أثنائها‏.‏ وقال‏:‏‏"‏إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وَجْدِ أمه به‏"‏ ‏[‏وقوله‏:‏ وَجْد أمه  أي حزنها‏]‏‏.‏

 

ص -411-

وأما القراءة بأواخر السور وأوساطها، فلم يكن غالبًا عليهم؛ ولهذا يتورع في كراهة ذلك، وفيه النزاع المشهور في مذهب أحمد وغيره، ومن أعدل الأقوال قول من قال‏:‏ يكره اعتياد ذلك دون فعله أحيانًا؛ لئلا يخرج عما مضت به السنة، وعادة السلف من الصحابة والتابعين‏.‏
وإذا كان كذلك فمعلوم أن هذا التحزيب والتجزئة فيه مخالفة السنة أعظم مما في قراءة آخر السورة ووسطها في الصلاة‏.‏ وبكل حال فلا ريب أن التجزئة والتحزيب الموافق لما كان هو الغالب على تلاوتهم أحسن‏.‏
والمقصود أن التحزيب بالسورة التامة أولى من التحزيب بالتجزئة‏.‏
الثالث‏:‏ أن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء؛ وذلك لأن الحروف في النطق تخالف الحروف في الخط في الزيادة والنقصان، يزيد كل منهما على الآخر من وجه دون وجه، وتختلف الحروف من وجه، وبيان ذلك بأمور‏:‏
أحدها‏:‏ أن ألفات الوصل ثابتة في الخط، وهي في اللفظ تثبت في القطع وتحذف في الوصل، فالعَادُّ إن حسبها انتقض عليه حال القارئ إذا وصل وهو الغالب فيها، وإن أسقطها انتقض عليه بحال القارئ القاطع، وبالخط‏.‏

 

ص -412-

الثاني‏:‏ أن الحرف المشدد حرفان في اللفظ، أولهما ساكن وهذا معروف بالحس واتفاق الناس، وهما متماثلان في اللفظ، وأما في الخط فقد يكونان حرفًا واحدًا مثل‏{إِيَّاكَ‏}‏ و‏{إِيَّاكَ‏}‏‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏، وقد يكونان حرفين مختلفين مثل‏:‏‏{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏3‏]‏ ‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6، 7‏]‏ و‏{حِينَئِذٍ‏}‏ و ‏{قَدْ سَمِعَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏1‏]‏ فالعاد إن حسب اللفظ فالإدغام إنما يكون في حال الوصل دون حال القطع، ويلزمه أن يجعل الأول من جنس الثاني، وهذا مخالف لهذا الحرف المعاد بها‏.‏ وإن حسب الخط كان الأمر أعظم اضطرابًا؛فإنه يلزمه أن يجعل ذلك تارة حرفًا وتارة حرفين مختلفين، وهذا وإن كان هو الذي يتهجى فالنطق بخلافه‏.‏
الثالث‏:‏ أن تقطيع حروف النطق من جنس تقطيع العروضيين، وأما حروف الخط فيخالف هذا من وجوه كثيرة، والناس في العادة إنما يتهجون الحروف مكتوبة لا منطوقة، وبينهما فرق عظيم‏.‏
الرابع‏:‏ أن النطق بالحروف ينقسم إلى ترتيل وغير ترتيل، ومقادير المدات والأصوات من القراء غير منضبطة، وقد يكون في أحد الحزبين من حروف المد أكثر مما في الآخر، فلا يمكن مراعاة التسوية في النطق، ومراعاة مجرد الخط لا فائدة فيه؛ فإن ذلك لا يوجب تسوية زمان القراءة‏.‏

 

ص -413-

وإذا كان تحزيبه بالحروف إنما هو تقريب لا تحديد، كان ذلك من جنس تجزئته بالسور هو أيضًا تقريب؛ فإن بعض الأسباع قد يكون أكثر من بعض في الحروف، وفي ذلك من المصلحة العظيمة بقراءة الكلام المتصل بعضه ببعض، والافتتاح بما فتح اللّه به السورة، والاختتام بما ختم به، وتكميل المقصود من كل سورة ما ليس في ذلك التحزيب‏.‏ وفيه أيضًا من زوال المفاسد الذي في ذلك التحزيب ما تقدم التنبيه على بعضها، فصار راجحًا بهذا الاعتبار‏.‏
ومن المعلوم أن طول العبادة وقصرها يتنوع بتنوع المصالح، فتستحب إطالة القيام تارة وتخفيفه أخرى في الفرض والنفل بحسب الوجوه الشرعية، من غير أن يكون المشروع هو التسوية بين مقادير ذلك في جميع الأيام، فعلم أن التسوية في مقادير العبادات البدنية في الظاهر لا اعتبار به إذا قارنه مصلحة معتبرة، ولا يلزم من التساوي في القدر التساوي في الفضل؛ بل قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن‏:‏ ‏
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ تعدل ثلث القرآن‏.‏ وثبت في الصحيح أن فاتحة الكتاب لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في القرآن مثلها‏.‏ وثبت في الصحيح أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏
فإذا قرأ القارئ في اليوم الأول البقرة، وآل عمران، والنساء

 

ص -414-

بكمالها، وفي اليوم الثاني إلى آخر براءة، وفي اليوم الثالث إلى آخر النمل  كان ذلك أفضل من أن يقرأ في اليوم الأول إلى قوله‏:‏‏{بَلِيغًا‏}‏وفي اليوم الثاني إلى قوله‏:‏‏{إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏170‏]‏، فعلى هذا إذا قرأه كل شهر، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم عبد اللّه بن عمرو أولا، عملاً على قياس تحزيب الصحابة، فالسورة التي تكون نحو جزء أو أكثر بنحو نصف أو أقل بيسير يجعلها حزبًا، كآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف‏.‏
وأما البقرة فقد يقال‏:‏ يجعلها حزبًا وإن كانت بقدر حزبين وثلث، لكن الأشبه أنه يقسمها حزبين للحاجة؛ لأن التحزيب لابد أن يكون متقاربًا، بحيث يكون الحزب مثل الأجزاء ومثله مرة ودون النصف، وأما إذا كان مرتين وشيئًا فهذا تضعيف وزيادة‏.‏
وعلى هذا فإن الأعراف سبعة أجزاء، والأنفال جزء، وبراءة جزء، فإن هذا أولى من جعلها جزءًا؛ لأن ذلك يفضي إلى أن يكون نحو الثلث في ثمانية، والذي رجحناه يقتضى أن يكون نحو الثلث في تسعة، وهذا أقرب إلى العدل، وتحزيب الصحابة أوجب أن يكون الحزب الأول أكثر، ويكون إلى آخر العنكبوت العشر الثاني سورتين سورتين‏.‏
وأما يونس وهود فجزءان أيضًا أو جزء واحد؛ لأنهما أول

 

ص -415-

ذوات ‏{الر‏}‏، ويكون على هذا الثلث الأول سورة سورة، والثاني سورتين سورتين، لكن الأول أقرب إلى أن يكون قريب الثلث الأول في العشر الأول، فإن الزيادة على الثلث بسورة أقرب من الزيادة بسورتين، وأيضًا فيكون عشرة أحزاب سورة سورة، وهذا أشبه بفعل الصحابة، ويوسف والرعد جزء، وكذلك إبراهيم والحجر، وكذلك النحل وسبحان، وكذلك الكهف ومريم، وكذلك طه والأنبياء، وكذلك الحج والمؤمنون، وكذلك النور والفرقان، وكذلك ذات ‏{طس‏}‏ الشعراء والنمل والقصص، وذات ‏{الم‏}‏ العنكبوت والروم ولقمان والسجدة جزء، والأحزاب وسبأ وفاطر جزء، و‏{يس‏}‏ و ‏{الصافات‏}‏ و‏{ص‏}‏ جزء، والزمر وغافر و‏{حم‏}‏ السجدة جزء، والخمس البواقي من آل ‏{حم‏}‏ جزء‏.‏
والثلث الأول أشبه بتشابه أوائل السور، والثاني أشبه بمقدار جزء من تجزئة الحروف وهو المرجح‏.‏ ثم ‏"‏القتال‏"‏ و ‏"‏الفتح‏"‏ و‏"‏الحجرات‏"‏ و‏"‏ق‏"‏ و‏"‏الذاريات‏"‏ جزء، ثم الأربعة الأجزاء المعروفة، وهذا تحزيب مناسب مشابه لتحزيب الصحابة  رضي اللّه عنهم  وهو مقارب لتحزيب الحروف، وإحدى عشرة سورة حزب حزب؛ إذ البقرة كسورتين، فيكون إحدى عشرة سورة، وهي نصيب إحدى عشرة ليلة، واللّه أعلم‏.‏

 

ص -416-

 سُئلَ  رَحمَهُ اللَّهُ  عن جماعة اجتمعوا في ختمة وهم يقرؤون لعاصم وأبي عمرو، فإذا وصلوا إلى سورة ‏"‏الضحى‏"‏ لم يهللوا ولم يكبروا إلى آخر الختمة، ففعلهم ذلك هو الأفضل أم لا ‏؟‏ وهل الحديث الذي ورد في التهليل والتكبير صحيح بالتواتر أم لا‏؟‏
فأجاب‏
:‏
الحمد للّه‏.‏ نعم إذا قرؤوا بغيرحرف ابن كثير كان تركهم لذلك هو الأفضل، بل المشروع المسنون، فإن هؤلاء الأئمة من القراء لم يكونوا يكبرون لا في أوائل السور ولا في أواخرها‏.‏
فإن جاز لقائل أن يقول‏:‏ إن ابن كثير نقل التكبير عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جاز لغيره أن يقول‏:‏ إن هؤلاء نقلوا تركه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ إذ من الممتنع أن تكون قراءة الجمهور التي نقلها أكثر من قراءة ابن كثير قد أضاعوا فيها ما أمرهم به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فإن أهل التواتر لا يجوز عليهم كتمان ما تتوفر الهمم والدواعي إلى نقله‏.‏ فمن جوز على جماهير القراء أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرأهم بتكبير زائد، فعصوا لأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،

 

ص -417-

وتركوا ما أمرهم به، استحق العقوبة البليغة التي تردعه وأمثاله عن مثل ذلك‏.‏
وأبلغ من ذلك البسملة؛ فإن من القراء من يفصل بها، ومنهم من لا يفصل بها وهي مكتوبة في المصاحف، ثم الذين يقرؤون بحرف من لا يبسمل لا يبسملون؛ ولهذا لا ينكر عليهم ترك البسملة إخوانهم من القراء الذين يبسملون، فكيف ينكر ترك التكبير على من يقرأ قراءة الجمهور‏؟‏ وليس التكبير مكتوبًا في المصاحف وليس هو في القرآن باتفاق المسلمين‏.‏ ومن ظن أن التكبير من القرآن فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏
بخلاف البسملة، فإنها من القرآن، حيث كتبت في مذهب الشافعي وهو مذهب أحمد المنصوص عنه في غير موضع، وهو مذهب أبي حنيفة عند المحققين من أصحابه وغيرهم من الأئمة، لكن مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما أنها من القرآن، حيث كتبت البسملة، وليست من السورة، ومذهب مالك ليست من القرآن إلا في سورة

 

ص -418-

النمل، وهو قول في مذهب أبي حنيفة وأحمد‏.‏
ومع هذا فالنزاع فيها من مسائل الاجتهاد، فمن قال‏:‏ هي من القرآن حيث كتبت، أو قال‏:‏ ليست هي من القرآن إلا في سورة النمل، كان قوله من الأقوال التي ساغ فيها الاجتهاد‏.‏
وأما التكبير، فمن قال‏:‏ إنه من القرآن فإنه ضال باتفاق الأئمة، والواجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فكيف مع هذا ينكر على من تركه‏؟‏‏!‏ ومن جعل تارك التكبير مبتدعًا أو مخالفًا للسنة أو عاصيًا فإنه إلى الكفر أقرب منه إلى الإسلام، والواجب عقوبته بل إن أصَرَّ على ذلك بعد وضوح الحجة وجب قتله‏.‏
ولو قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتكبير لبعض من أقرأه كان غاية ذلك يدل على جوازه، أو استحبابه، فإنه لو كان واجبًا لما أهمله جمهور القراء، ولم يتفق أئمة المسلمين على عدم وجوبه، ولم ينقل أحد من أئمة الدين أن التكبير واجب، وإنما غاية من يقرأ بحرف ابن كثير أن يقول‏:‏ إنه مستحب، وهذا خلاف البسملة؛ فإن قراءتها واجبة عند من يجعلها من القرآن، ومع هذا فالقراء يسوغون ترك قراءتها لمن لم ير الفصل بها، فكيف لا يسوغ ترك التكبير لمن ليس داخلاً في قراءته‏؟‏
وأما ما يدعيه بعض القراء من التواتر في جزئيات الأمور، فليس هذا موضع تفصيله‏.‏

 

ص -419-

وسُئلَ  رَحِمَهُ اللَّه  عن الإمام مالك أنه قال‏:‏ من كتب مصحفًا على غير رسم المصحف العثماني فقد أثم، أو قال‏:‏ كفر‏.‏ فهل هذا صحيح‏؟‏ وأكثر المصاحف اليوم على غير المصحف العثماني، فهل يحل لأحد كتابته على غير المصحف العثماني بشرط ألا يبدل لفظًا، ولا يغير معنى، أم لا‏؟‏
فأجاب‏
:‏
أما هذا النقل عن مالك في تكفير من فعل ذلك فهو كذب على مالك، سواء أريد به رسم الخط أو رسم اللفظ؛ فإن مالكًا كان يقول عن أهل الشوري‏:‏ إن لكل منهم مصحفًا يخالف رسم مصحف عثمان، وهم أجل من أن يقال فيهم مثل هذا الكلام، وهم علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف مع عثمان‏.‏
وأيضًا، فلو قرأ رجل بحرف من حروفهم التي تخرج عن مصحف عثماني ففيه روايتان عن مالك وأحمد، وأكثر العلماء يحتجون بما ثبت من ذلك عنهم، فكيف يكفر فاعل ذلك‏؟‏‏!‏

 

ص -420-

 وأما اتباع رسم الخط بحيث يكتبه بالكوفي فلا يجب عند أحد من المسلمين، وكذلك اتباعه فيما كتبه بالواو والألف هو حسن لفظ رسم خط الصحابة‏.‏
وأما تكفير من كتب ألفاظ المصحف بالخط الذي اعتاده فلا أعلم أحدًا قال بتكفير من فعل ذلك، لكن متابعة خطهم أحسن، هكذا نقل عن مالك وغيره، واللّه أعلم‏.‏

 

ص -421-

وَسُئِلَ عن قوم يقرؤون القرآن ويلحنون فيه، فأنكر عليهم منكر، فقال قائل منهم‏:‏ كل لحنة بعشر حسنات‏؟‏‏!‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه‏.‏ إذا قدروا على تصحيح صححوا، وإن عجزوا عن ذلك فلا بأس بذلك حسب استطاعتهم‏.‏

 

ص -422-

وَسُئِلَ عن رجل يتلو القرآن مخافة النسيان، ورجاء الثواب، فهل يؤجر على قراءته للدراسة ومخافة النسيان أم لا‏؟‏ وقد ذكر رجل ممن ينسب إلى العلم أن القارئ إذا قرأ للدراسة مخافة النسيان أنه لا يؤجر، فهل قوله صحيح أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
بل إذا قرأ القرآن للّه تعالى فإنه يثاب على ذلك بكل حال، ولو قصد بقراءته أنه يقرؤه لئلا ينساه، فإن نسيان القرآن من الذنوب، فإذا قصد بالقرآن أداء الواجب عليه من دوام حفظه للقرآن، واجتناب ما نهى عنه من إهماله حتى ينساه، فقد قصد طاعة اللّه، فكيف لا يثاب‏؟‏
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قا
ل‏:‏‏"‏استذكروا القرآن، فلهو أشد تَفَلُّتًا من صدور الرجال من النَّعَم من عُقُلِها‏"‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏عرضت عليّ سيئات أمتي فرأيت من مساوئ أعمالها الرجل يؤتيه اللّه آية من القرآن فينام عنها حتى ينساها‏"‏، وفي

 

ص -423-

صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللّه يتلون كتاب اللّه، ويتدارسونه، إلا غَشِيَتْهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحَفَّتْ بهم الملائكة، وذكرهم اللّه فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يُسْرِع به نَسَبُه‏"‏، واللّه أعلم‏.

 

ص -424-