"التفسير"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد
الحليم بن تيمية الحراني
كتاب التفسير
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف
قال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله تعالى:
فصل
حجة إبليس في قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12]، هى باطلة؛ لأنه عارض النص بالقياس؛ ولهذا
قال بعض السلف: أول من قاس إبليس، وما عُبِدَت الشمس والقمر إلا بالمقاييس
ويظهر فسادها بالعقل من وجوه خمسة:
أحدها: أنه ادعى
أن النار خير من الطين، وهذا قد يُمنع، فإن الطين فيه السكينة والوقار،
والاستقرار، والثبات والإمساك ونحو ذلك، وفي النار الخفة والحدة والطيش، والطين
فيه الماء والتراب
الثانى: أنه وإن
كانت النار خيرًا من الطين؛ فلا يجب أن يكون
|
ص -5-
|
المخلوق من الأفضل
أفضل، فإن الفرع قد يختص بما لا يكون في أصله، وهذا التراب يخلق منه من الحيوان
والمعادن والنبات ما هو خير منه، والاحتجاج على فضل الإنسان على غيره بفضل أصله
على أصله حجة فاسدة احتج بها إبليس، وهى حجة الذين يفخرون بأنسابهم، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من قَصَر به عَمَلُه
لم يبلغ به نَسَبه"
الثالث: أنه وإن كان مخلوقًا من طين،فقد حصل له بنفخ
الروح المقدسة ِ فيه ما شرف به؛فلهذا قال: {فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72]، فَعَلَّق السجود بأن ينفخ فيه من روحه، فالموجِب
للتفضيل هذا المعنى الشريف الذى ليس لإبليس مثله
الرابع: أنه مخلوق
بيدى الله تعالى كما قال تعالى: {مَا
مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وهو كالأثر المروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلاً، وعن عبد الله بن عمرو في تفضيله على الملائكة، حيث قالت الملائكة:
يارب، قد خلقتَ لبنى آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون وينكحون؛ فاجعل لنا
الآخرة كما جعلتَ لهم الدنيا، فقال: "لا أفعل" ثم أعادوا
فقال: "لا أفعل" ثم أعادوا فقال: "وعزتي، لا أجعل صالح
من خلقت بَيَدَيَّ كمن قلت له: كن فكان"
الخامس: أنه لو
فُرِض أنه أفضل، فقد يقال: إكرام الأفضل للمفضول ليس بمستنكر
|
ص -6-
|
سئل الشيخ
رَحِمَهُ الله عن قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ
تَرَوْنَهُمْ الآية الكريمة}
[الأعراف: 27] هل ذلك عام لا يراهم أحد، أم يراهم بعض الناس دون بعض؟
وهل الجن والشياطين جنس واحد ولد إبليس، أم جنسين ولد إبليس وغير ولده
فأجاب شيخ الإسلام
أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله ورضى عنه آمين فقال:
الحمد لله، الذى في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس، وهذا حق
يقتضى أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها وليس فيه أنهم لا يراهم أحد
من الإنس بحال، بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضًا، لكن لا يرونهم في كل
حال، والشياطين هم مَرَدَةُ الإنس والجن، وجميع الجن وَلَد إبليس والله أعلم
|
ص -7-
|
وَقَال شيخ
الإسلام قدسَ الله روحُه:
قوله: {وَإِذَا
فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا
بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]،
والفاحشة أريد بها كشف السوءات، فيستدل به على أن في الأفعال السيئة من الصفات
ما يمنع أمر الشرع بها، فإنه أخبر عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنه لا يأمر
بالفحشاء؛ فدل ذلك على أنه منزه عنه، فلو كان جائزًا عليه لم يتنزه عنه
فَعُلِم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء وذلك لا يكون إلا إذا كان الفعل في
نفسه سيئًا، فَعُلِمَ أن كل ما في نفسه فاحشة فإن الله لا يجوز عليه الأمر به،
وهذا قول من يثبت للأفعال في نفسها صفات الحسن والسوء، كما يقوله أكثر العلماء
كالتميميين وأبي الخطاب، خلاف قول من يقول: إن ذلك لا يثبت قط إلا بخطاب
وكذلك قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ
الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32]، علل النهى عنه بما اشتمل عليه من أنه
فاحشة، وأنه ساء سبيلاً، فلو
|
ص -8-
|
كان إنما صار
فاحشة وساء سبيلا بالنهى، لما صح ذلك؛ لأن العلة تسبق المعلول لا تتبعه، ومثل
ذلك كثير في القرآن وأما في الأمر، فقوله: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ
وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، دليل على أنه أمر به؛ لأنه خير لنا؛ ولأن
الله علم فيه ما لم نعلمه
ومثله قوله في آية الطُّهُور: {وَلَكِن
يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، دليل
على أنه أمر بالطُّهُور؛ لما فيه من الصلاح لنا وهذا أيضًا في القرآن كثير
|
ص -9-
|
وَقَالَ الشيخ
تقى الدّين أحمد بن تيميَّة على قول الله عز وجل: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ
خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55، 56]:
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعى الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة فإن
الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما
متلازمان؛ فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعى، وطلب كشف ما يضره ودفعه
وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود، لابد أن يكون مالكًا للنفع والضر
ولهذا أنكر تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًا ولا نفعًا، وذلك كثير في
القرآن، كقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ
اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}
[يونس: 106]، وقال: وَيَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [يونس: 18]، فنفي سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضر والنفع
القاصر والمتعدى، فلا ىملكون لأنفسهم ولا لعابديهم
وهذا كثير في القرآن، يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكًا
|
ص -10-
|
للنفع والضر، فهو
يدعو للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعو خوفًا ورجاءً دعاء العبادة، فَعُلِم أن
النوعين متلازمان فكل دعاء عبادةٍ مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألةٍ
متضمن لدعاء العبادة
وعلى هذا، فقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، يتناول نوعى الدعاء، وبكل منهما فسرت
الآية قيل: أعطيه إذا سألنى وقيل: أثيبه إذا عبدنى والقولان متلازمان
وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في
حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعًا، فتأمله فإنه
موضوع عظيم النفع، وقَلمَّا يفطن له وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين
فصاعدًا، فهى من هذا القبيل
مثال ذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، فُسِّر "الدلوك" بالزوال،
وفُسِّر بالغروب، وليس بقولين، بل اللفظ يتناولهما معًا؛ فإن الدلوك: هو
الميل ودلوك الشمس: ميلها
ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى،فمبتدؤه الزوال،ومنتهاه الغروب،واللفظ متناول لهما
بهذا الاعتبار
ومثاله أيضًا: تفسير "الغاسق" بالليل، وتفسيره بالقمر، فإن ذلك
|
ص -11-
|
ليس باختلاف، بل
يتناولهما لتلازمهما؛ فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة
ومن ذلك قوله تعالى: {قٍلً مّا يّعًبّأٍ بٌكٍمً
رّبٌَي لّوًلا دٍعّاؤٍكٍم }
[الفرقان: 77] أي: دعاؤكم إياه، وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته، فيكون
المصدر مضافًا إلى المفعول، ومحل الأول مضافًا إلى الفاعل، وهو الأرجح من
القولين
وعلى هذا، فالمراد به نوعى الدعاء، وهو في دعاء العبادة أظهر، أي: ما يعبأ بكم
لولا أنكم ترجونه، وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه
ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
[غافر: 60]، فالدعاء يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهر؛ ولهذا
أعقبه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي الآية} [غافر: 60] ويفسر
الدعاء في الآية بهذا وهذا
وروى الترمذى عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
على المنبر: "إن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ قوله تعالى: {وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
الآية قال الترمذى: حديث حسن صحيح
|
ص -12-
|
وأما قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُالآية} [الحج: 73]،وقوله: {إِن
يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا الآية} [النساء: 117]،وقوله:
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ الآية} [فصلت: 48]وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين
لأوثانهم،فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهر؛لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم
الثانى: أن الله
تعالى فسر هذا الدعاء في موضع آخر، كقوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} [الشعراء: 92، 93]، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}
[الأنبياء: 98]، وقوله تعالى: {لَا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2]،
فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم
الثالث: أنهم كانوا يعبدونها
في الرخاء، فإذا جاءتهم الشدائد، دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا، فكانوا
يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة
وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
[غافر: 14]، هو دعاء العبادة، والمعنى: اعبدوه وحده، وأخلصوا عبادته، لا
تعبدوا معه غيره
|
ص -13-
|
وأما قول إبراهيم
عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ
الدُّعَاء} [إبراهيم: 39]،
فالمراد بالسمع هاهنا: السمع الخاص، وهو سمع الإجابة والقبول، لا السمع العام؛
لأنه سميع لكل مسموع وإذا كان كذلك، فالدعاء دعاء العبادة ودعاء الطلب وسمع
الرب تعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب،فهو سميع هذا وهذا
وأما قول زكريا عليه السلام: {وَلَمْ
أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}
[مريم: 4]، فقد قيل: إنه دعاء المسألة، والمعنى: أنك عودتنى إجابتك، ولم
تشقنى بالرد والحرمان، فهو توسل إليه سبحانه وتعالى بما سلف من إجابته وإحسانه،
وهذا ظاهر هاهنا
وأما قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ
ادْعُواْ الرَّحْمَنَ الآية}
[الإسراء: 110]، فهذا الدعاء، المشهور أنه دعاء المسألة، وهو سبب النزول
قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه فيقول مرة: "يا الله"، ومرة: "يا رحمن" فظن المشركون أنه
يدعو إلهين؛ فأنزل الله هذه الآية
وأما قوله: {إِنَّا
كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]، فهذا دعاء العبادة المتضمن للسلوك رغبة
ورهبة، والمعنى: إنا كنا نخلص له العبادة؛ وبهذا استحقوا أن وقاهم الله عذاب
السموم، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجى وغيره؛ فإنه سبحانه يسأله من في
السموات
|
ص -14-
|
والأرض: لَن
نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا}
[الكهف: 14] أي: لن نعبد غيره وكذا قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا الآية} [الصافات: 125]
وأما قوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ
فَدَعَوْهُمْ} [القصص: 64]، فهذا
دعاء المسألة، يكبتهم الله ويخزيهم يوم القيامة بآرائهم، إن شركاءهم لا يستجيبون
لهم دعوتهم، وليس المراد اعبدوهم وهو نظير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}
[الكهف: 52]
إذا عرف هذا، فقوله تعالى: {ادْعُواْ
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}
[الأعراف: 55]، يتناول نوعى الدعاء؛ لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن دعاء
العبادة؛ ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية
سبعون ضِعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، أي: ما
كانت إلا همسًا بينهم وبين ربهم عز وجل وذلك أن الله عز وجل يقول: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً، وأنه ذكر عبدًا
صالحًا ورضى بفعله، فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم: 3] وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنه أعظم
إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي
وثانيها: أنه أعظم
في الأدب والتعظيم؛ لأن الملوك لا ترفع
|
ص -15-
|
الأصوات عندهم،
ومن رفع صوته لديهم مَقَتُوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي؛
فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به
وثالثها: أنه أبلغ
في التضرع والخشوع، الذى هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما
يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد
تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه، فلا يطاوعه بالنطق وقلبه يسأل
طالبًا مبتهلاً، ولسانه لشدة ذلته ساكتًا، وهذه الحال لا تأتى مع رفع الصوت
بالدعاء أصلا
ورابعها: أنه أبلغ
في الإخلاص
وخاملاسها أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه، فكلما
خفض صوته، كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه
وسادسها وهو من النكت البديعة جدًا: أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة
نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا}
|
ص -16-
|
فلما استحضر
القلب قرب الله عز وجل وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما
رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال:
"ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون
سميعًا قريبًا،} [إن الذى تدعونه] أقرب إلى أحدكم من
عنق راحلته" وقد قال تعالى: {وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ} [البقرة: 186]، وهذا القرب من
الداعى هو قرب خاص، ليس قربًا عامًا من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من
عابديه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
وقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فيه الإرشاد
والإعلام بهذا القرب
وسابعها: أنه أدعى
إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع
صوته، فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه وهذا نظير من يقرأ ويكرر، فإذا رفع صوته
فإنه لا يطول له، بخلاف من خفض صوته
وثامنها: أن إخفاء
الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات،
|
ص -17-
|
فإن الداعى إذا أخفى
دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره، وإذا جهر به فرطت له
الأرواح البشرية ولابد، ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه
همته، فيضعف أثر الدعاء، ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء أمن هذه
المفسدة
وتاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها دَقَّت أو
جَلَّت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها، وليس
للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ
كَيْدًا الآية} [يوسف: 5]وكم من
صاحب قلب وجمعية وحال مع الله تعالى قد تَحَدَّث بها،وأخبر بها فسلبه إياها
الأغيار؛ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى ولا يطلع عليه
أحد،والقوم أعظم شيئًا كتمانًا لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله من محبته
والأُنْس به وجمعية القلب، ولاسيما فعله للمهتدى السالك فإذا تمكن أحدهم وقوى،
وثَبَّتَ أصول تلك الشجرة الطيبة التى أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث
لا يُخْشَى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حاله مع الله تعالى ليقتدى به ويؤتم
به لم يبالوهذا باب عظيم النفع إنما يعرفه أهله
|
ص -18-
|
وإذا كان الدعاء
المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء،والمحبة والإقبال على الله تعالى فهو
من عظيم الكنوز التى هى أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين، وهذه فائدة شريفة
نافعة
وعاشرها: أن الدعاء هو ذِكْرٌ للمدعو سبحانه وتعالى متضمن للطلب والثناء عليه
بأوصافه وأسمائه فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمى دعاء لتضمنه للطلب، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الدُّعاء
الحمدُ لله" فسمى الحمد لله دعاء، وهو ثناء محض؛
لأن الحمد متضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب، فالحامد طالب للمحبوب،
فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم
الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذى هو
دونه
والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه، وقد قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]، فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن
يذكره في نفسه، قال مجاهد وابن جُرَيج: أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع
والاستكانة دون رفع الصوت والصياح، وتأمل كيف قال في آية الذكر: وَاذْكُر
رَّبَّكَ} الآية، وفي آية الدعاء: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، فذكر التضرع فيهما معًا وهو التذلل،
والتمسكن، والانكسار
|
ص -19-
|
وهو روح الذكر
والدعاء
وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر
إلى الخوف؛ فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولابد لمن أكثر من ذكر الله أن
يثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره؛
لأنها توجب التوانى والانبساط، وربما آلت بكثير من الجُهَّال المغرورين إلى أن
استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب
وإقباله على الله، ومحبته له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل ولقد
حدثنى رجل أنه أنكر على بعض هؤلاء خُلْوَة له ترك فيها الجمعة، فقال له الشيخ:
أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شىء من ماله فإن الجمعة تسقط؟ فقال له:
بلى فقال له: فقلب المريد أعز عليه من عشرة دراهم أو كما قال وهو إذا خرج ضاع
قلبه، فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه فقال له: هذا غرور بك، الواجب
الخروج إلى أمر الله عز وجل فتأمل هذا الغرور العظيم، كيف أدى إلى الانسلاخ عن
الإسلام جملة، فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام، كانسلاخ الحية من
قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة
|
ص -20-
|
وسبب هذا عدم
اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته؛ ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب
وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حرورى، ومن عبده بالرجاء وحده فهو
مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن والمقصود أن تجريد الحب والذكر
عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما
كَلَّها [أي أتعبها وأثقلها انظر: المصباح المنير، مادة: كلل] شىء،
كالخائف الذى معه سوط يضرب به مطيته؛ لئلا تخرج عن الطريق، والرجا حاد يحدوها
يطلب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذى يسوقها، فإذا لم يكن للمطية سوط ولا
عصى يردها إذا حادت عن الطريق، خرجت عن الطريق وضلت عنها
فما حُفِظَت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته،
فمتى خلا القلب من هذه الثلاث، فسد فسادًا لا ىُرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه
شىء من هذه ضعف إيمانه بحسبه، فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخِيفَة بالذكر،
والخُفْية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخُفْية بالدعاء والخِيفة بالذكر
أيضًا، وذكر الطمع الذى هو الرجاء في آية الدعاء؛ لأن الدعاء مبنى عليه، فإن
الداعى ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه،لم تتحرك نفسه لطلبه، إذ طلب ما لا طمع له
فيه ممتنع، وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف
|
ص -21-
|
إليه، فذكر في كل
آية ما هو اللائق بها من الخوف والطمع، فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في
الصدور
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، قيل: المراد:
أنه لا يحب المعتدين في الدعاء،كالذى يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير
ذلك وقد روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن مَعْقِل أنه سمع ابنه يقول:
اللهم إنى أسألك القَصْرَ الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بنى، سل
الله الجنة وتعوذ به من النار، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطَّهُور
والدعاء"
وعلى هذا، فالاعتداء في الدعاء، تارة بأن يسأل ما لايجوز له سؤاله من المعونة على
المحرمات، وتارة يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة، أو
يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، ويسأله بأن
يطلعه على غيبه، أو أن يجعله من المعصومين، أو يهب له ولدًا من غير زوجة، ونحو
ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله
وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضًا في الدعاء
وبعد، فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء بالدعاء مرادًا
|
ص -22-
|
بها فهو من جملة
المراد والله لا يحب المعتدين في كل شىء، دعاءً كان أو غيره، كما قال تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190، والمائدة: 78]
وعلى هذا،فيكون أمر بدعائه وعبادته، وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان،وهم يدعون معه
غيره،فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانًا، فإن أعظم العدوان الشرك،وهو وضع العبادة في
غير موضعها،فهذا العدوان لابد أن يكون داخلا في قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع،بل
دعاء هذا كالمستغنى المدلى على ربه، وهذا من أعظم الاعتداء لمنافاته لدعاء
الذليلفمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد
ومن الاعتداء أن يعبده بما لم يشرع، ويثنى عليه بما لم يثن به على نفسه، ولا أذن
فيه، فإن هذا اعتداء في دعائه الثناء والعبادة، وهو نظير الاعتداء في دعاء
المسألة والطلب
وعلى هذا، فتكون الآية دالة على شيئىن:
أحدهما: محبوب للرب
سبحانه وهو الدعاء تضرعًا وخُفْيَة
الثانى: مكروه له
مسخوط وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه وندب إليه، وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو
أبلغ طرق الزجر، والتحذير
|
ص -23-
|
، وهو لا يحب
فاعله، ومن لا يحبه الله فأي خير يناله؟
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} عقيب قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، دليل على أن من لم يدعه تضرعًا وخفية، فهو من المعتدين الذين
لا يحبهم، فقسمت الآية الناس إلى قسمين: داع لله تضرعًا وخفية، ومعتد بترك
ذلك
وقوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي
الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}
[الأعراف: 56]، قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصى، والداعى إلى
غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة
الله مفسد؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم الفساد في
الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو الشرك بالله، ومخالفة أمره، قال الله
تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، قال عطية في الآية: ولا تعصوا في الأرض
فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم وقال غير واحد من السلف: إذا قَحَط المطر
فالدواب تلعن عصاة بنى آدم، فتقول: اللهم العنهم فبسببهم أَجْدَبَت الأرض،
وقَحَط المطر
وبالجملة، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره، أو مُطَاعٍ مُتَّبِع
غير الرسول صلى الله عليه وسلم، هو أعظم الفساد
|
ص -24-
|
في الأرض، ولا صلاح
لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره، والطاعة
والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة
الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة، فإن الله أصلح
الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، وبالأمر بالتوحيد، ونهى عن فسادها
بالشرك به، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم
ومن تدبر أحوال العالم، وجد كل صلاح في الأرض؛ فسببه توحيد الله وعبادته، وطاعة
رسوله صلى الله عليه وسلم وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقَحْط وتسليط عدو
وغير ذلك؛ فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله ومن
تدبر هذا حق التدبر، وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي غيره عمومًا وخصوصًا
ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا
وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، إنما
ذكر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع، فأمر أولاً بدعائه تضرعًا
وخفية، ثم أمر أيضًا أن يكون الدعاء خوفًا وطمعًا
وفصل الجملتين بجملتين:
إحداهما: خبرية
ومتضمنة للنهى، وهى قوله: {إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
|
ص -25-
|
والثانية: طلبية، وهى قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}، والجملتان مقررتان للجملة الأولى، مؤكدتان لمضمونها
ثم لما تم تقريرها وبيان ما يضاده، أمر بدعائه خوفًا وطمعًا؛ لتعلق قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}
ولما كان قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا مشتملاً على جميع مقامات الإيمان والإحسان، وهى الحب والخوف
والرجاء، عقبها بقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ
قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}
[الأعراف: 56]، أي: إنما تنال من دعاه خوفًا وطمعًا، فهو المحسن، والرحمة
قريب منه؛ لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابل الاعتداء بعدم التضرع والخفية، عقب ذلك
بقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ وانتصاب قوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وخَوْفًا وَطَمَعًا} على الحال، أي: ادعوه متضرعين إليه، مختفين خائفين مطيعين
وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ
الْمُحْسِنِينَ} فيه تنبيه ظاهر على أن فعل
هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من
|
ص -26-
|
الله رحمته،
ورحمته قريب من المحسنين، الذين فعلوا ما أُمِروا به من دعائه تضرعًا وخفية،
وخوفًا وطمعًا فقرر مطلوبكم منه، وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه، وإن أحسنتم
أحسنتم لأنفسكم
وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ
مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} له دلالة بمنطوقه،
ودلالة بإيمائه وتعليله بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل
الإحسان، ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب
في قرب الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين
فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة،وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة؛لأنها إحسان
من الله عز وجل أرحم الراحمين، وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛
لأن الجزاء من جنس العمل، وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته، وأما من لم
يكن من أهل الإحسان فإنه لما بَعُدَ عن الإحسان بَعُدَتْ عنه الرحمة، بُعْدٌ
ببُعْدٍ، وقُرْبٌ بِقُرْب،فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن
تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته
والله سبحانه يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته
أقرب شىء منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد
|
ص -27-
|
شىء منه،
والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به، سواء كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه،
فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل
عليه، وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة، وحياء ومحبة وخشية
فهذا هو مقام الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عليه
السلام عن الإحسان: فقال: "أن تَعْبُدَ الله كأنك
تراه"، فإذا كان هذا هو الإحسان، فرحمته قريب من
صاحبه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ يعنى: هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا
أن يحسن ربه إليه، قال ابن عباس رضى الله عنهما هل جزاء من قال: لا إله إلا
الله، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟
وقد ذكر ابن أبى شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدى عن أنس بن مالك رضى الله عنه
قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هَلْ
جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
[الرحمن: 60] ثم قال: "هل تدرون ما قال
ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "هل جزاء من أنعمت عليه
بالتوحيد إلا الجنة"
آخر الكلام على الآيتين، والحمد لله رب العالمين، وصلى
الله على محمد، وآله وصحبه وسلم
|
ص -28-
|
وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
قوله سبحانه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا
كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا
إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا}
[الأعراف: 88، 89]، ظاهره دليل على أن شعيبا والذين آمنوا معه كانوا على ملة
قومهم؛ لقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، ولقول شعيب: أنعود
فيها أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، ولقوله: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي
مِلَّتِكُم} فدل على أنهم كانوا فيها
ولقوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ
مِنْهَا}
فدل على أن الله أنجاهم منها بعد التلوث بها؛
ولقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ
فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا،
ولا يجوز أن يكون الضمير عائدًا على قومه؛ لأنه صرح فيه بقوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ؛ ولأنه هو المحاور له بقوله: {أَوَلَوْ
كُنَّا} إلى آخرها، وهذا يجب أن يدخل فيه
المتكلم، ومثل هذا فى سورة إبراهيم:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ الآية} [إبراهيم: 13]
|
ص -29-
|
وَقَالَ شيخ
الإسلام:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة
من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها، ومنها قوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن
قَرْيَتِنَا الآية} [الأعراف: 88] وما فى
معناها
التحقيق: أن الله سبحانه إنما يصطفى لرسالته من كان خيار قومه حتى فى النسب،
كما فى حديث هرقل ومن نشأ بين قوم مشركين جهال، لم يكن عليه نقص إذا كان على
مثل دينهم، إذا كان معروفًا بالصدق والأمانة، وفعل ما يعرفون وجوبه، وترك ما
يعرفون قبحه
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، فلم
يكن هؤلاء مُسْتَوْجبين العذاب، وليس فى هذا ما يُنَفِّر عن القبول منهم؛ ولهذا
لم يذكره أحد من المشركين قادحًا
وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة
والشرائع، وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر،
|
ص -30-
|
والرسل قبل الوحى
لا تعلمه فضلاً عن أن تقر به، قال تعالى: {يُنَزِّلُ
الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ الآية} [النحل: 2]، وقال: يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ
التَّلَاقِ} [غافر: 15]، فجعل
إنذارهم بالتوحيد كالإنذار بيوم التلاق، وكلاهما عرفوه بالوحى وما ذكر أنه صلى
الله عليه وسلم بُغِّضَت إليه الأوثان، لا يجب أن يكون لكل نبى، فإنه سيد ولد
آدم، والرسول الذى ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره، من
جهة تأييد الله له بالعلم والهدى، وبالنصر والقهر، كما كان نوح وإبراهيم
ولهذا يضيف الله الأمر إليهما فى مثل قوله: {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ الآية}
[الحديد: 26] إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى
آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ الآية}
[آل عمران: 33] وذلك أن نوحًا أول رسول بعث إلى المشركين، وكان مبدأ شركهم
من تعظيم الموتى الصالحين وقوم إبراهيم مبدأه من عبادة الكواكب، ذاك الشرك
الأرضى، وهذا السماوى؛ ولهذا سد صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا وهذا
|
ص -31-
|
وَقَالَ شيخ
الإسلام رَحِمهُ الله:
قد أخبر الله بأنه بارك فى أرض الشام فى آيات، منها قوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]
ومنها قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا
إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]
ومنها قوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81]
ومنها قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18] وهى قرى الشام، وتلك قرى اليمن، والتى بينهما قرى
الحجاز ونحوها وبادت
ومنها قوله: {إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]
|
ص -32-
|
َقَالَ شيخ
الإسلام رَحِمهُ الله:
فصل
قال الله تعالى: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ} [الأعراف: 205]، فأمر
بذكر الله فى نفسه، فقد يقال: هو ذكره فى قلبه بلا لسانه؛ لقوله بعد ذلك: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}، وقد يقال: وهو أصح بل ذكر الله فى نفسه باللسان مع القلب،
وقوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ كقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ
بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110]
وفى الصحيح عن عائشة قالت: نزلت فى الدعاء، وفى الصحيح عن ابن عباس قال: كان
النبى صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن
أنزله، ومن أُنزل عليه، فقال الله: لا تجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبوا
القرآن، ولا تخافت به عن أصحابك فلا يسمعوه، فنهاه عن الجهر والمُخافَتة
فالمُخافَتة هى ذكره فى نفسه، والجهر المنهى عنه هو الجهر المذكور فى قوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ}
|
ص -33-
|
فإن الجهر هو
الإظهار الشديد، يقال: رجل جهورى الصوت، ورجل جهير
وكذلك قول عائشة فى الدعاء، فإن الدعاء كما قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقال:
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا}
[مريم: 3]، فالإخفاء قد يكون بصوت يسمعه القريب وهو المناجاة، والجهر مثل المناداة
المطلقة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير فقال: "أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ
ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عُنُق
راحلته"
ونظير قوله:
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ}
[الأعراف: 205]، قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه: "من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى،ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى
ملأ خير منه"، وهذا يدخل فيه ذكره باللسان فى
نفسه،فإنه جعله قسيم الذكر فى الملأ،وهو نظير قوله: {ّدٍونّ بًجّهًرٌ مٌنّ
بًقّوًل ، والدليل على ذلك أنه قال: بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} ومعلوم أن ذكر الله المشروع بالغدو والآصال فى الصلاة، وخارج
الصلاة هو باللسان مع القلب، مثل صلاتى الفجر والعصر، والذكر المشروع عقب
الصلاتين، وما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم وعلَّمه وفعله من الأذكار
والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة
|
ص -34-
|
طرفى النهار
بالغدو والآصال
وقد يدخل فى ذلك أيضًا ذكر الله بالقلب فقط، لكن يكون الذكر فى النفس كاملا وغير
كامل، فالكامل باللسان مع القلب، وغير الكامل بالقلب فقط
ويشبه ذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي
أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]، فإن القائلين بأن الكلام المطلق كلام النفس
استدلوا بهذه الآية، وأجاب عنها أصحابنا وغيرهم بجوابين:
أحدهما: أنهم قالوا
بألسنتهم قولاً خفيًا
والثلاانى: أنه قيده بالنفس، وإذا قيد القول بالنفس فإن دلالة المقيد خلاف
دلالة المطلق وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن
الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به" فقوله: {حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به: دليل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق، وأنه ليس
باللسان
وقد احتج بعض هؤلاء بقوله: {وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، وجعلوا القول المسر فى القلب دون اللسان؛
لقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وهذه حجة ضعيفة جدًا؛ لأن
|
ص -35-
|
قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} يبين أن القول يسر به تارة ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما
يكون فى القول الذى هو بحروف مسموعة
وقوله بعد ذلك: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ من باب التنبيه بالأدنى
على الأعلى، فإنه إذا كان عليمًا بذات الصدور، فعلمه بالقول المسر والمجهور به
أولى
ونظيره قوله: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ
أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]
|
ص -36-
|
سورة الأنفال
وقال شيخ الإسلام:
فصل
قال سبحانه فى قصة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي
مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ
بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 9، 10]، فوعدهم بالإمداد بألف وعدًا مطلقًا،
وأخبر أنه جعل إمداد الألف بُشْرى ولم يقيده، وقال فى قصة أحد:{ إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ
مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ
وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ
مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل
عمران: 124، 125]، فإن هذا أظن فيه قولين:
أحدهما: أنه متعلق بأُحُد؛ لقوله بعد ذلك {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ الآية} [آل عمران: 127]؛ ولأنه وعد مقيد، وقوله فيه:
|
ص -37-
|
{وَمَا جَعَلَهُ
اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} [آل عمران: 126]، يقتضى خصوص البشرى بهم
وأما قصة بدر، فإن البشرى بها عامة، فيكون هذا كالدليل على ما روى من أن ألف بدر
باقية فى الأمة، فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم بِهِ على لَكُمْ عناية
بالألف، وفى أحد كانت العناية بهم لو صبروا فلم يوجد الشرط
|
ص -38-
|
وَقَالَ رَحِمَهُ
الله:
فصل
فى قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية} [الأنفال: 17] ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مبنى على
أن الفعل المتولد ليس من فعل الآدمى، بل من فعل الله، والقتل هو الإزهاق، وذاك متولد،
وهذا قد يقوله من ينفى التولد وهو ضعيف؛ لأنه نفى الرمى أيضًا، وهو فعل مباشر؛
ولأنه قال: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]،
وقال: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُّتَعَمِّدًا} [النساء: 93]، فأثبت
القتل؛ ولأن القتل هو الفعل الصالح للإزهاق، ليس هو الزهوق، بخلاف الإماتة
الثانى: أنه مبنى
على خلق الأفعال، وهذا قد يقوله كثير من الصوفية، وأظنه مأثورًا عن الجنيد سلب
العبد الفعل، نظرًا إلى الحقيقة؛ لأن الله هو خالق كل صانع وصنعته، وهذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: إنا وإن
قلنا بخلق الفعل فالعبد لا يسلبه، بل يضاف
|
ص -39-
|
الفعل إليه أيضًا
فلا يقال: ما آمنت ولا صليت، ولا صمت، ولا صدقت، ولا علمت، فإن هذا مكابرة؛ إذ
أقل أحواله الاتصاف وهو ثابت
وأيضًا، فإن هذا لم يأت فى شىء من الأفعال المأمور بها إلا فى القتل والرمى ببدر،
ولو كان هذا لعموم خلق الله أفعال العباد لم يختص ببدر
الثالث: أن الله
سبحانه خرق العادة فى ذلك، فصارت رؤوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها
بالإشارة، وصارت الجريدة تصير سيفًا يُقْتَل به
وكذلك رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابت من لم يكن فى قدرته أن يصيبه،
فكان ما وجد من القتل وإصابة الرمية خارجًا عن قدرتهم المعهودة، فسلبوه لانتفاء
قدرتهم عليه، وهذا أصح، وبه يصح الجمع بين النفى والإثبات {وَمَا
رَمَيْتَ أى ما أصبت إِذْ رَمَيْتَ إذ طرحت وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، أصاب
وهكذا، كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة، بسبب ضعيف،
كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات، أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل، وهذا
ظاهر، فلا حجة فيه لا على الجبر ولا على نفى التولد
|
ص -40-
|
وَقَالَ
رَحِمَهُ الله:
فصل
فى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]،
والكلام عليها من وجهين:
أحدهما: فى
الاستغفار الدافع للعذاب
والثانى: فى العذاب
المدفوع بالاستغفار
أما الأول، فإن العذاب إنما يكون على الذنوب، والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التى
هى سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما قال تعالى: {الَر
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم
مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ
فَضْلَهُ} [هود: 1 3]، فبين
سبحانه أنهم إذا فعلوا ذلك متعوا متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى،ثم إن كان لهم فضل
أُوتوا الفضل
|
ص -41-
|
وقال تعالى: {عن نوح: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}إلى
قوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا الآية} [نوح: 2 11]، وقال تعالى: {وَيَا
قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء
عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، وذلك أنه قد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}
[الشورى: 30]، وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: 155]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم
مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم: 36]، وقال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ
مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}
[النساء: 79 ]
وأما العذاب المدفوع، فهو يعم العذاب السماوى، ويعم ما يكون من العباد، وذلك أن
الجميع قد سماه الله عذابًا، كما قال تعالى فى النوع الثانى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ
سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} [البقرة: 49]، وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14]،
وكذلك: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ
أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52]، إذ
التقدير بعذاب من عنده أو بعذاب بأيدينا، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ}
|
ص -42-
|
وعلى هذا، فيكون
العذاب بفعل العباد، وقد يقال: التقدير:
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ
عِندِهِ، أو يصيبكم بأيدينا}،
لكن الأول هو الأوجه؛ لأن الإصابة بأيدى المؤمنين لا تدل على أنها إصابة بسوء،
إذ قد يقال: أصابه بخير، وأصابه بشر قال تعالى: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ
مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ}
[يونس: 107]، وقال تعالى: {فَتَرَى
الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ
عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
[الروم: 48]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ
مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ
بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء}
[يوسف: 56]؛ ولأنه لو كان لفظ الإصابة يدل على الإصابة بالشر، لاكتفى بذلك
فى قوله: {أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ}
وقد قال تعالى أيضًا : {وَإِن تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء
الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ
فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 78، 79]
ومن ذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إلى قوله:
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وقوله تعالى:
{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ
مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]
|
ص -43-
|
ومن ذلك أنه يقال فى بلال ونحوه: كانوا من المعذبين فى الله،
ويقال: إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين فى الله وقال صلى الله عليه وسلم:
"السفر قطعة من العذاب"
وإذا كان كذلك، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا
مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً
وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}
[الأنعام: 65]، مع ما قد ثبت فى الصحيحين عن جابر عن النبى صلى الله عليه
وسلم: أنه لما نزل قوله: {قُلْ هُوَ
الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ،} قال: "أعوذ بوجهك"،
أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، قال: "أعوذ بوجهك"، {أّوً يّلًبٌسّكٍمً شٌيّعْا
ّيٍذٌيقّ بّعًضّكٍم بّأًسّ بّعًضُ}
، قال: "هاتان أهون" يقتضى أن لبسنا شيعًا وإذاقة بعضنا بأس بعض
هو من العذاب الذى يندفع بالاستغفار، كما قال: {{وَاتَّقُواْ
فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25]، وإنما تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب
والعمل الصالح
وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39]، قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيدى
العباد، فإذا ترك الناس الجهاد فى سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم
العداوة، حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد فى
سبيل الله جمع الله قلوبهم وأَلَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم،
|
ص -44-
|
وإذا لم ينفروا
فى سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض
وكذلك قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ
الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، يدخل فى العذاب الأدنى ما يكون بأيدى العباد،
كما قد فسر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب
|
ص -45-
|
سورة التوبة
وقال:
قد يستدل بقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ
آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى
الإِيمَانِ} [التوبة: 23]، على أن
الولد يكون مؤمنًا بإيمان والده؛ لأنه لم يذكر الولد فى استحبابه الكفر على
الإيمان، مع أنه أولى بالذكر، وما ذاك إلا أن حكمه مخالف لحكم الأب والأخ وهو
الفرق بين المحجور عليه لصغره وجنونه، وبين المستقل، كما استدل سفيان بن
عُيَيْنَةَ وغيره بقوله: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61]، أن بيت
الولد مندرج فى بيوتكم؛ لأنه وماله لأبيه
ويستدل بقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}
[النساء: 75]، على أن إسلام الوليد صحيح؛ لأنه جعله من جملة القائلين قول
من يطلب الهجرة، وطلب الهجرة لا يصح إلا بعد الإيمان، وإذا كان له قول فى ذلك معتبر
كان أصلا فى ذلك، ولم يكن تابعًا، بخلاف الطفل الذى لا تمييز له؛ فإنه تابع لا
قول له
|
ص -46-
|
سُئِلَ
رَحِمَهُ الله عن قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ} [التوبة: 30]، كلهم قالوا ذلك أم بعضهم؟ وقول النبى صلى
الله عليه وسلم: "يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال
لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: العزير"
الحديث هل الخطاب عام أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، المراد باليهود جنس اليهود، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ
لَكُمْ} [آل عمران: 173]، لم يقل جميع
الناس، ولا قال: إن جميع الناس قد جمعوا لكم، بل المراد به الجنس
وهذا كما يقال: الطائفة الفلانية تفعل كذا، وأهل الفلانى يفعلون كذا، وإذا قال
بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك، فيشتركون فى إثم القول والله أعلم
|
ص -47-
|
وَقَالَ:
فى الكلام على قوله: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]،
تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبالرسول كفر، من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر
بالضرورة، فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطًا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر،
وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات
وأيضًا، فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم، والضالون مستخفون
بتوحيد الله تعالى يعظمون دعاء غيره من الأموات، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن
الشرك استخفوا به، كما قال تعالى:
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا الآية} [الفرقان: 41]، فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما
نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلال
والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد، لما فى أنفسهم من عظيم الشرك
وهكذا، تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد
استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك، قال الله تعالى:
|
ص -48-
|
{وَمِنَ النَّاسِ
مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة: 165]، فمن أحب مخلوقًا مثل ما يحب الله فهو مشرك،
ويجب الفرق بين الحب فى الله والحب مع الله
فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانًا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله
وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء، ويحلف أحدهم اليمين الغموس
كاذبًا، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا
وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره، أو غير
قبره، أنفع له من أن يدعو الله فى المسجد عند السحر، ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته
إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فهل هذا إلا من
استخفافهم بالله وبآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك؟
وإذا كان لهذا وقف،ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركى
العرب،الذين ذكرهم الله فى قوله: {وَجَعَلُواْ
لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا الآية} [الأنعام: 136]، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل
لله،ويقولون : الله غنى وآلهتنا فقيرة
وهؤلاء، إذا قصد أحدهم القبر الذى يعظمه يبكى عنده، ويخشع
|
ص -49-
|
ويتضرع ما لا
يحصل له مثله فى الجمعة، والصلوات الخمس، وقيام الليل، فهل هذا إلا من حال
المشركين لا الموحدين، ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات، حصل له من
الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات، بل يستثقلونها ويستهزئون بها، وبمن
يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: {قُلْ
أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون} [التوبة: 65]
والذين يجعلون دعاء الموتى أفضل من دعاء الله: منهم من يحكى أن بعض المريدين
استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وأن بعض المأسورين دعا الله فلم
يخرجه، فدعا بعض الموتى، فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام وآخر قال: قبر فلان
التِرْيَاق المُجَرِّب
ومنهم من إذا نزل به شدة لا يدعو إلا شيخه قد لهج به كما يلهج الصبى بذكر أمه
وقد قال تعالى للموحدين: {فَإِذَا قَضَيْتُم
مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ
ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وقد قال شعيب: {يَا
قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ} [هود: 92]، وقال تعالى: {لَأَنتُمْ
أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} [الحشر: 13]
|
ص -50-
|
سئل شيخ الإسلام عن معنى
قوله تعالى: {لَقَد تَّابَ الله على النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الآية} [التوبة:
117] والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم
معصوم من الكبائر والصغائر
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحمد لله، الأنبياء صلوات الله وسلامه علىهم معصومون من الإقرار
على الذنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم،
ويعظم حسناتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا، بل هي
من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ على الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 72، 73] فغاية كل مؤمن هي التوبة، ثم التوبة
تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين
والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار:
عن آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وغيرهم فقال آدم:
|
ص -51-
|
{رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقال
نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ
أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي
أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}
[هود: 47]، وقال الخليل: {رَبَّنَا اغْفِرْ
لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وقال هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا
أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ علىنَا إِنَّكَ أَنتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]،
وقال موسى: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إليكَ} [الأعراف: 155، 156]، وقال تعالى: {َلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليكَ وَأَنَاْ
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:
143]
وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان، وغيرهما من الأنبياء والله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [
سورة النصر]
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب،
اللهم نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسلني من
خطاياي بالثلج والبَرَد والماء البارد"،
وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم أنت الملك لا إله إلا
أنت،
|
ص -52-
|
أنت ربي وأنا
عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا
أنت"، وفي الصحيح أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، علانيته وسره،
أوله وآخره"، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم
أنه كان يقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي
في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطئي وعَمْدي،
وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت،
وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة
وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
[محمد: 19]، فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم،
وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من
العقاب
فإذا قال القائل: أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟كان جاهلا؛لأنهم
إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم،فكيف يقال: إنهم لا يحتاجون إليها،فهي
أفضل عبادتهم وطاعتهم
وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب،والاستغفار كذلك،
|
ص -53-
|
قيل له: الذنب
الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة،فأما ما حصل منه توبة،فقد يكون صاحبه بعد
التوبة أفضل منه قبل الخطيئة،كما قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة أحسن منه
حالاً قبل الخطيئة،ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر،فإن السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء،وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما
كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصاً ولا عيباً،بل
لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا، وأقوي عبادة وطاعة ممن جاء
بعدهم،فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها
ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تُنْقَض عُرَي الإسلام عُرْوَة عروة، إذا نشأ في
الإسلام من لم يعرف الجاهلية وقد قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا
يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68 70]
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن اللّه يحاسب عبده يوم
القيامة، فيعرض عليه صغار الذنوب ويخبئ عنه كبارها فيقول: فعلت يوم كذا كذا
وكذا؟ فيقول: نعم يارب، وهو مشفق
|
ص -54-
|
من كبارها أن
تظهر، فيقول: إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فهنالك يقول: رب،
إن لي سيئات ما أراها بَعْدُ
فالعبد المؤمن إذا تاب وبدَّل اللّه سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات
بسبب توبته حسنات ينفعه اللّه بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت
توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن
نسي القرآن ثم حَفِظَه خير من حِفْظِه الأول لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح
وقوي لم يضره المرض العارض
واللّه تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية
والتضرع، والخشوع للّه والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في
العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش، والمرض والفقر والخوف، ثم
ذاق الشِّبَع والرِّي والعافية والغني والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك
وحلاوته ولذته، والرغبة فيه وشكر نعمة اللّه علىه، والحذر أن يقع فيما حصل أولا
ما لم يحصل بدون ذلك وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
وينبغي أن يعرف أن التوبة لابد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب
من اللّه، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها
|
ص -55-
|
ومحمد صلى الله
عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم على اللّه، وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع
الطاعات، فهو أفضل المحبين للّه، وأفضل المتوكلين على اللّه، وأفضل العابدين له،
وأفضل العارفين به، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره؛ ولهذا غفر
اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة، كما ثبت في الصحيح: "أن الناس
يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم، فيقول: إني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت
منها، نفسي، نفسي، نفسي ويطلبونها من نوح فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة
لم أومر بها، نفسي، نفسي، نفسي ويطلبونها من الخليل، ثم من موسى، ثم من المسيح
فيقول: اذهبوا إلى محمد، عَبْد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر" قال: "فيأتوني، فأنطلق، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً،
فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل
تُسْمَع، وسل تُعْطَ، واشفع تشفع، فأقول: أي رب، أمتي، فيحدّ لي حداً فأدخلهم
الجنة"
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه دلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر بكمال
عبوديته للّه، وكمال مغفرة اللّه له؛ إذ ليس بين المخلوقين والخالق نسب إلا محض
العبودية والافتقار من العبد،
|
ص -56-
|
ومحض الجود
والإحسان من الرب عز وجل
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل أحد
منكم الجنة بعمله" قالوا: ولا أنت يارسول اللّه؟ قال: " ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي اللّه برحمة منه وفضل "
وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: "يأيها الناس،
توبوا إلى ربكم، فو الذي نفسي بيده، إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في إلىوم أكثر
من سبعين مرة "، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "إنه لَيُغَانُ على
قلبي، وإني لأستغفر اللّه في إلىوم مائة مرة"، فهو صلى الله عليه وسلم
لكمال عبوديته للّه، وكمال محبته له، وافتقاره إليه، وكمال توبته واستغفاره، صار
أفضل الخلق عند اللهّ، فإن الخير كله من اللّه، وليس للمخلوق من نفسه شيء، بل هو
فقير من كل وجه، واللّه غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه، فكلما ازداد
العبد تواضعاً وعبودية ازداد إلى اللّه قرباً ورفعة، ومن ذلك توبته واستغفاره
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل بني آدم خَطَّاء،
وخير الخطائين التوابون" رواه ابن ماجه والترمذي
|
ص -57-
|
سورة يونس
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء
وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]، وقوله: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
حُسْبَانًا} [الأنعام: 96]،
وقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]، وقوله:
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّي عَادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]،دليل
على توقيت ما فيها من التوقيت للسنين والحساب، فقوله: {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} إن علق بقوله: {وَقَدَّرَهُ
مَنَازِلَ} كان الحكم مختصاً
بالقمر،وإن أعيد إلى أول الكلام تعلق بهما،ويشهد للأول قوله في الأهلة فإنه
موافق لذلك،ولأن كون الشمس ضياء والقمر نوراً،لا يوجب علم عدد السنين
والحساب،بخلاف تقدير القمر منازل، فإنه هو الذي
|
ص -58-
|
يقتضي علم عدد
السنين والحساب،ولم يذكر انتقال الشمس في البروج
ويؤيد ذلك قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ
عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ الآية} [التوبة: 36]،فإنه نص على أن السنة هلإلىة،وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]،يؤيد ذلك،لكن يدل على الآخر قوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا
آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً
مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء: 12]
وهذا واللّه أعلم لمعنى تظهر به حكمة ما في الكتاب، وما جاءت به الشريعة من
اعتبار الشهر والعام الهلإلى دون الشمسي، أن كل ما حَدَّ من الشهر والعام ينقسم
في اصطلاح الأمم إلى عددي وطبيعي، فأما الشهر الهلإلى فهو طبيعي، وسنته عددية
وأما الشهر الشمسي، فعددي، وسنته طبيعية، فأما جعل شهرنا هلإلىاً فحكمته ظاهرة؛
لأنه طبيعي وإنما علق بالهلال دون الاجتماع؛ لأنه أمر مضبوط بالحس لا يدخله خلل،
ولا يفتقر إلى حساب، بخلاف الاجتماع، فإنه أمر خفي يفتقر إلى حساب، وبخلاف الشهر
الشمسي لو ضبط
وأما السنة الشمسية، فإنها وإن كانت طبيعية، فهي من جنس
|
ص -59-
|
الاجتماع ليس
أمراً ظاهراً للحس، بل يفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل، وإنما الذي يدركه
الحس تقريب ذلك، فإن انقضاء الشتاء ودخول الفصل الذي تسميه العرب الصيف ويسميه غيرها
الربيع أمر ظاهر، بخلاف محاذاة الشمس لجزء من أجزاء الفلك يسمي برج كذا، أو
محاذاتها لإحدي نقطتي الرأس، أو الذنب، فإنه يفتقر إلى حساب
ولما كانت البروج اثني عشر، فمتي تكرر الهلإلى اثني عشر، فقد انتقل فيها كلها،
فصار ذلك سنة كاملة تعلقت به أحكام ديننا من المؤقتات شرعا، أو شرطاً، إما بأصل
الشرع كالصيام والحج، وإما بسبب من العبد كالعدة ومدة الإيلاء، وصوم الكفارة
والنَّذْر، وإما بالشرط كالأجل في الدَّيْن والخيار، والأيمان وغير ذلك
|
ص -60-
|
وقال:
هذه تفسير آيات أشكلت حتي لا يوجد في طائفة
من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها
منها قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء}
[يونس: 66]، ظن طائفة أن ما نافية، وهو خطأ، بل هي استفهام، فإنهم يدعون
معه شركاء، كما أخبر عنهم في غير موضع فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون؛
لأنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة
ولهذا قال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 23]، ولو أراد النفي لقال:{ إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء، بل بين أن المشرك لا علم معه إن
هو إلا الظن والخَرْصُ} [الخَرْصُ: الكذب، وكل قول
بالظن انظر : القاموس المحيط، مادة: خرص]، كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}
[الذاريات: 10]
|
ص -61-
|
سورة هود
وقال:
فصل
وقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17]، وهذا يعم جميع من هو على بينة من ربه، ويتلوه
شاهد منه فالبينة: العلم النافع، والشاهد الذي يتلوه: العمل الصالح، وذلك
يتناول الرسول ومن اتبعه إلى يوم القيامة، فإن الرسول على بينة من ربه، ومتبعيه
على بينة من ربه
وقال في حق الرسول: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ
مِّن رَّبِّي} [الأنعام: 57]، وقال
في حق المؤمنين: {أَفَمَن كَانَ على
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءهُمْ} [محمد: 14]، فذكر هذا بعد أن ذكر الصنفين في أول السورة،
فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن
سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن
رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ
بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} الآيات، إلى قوله: {أَفَمَن كَانَ على
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد: 1 -
14]
|
ص -62-
|
وقال أبو الدرْدَاء:
لا تهلك أمة حتي يتبعوا أهواءهم، ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات
والهدي، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إلى اللّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]،فمن اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة،والبصيرة هي
البينة وقال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ الآية} [الأنعام: 122] فالنور الذي يمشي به في الناس هو البينة
والبصيرة، وقال: {اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية}
[النور: 35] قال أُبَي بن كعب وغيره: هو مثل نور المؤمن، وهو نوره الذي
في قلب عبده المؤمن الناشئ عن العلم النافع، والعمل الصالح، وذلك بينة من ربه
وقال: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22]، فهذا النور الذي هو عليه وشرح الصدر للإسلام
هو البينة من ربه، وهو الهدي المذكور في قوله:
{أُوْلَئِكَ على هُدًي مِّن رَّبِّهِمْ}
[البقرة: 5] واستعمل في هذا حرف الاستعلاء؛ لأن القلب لا يستقر ولا يثبت إلا
إذا كان عالمًا موقنًا بالحق، فيكون العلم والإيمان صبغة له ينصبغ بها، كما قال:
{{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، ويصير
مكانة له، كما قال: {قُلْ يَا قَوْمِ
اعْمَلُواْ على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 135]، والمكان والمكانة: قد يراد به ما يستقر
الشيء علىه، وإن لم يكن محيطًا به كالسقف مثلا وقد يراد به ما يحيط به
فالمهتدون لما كانوا على هدي من ربهم ونور وبينة وبصيرة، صار
|
ص -63-
|
مكانة لهم
استقروا علىها، وقد تحيط بهم، بخلاف الذين قال فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ على حَرْفٍ فَإِنْ
أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ على
وَجْهِه} [الحج: 11]، فإن هذا ليس ثابتًا
مستقرًا مطمئنًا، بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه، فقد يطمئن إذا أصابه
خير، وقد ينقلب على وجهه ساقطًا في الوادي
وكذلك فرق بين من أسس بنيانه على تقوي من الله ورضوان، وبين من أسس بنيانه على
شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، وكذلك الذين كانوا على شفا حفرة من النار
فأنقذهم منها، وشواهد هذا كثير
فقد تبين أن الرسول ومن اتبعه على بينة من ربهم وبصيرة، وهدي ونور، وهو الإيمان
الذي في قلوبهم، والعلم والعمل الصالح، ثم قال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}
[هود: 17]، والضمير في مِّنْهُ عائد إلى الله تعالى أي: ويتلو هذا الذي
هو على بينة من ربه شاهد من الله،والشاهد من الله، كما أن البينة التي هو علىها
المذكورة من الله أيضًا
وأما قول من قال: "الشاهد" من نفس المذكور وفسره بلسانه، أو بعلى
بن أبي طالب، فهذا ضعيف؛ لأن كون شاهد الإنسان منه لا يقتضي أن يكون الشاهد
صادقًا، فإنه مثل شهادة
|
ص -64-
|
الإنسان لنفسه، بخلاف
ما إذا كان الشاهد من الله، فإن الله يكون هو الشاهد، وهذا كما قيل في قوله: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ
عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}
[الرعد: 43]، إنه على فهذا ضعيف؛ لأن شهادة قريب له قد اتبعه على دينه ولم
يهتد إلا به لا تكون برهانًا للصدق، ولا حجة على الكفر، بخلاف شهادة من عنده علم
الكتاب الأول فإن هؤلاء شهادتهم برهان ورحمة، كما قال في هذه السورة: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود: 17]، وقال: {وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، وقال: {فَإِن
كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ
الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94]
وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، وهذا الشاهد من الله هو القرآن
ومن قال: إنه جبريل، فجبريل لم يقل شيئًا من تلقاء نفسه، بل هو الذي بلغ القرآن
عن الله، وجبريل يشهد أن القرآن منزل من الله، وأنه حق، كما قال: {لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إليكَ أَنزَلَهُ
بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]، والذي قال هو جبريل قال: يتلوه، أي:
يقرؤه، كما قال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]،
أي : إذا قرأه جبريل فاتبع ما قرأه وقال:
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}
[النجم: 5]
ومن قال: الشاهد لسانه، وجعل الضمير المذكور عائدًا على القرآن ولم يذكر؛ لأنه
جعل البينة هي القرآن، ولو كانت البينة هي القرآن
|
ص -65-
|
لما احتاج إلى
ذلك، وقد قال: على بينة من ربه، فقد ذكر أن القرآن من الله، وقد علم أنه نزل به
جبريل على محمد، وكلاهما بلغه وقرأه، فقوله:
{وَيَتْلُوهُ} جبريل أو محمد، تكرير
لافائدة فيه؛ ولهذا لم يذكر مثل ذلك في القرآن
وأيضًا، فكونه على القرآن لم نجد لذلك نظيرًا في القرآن؛ فإن القرآن كلام الله
واحد لا يكون علىه، وإذا كان المراد على الإيمان بالقرآن والعمل به، فهذا الذي
ذكرناه: إن البينة هي الإيمان بما جاء به الرسول، وهو إخباره أنه رسول الله
وأن الله أنزل القرآن علىه ولما أنزلت هذه السورة وهي مكية، لم يكن قد نزل من
القرآن قبلها إلا بعضه، وكان المأمور به حينئذ هو الإيمان بما نزل منه، فمن آمن
حينئذٍ بذلك ومات على ذلك كان من أهل الجنة
وأيضًا، فتسمية جبريل شاهدًا، لا نظير له في القرآن، وكذلك تسمية لسان الرسول
شاهدًا، وتسمية على شاهدًا، لا يوجد مثل ذلك في الكتاب والسنة، بخلاف شهادة
الله؛ فإن الله أخبر بشهادته لرسوله في غير موضع، وسمي ما أنزله شهادة منه في
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ
شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ}
[البقرة: 140]، فدل على أن كلام الله الذي أنزله وأخبر فيه بما أخبر شهادة
منه
|
ص -66-
|
وهو سبحانه يحكم
ويشهد، ويفتي ويقص، ويبشر ويهدي بكلامه، ويصف كلامه بأنه يحكم ويفتي، ويقص
ويهدي، ويبشر وينذر، كما قال: {قُلِ اللّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127]،
{قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلاَلَةِ} [النساء: 176]، وقال:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ على بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، وقال: {نَحْنُ
نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}
[يوسف: 3]، وقال: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ
مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ
الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصلينَ} [الأنعام: 57]، وقال:{
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]
وكذلك سمي الرسول هاديًا فقال: {وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
[الشوري: 52]، كما سماه بشيرًا ونذيرًا، وسمي القرآن بشيرًا ونذيرًا، فكذلك
لما كان هو يشهد للرسول والمؤمنين بكلامه الذي أنزله، وكان كلامه شهادة منه، كان
كلامه شاهدًا منه، كما كان يحكم ويفتي، ويقص ويبشر وينذر
ولما قيل لعلى بن أبي طالب: حَكَّمتَ مخلوقًا قال: ما حكَّمتُ مخلوقًا،
وإنما حكمتُ القرآن فإن الذي يحكم به القرآن هو حكم الله، والذي يشهد به
القرآن هو شهادة الله عز وجل قال عبد الرحمن بن زيد بن أَسْلَم وقد كان إمامًا،
وأخذ التفسير عن أبيه زيد، وكان زيد إمامًا فيه، ومالك وغيره أخذوا عنه التفسير،
وأخذه عنه عبد الله
|
ص -67-
|
بن وَهْب [هو
أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري، أحد الأثبات والأئمة الأعلام، وصاحب
التصانيف، طلب العلم وله سبع عشرة سنة، صحب مالكًا عشرين سنة وصنف الموطأ الكبير
والصغير وحدث بمائة ألف حديث، ولد سنة 521ه، وتوفي في شعبان سنة 791ه] صاحب
مالك، وأصْبَغ بن الفرج [هو أبو عبد الله أَصْبَغ بن الفرج بن سعيد بن نافع،
الأموي، مفتي الديار المصرية وعالمها، المالكي، وثقه أحمد ابن عبد الله، وقال
ابن معين: "كان من أعلم خلق الله برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة، متي
قالها مالك، ومن خالفه فيها"، وله مصنفات، ولد بعد سنة 051ه، وتوفي في
سنة 522ه] الفقيه، قال: في قوله تعالى: {أَفَمَن
كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] قال رسول الله: "كان
على بينة من ربه" والقرآن يتلوه شاهد أيضًا لأنه
من الله
وقد ذكر الزَجَّاج فيما ذكره من الأقوال: ويتلو رسول الله القرآن، وهو شاهد من
الله وقال أبو العإلىة: أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ: هو
محمد، وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ: القرآن، قال ابن أبي حاتم: وروي عن
ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، ومجاهد، وأبي صالح، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضحاك،
وقتادة، والسدِّي، وخَصِيف، وابن عُيينَةَ نحو ذلك وهذا الذي قالوه صحيح، ولكن
لا يقتضي ذلك أن المتبعين له ليسوا على بينة من ربهم، بل هم على بينة من ربهم
وقد قال الحسن البصري: {أَفَمَن كَانَ على
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} قال: المؤمن على
بينة من ربه، ورواه ابن أبي حاتم، وروي عن الحسين بن على {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} يعني: محمدًا شاهد من الله، وهي تقتضي أن يكون الذي على البينة
من شهد له
وقول القائل: من قال: هو محمد، كقول من قال: هو جبريل، فإن كلاهما بلَّغ
القرآن، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس،
|
ص -68-
|
فاصطفي جبريل من
الملائكة، واصطفي محمدًا من الناس وقال في جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]، وقال في محمد: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] وكلاهما رسول من الله، كما قال: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو
صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 1 3] فكلاهما رسول من الله بلغ ما أرسل به، وهو
يشهد أن ما جاء به هو كلام الله، وأما شهادتهم بما شهد به القرآن فهذا قدر مشترك
بين كل من آمن بالقرآن، فإنه يشهد بكل ما شهد به القرآن؛ لكونه آمن به، سواء كان
قد بلغه أو لم يبلغه
ولهذا كان إيمان الرسول بما جاء به غير تبليغه له، وهو مأمور بهذا وبهذا وله أجر
على هذا وهذا، كما قال:{آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، ولهذا كان يقول: أشهد أني عبد الله ورسوله،
فشهادة جبريل ومحمد بما شهد به القرآن من جهة إيمانهما به، لا من جهة كونهما
مرسلين به، فإن الإرسال به يتضمن شهادتهما أن الله قاله، وقد يرسل غير رسول
بشيء، فيشهد الرسول أن هذا كلام المرسل وإن لم يكن المرسل صادقًا ولا حكيمًا،
ولكن علم أن جبريل ومحمدًا يعلمان أن الله صادق حكيم، فهما يشهدان بما شهد الله
به
وكذلك الملائكة والمؤمنون، يشهدون بأن ما قاله الله فهو حق
|
ص -69-
|
،وأن الله صادق
حكيم، لا يخبر إلا بصدق،ولا يأمر إلا بعدل{وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}
[الأنعام: 115]
فقد تبين أن شهادة جبريل ومحمد هي شهادة القرآن، وشهادة القرآن هي شهادة الله
تعالى والقرآن شاهد من الله، وهذا الشاهد يوافق ويتبع ذلك الذي على بينة من ربه،
فإن البينة والبصيرة والنور والهدي الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم
والمؤمنون، قد شهد القرآن المنزل من الله بأن ذلك حق
ووَيَتْلُوهُ معناه: يتبعه، كما قال: {الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} [البقرة: 121]، أي: يتبعونه حق اتباعه، وقال: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2]، أي: تبعها، وهذا قَفَاه إذا تبعه وقد قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، فهذا الشاهد يتبع الذي على بينة من ربه،
فيصدقه ويزكيه، ويؤيده ويثبته، كما قال: {{قُلْ
نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ
آمَنُواْ} [النحل: 102]، وقال: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عليكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ
بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، وقال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22]
وقد سمي الله القرآن سلطانًا في غير موضع، فإذا كان السلطان المنزل من الله يتبع
هذا المؤمن، كان ذلك مما يوجب قوته وتسلطه علمًا وعملاً، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ
لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]،
|
ص -70-
|
{وَإِذَا
مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ
إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا الآية} [التوبة: 124]
وقال جُنْدُب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمان، ثم تعلمنا
القرآن فازددنا إيمانًا، فهم كانوا يتعلمون الإيمان، ثم يتعلمون القرآن وقال
بعضهم في قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35]، قال: نور القرآن على نور الإيمان، كما قال: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ
عِبَادِنَا} [الشوري: 52]، وقال
السُّدِّي في قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا
بصاحبه
فتبين أن قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [هود: 17]، يعني هدي الإيمان، وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ
مِّنْهُ أي من الله، يعني: القرآن شاهد من الله يوافق الإيمان ويتبعه، وقال:
وَيَتْلُوه لأن الإيمان هو المقصود؛ لأنه إنما يراد بإنزال القرآن الإيمان
وزيادته
ولهذا كان الإيمان بدون قراءة القرآن ينفع صاحبه ويدخل به الجنة، والقرآن بلا
إيمان لا ينفع في الآخرة؛ بل صاحبه منافق؛ كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ
القرآن كمثل الأُتْرجَّة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ
القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل
الريحانة ريحها طيب وطعمها مر
|
ص -71-
|
ومثل المنافق الذي
لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها"
ولهذا جعل الإيمان بينة، وجعل القرآن شاهدًا؛ لأن البينة
من البيان،و"البينة": هي السبيل البينة،وهي الطريق البينة الواضحة،
وهي أيضًا ما يبين بها الحق،فهي بينة في نفسها مبينة لغيرها،وقد تفسر بالبيان
وهي الدلالة والإرشاد، فتكون كالهدي،كما يقال: فلان على هدي وعلى علم،فيفسر
بمعنى المصدر والصفة والفاعلومنه قوله: {أَوَلَمْ
تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]،أي: بيان ما فيها أو يبين ما فيها،أو الأمر
البين فيها وقد سُمِّي الرسول بينة كما قال: {حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ} [البينة: 1، 2]، فإنه يبين الحق، والمؤمن على سبيل بينة
ونور من ربه،والشاهد المقصود به شهادته للمشهود له، فهو يشهد للمؤمن بما هو
علىه،وجعل الإيمان من الله كما جعل الشاهد من الله؛لأن الله أنزل الإيمان في جذر
قلوب الرجال،كما في الصحيحين عن حُذَيْفَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال،
فعلموا من القرآن وعلموا من السنة"
وأيضًا، فالإيمان ما قد أمر الله به
وأيضًا، فالإيمان إنما هو ما أخبر به الرسول، وهذا أخبر به الرسول لكن الرسول له
وحيان: وحي تكلم الله به يتلي، ووحي لا يتلي فقال:
|
ص -72-
|
{وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا الآية} [الشوري: 52]، وهو يتناول القرآن والإيمان وقيل : الضمير
في قوله: {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ
نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشوري: 52]،
يعود إلى الإيمان، ذكر ذلك عن ابن عباس وقيل: إلى القرآن وهو قول السُدِّي،
وهو يتناولهما، وهو في اللفظ يعود إلى الروح الذي أوحاه، وهو الوحي الذي جاء
بالإيمان والقرآن
فقد تبين أن كلاهما من الله نور وهدي منه، هذا يعقل بالقلب، لما قد يشاهد من
دلائل الإيمان، مثل دلائل الربوبية والنبوة، وهذا يسمع بالآذان، والإيمان الذي
جعل للمؤمن هو مثل ما وعد الله به في قوله: {سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ} [فصلت: 53]، أي: أن
القرآن حق، فهذه الآيات متأخرة عن نزول القرآن، وهو مثل ما فعل من نصر رسوله
والمؤمنين يوم بدر، وغير يوم بدر فإنه آيات مشاهدة، صدقت ما أخبر به القرآن
ولكن المؤمنون كانوا قد آمنوا قبل هذا
وقيل: نزول أكثر القرآن الذي ثبت الله به لنبيه وللمؤمنين؛ ولهذا قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] فهو يشهد لرسوله بأنه صادق بالآيات الدالة على
نبوته، وتلك آمن بها المؤمنون ثم أنزل من القرآن شاهدًا له، ثم أظهر آيات معاينة
تبين لهم أن القرآن حق
|
ص -73-
|
فالقرآن وافق
الإيمان، والآيات المستقبلة وافقت القرآن والإيمان؛ ولهذا قال: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود: 17] فقوله: {وَمِن قَبْلِهِ}: يعود الضمير إلى
الشاهد الذي هو القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ الآية} [الأحقاف: 10]، ثم قال: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} الآية فقوله: {وَمِن
قَبْلِهِ} الضمير يعود إلى القرآن
أي: من قبل القرآن، كما قاله ابن زيد وقيل: يعود إلى الرسول، كما قاله
مجاهد، وهما متلازمان
وقوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} فيه وجهان: قيل: هو عطف مفرد، وقيل: عطف جملة قيل:
المعنى: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ، ويتلوه أيضًا من قبله كتاب موسى،
فإنه شاهد بمثل ما شهد به القرآن، وهو شاهد من الله، وقيل: وَمِن قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى جملة، ولكن مضمون الجملة فيها تصديق القرآن، كما قال في
الأحقاف
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يدل على أن قوله: {أَفَمَن
كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}
تتناول المؤمنين،فإنهم آمنوا بالكتاب الأول والآخر،كما تتناول النبي صلى الله
عليه وسلم، وأولئك يعود إليهم الضمير، فإنهم مؤمنون به بالشاهد من الله،
فالإيمان به إيمان بالرسول والكتاب الذي قبله
|
ص -74-
|
ثم قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]،
وروي الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: ما
بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه إلا وجدت تصديقه في كتاب
الله، حتي بلغني أنه قال: "لا يسمع بي أحد من
هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار"، قال سعيد: فقلت: أين هذا في كتاب الله؟ حتي أتيت على هذه
الآية: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قال:
الأحزاب: هي الملل كلها
وقوله تعالى:
{أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي كل من
كان على بينة من ربه، فإنه يؤمن بالشاهد من الله، والإيمان به إيمان بما جاء به
موسى، قال: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ} وهم المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم
من أصحابه وغيرهم إلى قيام الساعة، ثم قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، والأحزاب هم: أصناف الأمم، الذين تحزبوا وصاروا أحزابًا، كما
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:
5]
وقد ذكر الله طوائف الأحزاب في مثل هذه السورة وغيرها، وقد
قال تعالى عن مكذبي محمد صلى الله عليه وسلم : {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11]،وهم الذين قال فيهم:
|
ص -75-
|
{فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ علىهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إليه وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32]، وقال عن أحزاب النصارى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ
كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ الآيات} [ مريم: 37]
وأما من قال: الضمير في قوله: {أُوْلَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعود على أهل الحق قال:
إنه موسى وعيسى ومحمد فإنه إن أراد بهم من كان مؤمنًا بالكتابين قبل نزول
القرآن، فلم يتقدم لهم ذكر، والضمير في قوله: بِهِ مفرد، ولو آمن مؤمن بكتاب
موسى دون الإنجيل بعد نزوله وقيام الحجة عليه به لم يكن مؤمنًا
وهذان القولان حكاهما أبو الفرج ولم يسم قائلهما، والبغوي وغيره لم يذكروا
نزاعًا في أنهم من آمن بمحمد، ولكن ذكروا قولاً أنهم من آمن به من أهل الكتاب،
وهذا قريب ولعل الذي حكي قولهم أبو الفرج أرادوا هذا، وإلا فلا وجه لقولهم
ومن العجب، أن أبا الفرج ذكر بعد هذا في الأحزاب أربعة أقوال :
أحدها: أنهم جميع
الملل، قاله سعيد بن جبير
|
ص -76-
|
والثاني: اليهود والنصارى، قاله
قتادة
والثbالث: قريش، قاله السدي
والرابع: بنو أمية
وبنو المغيرة، قال: أي: أبي طلحة بن عبد العزي قاله مقاتل
وهذه الآية تقتضي أن الضمير يعود إلى القرآن في قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ}، وكذلك: {أُوْلَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ} أنه القرآن، ودليله قوله
تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ
إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}
[هود: 17]، وهذا هو القرآن بلا ريب، وقد قيل: هو الخبر المذكور، وهو أنه من
يكفر به من الأحزاب، وهذا أيضًا هو القرآن، فعلم أن المراد هو الإيمان بالقرآن،
والكفر به باتفاقهم، وأنه من قال في أولئك أنهم غير من آمن بمحمد لم يتصور ما
قال
وقد تقدم في قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ
مُوسَى} وجهان: هل هو عطف جملة أو مفرد؟
لَكنْ الأكثرون على أنه مفرد وقال الزجاج: المعنى: وكان من قبل هذا كتاب
موسى دليل على أمر محمد، فيتلون كتاب موسى عطفًا على قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي: ويتلو كتاب موسى؛ لأن موسى وعيسى بُشِّرا بمحمد في التوراة
والإنجيل، ونُصِّبَ إماما على الحال
|
ص -77-
|
قلت: قد تقدم أن
الشاهد يتلو على من كان على بينة من ربه، أي: يتبعه شاهدًا له بما هو عليه من
البينة وقوله: {أَفَمَن كَانَ على
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} كمن لم يكن،
قال الزجاج: وترك المعادلة؛ لأن فيما بعده دليلاً علىه، وهو قوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ
وَالسَّمِيعِ} [هود: 24]، قال
ابن قتيبة: لما ذكر قبل هذه الآية قومًا ركنوا إلى الدنيا وأرادوها، جاء بهذه
الآية، وتقدير الكلام: أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا؟ فاكتفي من الجواب
بما تقدم إذ كان دليلاً علىه، وقال ابن الأنباري: إنما حذف لانكشاف المعنى،
وهذا كثير في القرآن
قلت: نظير هذه الآية من المحذوف: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، كمن ليس كذلك، وقد قال بعد هذا: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ}، وهذا هو القسم الآخر المعادل لهذا الذي هو على بينة من ربه،
وعلى هذا يكون معناها أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا
أهواءهم، ويكون أيضًا معناها: {أَفَمَن
كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي: بصيرة
في دينه، كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهذا كقوله:
|
ص -78-
|
{أَوَ مَن كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ الآية}
[الأنعام: 122] وكقوله: {أَفَمَن
كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: 14] وقوله: {أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن
لاَّ يَهِدِّي الآية} [يونس: 35]
والمحذوف في مثل هذا النظم قد يكون غير ذلك، كقوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18] أي: تجعلون له من ينشأ في الحلية، ولابد من
دليل على المحذوف، وقد يكون المحذوف مثل أن يقال: أفمن هذه حاله يذم أو يطعن
عليه أو يعرض عن متابعته، أو يفتن أو يعذب، كما قال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} [فاطر: 8]
وقد قيل في هذه الآية: أن المحذوف: أَفَمَن زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حقًا، والقبيح حسنًا، كمن هداه الله فرأي
الحق حقًا والباطل باطلاً والقبيح قبيحًا والحسن حسنًا، وقيل: جوابه تحت قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، لكن يرد عليه أن يقال: الاستفهام ما معناه إلا
أن تقدر أي: هذا تقدر أن تهديه، أو ربك؟ أو تقدر أن تجزيه كما قال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ
عليه وَكِيلًا} [الفرقان: 43]
ولهذا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ
مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} [فاطر:
8] وكما قال: {{أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على عِلْمٍ الآية} [الجاثية: 23] وعلى هذا يكون معناها كمعنى قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: 14]
وعلى هذا، فالمعنى هنا: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ
شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} يذم ويخالف ويكذب ونحو ذلك، كقوله: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ} [الأنعام: 57]، وحذف جواب
|
ص -79-
|
الشرط، وكقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى
أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
[العلق: 11 13]
فقد تبين أن معنى الآية من أشرف المعاني وهذا هو الذي ينتفع به كل أحد، وأن
الآية ذكرت من كان على بينة من ربه، من الإيمان الذي شهد له القرآن، فصار على
نور من ربه وبرهان من ربه على مادلت عليه البراهين العقلية والسمعية، كما قال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174]، فالنور المبين المنزل يتناول القرآن قال
قتادة: بينة من ربكم، وقال الثَّوْرِي: هو النبي صلي الله عليه وسلم، وقال
البغوي: هذا قول المفسرين ولم أجده منقولاً عن غير الثاني، ولا ذكره ابن الجوزي
عن غيره
وذكر في البرهان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الحجة والثاني: أنه الرسول وذكر أنه القرآن عن قتادة والذي
رواه ابن أبي حاتم عن قتادة بالإسناد الثابت أنه بينة من الله، والبينة والحجة
تتناول آيات الأنبياء التي بعثوا بها، فكل ما دل على نبوة محمد صلي الله عليه
وسلم فهو برهان قال تعالى: {{فَذَانِكَ
بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}
[القصص: 32]، وقال لمن قال: لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصاري، قل:
هاتوا برهانكم
ومحمد هو الصادق المصدوق، قد أقام الله على صدقه براهين كثيرة
|
ص -80-
|
وصار محمد نفسه
برهانًا فأقام من البراهين على صدقه؛ فدليل الدليل دليل، وبرهان البرهان
برهان، وكل آية له برهان، والبرهان اسم جنس لا يراد به واحد،كما في قوله: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111، والنمل: 46]، ولو جاؤوا بعده ببراهين كانوا
ممتثلين
والمقصود أن ذلك البرهان يعلم بالعقل أنه دال على صدقه، وهو
بينة من الله، كما قال قتادة، وحجة من الله، كما قال مجاهد والسُّدي: المؤمن
على تلك البينة، ويتلوه شاهد من الله وهو النور الذي أنزله مع البرهان والله
أعلم
فصل
وأما من قال: {أَفَمَن
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد:
14]: إنه محمد صلي الله عليه وسلم، كما قاله طائفة من السلف، فقد يريدون بذلك
التمثيل لا التخصيص، فإن المفسرين كثيرًا ما يريدون ذلك، ومحمد هو أول من كان
على بينة من ربه، وتلاه شاهد منه، وكذلك الأنبياء، وهو أفضلهم وإمامهم،
والمؤمنون تبع له، وبه صاروا على بينة من ربهم
والخطاب قد يكون لفظه له ومعناه عام، كقوله:
|
ص -81-
|
{لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
[الزمر: 65]،{فَإِذَا فَرَغْتَ
فَانصَبْ} [الشرح: 7]، {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50]، ونحو ذلك، وذلك أن الأصل فيما خوطب به النبي صلي
الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهي عنه وأبيح له سار في حق أمته كمشاركة أمته
له في الأحكام وغيرها، حتي يقوم دليل التخصيص، فما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في
حق الأمة إذا لم يخصص، هذا مذهب السلف والفقهاء، ودلائل ذلك كثيرة كقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
الآية} [الأحزاب: 37]، ولما أباح له
الموهوبة قال: خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الآية}
[الأحزاب: 50] فإذا كان هذا مع كون الصيغة خاصة فكيف تجعل الصيغة العامة
له وللمؤمنين مختصة به؟ ولفظ ّمّن: أبلغ صيغ العموم، لاسيما إذا كانت
شرطًا أو استفهامًا، كقوله: {فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَه} [الزلزلة: 7، 8]، وقوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]،وقوله {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]،وقوله: {أَفَمَن
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: 14] وأيضًا، فقد ذكر بعد ذلك قوله: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}
[هود: 17]، وذكر بعد هذا: {مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ} [هود: 24]، وقد تقدم
قبل هذا ذكر الفريقين، وقوله: {أُوْلَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ}
|
ص -82-
|
أُوْلَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ} إشارة إلى جماعة، ولم
يقدم قبل هذا ما يصلح أن يكون مشارًا إليه إلا من، والضمير يعود تارة إلى
لفظ: من، وتارة إلى معناها، كقوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25]،
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]{،وَمَن
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [النساء: 124]،{
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الآية} [النحل: 97]
وأما الإشارة إلى معناها فهو أظهر من الضمير، فقوله: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود: 17]: دليل على أن الذي على بينة من ربه كثيرون لا
واحد، قال ابن أبي حاتم: ثنا عامر بن صالح عن أبيه عن الحسن البصري: أَفَمَن
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ قال: المؤمن على بينة من ربه، وهذا
الذي قاله الحسن البصري هو الصواب، والرسول هو أول المؤمنين، كما قال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104]
ومن قال: إن الشاهد من الله هو محمد كما رواه ابن أبي حاتم،
ثنا الأشَجُّ، ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان الفلاني، عن الحسين بن علي:
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ يعني: محمدًا شاهدًا من الله، فهنا معنى كونه شاهدًا من
الله هو معنى كونه رسول الله، وهو يشهد المؤمنين بأنهم على حق، وإن كان يشهد
لنفسه بأنه رسول الله فشهادته لنفسه معلومة، قد علم أنه صادق فيها بالبراهين
الدالة على نبوته،وأما شهادته للمؤمنين فهو أنها إنما تعلم من جهته بما بَلَغَه
من القرآن،ويخبر به عن
|
ص -83-
|
ربه،فهو إذا شهد
كان شاهدًا من الله
وأما شهادته عليهم بالإيمان والتصديق وغير ذلك، فكما في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا
بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}
[النساء: 41]، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا} [البقرة: 143]، لكن من
قال هذا فقد يريد بالبينة القرآن، فإن المؤمن متبع للقرآن، ومحمد شاهد من الله
يتلوه كما تلاه جبريل
ومن قال: إن الشاهد لسان محمد فهو إنما أراد بهذا القول التلاوة أي: أن لسان
محمد يقرأ القرآن،وهو شاهد منه أي من نفسه فإن لسانه جزء منه،وهذا القول ونحوه
ضعيف، والله أعلمهذا إن ثبت ذلك عمن نقل عنه،فإن هذا وضده ينقلان عن على بن
أبي طالب
وذلك أن طائفة من جُهَّال الشيعة ظنوا أن عليا هو الشاهد منه، أي من النبي صلي
الله عليه وسلم، كما قال له: "أنت مني وأنا منك"
وهذا قاله لغيره أيضًا فقد ثبت في الصحيحين أنه قال:
"الأشعريون هم مني وأنا منهم"، وقال عن جُلَيبِيبِ: "هذا
مني وأنا منه"، وكل
|
ص -84-
|
مؤمن هو من النبي
صلي الله عليه وسلم، كما قال الخليل:
{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}
[إبراهيم: 36]، وقال: {وَمَن لَّمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}
[البقرة: 249]، ورووا هذا القول عن على نفسه، وروي عنه بإسناد أجود منه أنه
قال: كذب من قال هذا، قال ابن أبي حاتم: ذكر عن حسين بن زيد الطَّحَّان، ثنا
إسحاق ابن منصور، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَالِ، عن عبَّاد بن عبد الله
قال: قال علي: ما من قريش أحد إلا نزلت فيه آية، قيل: فما أنزل فيك؟ قال:
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ وهذا كذب على على قطعًا وإن ثبت النقل عن عباد هذا،
فإن له منكرات عنه، كقوله: {أنا الصديق الأكبر، أسلمت قبل الناس بسبع سنين
وقد رووا عن على ما يعارض ذلك، قال ابن أبي حاتم، ثنا أبي، ثنا عمرو بن على
البَاهِلِي، ثنا محمد بن شِوَاص، ثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن
عُرْوَة، عن محمد ابن على يعني ابن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبة {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}: إن الناس يقولون: إنك أنت هو، قال: وددت لو أني أنا هو
ولكنه لسانه قال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن وقتادة نحو ذلك
قلت: وقد تقدم عن الحسين ابنه أن "الشاهد منه": هو محمد صلي
الله عليه وسلم، وإنما تكلم علماء أهل البيت في أنه محمد ردًا على من قال من
الجهلة: إنه علي؛ فإن هذه السورة نزلت بمكة، وعلي كان
|
ص -85-
|
إذ ذاك صغيرًا لم
يبلغ وكان ممن اتبع الرسول ولو كان ابن رسول الله ليس ابن عمه لم تكن شهادته
تنفع لا عند المسلمين ولا عند الكفار، بل مثل هذه الشهادة فيها تهمة القرابة
ولهذا كان أكثر العلماء على أن شهادة الوالد وشهادة الولد لوالده لا تقبل، فكيف
يجعل مثل هذا حجة لنبوة محمد صلي الله عليه وسلم مؤكدًا لها؟ ولذلك قالوا في
قوله تعالي: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، أنه
علي، وهم مع كذبهم هم أجهل الناس، فإنهم نسبوا الله والرسول إلى الاحتجاج بما لا
يحتج به إلا جاهل، فأرادوا تعظيم علي، فنسبوا الله والرسول إلى الجهل، وعلى إنما
فضيلته باتباعه للرسول، فإذا قدح في الأصل بطل الفرع
وأما قول من قال من المفسرين: إن "الشاهد": جبريل عليه السلام
فقد روي ذلك عكرمة عن ابن عباس، ذكره ابن أبي حاتم عنه، وعن أبي العالية، وأبي
صالح، ومجاهد في إحدي الروايات عنه، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضَّحَّاك، وعطاء
الخُرَاسَاِني نحو ذلك وهؤلاء جعلوا
{وَيَتْلُوهُ} : بمعني: يقرأه، أي:
ويتلو القرآن الذي هو البينة، شاهد من الله هو، وقيل: بل معنى قولهم: إن
القرآن يتلوه جبريل هو شاهد محمد صلي الله عليه وسلم، أي: الذي يتلوه جاء من
عند الله وقد تقدم بيان ضعف هذا القول، فإن كل من فسر يتلوه
|
ص -86-
|
بمعنى يقرؤه، جعل
الضمير فيه عائدًا إلى القرآن، وجعل الشاهد غير القرآن
والقرآن لم يتقدم له ذكر،إنما قال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد: 14] والبينة لا يجوز أن يكون تفسيرها بحفظ القرآن،
فإن المؤمنين كلهم على بينة من ربهم وإن لم يحفظوا القرآن،بخلاف البصيرة في
الدين،فإنه من لم يكن على بصيرة من ربه لم يكن مؤمنًا حقًا،بل من القائلين لمنكر
ونكير : آه آه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته
والقرآن إنما مدح من كان على بينة من ربه، فهو على هدي ونور
وبصيرة، سواء حفظ القرآن أو لم يحفظه، وإن أريد اتباع القرآن فهو الإيمان، وأكثر
القرآن لم يكن نزل حين نزول هذه الآية، وقد تقدم إنما يختص به جبريل ومحمد، فهو
تبليغ الرسالة عن الله وصدقهما في ذلك
وأما كون رسالة الله حقًا فهذا هو المشهود به من كل رسول،
وهما لا يختصان بذلك بل يؤمنان به كما يؤمن بذلك كل ملك وكل مؤمن، وشهادتهما بأن
النبي والمؤمنين على حق من هذا الوجه الثاني المشترك، ولو قال: ويبلغه وينزل به
رسول من الله لكان ما قالوه متوجهًا، كما قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102]، {نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}
[الشعراء: 139]،
|
ص -87-
|
{فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة: 97] أما كونه شاهدًا يقرؤه فهذا لا نظير له في
القرآن
وأيضًا، فالشاهد الذي هو من الله هو الكلام، فإن الكلام نزل منه كما يعلمون أنه
منزل من ربك بالحق، ويقال في الرسول: إنه منه، كما قال: رسول من الله، ويقَال في
الشخص: الشاهد، فيقال فيه: هو من شهداء الله، وإما كونه يقال فيه: شاهد من
الله إنها برهان من الله، وآيات من الله في الآيات التي يخلقها الله تصديقًا
لرسوله: فهذا يحتاج استعماله إلى شاهد
والقرآن نزل بلغة قريش الموجودة في القرآن، فإنها تُفَسَّر بلغته المعروفة فيه،
إذا وجدت لا يعدل عن لغته المعروفة مع وجودها، وإنما يحتاج إلى غير لغته في لفظ
لم يوجد له نظير في القرآن، كقوله: {وَيْكَأَنَّ
اللَّهَ} [القصص: 82]، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}
[ص: 3]، {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34]،{وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا} [عبس: 31]، و {قِسْمَةٌ ضِيزَى}
[النجم: 22]، ونحو ذلك من الألفاظ الغريبة في القرآن والذين قالوا هذه
الأقوال، إنما أتوا من جهة قوله: {وَيَتْلُوهُ} فظنوا أن تلاوته هي قراءته، ولم يتقدم للقرآن ذكر، ثم جعل هذا
يقول: جبريل تلاه، وهذا يقول: محمد، وهذا يقول: لسانه والتلاوة قد وجدت في
القرآن واللغة المشهورة بمعنى الاتباع وكثير من المفسرين لا يذكر في هذه الآية
القول الصحيح، فيبقي الناظر الفطن حائرًا،
|
ص -88-
|
ولم يذكر في الذي
على بَينةِ من ربه إلا أنه الرسول، ويذكر في الشاهد عدة أقوال
ثم من العجب أنه يقول: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ} أولئك أصحاب محمد
وقيل: المراد الذين أسلموا من أهل الكتاب،وهو على ما فسره لم يتقدم لهم ذكر،
فكيف يشار إليهم بقوله: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} وأبو الفرج ذكر قولا: أنهم المسلمون،ولم يذكر أن الآية تعم
النبي والمؤمنين،ولما ذكر قول من قال: إنهم المسلمون قال: وهذا يخرج على قول
الضحاك في البينة أنها رسول الله
وقد ذكر في "البينة" أربعة أقوال: أنها الدين، ذكره أبو صالح عن
ابن عباس وأنها رسول الله، قاله الضحاك وأنها القرآن، قاله ابن زيد وأنها
البيان، قاله مُقَاتِل
ثم قال: فإن قلنا: المراد: من كان على بينة من ربه: المسلمون، فالمعني:
أنهم يتبعون الرسول وهو البينة، ويتبع هذا النبي شاهد منه يصدقه، والمسلمون إذا
كانوا على بينة فهي الإيمان بالرسول، ليست البينة ذات الرسول، والرسول ليس هو
مذكورًا في كلامه، فقوله: {وَيَتْلُوهُ} لابد أن يعود إلي مٌَنًه لكن إعادته إلى البينة أولى
|
ص -89-
|
وفسر البينة
بالرسول، وجعل الشاهد يشهد له بصدقه ثم الشاهد جبريل أو غيره، فلو قال: الشاهد
هو القرآن يشهد للمؤمنين، فإنه يتبعهم كما يتبعونه كان قد ذكر الصواب
وهو قد ذكر أقوالاً كثيرة لم يذكرها غيره، وذكر في يتْلُوه قولين: أحدهما:
يتبعه والثاني: يقرؤه، وهما قولان مشهوران
وذكر في "ه" يتلوه قولين: أنها ترجع إلى النبي والثاني: أنها
ترجع إلى القرآن
والتحقيق، أنها ترجع إلى "من"، أو ترجع إلى البينة، والبينة يراد
بها القرآن، فيكون المعنى أن الشاهد من القرآن، وإذا رجع الضمير إلى
"من"، فإن جعل مختصًا بالنبي صلي الله عليه وسلم وهو القول الذي
تقدم بيان فساده عاد الضمير إلى البينة، وإن كانت "من" تتناول كل
من كان على بينة من ربه من المؤمنين ورسول الله أولي المؤمنين تناول الجميع
ومما يوضح ذلك، أن رسول الله جاء بالرسالة من الله، وهذا يختص به، وتصديق هذه
الرسالة والإيمان بها واجب على الثقلين، والرسول هو أول من يجب عليه الإيمان
بهذه الرسالة التي أرسله الله
|
ص -90-
|
بها؛ ولهذا قال
في سورة يونس: {قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
[يونس: 104]، وقال: {قُلْ إِنِّيَ
أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14]، إلى غير ذلك من الآيات
فهو صلى الله عليه وسلم يتعلق به أمران عظيمان:
أحدهما: إثبات نبوته
وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به
والثاني: تصديقه
فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه، وهذا يجب عليه وعلى كل
أحد، فإنه قد يوجد فيمن يرسله المخلوق من يصدق في رسالته، لكنه لا يتبعها، إما
لطعنه في المرسل، وإما لكونه يعصه، وإن كان قد أُرْسِل بحق، فالملوك كثيرًا ما
يرسلون رسولاً بكتب وغيرها يبلغ الرسل رسالتهم، فيصدقون بهاثم قد يكون الرسول
أكثر مخالفة لمرسله من غيره من المرسل إليهم؛ ولهذا ظن طائفة منهم القاضي أبو
بكر أن مجرد كونه رسولاً لله لا يستلزم المدح، ثم قال: إن هذا قد يقال فيمن
قبل الرسالة وبلغها، وفيمن لم يقبل،لكن هذا غلط، فإن الله لا يرسل رسولاً إلا
وقد اصطفاه، فَيبَلِّغ رسالات ربه ورسل الله
|
ص -91-
|
هم أطوع الخلق
لله وأعظم إيمانًا بما بعثوا به،بخلاف المخلوق فإنه يرسل من يكذب عليه، ومن
يعصيه، ومن لا يعتقد وجوب طاعته والخالق منزه عن ذلك
لكن هؤلاء الذين قالوا هذا، يجوزون على الرب أن يرسل كل أحد بكل شيء، ليس في
العقل عندهم ما يمنع ذلك، وإنما ينزهون الرسل عما أجمع المسلمون على تنزيههم عنه
عندهم، مما ثبت بالسمع لا من جهة كونه رسولاً، كما قد بُسط هذا في غير هذا
الموضع، وبين أن هذا الأصل خطأ
ولما كان هو صلي الله عليه وسلم يتعلق به الأمران: في الأول: يقال: آمنت له،
كما قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83]، وقوله:
{يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]، وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا}
[يوسف: 17]
وفي الثاني: يقال: آمنت بالله، فعلينا أن نؤمن له ونؤمن بما جاء به، والله
تعإلى ذكر هذين فذكر أولاً: ما يثبت نبوته وصدقه بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا
أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [هود: 13، 14]، كما تقدم التنبيه على ذلك
|
ص -92-
|
ولما كان
الذي يمنع الإنسان من اتباع الرسول شيئان: إما الجهل، وإما فساد القصد، ذَكَرَ
ما يزيل الجهل، وهو الآيات الدالة على صدقه، ثم ذَكَرَ أهل فساد القصد بقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ
إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ
فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]، فهؤلاء أهل فساد القصد
فهذان الأمران هما المانعان للخلق من اتباع هذا الرسول، كما أنه في البقرة ذكر
ما يوجب العلم وحسن القصد، فقال: {وَإِن
كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ
مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ، ثم قال: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ
فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24]
فلما أثبت هذين الأصلين،أخذ بعد هذا في بيان الإيمان به،وحال من آمن ومن كفر،
فقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّهِ الآية} [هود: 17] ثم قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ
وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18]،وهذا يتناول كل كافر ممن كَذَبَ على الله بادعاء
الرسالة كاذبًا،ويتناول كل من كَذَّبَ رسولاً صادقًا،فقال: إن الله لم يرسل
هذا،ولم يأمر بهذا،فكَذَبَ على الله، وهذا إنما يقع ممن فسد
|
ص -93-
|
قصده بحب الدنيا
وإرادتها،وممن أحب الرئاسة وأراد العلو في الأرض من أهل الجهل
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة حتي يلقي عليه كنفه،
ويقول: فعلت يوم كذا كذا وكذا، ويوم كذا كذا وكذا، فيقول: نعم، فيقول: إني قد
سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته
بيمينه"
وأما الكفار والمنافقون، {وَيَقُولُ
الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ثم ذكر
تعإلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم ذكر مثل الفريقين، فمن تدبر القرآن، وتدبر
ما قبل الآية وما بعدها، وعرف مقصود القرآن؛ تبين له المراد، وعرف الهدي
والرسالة، وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج
وأما تفسيره بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه، فهذا منشأ
الغلط من الغالطين؛ لا سيما كثير ممن يتكلم فيه بالاحتمالات اللغوية فإن هؤلاء
أكثر غلطًا من المفسرين المشهورين، فإنهم لا يقصدون معرفة معناه، كما يقصد ذلك
المفسرون
وأعظم غلطًا من هؤلاء وهؤلاء من لا يكون قصده معرفة مراد الله،
|
ص -94-
|
بل قصده تأويل
الآية بما يدفع خصمه عن الاحتجاج بها، وهؤلاء يقعون في أنواع من التحريف، ولهذا
جوز من جوَّز منهم أن تتأول الآية بخلاف تأويل السلف، وقالوا: إذا اختلف الناس
في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا
في الأحكام على قولين، وهذا خطأ، فإنهم إذا أجمعوا على أن المراد بالآية إما
هذا، وإما هذا، كان القول بأن المراد غير هذين القولين خلافًا لإجماعهم، ولكن
هذه طريق من يقصد الدفع لا يقصد معرفة المراد، وإلا فكيف يجوز أن تضل الأمة عن
فهم القرآن، ويفهمون منه كلهم غير المراد، [ويأتي] متأخرون يفهمون المراد،
فهذا هذا والله أعلم
فصل
وقوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّهِ} كما تقدم هو كقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} [الأنعام: 57]، وقوله: {أَفَمَن
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}
[محمد: 14]،وقوله: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه} [الزمر: 22]، وقوله: {أُوْلَئِكَ
عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ}
[البقرة: 5]
|
ص -95-
|
فإن هذا النوع يبين
أن المؤمن على أمر من الله، فاجتمع في هذا اللفظ حرف الاستعلاء، وحرف
"من" لابتداء الغاية، وما يستعمل فيه حرف ابتداء الغاية فيقال:
هو من الله على نوعين، فإنه إما أن يكون من الصفات التي لا تقوم بنفسها، ولا
بمخلوق، فهذا يكون صفة له، وما كان عينًا قائمة بنفسها، أو بمخلوق فهي مخلوقة
فالأول: كقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ
مِنِّي} [السجدة:
13]، وقوله: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ} [الأنعام:
114]،كما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود
والنوع الثاني: كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]، وقوله:
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53]، {و
مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النساء: 79]، وكما يقال: إلهام الخير وإيحاؤه من الله،
وإلهام الشر وإيحاؤه من الشيطان، والوسوسة من الشيطان، فهذا نوعان:
تارة يضاف باعتبار السبب، وتارة باعتبار العاقبة والغاية فالحسنات: هي النعم،
والسيئات: هي المصائب كلها من عند الله، لكن تلك الحسنات أنعم الله بها على
العبد، فهي منه، إحسانًا وتفضلاً، وهذه عقوبة ذنب من نفس العبد، فهي من نفسه
باعتبار أن عمله السيئ كان
|
ص -96-
|
سببها، وهي عقوبة
له؛ لأن النفس أرادت تلك الذنوب ووسوست بها
وتارة يقال باعتبار حسنات العمل وسيئاته،وما يلقي في القلب من التصورات
والإرادات، فيقال للحق: هو من الله ألهمه العبد ويقال للباطل: إنه من
الشيطان وسوس به، ومن النفس أيضًا؛ لأنها إرادته، كما قال عمر وابن عمر وابن
مسعود فيما قالوه باجتهادهم : إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنا ومن
الشيطان، والله ورسوله بريئان منه
وهذا لفظ ابن مسعود في حديث بروع بنت واشق، قال : إن يكن صوابًا فمن الله، وإن
يكن خطأ فمني ومن الشيطان ؛ لأنه حكم بحكم فإن كان موافقًا لحكم الله فهو من
الله؛ لأنه موافق لعلمه وحكمه، فهو منه باعتبار أنه سبحانه ألهمه عبده لم يحصل
بتوسط الشيطان والنفس، وإن كان خطأ فالشيطان وسوس به، والنفس أرادته ووسوست به،
وإن كان ذلك مخلوقًا فيه، والله خلقه فيه، لكن الله لم يحكم به، وإن لم يكن ما
وقع لي من إلهام الملَك كما قال ابن مسعود : إن للملك بقلب ابن آدم لمة،
وللشيطان لمة؛ فلَمَّة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد
بالشر وتكذيب بالحق فالتصديق من باب الخبر والإيعاد بالخبر، والشر من باب الطلب
والإرادة قال تعالى: {{الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم
مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]
|
ص -97-
|
فهذه حسنات العمل من الله عز وجل بهذين الاعتبارين:
أحدهما: أنه يأمر
بها ويحبها، وإذا كانت خيرًا فهو يصدقها ويخبر بها، فهي من علمه وحكمه، وهي أيضًا
من إلهامه لعبده وإنعامه عليه، لم تكن بواسطة النفس والشيطان؛ فاختصت بإضافتها
إلى الله من جهة أنها من علمه وحكمه، وإن النازل بها إلى العبد ملك، كما اختص
القرآن بأنه منه كلام، وقرآن مسيلمة بأنه من الشيطان، فإن ما يلقيه الله في قلوب
المؤمنين من الإلهامات الصادقة العادلة، هي من وحي الله، وكذلك ما يريهم إياه في
المنام، قال عُبَادة بن الصامت: رُؤْيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في
منامه، وقال عمر: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم
يتجلي لهم أمور صادقة، وقد قال تعالى: {وَإِذْ
أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111]،
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}
[القصص: 7]، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا}
[يوسف: 15]، وقال: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:
8]، على قول الأكثرين، وهو أن المراد: أنه ألهم الفاجرة فجورها، والتقية
تقواها، فالإلهام عنده هو البيان بالأدلة السمعية والعقلية
وأهل السنة يقولون: كلا النوعين من الله، هذا الهدي المشترك
|
ص -98-
|
وذاك الهدي
المختص، وإن كان قد سماه إلهامًا كما سماه هدي، كما في قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى
الْهُدَى} [فصلت: 17]، وكذلك قد
قيل في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] أي:
بينا له طريق الخير والشر، وهو هدي البيان العام المشترك، وقيل: هدينا المؤمن
لطريق الخير، والكافر لطريق الشر؛ فعلى هذا يكون قد جعل الفجور هدي، كما جعل
أولئك البيان إلهامًا
وكذلك قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
[الإنسان: 3]، قيل: هو الهدي المشترك، وهو أنه بين له الطريق التي يجب
سلوكها،والطريق التي لا يجب سلوكها، وقيل: بل هدي كلا من الطائفتين إلى ما سلكه
من السبيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
لكن تسمية هذا هدي قد يعتذر عنه بأنه هدي مقيد لا مطلق، كما قال: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وكما قال: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]،
{وأنه يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: 4] و
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] فهو موافق لقوله وأمره لعلمه وحكمه،
كما أن القرآن وسائر كلامه كذلك، وباعتبار أنه أنعم على العبد بواسطة جنده
بالملائكة
ويقال لضد هذا وهو الخطأ : هذا من الشيطان والنفس؛ لأن الله لا يقوله ولا يأمر
به؛ ولأنه إنما يَنْكُتُه في قلب الإنسان
|
ص -99-
|
الشيطان، ونفسه
تقبله من الشيطان، فإنه يزين لها الشيء فتطيعه فيه، وليس كل ما كان من الشيطان
يعاقب عليه العبد، ولكن يفوته به نوع من الحسنات كالنسيان، فإنه من الشيطان،
والاحتلام من الشيطان، والنعاس عند الذكر والصلاة من الشيطان، والصعق عند الذكر
من الشيطان، ولا إثم على العبد فيما غلب عليه، إذا لم يكن ذلك بقصد منه أو
بذنب
فقوله: { إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّي} [الأنعام: 57] وشبهها
مما تقدم ذكره من هذا الباب، وكذلك قوله: {ذَلِكَ
بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد:
3]،فإن المؤمنين على تصديق ما أخبر الله به،وفعل ما أمر الله ابتداء وتبليغًا
كالقرآن، وقد قال: "إن الله أنزل الأمانة في جَذْرِ قلوب الرجال"
فهي تنزل في قلوب المؤمنين من نوره وهداه، وهذه حسنات دينية وعلوم دينية حق
نافعة في الدنيا والآخرة، وهو الإيمان الذي هو إفضال المنعم، وهو أفضل النعم
وأما قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ
اللّهِ} [النساء: 79]، فقد دخل في ذلك نعم
الدنيا كلها، كالعافية والرزق، والنصر، وتلك حسنات يبتلي الله العبد بها، كما
يبتليه بالمصائب، هل يشكر أم لا؟ وهل يصبر أم لا؟ كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168]، و{قال:
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، {فَأَمَّا
الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ}
الآيات [الفجر: 15]
|
ص -100-
|
وقد يقال
في الشيء: إنه من الله وإن كان مخلوقًا إذا كان مختصًا بالله، كآيات الأنبياء،
كما قال لموسي: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ
مِن رَّبِّكَ} [القصص: 32]، وقلب
العصا حية، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء مخلوق لله، لكنه منه لأنه دل به وأرشد
إلى صدق نبيه موسي، وهو تصديق منه وشهادة منه له بالرسالة والصدق، فصار ذلك من
الله بمنزلة البينة من الله، والشهادة من الله، وليست هذه الآيات مما تفعله
الشياطين والكهان، كما يقال: هذه علامة من فلان، وهذا دليل من فلان، وإن لم يكن
ذلك كلامًا منه
وقد سمي موسي ذلك بينة من الله فقال:
{قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 105]، فقوله: {بِبَيِّنَةٍ
مِّن رَّبِّكُمْ}، كقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}
وهذه البينة هنا حجة وآية، ودلالة مخلوقة تجري مجري شهادة الله وإخباره بكلامه،
كالعلامة التي يرسل بها الرجل إلى أهله وكيله، قال سعيد بن جبير في الآية: هي
كالخاتم تبعث به، فيكون هذا بمنزلة قوله: صدقوه فيما قال، أو أعطوه ما طلب
فالقرآن والهدي منه، وهو من كلامه وعلمه وحكمه الذي هو قائم به غير مخلوق، وهذه
الآيات دليل على ذلك، كما يكتب كلامه في
|
ص -101-
|
المصاحف، فيكون
المراد المكتوب به الكلام يعرف به الكلام، قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي
لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا
بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]
ولهذا يكون لهذه الآيات المعجزات حرمة، كالناقة وكالماء النابع بين أصابع النبي
صلي الله عليه وسلم ونحو ذلك والله سبحانه أعلم
|
ص -102-
|
فصل
فى قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} الآية،وما بعدها إلى قوله: {أَفَلاَ
تَذَكَّرُونَ} [هود: 1724]، ذكر
سبحانه الفرق بين أهل الحق والباطل،وما بينهما من التباين والاختلاف مرة بعد مرة،ترغيبًا
فى السعادة وترهيبًا من الشقاوة
وقد افتتح السورة بذلك فقال: {الَر
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1، 2]، فذكر أنه نذير وبشير، نذير ينذر بالعذاب لأهل
النار، وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحق
ثم ذكر حال الفريقين فى السراء والضراء، فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ
نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء
بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ
لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 11]
ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء، وحال من اتبعهم ومن كذبهم،
|
ص -103-
|
كيف سعد هؤلاء فى
الدنيا والآخرة، وشقى هؤلاء فى الدنيا والآخرة، فذكر ما جرى لهم، إلى قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} إلى قوله: {وَذَلِكَ يَوْمٌ
مَّشْهُودٌ} [هود: 100103]
ثم ذكر حال الذين سعدوا، والذين شقوا، ثم قال:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [هود: 103]، فإنه قد يقال: غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا
والناس كلهم يموتون، وإما كونهم أُهْلِكُوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية، وصاروا
عِبْرَةَ يذكرون بالشر ويلعنون، إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة، فإن لعنة
المؤمنين لهم بالآخرة، وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون هو مما يزيدهم عذابًا، كما
أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء، واتباعهم لهم هو مما يزيدهم
ثوابًا
فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة،وكان
ذلك له آية،وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث،فقد لا يبالى بمثل
هذا، وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة، لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله
وذلك له آية
وقد ختم السورة بقوله: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ إلى آخرها} [هود: 121 -123]، كما افتتحها بقوله {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ} [هود: 2]، فذكر التوحيد والإيمان بالرسل، فهذا دين الله فى
الأولين
|
ص -104-
|
والآخرين، قال
أبو العالية: كلمتان يُسْأَلُ عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون، وماذا
أَجَبْتُم المرسلين؟
ولهذا قال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ
مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}
[القصص: 65]، و{ أَيْنَ شُرَكَائِيَ
الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}
[القصص: 62]، هو الشرك فى العبادة، وهذان هما الإيمان والإسلام، وكان النبى
صلى الله عليه وسلم يقرأ تارة فى ركعتى الفجر سورتى الإخلاص، وتارة بآيتى
الإيمان والإسلام،فيقرأ قوله: {آمَنَّا
بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا الآية}
[البقرة: 136]، فأولها الإيمان، وآخرها الإسلام، ويقرأ فى الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ} [آل عمران: 64]، فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام
له
وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا
آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا
وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، ففيها الإيمان والإسلام فى آخرها، وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 69،70]
|
ص -105-
|
فصل
وقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ
آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]،فقد فصله
بعد إحكامه،بخلاف من تكلم بكلام لم يحكمه،وقد يكون فى الكلام المحكم ما لم يبينه
لغيره،فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده،كما قال: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]، وقال:
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ
فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52]، فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس
كمن يتكلم بلا علم
وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إلى قوله : فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [هود: 13، 14]، فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله
مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه، كان فى مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد
على الإتيان بمثله من دون الله، كما قال: {قُل
لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]
وحينئذ، فعلم أن ذلك من خصائص من أرسله الله، وما كان
|
ص -106-
|
مختصا بنوع فهو
دليل عليه؛ فإنه مستلزم له، وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها،
فإنها مختصة بجنسهم
وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتى به غيره، وكان
ذلك برهانًا بينًا على أن الله أنزله، وأنه نزل بعلم الله هو الذى أخبر بخبره،
وأمر بما أمر به، كما قال: {لَّكِنِ اللّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ الآية} [النساء: 166]، وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد، وأنه
لا إله إلا الله، من جهة أن الرسول أخبر بذلك، ومن جهة أنه لا يقدر أحد على
الإتيان بهذا القرآن إلا الله، فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله، إلى غير ذلك
من وجوه البيان فيه، كما قد بسط ونبه عليه فى غير هذا الموضع، ولا سيما هذه
السورة، فإن فيها من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من المواعظ
والحكم والترغيب والترهيب ما لا يُقَدِّر قدره إلا الله
والمقصود هنا هو الكلام على قوله:
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] حيث سأل السائل عن تفسيرها، وذكر ما فى التفاسير
من كثرة الاختلاف فيها، وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عَمَى عن معرفة المراد
الذى يحصل به الهدى والرشاد، فإن الله تعالى إنما نزل القرآن ليهتدى به لا
ليختلف فيه، والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه، فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك
المعانى التى لا يمكن الجمع بينه
|
ص -107-
|
وبينها لم يعرف
الحق،ولم تفهم الآية ومعناها، ولم يحصل به الهدى والعلم الذى هو المراد بإنزال
الكتاب
قال أبو عبد الرحمن السُلَمِى: حدثنا الذين كانوا يُقْرِئُونَنَا القرآن عثمان
بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله
عليه وسلم عشر آيات،لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا:
فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا
وقال الحسن البصرى: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فى ماذا نزلت، وماذا
عنى بها وقد قال تعالى: {أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}
[النساء: 82]، وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]
فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ
المبين، والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل، والعقل يتضمن العلم والعمل،
فمن عرف الخير والشر، فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا؛ ولهذا لا يُعَدُّ
عاقلا إلا من فعل ما ينفعه، واجتنب ما يضره، فالمجنون الذى لا يفرق بين هذا وهذا
قد يُلْقِى نفسه فى المهالك، وقد يفر مما ينفعه
|
ص -108-
|
وسُئلَ رَحِمُه الله عن قوله تعالى: {وَأَمَّا
الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 108]، وقوله تعالى:
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]
فأجاب:
الحمد لله، قال طوائف من العلماء أن قوله: {مَا
دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}
أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه
الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسَقْفُه عرش الرحمن"، وقال بعض العلماء فى قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، هى أرض الجنة
وعلى هذا، فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التى هى سقف الجنة، إذ
كل ما علا فإنه يسمى فى اللغة سماء، كما يسمى السحاب سماء، والسقف سماء
|
ص -109-
|
وأيضًا، فإن
السموات وإن طُوِيَت وكانت كالمُهْلِ، واستحالت عن صورتها، فإن ذلك لا يوجب عدمها
وفسادها، بل أصلها باق، بتحويلها من حال إلى حال، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة، وأرض
دائمة والله أعلم
|
ص -110-
|
سورة يوسف
وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله :
فَصْل
قول يوسف صلى الله عليه وسلم لما قالت له امرأة العزيز: {هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، المراد بربه فى أصح القولين هنا: سيده، وهو
زوجها الذى اشتراه من مصر، الذى قال لامرأته: {أَكْرِمِي
مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21]، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]
فلما وصى به امرأته فقال لها: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، قال يوسف: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}؛ ولهذا قال: إنَّهٍ لا يٍفًلٌحٍ بظَّالٌمٍون والضمير فى:
إِنَّهُ معلوم بينهما، وهو سيدها
|
ص -111-
|
وأما قوله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، فهذا
خبر من الله تعالى أنه رأى برهان ربه، وربه هو الله كما قال لصاحبى السجن: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [يوسف: 37]، وقوله: {رَبِّي} مثل قوله لصاحب
الرؤيا: \ذًكٍرًنٌي عٌندّ رّبٌَك ، قال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، قيل: أنْسِىَ يوسف ذكر ربه، لَمَّا قال: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}
وقيل: بل الشيطان أَنْسَى الذى نجا منهما ذكر ربه، وهذا هو
الصواب،فإنه مطابق لقوله: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}، قال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} والضمير يعود إلى القريب، إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك؛
ولأن يوسف لم ينس ذكر ربه، بل كان ذاكرًا لربه
وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه، وقال لهما: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ
أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ
أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن
سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39، 40]
وقال لهما قبل ذلك: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أى: فى الرؤيا
|
ص -112-
|
{إِلاَّ
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا}، يعنى: التأويل {ذَلِكُمَا
مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ
مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}
[يوسف: 37، 38]، فبذا يذكر ربه عز وجل فإن هذا مما علمه ربه؛ لأنه ترك ملة
قوم مشركين لا يؤمنون بالله،وإن كانوا مقرين بالصانع ولا يؤمنون بالآخرة،واتبع
ملة آبائه أئمة المؤمنين الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره إبراهيم وإسحاق
ويعقوب،فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه
ثم بعد هذا عبر الرؤيا فقال: {يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا الآية} [يوسف: 41]، ثم لما قضى تأويل الرؤيا قال للذى نجا منهما:
{اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، فكيف يكون قد أَنْسَى الشيطان يوسف ذكر ربه؟
وإنما أنسى الشيطان الناجى ذكر ربه، أى: الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه،
وهو أن يذكر عنده يوسف والذين قالوا ذلك القول، قالوا: كان الأولى أن يتوكل
على الله، ولا يقول: اذكرنى عند ربك، فلما نسى أن يتوكل على ربه جوزى بِلُبْثِه
فى السجن بِضْعَ سنين
فيقال: ليس فى قوله: {اذْكُرْنِي عِندَ
رَبِّكَ} ما يناقض التوكل، بل قد قال يوسف: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف: 40]، كما أن قول أبيه: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ
مُّتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67]، لم يناقض
توكله، بل قال:
|
ص -113-
|
{وَمَا
أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]
وأيضًا، فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين،
والمخلص لا يكون مخلصًا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن
مشركًا لا فى عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه فى فعل نفسه بقوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ
وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:
33]، فكيف لا يتوكل عليه فى أفعال عباده
وقوله: {اذْكُرْنِي
عِندَ رَبِّكَ، مثل قوله لربه: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، فلما
سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضًا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة
المنهى عنه،فكيف يكون قوله للفتى: اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ مناقضًا
لِلتَّوَكُّل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله ليتبين الحق، ويوسف
كان من أثبت الناس
ولهذا بعد أن طلب: {وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا
بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]، فيوسف
يذكر ربه فى هذه الحال، كما ذكره فى تلك، ويقول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} فلم يكن فى قوله له:
|
ص -114-
|
{اذْكُرْنِي عِندَ
رَبِّكَ} ترك لواجب، ولا فعل
لمحرم، حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه فى السجن بضع سنين، وكان القوم قد عزموا
على حبسه إلى حين قبل هذا ظلمًا له، مع علمهم ببراءته من الذنب
قال الله تعالى: {ثُمَّ
بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35]، ولبثه فى السجن كان كرامة من الله فى حقه؛
ليتم بذلك صبره وتقواه، فإنه بالصبر والتقوى نال ما نال؛ ولهذا قال: {أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا
إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، ولو
لم يصبر ويتق، بل أطاعهم فيما طلبوا منه جزعًا من السجن، لم يحصل له هذا الصبر
والتقوى، وفاته الأفضل باتفاق الناس
لكن تنازع العلماء، هل يمكن الإكراه على الفاحشة؟ على
قولين:
قيل: لا يمكن، كقول أحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهما،
قالوا: لأن الإكراه يمنع الانتشار
والثانى: يمكن، وهو قول مالك والشافعى، وابن عقيل، وغيره من
أصحاب أحمد؛ لأن الإكراه لا ينافى الانتشار، فإن الإكراه لا ينافى كون الفعل
اختيارًا، بل المكره يختار دفع أعظم الشَرَّيْنِ بالتزام
|
ص -115-
|
أدناهما وأيضًا،
فالانتشار بلا فعل منه، بل قد يُقَيَّد ويُضْجَع فتباشره المرأة فتنتشر شهوته
فتستدخل ذَكَرَهَ
فعلى قول الأولين: لم يكن يحل له ما طلبت منه بحال، وعلى
القول الثانى: فقد يقال: الحبس ليس بإكراه يبيح الزنا، بخلاف ما لو غلب على
ظنه أنهم يقتلونه أو يَتْلِفُون بعض أعضائه، فالنزاع إنما هو فى هذا، وهم لم
يبلغوا به إلى هذا الحد، وإن قيل: كان يجوز له ذلك لأجل الإكراه لكن يفوته
الأفضل
وأيضًا، فالإكراه إنما يحصل أول مرة ثم يباشر، وتبقى له شهوة
وإرادة فى الفاحشة
ومن قال: الزنا لا يتصور فيه الإكراه، يقول: فرق بين ما لا
فعل له كالمقيد وبين من له فعل، كما أن المرأة إذا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حتى
فُعِلَ بها الفاحشة لم تأثم بالاتفاق، وإن أُكْرِهَتْ حتى زنت ففيه قولان: هما
روايتان عن أحمد، لكن الجمهور يقولون : لا تأثم، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 33]،
وهؤلاء يقولون: فعل المرأة لا يحتاج إلى انتشار، فإنما هو كالإكراه على شرب
الخمر، بخلاف فعل الرجل، وبسط هذا له موضع آخر
|
ص -116-
|
والمقصود أن يوسف
لم يفعل ذنبًا ذكره الله عنه، وهو سبحانه لا يذكر عن أحد من الأنبياء ذنبًا إلا
ذكر استغفاره منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارًا من هذه الكلمة، كما لم يذكر عنه
استغفارًا من مقدمات الفاحشة، فعلم أنه لم يفعل ذنبًا فى هذا ولا هذا، بل هَمَّ
هما تركه لله، فَأُثِيْبَ عليه حسنة، كما قد بُسِطَ هذا فى موضعه
وأما ما يكفره الابتلاء من السيئات، فذلك جُوْزِىَ به صاحبه بالمصائب المكفرة،
كما فى قوله صلى الله عليه وسلم: " ما يُصيِبُ المؤمن
من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزن، ولا غَمٍّ ولا أذى، إلا كَفَّر الله
به خطاياه"، ولما أنزل الله تعالى هذه الآية: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة
الظهر، وَأَىُّنَا لم يعمل سوءًا؟ فقال: "ألست تحزن؟ ألست تنصب؟
ألست تُصِيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به" [واللأواء: الشدة وضيق
المعيشة]
فتبين أن قوله: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ
ذِكْرَ رَبِّهِ}، أى: نسى الفتى ذكر ربه أن
يذكر هذا لربه، ونسى ذكر يوسف ربه، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، ويوسف قد
ذكر ربه، ونسى الفتى ذكر يوسف ربه، وأنساه الشيطان أن يذكر ربه هذا الذكر الخاص،
فإنه وإن كان يسقى ربه خمرًا، فقد لا يخطر هذا الذكر بقلبه، وأنساه
|
ص -117-
|
الشيطان تذكير ربه،
وإذكار ربه لما قال: اذْكُرْنِي، أمره بإذكار ربه، فأنساه الشيطان إذكار
ربه، فإذكار ربه أن يجعله ذاكرًا،فأنساه الشيطان أن يجعل ربه ذاكرا ليوسف،
والذكر هو مصدر، وهو اسم، فقد يضاف من جهة كونه اسمًا،فيعم هذا كله،أى: أنساه
الذكر المتعلق بربه، والمضاف إليه
ومما يبين أن الذى نسى ربه هو الفتى لا يوسف قوله بعد ذلك: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ
أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45]،وقوله : {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}، دليل على أنه كان قد نسى فادكر
فإن قيل: لا رَيْب أن يوسف سَمَّى السيد رَبا فى قوله: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ وارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} ونحو ذلك، وهذا كان جائزًا فى شرعه،كما جاز فى شرعه أن يسجد له
أبواه وإخوته، وكما جاز فى شرعه أن يؤخذ السارق عبدًا، وإن كان هذا منسوخًا فى
شرع محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله:
{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:
23]، إن أراد به السيد فلا جناح عليه، لكن معلوم أن ترك الفاحشة خوفًا لله
واجب ولو رضى سيدها، ويوسف عليه السلام تركها خوفًا من الله {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ}،
|
ص -118-
|
قال تعالى:
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، وقال
يوسف أيضًا {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ
عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33، 34]، فدل على أنه كان معه من خوف الله ما يزعه
عن الفاحشة، ولو رضى بها الناس، وقد دعا ربه عز وجل أن يصرف عنه كَيْدَهُنَّ
وقوله:
{السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} بصيغة جمع التذكير، وقوله: {كَيْدَهُنَّ} بصيغة جمع
التأنيث، ولم يقل: مما يدعيننى إليه، دليل على الفرق بين هذا وهذا، وأنه كان من
الذكور من يدعوه مع النساء إلى الفاحشة بالمرأة، وليس هناك إلا زوجها، وذلك أن
زوجها كان قليل الغيرة، أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها؛ ولهذا لما اطَّلَعَ
على مراودتها قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29]، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف، حتى لا
تتمكن من مراودته، وأمر يوسف ألا يذكر ما جرى لأحد محبة منه لامرأته، ولو كان
فيه غِيْرَة لعاقب المرأة
ومع هذا، فشاعت القصة واطَّلَعَ عليها الناس من غير جهة
يوسف، حتى تحدثت بها النسوة فى المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع
هذا: ف {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ
سِكِّينًا} [يوسف: 31]،
|
ص -119-
|
وأمرت يوسف أن يخرج عليهن؛ ليقمن عذرها على مراودته، وهى تقول
لهن: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي
فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ
مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 23]
وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته، والخلوة به، مع علم الزوج بما جرى،
وهذا من أعظم الدِّياثة} [الدياثة: الرجل الذى لا غيرة له على أهله]، ثم إنه
لما حُبِسَ فإنما حبس بأمرها، والمرأة لا تتمكن من حبسه إلا بأمر الزوج، فالزوج
هو الذى حبسه وقد روى أنها قالت: هذا القِبْطِىُّ هتك عرضى فحبسه، وحبسه لأجل
المرأة معاونة لها على مطلبها لِديَاثَتِهِ، وقلة غيرته، فدخل هو فى من دعا يوسف
إلى الفاحشة
فعلم أن يوسف لم يترك الفاحشة لأجله، ولا لخوفه منه، بل قد علم يقينًا أنه لم
يكن يخاف منه، وأن يوسف لو أعطاها ما طلبت،لم يكن الزوج يدرى،ولو درى فلعله لم
يكن ينكر؛ فإنه قد درى بالمراودة والخُلْوَةَ التى هى مقتضية لذلك فى الغالب فلم
ينكر، ولو قدر أنه هَمَّ بعقوبة يوسف فكانت هى الحاكمة على الزوج القاهرة له
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من
ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"،
ولما راجعنه فى إمامة الصديق قال: "إنكن لأنتن صواحب يوسف"، ولما
أنشده الأعشى:
|
ص -120-
|
وهن شر غالب لمن
غلب
استعاد ذلك منه وقال: وهن شَرُّ غالب لمن غلب فكيف لا تغلب مثل هذا الزوج
وتمنعه من عقوبة يوسف؟ وقد عهد الناس خلقًا من الناس تغلبهم نساؤهم، من نساء
التتر وغيرهم، يكون لامرأته غرض فاسد فى فتاه، أو فتاها، وتفعل معه ما تريد، وإن
أراد الزوج أن يكشف أو يُعَاقِب منعته ودفعته، بل وأهانته وفتحت عليه أبوابًا من
الشر بنفسها، وأهلها وحَشَمِهَا، والمطالبة بصداقها وغير ذلك، حتى يتمنى الرجل
الخلاص منها رأسًا برأس، مع كون الرجل فيه غيرة فكيف مع ضعف الغيرة؟!
فهذا كله يبين أن الداعى ليوسف إلى ترك الفاحشة كان خوف الله لا خوفًا من السيد؛
فلهذا قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، قيل: هذا مما يبين محاسن يوسف، ورعايته لحق
الله وحق المخلوقين، ودفعه الشر بالتى هى أحسن، فإن الزنا بامرأة الغير فيه حقان
مانعان، كل منهما مستقل بالتحريم
فالفاحشة حرام لحق الله ولو رضى الزوج، وظلم الزوج فى امرأته حرام لحقه، بحيث لو
سقط حق الله بالتوبة منه فحق هذا فى امرأته لا يسقط، كما لو ظلمه وأخذ ماله وتاب
من حق الله، لم يسقط
|
ص -121-
|
حق المظلوم بذلك؛
ولهذا جاز للرجل إذا زنت امرأته أن يقذفها ويلاعنها، ويسعى فى عقوبتها بالرجم، بخلاف
الأجنبى، فإنه لا يجوز له قذفها ولا يلاعن، بل يُحَدُ إذا لم يأت بأربعة شهداء،
فإفساد المرأة على زوجها من أعظم الظلم لزوجها، وهو عنده أعظم من أخذ ماله
ولهذا يجوز له قتله دفعًا عنها باتفاق العلماء، إذا لم يندفع إلا بالقتل
بالاتفاق، ويجوز فى أظهر القولين قتله وإن اندفع بدونه، كما فى قصة عمر بن
الخطاب رضى الله عنه لما أتاه رجل بيده سيف فيه دم، وذكر أنه وجد رجلا تفخذ
امرأته فضربه بالسيف، فأقره عمر على ذلك وشكره، وقَبِلَ قوله أنه قتله لذلك إذ
ظهرت دلائل ذلك
وهذا كما لو اطلع رجل فى بيته، فإنه يجوز له أن يَفْقأ عينه ابتداء، وليس عليه
أن ينذره، هذا أصح القولين، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "لو اطلع رجل فى بيتك ففقأت عينه ما كان
عليك شىء"، وكذلك قال فى الذى عض يد غيره فنزع يده
فانقلعت أسنان العاض
وهذا مذهب فقهاء الحديث، وأكثر السلف، وفى المسألتين نزاع ليس هذا موضعه، إذ
المقصود أن الزانى بامرأة غيره ظالم للزوج، وللزوج حق عنده؛ ولهذا ذكر النبى صلى
الله عليه وسلم أن من
|
ص -122-
|
زنى بامرأة
المجاهد؛ فإنه يُمَكَّن يوم القيامة من حسناته يأخذ منها ما شاء
وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل الله ندًا وهو خلقك"،
قلت: ثم أى؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ معك"، قلت:
ثم أى؟ قال: "أن تزانى بحَليلَة جَارِكَ" فذكر الزنا بحليلة
الجار، فعلم أن للزوج حقًا فى ذلك، وكان ظلم الجار أعظم؛ للحاجة إلى المجاورة
وإن قيل: هذا قد لا يُمَكِّن زوج المرأة أن يحترز منه،والجار عليه حق زائد على
حق الأجنبى، فكيف إذا ظلم فى أهله والجيران يأمن بعضهم بعضًا، ففى هذا من الظلم
أكثر مما فى غيره، وجاره يجب عليه أن يحفظ امرأته من غيره، فكيف يفسدها هو
فلما كان الزنا بالمرأة المزوجة له علتان كل منهما تستقل بالتحريم، مثل لحم
الخنزير الميت، عَلَّلَ يوسف ذلك بحق الزوج، وإن كان كل من الأمرين مانعًا له،
وكان فى تعليله بحق الزوج فوائد:
منها: أن هذا مانع تعرفه المرأة وتعذره به، بخلاف حق الله تعالى فإنها لا تعرف
عقوبة الله فى ذلك
ومنها: أن المرأة قد ترتدع بذلك، فترعى حق زوجها، إما
|
ص -123-
|
خوفًا وإما رعاية
لحقه، فإنه إذا كان المملوك يمتنع عن هذا رعاية لحق سيده؛ فالمرأة أولى بذلك؛
لأنها خائنة فى نفس المقصود منها، بخلاف المملوك، فإن المطلوب منه الخدمة،
وفاحشته بمنزلة سرقة المرأة من ماله
ومنها: أن هذا مانع مُؤْْيس لها فلا تطمع فيه لا بنكاح ولا بِسِفَاح، بخلاف
الخَلِىَّة من الزوج، فإنها تطمع فيه بنكاح حلال
ومنها : أنه لو علل بالزنا فقد تسعى هى فى فراق الزوج، والتزوج به، فإن هذا
إنما يحرم لحق الزوج خاصة ؛ ولهذا إذا طلقت امرأته باختياره جاز لغيره أن
يتزوجها، ولو طلقها ليتزوج بها كما قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عَوْف ٍ:
إن لى امرأتين فاختر أيتهما شئت حتى أطلقها وتتزوجها لكنه بدون رضاه لا يحل، كما
فى المسند عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ليس مِنَّا من خَبَّبَ امرأة على زوجها، ولا عبدًا على مواليه" [قوله: خَبَّب: أى خدع وأفسد]، وقد حَرَّمَ النبي صلى الله
عليه وسلم أن يَخْطِب الرجل على خِطْبَة أخيه، ويَسْتَام على سَوْمِ أخيه، فإذا
كان بعد الخِطْبَةِ وقبل العقد لا يحل له أن يطلب التزوج بامرأته فكيف بعد
العقد، والدخول والصحبة ؟ !
فلو علل بأن هذا زنا مَحَرَّم ربما طمعت فى أن تفارق الزوج وتتزوجه، فإن
كَيْدَهُنَّ عظيم، وقد جرى مثل هذا فلما علل بحق
|
ص -124-
|
سيده وقال: إِنَّهُ
رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، يئست من ذلك، وعلمت أنه يراعى حق الزوج، فلا
يزاحمه فى امرأته البتة، ثم لو قدر مع هذا أن الزوج رضى بالفاحشة وأباح امرأته،
لم يكن هذا مما يبيحها لحق الله ولحقه أيضًا فإنه ليس كل حق للإنسان له أن
يسقطه، ولا يسقط بإسقاطه، وإنما ذاك فيما يباح له بذله، وهو ما لا ضرر عليه فى
بذله، مثل ما يعطيه من فضل مال ونفع
وأما ما ليس له بذله فلا يباح بإباحته، كما لو قال له: علمنى السحر والكفر
والكهانة، وأنت فى حل من إضلالى، أو قال له: بِعْنى رقيقًا وخذ ثمنى، وأنت فى
حل من ذلك
وكذلك إذا قال: افعل بى أو بابنتى أو بامرأتى أو بإمائى الفاحشة، لم يكن هذا
مما يسقط حقه فىه بإباحته، فإنه ليس له بذل ذلك، ومعلوم أن الله يعاقبها على
الفاحشة وإن تراضيا بها، لكن المقصود أن فى ذلك أيضًا ظلمًا لهذا الشخص لا يرتفع
بإباحته، كظلمه إذا جعله كافرًا أو رقيقًا، فإن كونه يفعل به الفاحشة أو بأهله،
فيه ضرر عليه لا يملك إباحته؛ كالضرر عليه فى كونه كافرًا، وهو كما لو قال له:
أَزِلْ عقلى وأنت فى حل من ذلك؛ فإن الإنسان لا يملك بذل ذلك، بل هو ممنوع من
ذلك، كما يمنع السفيه من التصرف فى ماله، أو إسقاط حقوقه، وكذلك المجنون
والصغير؛ فإن هؤلاء محجور عليهم لحقهم
|
ص -125-
|
ولهذا لو أذن له
الصبى أو السفيه فى أخذ ماله لم يكن له ذلك، ومن أذن لغيره فى تَكْفِيرهِ أو
تَجْنِيِنه أو تَخْنِيثِهِ والإفحاش به وبأهله،فهو من أَسْفه السفهاء، وهذا مثل
الربا،فإنه وإن رضى به المرابى وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك؛لما فيه من ظلمه؛ ولهذا
له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة، ولا يعطيه إلا رأس ماله، وإن كان قد بذله
باختياره،ولو كان التحريم لمجرد حق الله تعالى لسقط برضاه، ولو كان حقه إذا
أسقطه سقط لما كان له الرجوع فى الزيادة، والإنسان يحرم عليه قتل نفسه أعظم مما
يحرم عليه قتل غيره، فلو قال لغيره: اقتلنى لم يملك منه أعظم مما يملك هو من
نفسه
ولهذا يوم القيامة يتظلم من الأكابر، وهم لم يكرهوهم على الكفر، بل باختيارهم
كفروا قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ
الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}
[الأحزاب: 66 68]، وقال: {حَتَّى
إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا
هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ
ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ}
[الأعراف: 38]، وقال تعالى: {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ
الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29]
وكذلك الناس يلعنون الشيطان، وإن كان لم يكرههم على الذنوب،
|
ص -126-
|
بل هم باختيارهم
أذنبوا
فإن قيل: هؤلاء يقولون لشياطين الإنس والجن: نحن لم نكن نعلم أن فى هذا علينا
ضررًا، ولكن أنتم زينتم لنا هذا وحَسَّنْتُمُوهُ حتى فعلناه، ونحن كنا جاهلين
بالأمر قيل: كما نعلم أن الجاهل بما عليه فى الفعل من الضرر لا عبرة برضاه
وإذنه، وإنما يصح الرضاء والإذن ممن يعلم ما يأذن فيه ويرضى به، وما كان على
الإنسان فيه ضرر راجع لا يرضى به إلا لعدم علمه، وإلا فالنفس تمتنع بذاتها من
الضرر الراجع
ولهذا كان من اشترى المعيب والمدلس والمجهول السعر ولم يعلم بحاله غير راض به،
بل له الفسخ بعد ذلك؛ كذلك الكفر والجنون والفاحشة بالأهل، لا يرضى بها إلا من
لم يعلم بما فيها من الضرر عليه، فإذا أذن فيها لم يسقط حقه،بل يكون مظلومًا،
ولو قال: أنا أعلم ما فيها من العقاب وأرضى به كان كذبًا، بل هو من أجهل الناس
بما يقوله
ولهذا لو تكلم بكلام لا يفهم معناه، وقال: نويت موجبه عند الله، لم يصح ذلك فى
أظهر القولين؛ مثل أن يقول: "بهشم" ولا يعرف معناها، أو يقول:
أنت طالق إن دخلت الدار وينوى موجبها
|
ص -127-
|
من العربية، وهو
لا يعرف ذلك؛ فإن النية والقصد والرضا مشروط بالعلم، فما لم يعلمه لا يرضى به،
إلا إذا كان راضيًا به مع العلم، ومن كان يرضى بأن يُكَفَّر ويُجَنَّ وتُفْعَل
الفاحشة به وبأهله، فهو لا يعلم ما عليه فى ذلك من الضرر، بل هو سفيه، فلا عبرة
برضاه وإذنه، بل له حق عند من ظلمه وفعل به ذلك غير ما لله من الحق، وإن كان حق
هذا دون حق المنكر المانع
ولهذا قال يوسف عليه السلام : {إِنَّهُ
رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، يقول: متى أفسدت امرأته كنت ظالمًا بكل حال،
وليس هذا جزاء إحسانه إلى
والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضًا، وإن كانوا فعلوه
بتراضيهم، قال طاوس: ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال، وقال
الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن
دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم
بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]، وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم
بعضًا لمجرد كونه عصى الله، بل لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر وقال
تعالى عن أهل الجنة التى أصبحت كالصَّرِيم: {فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}
[القلم: 30]، أى: يلوم بعضهم بعضًا، وقال: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا
الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]
|
ص -128-
|
فالمُخَالّة [أى: الصداقة، بالفتح، والضم لغة] إذا كانت على
غير مصلحة الاثنين؛ كانت عاقبتها عدواة، وإنما تكون على مصلحتهما إذا كانت فى
ذات الله، فكل منهما وإن بذل للآخر إعانة على ما يطلبه واستعان به بإذنه فيما
يطلبه، فهذا التراضى لا اعتبار به، بل يعود تباغضًا وتعاديا وتلاعنًا، وكل منهما
يقول للآخر: لولا أنت ما فعلت أنا وحدى هذا، فَهَلاكِى كان منى ومنك
والرب لا يمنعهما من التباغض والتعادى والتلاعن، فلو كان أحدهما ظالمًا للآخر
فيه لنهى عن ذلك، ويقول كل منهما للآخر: أنت لأجل غرضك أوقعتنى فى هذا،
كالزانيين كل منهما يقول للآخر: لأجل غرضك فعلتَ معى هذا، ولو امتنعتَ لم أفعل
أنا هذا، لكن كل منهما له على الآخر مثل ما للآخر عليه؛ فتعادلا
ولهذا إذا كان الطلب والمراودة من أحدهما أكثر، كان الآخر يتظلمه ويلعنه أكثر،
وإن تساويا فى الطلب تقاوما، فإذا رضى الزوج بالدياثة فإنما هو لإرضاء الرجل أو
المرأة لغرض له آخر، مثل أن يكون محبًا لها، ولا تقيم معه إلا على هذا الوجه،
فهو يقول للزانى بها: أنت لغرضك أفسدت على امرأتى، وأنا إنما رضيت لأجل غرضها،
فأنت لما أفسدت على امرأتى وظلمتنى فعلت معى ما فعلت
|
ص -129-
|
ومن ذلك أنه لو قال:
إنى أخاف الله أن يعاقبنى ونحو ذلك؛ لقالت: أنت إنما تترك غرضى لغرضك فى
النجاة، وأنا سيدتك، فينبغى أن تقدم غرضى على غرضك، فلما قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} علل بحق سيده الذى يجب عليه وعليها رعاية حقه
فَصْل
وفى قول يوسف: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] عبرتان:
إحداهما: اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصى
والثانىة: طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه، ويصرفه إلى طاعته،
وإلا فإذا لم يثبت القلب، وإلا صَبَا إلى الآمرين بالذنوب، وصار من الجاهلين
ففى هذا توكل على الله، واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة، وفيه
صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة
|
ص -130-
|
إذا كقول موسى
عليه السلام لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ
وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ؛ لما قال فرعون: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ
وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ
يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 127، 128]
وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ
فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ
صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41، 42]
ومنه قول يوسف عليه السلام : {فَإِنَّ
اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
[يوسف: 90]، وهو نظير قوله:
{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، وقوله:
{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وقوله: {بَلَى
إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]
فلابد من التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور، كما فعل يوسف عليه السلام :
اتقى الله بالعفة عن الفاحشة، وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس، واستعان الله
ودعاه، حتى يثبته على العفة فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن، وصبر على الحبس
|
ص -131-
|
وهذا كما قال
تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]،وكما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ
أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ
الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ
الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}
[الحج: 10 13]، فإنه لابد من أذى لكل من كان فى الدنيا،فإن لم يصبر على
الأذى فى طاعة الله، بل اختار المعصية،كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه
بكثير {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ
تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [التوبة: 49]
ومن احتمل الهوان والأذى فى طاعة الله على الكرامة والعز فى معصية الله، كما فعل
يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين، كانت العاقبة له فى الدنيا
والآخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيمًا وسرورًا، كما أن ما يحصل
لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنًا وثبورًا
فيوسف صلى الله عليه وسلم خاف الله من الذنوب، ولم يخف من أذى الخلق وحَبْسِهِم
إذ أطاع الله، بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات،
ونيل الرياسة والمال مع المعصية، فإنه لو وافق امرأة العزيز نال الشهوة، وأكرمته
المرأة بالمال والرياسة،
|
ص -132-
|
وزوجها فى
طاعتها، فاختار يوسف الذل والحبس، وترك الشهوة والخروج عن المال والرياسة، مع
الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية
بل قدم الخوف من الخالق على الخوف من المخلوق، وإن آذاه بالحبس والكذب فإنها
كذبت عليه؛ فزعمت أنه راودها ثم حبسته بعد ذلك
وقد قيل: إنها قالت لزوجها: إنه هتك عرضى لم يمكنها أن تقول له: راودنى، فإن
زوجها قد عرف القصة، بل كذبت عليه كذبة تروج على زوجها، وهو أنه قد هتك عرضها
بإشاعة فعلها، وكانت كاذبة على يوسف لم يذكر عنها شىئًا، بل كذبت أولاً وآخرًا،
كذبت عليه بأنه طلب الفاحشة، وكذبت عليه بأنه أشاعها، وهى التى طالبت وأشاعت،
فإنها قالت للنسوة: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} [يوسف: 32]، فهذا غاية الإشاعة لفاحشتها لم تستر نفسها
والنساء أعظم الناس إخبارًا بمثل ذلك، وهن قبل أن يَسْمَعْنَ قولها قد قُلْنَ فى
المدينة: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ
فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30]،
فكيف إذا اعترفت بذلك وطلبت رفع الملام عنها؟
|
ص -133-
|
وقد قيل: إنهن
أعنَّها فى المراودة، وعذلنه على الامتناع، ويدل على ذلك قوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33]، وقوله {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ
اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]، فدل على أن هناك كيدًا مَنْهُنَّ، وقد قال
لَهُنَّ الملك: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ
رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ
مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ
رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51]، فهن لم يراودنه لأنفسهن، إذ كان ذلك غير ممكن،
وهو عند المرأة فى بيتها وتحت حجرها، لكن قد يكنَّ أعنَّ المرأة على مطلوبها
وإذا كان هذا فى فعل الفاحشة؛ فغيرها من الذنوب أعظم، مثل
الظلم العظيم للخلق، كقتل النفس المعصومة، ومثل الإشراك بالله، ومثل القول على
الله بلا علم قال تعالى: {قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]،
فهذه أجناس المحرمات التى لا تباح بحال، ولا فى شريعة، وما سواها وإن حرم فى حال
فقد يباح فى حال
|
ص -134-
|
فصل
واختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ولأهله الاحتباس في شعب
بني هاشم بضع سنين، لا يبَايعُون ولا يشَارون؛ وصبيانهم يتَضَاغُون من الجوع، قد
هجرهم وقَلاهُم قومهم، وغير قومهم هذا أكمل من حال يوسف عليه السلام
فإن هؤلاء كانوا يدعون الرسول إلى الشرك، وأن يقول على اللّه
غير الحق يقول: ما أرسلني ولا نهي عن الشرك، وقد قال تعالى: {وَإِن
كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ
عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ
لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ
ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا
نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا
وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 73 77]
وكان كذب هؤلاء على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب
على يوسف؛ فإنهم قالوا: إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه
|
ص -135-
|
مُفْتَر وكل واحدة
من هؤلاء أعظم من الزنا والقذف؛ لا سيما الزنا المستور الذي لا يدري به أحد
فإن يوسف كذب عليه في أنه زني، وأنه قذفها وأشاع عنها الفاحشة؛ فكان الكذب على
النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف
وكذلك الكذب على أولي العزم، مثل نوح وموسي، حيث يقال عن
الواحد منهم: إنه مجنون، وإنه كَذَّاب، يكذب على اللّه، وما لقي النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه من أذى المشركين أعظم من مجرد الحبس، فإن يوسف حُبِسَ وسُكِت
عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يؤذون بالأقوال والأفعال مع منعهم
من تصرفاتهم المعتادة
وهذا معنى الحبس، فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن،
بل المراد منعه من التصرف المعتاد والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له حبس،
ولا لأبي بكر، بل أول من اتخذ السجن عمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يسَلِّمُ الغريم إلى غريمه، ويقول: "ما فعل
أسيرك؟"، فيجعله أسيراً معه،
حتى يقضيه حقه، وهذا هو المطلوب من الحبس
والصحابة رضي اللّه عنهم منعوهم من التصرف بمكة أذى لهم، حتى
خرج كثير منهم إلى أرض الحبشة، فاختاروا السكنى بين أولئك النصارى عند ملك عادل
على السكنى بين قومهم، والباقون
|
ص -136-
|
أُخرجوا من
ديارهم وأموالهم أيضاً مع ما آذوهم به، حتى قتلوا بعضهم، وكانوا يضربون بعضهم
ويمنعون بعضهم ما يحتاج إليه، ويضعون الصخرة على بطن أحدهم في رَمْضَاء
[الرَّمْضَاء: الحجارة الحامية من حر الشمس] مكة، إلى غير ذلك من أنواع
الأذي
وكذلك المؤمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يختار الأذى في طاعة اللّه على
الإكرام مع معصيته، كأحمد بن حنبل اختار القيد والحبس والضرب على موافقة السلطان
وجنده، على أن يقول على اللّه غير الحق في كلامه، وعلى أن يقول ما لا يعلم أيضاً
فإنهم كانوا يأتون بكلام يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو باطل، وبكلام مجمل
يحتاج إلى تفسير، فيقول لهم الإمام أحمد: ما أدري ما هذا؟ فلم يوافقهم على أن
يقول على اللّه غير الحق، ولا على أن يقول على اللّه ما لا يعلم
|
ص -137-
|
"وقال
شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلام"
[هكذا بالأصل]} [ما بين المعقوفتين مستفاد من محقق التفسير الكبير لابن
تيمية ؛ الدكتور عبد الرحمن عميرة 583، وفي النسخة التي حققها الدكتور محمد
الجليند جاء النص هكذا: "قال شيخ الإسلام رحمه الله: ثم إن
يوسف" انظر: 3274وقول ابن تيمية بعد ذلك بقليل: " الوجه
السادس " ينبئ بوجود سقط من الأصل] [يهم أحدهم] بالذنب فيذكر
مقامه بين يدي اللّه فيدعه، فكان يوسف ممن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى
ثم إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان شابا عزبًا أسيرا في بلاد العدو، حيث لم يكن
هناك أقارب أو أصدقاء، فيستحي منهم إذا فعل فاحشة، فإن كثيراً من الناس يمنعه من
مواقعة القبائح حياؤه ممن يعرفه، فإذا تغرب فعل ما يشتهيه، وكان أيضاً خاليا لا
يخاف مخلوقا، فحكم النفس الأمارة لو كانت نفسه كذلك أن يكون هو المتعرض لها، بل
يكون هو المتحيل عليها، كما جرت به عادة كثير ممن له غرض في نساء الأكابر إن لم
يتمكن من الدعوة ابتداء فأما إذا دعي ولو كانت الداعية خدامة؛ لكان أسرع مجيب،
فكيف إذا كانت الداعية سيدته الحاكمة عليه، التي يخاف الضرر بمخالفتها ؟!
ثم إن زوجها الذي عادته أن يزجر المرأة لم يعاقبها، بل أمر
|
ص -138-
|
يوسف بالإعراض، كما
ينْعَرُ الديوث، ثم إنها استعانت بالنساء وحبسته، وهو يقول: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ
وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ
الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]
فليتدبر اللبيب هذه الدواعي التي دعت يوسف إلى ما دعته، وأنه مع توفرها وقوتها،
ليس له عن ذلك صارف إذا فعل ذلك، ولا من ينجيه من المخلوقين؛ ليتبين له أن الذي
ابتلي به يوسف كان من أعظم الأمور، وأن تقواه وصبره عن المعصية حتى لا يفعلها مع
ظلم الظالمين له، حتى لا يجيبهم كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات، وإن نفس
يوسف عليه الصلاة والسلام كانت من أزكى الأنفس، فكيف أن يقول: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] واللّه
يعلم أن نفسه بريئة ليست أمَّارة بالسوء، بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء، والهَمُّ
الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها، وبحصوله مع تركه للّه لتثبت له به
حسنة من أعظم الحسنات التي تزكي نفسه
الوجه السادس: أن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}
[يوسف: 52]، إذا كان معناه على ما زعموه: أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني
لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم، أو ليعلم الملك أو ليعلم اللّه لم يكن هنا ما
يشار إليه، فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه،ولا تقدم
|
ص -139-
|
أيضاً ذكر عفافه
واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن: {مَا
عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}
[يوسف: 51]، وقول امرأة العزيز: {أَنَاْ
رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ}
[يوسف: 51]، وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا، ليس فيه نفس فعله الذي
فعله هو
فقول القائل: إن قوله: ذلك من قول يوسف مع أنه لم يتقدم منه هنا قول ولا
عمل لا يصح بحال
الوجه السابع: أن المعنى على هذا التقدير لو كان هنا ما يشار إليه من قول يوسف
أو عمله : إن عفتي عن الفاحشة كان ليعلم العزيز أني لم أخنه، ويوسف عليه الصلاة
والسلام إنما تركها خوفا من اللّه، ورجاء لثوابه، ولعلمه بأن اللّه يراه؛ لا
لأجل مجرد علم مخلوق قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فأخبر
أنه رأي برهان ربه، وأنه من عباده المخلصين
ومن ترك المحرمات ليعلم المخلوق بذلك لم يكن هذا لأجل برهان من ربه، ولم يكن
بذلك مخلصاً؛ فهذا الذي أضافوه إلى يوسف إذا فعله آحاد الناس لم يكن له ثواب من
اللّه، بل يكون ثوابه على من عمل لأجله
|
ص -140-
|
فإن قيل: فقد
قال يوسف أولا: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]
قيل: إن كان مراده بذلك سيده، فالمعنى: أنه أحسن إلي، وأكرمني، فلا يحل لي أن
أخونه في أهله، فإني أكون ظالما ولا يفلح الظالم، فترك خيانته في أهله خوفا من
اللّه لا ليعلم هو بذلك
فإن قيل: مراده تأتي إظهار براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، فالمعلل
إظهار براءته لا نفس عفافه
قيل: لم يكن مراده بإظهار براءته مجرد علم واحد، بل مراده علم الملك وغيره؛
ولهذا قال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، ولو كان هذا من قول يوسف لقال: ذلك ليعلموا
أني بريء وأني مظلوم
ثم هذا لا يليق أن يذكر عن يوسف؛ لأنه قد ظهرت براءته، وحصل مطلوبه، فلا يحتاج
أن يقول ذلك لتحصيل ذلك، وهم قد علموا أنه إنما تأخر لتظهر براءته، فلا يحتاج
مثل هذا أن ينطق به
|
ص -141-
|
الوجه الثامن:
أن الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه من لذلك عنده قدر، وهذا يناسب لو
كان العزيز غيوراً، وللعفة عنده جزاء كثير، والعزيز قد ظهر عنه من قلة الغيرة وتمكين
امرأته من حبسه مع الظالمين مع ظهور براءته؛ ما يقتضي أن مثل هذا ينبغي في عادة
الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله، فإن النفس الأمارة تقول في مثل هذا: هذا
لم يعرف قدر إحساني إليه، وصوني لأهله،وكف نفسي عن ذلك، بل سلِّطها ومكِّنها
فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت من حاله هذا تفعل الفاحشة،
إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه، وإما إهمالا له لعدم غيرته وظهور دياثته،
ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل للّه خائفاً منه، وراجياً
لثوابه، لا من يريد تعريف الخلق بعمله
الوجه التاسع: أن الخيانة ضد الأمانة، وهما من جنس الصدق والكذب؛ ولهذا يقال:
الصادق الأمين، ويقال: الكاذب الخائن وهذا حال امرأة العزيز؛ فإنها لو كذبت
على يوسف في مغيبه وقالت: راودني؛ لكانت كاذبة وخائنة، فلما اعترفت بأنها هي
المراودة،كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه؛ ولهذا قالت: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها
|
ص -142-
|
فأما فعل الفاحشة
فليس من باب الخيانة والأمانة، ولكن هو باب الظلم والسوء والفحشاء، كما وصفها
اللّه بذلك في قوله تعإلى عن يوسف: {مَعَاذَ
اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ} ولم يقل هنا: الخائنين،
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ،} ولم يقل: لنصرف عنه الخيانة؛ فليتدبر اللبيب هذه الدقائق في
كتاب اللّه تعإلى
الوجه العاشر: أن في الكلام المحكي الذي أقره اللّه تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ
رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي} [يوسف: 53]،
وهذا يدل على أنه ليس كل نفس أمارة بالسوء، بل ما رحم ربي ليس فيه النفس الأمارة
بالسوء
وقد ذكر طائفة من الناس أن النفس لها ثلاثة أحوال: تكون أمارة بالسوء، ثم تكون
لوامة، أي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، أو تتلوم فتتردد بين الذنب والتوبة، ثم تصير
مطمئنة
والمقصود هنا أن ما رحم ربي من النفوس ليست بأمارة، وإذا كانت النفوس منقسمة إلى
مرحومة وأمارة، فقد علمنا قطعاً أن نفس امرأة العزيز من النفوس الأمارة بالسوء ؛
لأنها أمرت بذلك مرة بعد مرة، وراودت وافترت، واستعانت بالنسوة وسجنت، وهذا من
|
ص -143-
|
أعظم ما يكون من
الأمر بالسوء
وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فإن لم تكن نفسه من النفوس المرحومة عن أن تكون
أمَّارَة فما في الأنفس مرحوم؛ فإن من تدبر قصة يوسف علم أن الذي رحم به وصرف
عنه من السوء والفحشاء من أعظم ما يكون، ولولا ذلك لما ذكره الله في القرآن
وجعله عبرة، وما من أحد من الصالحين الكبار والصغار إلا ونفسه إذا ابتليت بمثل
هذه الدواعي، أبعد عن أن تكون مرحومة من نفس يوسف وعلى هذا التقدير: فإن لم
تكن نفس يوسف مرحومة، فما في النفوس مرحومة، فإذاً كل النفوس أمارة بالسوء، وهو
خلاف ما في القرآن
ولا يلتفت إلى الحكاية المذكورة عن مسلم بن يسار [هو أبو عبد الله مسلم بن
يسار البصري مولي بني أمية، فقيه ناسك من رجال الحديث، لا يفضل عليه أحد في
زمانه، قال ابن سعد: "كان ثقة فاضلاً عابدًا ورعًا"، توفي سنة 100
ه]: أن أعرابية دعته إلى نفسها، وهما في البادية؛ فامتنع وبكي، وجاء أخوه وهو
يبكي فبكي وبكت المرأة، وذهبت فنام فرأي يوسف في منامه، وقال: أنا يوسف الذي
هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم، فقد يظن من يسمع هذه الحكاية أن حال مسلم كان
أكمل وهذا جهل لوجهين:
أحدهما: أن مسلما لم
يكن تحت حكم المرأة المراودة ولا لها عليه حكم، ولا لها عليه قدرة أن تكذب عليه،
وتستعين بالنسوة
|
ص -144-
|
وتحبسه، وزوجها
لا يعينه ولا أحد غير زوجها يعينه على العصمة، بل مسلم لما بكى ذهبت تلك المرأة،
ولو استعصمت لكان صراخه منها أو خوفها من الناس يصرفها عنه وأين هذا مما ابتلي
به يوسف عليه الصلاة والسلام ؟!
الثاني: أن الهم من يوسف لما تركه للّه كان له به حسنة، ولا نقص عليه وثبت في
الصحيحين من حديث السبعة الذين يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
"رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللّه رب
العالمين" وهذا لمجرد الدعوة، فكيف بالمراودة والاستعانة والحبس؟
ومعلوم أنها كانت ذات منصب، وقد ذُكِرَ أنها كانت ذات جمال وهذا هو الظاهر، فإن
امرأة عزيز مصر يشبه أن تكون جميلة، وأما البدوية الداعية لمسلم فلا ريب أنها
دون ذلك، ورؤياه في المنام وقوله: أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم؛
غايته أن يكون بمنزلة أن يقول ذلك له يوسف في اليقظة، وإذا قال هذا، كان هذا
خيراً له ومدحاً وثناء، وتواضعا من يوسف، وإذا تواضع الكبير مع من دونه لم تسقط
منزلته
الوجه الحادي عشر: أن هذا الكلام فيه مع الاعتراف
|
ص -145-
|
بالذنب الاعتذار بذكر سببه، فإن قولها: {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51]، فيه
اعتراف بالذنب، وقولها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي
إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}
[يوسف: 53]، إشارة تطابق لقولها: {أَنَاْ
رَاوَدتُّهُ} أي: أنا مقرة بالذنب ما
أنا مبرئة لنفسي ثم بينت السبب فقالت:
{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فنفسي من هذا الباب، فلا ينكر صدور هذا مني ثم ذكرت ما يقتضي
طلب المغفرة والرحمة، فقالت: {إِنَّ
رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
فإن قيل: فهذا كلام من يقر بأن الزنا ذنب، وأن اللّه قد يغفر لصاحبه
قلت: نعم والقرآن قد دل على ذلك، حيث قال زوجها:
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ} [يوسف: 29]، فأمره لها بالاستغفار لذنبها دليل أنهم كانوا يرون
ذلك ذنباً ويستغفرون منه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، فقد كانت العرب مشركين وهم
يحرمون الفواحش، ويستغفرون اللّه منها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما
بايع هند بنت عتبة بن ربيعة بيعة النساء على ألا تشرك باللّه شيئًا، ولا تسرق
ولا تزني قالت: أو تزني الحرة؟ وكان الزنا معروفًا عندهم في الإماء
ولهذا غلب على لغتهم أن يجعلوا الحرية في مقابلة الرق، وأصل
|
ص -146-
|
اللفظ هو العفة،
ولكن العفة عادة من ليست أمة، بل قد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي،
أنه رأى في الجاهلية قرداً يزنى بقردة، فاجتمعت القرود عليه حتى رجمته
وقد حدثني بعض الشيوخ الصادقين، أنه رأي في جامع نوعًا من الطير قد باض، فأخذ
الناس بيضه، وجاء ببيض جنس آخر من الطير، فلما انفقس البيض خرجت الفراخ من غير
الجنس، فجعل الذكر يطلب جنسه، حتى اجتمع منهن عدد فما زالوا بالأنثي حتى قتلوها،
ومثل هذا معروف في عادة البهائم
والفواحش مما اتفق أهل الأرض على استقباحها وكراهتها، وأولئك القوم كانوا يقرون
بالصانع مع شركهم؛ ولهذا قال لهم يوسف: {يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا
أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39، 40]
الوجه الثاني عشر: أن يقال: إن اللّه سبحانه وتعإلى لم يذكر عن نبي من
الأنبياء ذنباً إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على
قولين: إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها، وإما
|
ص -147-
|
أن يقولوا
بالعصمة من الإقرار عليها؛ لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة
على أن ذلك معصوم أن يقر فيه على خطأ، فإن ذلك يناقض مقصود الرسالة، ومدلول
المعجزة
وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك، ولكن المقصود هنا أن اللّه لم يذكر في كتابه
عن نبي من الأنبياء ذنباً إلا ذكر توبته منه، كما ذكر في قصة آدم وموسي، وداود
وغيرهم من الأنبياء
وبهذا يجيب من ينصر قول الجمهور الذين يقولون بالعصمة من الإقرار على من ينفي
الذنوب مطلقاً، فإن هؤلاء من أعظم حججهم ما اعتمده القاضي عياض وغيره، حيث
قالوا: نحن مأمورون بالتأسي بهم في الأفعال، وتجويز ذلك يقدح في التأسي؛
فأجيبوا بأن التأسي إنما هو فيما أقروا عليه، كما أن النسخ جائز فيما يبلغونه من
الأمر والنهي، وليس تجويز ذلك مانعاً من وجوب الطاعة؛ لأن الطاعة تجب فيما لم
ينسخ، فعدم النسخ يقرر الحكم، وعدم الإنكار يقرر الفعل، والأصل عدم كل منهما
ويوسف عليه الصلاة والسلام لم يذكر اللّه تعإلى عنه في القرآن أنه فعل مع المرأة
ما يتوب منه،أو يستغفر منه أصلاوقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة،
ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع
|
ص -148-
|
منه بعض مقدماتها،مثل
ما يذكرون أنه حل السراويل، وقعد منها مقعد الخاتن ونحو هذا، وما ينقلونه في ذلك
ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم،ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل
الكتاب، وقد عُرِفَ كلام اليهود في الأنبياء وغَضِّهِم منهم،كما قالوا في سليمان
ما قالوا، وفي داود ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم
نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه
والقرآن قد أخبر عن يوسف من الاستعصام والتقوي والصبر في هذه القضية؛ ما لم يذكر
عن أحد نظيره، فلو كان يوسف قد أذنب؛ لكان إما مُصِرا وإما تائباً، والإصرار
ممتنع، فتعين أن يكون تائباً واللّه لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفاراً،
كما ذُكِرَ عن غيره من الأنبياء، فدل ذلك على أن ما فعله يوسف كان من الحسنات
المبرورة، والمساعي المشكورة،كما أخبر اللّه عنه بقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:
90] واذا كان الأمر في يوسف كذلك، كان ما ذكر من قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ
رَبِّيَ}، إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب
حال يوسف، فإضافة الذنوب إلى يوسف في هذه القضية فِرْيةُ على الكتاب والرسول،
وفيه تحريف للكلم عن مواضعه، وفيه
|
ص -149-
|
الاغتياب لنبي
كريم، وقول الباطل فيه بلا دليل، ونسبته إلى ما نزهه اللّه منه، وغير مستبعد أن
يكون أصل هذا من اليهود أهل البُهْتِ [البُهْتُ: الكذب والافتراء]، الذين
كانوا يرمون موسي بما برأه اللّه منه، فكيف بغيره من الأنبياء؟ وقد تلقي نقلهم
من أحسن به الظن، وجعل تفسير القرآن تابعاً لهذا الاعتقاد
واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض، كلاهما مخالف لكتاب اللّه من
بعض الوجوه: قوم أفرطوا في دعوي امتناع الذنوب، حتى حَرَّفُوا نصوص القرآن
المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب،ومغفرة اللّه لهم، ورفع درجاتهم بذلك،
وقوم أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دل القرآن على براءتهم منه، وأضافوا إليهم
ذنوباً وعيوباً نزههم اللّه عنها وهؤلاء مخالفون للقرآن، وهؤلاء مخالفون
للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف، كان من الأمة الوسط،
مهتديا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليهود
مغضوب عليهم، والنصاري ضالون"، وقد ثبت في الصحيح
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن
سَنَن من كان قبلكم حَذْو القَذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ
لدخلتموه"، قالوا: يا رسول اللّه، اليهود
والنصارى ؟
|
ص -150-
|
قال:
"فمن؟"، وفي الحديث الآخر الذي في
الصحيح: "لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبراً بشبر، وذراعًا
بذراع" قالوا: يا رسول اللّه، فارس والروم؟ قال: "ومن الناس إلا هؤلاء ؟"
ولا ريب أنه صار عند كثير من الناس من علم أهل الكتاب ومن فارس والروم، ما
أدخلوه في علم المسلمين ودينهم وهم لا يشعرون، كما دخل كثير من أقوال المشركين
من أهل الهند واليونان وغيرهم، والمجوس والفرس والصابئين من اليونان وغيرهم في
كثير من المتأخرين؛ لا سيما في جنس المتفلسفة والمتكلمة
ودخل كثير من أقوال أهل الكتاب اليهود والنصاري في طائفة هم أمثل من هؤلاء، إذ
أهل الكتاب كانوا خيراً من غيرهم
ولما فتح المسلمون البلاد كانت الشام ومصر ونحوهما مملوءة من أهل الكتاب،
النصاري واليهود، فكانوا يحدثونهم عن أهل الكتاب بما بعضه حق وبعضه باطل؛ فكان
من أكثرهم حديثا عن أهل الكتاب كعب الأحبار وقد قال معاوية رضي اللّه عنه: ما
رأينا في هؤلاء الذين يحدثونا عن أهل الكتاب أصدق من كعب، وإن كنا لنبلو عليه
الكذب أحياناً
ومعلوم أن عامة ما عند كعب أن ينقل ما وجده في كتبهم، ولو
|
ص -151-
|
نقل ناقل ما وجده
في الكتب عن نبينا صلى الله عليه وسلم لكان فيه كذب كثير، فكيف بما في كتب أهل
الكتاب مع طول المدة، وتبديل الدين، وتفرق أهله، وكثرة أهل الباطل فيه
وهذا باب ينبغي للمسلم أن يعتني به، وينظر ما كان عليه أصحاب رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم، الذين هم أعلم الناس بما جاء به، وأعلم الناس بما يخالف ذلك من
دين أهل الكتاب والمشركين والمجوس والصابئين فإن هذا أصل عظيم
ولهذا قال الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره: أصول السنة هي التمسك بما كان عليه
أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
ومن تأمل هذا الباب وجد كثيراً من البدع أحدثت بآثار أصلها عنهم، مثل ما يروي في
فضائل بقاع في الشام، من الجبال والغيران، ومقامات الأنبياء ونحو ذلك مثل ما
يذكر في جبل قاسيون، ومقامات الأنبياء التي فيه، وما في إتيان ذلك من الفضيلة
حتى إن بعض المفترين من الشيوخ جعل زيارة مغارة فيه ثلاث مرات تعدل حجة،
ويسمونها مقامات الأنبياء
والآثار التي تروي في ذلك لا تصل إلى الصحابة، وإنما هي عمن
|
ص -152-
|
دونهم ممن أخذها
عن أهل الكتاب، وإلا فلو كان لهذا أصل؛ لكان هذا عند أكابر الصحابة الذين قدموا
الشام،مثل بلال بن رباح، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، بل ومثل أبي عبيدة بن
الجراح أمين الأمة وأمثالهم فقد دخل الشام من أكابر الصحابة أفضل ممن دخل بقية
الأمصار غير الحجاز، فلم ينقل عن أحد منهم اتباع شيء من آثار الأنبياء، لا
مقابرهم ولا مقاماتهم، فلم يتخذوها مساجد، ولا كانوا يتحرون الصلاة فيها،
والدعاء عندها، بل قد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه كان في سفر، فرأي
قوماً ينتابون مكاناً يصلون فيه،فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذا مكان صلى فيه
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: ومكان صلى فيه رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم؟! أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم
بهذا، من أدركته الصلاة فيه فليصل، وإلا فليمض
ولما دخل بيت المقدس وأراد أن يبني مصلى المسلمين، قال لكعب: أين أبنيه؟
قال: ابنه خلف الصخرة، قال: خالطتك يهودية يابن اليهودية، بل أبنيه أمامها؛
ولهذا كان عبد اللّه ابن عمر إذا دخل بيت المقدس صلى في قِبْلَيهِ، ولم يذهب إلى
الصخرة
وكانوا يكذبون ما ينقله كعب: إن اللّه قال لها: أنت عرشي الأدني،ويقولون: من
وسع كرسيه السموات والأرض كيف تكون
|
ص -153-
|
الصخرة عرشه
الأدنى؟!ولم تكن الصحابة يعظمونها، وقالوا: إنما بني القُبَّة عليها عبد الملك
بن مروان لما كان محاربا لابن الزبير،وكان الناس يذهبون إلى الحج فيجتمعون به
عظم الصخرة؛ ليشتغلوا بزيارتها عن جهة ابن الزبير، وإلا فلا موجب في شريعتنا
لتعظيم الصخرة،وبناء القُبَّة عليها وسترها بالأنطاع والجوخولو كان هذا من
شريعتنا؛لكان عمر وعثمان ومعاوية رضي اللّه عنهم أحق بذلك ممن بعدهم؛فإن هؤلاء
أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،وأعلم بسنته،وأتبع لها ممن بعدهم
وكذلك الصحابة لم يكونوا ينتابون قبر الخليل صلى الله عليه وسلم، بل ولا فتحوه،
بل ولا بنوا على قبر أحد من الأنبياء مسجداً؛ فإنهم كانوا يعلمون أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "إن من كان قبلكم كانوا
يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"
ولما ظهر قبر دانيال بتُسْتَر كتب فيه أبو موسي إلى عمر
بن الخطاب رضي اللّه عنه فكتب إليه عمر، إذا كان بالنهار فاحفر ثلاثة عشر
قبراً،ثم ادفنه بالليل في واحد منها، وعفِّر قبره لئلا يفتتن به الناس،وقد تأملت
الآثار التي تروي في قصد هذه المقامات، والدعاء
|
ص -154-
|
عندها أو
الصلاة،فلم أجد لها عن الصحابة أصلا، بل أصلها عمن أخذَ عن أهل الكتاب
فمن أصول الإسلام أن تميز ما بعث اللّه به محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب
والحكمة، ولا تخلطه بغيره، ولا تلبس الحق بالباطل، كفعل أهل الكتاب فإن اللّه
سبحانه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء
ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"،
وقال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: خط لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
خطا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل اللّه، وهذه السبل،
على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]
وجماع ذلك بحفظ أصلين:
أحدهما: تحقيق ما
جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يخلط بما ليس منه من المنقولات الضعيفة،
والتفسيرات الباطلة، بل يعطي حقه من معرفة نقله، ودلالته
|
ص -155-
|
والثاني: ألا
يعارض ذلك بالشبهات لا رأياً ولا رواية قال اللّه تعإلى فيما يأمر به بني
إسرائيل، وهو عبرة لنا: {وَآمِنُواْ بِمَا
أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلاَ
تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41، 42]،
فلا يكتم الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يلبس بغيره من
الباطل، ولا يعارض بغيره
قال اللّه تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً
مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، وقال
تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى
اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن
قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ}
[الأنعام: 93]
وهؤلاء الأقسام الثلاثة هم أعداء الرسل، فإن أحدهم إذا أتي بما يخالفه، إما أن
يقول: إن اللّه أنزله على فيكون قد افتري على اللّه، أو يقول: أوحي إليه ولم
يسم من أوحاه، أو يقول: أنا أنشأته، وأنا أنزل مثل ما أنزل اللّه، فإما أن
يضيفه إلى اللّه أو إلى نفسه، أو لا يضيفه إلى أحد
وهذه الأقسام الثلاثة هم من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف
القول غروراً قال اللّه تعالى:
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ
وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:
30، 31]، واللّه أعلم، والحمد للّه
|
ص -156-
|
سُئِلَ رَضي اللّه عَنهُ عن قوله
تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، وهل الدعوة عامة تتعين في حق كل مسلم ومسلمة
أم لا؟ وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في هذه الدعوة أم لا؟ وإذا
كانا داخلين أو لم يكونا، فهل هما من الواجبات على كل فرد من أفراد المسلمين كما
تقدم أم لا؟ وإذا كانا واجبين، فهل يجبان مطلقاً مع وجود المشقة بسببهما أم لا
؟ وهل للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقتص من الجاني عليه إذا آذاه في
ذلك لئلا يؤدي إلى طمع منه في جانب الحق أم لا؟ وإذا كان له ذلك فهل تركه أولي
مطلقاً أم لا ؟
فأجاب رضي اللّه عنه
وأرضاه :
الحمد لله رب العالمين، الدعوة إلى اللّه هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت
به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى
الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى
الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله،
|
ص -157-
|
والبعث بعد
الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه
فإن هذه الدرجات الثلاث التي هي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، داخلة في الدين،
كما قال في الحديث الصحيح: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم"، بعد
أن أجابه عن هذه الثلاث، فبين أنها كلها من ديننا
و"الدين": مصدر، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، يقال: دان
فلان فلانًا إذا عبده وأطاعه، كما يقال: دانه إذا أذله فالعبد يدين الله،
أي: يعبده ويطيعه، فإذا أضيف الدين إلى العبد فلأنه العابد المطيع، وإذا أضيف
إلى الله فلأنه المعبود المطاع، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]
فالدعوة إلى الله تكون بدعوة العبد إلى دينه، وأصل ذلك عبادته وحده لا شريك له،
كما بعث الله بذلك رسله،وأنزل به كتبهقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشوري: 13]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا
أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، وقال تعالى:
|
ص -158-
|
{وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ} [النحل: 36]، وقال
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، وإن أولي الناس
بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي" [والإخوة لعلات: هم الذين
أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد، والمراد هنا: أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة]،
فالدين واحد وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]
فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية
كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في
الأنعام والأعراف، وسورة بني إسرائيل، كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآيات الثلاث [الأنعام: 151 - 153]، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ إلى
آخر الوصايا} [الإسراء: 23- 39]،
وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ
وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} [الأعراف: 29]،
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]
|
ص -159-
|
فهذه الأمور هي
من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع، كعامة ما في السور المكية، فإن السور المكية
تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله، إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن
لا يقر بأصل الرسالة، وأما السور المدنية ففيها الخطاب لمن يقر بأصل الرسالة،
كأهل الكتاب الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وكالمؤمنين الذين آمنوا بكتب الله
ورسله؛ ولهذا قرر فيها الشرائع التي أكمل الله بها الدين؛ كالقبلة، والحج،
والصيام، والاعتكاف، والجهاد، وأحكام المناكح ونحوها، وأحكام الأموال بالعدل
كالبيع، والإحسان كالصدقة، والظلم كالربا، وغير ذلك مما هو من تمام الدين
ولهذا كان الخطاب في السور المكية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لعموم الدعوة
إلى الأصول؛ إذ لا يدعي إلى الفرع من لا يقر بالأصل، فلما هاجر النبي صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة وعز بها أهل الإيمان، وكان بها أهل الكتاب، خُوطِبَ هؤلاء
وهؤلاء؛ فهؤلاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ}، وهؤلاء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}،
أو يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ولم ينزل بمكة شيء من هذا، ولكن في السور المدنية
خطاب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، كما في سورة النساء، وسورة الحج وهما مدنيتان، وكذا في
البقرة
وهذا يعَكِّر على قول الحَبْرِ ابن عباس؛لأن الحكم المذكور يشمل جنس
الناس،والدعوة بالاسم الخاص لا تنافي الدعوة بالاسم العام،
|
ص -160-
|
فالمؤمنون داخلون
في الخطاب ب يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وفي الخطاب ب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ، فالدعوة إلى الله تتضمن الأمر بكل ما أمر الله به،والنهي عن كل ما
نهي الله عنه،وهذا هو الأمر بكل معروف،والنهي عن كل منكر
والرسول صلى الله عليه وسلم قام بهذه الدعوة، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله
به، ونهاهم عن كل ما نهي الله عنه، أمر بكل معروف، ونهي عن كل منكر قال تعالى:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 156، 157]
ودعوته إلى الله هي بإذنه لم يشرع دينًا لم يأذن به الله، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، خلاف الذين ذمهم في قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشوري: 21]،
وقد قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا
أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً
قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]
|
ص -161-
|
ومما يبين ما
ذكرناه: أنه سبحانه يذكر أنه أمره بالدعوة إلى الله تارة، وتارة بالدعوة إلى
سبيله، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وذلك أنه قد علم أن الداعي الذي يدعو غيره
إلى أمر لابد فيما يدعو إليه من أمرين:
أحدهما: المقصود
المراد
والثاني : الوسيلة
والطريق الموصل إلى المقصود؛ فلهذا يذكر الدعوة تارة إلى الله وتارة إلى سبيله؛
فإنه سبحانه هو المعبود المراد المقصود بالدعوة
والعبادة: اسم يجمع غاية الحب له، وغاية الذل له، فمن ذل لغيره مع بغضه لم يكن
عابدًا، ومن أحبه من غير ذل له لم يكن عابدًا، والله سبحانه يستحق أن يحَب غاية
المحبة، بل يكون هو المحبوب المطلق، الذي لا يحب شيء إلا له، وأن يعظم ويذل له
غاية الذل، بل لا يذل لشيء إلا من أجله، ومن أشرك غيره في هذا وهذا لم يحصل له حقيقة
الحب والتعظيم، فإن الشرك يوجب نقص المحبة
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن
دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة: 165] أي: أشد حبًا لله من هؤلاء
|
ص -162-
|
لأندادهم، وقال
تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا
فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ
مَثَلًا} [الزمر: 29]، وكذلك
الاستكبار يمنع حقيقة الذل لله، بل يمنع حقيقة المحبة لله، فإن الحب التام يوجب
الذل والطاعة، فإن المحب لمن يحب مطيع
ولهذا كان الحب درجات أعلاها: "التتيم"، وهو: التعبد، وتيم الله
أي: عبد الله؛ فالقلب المتيم هو المعبد لمحبوبه، وهذا لا يستحقه إلا الله
وحده
والإسلام: أن يستسلم العبد لله لا لغيره، كما ينبئ عنه قول: "لا إله إلا
الله"، فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر،
وكلاهما ضد الإسلام والشرك غالب على النصاري ومن ضاهاهم من الضلال والمنتسبين
إلى الأمة
وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذا الموضع في مواضع متعددة
وذلك يتعلق بتحقيق الألوهية لله وتوحيده، وامتناع الشرك، وفساد السموات والأرض
بتقدير إله غيره، والفرق بين الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية، وبيان أن
العباد فطروا على الإقرار به ومحبته وتعظيمه، وأن القلوب لا تصلح إلا بأن تعبد
الله وحده، ولا
|
ص -163-
|
كمال لها ولا
صلاح ولا لذة ولا سرور ولا فرح ولا سعادة بدون ذلك، وتحقيق الصراط المستقيم صراط
الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وغير ذلك مما
يتعلق بهذا الموضع الذي في تحقيقه تحقيق مقصود الدعوة النبوية، والرسالة
الإلهية، وهو لُبُّ القرآن وزبدته، وبيان التوحيد العلمي القولي، المذكور في
قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ
الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]،
والتوحيد القصدي العملي المذكور في قوله تعالى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
[الكافرون: 1]، وما يتصل بذلك، فإن هذا بيان لأصل الدعوة إلى الله وحقيقتها
ومقصودها
لكن المقصود في الجواب ذكر ذلك على طريق الإجمال؛ إذ لا يتسع الجواب لتفضيل ذلك،
وكل ما أحبه الله ورسوله من واجب ومستحب، من باطن وظاهر فمن الدعوة إلى الله
الأمر به،وكل ما أبغضه الله ورسوله من باطن وظاهر، فمن الدعوة إلى الله النهي
عنه لا تتم الدعوة إلى الله إلا بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه الله، ويترك ما
أبغضه الله، سواء كان من الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة، كالتصديق بما
أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته، والمعاد وتفصيل ذلك،
وما أخبر به عن سائر المخلوقات: كالعرش، والكرسي، والملائكة، والأنبياء،
وأممهم، وأعدائهم؛ وكإخلاص الدين لله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما
سواهما، وكالتوكل عليه، والرجاء لرحمته،
|
ص -164-
|
وخشية عذابه،
والصبر لحكمه، وأمثال ذلك، وكصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة
الأرحام، وحسن الجوار، وكالجهاد في سبيله بالقلب واليد واللسان
إذا تبين ذلك، فالدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه، وهم أمته يدعون إلى الله،
كما دعا إلى الله
وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به، ونهيهم عما ينهي عنه، وإخبارهم بما أخبر به؛ إذ
الدعوة تتضمن الأمر، وذلك يتناول الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر
وقد وصف أمته بذلك في غير موضع، كما وصفه بذلك فقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}
[آل عمران: 110]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ الآية}
[التوبة: 71]، وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء:
فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين؛ فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك،
ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]
فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان إجماعهم
|
ص -165-
|
حجة قاطعة، فأمته
لا تجتمع على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى
رسوله، وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم
به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجز لم يطالب به وأما ما لم يقم به
غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به؛ ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على
هذا، وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة، وبحسب غيره أخري؛ فقد يدعو هذا
إلى اعتقاد الواجب، وهذا إلى عمل ظاهر واجب، وهذا إلى عمل باطن واجب؛ فتنوع
الدعوة يكون في الوجوب تارة، وفي الوقوع أخري
وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية،
وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، وهذا شأن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ما جاء به الرسول، والجهاد في سبيل
الله، وتعليم الإيمان والقرآن
وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، فإن الداعي طالب
مستدع مقتض لما دعي إليه، وذلك هو الأمر به؛ إذ الأمر هو طلب الفعل المأمور به،
واستدعاء له ودعاء إليه، فالدعاء
|
ص -166-
|
إلى الله الدعاء
إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر
وقد تبين أنهما واجبان على كل فرد من أفراد المسلمين، وجوب فرض الكفاية، لا وجوب
فرض الأعيان، كالصلوات الخمس، بل كوجوب الجهاد
والقيام بالواجبات، من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها،كما جاء
في الحديث: ينبغي لمن أمر بالمعروف،ونهي عن المنكر،أن يكون فقيهًا فيما يأمر
به، فقيهًا فيما ينهي عنه،رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهي عنه،حليمًا
فيما يأمر به،حليما فيما ينهي عنه،فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر،
والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود،والحلم بعد الأمر ليصبر
على أذي المأمور المنهي، فإنه كثيرًا ما يحصل له الأذى بذلك ولهذا قال
تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ
عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، وقد أمر نبينا بالصبر في مواضع كثيرة، كما
قال تعإلى في أول المدثر : {قُمْ فَأَنذِرْ
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن
تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}
[المدثر: 2 - 7]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}
[الطور: 48]، وقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ} [المزمل: 10]، وقال
تعالى:
|
ص -167-
|
{وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ
حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}
[الأنعام: 34]، وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ}
[القلم: 48]
وقد جمع سبحانه بين التقوي والصبر في مثل قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
[آل عمران: 186]، والمؤمنون كانوا يدعون إلى الإيمان بالله وما أمر به من
المعروف، وينهون عما نهي الله عنه من المنكر، فيؤذيهم المشركون وأهل الكتاب، وقد
أخبرهم بذلك قبل وقوعه، وقال لهم: {وَإِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، وقد قال يوسف عليه السلام : {أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا
إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ
أَجْرَالْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]
فالتقوي تتضمن طاعة الله، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر يتناول
الصبر على المصائب التي منها أذى المأمور المنهي للآمر الناهي
لكن للآمر الناهي أن يدفع عن نفسه ما يضره، كما يدفع الإنسان عن نفسه الصائل،
فإذا أراد المأمور المنهي ضربه، أو أخذ ماله ونحو ذلك وهو قادر على دفعه فله
دفعه عنه؛ بخلاف ما إذا وقع الأذى
|
ص -168-
|
وتاب منه؛ فإن
هذا مقام الصبر والحلم، والكمال في هذا الباب حال نبينا صلى الله عليه وسلم، كما
في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده
خادما له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا
نيل منه فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم
لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فقد تضمن خلقه العظيم أنه لا ينتقم لنفسه إذا نيل منه،
وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، ومعلوم أن أذي الرسول
من أعظم المحرمات، فإن من آذاه فقد آذي الله، وقتل سَابِّه واجب باتفاق الأمة،
سواء قيل: إنه قتل لكونه ردة، أو لكونه ردة مغلظة أوجبت أن صار قتل الساب حدًا
من الحدود
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في احتماله وعفوه عمن كان يؤذيه كثير، كما
قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا
مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ
وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، فالآمر الناهي إذا أوذي وكان أذاه تعديا
لحدود الله وفيه حق لله، يجب على كل أحد النهي عنه، وصاحبه مستحق للعقوبة، لكن
لما دخل فيه حق الآدمي كان له العفو عنه، كما له أن يعفو عن القاذف والقاتل وغير
ذلك، وعفوه عنه لا
|
ص -169-
|
يسقط عن ذلك
العقوبة التي وجبت عليه لحق الله، لكن يكمل لهذا الآمر الناهي مقام الصبر والعفو
الذي شرع الله لمثله، حتى يدخل في قوله تعالى: {وَإِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وفي قوله: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ
بِأَمْرِهِ}
ثم هنا فرق لطيف، أما الصبر فإنه مأمور به مطلقًا، فلا ينسخ، وأما العفو والصفح
فإنه جعل إلى غاية، وهو: أن يأتي الله بأمره، فلما أتي بأمره بتمكين الرسول
ونصره صار قادرًا على الجهاد لأولئك، وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم عن المنكر صار
يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزًا عنه، وهو مأمور بالصبر في ذلك،كما
كان مأمورًا بالصبر أولا
والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده
إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه؛ ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه
وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، بأن لهم
الجنة، حتى إن الكفار إذا أسلموا أو عاهدوا لم يضمنوا ما أتلفوه للمسلمين من
الدماء والأموال، بل لو أسلموا وبأيديهم ما غنموه من أموال المسلمين، كان ملكا
لهم عند جمهور العلماء: كمالك وأبي حنيفة وأحمد، وهو الذي مضت به سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين
|
ص -170-
|
فالآمر الناهي
إذا نيل منه وأوذي، ثم إن ذلك المأمور المنهي تاب وقَبِلَ الحق منه: فلا ينبغي
له أن يقتص منه، ويعاقبه على أذاه،فإنه قد سقط عنه بالتوبة حق الله كما يسقط عن
الكافر إذا أسلم حقوق الله تعإلى كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "الإسلام يهدم ما كان قبله،والتوبة تهدم
ما كان قبلها"، والكافر إذا أسلم هدم الإسلام ما كان
قبله،دخل في ذلك ما اعتدي به على المسلمين في نفوسهم وأموالهم؛لأنه ما كان يعتقد
ذلك حراما، بل كان يستحله، فلما تاب من ذلك غفر له هذا الاستحلال،وغفرت له
توابعه
فالمأمور المنهي إن كان مستحلاً لأذي الآمر الناهي كأهل البدع والأهواء، الذين
يعتقدون أنهم على حق، وأن الآمر الناهي لهم معتد عليهم، فإذا تابوا لم يعاقبوا
بما اعتدوا به على الآمر الناهي من أهل السنة، كالرافضي الذي يعتقد كفر الصحابة
أو فسقهم وسبهم على ذلك، فإن تاب من هذا الاعتقاد، وصار يحبهم ويتولاهم لم يبق
لهم عليه حق، بل دخل حقهم في حق الله ثبوتًا وسقوطًا؛ لأنه تابع لاعتقاده
ولهذا كان جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أصح الروايتين، والشافعي في
أحد القولين على أن أهل البغي المتأولين لا يضمنون ما أتلفوه على أهل العدل
بالتأويل، كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه على أهل البغي بالتأويل باتفاق
العلماء
|
ص -171-
|
وكذلك أصح قولي
العلماء في المرتدين، فإن المرتد والباغي المتأول والمبتدع كل هؤلاء يعتقد أحدهم
أنه على حق، فيفعل ما يفعله متأولا، فإذا تاب من ذلك كان كتوبة الكافر من كفره؛
فيغفر له ما سلف مما فعله متأولا، وهذا بخلاف من يعتقد أن ما يفعله بغي وعدوان
كالمسلم إذا ظلم المسلم، والذمي إذا ظلم المسلم، والمرتد الذي أتلف مال غيره،
وليس بمحارب بل هو في الظاهر مسلم أو معاهد، فإن هؤلاء يضمنون ما أتلفوه
بالاتفاق
فالمأمور المنهي إن كان يعتقد أن أذي الآمر الناهي جائز له، فهو من المتأولين
وحق الآمر الناهي داخل في حق الله تعإلى فإذا تاب سقط الحقان، وإن لم يتب كان
مطلوبا بحق الله المتضمن حق الآدمي، فإما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون فاسقًا،
وإما أن يكون عاصيا، فهؤلاء كل يستحق العقوبة الشرعية بحسبه، وإن كان مجتهدًا
مخطئًا فهذا قد عفي الله عنه خطأه، فإذا كان قد حصل بسبب اجتهاده الخطأ أذي
للآمر الناهي بغير حق فهو كالحاكم إذا اجتهد فأخطأ، وكان في ذلك ما هو أذي
للمسلم، أو كالشاهد، أو كالمفتي
فإذا كان الخطأ لم يتبين لذلك المجتهد المخطئ، كان هذا مما ابتلي الله به هذا
الآمر الناهيقال تعالى: {وَجَعَلْنَا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، فهذا مما يرتفع عنه الإثم في نفس الأمر،
وكذلك
|
ص -172-
|
الجزاء على وجه
العقوبة، ولكن قد يقال: قد يسقط الجزاء على وجه القصاص الذي يجب في العمد،
ويثبت الضمان الذي يجب في الخطأ، كما تجب الدية في الخطأ، وكما يجب ضمان الأموال
التي يتلفها الصبي والمجنون في ماله، وإن وجبت الدية على عاقلة القاتل خطأ،
معاونة له فلابد من استيفاء حق المظلوم خطأ، فكذلك هذا الذي ظلم خطأ، لكن يقال:
يفرق بين ما كان الحق فيه لله، وحق الآدمي تبع له، وما كان حقًا لآدمي محضًا أو
غالبًا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد من هذا الباب موافق لقول
الجمهور الذين لا يوجبون على أهل البغي ضمان ما أتلفوه لأهل العدل بالتأويل، وإن
كان ذلك خطأ منهم ليس كفرًا ولا فِسْقًا
وإذا قدر عليهم أهل العدل لم يتبعوا مدبرهم، ولم يجهزوا على جريحهم، ولم يسبوا
حريمهم، ولم يغنموا أموالهم، فلا يقاتلونهم على ما أتلفوه من النفوس والأموال
إذا أتلفوا مثل ذلك، أو تملكوا عليهم
فتبين أن القصاص ساقط في هذا الموضع؛ لأن هذا من باب الجهاد الذي يجب فيه الأجر
على الله، وهذا مما يتعلق بحق العبد الآمر الناهي
وأما قول السائل: هل يقتص منه لئلا يؤدي إلى طمع منه في
|
ص -173-
|
جانب الحق؟
فيقال: متي كان فيما فعله إفساد لجانب الحق كان الحق في ذلك لله ورسوله، فيفعل
فيه ما يفعل في نظيره، وإن لم يكن فيه أذي للآمر الناهي
والمصلحة في ذلك تتنوع؛ فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال، وتارة تكون المصلحة
المهادنة، وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة، وهذا يشبه ذلك،
لكن الإنسان تزين له نفسه أن عفوه عن ظالمه يجريه عليه، وليس كذلك، بل قد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال:
"ثلاث إن كنت حالفاً عليهن: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما نقصت
صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"
فالذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو الإنسان عن حقه،
ويستوفي حقوق الله بحسب الإمكان قال تعالى: {وَالَّذِينَ
إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشوري: 39]، قال إبراهيم النَّخْعِي [هو أبو عمران
إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة النخعي اليماني ثم الكوفي،
وهو ابن مليكة أخت الأسود بن يزيد، كان كبير الشأن، كثير المحاسن، توفي وله تسع
وأربعون سنة، مات سنة 96ه] : كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا قال
تعالى: {هُمْ يَنتَصِرُونَ} يمدحهم، بأن فيهم همة الانتصار للحق والحمية له؛ ليسوا بمنزلة
الذين يعفون عجزًا وذلا بل هذا مما يذم به الرجل، والممدوح العفو مع القدرة،
والقيام لما يجب من نصر الحق، لا مع إهمال حق الله وحق العباد والله تعالى
أعلم
|
ص -174-
|
وقال شيخ الإسلام قدسََ الله رُوحَهُ :
فصْل
في قوله تعالى: {حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ
نَصْرُنَا الآية} [يوسف: 110]
قراءتان في هذه الآية: بالتخفيف والتثقيل وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ
بالتثقيل وتنكر التخفيف، كما في الصحيح عن الزهري قال: أخبرني عروة عن عائشة،
قالت له وهو يسألها عن قوله:
{وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخففة
قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها قلت: فما هذا النصر حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ بمن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم
جاءهم نصر الله عند ذلك، لعمري لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن
وفي الصحيح أيضًا عن ابن جُرَيجٍ سمعت ابن أبي مُلَيكَةَ
يقول : قال ابن عباس: {حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ}، خفيفة ذهب بها هنالك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى
نَصْرُ اللّه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]،
|
ص -175-
|
فلقيت عروة فذكرت ذلك له، فقال: قالت عائشة: معاذ الله، والله
ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يكون، ولكن لم يزل البلاء
بالرسل، حتى ظنوا خافوا أن يكون من معهم يكذبهم فكانت تقرؤها: "وظنوا
أنهم قد كذِّبوا" مثقلة
فعائشة جعلت استيأس الرسل من الكفار للمكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم،
ولكن القراءة الأخري ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد تأولها ابن عباس، وظاهر الكلام
معه، والآية التي تليها إنما فيها استبطاء النصر، وهو قولهم: مَتَى نَصْرُ
اللّهِ، فإن هذه كلمة تبطيء لطلب التعجيل
وقوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُواْ} قد يكون مثل قوله:
{إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ
مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52]، والظن لا يراد به في الكتاب والسنة
الاعتقاد الراجح، كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم، ويسمون
الاعتقاد المرجوح وهمًا، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"، وقد قال تعالى: {إَنَّ
الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]
|
ص -176-
|
فالاعتقاد المرجوح
هو ظن، وهو وهم، وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفو عنه، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز
لأمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل"، وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان، كما ثبت في
الصحيح أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحَّرق
حتى يصير حُمَمَة، أو يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به قال:
"أو قد وجدتموه؟" قالوا: نعم قال: "ذلك صريح
الإيمان"، وفي حديث آخر: إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال:
"الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة"
فهذه الأمور التي هي تُعْرض ثلاثة أقسام:
منها ما هو ذنب يضعف به الإيمان، وإن كان لا يزيله، واليقين في القلب له مراتب،
ومنه ما هو عفو يعفي عن صاحبه، ومنه ما يكون يقترن به صريح الإيمان
ونظير هذا: ما في الصحيح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي
سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لَبِثْتُ في
السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، ونحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال له ربه: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ
بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:
260]،
|
ص -177-
|
وقد ترك البخاري ذكر قوله: "بالشك" لما خاف فيها
من توهم بعض الناس [ذكر الإمام ابن تيمية أن البخاري ترك لفظة
"بالشك"، ولكن بالرجوع إلى صحيح البخاري وجد في أكثر من موضع
إثبات لفظة بالشك]
ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنًا كما أخبر الله عنه بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} ولكن طلب طمأنينة قلبه كما قال: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي صلى الله عليه
وسلم شكا لذلك بإحياء الموتي، كذلك الوعد بالنصر في الدنيا يكون الشخص مؤمنًا
بذلك، ولكن قد يضطرب قلبه فلا يطمئن، فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه قد كذب،
فالشك مظنة أنه يكون من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن
كان فيها ما هو ذنب فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك، كما في
أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث
وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم، فإنهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من
ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم،
وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمنين
فبها يصح الاتساء بالأنبياء كما في قوله: {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}
[الأحزاب: 21]
|
ص -178-
|
وفي القرآن من
قصص المرسلين التي فيها تسلية وتثبيت؛ ليتأسي بهم في الصبر على ما كذبوا وأوذوا،
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ
نَصْرُنَا} [الأنعام: 43]
[بياض بالأصل] ولنا؛ لأنه أسوة في ذلك ما هو كثير في القرآن؛ ولهذا قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وقال: {مَا
يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 34] وقال: {فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف: 35]، {وَكُلاًّ
نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]
وإذا كان الاتساء بهم مشروعا في هذا وفي هذا فمن المشروع التوبة من الذنب،
والثقة بوعد الله،وإن وقع في القلب ظن من الظنون وطلب مزيد الآيات لطمأنينة
القلوب، كما هو المناسب للاتساء والاقتداء دون ما كان المتبوع معصومًا مطلقًا
فيقول التابع: أنا لست من جنسه، فإنه لا يذكر الذنب، فإذا أذنب استيأس من
المتابعة والاقتداء، لما أتي به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة،
بخلاف ما إذا قيل: إن ذلك مجبور بالتوبة، فإنه تصح معه المتابعة، كما قيل: أول
من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر، ومن أشبه أباه ما ظلم
|
ص -179-
|
والله تعالى قص
علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب، وأما ما ذكره سبحانه أن الاقتداء
بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها، ولم يتوبوا منها، فهذا هو
المشروع فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم، وإن كان
ما أمروا به أبيح لهم، ثم نسخ، تنقطع فيه المتابعة، فما لم يؤمروا به أحري
وأولي
وأيضًا، فقوله: {وَظَنُّواْ
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قد يكونوا
ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبين الأمر بخلافه،
فهذا جائز عليهم كما سنبينه، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ثم تبين الأمر بخلافه
ظن أن ذلك كذب، وكان كذبا من جهة ظن في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه
فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون، وسنوضح ذلك
إن شاء الله تعالي
ومما ينبغي أن يعلم أنه سبحانه ذكر هنا شيئين: أحدهما:
استيئاس الرسل والثاني: ظن أنهم كذبوا وقد ذكرنا لفظ:
"الظن"،فأما لفظ: "استيأسوا "، فإنه قال سبحانه: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } ولم يقل: يئس الرسل، ولا ذكر ما استيأسوا منه، وهذا اللفظ قد
ذكره في هذه السورة:
|
ص -180-
|
{فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ
أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ
مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي
أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80]
وقد يقال: الاستيئاس ليس هو الإياس؛ لوجوه:
أحدها: أن إخوة يوسف
لم ييأسوا منه بالكلية، فإن قول كبيرهم: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ
يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
دليل على أنه يرجو أن يحكم الله له وحكمه هنا لابد أن يتضمن تخليصنا ليوسف
منهم، وإلا فحكمه له بغير ذلك لا يناسب قعوده في مصر لأجل ذلك
وأيضا، ف "اليأس": يكون في الشيء الذي لا يكون، ولم يجئ ما يقتضي
ذلك، فإنهم قالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ
إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا
مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ} [يوسف: 78، 79] فامتنع من تسليمه إليهم ومن المعلوم أن
هذا لا يوجب القطع بأنه لا يسلم إليهم، فإنه يتغير عزمه ونيته، وما أكثر تقليب
القلوب، وقد يتبدل الأمر بغيره حتى يصير الحكم إلى غيره، وقد يتخلص بغير
اختياره، والعادات قد جرت بهذا على مثل من عنده من قال لا يعطيه، فقد
|
ص -181-
|
يعطيه، وقد يخرج
من يده بغير اختياره، وقد يموت عنه فيخرج، والعالم مملوء من هذا
الوجه الثاني : قال
لهم يعقوب: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ
فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ
إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] فنهاهم عن اليأس من روح الله، ولم ينههم عن
الاستيئاس، وهو الذي كان منهم وأخبر أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرون
ومن المعلوم أنهم لم يكونوا كافرين فهذا هو الوجه الثالث أيضًا: وهو أنه أخبر
أنه: {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ
إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}
فيمتنع أن يكون للأنبياء يأس من روح الله، وأن يقعوا في الاستيئاس بل المؤمنون
ما داموا مؤمنين لا ييأسون من روح الله،وهذه السورة تضمنت ذكر المستيئسين،وأن
الفرح جاءهم بعد ذلك؛ لئلا ييأس المؤمن؛ولهذا فيها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي
الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] فذكر
استيئاس الإخوة من أخي يوسف،وذكر استيئاس الرسل،يصلح أن يدخل فيه ما ذكره ابن
عباس، وما ذكرته عائشة جميعًا
الوجه الرابع: أن الاستيئاس استفعال من اليأس، والاستفعال
|
ص -182-
|
يقع على وجوه:
يكون لطلب الفعل من الغير، فالاستخراج والاستفهام والاستعلام يكون في الأفعال
المتعدية، يقال: استخرجت المال من غيري، وكذلك استفهمت، ولا يصلح هذا أن يكون
معنى الاستيئاس، فإن أحدا لا يطلب اليأس ويستدعيه؛ ولأن استيأس: فعل لازم لا
متعد
ويكون الاستفعال لصيرورة المستفعل على صفة غيره، وهذا يكون في الأفعال اللازمة
كقولهم : استحجر الطين، أي : صار كالحجرواستنوق الفحل، أي : صار كالناقة
وأما النظر فيما استيأسوا منه، فإن الله تعإلى ذكر ذلك في قصة إخوة يوسف حيث
قال: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ}
وأما الرسل فلم يذكر ما استيأسوا منه، بل أطلق وصفهم بالاستيئاس، فليس لأحد أن
يقيده بأنهم استيأسوا مما وعدوا به، وأخبروا بكونه، ولا ذكر ابن عباس ذلك
وثبت أن قوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُواْ} لا يدل على ظاهره، فضلا عن
باطنه: أنه حصل في قلوبهم مثل تساوي الطرفين فيما أخبروا به، فإن لفظ الظن في
اللغة لايقتضي ذلك، بل يسمي ظنًا ما هو من أكذب الحديث عن الظان؛ لكونه أمرا
مرجوحا في نفسه واسم
|
ص -183-
|
اليقين والريب
والشك ونحوها يتناول علم القلب وعمله وتصديقه، وعدم تصديقه وسكينته وعدم سكينته،
ليست هذه الأمور بمجرد العلم فقط، كما يحسب ذلك بعض الناس، كما نبهنا عليه في
غير هذا الموضع؛إذ المقصود هنا الكلام على قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}
فإذا كان الخبر عن استيئاسهم مطلقًا، فمن
المعلوم أن الله إذا وعد الرسل والمؤمنين بنصر مطلق كما هو غالب إخباراته لم
يقيد زمانه ولا مكانه، ولا سنته، ولا صفته، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به
صفات أخري لم ينزل عليها خطاب الحق، بل اعتقدوها بأسباب أخري، كما اعتقد طائفة
من الصحابة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام،
ويطوفون به، أن ذلك يكون عام الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج
معتمرا، ورجا أن يدخل مكة ذلك العام، ويطوف ويسعي فلما استيأسوا من دخوله مكة
ذلك العام لما صدهم المشركون، حتى قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح
المشهور بقي في قلب بعضهم شيء، حتى قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم
تخبرنا أنا ندخل البيت ونطوف؟ قال: "بلي فأخبرتك
أنك تدخله هذا العام؟" قال: لا قال: "فإنك داخله
ومطوف" وكذلك قال له أبو بكر
وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر علمًا وإيمانًا من عمر، حتى تاب
|
ص -184-
|
عمر مما صدر منه،
وإن كان عمر رضي الله عنه محدثًا كما جاء في الحديث الصحيح، أنه قال صلى الله
عليه وسلم: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتى أحد فعمر"
فهو رضي الله عنه المحدث الملهم، الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولكن مزية
التصديق الذي هو أكمل متابعة للرسول، وعلمًا وإيمانًا بما جاء به، درجته فوق
درجته؛ فلهذا كان الصديق أفضل الأمة، صاحب المتابعة للآثار النبوية، فهو
مُعَلِّمٌ لعمر، ومُؤَدِّبٌ للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب، كما
كان أبو بكر مُعَلِّمًا لعمر ومؤدبًا له حيث قال له: فأخبرك أنك تدخله هذا
العام؟ قال: لا، قال: إنك آتيه ومطوف
فبين له الصديق أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم مطلق غير مقيد بوقت، وكونه سعي
في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به؛ فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون،
بل يكون غيره، إذ ليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كما قصده، بل من
تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده، كما كان
صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام، بخلاف خبر النبي صلى الله عليه
وسلم، فإنه صادق لابد أن يقع ما أخبر به ويتحقق
|
ص -185-
|
وكذلك ظن النبي
كما قال في تأبير النخل: "إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا
حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله"، فاستيئاس عمر وغيره من دخول ذلك
هو استيئاس مما ظنوه موعودًا به، ولم يكن موعودًا به
ومثل هذا لا يمتنع على الأنبياء أن يظنوا شيئًا فيكون الأمر بخلاف ما ظنوه فقد
يظنون فيما وعدوه تعيينًا وصفات ولا يكون كما ظنوه، فييأسون مما ظنوه في الوعد،
لا من تعيين الوعد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"رأيت أن أبا جهل قد أسلم، فلما أسلم خالد ظنوه هو، فلما أسلم عكرمة علم
أنه هو"
وروي مسلم في صحيحه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم
يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا هذا لصلح" قال:
فخرج شيصًا [في المطبوعة: "سبتا"، والمثبت من مسلم] فمر بهم
فقال: "ما لنخلكم [في المطبوعة: "لفحلكم"، والمثبت من
مسلم]؟" قالوا: قلت: كذا وكذا قال: "أنتم أعلم بأمر
دنياكم" [والشيصُ: التمر الذي لايشتد نواه ويقوي، وقد لا يكون له نوي
أصلا] وروي أيضا عن موسي بن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، قال: مررت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء
؟" فقال: يلَقِّحُونه يجعلون الذكر في الأنثي فَتَلْقَحُ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئًا" فأخبروا بذلك
فتركوه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك
فليصنعوه، فإنني
|
ص -186-
|
ظننت ظنًا فلا
تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حَدَّثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على
الله"
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا حدثنا بشيء
عن الله أن نأخذ به فإنه لن يكذب على الله، فهو أتقانا للّه، وأعلمنا بما يتقي،
وهو أحق أن يكون آخذًا بما يحدثنا عن اللّه، فإذا أخبره اللّه بوعد كان علينا أن
نصدق به، وتصديقه هو به أعظم من تصديقنا، ولم يكن لنا أن نشك فيه، وهو بأبي أولي
وأحري ألا يشك فيه، لكن قد يظن ظنًَا، كقوله: "إنما ظننت ظنًا فلا
تؤاخذوني بالظن"، وإن كان أخبره به مطلقًا فمستنده ظنون، كقوله في حديث
ذي اليدين : "ما قصرت الصلاة ولا نسيت"
وقد يظن الشيء ثم يبين الله الأمر على جليته، كما وقع مثل ذلك في أمور، كقوله
تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، نزلت في
الوليد بن عقبة لما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم لما ظن
صدقه، حتى أنزل الله هذه الآية
وكذلك في قصة بني أبيرق التي أنزل الله فيها:
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] وذلك لما جاء قوم تركوا السارق الذي كان
يسرق، وأخرجوا البريء ؛
|
ص -187-
|
فظن النبي صلى
الله عليه وسلم صدقهم،حتى تبين الأمر بعد ذلك وقال في حديث قصر الصلاة : "لم أنس ولم تقصر"،
فقالوا: بلي قد نسيت وكان قد نسي، فأخبر عن موجب ظنه واعتقاده، حتى تبين
الأمر بعد ذلك وروي عنه أنه قال: "إني لأنسي [في المطبوعة: "لا
أنسي"، والمثبت من مالك] لأَسُنَّ"، وأيضًا،فقوله في القرآن: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته،حيث
قال في صدر الآيات: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ
وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ الآيتين} [البقرة: 285، 286] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عيسي
الأنصاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بينا جبريل قاعد عند النبي صلى
الله عليه وسلم سمع نَقِيضًا من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح
اليوم لم يفتح إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل
قط إلا اليوم، فَسَلَّمَ وقال: أبشر بنورين أُوتِيتَهُما لم يؤْتَهُما نبي
قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته
وفي صحيح مسلم عن آدم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:
{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}،
دخل في قلوبهم منها شيء لم يدخل مثله، فقال النبي
|
ص -188-
|
صلى الله عليه
وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا"، قال: فألقي الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} الآيات إلى قوله: {أَوْ
أَخْطَأْنَا}، قال: قد فعلت، إلى آخر السورة [البقرة: 286]، قال: قد
فعلت
وفي صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِّلَّهِ
ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ
أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}
[البقرة: 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا
على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام
والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب:
سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما اقتراها القوم وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله عز وجل في
أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} إلى قوله: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
[البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها سبحانه فأنزل الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى قوله: {قَبْلِنَا} [البقرة: 286] قال: {نعم: رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا
بِهِ} قال: نعم إلى آخر السورة قال: نعم
والذي عليه جمهور أهل الحديث والفقه أنه يجوز عليهم الخطأ في
|
ص -189-
|
الاجتهاد، لكن لا
يقرون عليه، وإذا كان في الأمر والنهي فكيف في الخبر؟ وفي الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم تختصمون إلي،ولعل
بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع،فأحسب أنه صادق،فمن
قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" فنفس ما يعد الله به الأنبياء والمؤمنين حقًا لا يمترون
فيه،كما قال تعالى في قصة نوح: {وَنَادَى
نُوحٌ رَّبَّهُ إلى آخر الآية}
[هود: 45]ومثل هذا الظن قد يكون من إلقاء الشيطان المذكور في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} إلى قوله: {صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 54] وقد
تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع
وللناس فيها قولان مشهوران؛ بعد اتفاقهم على أن التمني هو التلاوة والقرآن، كما
عليه المفسرون من السلف كما في قوله: {وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] وأما من
أَوَّل النهي على تمني القلب، فذاك فيه كلام آخر، وإن قيل: إن الآية تَعُمُّ
النوعين لكن الأول هو المعروف المشهور في التفسير، وهو ظاهر القرآن ومراد الآية
قطعًا؛ لقوله بعد ذلك: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا
يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [الحج: 52،
53]وهذا كله لا يكون في مجرد القلب إذا
|
ص -190-
|
لم يتكلم به
النبي، لكن قد يكون في ظنه الذي يتكلم به بعضه النخل ونحوها، وهو يوافق ما
ذكرناه
وإذا كان التمني لا بد أن يدخل فيه القول ففيه قولان:
الأول: أن الإلقاء
هو في سمع المستمعين ولم يتكلم به الرسول، وهذا قول من تأول الآية بمنع جواز
الإلقاء في كلامه والثاني
وهو الذي عليه عامة السلف ومن اتبعهم : أن الإلقاء في نفس التلاوة، كما دلت
عليه الآية وسياقها من غير وجه، كما وردت به الآثار المتعددة، ولا محذور في ذلك
إلا إذا أقر عليه، فأما إذا نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته فلا محذور في
ذلك، وليس هو خطأ وغلط في تبليغ الرسالة، إلا إذا أقر عليه
ولا ريب أنه معصوم في تبليغ الرسالة أن يقر على خطأ، كما قال: "فإذا
حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لن أكذب على الله"، ولولا ذلك لما
قامت الحجة به،فإن كونه رسول الله يقتضي أنه صادق فيما يخبر به عن الله،والصدق
يتضمن نفي الكذب ونفي الخطأ فيه فلو جاز عليه الخطأ فيما يخبر به عن الله وأقر
عليه لم يكن كل ما يخبر به عن الله
والذين منعوا أن يقع الإلقاء في تبليغه فروا من هذا، وقصدوا
|
ص -191-
|
خيرًا، وأحسنوا
في ذلك، لكن يقال لهم: ألقي ثم أحكم، فلا محذور في ذلك فإن هذا يشبه النسخ
لمن بلغه الأمر والنهي من بعض الوجوه، فإنه إذًا موقن مصدق برفع قول سبق لسانه
به ليس أعظم من إخباره برفعه
ولهذا قال في النسخ: {وَإِن كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ} [البقرة: 143]، فظنهم أنهم قد كذبوا هو يتبع ما يظنونه من
معنى الوعد، وهذا جائز لا محذور فيه، إذا لم يقروا عليه وهذا وجه حسن،وهو
موافق لظاهر الآية ولسائر الأصول من الآيات والأحاديث، والذي يحقق ذلك أن باب
الوعد والوعيد ليس بأعظم من باب الأمر والنهي
فإذا كان من الجائز في باب الأمر والنهي أن يظنوا شيئًا، ثم يتبين الأمر لهم
بخلافه، فلأن يجوز ذلك في باب الوعد والوعيد بطريق الأولي والأحري، حتى إن باب
الأمر والنهي إذا تمسكوا فيه بالاستصحاب، لم يقع في ذلك ظن خلاف ما هو عليه الأمر
في نفسه، فإن الوجوب والتحريم الذي لا يثبت إلا بخطاب إذا نفوه قبل الخطاب، كان
ذلك اعتقادًا مطابقًا للأمر في نفسه، وباب الوعد إذا لم يخبروا به قد يظنون
انتفاءه، كما ظن الخليل جواز المغفرة لأبيه حتى استغفر له، ونهينا عن الاقتداء
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب:
"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، وحتى استأذن
ربه في الاستغفار لأمه فلم يؤذن له
|
ص -192-
|
في ذلك،وحتى صلى
على المنافقين قبل أن ينهي عن ذلك وكان يرجو لهم المغفرة، حتى أنزل الله عز وجل
: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {لأوَّاهٌ
حَلِيمٌ} [التوبة: 113،114]، وقال عن
المنافقين: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا الآية}
[التوبة: 84]، وقال: {سَوَاء
عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] فإذا
كان صلى على المنافقين واستغفر لهم راجيا أن يغفر لهم قبل أن يعلم ذلك
ولهذا سوغ العلماء أن يروي في باب الوعد والوعيد من الأحاديث ما لم يعلم أنه
كذب، وإن كان ضعيف الإسناد، بخلاف باب الأمر والنهي فإنه لا يؤخذ فيه إلا بما
يثبت أنه صدق؛ لأن باب الوعد والوعيد إذا أمكن أن يكون الخبر صدقا وأمكن أن يوجد
الخبر كذبا لم يجز نفيه، لا سيما بلا علم، كما لم يجز الجزم بثبوته بلا علم، إذ
لا محذور فيه منابت الناس اللفظ تعيين الوعد والوعيد، فلا يجوز منع ذلك بمنع
الحديث إذا أمكن أن يكون صدقا؛ لأن في ذلك إبطال لما هو حق، وذلك لا يجوز
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حدثوا
عن بني إسرائيل
|
ص -193-
|
ولا حرج"، وهذا الباب وهو:
"باب الوعد والوعيد"، هو في الكتاب بأسماء مطلقة للمؤمنين،
والصابرين، والمجاهدين، والمحسنين، فما أكثر من يظن من الناس أنه من أهل الوعد،
ويكون اللفظ في ظنه أنه متصف بما يدخل في الوعد لا في اعتقاد صدق الوعد في
نفسه
وهذا كقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَالآيتين} [الصافات:
171،172]، فقد يظن الإنسان في نفسه أو غيره كمال الإيمان المستحق للنصر، وإن
جند الله الغالبون، ويكون الأمر بخلاف ذلك
وقد يقع من النصر الموعود به ما لا يظن أنه من الموعود به، فالظن المخطئ، فهم
ذلك كثير جدا أكثر من باب الأمر والنهي مع كثرة ما وقع من الغلط في ذلك، وهذا
مما لا يحصر الغلط فيه إلا الله تعإلى وهذا عام لجميع الآدميين، لكن الأنبياء
صلوات الله عليهم وسلامه لا يقرون، بل يتبين لهم، وغير الأنبياء قد لا يتبين له
ذلك في الدنيا
ولهذا كثر في القرآن ما يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتصديق الوعد
|
ص -194-
|
والإيمان، وما
يحتاج إليه ذلك من الصبر إلى أن يجيء الوقت، ومن الاستغفار لزوال الذنوب التي
بها تحقيق اتصافه بصفة الوعد، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] وقال تعالى: {فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ الآية}
[غافر: 77] والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة والله تعالى أعلم
|
ص -195-
|
سورة الرعد
قال شيخ الإِسلام رَحِمهُ اللَّه:
فصل
في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ
شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33]،
قيل: المراد سموهم بأسماء حقيقة لها معان تستحق بها الشرك له والعبادة، فإن لم
تقدروا بطل ما تدعونه
وقيل: إذا سميتموها آلهة فسموها باسم الإله، كالخالق والرازق، فإذا كانت هذه
كاذبة عليها فكذلك اسم الآلهة، وقد حام حول معناها كثير من المفسرين، فما شفوا
عليلا ولا أرووا غليلاً، وإن كان ما قالوه صحيحًا
فتأمل ما قبل الآية وما بعدها يطلعك على حقيقة المعني، فإنه سبحانه يقول: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]،وهذا استفهام
|
ص -196-
|
تقرير يتضمن
إقامة الحجة عليهم،ونفي كل معبود مع الله،الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت
بعلمه، وقدرته، وجزائه في الدنيا والآخرةفهو رقيب عليها، حافظ لأعمالها،مجاز
لها بما كسبت من خير وشر
فإذا جعلتم أولئك شركاء فسموهم إذًا بالأسماء التي يسمي بها القائم على كل نفس
بما كسبت، فإنه سبحانه يسمي بالحي القيوم، المحيي المميت، السميع البصير، الغني
عما سواه، وكل شيء فقير إليه، ووجود كل شيء به فهل تستحق آلهتكم اسمًا من تلك
الأسماء؟ فإن كانت آلهة حقًا فسموها باسم من هذه الأسماء، وذلك بهت بين؛ فإذا
انتفي عنها ذلك علم بطلانها كما علم بطلان مسماها
وأما إن سموها بأسمائها الصادقة عليها كالحجارة، وغيرها من مسمي الجمادات،
وأسماء الحيوان التي عبدوها من دون الله، كالبقر وغيرها، وبأسماء الشياطين الذين
أشركوهم مع الله جل وعلا وبأسماء الكواكب المسخرات تحت أوامر الرب، والأسماء
الشاملة لجميعها أسماء المخلوقات المحتاجات، المدبرات، المقهورات
وكذلك بنو آدم عبادة بعضهم بعضا، فهذه أسماؤها الحق، وهي تبطل إلهيتها؛ لأن
الأسماء من لوازم الإلهية مستحيلة عليها، فظهر أن تسميتها آلهة من أكبر الأدلة
على بطلان إلهيتها، وامتناع كونها شركاء لله عز وجل
|
ص -197-
|
سورة الحجر
وقال شيخ الإِسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد
السلام بن تيمية الحراني قدس الله روحه، ونور ضريحه، ورحمه :
فصل
في آيات ثلاث متناسبة متشابهة اللفظ والمعني،
يخفي معناها على أكثر الناس
قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ
مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}
[الحجر: 41، 42]
وقوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ}
[النحل: 9]
وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى}
[الليل: 12،13]
|
ص -198-
|
فلفظ هذه الآيات
فيه أن السبيل الهادي هو على الله
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في الآية الأولي ثلاثة أقوال، بخلاف الآيتين
الأخريين، فإنه لم يذكر فيهما إلا قولا واحدًا فقال في تلك الآية: اختلفوا في
معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يعني بقوله هذا: الإخلاص فالمعنى أن الإخلاص طريق إلى مستقيم،
و"علي" بمعنى "إلي"
والثاني: هذا طريق على جوازه، لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم وهو خارج مخرج
الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه: طريقك علي، فهو كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]
والثالث: هذا صراط على استقامته، أي: أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان
قال: وقرأ قتادة، ويعقوب: "هَذَا صرِاَطٌ على" أي: رفيع
قلت: هذه الأقوال الثلاثة قد ذكرها مَنْ قبله، كالثعلبي، والواحدي، والبغوي،
وذكروا قولا رابعًا فقالوا واللفظ للبغوي، وهو مختصر الثعلبي:
|
ص -199-
|
قال الحسن:
معناه صراط إلى مستقيم وقال مجاهد: الحق يرجع إلي، وعليه طريقه لا يعرج على
شيء
وقال الأخفش: يعني على الدلالة على الصراط المستقيم
وقال الكسائي: هذا على التهديد والوعيد، كما يقول الرجل لمن يخاصمه: طريقك
علي، أي: لا تفلت مني، كما قال تعالى: {إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}
وقيل: معناه: على استقامته بالبيان
والبرهان والتوفيق والهداية
فذكروا الأقوال الثلاثة، وذكروا قول الأخفش: على الدلالة على الصراط المستقيم
وهو يشبه القول الأخير، لكن بينهما فرق فإن ذاك يقول: على استقامته بإقامة
الأدلة فمن سلكه كان على صراط مستقيم والآخر يقول: على أن أدل الخلق عليه
بإقامة الحجج ففي كلا القولين أنه بَينَ الصراط المستقيم بنصب الأدلة، لكن هذا
جعل الدلالة عليه، وهذا جعل عليه استقامته أي بيان استقامته وهما متلازمان؛
ولهذا والله أعلم لم يجعله أبو الفرج قولا رابعًا
وذكروا القراءة الأخري عن يعقوب وغيره: أي: رفيع قال البغوي: وعبر بعضهم
عنه: "رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال"
|
ص -200-
|
قلت: القول الصواب: هو قول أئمة السلف قول مجاهد ونحوه
فإنهم أعلم بمعاني القرآن لاسيما مجاهد فإنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس
من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية، وأسأله عنها وقال الثوري: إذا جاءك
التفسير عن مجاهد فحسبك به والأئمة كالشافعي، وأحمد، والبخاري، ونحوهم،
يعتمدون على تفسيره، والبخاري في صحيحه أكثر ما ينقله من التفسيرينقله عنه
والحسن البصري أعلم التابعين بالبصرة وما ذكروه عن مجاهد ثابت عنه، رواه الناس
كابن أبي حاتم وغيره، من تفسير ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه لا يعرج على
شيء وذكر عن قتادة أنه فسرها على قراءته وهو يقرأ: "عَلِي"
فقال: أي: رفيع مستقيم
وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن السلف أنهم فسروا آية النحل فروي من طريق ورقاء، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:
{قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]،
قال: طريق الحق على الله قال: وروي عن السدي أنه قال: الإسلام وعطاء
قال: هي طريق الجنة
فهذه الأقوال قول مجاهد، والسدي، وعطاء في هذه الآية هي مثل قول مجاهد، والحسن،
في تلك الآية
وذكر ابن أبي حاتم من تفسير العوفي، عن ابن عباس، في قوله:
|
ص -201-
|
{وَعَلَى
اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، يقول:
على الله البيان أن يبين الهدي والضلالة
وذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية قولين، ولم يذكر في آية الحجر إلا قول مجاهد
فقط
وابن الجوزي لم يذكر في آية النحل إلا هذا القول الثاني، وذكره عن الزجاج،
فقال: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ، القصد: استقامة الطريق، يقال:
طريق قَصْدٍ، وقاصد، إذا قصد بك إلى ما تريد، قال الزجاج: المعني: وعلى الله
تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين
وكذلك الثعلبي، والبغوي، ونحوهما، لم يذكروا إلا هذا القول لكن ذكروه باللفظين
قال البغوي: يعني بيان طريق الهدي من الضلالة وقيل: بيان الحق بالآيات
والبراهين
قال: والقصد: الصراط المستقيم، وَمِنْهَا جَآئِرٌ : يعني: ومن السبيل ما
هو جائر عن الاستقامة معوج فالقصد من السبيل: دين الإسلام، والجائر منها:
اليهودية، والنصرانية، وسائر ملل الكفر
|
ص -202-
|
قال جابر بن عبد
الله: قصد السبيل: بيان الشرائع والفرائض وقال عبد الله بن المبارك، وسهل بن
عبد الله: قصد السبيل: السنة، وَمِنْهَا جَآئِرٌ: الأهواء والبدع
دليله: قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]
ولكن البغوي ذكر فيها القول الآخر، ذكره في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12]، عن الفراء، كما سيأتي فقد ذكر القولين في
الآيات الثلاث تبعًا لمن قبله، كالثعلبي وغيره
والمهدوي ذكر في الآية الأولي قولين من الثلاثة، وذكر في الثانية ما رواه
العوفي، وقولا آخر فقال:
قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}، أي: على أمري وإرادتي وقيل: هو على التهديد، كما يقال: على
طريقك وإلى مصيرك
وقال في قوله: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ} قال ابن عباس: أي بيان
الهدي من الضلال وقيل: السبيل: الإسلام، وَمِنْهَا جَآئِرٌ أي: ومن
السبيل جائر، أي عادل عن الحق وقيل: المعني: وعنها جائر، أي: عن السبيل، ف
"من" بمعنى "عن"
وقيل: معنى قصد السبيل: سيركم ورجوعكم، والسبيل واحدة بمعنى الجمع
|
ص -203-
|
قلت: هذا قول
بعض المتأخرين جعل القصد بمعنى الإرادة،أي: عليه قصدكم للسبيل في ذهابكم
ورجوعكم وهو كلام من لم يفهم الآية فإن "السبيل القصد" هي:
السبيل العادلة،أي: عليه السبيل القصد و"السبيل": اسم جنس؛
ولهذا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}، أي: عليه القصد من السبيل، ومن السبيل جائر فأضافه إلى اسم
الجنس إضافة النوع إلى الجنس، أي: "القصد من السبيل"، كما تقول:
ثوب خز،ولهذا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}
وأما من ظن أن التقدير: قصدكم السبيل؛ فهذا
لا يطابق لفظ الآية ونظمها من وجوه متعددة
وابن عطية لم يذكر في آية الحجر إلا قول الكسائي، وهو أضعف الأقوال، وذكر المعنى
الصحيح تفسيرًا للقراءة الأخري فذكر أن جماعة من السلف قرؤوا: " على
مستقيم" من العلو والرفعة قال: والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى
الإخلاص لما استثني إبليس من أخلص قال الله له: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم
لا تنال أنت بإغوائك أهله
قال: وقرأ جمهور الناس: {عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ} والإشارة بهذا على هذه
القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص لما قسم إبليس هذين
|
ص -204-
|
القسمين قال
الله: هذا طريق على أي: هذا أمر إلى مصيره والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر
على فلان، أي: إليه يصير النظر في أمرك وهذا نحو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] قال: والآية على هذه القراءة خبر يتضمن
وعيدًا
قلت: هذا قول لم ينقل عن أحد من علماء التفسير لا في هذه الآية ولا في نظيرها
وإنما قاله الكسائي لما أشكل عليه معنى الآية الذي فهمه السلف، ودل عليه السياق
والنظائر
وكلام العرب لا يدل على هذا القول فإن الرجل وإن كان يقول لمن يتهدده
ويتوعده: على طريقك، فإنه لايقول: إن طريقك مستقيم
وأيضا، فالوعيد إنما يكون للمسيء، لايكون للمخلصين فكيف يكون قوله هذا إشارة
إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص، وطريق هؤلاء غير طريق هؤلاء؟ هؤلاء سلكوا
الطريق المستقيم التي تدل على الله، وهؤلاء سلكوا السبيل الجائرة
وأيضًا، فإنما يقول لغيره في التهديد: طريقك علي، من لا يقدر عليه في الحال،
لكن ذاك يمر بنفسه عليه وهو متمكن منه، كما كان أهل
|
ص -205-
|
المدينة يتوعدون
أهل مكة بأن طريقكم علينا، لما تهددوهم بأنكم آويتم محمدًا وأصحابه كما قال
أبو جهل لسعد بن معاذ لما ذهب سعد إلى مكة: لا أراك تطوف بالبيت آمنًا وقد
آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم، فقال: لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد
عليك منه طريقك على المدينة، أو نحو هذا
فذكر أن طريقهم في متجرهم إلى الشام عليهم، فيتمكنون حينئذ من جزائهم
ومثل هذا المعنى لا يقال في حق الله تعالى فإن الله قادر على العباد حيث كانوا،
كما قالت الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن
لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12]، وقال: {وَمَا
أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}
[العنكبوت: 22]
وإذا كانت العرب تقول ما ذكره، يقولون: طريقك في هذا الأمر على فلان، أي: إليه
يصير أمرك، فهذا يطابق تفسير مجاهد وغيره من السلف، كما قال مجاهد: الحق يرجع
إلى الله، وعليه طريقه لا يعرج على شيء، فطريق الحق على الله، وهو الصراط
المستقيم الذي قال الله فيه:هّذّا صٌرّاطِ على مٍسًتّقٌيمِ كما فسرت به
القراءة الأخري
فالصراط في القراءتين هذا الصراط المستقيم الذي أمر الله المؤمنين
|
ص -206-
|
أن يسألوه إياه في
صلاتهم،فيقولوا: {اهدِنَا الصِّرَاطَ
المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ
وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6،
7] وهو الذي وصي به في قوله: {وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]
وقوله هذا إشارة إلى ما تقدم ذكره، وهو قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فتعبد العباد له بإخلاص الدين له: طريق يدل عليه، وهو طريق
مستقيم؛ ولهذا قال بعده: {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]
وابن عطية ذكر أن هذا معني الآية في تفسير الآية الأخري
مستشهدًا به، مع أنه لم يذكره في تفسيرها، فهو بفطرته عرف أن هذا معني الآية،
ولكنه لما فسرها ذكر ذلك القول، كأنه هو الذي اتفق أن رأي غيره قد قاله هناك
فقال رحمه الله:
وقوله:
{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ} [النحل: 9] وهذه أيضًا من أجل نعم الله تعالى أي: على
الله تقويم طريق الهدي وتبيينه، وذلك بنصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب
المتأولون
قال: ويحتمل أن يكون المعنى: أن من سلك السبيل القاصد فعلى
الله طريقه، وإلى ذلك مصيره، فيكون هذا مثل قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}،
|
ص -207-
|
وضد قول النبي صلى الله عليه وسلم "والشر
ليس إليك"، أي: لا يفضي إلى رحمتك وطريق قاصد
معناه: بينٌ مستقيم قريب، ومنه قول الراجز:
بعيد عن نهج الطريق القاصد
قال: والألف واللام في "السبيل" للعهد، وهي سبيل الشرع،وليست
للجنس،ولو كانت للجنس لم يكن منها جائروقوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}:
يريد طريق اليهود،والنصاري، وغيرهم كعبَّاد الأصناموالضمير في
"منها": يعود على "السبيل" التي يتضمنها معني
الآية،كأنه قال: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن كان لم يجر لها ذكر؛لتضمن
لفظة "السبيل" بالمعنى لها
قال: ويحتمل أن يكون الضمير في "منها" على سبيل الشرع المذكورة،
وتكون "من" للتبعيض، ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد كأنه
قال: ومن بنيات الطريق من هذه السبيل ومن شعبها جائر
قلت: سبيل أهل البدع جائرة خارجة عن الصراط المستقيم فيما ابتدعوا فيه ولا
يقال: إن ذلك من السبيل المشروعة
|
ص -208-
|
وأما قوله: إن
قوله: {قَصْدُ السَّبِيلِ} هي سبيل الشرع، وهي سبيل الهدي، والصراط المستقيم وأنها لو
كانت للجنس لم يكن منها جائر، فهذا أحد الوجهين في دلالة الآية، وهو مرجوح
والصحيح الوجه الآخر أن "السبيل" اسم جنس، ولكن الذي على الله هو
القصد منها، وهي سبيل واحد، ولما كان جنسًا قال: وَمِنْهَا جَآئِرٌ،
والضمير يعود على ما ذكر بلا تكلف
وقوله: لو كان للجنس لم يكن منها جائر، ليس كذلك فإنها ليست كلها عليه، بل
إنما عليه القصد منها، وهي سبيل الهدي، والجائر ليس من القصد وكأنه ظن أنه إذا
كانت للجنس يكون عليه قصد كل سبيل، وليس كذلك بل إنما عليه سبيل واحدة، وهي
الصراط المستقيم هي التي تدل عليه، وسائرها سبل الشيطان، كما قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]
وقد أحسن رحمه الله في هذا الاحتمال، وفي تمثيله ذلك بقوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}
وأما آية الليل قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12] فابن عطية مثَّلها بهذه الآية، لكنه فسرها
بالوجه الأول فقال:
|
ص -209-
|
ثم أخبر تعالى أن
عليه هدي الناس جميعًا، أي: تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك، كما قال: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، ثم كل أحد يتكسب ما قدر له وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى
الإيمان، ولو كان كذلك لم يوجد كافر
قلت: وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي وذكره عن الزجاج قال
الزجاج: إن علينا أن نبين طريق الهدي من طريق الضلال
وهذا التفسير ثابت عن قتادة، رواه عبد بن حميد قال: حدثنا
يونس، عن شيبان، عن قتادة: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، علينا بيان حلاله
وحرامه، وطاعته ومعصيته وكذلك رواه ابن أبي حاتم في تفسير سعيد، عن قتادة في
قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا
لَلْهُدَى} يقول: على الله
البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته
لكن قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به
كتبه، فتبين به حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته
وأما الثعلبي، والواحدي، والبغوي، وغيرهم، فذكروا القولين
وزادوا أقوالاً أخر فقالوا واللفظ للبغوي:
|
ص -210-
|
{ِنَّ عَلَيْنَا
لَلْهُدَى}، يعني البيان قال الزجاج:
علينا أن نبين طريق الهدي من طريق الضلالة وهو قول قتادة، قال: على الله بيان
حلاله وحرامه
وقال الفراء: يعني من سلك الهدي فعلى الله سبيله، كقوله
تعالى: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ}، يقول: من أراد الله
فهو على السبيل القاصد
قال: وقيل معناه: إن علينا للهدي والإضلال، كقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل
عمران: 26]
قلت: هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن
السلف، وكذلك ما أشبهه فإنهم قالوا: معناه بيدك الخير والشر، والنبي صلى الله
عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول: "والخير بيديك، والشر ليس
إليك"
والله تعالى خالق كل شيء، لايكون في ملكه إلا ما يشاء،
والقدر حق لكن فهم القرآن، ووضع كل شيء موضعه، وبيان حكمة الرب وعدله مع
الإيمان بالقدر، هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان
وقد ذكر المهدوي الأقوال الثلاثة، فقال: إن علينا للهدى
|
ص -211-
|
والضلال فحذَّف
قتادة المعنى: إن علينا بيان الحلال والحرام
وقيل: المعنى: إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى
قلت: هذا هو قول الفراء، لكن عبارة الفراء أبين في معرفة هذا القول
فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل
إلا على الله ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم والمعنى الأول
متفق عليه بين المسلمين
وأما الثاني، فقد يقول طائفة: ليس على الله شيء لا بيان هذا، ولا هذا فإنهم
متنازعون هل أوجب على نفسه؟ كما قال:
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقوله: {وَكَانَ حَقًّا
عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الروم: 47]، وقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ
فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]
وإذا كان عليه بيان الهدي من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته،فهذا
يوافق قول من يقول: إن عليه إرسال الرسل،وإن ذلك واجب عليه، فإن البيان لا
يحصل إلا بهذا
وهذا يتعلق بأصل آخر، وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه
|
ص -212-
|
أوجبته مشيئته
وحكمته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاءه وجب وجوده، وما لم يشأه
امتنع وجوده وبسط هذا له موضع آخر
ودلالة الآيات على هذا فيها نظر
وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعًا،وأنه أرشد بها إلى
الطريق المستقيم، وهي الطريق القصد،وهي الهدي إنما تدل عليه وهو الحق طريقه على
الله لا يعرج عنه
لكن نشأت الشبهة من كونه قال: "علينا" بحرف الاستعلاء، ولم يقل:
"إلينا"، والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال: هذه الطريق إلى
فلان، ولمن يمر به ويجتاز عليه أن يقول: طريقنا على فلان
وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه،
ولا يشبع منه العلماء
فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا،كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق:
6]،وقال: {وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران : 28]، {إِنَّ
إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25]،
أي: إلينا مرجعهم، وقال:
|
ص -213-
|
{وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ
ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ
عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى
اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}
[الأنعام: 6062]، وقال: {أَمْ
لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى وَأَنَّ
إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}
[النجم: 36 42]، وقال: {وَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]
فأي سبيل سلكها العبد فإلى الله مرجعه ومنتهاه، لابد له من لقاء الله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ
الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}
[النجم: 31]
وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدي وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد
أصحابه، وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان
وهذه سبيل من عبد الله وحده وأطاع رسله؛ فلهذا قال: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ}، {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} فالهدي، وقصد السبيل، والصراط المستقيم، إنما يدل على عبادته
وطاعته لا يدل على معصيته وطاعة الشيطان
|
ص -214-
|
فالكلام تضمن
معني الدلالة، إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة، فإن الجزاء يعم الخلق كلهم،
بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله ما الذي يدل على
ذلك؟ فكأنه قيل: الصراط المستقيم يدل على الله على عبادته وطاعته
وذلك يبين أن من لغة العرب أنهم يقولون: هذه الطريق على فلان،إذا كانت تدل
عليه، وكان هو الغاية المقصود بها،وهذا غير كونها عليه بمعني: أن صاحبها يمر
عليه وقد قيل:
فهن المنايا أي واد سلكته
|
عليها
طريقي أو على طريقها
|
وهو كما
قال الفراء: من سلك الهدى فعلى الله سبيله
فالمقصود بالسبيل هو: الذي يدل ويوقع عليه، كما يقال : إن سلكت هذه السبيل
وقعت على المقصود، ونحو ذلك، وكما يقال: على الخبير سقطت فإن الغاية المطلوبة
إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها
وأيضًا، فسالك طريق الله متوكل عليه فلابد له من عبادته ومن التوكل عليه
فإذا قيل: عليه الطريق المستقيم تضمن أن سالكه عليه يتوكل،
|
ص -215-
|
وعليه تدله
الطريق، وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط، لا يعدل عن ذلك، إلى نحو ذلك من المعاني
التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية
وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم فعليه الصراط المستقيم، وهو على صراط
مستقيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبير والله أعلم
|
ص -216-
|
سورة النحل
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
فصل
اللباس له منفعتان:
إحداهما: الزينة
بستر السوءة
والثانية : الوقاية
لما يضر من حر أو برد أو عدو
فذكر اللباس في "سورة الأعراف" لفائدة الزينة، وهي المعتبرة في
الصلاة والطواف، كما دل عليه قوله:
{خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وقال: {يَا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ
وَرِيشًا} [الأعراف: 62]، وقال:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ردًا علي ما كانوا عليه في الجاهلية من
تحريم الطواف في الثياب الذي قدم بها غير الحُمْسِ [الحُمْسُ: قريش؛
لأنهم كانوا يتشددون في دينهم وشجاعتهم، وقيل: كانوا لا يستظلون أيام مني ولا
يدخلون البيوت من أبوابها]، ومن أكل ما سلوه من الأدهان
|
ص -217-
|
وذكره في النحل
لفائدة الوقاية في قوله: {وَجَعَلَ
لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ
كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]، ولما كانت هذه الفائدة حيوانية طبيعية لا
قوَامَ للإنسان إلا بها جعلها من النعم، ولما كانت تلك فائدة كمالية قرنها
بالأمر الشرعي، وتلك الفائدة من باب جلب المنفعة بالتزين، وهذه من باب دفع
المضرة، فالناس إلي هذه أحوج
فأما قوله:
{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، ولم يذكر:
"البرد"، فقد قيل: لأن التنزيل كان بالأرض الحارة فهم يتخوفونه،
وقيل: حذف الآخر للعلم به، ويقال: هذا من باب التنبيه؛ فإنه إذا امتن عليهم
بما يقي الحر فالامتنان بما يقي البرد أعظم؛ لأن الحر أذي، والبرد بؤس، والبرد
الشديد يقتل، والحر قَلَّ أن يقع فيه هكذا، فإن باب التنبيه والقياس كما يكون في
خطاب الأحكام يكون في خطاب الآلاء وخطاب الوعد والوعيد، كما قلته في قوله: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81]
مثله من يقول: لا تنفروا في البرد فإن جهنم أشد زمهريرًا، "ومن اغبرت
قدماه في سبيل الله حرمهما الله علي النار"، فالوحل والثلج أعظم ونحو
ذلك
وفي الآية شرع لباس جنن الحرب؛ ولهذا قرن من قرن باب اللباس
والتحلي بالصلاة؛ لأن للحرب لباسا مختصا مع اللباس المشترك، وطابق قولهم اللباس
والتحلي قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]
|
ص -218-
|
وأحسن من هذا أنه قد تقدم ذكر وقاية البرد في أول السورة بقوله: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5]،
فيقال: لم فرق هذا؟ فيقال والله أعلم : المذكور في أول السورة النعم
الضرورية التي لا يقومون بدونها من الأكل، وشرب الماء القَرَاح [القَرَاح:
الخالص من الماء الذي لم يخالطه كافور ولا حنوط]، ودفع البرد، والركوب الذي لا
بد منه في النقلة، وفي آخرها ذكر كمال النعم: من الأشربة الطيبة،والسكون في
البيوت وبيوت الأدم، والاستظلال بالظلال، ودفع الحر والبأس بالسرابيل، فإن هذا
يستغني عنه في الجملة ففي الأول الأصول، وفي الآخر الكمال؛ ولهذا قال: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]
وأيضًا، فالمساكن لها منفعتان: إحداهما: السكون فيها لأجل الاستتار، فهي كلباس
الزينة من هذا الوجه والثاني: وقاية الأذي من الشمس والمطر والريح ونحو ذلك،
فجمع الله الامتنان بهذين فقال: {وَاللّهُ
جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}
هذه بيوت المدر} [المدر: القرى] {وَجَعَلَ
لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ
وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]
هذه بيوت العمود
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا
إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، يدخل
فيه أُهبة البيت من البسط والأوعية والأغطية ونحوها، وقال: {مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}،
ولم يقل: من المدر بيوتًا كما قال:
{وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا }؛ لأن السكن بيان منفعة البيت، فبه تظهر النعمة، واتخاذ
|
ص -219-
|
البيوت من المدر
معتاد، فالنعمة بظهور أثرها؛ بخلاف الأنعام، فإن الهداية إلي اتخاذ البيوت من
جلودها أظهر من الهداية إلي نفس اتخاذ البيوت
وأما فائدة الوقاية فقال: {وَاللّهُ جَعَلَ
لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ} [النحل: 81]، فالظلال يعم جميع ما يظل من العرش والفساطيط
والسقوف مما يصطنعه الآدميون، وقوله: {مِّنَ
الْجِبَالِ أَكْنَانًا؛} لأن الجبل يكن
الإنسان من فوقه ويمينه ويساره وأسفل منه، ليس مقصوده الاستظلال؛ بخلاف الظلال
فإن مقصودها الاستظلال؛ ولهذا قرن بهذه ما في السرابيل من منفعة الوقاية، فجمع
في هذه الآية بين وقاية اللباس المنتقل مع البدن، ووقاية الظلال الثابتة علي
الأرض؛ ولهذا كانوا في الجاهلية يسوون بينهما في حق المحرم، فكما نهي عن تغطية
الرأس، نهوه عن الدخول تحت سقف حتي أنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن
ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] وجاز
للمحرم أن يستظل بالثابت من الخيام والشجر، وأما الشيء المنتقل معه المتصل
كالمحمل، ففيه ما فيه لتردده بين السرابيل وبين المستقر من الظلال والأكنة
كما أنه قبل هذه الآيات ذكر أصناف الأشربة من اللبن والخمر والعسل، وذكر في أول
السورة المراكب والأطعمة، وهذه مجامع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن
والمراكب
|
ص -220-
|
قال شيخ
الإسلام:
قوله عز وجل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ
الآيتين} [النحل: 102، 103] لفظ:
"الإنزال" في القرآن يرد مقيدًا بأنه منه كالقرآن، وبالإنزال من
السماء، ويراد به: العلو كالمطر، ومطلقًا فلا يختص بنوع، بل يتناول إنزال
الحديد من الجبال، والإنزال من ظهور الحيوان، وغير ذلك، فقوله: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} بيان لنزول جبريل به من الله، كقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]، أي: أنه مؤتمن لا يزيد ولا ينقص، فإن
الخائن قد يغير الرسالة
وفيها دلالة علي أمور:
منها: بطلان قول من
زعم خلقه في جسم كالجهمية من المعتزلة وغيرهم،فإن السلف يسمون من قال بخلقه ونفي
الصفات والرؤية جهميا،فإن جهمًا أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ
في ذلك،فله مزية المبالغة والابتداء بكثرة إظهاره،وإن كان جعد سبقه إلي بعض
ذلك،لكن المعتزلة وإن وافقوه في البعض فهم يخالفونه في مثل مسائل الإيمان والقدر
وبعض الصفات،وجهم يقول: إن الله لا
|
ص -221-
|
يتكلم،أو يتكلم
مجازا، وهم يقولون: يتكلم حقيقة، ولكن قولهم في المعني قوله،وهو ينفي الأسماء
كالباطنية والفلاسفة
ومنها: بطلان قول من زعم أنه فاض من العقل الفعال أو غيره،
وهذا أعظم كفرًا وضلالا من الذي قبله
ومنها: إبطال قول الأشعرية: إن كلام الله معني وهذا العربي
خلق ليدل عليه، سواء قالوا: خلق في بعض الأجسام، أو ألهمه جبريل، أو أخذه من
اللوح، فإن هذا لابد له من متكلم تكلم به أولا، وهذا يوافق قول من قال: إنه
مخلوق، لكن يفارقه من وجهين:
أحدهما: أن أولئك يقولون: المخلوق كلام الله،وهؤلاء يقولون: إنه كلام
مجازًا، وهذا أشر من قول المعتزلة، بل هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة
يوافقونهم في المعني
الثاني: أنهم يقولون: لله كلام قائم بذاته، والخلقية يقولون: لا يقوم
بذاته؛ فإن الكُلاَّبية خير منهم في الظاهر، لكن في الحقيقة لم يثبتوا كلاما له
غير المخلوق
والمقصود أن الآية تبطل هذا، "والقرآن" اسم
للعربي، لقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ} [النحل:
98]وأيضًا،فقوله: {نَزَّلَهُ} عائد إلي قوله:
{وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل:
101]،
|
ص -222-
|
فالذي نزله الله هو الذي نزله روح القدس،وأيضًا،قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَالآية} [النحل: 103]، وهم يقولون: إنما يعَلِّم هذا القرآن
العربي بشر لقوله: {لِّسَانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [النحل:
103]إلخ، فعلم أن محمدًا لم يؤلف نظما بل سمعه من روح القدس، وروح
القدس الذي نزل به من الله،فعلم أنه سمعه منه، لم يؤلفه هو
ونظيرها قوله: {وَهُوَ الَّذِي
أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}
[الأنعام: 114] و"الكتاب": اسم للقرآن بالضرورة والاتفاق؛
فإنهم أو بعضهم يفرقون بين كتاب الله وكلامه، ولفظ "الكتاب":
يراد به المكتوب فيه، فيكون هو الكلام، ويراد به ما يكتب فيه، كقوله: {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ}
[الواقعة: 78]، وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء: 13]، وقوله : {يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، إخبار مستشهد بهم، فمن لم يقر به منا فهم
خير منه من هذا الوجه
وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره: أنه أنزل في ليلة القدر إلي بيت العزة
في السماء الدنيا، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح قبل نزوله، سواء كتبه الله قبل
أن يرسل به جبريل، أو بعده فإذا أنزل جملة إلي بيت العزة فقد كتبه كله قبل أن
ينزله، والله يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، وهو قد كتب المقادير
وأعمال العباد قبل أن يعملوها، ثم يأمر بكتابتها بعد أن يعملوها، فيقابل بين
|
ص -223-
|
الكتابة المتقدمة
والمتأخرة فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره فإذا كان ما يخلقه
بائنًا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه، فكيف لا يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل
أن يرسلهم؟
ومن قال: إن جبرائيل أخذه عن الكتاب، لم يسمعه من الله فهو باطل من وجوه:
منها: أنه سبحانه كتب التوراة لموسي بيده، فبنو إسرائيل أخذوا كلامه من الكتاب
الذي كتبه ومحمد عن جبريل عن الكتاب فهم أعلي بدرجة، ومن قال: إنه ألقي إلي
جبريل معاني وعبر بالعربي فمعناه أنه ألهمه إلهاما، وهذا يكون لآحاد المؤمنين،
كقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111]، {وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7]، فيكون هذا
أعلي من أخذ محمد صلى الله عليه وسلم
وأيضًا : فإنه سبحانه قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ} مِن بَعْدِهِ إلي قوله: {وَكَلَّمَ
اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163،
164]، وهذا يدل علي أمور: علي أنه يكلم العبد تكليما زائدًا علي الوحي الذي
هو قسيم التكليم الخاص
فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلي عام وخاص، فالتكليم
|
ص -224-
|
العام: هو
المقسوم في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ الآية} [الشوري: 51] فالتكليم المطلق قسيم الوحي الخاص، لا قسمًا
منه، وكذلك الوحي يكون عامًا فيدخل فيه التكليم الخاص، كقوله: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}
[طه: 13]، ويكون قسيمًا له كما في الشوري، وهذا يبطل قول من قال: إنه معني
واحد قائم بالذت، فإنه لا فرق بين العام وما لموسي وفرق سبحانه في
"الشوري" بين الإيحاء، وبين التكليم من وراء حجاب، وبين إرسال
رسول فيوحي بإذنه ما يشاء
|
ص -225-
|
سورة الإسراء
وقال شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله:
في الكلام علي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ
الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ الآيتين}
[الإسراء: 56، 57]، لما ذكر أن من السلف من ذكر أنهم من الملائكة، ومنهم من
ذكر أنهم من الإنس، ومنهم من ذكر أنهم من الجن
لفظ السلف يذكرون جنس المراد من الآية علي التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله
عن الخبز: فيريه رغيفًا، والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعي من دون الله،
فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو
غيرها، فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن
هؤلاء يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهي عن دعائهم، وبين
أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا
يحولونه من موضع إلي موضع، أو من حال إلي حال، كتغيير صفته أو قدره؛ ولهذا قال:
وَلاَ تَحْوِيلاً فذكر نكرة تعم أنواع التحويل
|
ص -226-
|
وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}
[الجن: 6]، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من
سفهائه، فقالت الجن: الإنس تستعيذ بنا، فزادوهم رهقًا، وقد نص الأئمة كأحمد
وغيره علي أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به علي أن كلام الله
غير مخلوق، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر
بذلك، فإذا كان لا يجوز ذلك؛ فلأن لا يجوز أن يقول: أنت خير مستعاذ يستعاذ به
أولي فالاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة: كلها من نوع الدعاء، أو الطلب، وهي
ألفاظ متقاربة
ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعي ويذكر عنده، فإنه سبحانه يستجار به هناك،
وقد يستمسك بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، كما قال عمرو
بن سعيد: إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارًا بدم، ولا فارًا بخربة وفي
الصحيح: "يعوذ عائذ بهذا البيت"
والمقصود أن كثيرًا من الضالين يستغيثون بمن يحسنون به الظن، ولا يتصور أن يقضي
لهم أكثر مطالبهم، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة يكذبون في
أكثره، بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم
أضعافها،
|
ص -227-
|
يكذبون فيما
أخبروا به وأعانوا عليه، لإفساد حال الرجال في الدين والدنيا، ويكون فيه شبهة
للمشركين، كما يخبر الكاهن ونحوه
والله سبحانه جعل الرسول مبلغًا لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وهؤلاء يجعلون الرسل
والمشائخ يدبرون العالم بقضاء الحاجات وكشف الكربات، وليس هذا من دين المسلمين،
بل النصاري تقول هذا في المسيح وحده بشبهة الاتحاد والحلول؛ ولهذا لم يقولوه في
إبراهيم وموسي وغيرهم، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها
موسي أعظم، ولو كان هذا ممكنًا لم يكن للمسيح خاصية به، بل موسي أحق
ولهذا كنت أتنزل مع علماء النصاري إلي أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من
جهة الإلهية فلا يجدون فرقًا، بل أبين لهم أن ما جاء به موسي من الآيات أعظم،
فإن كان حجة في دعوي الإلهية فموسي أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل علي قدرة
الخالق، لا علي أن المخلوق أفضل من غيره
|
ص -228-
|
سورة الكهف
فَصْل
حديث علي رضي الله عنه المخرج في الصحيحين لما طرقه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفاطمة وهما نائمان، فقال: "ألا
تصليان؟"، فقال علي: يا رسول الله، إنما
أنفسنا بيد الله إن شاء أن يمسكها، وإن شاء أن يرسلها فولي النبي صلى الله
عليه وسلم وهو يضرب بيده علي فخذه، ويعيد القول، ويقول: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]
هذا الحديث نص في ذم من عارض الأمر بالقدر؛ فإن قوله: إنما أنفسنا بيد الله إلي
آخره، استناد إلي القدر في ترك امتثال الأمر، وهي في نفسها كلمة حق، لكن لا تصلح
لمعارضة الأمر، بل معارضة الأمر بها من باب الجدل المذموم الذي قال الله فيه: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، وهؤلاء أحد أقسام القدرية وقد صنفتهم في غير هذا الموضع
فالمجادلة الباطلة [بياض بالأصل]
|
ص -229-
|
سورة مريم
قال شيخ الإسلام رَحِمَهَُُ الله:
فَصْل
"سورة مريم" مضمونها: تحقيق
عبادة الله وحده، وأن خواص الخلق هم عباده، فكل كرامة ودرجة رفيعة في هذه
الإضافة، وتضمنت الرد علي الغالين الذين زادوا في النسبة إلي الله حتي نسبوا
إليه عيسي بطريق الولادة، والرد علي المفرطين في تحقيق العبادة وما فيها من
الكرامة، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها علي عباده المصطفين
افتتحها بقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2]،وندائه ربه
نداء خفيا، وموهبته له يحيي، ثم قصة مريم وابنها، وقوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِإلخ} [مريم: 30]، بين فيها الرد علي الغلاة في المسيح، وعلي
الجفاة النافين عنه ما أنعم الله به عليه، ثم أمر نبيه بذكر إبراهيم وما دعا
إليه من عبادة الله وحده، ونهيه أباه عن عبادة الشيطان، وموهبته
|
ص -230-
|
له إسحاق ويعقوب،
وأنه جعل له لسان صدق عليا، وهو الثناء الحسن، وأخبر عن يحيي وعيسي وإبراهيم ببر
الوالدين مع التوحيد، وذكر موسي ومن هبته له أخاه هارون نبيا، كما وهب يحيي
لزكريا وعيسي لمريم وإسحاق لإبراهيم
فهذه السورة "سورة المواهب"، وهي ما وهبه الله لأنبيائه من الذرية
الطيبة، والعمل الصالح، والعلم النافع، ثم ذكر ذرية آدم لأجل إدريس، {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58] وهو إبراهيم، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل إلي
آخر القصة
ثم قال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِالآية} [مريم: 59] فهذه حال المفرطين في عبادة الله، ثم استثني
التائبين وبَينَ أن الجنة لمن تاب، وأن جنات عدن وعدها الرحمن عباده بالغيب، وهم
أهل تحقيق العبادة، ثم قال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 36]،ثم قال:
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}
[مريم: 56]
ثم ذكر حال منكري المعاد وحال من جعل له الأولاد، وقرن بينهما فيما رواه البخاري
من حديث أبي هريرة: "كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما
ينبغي له ذلك"، الحديث {وَيَقُولُ
الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66]،ثم ذكر إقسامه على
|
ص -231-
|
حشدهم والشياطين،
وإحضارهم حول جهنم جثيا، وفيها دلالة علي أن المخبر عن خبر يحصل في المستقبل لا
يكون إلا بطريقين: إما اطلاعه علي الغيب، وهو العلم بما سيكون، وإما أن يكون قد
اتخذ عند الرحمن عهدًا، والله موف بعهده، فالأول علم بالخبر، والثاني علم
بالأمر الأول علم بالكلمات الكونية، والثاني علم بالكلمات الدينية، وهذا الذي
أقسم أنه يأتي يوم المعاد ما ذكر كاذب في قسمه، فإنه ليس له اطلاع علي الغيب،
ولا اتخذ عند الرحمن عهدًا
وهذا كما قيل في إجابة الدعاء: إنه تارة يكون لصحة الاعتقاد، وهو مطابقة
الخبر،وتارة لكمال الطاعة وهو موافقة الأمر،كقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} [البقرة: 186]،فذكر حال من تمني علي الله الباطل بلا علم
بالواقع، ولا اتخاذ عهد بالمشروع
ثم ذكر حال الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، فنفي الولادة عن نفسه، ورد علي من
أثبتها، وأثبت المودة ردًا علي من أنكرها، فقال: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] أي: يحبهم، ويحببهم إلي عباده، وقد وافق ذلك
ما في الصحيحين: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه،
فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل
السماء، ويوضع له القبول في الأرض"،
|
ص -232-
|
وقال في البغض
عكس ذلك
وفي قول إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ بِي
حَفِيًّا} [مريم: 47]،وقوله في
موسي: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}
[مريم: 52]،وماذكره للمؤمنين من المودة: إثبات لما ينكره الجاحدون من محبة
الله وتكليمه، كما في الأول نفي لما يثبته المفترون من اتخاذ الولد
|
ص -233-
|
سُئِلَ رَضي الله عَنْهُ عن قوله عز وجل : {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، هل ذلك فيمن أضاع وقتها فصلاها في غير وقتها،
أم فيمن أضاعها فلم يصلها؟ وقوله تعالي: {فَوَيْلٌ
لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]، هل هو عن فعل الصلاة، أو السهو فيها كما
جرت العادة من صلاة الغَفَلَة الذين لا يعقلون من صلاتهم شيئًا؟ أفتونا
مأجورين
فأجاب رضي الله عنه
:
الحمد لله رب العالمين، بل المراد بهاتين الآيتين من أضاع الواجب في الصلاة لا
مجرد تركها، هكذا فسرها الصحابة والتابعون وهو ظاهر الكلام،فإنه قال: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ
سَاهُونَ}، فأثبت لهم صلاة وجعلهم ساهين عنها،
فَعُلِم أنهم كانوا يصلون مع السهو عنها، وقد قال طائفة من السلف: بل هو السهو
عما يجب فيها مثل ترك الطمأنينة، وكلا المعنيين حق، والآية تتناول هذا وهذا، كما
في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق،
|
ص -234-
|
تلك صلاة
المنافق، يرقب الشمس حتي إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر
الله فيها إلا قليلاً"
فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن صلاة المنافق تشتمل علي التأخير
عن الوقت الذي يؤمر بفعلها فيه، وعلي النقر الذي لا يذكر الله فيه إلا قليلا،
وهكذا فسروا قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ
خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} بأن إضاعتها تأخيرها عن وقتها وإضاعة حقوقها، وجاء في الحديث:
"إن العبد إذا قام إلي الصلاة بطهورها وقراءتها وسجودها أو كما قال صعدت
ولها برهان كبرهان الشمس تقول له: حفظك الله كما حفظتني، وإذا لم يتم طهورها
وقراءتها وسجودها أو كما قال فإنها تلف كما يلف الثوب وتقول له: ضيعك الله كما
ضيعتني" قال سلمان الفارسي: الصلاة مكيال من وَفَّي وُفِّي له، ومن
طفف فقد علمتم ما قال في المطففين وفي سنن أبي داود عن عمار عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "إن العبد لينصرف من
صلاته ولم يكتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا
سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها"
وقد تنازع العلماء فيمن غلب عليه الوسواس في صلاته هل
عليه الإعادة علي قولين
لكن الأئمة كأحمد وغيره علي أنه لا إعادة عليه، واحتجوا بما في
|
ص -235-
|
الصحيح عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتي لا يسمع التأذين، فإذا قضي
التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التَّثْوِيبُ أقبل حتي يخطر
بين المرء ونفسه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتي يضل الرجل لن
يدري كم صلي، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم" "فقد عم بهذا الكلام ولم يأمر أحدًا بالإعادة
والثاني: عليه الإعادة، وهو قول طائفة من العلماء: من الفقهاء والصوفية من
أصحاب أحمد وغيره؛ كأبي عبد الله بن حامد وغيره لما تقدم من قوله: " ولم
يكتب له منها إلا عشرها"
والتحقيق، أنه لا أجر له إلا بقدر الحضور، لكن ارتفعت عنه العقوبة التي يستحقها
تارك الصلاة، وهذا معني قولهم: تبرأ ذمته بها، أي: لا يعاقب علي الترك، لكن
الثواب علي قدر الحضور، كما قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها،
فلهذا شرعت السنن الرواتب جبرًا لما يحصل من النقص في الفرائض والله أعلم
|
ص -236-
|
سورة طه
وَقَالَ شيخ الإِسلامِ رَحِمَهُ الله :
فَصل
"سورة طه" مضمونها تخفيف أمر
القرآن وما أنزل الله تعالى من كتبه، فهي "سورة كتبه" كما أن مريم
"سورة عباده ورسله" افتتحها بقوله: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} إلى قوله: {تَنزِيلًا مِّمَّنْ
خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى}
[طه: 2 - 4] ثم ذكر قصة موسي، ونداء اللّه له، ومناجاته إياه، وتكليمه له،
وقصته من أبلغ أمر الرسل؛ فلهذا ثنيت في القرآن؛ لأنه حصل له الخطاب والكتاب،
وأرسل إلى فرعون الجاحد المرتاب، المكذب للربوبية والرسالة، وهذا أعظم الكافرين
عناداً، واستوفي القصة في هذه السورة إلى قوله: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:
114]، ثم ذكر قصة آدم؛ لأنها أول النبوات
وتضمنت السورة ذكر موسي وآدم لما بينهما من المناسبة مما يقتضي
|
ص -237-
|
ذكرهما، ولما
بينهما من المناظرة، فإن موسي نظير آدم في الأمر الذي صار لكل منهما، كما أن
المسيح نظير آدم في الخلق، وقوله: {فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ الآيات} [طه: 123127]، وهذا يشابه ما في القرآن في غير موضع من ذكر
نبوة آدم ثم نبوة موسي بعده، وأمر بني إسرائيل ثم أمر نبيه بالصلاة التي في
القرآن، كما جمع بين الأمرين بالقراءة والسجود في أول سورة أنزلت، وختمها
بالرسول المبلغ لكل ما أمر به، كما افتتحها بذكر التنزيل عليه
|
ص -238-
|
وقال:
فَصل
في طريقتي العلم والعمل
قال اللّه تعالى لموسي وهارون: {فَقُولَا
لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقال في السورة بعينها: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ
آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا}
إلى قوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 99 113]
فذكر في كل واحدة من الرسالتين العظيمتين رسالة موسي ورسالة محمد أن ذلك لأجل
التذكر أو الخشية، ولم يقل: ليتذكر ويخشي، ولا قال: ليتقون ويحدث لهم ذكراً،
بل جعل المطلوب أحد الأمرين، وهذا مطابق لقوله:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، ونحو ذلك
|
ص -239-
|
وقد قال عمر بن
الخطاب رضي اللّه عنه: نعم العبد صهيب، لو لم يخف اللّه لم يعصه، وذلك يرجع إلى
تحقيق قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وقوله: {أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، وقوله :
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]،
وقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي
ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]،
وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى الآية} [طه: 123، 124]، ونحو ذلك
وسبب ذلك أن الخير إما بمعرفة الحق واتباعه في العلم والعمل
جميعاً صلاح القول والعمل: العلم والإرادة والعلم أصل العمل وأصل الإرادة
والمحبة وغير ذلك، وهو مستلزم له ما لم يحصل معارض مانع فالعلم بالحق يوجب
اتباعه إلا لمعارض راجح: مثل اتباع الهوي بالاستكبار ونحوه، كحال الذين قال
اللّه فيهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ
الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ
آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً} [الأعراف: 146]،
وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ
بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}
[الأنعام: 33]؛ ولهذا قال:
|
ص -240-
|
{يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، ونحو ذلك
فإن أصل الفطرة التي فطر الناس عليها إذا سلمت من الفساد إذا رأت الحق اتبعته
وأحبته إذ الحق نوعان:
حق موجود: فالواجب معرفته والصدق في الإخبار عنه، وضد ذلك الجهل والكذب
وحق مقصود: وهو النافع للإنسان، فالواجب إرادته والعمل به، وضد ذلك إرادة
الباطل واتباعه
ومن المعلوم أن اللّه خلق في النفوس محبة العلم دون الجهل، ومحبة الصدق دون
الكذب، ومحبة النافع دون الضار، وحيث دخل ضد ذلك فلمعارض من هوي وكبر وحسد ونحو
ذلك، كما أنه في صالح الجسد خلق اللّه فيه محبة الطعام والشراب الملائم له دون
الضار، فإذا اشتهي ما يضره أو كره ما ينفعه فلمرض في الجسد، وكذلك أيضاً إذا
اندفع عن النفس المعارض من الهوى والكبر والحسد وغير ذلك، أحب القلب ما ينفعه من
العلم النافع والعمل الصالح، كما أن
|
ص -241-
|
الجسد إذا اندفع عنه المرض أحب ما ينفعه من الطعام والشراب، فكل
واحد من وجود المقتضي وعدم الدافع سبب للآخر، وذلك سبب لصلاح حال الإنسان،
وضدهما سبب لضد ذلك، فإذا ضعف العلم غلب [في المطبوعة: غلبه والتصويب من
التفسير الكبير لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد الجليند 4344] الهوي الإنسان،
وإن وجد العلم والهوي وهما المقتضي والدافع فالحكم للغالب
وإذا كان كذلك فصلاح بني آدم، الإيمان والعمل الصالح،ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان:
أحدهما: الجهل
المضاد للعلم، فيكونون ضلالاً
والثاني : اتباع
الهوي والشهوة اللذين في النفس، فيكونون غواة مغضوبا عليهم؛ ولهذا قال : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1، 2]، وقال: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ" فوصفهم
بالرشد الذي هو خلاف الغي، وبالهدي الذي هو خلاف الضلال، وبهما يصلح العلم
والعمل جميعاً، ويصير الإنسان عالماً عادلا، لا جاهلا ولا ظالماً
|
ص -242-
|
وهم في الصلاح
على ضربين:
تارة يكون العبد إذا
عرف الحق وتبين له اتبعه وعمل به، فهذا هو الذي يدْعَي بالحكمة وهو الذي يتذكر،
وهو الذي يحدث له القرآن ذكراً
والثاني: أن يكون
له من الهوي والمعارض ما يحتاج معه إلى الخوف الذي ينهي النفس عن الهوي؛ فهذا
يدْعَي بالموعظة الحسنة وهذا هو القسم الثاني المذكور في قوله : أَوْ
يَخْشَى، وفي قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَوقد قال في السورة في
قصة فرعون: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى
أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17 19]، فجمع بين التزكي والهدي والخشية،كما
جمع بين العلم والخشية في قوله:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]،
وفي قوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ
لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:
154]،وفي قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ
فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا
وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ
صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 66
68]
وذلك لما ذكرناه من أن كل واحد من العلم بالحق الذي يتضمنه التذكر، والذكر الذي
يحدثه القرآن، ومن الخشية المانعة من اتباع الهوي سبب لصلاح حال الإنسان، وهو
مستلزم للآخر إذا قوي على
|
ص -243-
|
ضده، فإذا قوي
العلم والتذكر دفع الهوي، وإذا اندفع الهوي بالخشية أبصر القلب وعلم وهاتان
هما الطريقة العلمية والعملية، كل منهما إذا صحت تستلزم ما تحتاج إليه من
الأخري، وصلاح العبد ما يحتاج إليه ويجب عليه منهما جميعاً؛ ولهذا كان فساده
بانتفاء كل منهما فإذا انتفي العلم الحق كان ضالا غير مهتد، وإذا انتفي اتباعه
كان غاويا مغضوبا عليه
ولهذا قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، وقال: {وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:
1 4]، وقال في ضد ذلك: {ان يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ}
[النجم: 23]، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، وقال: {وَإِنَّ
كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، وقال:
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]،وقال في ضده: {وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]،
وقال: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن
رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، وقال في ضده: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]، قال ابن عباس: تكفل اللّه لمن قرأ القرآن
واتبع ما فيه، ألا يضل في الدنيا، ولا يشقي في الآخرة
فهو سبحانه يجمع بين الهدي والسعادة، وبين الضلال والشقاوة،
|
ص -244-
|
وبين حسنة الدنيا
والآخرة، وسيئة الدنيا والآخرة، ويقرن بين العلم النافع والعمل الصالح، بين
العلم الطيب والعمل الصالح، كما يقرن بين ضديهما وهو "الضلال"،
و"الغي": اتباع الظن وما تهوي الأنفس والقرينان متلازمان عند الصحة
والسلامة من المعارض، وقد يتخلف أحدهما عن الآخر عند المعارض الراجح
فلهذا إذا كان في مقام الذم والنهي، والاستعاذة، كان الذم والنهي لكل منهما: من
الضلال، والغي، من الجهل والظلم، من الضلال والغضب؛ ولأن كلا منهما صار مكروها
مطلوب العدم، لا سيما وهو مستلزم للآخر، وأما في مقام الحمد والطلب ومنة اللّه
فقد يطلب أحدهما، وقد يطلب كل منهما، وقد يحمد أحدهما، وقد يحمد كل منهما؛ لأن
كلا منهما خير مطلوب محمود، وهو سبب لحصول الآخر، لكن كمال الصلاح يكون بوجودهما
جميعاً، وهذا قد يحصل له إذا حصل أحدهما ولم يعارضه معارض، والداعي للخلق الآمر
لهم يسلك بذلك طريق الرفق واللين، فيطلب أحدهما؛ لأنه مطلوب في نفسه، وهو سبب
للآخر، فإن ذلك أرفق من أن يأمر العبد بهما جميعا، فقد يثقل ذلك عليه، والأمر
بناء والنهي هدم، والأمر هو يحصل العافية بتناول الأدوية، والنهي من باب الحمية،
والبناء والعافية تأتي شيئاً بعد شيء، وأما الهدم فهو أعجل، والحمية أعم، وإن
كان قد يحصل فيهما
|
ص -245-
|
ترتيب أيضاً فكيف
إذا كان كل واحد من الأمرين سبباً وطريقاً إلى حصول المقصود مع حصول الآخر
فقوله سبحانه: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ
أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، طلب وجود أحد الأمرين بتبليغ الرسالة،وجاء
بصيغة: " لعل" تسهيلا للأمر ورفقاً وبياناً؛ لأن حصول أحدهما طريق
إلى حصول المقصود، فلا يطلبان جميعاً في الابتداء؛ ولهذا جاء في الأثر: إن من
ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها لا سيما أصول
الحسنات التي تستلزم سائرها، مثل الصدق فإنه أصل الخير، كما في الصحيحين عن ابن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم
بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة،ولا يزال الرجل يصدق
ويتحري الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى
الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحري الكذب حتى يكتب
عند اللّه كذاباً"
ولهذا قال سبحانه: {هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222]،
وقال: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن
لَّمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 7، 8]؛
ولهذا يذكر أن
|
ص -246-
|
بعض المشائخ أراد أن يؤدب بعض أصحابه الذين لهم ذنوب كثيرة فقال: يابني، أنا
آمرك بخصلة واحدة فاحفظها لي، ولا آمرك الساعة بغيرها: التزم الصدق وإياك
والكذب، وتوعده على الكذب بوعيد شديد، فلما التزم ذلك الصدق دعاه إلى بقية الخير
ونهاه عما كان عليه، فإن الفاجر لا حد له في الكذب
|
ص -247-
|
قَالَ شيخ
الإسلام تقي الدين أَحمد بن تيمية رَحمهُ اللّه تعالى:
فَصل
في قوله تعالي: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}
[طه: 63]، فإن هذا مما أُشْكِلَ على كثير من الناس، فإن الذي في مصاحف
المسلمين إِنْ هَذَانِ بالألف، وبهذا قرأ جماهير القراء، وأكثرهم يقرأ:
إنَّ مشددة، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم: إنْ مخففة، لكن ابن كثير يشدد
نون هذان دون حفص، والإشكال من جهة العربية على القراءة المشهورة، وهي قراءة
نافع وابن عامر وحمزة والكسائي، وأبي بكر عن عاصم، وجمهور القراء عليها، وهي أصح
القراءات لفظاً ومعني
وهذا يتبين بالكلام على ما قيل فيها
فإن منشأ الإشكال : أن الاسم المثني يعرب في حال النصب والخفض بالياء، وفي حال
الرفع بالألف، وهذا متواتر من لغة العرب :
|
ص -248-
|
لغة القرآن
وغيرها في الأسماء المبنية، كقوله: {وَلأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ، ثم قال: {فَإِن لَّمْ
يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، وقال: {وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف:
100]، وقال: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}
[المائدة: 6] ولم يقل: الكعبان، وقال: {وَاضْرِبْ
لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ
أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 13، 14]، ولم يقل: اثنان، وقال: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40]، وقال: {ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام: 143]،
ولم يقل: اثنان، ولا الذكران ولا أنثيان، وقال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49]، ولم يقل: زوجان، وقال: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11]، ولم يقل: اثنتان
ومثل هذا كثير مشهور في القرآن وغيره
فظن النحاة أن الأسماء المبهمة المبنية مثل هذين واللذين تجري هذا المجري، وأن
المبني في حال الرفع يكون بالألف، ومن هنا نشأ الإشكال
وكان أبو عمرو إماماً في العربية، فقرأ بما يعرف من العربية: "إِنّ هذين
لَسَاحرِاَنِ" وقد ذكر أن له سلفاً في هذه القراءة، وهو الظن
|
ص -249-
|
به: أنه لا يقرأ
إلا بما يرويه، لا بمجرد ما يراه، وقد روي عنه أنه قال: إني لأستحيي من اللّه
أن أقرأ: إِنْ هَذَانِ؛ وذلك لأنه لم ير لها وجهاً من جهة العربية، ومن
الناس من خَطَّأ أبا عمرو في هذه القراءة، ومنهم الزجاج، قال: لا أجيز قراءة
أبي عمرو، خلاف المصحف
وأما القراءة المشهورة الموافقة لرسم المصحف، فاحتج لها كثير من النحاة بأن هذه
لغة بني الحارث بن كعب، وقد حكي ذلك غير واحد من أئمة العربية قال المهدوي:
بنو الحارث بن كعب يقولون: ضربت الزيدان، ومررت بالزيدان، كما تقول: جاءني
الزيدان قال المهدوي: حكي ذلك أبو زيد، والأخفش، والكسائي، والفراء، وحكي أبو
الخطاب: أنها لغة بني كنانة، وحكي غيره: أنها لغة لخثعم، ومثله قول الشاعر:
تزود منا بين أذناه ضربة
|
دعته
إلى هاوي التراب عقيم
|
وقال ابن الأنباري [هو أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم بن
إبراهيم بن عبد الكريم الشيباني، كاتب الإنشاء بديوان الخلافة ببغداد خمسين
سنة عَلَت مكانته عند الخلفاء والسلاطين، وناب في الوزارة، وأنفذ رسولاً إلى
ملوك الشام وخراسان وكان فاضلاً أديبًا، ولد سنة 964 ه، وتوفي سنة 855 ه]: هي
لغة لبني الحارث بن كعب وقريش، قال الزجاج: وحكي أبو عبيدة عن أبي الخطاب وهو
رأس من رؤوس الرواة أنها لغة لكنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض
على لفظ واحد، وأنشدوا:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يجد
|
مساغا
لناباه الشجاع لصمما
|
|
ص -250-
|
وقال: ويقول
هؤلاء: ضربته بين أذناه
قلت: بنو الحارث بن كعب هم أهل نجران، ولا ريب أن القرآن لم ينزل بهذه اللغة،
بل المثني من الأسماء المبنية في جميع القرآن هو بالياء في النصب والجر كما
تقدمت شواهده وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال: إن القرآن نزل بلغة قريش،
وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه
بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم، ولم يختلفوا إلا في حرف، وهو
"التابوت" فرفعوه إلى عثمان، فأمر أن يكتب بلغة قريش رواه البخاري
في صحيحه
وعن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان،وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية
وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان:
يا أمير المؤمنين أَدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود
والنصاري، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها
إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد اللّه بن الزبير،
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان
للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه
بلسان قريش،
|
ص -251-
|
فإنما نزل
بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل
إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن
يحَرَّق
وهذه الصحيفة التي أخذها من عند حفصة هي التي أمر أبو بكر وعمر بجمع القرآن فيها
لزيد بن ثابت، وحديثه معروف في الصحيحين وغيرهما، وكانت بخطه؛ فلهذا أمر عثمان
أن يكون هو أحد من ينسخ المصاحف من تلك الصحف، ولكن جعل معه ثلاثة من قريش ليكتب
بلسانهم، فلم يختلف لسان قريش والأنصار إلا في لفظ : "التابوه"،
و"التابوت"، فكتوبه: "التابوت" بلغة قريش
وهذا يبين أن المصاحف التي نسخت كانت مصاحف متعددة، وهذا معروف مشهور، وهذا مما
يبين غلط من قال في بعض الألفاظ: إنه غلط من الكاتب، أو نقل ذلك عن عثمان، فإن
هذا ممتنع لوجوه:
منها: تعدد المصاحف،
واجتماع جماعة على كل مصحف، ثم وصول كل مصحف إلى بلد كبير فيه كثير من الصحابة
والتابعين يقرؤون القرآن ويعتبرون ذلك بحفظهم، والإنسان إذا نسخ مصحفاً غلط في
بعضه عرف غلطه بمخالفة حفظه القرآن وسائر المصاحف، فلو قُدِّرَ أنه
|
ص -252-
|
كتب كاتب مصحفاً
ثم نسخ سائر الناس منه من غير اعتبار للأول والثاني، أمكن وقوع الغلط في هذا،
وهنا كل مصحف إنما كتبه جماعة ووقف عليه خلق عظيم ممن يحصل التواتر بأقل منهم،
ولو قُدِّر أن الصحيفة كان فيها لحن فقد كتب منها جماعة لا يكتبون إلا بلسان قريش، ولم يكن لحناً،
فامتنعوا أن يكتبوه إلا بلسان قريش، فكيف يتفقون كلهم على أن يكتبوا: إِنْ
هَذَانِ، وهم يعلمون أن ذلك لحن لا يجوز في شيء من لغاتهم، أو: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ}،
وهم يعلمون أن ذلك لحن، كما زعم بعضهم
قال الزجاج في قوله: {وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاَةَ}: قول من قال: إنه خطأ
بعيد جداً، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة، فكيف يتركون شيئاً
يصلحه غيرهم، فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم، وقال ابن الأنباري: حديث عثمان لا
يصح؛ لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا ليصلحه من بعده
قلت: ومما يبين كذب ذلك: أن عثمان لو قدر ذلك فيه، فإنما رأي ذلك في نسخة
واحدة، فإما أن تكون جميع المصاحف اتفقت على الغلط، وعثمان قد رآه في جميعها
وسكت؛ فهذا ممتنع عادة وشرعًا من الذين كتبوا، ومن عثمان، ثم من المسلمين الذين
وصلت إليهم المصاحف ورأوا ما فيها، وهم يحفظون القرآن، ويعلمون أن فيه لحناً
|
ص -253-
|
لا يجوز في
اللغة، فضلاً عن التلاوة،وكلهم يقر هذا المنكر لا يغيره أحد، فهذا مما يعلم
بطلانه عادة، ويعلم من دين القوم الذين لا يجتمعون على ضلالة، بل يأمرون بكل
معروف وينهون عن كل منكر أن يدَعوا في كتاب اللّه منكراً لا يغيره أحد منهم، مع
أنهم لا غرض لأحد منهم في ذلك، ولو قيل لعثمان: مر الكاتب أن يغيره؛ لكان
تغييره من أسهل الأشياء عليه
فهذا ونحوه مما يوجب القطع بخطأ من زعم أن في المصحف لحناً أو غلطاً، وإن نقل
ذلك عن بعض الناس ممن ليس قوله حجة، فالخطأ جائز عليه فيما قاله، بخلاف الذين
نقلوا ما في المصحف وكتبوه وقرؤوه فإن الغلط ممتنع عليهم في ذلك، وكما قال
عثمان: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش، وكذلك قال عمر لابن مسعود: أقرئ
الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل
وقوله تعالى في القرآن : {وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}
[إبراهيم: 4]، يدل على ذلك، فإن قومه هم قريش، كما قال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]، وأما كنانة: فهم جيران قريش، والناقل عنهم
ثقة، ولكن الذي ينقل ينقل ما سمع، وقد يكون سمع ذلك في الأسماء المبهمة المبنية،
فظن أنهم يقولون ذلك في سائر الأسماء؛ بخلاف من سمع "بين أذناه"،
و"لناباه" فإن هذا صريح في الأسماء التي ليست مبهمة
|
ص -254-
|
وحينئذ، فالذي
يجب أن يقال: إنه لم يثبت أنه لغة قريش، بل ولا لغة سائر العرب: أنهم ينطقون
في الأسماء المبهمة إذا ثنيت بالياء، وإنما قال ذلك من قاله من النحاة قياساً،
جعلوا باب التثنية في الأسماء المبهمة كما هو في سائر الأسماء، وإلا فليس في
القرآن شاهد يدل على ما قالوه، وليس في القرآن اسم مبهم مبني في موضع نصب أو خفض
إلا هذا، ولفظه: هَذَانِ، فهذا نقل ثابت متواتر لفظاً ورسماً
ومن زعم أن الكاتب غلط فهو الغالط غلطاً منكراً، كما قد بُسِطَ في غير هذا
الموضع، فإن المصحف منقول بالتواتر، وقد كتبت عدة مصاحف، وكلها مكتوبة بالألف،
فكيف يتصور في هذا غلط
وأيضاً، فإن القراء إنما قرؤوا بما سمعوه من غيرهم، والمسلمون كانوا يقرؤون
"سورة طه"، على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
وعثمان وعلي، وهي من أول ما نزل من القرآن، قال ابن مسعود: بنو إسرائيل والكهف
ومريم وطه والأنبياء من العِتَاق الأُوَل، وهُنَّ من تِلادي رواه البخاري
عنه وهي مكية باتفاق الناس، قال أبو الفرج وغيره: هي مكية بإجماعهم، بل هي من
أول ما نزل، وقد روي: أنها كانت مكتوبة عند أخت عمر، وأن سبب إسلام عمر كان لما
بلغه إسلام أخته، وكانت السورة تُقْرَأ عندها
|
ص -255-
|
فالصحابة لابد أن
قد قرؤوا هذا الحرف، ومن الممتنع أن يكونوا كلهم قرؤوه بالياء كأبي عمرو، فإنه
لو كان كذلك لم يقرأها أحد إلا بالياء، ولم تكتب إلا بالياء، فعلم أنهم أو
غالبهم كانوا يقرؤونها بالألف كما قرأها الجمهور، وكان الصحابة بمكة والمدينة
والشام والكوفة والبصرة يقرؤون هذه السورة في الصلاة وخارج الصلاة، ومنهم سمعها
التابعون، ومن التابعين سمعها تابعوهم، فيمتنع أن يكون الصحابة كلهم قرؤوها
بالياء مع أن جمهور القراء لم يقرؤوها إلا بالألف، وهم أخذوا قراءتهم عن
الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، فهذا مما يعلم به قطعاً أن عامة الصحابة
إنما قرؤوها بالألف كما قرأ الجمهور، وكما هو مكتوب
وحينئذ، فقد علم أن الصحابة إنما قرؤوا كما علَّمهم الرسول، وكما هو لغة للعرب،
ثم لغة قريش، فعلم أن هذه اللغة الفصيحة المعروفة عندهم في الأسماء المبهمة
تقول: إن هذان، ومررت بهذان: تقولها في الرفع والنصب والخفض بالألف، ومن قال:
إن لغتهم أنها تكون في الرفع بالألف، طولب بالشاهد على ذلك والنقل عن لغتهم
المسموعة منهم نثراً ونظما، وليس في القرآن ما يشهد له، ولكن عُمْدَتُهُ
القياس
وحينئذ، فنقول:
|
ص -256-
|
قياس
"هذا" بغيرها من الأسماء غلط،فإن الفرق بينهما ثابت عقلاً
وسماعًا: أما النقل والسماع فكما ذكرناه، وأما العقل والقياس فقد تَفَطَّنَ
للفرق غير واحد من حُذَّاقِ النحاةِ، فحكي ابن الأنباري وغيره عن الفراء قال:
ألف التثنية في "هذان" هي ألف هذا، والنون فرقت بين الواحد
والاثنين، كما فرقت بين الواحد والجمع نون الذين، وحكاه المهدوي وغيره عن
الفراء، ولفظه قال: إنه ذكر أن الألف ليست علامة التثنية، بل هي ألف هذا، فزدت
عليها نوناً، ولم أُغَيرْها، كما زدت على الياء من الذي، فقلت: الذين في كل
حال، قال: وقال بعض الكوفيين: الألف في هذا مشبهة يفعلان، فلم تغير كما لم
تغير
قال: وقال الجرجاني [هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني
النحوي المشهور، واضع أصول البلاغة، كان من كبار أئمة اللغة العربية، من أهل
جرجان له شعر رقيق، من كتبه أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، وكان شافعي المذهب،
أشعري الأصول، توفي سنة 471ه]: لما كان اسماً على حرفين أحدهما حرف مد ولين،
وهو كالحركة، ووجب حذف إحدي الألفين في التثنية لم يحسن حذف الأولي؛ لئلا يبقي
الاسم على حرف واحد، فحذف علم التثنية، وكان النون يدل على التثنية، ولم يكن
لتغيير النون الأصلية الألف وجه، فثبت في كل حال كما يثبت في الواحد قال
المهدوي: وسأل إسماعيل القاضي ابن كيسان عن هذه المسألة فقال: لما لم يظهر في
المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع، جرت التثنية على ذلك مجري الواحد، إذ
التثنية يجب ألا تغير، فقال إسماعيل: ما أحسن ما قلت لو تقدمك أحد بالقول فيه
حتى يؤنس به فقال له ابن كيسان: فليقل القاضي
|
ص -257-
|
حتى يؤنس به،
فتبسم !!
قلت: بل تقدمه الفراء وغيره، والفراء في الكوفيين مثل سيبويه في البصريين، لكن
إسماعيل كان اعتماده على نحو البصريين، والمبرد كان خصيصاً به
وبيان هذا القول : أن المفرد "ذا"، فلو جعلوه كسائر الأسماء؛
لقالوا في التثنية: "ذوان"، ولم يقولوا: "ذان"، كما
قالوا: عصوان، ورجوان ونحوهما من الأسماء الثلاثية، و"ها" حرف
تنبيه، وقد قالوا فيما حذفوا لامه : أبوان، فردته التثنية إلى أصله، وقالوا في
غير هذا [بياض بالأصل]: ويدان وأما "ذا"، فلم يقولوا:
"ذوان"، بل قالوا كما فعلوا في "ذو"،
و"ذات" التي بمعنى صاحب، فقالوا: هو ذو علم، وهما ذوا علم،كما
قال: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48]، وفي اسم الإشارة قالوا: "ذان"،
و"تان"، كما قال:
{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}
[القصص: 32]، فإن "ذا" بمعنى صاحب هو اسم معرب، فتغير إعرابه
في الرفع والنصب والجر، فقيل: ذو، وذا، وذي
وأما المستعمل في الإشارة والأسماء الموصولة والمضمرات هي مبنية،
|
ص -258-
|
لكن أسماء
الإشارة لم تفرق لا في واحده،ولا في جمعه بين حال الرفع والنصب والخفض،فكذلك في
تثنيته، بل قالوا: قام هذا وأكرمت هذا، ومررت بهذا، وكذلك هؤلاء في الجمع،
فكذلك المثني، قال هذان، وأكرمت هذان، ومررت بهذان، فهذا هو القياس فيه أن يلحق
مثناه بمفرده وبمجموعه، لا يلحق بمثني غيره الذي هو أيضاً معتبر بمفرده
ومجموعه
فالأسماء المعربة ألحق مثناها بمفردها ومجموعها، تقول: رجل، ورجلان، ورجال، فهو
معرب في الأحوال الثلاثة؛ يظهر الإعراب في مثناه، كما ظهر في مفرده ومجموعة
فتبين أن الذين قالوا: إن مقتضي العربية أن يقال: "إن هذين" ليس
معهم بذلك نقل عن اللغة المعروفة في القرآن التي نزل بها القرآن، بل هي أن يكون
المثني من أسماء الإشارة مبنياً في الأحوال الثلاثة على لفظ واحد، كمفرد أسماء
الإشارة ومجموعها
وحينئذ، فإن قيل: إن الألف هي ألف المفرد زيد عليها النون، أو قيل: هي علم
للتثنية وتلك حذفت، أو قيل: بل هذه الألف تجمع هذا، وهذا معنى جواب ابن كيسان،
وقول الفراء مثله في المعني، وكذلك قول الجرجاني، وكذلك قول من قال: إن الألف
فيه تُشبه ألف يفعلان
|
ص -259-
|
ثم يقال: قد
يكون الموصول كذلك،كقوله: {وَاللَّذَانَ
يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16]،
فإن ثبت أن لغة قريش أنهم يقولون: رأيت الذين فعلا، ومررت باللذين فعلا، وإلا
فقد يقال: هو بالألف في الأحوال الثلاثة، لأنه اسم مبني، والألف فيه بدل الياء
في الذين، وما ذكره الفراء، وابن كيسان وغيرهما يدل على هذا، فإن الفراء شبه هذا
بالذين، وتشبيه اللذان به أولي، وابن كيسان علل بأن المبهم مبني لا يظهر فيه
الإعراب، فجعل مثناه كمفرده ومجموعه، وهذا العَلَم يأتي في الموصول
يؤيد ذلك، أن المضمرات من هذا الجنس، والمرفوع والمنصوب لهما ضمير متصل ومنفصل،
بخلاف المجرور فإنه ليس له إلا متصل؛ لأن المجرور لا يكون إلا بحرف، أو مضاف لا
يقدم على عامله، فلا ينفصل عنه، فالضمير المتصل في الواحد الكاف من أكرمتك ومررت
بك، وفي الجمع أكرمتكم ومررت بكم، وفي التثنية زيدت الألف في النصب والجر،
فيقال: أكرمتكما ومررت بكما، كما نقول في الرفع، ففي الواحد والجمع: فعلت
وفعلتم، وفي التثنية: فعلتما بالألف وحدها زيدت علما على التثنية في حال الرفع
والنصب والجر، كما زيدت في المنفصل في قوله: "إياكما" و
"أنتما"
فهذا كله مما يبين أن لفظ المثني في الأسماء المبنية في الأحوال الثلاثة نوع
واحد، لم يفرقوا بين مرفوعه وبين منصوبه ومجروره،
|
ص -260-
|
كما فعلوا ذلك في
الأسماء المعربة، وأن ذلك في المثني أبلغ منه في لفظ الواحد والجمع، إذ كانوا في
الضمائر يفرقون بين ضمير المنصوب والمجرور، وبين ضمير المرفوع في الواحد
والمثني، ولا يفرقون في المثني وفي لفظ الإشارة والموصول، ولا يفرقون بين الواحد
والجمع وبين المرفوع وغيره، ففي المثني بطريق الأولي والحمد للّه وحده،وصلى
اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في موضع آخر، وذكر فيها هذا
الاعتراض
فَصل
وقد يعْتَرض على ما كتبناه أولا بأنه جاء أيضاً في غير الرفع بالياء كسائر
الأسماء، قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} [فصلت: 29]، ولم يقل: "اللذان أضلانا"، كما
قيل في اللذين: إنه بالياء في الأحوال الثلاثة، وقال تعالى في قصة موسي:
قَالَ {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27]،
ولم يقل: "هاتان"، و"هاتان" تبع لابنتي، وقد يسمي
عطف بيان وهو يشبه الصفة كقوله:
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
[هود: 61]، لكن الصفة تكون مشتقة أو في معنى المشتق، وعطف
|
ص -261-
|
البيان يكون بغير
ذلك كأسماء الأعلام، وأسماء الإشارة، وهذه الآية نظير قوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}
[طه: 63]
وأما قوله: {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} فقد يفرق بين اسم الإشارة والموصول بأن اسم الإشارة على حرفين،
بخلاف الموصول، فإن الاسم هو "اللذا" عدة حروف، وبعده يزاد علم
الجمع، فتكسر الذال وتفتح النون، وعلم التثنية، ففتح الذال وتكسر النون والألف،
فقلت [بياض بالأصل] في النصب والجر؛ لأن الاسم الصحيح إذا جُمِعَ جمع التصحيح
كُسِرَ آخره في النصب وفي الجر وفتحت نونه، وإذا ثُنِّي فتح آخره وكسرت نونه في
الأحوال الثلاثة
وهذا يبين أن الأصل في التثنية هي الألف، وعلى هذا فيكون في إعرابه لغتان جاء
بهما القرآن؛ تارة يجعل كاللذان، وتارة يجعل كاللذين، ولكن في قوله: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} كان هذا أحسن من قوله: "هاتان" لما فيه من اتباع
لفظ المثني بالياء فيهما، ولو قيل: هاتان لأشبه [بياض بالأصل]، كما لو قيل:
"إن ابنتي هاتان" فإذا جعل بالياء علم تابع مبين عطف بيان لتمام
معنى الاسم؛ لا خبر تتم به الجملة
وأما قوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فجاء اسمًا مبتدأ: اسم إن
|
ص -262-
|
وكان مجيئه
بالألف أحسن في اللفظ من قولنا: " إِنَّ هذين لساحران"؛ لأن الألف
أخف من الياء؛ ولأن الخبر بالألف، فإذا كان كل من الاسم والخبر بالألف كان أتم
مناسبة، وهذا معنى صحيح، وليس في القرآن ما يشبه هذا من كل وجه وهو بالياء
فتبين أن هذا المسموع والمتواتر ليس في القياس الصحيح ما يناقضه، لكن بينهما
فروق دقيقة، والذين استشكلوا هذا إنما استشكلوه من جهة القياس، لا من جهة
السماع، ومع ظهور الفرق يعرف ضعف القياس
وقد يجيب من يعتبر كون الألف في هذا هو المعروف في اللغة بأن يفرق بين قوله: {إِنْ هَذَانِ}، وقوله: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ} أن هذا تثنية مؤنث، وذاك
تثنية مذكر، والمذكر المفرد منه "ذا" بالألف فزيدت فوقه نون
للتثنية، وأما المؤنث فمفرده "ذي" أو "ذه" أو
"ته" وقوله: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ} تثنية "تي"
بالياء، فكان جعلها بالياء في النصب والجر أشبه بالمفرد، بخلاف تثنية المذكر،
وهو "ذا" فإنه بالألف، فإقراره بالألف أنسب، وهذا فرق بين تثنية
المؤنث وتثنية المذكر، والفرق بينه وبين اللذين قد تقدم
وحينئذ، فهذه القراءة هي الموافقة للسماع والقياس، ولم يشتهر
|
ص -263-
|
ما يعارضها من
اللغة التي نزل بها القرآن والله أعلم
وقوله: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} هو كقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة
تتأذي مما يتأذي منه الآدميون"، ومثله في الموصول
قول ابن عباس لعمر: أخبرني عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ
الآية} [التحريم: 4]
آخره والحمد لله وحده
|
ص -264-
|
سورة الأنبياء
وقال رَحِمَهُ الله:
فَصْل
[سورة الأنبياء] سورة الذكر،وسورة
الأنبياء الذين عليهم نزل الذكر، افتتحها بقوله: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ الآية} [الأنبياء: 2]،وقوله: {فَاسْأَلُواْ
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، وقوله {لَقَدْ
أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]، وقوله:
{هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} [الأنبياء: 24]، وقوله: {وَذِكْرًا
لِّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48]، وقوله:
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} [الأنبياء: 50]، وقوله: {وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105]، وقوله:
{قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ} [الأنبياء:
112]، يعنى والله أعلم انصر أهل الحق، أو انصر الحق، وقيل: افصل الحق بيننا
وبين قومنا، وكان الأنبياء يقولون: {رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، وأمر محمدًا أن يقول: رَبِّ احْكُم
بِالْحَقِّ، وروى مالك عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا شهد قتالا قال: [رب احكم بالحق]
|
ص -265-
|
سورة الحج
وَقاَل الشيخ رَحِمَهُ الله:
فَصْل
[سورة الحج] فيها مكى ومدنى، وليلى
ونهارى، وسفرى وحضرى، وشتائى وصيفى، وتضمنت منازل المسير إلى الله، بحيث لا يكون
منزلة ولا قاطع يقطع عنها ويوجد فيها ذكر القلوب الأربعة: الأعمى والمريض،
والقاسى والمخبت الحى المطمئن إلى الله
وفيها من التوحيد والحِكَم والمواعظ على اختصارها ما هو بَيِّنٌ لمن تَدَبَّرَه،
وفيها ذكر الواجبات والمستحبات كلها توحيدًا وصلاة وزكاة وحجًا وصيامًا، قد تضمن
ذلك كله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج:
77]،فيدخل فى قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} كل واجب ومستحب؛ فخصص فى هذه الآية وعمم، ثم قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه} [الحج: 78]،فهذه الآية وما بعدها لم تترك خيرًا إلا جمعته
ولا شرًا إلا نفته
|
ص -266-
|
قال شيخ
الإسلام:
قوله: {وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ} [الحج: 3، 4]،فى أثناء آيات المعاد وعَقَّبهَا بآية المعاد،
ثم أتبعه بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ
ثَانِيَ عِطْفِهِ ليضل عن سبيله} إلى
قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ
عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 8 11]، فيه
بيان حال المتكلمين، وحال المتعبدين المجادلين بلا علم، والعابدين بلا علم، بل مع
الشك؛ لأن هذه السورة سورة الملة الإبراهيمية الذى جادل بعلم وعَبَدَ الله بعلم؛
ولهذا ضمنت ذكر الحج، وذكر المِلَلِ الست
فقوله: يجادل فى الله بلا علم: ذم لكل من جادل فى الله بغير علم، وهو دليل على
أنه جائز بالعلم كما فعل إبراهيم بقومه، وفى الأولى ذم المجادل بغير علم، وفى
الثانية بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
وهذا والله أعلم من باب عطف الخاص على العام، أو الانتقال من الأدنى إلى الأعلى،
ليبين أن الذى يجادل بالكتاب أعلاهم، ثم بالهدى، فالعلم اسم جامع، ثم منه ما
يعلم بالدليل القياسى فهو أدنى أقسامه فيخص
|
ص -267-
|
باسم العلم،
ويُفْرِد ما عداه باسمه الخاص؛ فإما معلوم بالدليل القياسى، وهو علم النظر، وإما
ما علم بالهداية الكشفية، كما للمحدثين وللمتفرسين، ولسائر المؤمنين، وهو الهدى،
وإما ما نزل من عند الله من الكتب وهو أعلاها، فأعلاها العلم المأثور عن الكتب،
ثم كشوف الأولياء، ثم قياس المتكلمين، وغيرهم من العلماء
|
ص -268-
|
وَقَالَ:
فى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ
أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو
مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ
الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ
الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}
[الحج: 11 13]، فإن آخر هذه الآية قد أشكل على كثير من الناس،كما قال طائفة
من المفسرين كالثعلبى والبغوى،واللفظ للبغوى،قال: هذه الآية من مُشْكلاَت
القرآن،وفيها أسئلة أولها: قالوا: قد قال الله تعالى فى الآية الأولى:
يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّه، أى: لا يضره ترك
عبادته،وقوله: {لَمَن ضَرُّهُ}، أى: ضر عبادته؛ قلت: هذا جواب
وذكر صاحب [الكشاف] جوابًا غير هذا: فقال: فإن قلت: الضر والنفع منتفيان
عن الأصنام مثبتان لهما فى الآيتين، وهذا تناقض، قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا
الوهم، وذلك أن الله سَفَّه الكافر بأنه يعبد جمادًا لا يملك ضرًا ولا نفعًا،
وهو يعتقد فيه لجهله وضلاله
|
ص -269-
|
أنه يستشفع به
حين يستشفع به، ثم قام يوم القيامة هذا الكافر بدعاء وصراخ حين رأى استضراره
بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التى ادعاها لها {لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13]، أو
كرر يَدْعُو كأنه قال: {يَدْعُو مِن دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ}، ثم قال: {لَمَن ضَرُّهُ} بكونه معبودًا أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ بكونه شفيعًا
لَبِئْسَ الْمَوْلَى
قلت: فقد جعل ضره بكونه معبودًا، وذكر تضرره بذلك وفى الآخرة
وقد قال السدى ما يتضمن الجوابين فى تفسيره المعروف، قال: مَا لَا
يَضُرُّهُ قال: لا يضره إن عصاه وَمَا لَا يَنفَعُهُ قال: لا ينفعه
الصنم إن أطاعه يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ قال: ضره فى الآخرة من أجل عبادته
إياه فى الدنيا
قلت: وهذا الذى ذكر من الجواب: كلام صحيح لكن لم يبين فيه وجه نفى التناقض
فنقول: قوله: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا
لَا يَنفَعُهُ}، هو نفى لكون المدعو
المعبود من دون الله يملك نفعًا أو ضرًا وهذا يتناول كل ما سوى
|
ص -270-
|
الله من الملائكة
والبشر والجن والكواكب والأوثان كلها، فإن ما سوى الله لا يملك لا لنفسه ولا
لغيره ضرًا ولا نفعًا، كما قال تعالى: فى سياق نهيه عن عبادة المسيح: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ
رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ
عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ
إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ
إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ
مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ} [المائدة: 72 76]،
وقد قال لخاتم الرسل: {قُل
لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} [الأعراف: 188]، وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]،وقال على العموم: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ
لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، وقال: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ
هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، وقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ
أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي
بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ
يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:
38]، وقال صاحب يس:
|
ص -271-
|
{وَمَا لِي لاَ
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ
آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ
شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 22 25]
وقوله: {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ}
[الحج: 12]، نفى عام، كما فى قوله: {وَلَا
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}
[طه: 89]، فهو لا يقدر أن يضر أحدًا سواء عبده أو لم يعبده، ولا ينفع أحدًا
سواء عَبَدَه أو لم يعبده، وقول من قال: لا ينفع إن عُبِدَ، ولا يضر إن لم
يُعْبَد، بيان لانتفاء الرغبة والرهبة من جهته، بخلاف الرب الذى يكرم عابديه،
ويرحمهم، ويهين من لم يعبده ويعاقبه
والتحقيق: أنه لا ينفع ولا يضر مطلقًا، فإن الله سبحانه وسعت رحمته كل شىء وهو
ينعم على كثير من خلقه وإن لم يعبدوه، فنفعه للعباد لا يختص بعابديه، وإن كان فى
هذا تفصيل ليس هذا موضعه، وما دونه لا ينفع لا من عبده ولا من لم يعبده؛ وهو
سبحانه الضار النافع قادر على أن يضر من يشاء، وإن كان ما ينزله من الضر بعابديه
هو رحمة فى حقهم، كما قال أيوب: {مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
[الأنبياء: 38]، وقال تعالى: {وَإِن
يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [يونس: 107]، وقال أيضًا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ}
[الأعراف: 188]، وقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، وهو سبحانه يحدث ما يحدثه من الضرر بمن لا
يوصف بمعصية من الأطفال والمجانين والبهائم؛ لما فى ذلك من الحكمة والنعمة
|
ص -272-
|
والرحمة، كما هو
مبسوط فى غير هذا الموضع
فإن المقصود هنا أن نفى الضر والنفع عمن سواه عام لا يجب أن يخص هذا بمن عبده،
وهذا بمن لم يعبده، وإن كان هذا التخصيص حقًا باعتبار صحيح، وجواب من أجاب بأن
معناه لا يضر ترك عبادته، وضره بعبادته أقرب من نفعه مبنى على هذا التخصيص
وإذا كان كذلك،فنقول: المنفى قدرة من سواه على الضر والنفعوأما قوله: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ
مِن نَّفْعِهِ}، فنقول أولا:
المنفى هو فعلهم بقوله: {مَا لَا يَضُرُّهُ
وَمَا لَا يَنفَعُهُ} والمثبت اسم مضاف إليه
فإنه لم يقل: يضر أعظم مما ينفع، بل قال: لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ
والشىء يضاف إلى الشىء بأدنى ملابسة، فلا يجب أن يكون الضر والنفع المضافين من
باب إضافة المصدر إلى الفاعل،بل قد يضاف المصدر من جهة كونه اسمًا، كما تضاف
سائر الأسماء، وقد يضاف إلى محله وزمانه ومكانه وسبب حدوثه،وإن لم يكن فاعلاً
كقوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]،ولا ريب أن
بين المعبود من دون الله وبين ضرر عابديه تعلق يقتضى الإضافة، كأنه قيل: لمن
شره أقرب من خيره، وخسارته أقرب من ربحه،فتدبر هذا!
ولو جعل هو فاعل الضر بهذا؛ لأنه سبب فيه لا لأنه هو الذي
|
ص -273-
|
فعل الضرر، وهذا
كقول الخليل عن الأصنام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ}
[إبراهيم: 36]، فنسب الإضلال إلىهن، والإضلال هو ضرر لمن أضللنه، وكذلك
قوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، وهذا كما يقال: أهلك الناس الدرهم والدينار،
وأهلك النساء الأحمران الذهبَُ والحرير، وكما يقال للمحبوب المعشوق الذى تضر
محبته وعشقه: إنه عذب هذا وأهلكه وأفسده وقتله وعثره، وإن كان ذاك المحبوب قد
لا يكون شاعرًا بحال هذا البتة، وكذلك يقال فى المحسود: إنه يعذب حاسديه وإن
كان لا شعور له بهم
وفى الصحيحين عن عمرو بن عوف عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تُبْسَطَ عليكم
الدنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها، وتهلككم
كما أهلكتهم" [البخارى فى الرقاق
"6425"، ومسلم فى الزهد والرقائق "29616"، بلفظ
فتنافسوها كما تنافسوها] فجعل الدنيا المبسوطة هى المهلكة لهم؛ وذلك بسبب حبها
والحرص عليها والمنافسة فيها، وإن كانت مفعولا بها لا اختيار لها، فهكذا المدعو المعبود
من دون الله الذى لم يأمر بعبادة نفسه؛ إما لكونه جمادًا، وإما لكونه عبدًا
مطيعًا لله من الملائكة والأنبياء والصالحين من الإنس والجن، فما يدعى من دون
الله هو لا ينفع ولا يضر، لكن هو السبب فى دعاء الداعى له، وعبادته إياه
وعبادة ذاك ودعاؤه هو الذى ضره، فهذا الضر المضاف إليه غير الضر المنفى عنه،
|
ص -274-
|
فضرر العابد له
بعبادته يحصل فى الدنيا والآخرة
وإن كان عذاب الآخرة أشد، فالمشركون الذين عبدوا غير الله حصل لهم بسبب شركهم
بهؤلاء من عذاب الله فى الدنيا ماجعله الله عبرة لأولى الأبصار، قال الله تعالى:
{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ
عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ
أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ
اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ
تَتْبِيبٍ} [هود: 100، 101]، فبين
أنهم لم تنفعهم بل ما زادتهم إلا شرًا
وقد قيل فى هذا، كما قيل فى الضر قيل: ما زادتهم عبادتها،وقيل: إنها فى
القيامة تكون عونًا عليهم فتزيدهم شرًا، وهذا كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ
عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، والتتبيب عبر عنه الأكثرون: بأنه
التخسير، كقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، وقيل:
التثبير والإهلاك، وقيل: ما زادوهم إلا شرًا، وقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن
دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ
تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، فعل ماض
يدل على أن هذا كان فى الدنيا، وقد يقال: فالشر كله من جهتهم، فلم قيل: فما
زادوهم؟ فيقال: بل عذبوا على كفرهم بالله ولو لم يعبدوهم، فلما عبدوهم مع ذلك
ازدادوا بذلك كفرًا وعذابًا، فما زادوهم إلا خسارة وشرًا، ما زادوهم ربحًا
وخيرًا
|
ص -275-
|
سورة المؤمنون
قاَل شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله تعَالى :
فى قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ}
[المؤمنون: 35]،طال الفصل بين أن واسمها وخبرها، فأعاد [أن] لتقع
على الخبر لتأكيده بها، ونظير هذا قوله تعالى: {أَلَمْ
يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]، لما
طال الكلام أعاد} [أَنّ] هذا قول الزجاج وطائفة، وأحسن من هذا أن يقال: كل
واحدة من هاتين الجملتين جملة شرطية مركبة من جملتين جزائيتين، فَأُكِّدَت
الجملة الشرطية ب [أَنّ] على حد تأكيدها فى قول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يومًا
|
يلق
فيها جآذرًا وظباء
|
ثم أكدت
الجملة الجزائىة ب [أن] إذ هى المقصودة، على حد تأكيدها فى قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:
170]
ونظير الجمع بين تأكيد الجملة الكبرى المركبة من الشرط والجزاء،
|
ص -276-
|
وتأكيد جملة الجزاء
قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ
وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، فلا يقال فى هذا: } [إنّ] أعيدت لطول
الكلام، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ
لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} [طه:
74]
ونظيره: {أَنَّهُ
مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ
فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54]، فهما تأكيدان مقصودان لمعنيين مختلفين،ألا
ترى تأكيد قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ب[أنَّ] غير تأكيد: {مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن
بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ له } ب[أَنَّ]؟! وهذا ظاهر لا خفاء به، وهو كثير فى القرآن
وكلام العرب
وأما قوله تعالى: {وَمَا
كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147]،فهذا ليس من التكرار فى شىء، فإن
[قولهم]: خبر [كان] قدم على اسمها، و [أن قالوا ]: فى تأويل المصدر،
وهو الاسم، فهما اسم كان وخبرها، والمعنى: وما كان لهم قول إلا قول: ربَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأعراف: 82]، والجواب قول؛ وتقول: ما لفلان قول إلا
قول: [لا حول ولاقوة إلا بالله] فلا تكرار أصلاً
وأما قوله تعالى: {وَإِن
كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49]،
|
ص -277-
|
فهى من أشكل ما أورد، ومما أعضل على الناس فهمها، فقال كثير من
أهل الإعراب والتفسير: إنه على التكرير المحض والتأكيد، قال الزمخشرى: مِّن
قَبْلِهِ من باب التوكيد، كقوله تعالى: {فَكَانَ
عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحشر: 17]، ومعنى التوكيد فيه: الدلالة على أن عهدهم
بالمطر قد تطاول وبَعُدَ فاستحكم يأسهم، وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار بذلك
على قدر اهتمامهم بذلك هذا كلامه وقد اشتمل على دعويين باطلتين:
إحداهما: قوله: إنه
من باب التكرير
والثانية: تمثيله
ذلك بقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا
أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحشر: 17]، فإن [فى] الأولى على حد قولك: زيد فى
الدار، أى: حاصل أو كائن، وأما الثانية: فمعمولة للخلود وهو معنى آخر غير معنى
مجرد الكون، فلما اختلف العاملان ذكر الحرفين، فلو اقتصر على أحدهما كان من باب
الحذف لدلالة الآخر عليه، ومثل هذا لا يقال له تكرار، ونظير هذا أن تقول: زيد
فى الدار نائم فيها، أو ساكن فيها، ونحوه مما هو جملتان مقيدتان بمعنيين
وأما قوله: {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم
مِّن قَبْلِهِ}، فليس من التكرار بل تحته
معنى دقيق، والمعنى فيه: وإن كانوا من قبل أن ينزل
|
ص -278-
|
عليهم الودق من
قبل هذا النزول لمبلسين، فهنا قَبْلِىّتان: قبلية لنزوله مطلقًا، وقبلية لذلك
النزول المعين ألا يكون متقدمًا على ذلك الوقت، فيئسوا قبل نزوله يَأْسَىنِ:
يأسًا لعدمه مرئيًا، ويأسًا لتأخره عن وقته، فقبل الأولى ظرف لليأس، وقبل
الثانية ظرف المجىء والإنزال
ففى الآية ظرفان معمولان، وفعلان مختلفان عاملان فيهما، وهما الإنزال والإبلاس،
فأحد الظرفين متعلق بالإبلاس، والثانى متعلق بالنزول؛ وتمثيل هذا: أن تقول إذا
كنت معتادًا للعطاء من شخص فتأخر عن ذلك الوقت ثم أتاك به: قد كنت آيسًا
|
ص -279-
|
سورة النور
قال الشيخ الربانى والصديق الثانى، إمام
الأئمة ومفتى الأمة، وبحر العلوم وبدر النجوم، وسند الحفاظ وفارس المعانى
والألفاظ، وفريد العصر وأَوْحَد الدهر، وشيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام،
وعلاَّمة الزمان وتُرْجُمَان القرآن، وعَلَمُ الزُهَّاد وأَوحد العباد، وقامع
المبتدعين وآخر المجتهدين، البحر الزاخر والصارم الباتر، أبو العباس تقى الدين
أحمد بن شهاب الدين أبى المحاسن عبد الحليم ابن شيخ الإسلام مجد الدين أبى
البركات عبد السلام بن أبى محمد عبد الله بن أبى القاسم الخضر بن محمد بن الخضر
على بن عبد الله بن تيمية الحرانى قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه ورضى عنه
وأرضاه:
|
ص -280-
|
فَصْل
فى معان مستنبطة من سورة النور
قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا
وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَّ} [النور: 1]، ففرضها بالبينات والتقدير لحدود الله التى من
يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه، ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى
الحدود، وبيَّن فيها فرض العقوبة للزانيين مائة جلدة، وبيَّن فيها فريضة الشهادة
على الزنا، وأنها أربع شهادات، وكذلك فريضة شهادة المتلاعنين كل منهما يشهد أربع
شهادات بالله، ونهى فيها عن تعدى حدوده فى الفروج والأعراض والعورات، وطاعة ذى
السلطان سواء كان فى منزله أو فى ولايته، ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه، إذ
الحقوق نوعان: نوع لله فلا يتعدى حدوده، ونوع للعباد فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن
المالك، وليس لأحد أن يفعل شيئًا فى حق غيره إلا بإذن الله، وإن لم يأذن المالك
فإذن الله هو الأصل، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه
ولهذا ضمنها الاستئذان فى المساكن والمطاعم، والاستئذان فى
|
ص -281-
|
الأمور الجامعة
كالصلاة والجهاد ونحوهما، ووسطها بذكر النور الذى هو مادة كل خير وصلاح كل شىء،
وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وعن الصبر على ذلك، فإنه ضياء، فإن
حفظ الحدود بتقوى الله يجعل الله لصاحبه نورًا، كما قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28]
فضد النور الظلمة؛ ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين فيها بأعمال الكفار وأهل
البدع والضلال، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}
إلى قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ
نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}
[النور: 39، 40]، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة، وظلم العبد نفسه من
الظلم، فإن للسيئة ظلمة فى القلب، وسوادًا فى الوجه، ووهنًا فى البدن، ونقصًا فى
الرزق، وبغضًا فى قلوب الخلق، كما روى ذلك عن ابن عباس
يوضح ذلك أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور، ومثل أعمال الكفار بالظلمة
و [الإيمان]: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه و [الكفر]:
|
ص -282-
|
اسم جامع لكل ما
يبغضه الله وينهى عنه، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع
الكفر من المعاصى، كما لا يكون مؤمنًا إذا كان معه أصل الكفر وبعض فروع الإيمان
ولغض البصر اختصاص بالنور كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وقد روى أبو هريرة عن
النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن العبد إذا أذنب نُكِتَت فى قلبه نكتة
سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى يعلو قلبه، فذلك
[الران] الذى ذكر الله: {كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] رواه الترمذى وصححه [الران: الطبع
والتغطية والختم] وفى الصحيح أنه قال: [إنه ليغان على قلبى وإنى لأستغفر
الله فى اليوم مائة مرة]، والغين: حجاب رقيق أرق من الغيم، فأخبر أنه يستغفر
الله استغفارًا يزيل الغين عن القلب، فلا يصير نكتة سوداء كما أن النكتة السوداء
إذا أزيلت لا تصير رَيْنًا
وقال حذيفة: إن الإيمان يبدو فى القلب لُمْظَة [أى نكتة] بيضاء، فكلما
ازداد العبد إيمانًا ازداد قلبه بياضًا، فلو كشفتم عن قلب المؤمن لرأيتموه أبيض
مشرقًا، وإن النفاق يبدو منه لمظة سوداء، فكلما ازداد العبد نفاقًا ازداد قلبه
سوادًا، فلو كشفتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود مربدًا وقال صلى الله عليه
وسلم: "إن النور إذا دخل القلب انشرح
وانفسح" قيل: فهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: "نعم،
|
ص -283-
|
التجافى عن دار
الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله"
وفى خطبة الإمام أحمد التى كتبها فى كتابه فى الرد على
الجهمية والزنادقة قال: [الحمد لله الذى جعل فى كل زمان فترة من الرسل بقايا
من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله
الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال
تائه حيران قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن
كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية
البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون فى الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون
على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفى الله، وفى كتاب الله بغير علم، يتكلمون
بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّال الناس بما يشبهون عليهم، نعوذ بالله من
شبه المضلين ]
قلت: وقد قرن الله سبحانه فى كتابه فى غير موضع بين أهل الهدى والضلال، وبين
أهل الطاعة والمعصية بما يشبه هذا، كقوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا
النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا
الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19 22]،
وقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى
وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ الآية} [هود: 24]، وقال فى المنافقين:
|
ص -284-
|
{مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً الآيات} [البقرة: 17]، وقال: {اللّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ الآية}
[البقرة: 257]، وقال: {كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1]،والآيات فى ذلك كثيرة
وهذا النور الذى يكون للمؤمن فى الدنيا على حسن عمله واعتقاده يظهر فى الآخرة،
كما قال تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ الآية}
[التحريم: 8]، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة، كما ذكره فى سورة النور
عقيب أمره بغض البصر، وأمره بالتوبة فى قوله: {وَتُوبُوا
إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما
يتعلق بالنساء؛ وقال فى سورة الحديد: {يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِم الآيات،إلى قوله فى المنافقين: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ
مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:
12 15]
فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذى كان المؤمنون يمشون به، ويطلبون
الاقتباس من نورهم فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم وبين المؤمنين، كما أن
المنافقين لما فقدوا النور فى الدنيا كان مثلهم كمثل الذى استوقد نارًا، فلما
أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات، فقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيالآية} [النور: 2]، فأمر بعقوبتهما وعذابهما بحضور طائفة من
المؤمنين، وذلك بشهادته على نفسه، أو بشهادة المؤمنين عليه؛ لأن المعصية إذا
كانت ظاهرة كانت عقوبتها
|
ص -285-
|
ظاهرة، كما جاء
فى الأثر: من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية وليس من
الستر الذى يحبه الله تعالى كما فى الحديث: [من ستر مسلمًا ستره الله] بل
ذلك إذا ستر كان ذلك إقرارًا لمنكر ظاهر، وفى الحديث: [إن الخطيئة إذا خَفِيَت
لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة]، فإذا أعلنت أعلنت
عقوبتها بحسب العدل الممكن
ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة، كما روى ذلك عن الحسن البصرى وغيره؛
لأنه لما أعلن ذلك استحق عقوبة المسلمين له، وأدنى ذلك أن يذم عليه لينزجر ويكف
الناس عنه وعن مخالطته، ولو لم يذم ويذكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة
لاغتر به الناس، وربما حمل بعضهم على أن يرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضًا هو جرأة
وفجورًا ومعاصى، فإذا ذكر بما فيه انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته ومخالطته،
قال الحسن البصرى: أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه كى يحذره الناس،
وقد روى مرفوعًا، و [الفجور]: اسم جامع لكل متجاهر بمعصية، أو كلام قبيح يدل
السامع له على فجور قلب قائله
ولهذا كان مستحقًا للهجر إذا أعلن بدعة أو معصية أو فجورًا أو تهتكًا،أو مخالطة
لمن هذا حاله بحيث لا يبالى بطعن الناس عليه، فإن
|
ص -286-
|
هجره نوع تعزير
له،فإذا أعلن السىئات أعلن هجره،وإذا أسر أسر هجره، إذ الهجرة هى الهجرة على
السيئات،وهجرة السيئات هجرة ما نهى الله عنه،كما قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
[المدثر: 5]، وقال تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ
هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، وقال:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ
أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ
تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا
مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]
وقد روى عن عمر بن الخطاب: أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر، وذهب به
أخوه إلى أمير مصر عمرو بن العاص ليجلده الحد، جلده الحد سرًا، وكان الناس
يجلدون علانية، فبعث عمر بن الخطاب إلى عمرو ينكر عليه ذلك، ولم يعتد عمر بذلك
الجلد حتى أرسل إلى ابنه فأقدمه المدينة فجلده الحد علانية، ولم ير الوجوب سقط
بالحد الأول، وعاش ابنه بعد ذلك مدة ثم مرض ومات، ولم يمت من ذلك الجلد، ولا
ضربه بعد الموت، كما يزعمه الكذَّابون
قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا
رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ الآية}
[النور: 2]،نهى تعالى عما يأمر به الشيطان فى العقوبات عمومًا، وفى أمر
الفواحش خصوصًا، فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة والرأفة، التى يزينها
الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش والرأفة بهم، حتى يدخل كثير من الناس
بسبب هذه الآفة فى الدياثة وقلة الغيرة إذا
|
ص -287-
|
رأى من يهوى بعض
المتصلين به أو يعاشره عِشْرَة منكرة، أو رأى له محبة أو ميلا وصبابة وعشقًا،
ولو كان ولده رأف به، وظن أن هذا من رحمة الخلق، ولين الجانب بهم، ومكارم
الأخلاق، وإنما ذلك دياثة ومهانة، وعدم دين وضعف إيمان، وإعانة على الإثم
والعدوان، وترك للتناهى عن الفحشاء والمنكر
وتدخل النفس به فى القيادة التى هى أعظم الدياثة، كما دخلت عجوز السوء مع قومها
فى استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك،وكانت فى
الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط،وفى الباطن منافقة على دين قومها،لا تقلى عملهم
كما قلاه لوط؛ فإنه أنكره ونهاهم عنه وأبغضه،وكما فعل النسوة اللواتى بمصر مع
يوسف، فإنهن أعن امرأة العزيز على ما دعته إليه من فعل الفاحشة معها؛ولهذا قال:
{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا
يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]،
وذلك بعد قولهن: {إِنَّا
لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}
[يوسف: 30]
ولا ريب أن محبة الفواحش مرض فى القلب، فإن الشهوة توجب السكر، كما قال تعالى عن
قوم لوط: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وفى
الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [العينان تزنيان وزناهما النظر]
الحديث إلى آخره فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه
|
ص -288-
|
الأنواع المذكورة
فى هذا الحديث؛ كالنظر، والاستمتاع، والمخاطبة، ومنهم: من يرتقى إلى اللمس
والمباشرة، ومنهم: من يقبل وينظر، وكل ذلك حرام، وقد نهانا الله عز وجل أن
تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن
ونهى وتوبيخ وغير ذلك؟! بل ينبغى شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به
الإنسان من أنواع الزنا المذكورة فى هذا الحديث المتقدم وغيره
وذلك أن المحب العاشق وإن كان إنما يحب النظر والاستمتاع بصورة ذلك المحبوب
وكلامه، فليس دواؤه فى أن يعطى نفسه محبوبها وشهوتها من ذلك؛ لأنه مريض، والمريض
إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه، فأخذتنا رأفة عليه حتى نمنعه
شربه فقد أعناه على ما يضره أو يهلكه وعلى ترك ما ينفعه، فيزداد سقمه فيهلك،
وهكذا المذنب العاشق ونحوه هو مريض، فليس الرأفة به والرحمة أن يمكن مما يهواه
من المحرمات، ولا يعان على ذلك، ولا أن يمكن من ترك ما ينفعه من الطاعات التى
تزيل مرضه، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}
[العنكبوت: 45]، أى: فيها الشفاء وأكبر من ذلك
بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريهًا؛ مثل الصلاة وما فيها من
الأذكار والدعوات، وأن يحمى عما يقوى داءه ويزيد علته وإن اشتهاه، ولا يظن الظان
أنه إذا حصل له استمتاع
|
ص -289-
|
بمحرم يسكن
بلاؤه، بل ذلك يوجب له انزعاجًا عظيمًا، وزيادة فى البلاء والمرض فى المآل، فإنه
وإن سكن بلاؤه وهدأ ما به عقيب استمتاعه أعقبه ذلك مرضًا عظيمًا عسيرًا لا يتخلص
منه، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء الذى ترامى
به إلى الهلاك والعطب، ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر وأخف من ألم المرض
الباقى
وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب،
وهى من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، الداخلة فى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها
بالمريض فهو الذى أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو فى
ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء والرجال الجُهَّال بمرضاهم، وبمن يربونه من
أولادهم وغلمانهم وغيرهم فى ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر،
ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم، وعداوتهم، وهلاكهم
ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم فى ذلك المرض وذوقه ما ذاقوه من قوة
الشهوة وبرودة القلب والدياثة، فيترك ما أمر الله به من العقوبة، وهو فى ذلك من
أظلم الناس وأَدْيَثِهِم فى حق نفسه ونظرائه، وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف
لهم الطبيب ما ينفعهم
|
ص -290-
|
فوجد كبيرهم
مرارته فترك شربه، ونهى عن سقيه للباقين
ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانيين محبوبًا له، إما أن يكون محبًا لصورته
وجماله بعشق أو غيره، أو لقرابة بينهما، أو لمودة أو لإحسانه إليه، أو لما يرجو
منه من الدنيا أو غير ذلك، أو لما فى العذاب من الألم الذى يوجب رقة القلب
ويتأول: [إنما يرحم الله من عباده الرحماء]، ويقول الأحمق: [الراحمون
يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى [لا يدخل الجنة ديوث]، فمن
لم يكن مبغضًا للفواحش، كارهًا لها ولأهلها، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها لم يكن
مريدًا للعقوبة عليها، فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه، قال تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ
الآية} [النور: 2]
فإن دين الله هو طاعته وطاعة رسوله المبنى على محبته ومحبة رسوله،وأن يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله،ما لم تكن مضي
[إنما يرحم الله من عباده الرحماء]، وقال: [لا يرحم الله من لا يرحم
الناس]، وقال:
|
ص -291-
|
[من لا يَرْحَم
لا يُرْحَم]، وفى السنن: } [الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض
يرحمكم من فى السماء] فهذه الرحمة حسنة مأمور بها أمر إيجاب أو استحباب،
بخلاف الرأفة فى دين الله فإنها منهى عنها
والشيطان يريد من الإنسان الإسراف فى أموره كلها، فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة
زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه،وإن رآه
مائلا إلى الشدة، زين له الشدة فى غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر
واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله،ويتعدى فى الشدة فيزيد فى الذم والبغض
والعقاب على ما يحبه الله ورسوله: فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان
وهو مذموم مذنب فى ذلك، ويسرف فيما أمر الله به ورسوله من الشدة حتى يتعدى
الحدود وهو من إسرافه فى أمره فالأول: مذنب، والثانى: مسرف، والله لا ىحب
المسرفىن، فليقولا جميعًا: {ربَّنَا اغْفِرْ
لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
[آل عمران: 147]
وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
[النور: 2]، فالمؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ما يحبه الله ورسوله، وينهى
عما يبغضه الله ورسوله، ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه، فتارة
تغلب عليه الرأفة
|
ص -292-
|
هوى، وتارة تغلب
عليه الشدة هوى، فيتبع ما يهواه فى الجانبين بغير هدى من الله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ
اللَّهِ} [القصص: 50]، فإن الزنا من
الكبائر، وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصَرَّ
على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل
الفواحش، فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به العشق والمعاشرة والمباشرة، قد
يكون أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء فى الشاهد
العدل: ألا يأتى كبيرة، ولا يُصِرَّ على صغيرة، وفى الحديث المرفوع:
"لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار"
بل قد ينتهى النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ}
[البقرة: 165]، ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان،
والله تعالى إنما ذكره فى القرآن عن امرأة العزيز المشركة،وعن قوم لوط المشركين،
والعاشق المتيم يصير عبدًا لمعشوقه، منقادًا له،أسير القلب له
وقد جمع النبى صلى الله عليه وسلم ذكر الحدود إن حالت شفاعته دون حد من حدود
الله، فقد ضاد الله فيما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: [من حالت شفاعته دون حد
|
ص -293-
|
من حدود الله فقد
ضاد الله فى أمره، ومن خاصم فى باطل وهو يعلم لم يزل فى سخط الله حتى ينزع، ومن
قال فى مسلم ما ليس فيه حُبِسَ فى رَدْغَة الخَبَال حتى يخرج مما قال] [ردْغة الخبال: جاء تفسيرها فى الحديث أنها عصارة أهل النار،
والردْغة بسكون الدال وفتحها: طين ووحل كثير]، فالشافع فى تعطيل الحدود مضاد
لله فى أمره؛ لأن الله أمر بالعقوبة على تعدى الحدود، فلا يجوز أن تأخذ المؤمن
رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصى والظلمة
وجماع ذلك كله فيما وصف الله به المؤمنين حيث قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] وقال:
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء
بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، فإن هذه
الكبائر كلها من شعب الكفر، ولم يكن المسلم كافرًا بمجرد ارتكاب كبيرة، ولكنه
يزول عنه
اسم الإيمان الواجب، كما فى الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" الحديث إلى آخره ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة
والرحمة بهم، واستحقوا بتلك الشعبة من الشدة بقدر ما فيها، ولا منافاة بين أن
يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر، ويثاب من وجه،
ويعاقب من وجه، فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران،
خلافًا لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة، فإن عندهم أن من استحق العذاب من
أهل القبلة لا يخرج من النار، فأوجبوا خلود أهل التوحيد وقال من استحق
العذاب: لا يستحق الثواب
|
ص -294-
|
ولهذا جاء فى
السنة: أن من أقيم عليه الحد والعقوبات، ولم يأخذ المؤمنين به رأفة أن يرحم من
وجه آخر فيحسن إليه ويدعى له،وهذا الجانب أغلب فى الشريعة،كما أنه الغالب فى صفة
الرب سبحانه كما فى الصحيحين: "إن الله كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق
العرش: إن رحمتى تغلب غضبي"، وفى رواية: "سبقت غضبى"،
وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49، 50]، وقال: {اعْلَمُواْ
أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98]، فجعل الرحمة صفة له مذكورة فى أسمائه
الحسنى، وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته غير مذكورين فى أسمائه
ومن هذا الباب ما أمر الله به من الغلظة على الكفار والمنافقين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73،
والتحريم: 9] وقال: {لَا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} الآيات، إلى قوله فى قصة إبراهيم: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 14]، وكذلك آخر المجادلة، وقد ثبت فى صحيح مسلم
عن الحسن، عن حِطَّانَ بن عبد الله،عن عبادة بن الصامت: أن النبى صلى الله عليه
وسلم قال: "خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا:
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة وزيد بن خالد
أنه صلى الله
|
ص -295-
|
عليه وسلم: اختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب
الله، وقال الآخر وهو أفقه منه: يارسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لى:
إن ابنى كان عسيفًا على هذا، وإنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة ووليدة،
وإنى سألت أهل العلم فقالوا: على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبى صلى
الله عليه وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله: أما المائة شاة والوليدة
فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن
اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها"
فهذه المرأة أحد من رجمه النبى صلى الله عليه وسلم، ورجم
أيضا اليهوديين على باب مسجده، ورجم ماعز بن مالك،ورجم الغامدية، ورجم غير
هؤلاء وهذا الحديث يوافق ما فى الآية من بيان السبيل الذى جعله الله لهن: وهو
جلد مائة وتغريب عام فى البكر، وفى الثيب الرجم، لكن الذى فى هذا الحديث هو
الجلد والنفي للبكر من الرجال، وأما الآية ففيها ذكر الإمساك فى البيوت للنساء
خاصة،ومن فقهاء العراق من لا يوجب مع الحد تغريبًا، ومنهم من يفرق بين الرجل
والمرأة،كما أن أكثرهم لا يوجبون مع رجم جلد مائة،ومنهم من يوجبهما جميعًا، كما
فعل على بسراحة الهمدانية حيث جلدها ثم رجمها، وقال:
"جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة نبيه"
|
ص -296-
|
رواه البخارى
وعن أحمد فى ذلك روايتان
وهو سبحانه ذكر فى سورة النساء ما يختص بالنساء من العقوبة بالإمساك فى البيوت
إلى الممات، أو إلى جعل السبيل ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]، فإن الأذى يتناول الصنفين، وأما الإمساك
فيختص بالنساء، فالنساء يؤذين ويحبسن، بخلاف الرجال فإنه لم يأمر فيهم بالحبس؛
لأن المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله فى الرجل؛ ولهذا خصت بالاحتجاب،
وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب فى حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا
يجب فى حق الرجل؛ لأن ظهور النساء سبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن
وقوله: {فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ
أَرْبَعةً مِّنكُمْ} [النساء: 15]، دل على
شيئين: على أن نصاب الشهادة على الفاحشة أربعة، وعلى أن الشهداء بها على نسائنا
يجب أن يكونوا منا، فلا تقبل شهادة الكفار على المسلمين، وهذا لا نزاع فيه،
وإنما النزاع فى قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، وفيه قولان عند أحمد:
أشهرهما عنده وعند أصحابه: أنها لا تقبل، كمذهب مالك والشافعى والثانية:
أنها تقبل، اختارها أبو الخطاب من أصحاب أحمد، وهو قول أبى حنيفة، وهو أشبه
بالكتاب والسنة وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لاتجوز
شهادة أهل ملة على أهل ملة إلا
|
ص -297-
|
أمتي فإن شهادتهم
تجوز على من سواهم" فإنه لم ينف شهادة أهل
الملة الواحدة بعضها على بعض، بل مفهوم ذلك جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضها
على بعض،ولكن فيه بيان أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ
شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]،
وفى آخر الحج مثلها
وقد ثبت فى صحيح البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يُدْعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم،
فَيُدْعى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال
لنوح: من يشهد لك،فيقول: محمد وأمته، فيؤتى بكم فتشهدون أنه بَلَّغَ"، وكذلك فى الصحيحين من حديث أنس فى شهادتهم على تلك
الجنازتين، وأنهم أثنوا على إحداهما خيرًا، وعلى الأخرى شرًا، فقال:
"أنتم شهداء الله فى أرضه" الحديث
ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة الذىن محضوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره، كانت
شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة بخلاف أهل البدع والأهواء، كالخوارج
والروافض، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن كمال هذه الحقيقة التى
جعلها الله لأهل السنة، قال النبى صلى الله عليه وسلم فيهم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين،
وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"
|
ص -298-
|
وقد استدل من جوز
شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية التى فى المائدة، وهى قوله: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ الآية}
[المائدة: 106]، ثم قال من أخذ بظاهر هذه الآية من أهل الكوفة: دلت هذه
الآية على قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين، فيكون فى ذلك تنبيه ودلالة على
قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى، ثم نسخ الظاهر لايوجب نسخ الفحوى
والتنبيه، وهذه الآية الدالة على نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث
الموافقين للسلف فى العمل بهذه الآية وما يوافقها من الحديث أوجه وأقوى، فإن
مذهبه قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين فى الوصية فى السفر؛ لأنه موضع ضرورة
فإذا جازت شهادتهم لغيرهم فعلى بعضهم أجوز وأجوز
ولهذا يجوز فى الشهادة للضرورة ما لا يجوز فى غيرها، كما تقبل شهادة النساء فيما
لايَطَّلِعُ عليه الرجال، حتى نص أحمد على قبول شهادتهن فى الحدود التى تكون فى
مجامعهن الخاصة،مثل الحمامات، والعرسات، ونحو ذلكفالكفار الذين لا يختلط بهم
المسلمون أولى أن تقبل شهادة بعضهم على بعض إذا حكمنا بينهم، والله أمرنا أن
نحكم بينهم، والنبى صلى الله عليه وسلم رجم الزانيين من اليهود من غير سماع
إقرار منهما، ولا شهادة مسلم عليهما، ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز
ذلك، والله أعلم
|
ص -299-
|
ثم إن فى تولى
مال بعضهم بعضَا نزاع، فهل يتولى الكافر العدل فى دينه مال ولده الكافر؟ على
قولين فى مذهب أحمد وغيره، والصواب المقطوع به: أن بعضهم أولى ببعض، وقد مضت
سنة النبى صلى الله عليه وسلم بذلك وسنة خلفائه، وقوله تعالى: {فَآذُوهُمَا أمر بالأذى مطلقًا}، ولم يذكر كيفيته وصفته ولا قدره، بل ذكر أنه يجب إيذاؤهما
ولفظ: "الأذى" يستعمل فى الأقوال كثيرًا، كقوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} [آل عمران: 111] وقوله: {إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
[الأحزاب: 57]، {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } [الأحزاب: 58]،
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] وقول النبى صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله"، ونظائر ذلك كثيرة ذكرناها فى كتاب "الصارم
المسلول" وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم فى شارب الخمر: "عاقبوه وآذوه"،
وقال {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ
عَنْهُمَا} [النساء: 16] والإعراض
هو الإمساك عن الإيذاء
فالمذنب لايزال يؤذى وينهى ويوعظ ويوبخ ويغلظ له فى الكلام إلى أن يتوب ويطيع
الله، وأدنى ذلك هجره فلا يكلم بالكلام الطيب، كما هجر النبى صلى الله عليه وسلم
والمؤمنون الثلاثة الذىن خلفوا حتى ظهرت توبتهم وصلاحهم، وهذه آية محكمة لا نسخ
فيها، فمن أتى الفاحشة من الرجال والنساء فإنه يجب إيذاؤه بالكلام الزاجر له عن
المعصية إلى
|
ص -300-
|
أن يتوب، وليس ذلك محدودًا بقدر ولا صفة إلا ما يكون
زاجرًا له داعيًا إلى حصول المقصود وهو توبته وصلاحه، وقد علقه تعالى على هذين
الأمرين: التوبة، والإصلاح فإذا لم يوجدا فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض
موجودًا فيؤذى، والآية دلت على وجوب الإيذاء للذين يأتيان الفاحشة منا، ودلت على
وجوب الإعراض عن الأذى فى حق من تاب وأصلح، فأما من تاب بترك فعل الفاحشة ولم
يصلح، فقد تنازع الفقهاء هل يشترط فى قبول التوبة صلاح العمل؟ على قولين فى
مذهب أحمد وغيره
وهذه تشبه قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ
الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} إلى قوله: {فَإِن تَابُواْ
وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، فأمر بقتالهم،ثم علق تخلية سبيلهم على التوبة
والعمل الصالح: وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين
وجب الكف عنهم، ثم إن صلوا وزكوا، وإلا عوقبوا بعد ذلك على ترك الفعل؛ لأن
الشارع فى التوبة شرع الكف عن أذاه، ويكون الأمر فيه موقوفًا على التمام، وكذلك
التائب من الفاحشة يشرع الكف عن أذاه إلى أن يصلح، فإن أصلح وجب الإعراض عن
أذاه، وإن لم يصلح لم يجب الكف عن أذاه، بل يجوز أو يجب أذاه
وهذه الآية مما يستدل بها على التعزير بالأذى، والأذى وإن كان
|
ص -301-
|
يستعمل كثيرًا فى
الكلام فى مرتكب الفاحشة فليس هو مختصًا به، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم
لمن بصق فى القبلة: "إنك قد آذيت الله
ورسوله" وكذلك قال فى حق فاطمة ابنته:
"يريبنى ما رابها ويؤذينى ما آذاها"، وكذلك قال لمن أكل الثوم
والبصل: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"، وقال لصاحب
السهام: "خذ بنصالها لئلا تؤذ أحدًا من المسلمين"، وقد قال تعالى:
{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53]
وقوله تعالى: {فَإِن تَابَا
وَأَصْلَحَا} هل يكون من توبته اعترافه
بالذنب؟ فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد إقراره وكذب الشهود على إقراره، أو ثبت
بشهادة شهود، هل يُعَدُّ بذلك تائبًا؟ فيه نزاع، فذكر الإمام أحمد أنه لا توبة
لمن جحد، وإنما التوبة لمن أقر وتاب، واستدل بقصة على بن أبى طالب أنه أتى
بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة فاعترف منهم ناس فتابوا فقبل توبتهم، وجحد منهم
جماعة فقتلهم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإن العبد إذا
اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه" رواه
البخارى
فمن أذنب سرًا فليتب سرًا، وليس عليه أن يظهر ذنبه، كما فى الحديث: "من
ابتلى بشىء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله
|
ص -302-
|
، فإنه من يبد لنا
صفحته نقم عليه كتاب الله"، وفى الصحيح: "كل أمتى معافى إلا
المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله عليه فيكشف
ستر الله عنه" فإذا ظهر من العبد الذنب فلابد من ظهور التوبة، ومع
الجحود لا تظهر التوبة، فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب؛ ولهذا كان السلف يستعملون
ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورًا، فإن هذا أظهر حال الضالين، وهذا أظهر حال المغضوب
عليهم، ومن أذاه منعه مع القدرة من الإمامة، والحكم، والفتيا، والرواية،
والشهادة، وأما بدون القدرة فليفعل المقدور عليه
وقوله: {وَاللَّذَانَ
يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:
16] فأمر بإيذائهما ولم يعلق ذلك على استشهاد أربعة، كما علق ذلك فى حق النساء
وإمساكهن فى البيوت، ولم يأمر به هنا كما أمر به هناك، وليس هذا من باب حمل
المطلق على المقيد؛ لأن ذلك لابد أن يكون الحكم واحدًا مثل الإعتاق، فإذا كان
الحكم متفقًا فى الجنس دون النوع كإطلاق الأيدى في التيمم وتقييدها فى الوضوء
إلى المرافق، وإطلاق ستين مسكينًا فى الإطعام وتقييد الإعتاق بالإيمان، مع أن
كلاهما عبادة مالية يراد بها نفع الخلق، وفى ذلك نزاع بين العلماء
ولم يحمل المسلمون من الصحابة والتابعين المطلق على المقيد
فى قوله: {وَأُمَّهَاتُ
نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ
اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} الآية
[النساء: 23]
|
ص -303-
|
وقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ
مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] قال الصحابة والتابعون وسائر أئمة الدين:
الشرط فى الربائب خاصة، وقالوا: أبهموا ما أبهم الله، والمبهم هو المطلق،
والمشروط فيه هو المؤقت المقيد، فأمهات النساء، وحلائل الآباء والأبناء يحرمن
بالعقد، والربائب لا يحرمن إلا إذا دخل بأمهاتهن، لكن تنازعوا هل الموت
كالدخول؟ على قولين فى مذهب أحمد؛ وذلك لأن الحكم مختلف، والقيد ليس متساويًا
فى الأعيان، فإن تحريم جنس ليس مثل تحريم جنس آخر يخالفه، كما أن تحريم الدم
والميتة ولحم الخنزير لما كان أجناسًا، فليس تقييد الدم بكونه مسفوحًا يوجب
تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحًا، وهنا القيد كون الربيبة مدخولا بأمها،
والدخول بالأم لايوجد مثله فى الحليلتين وأم المرأة، إذ الدخول فى الحليلة بها
نفسها، وفى أم المرأة ببنتها
وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصب الشهادة، بل لما ذكر الله فى
آية الدين: رجلين أو رجلاً وامرأتين، وفى الرجعة: رجلين، أقروا كلا منهما
على حاله؛ لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع، واختلاف السبب يؤثر فى نصاب
الشهادة، وكما فى إقامة الحد فى الفاحشة وفى القذف بها اعتبر فيه أربعة
شهداء،فلا يقاس بذلك عقود الإيمان والإبضاع، وذكر فى حد القذف ثلاثة أحكام:
|
ص -304-
|
جلد ثمانين، وترك
قبول شهادتهم أبدًا، وأنهم فاسقون {إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ} [النور: 5]، وأن
التوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف، وترفع الفسق بلا تردد، وهل ترفع المنع
من قبول الشهادة؟ فأكثر العلماء قالوا: ترفعه
وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة بين الناس لم يُرْجَم؛ لما ثبت فى الصحيح عن ابن عباس
أنه لما ذكر حديث الملاعنة وقول النبى صلى الله عليه وسلم: "إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها، وإن جاءت به يشبه
الرجل الذى رماها فقد صدق عليها"، فجاءت به على
النعت المكروه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:
"لولا الإيمان لكان لى ولها شأن"،
فقيل لابن عباس: أهذه التى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها؟" فقال: لا، تلك امرأة كانت تعلن السوء فى الإسلام فقد أخبر
أنه لا يرجم أحدًا إلا ببينة ولو ظهر عن الشخص السوء
ودل هذا الحديث على أن الشبه له تأثير فى ذلك، وإن لم يكن بينة، وكذلك ثبت عنه
أنه لما مر عليه بتلك الجنازة فأثنوا عليها خيرًا إلى آخره قال: "أنتم شهداء الله فى أرضه"،
وفى المسند عنه أنه قال: "يوشك أن تعلموا أهل
الجنة من أهل النار"، قيل: يا رسول الله، وبم ذلك؟ قال:
"بالثناء الحسن، والثناء السيئ" فقد جعل
الاستفاضة
|
ص -305-
|
حجة وبينة فى هذه
الأحكام ولم يجعلها حجة فى الرجموكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين فى
الوصية فى السفر عند أحمد، وكذلك شهادة الصبيان فى الجراح إذا أدوها قبل التفرق
فى إحدى الروايتين، وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة والصبى فى لحاف أو فى بيت
مرحاض، أو رآهما مجردين، أو محلولى السراويل، ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك من
وجود اللحاف قد خرج عن العادة إلى مكانهما، أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد
أظهره فرآه فأطفأه، فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل، فإذا لم يكن ما
يستخفى به إلا ما شهد به الشاهد كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به
فهذا الباب باب عظيم النفع فى الدين، وهو مما جاءت به الشريعة التى أهملها كثير
من القضاة والمتفقهة، زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا، أو إقرار
مسموع، وهذا خلاف ما تواترت به السنة وسنة الخلفاء الراشدين، وخلاف ما فطرت عليه
القلوب التى تعرف المعروف وتنكر المنكر، ويعلم العقلاء أن مثل هذا لا تأباه
سياسة عادلة: فضلا عن الشريعة الكاملة، ويدل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] ففى الآية دلالات :
|
ص -306-
|
أحدها: قوله: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فأمر بالتبين عند مجىء كل فاسق بكل نبأ، بل من الأنباء ما ينهى
فيه عن التبين، ومنها: ما يباح فيه ترك التبين، ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة
لبعض الناس؛ لأنه علل الأمر بأنه إذا جاءنا فاسق بنبأ خشية أن نصيب قوما بجهالة،
فلو كان كل من أصيب بنبأ كذلك لم يحصل الفرق بين العدل والفاسق، بل هذه دلالة
واضحة على أن الإصابة بنبأ العدل الواحد لا ينهى عنها مطلقًا، وذلك يدل على قبول
شهادة العدل الواحد فى جنس العقوبات، فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك، فإنها
نزلت فى إخبار واحد بأن قومًا قد حاربوا بالردة أو نقض العهد
وفيه أيضا أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه، فقد استبان الأمر
وزال الأمر بالتثبت، فتجوز إصابة القوم وعقوبتهم بخبر الفاسق مع قرينة إذا تبين
بهما الأمور، فكيف خبر الواحد العدل مع دلالة أخرى؛ ولهذا كان أصح القولين أن
مثل هذا لوث فى باب القسامة، فإذا انضاف أىمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم
المقسم عليه وقوله: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ} فجعل المحذور هو الإصابة
لقوم بلا علم، فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور، وهذا هو المناط الذى دل عليه
القرآن، كما قال: {إِلَّا مَن شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
[الزخرف: 86] وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]
|
ص -307-
|
وأيضًا، فإنه علل
ذلك بخوف الندم، والندم إنما يحصل على عقوبة البرىء من الذنب، كما فى سنن أبى
داود: "ادرؤوا الحدود بالشبهات، فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن
يخطئ فى العقوبة"، فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئًا، أو يخطئ
فيعفو عن مذنب، كان هذا الخطأ خير الخطأين أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب
إلا مذنبًا فإنه لا يندم، ولا يكون فيه خطأ، والله أعلم
وقد ذكر الشافعى وأحمد أن التغريب جاء فى السنة فى موضعين أحدهما: أن النبى
صلى الله عليه وسلم قال فى الزانى إذا لم يحصن: "جلد مائة وتغريب عام"
والثانى: نفى المخنثين فيما روته أم سلمة: أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل
عليها وعندها مخنث،وهو يقول لعبد الله أخيها: إن فتح الله لك الطائف غدًا أدلك
على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "أخرجوهم من بيوتكم"رواه
الجماعة إلا الترمذى، وفى رواية فى الصحيح: "لا يدخلن هؤلاء عليكم
"، وفى رواية: "أرى هذا يعرف مثل هذا لا يدخلن عليكم بعد
اليوم"
قال ابن جُرَيْج: المخنث هو هيت [الهِيتُ: الغامض من الأرض، ومخنث نفاه النبى
صلى الله عليه وسلم من المدينة]، وهكذا ذكره غيره وقد قيل: إنه هِنْب
[هِنبُ: رجل مخنث نفاه النبى صلى الله عليه وسلم]، وزعم بعضهم أنه ماتع
[ماتع: اسم]، وقيل: هوان وروى الجماعة إلا مسلمًا أن النبى صلى الله عليه
وسلم لعن المخنثين من الرجال،
|
ص -308-
|
والمترجلات من
النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم، وأخرجوا فلانًا وفلانًا، يعنى:
المخنثين"، وقد ذكر بعضهم أنهم كانوا ثلاثة: بهم وهيت وماتع على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى إنما كان
تخنيثهم وتأنيثهم لينًا فى القول، وخضابًا فى الأيدى والأرجل، كخضاب النساء
ولعبًا كلعبهن
وفى سنن أبى داود عن أبى يسار القرشى عن أبى هاشم عن أبى هريرة: أن النبى صلى
الله عليه وسلم أُتى بمخنث وقد خضب رجليه ويديه بالحنّاء، فقال: "ما بال
هذا؟" فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفى إلى النقيع،
فقيل: يا رسول الله ألا نقتله فقال: "إنى
نهيت عن قتل المصلين"، قال أبو أسامة حماد بن
أسامة: والنقيع: ناحية عن المدينة، وليس بالبقيع، وقيل: إنه الذى حماه النبى
صلى الله عليه وسلم لإبل الصدقة، ثم حماه عمر، وهو على عشرين فرسخًا من المدينة،
وقيل: عشرين ميلا ونقيع الخضمات موضع آخر قرب المدينة، وقيل: هو الذى حماه
عمر والنقيع: موضع يستنقع فيه الماء، كما فى الحديث: "أول جمعة جمعت
بالمدينة فى نقيع الْخَضَماتِ"
فإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أمر بإخراج مثل هؤلاء من البيوت، فمعلوم
أن الذى يمكن الرجال من نفسه والاستمتاع به، وبما يشاهدونه من محاسنه، وفعل
الفاحشة الكبرى به شر من هؤلاء، وهو
|
ص -309-
|
أحق بالنفى من بين
أظهر المسلمين وإخراجه عنهم؛ فإن المخنث فيه إفساد للرجال والنساء؛ لأنه إذا
تَشبَّه بالنساء فقد تعاشره النساء، ويتعلمن منه وهو رجل فيفسدهن؛ ولأن الرجال
إذا مالوا إليه فقد يعرضون عن النساء؛ ولأن المرأة إذا رأت الرجل يتخنث فقد
تترجل هى وتتشبه بالرجال فتعاشر الصنفين، وقد تختار هى مجامعة النساء كما يختار
هو مجامعة الرجال
وأما إفساده للرجال: فهو أن يمكنهم من الفعل به كما يفعل
بالنساء بمشاهدته ومباشرته وعشقه، فإذا أخرج من بين الناس وسافر إلى بلد آخر
ساكن فيه الناس، ووجد هناك من يفعل به الفاحشة، فهنا يكون نفيه بحبسه فى مكان
واحد ليس معه فيه غيره، وإن خيف خروجه فإنه يقيد إذ هذا هو معنى نفيه وإخراجه من
بين الناس
ولهذا تنازع العلماء فى نفى المحارب من الأرض، هل هو طرده
بحيث لا يأوى فى بلد، أو حبسه، أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا، ففى مذهب
أحمد ثلاث روايات الثالثة أعدل وأحسن، فإن نفيه بحيث لا يأوى فى بلد لا يمكن
لتفرق الرعية واختلاف هممهم، بل قد يكون بطرده يقطع الطريق، وحبسه قد لا يمكن؛
لأنه يحتاج إلى مؤنة؛ إلى طعام وشراب وحارس؛ ولا ريب أن النفى أسهل إن أمكن
|
ص -310-
|
وقد روى
أن هِيْتًا لما اشتكى الجوع أمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة من
الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته إلى الجمعة الأخرى، ومعلوم أن قوله: {أَوْ
يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] لا يتضمن نفيه من
جميع الأرض، وإنما هو نفيه من بين الناس، وهذا حاصل بطرده وحبسه
وهذا الذى جاءت به الشريعة من النفى هو نوع من الهجرة أى هجره، وليس هذا كنفى
الثلاثة الذىن خُلِّفُوا، ولا هجره كهجرهم، فإنه منع الناس من مخالطتهم
ومخاطبتهم حتى أزواجهم، ولم يمنعهم من مشاهدة الناس وحضور مجامعهم فى الصلاة
وغيرها، وهذا دون النفى المشروع، فإن النفى المشروع مجموع من الأمرين، وذلك أن
الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضًَا على مصلحة دينهم ودنياهم،
فمن كان بمخالطته للناس لا يحصل منه عون على الدين، بل يفسدهم ويضرهم فى دينهم
ودنياهم استحق الإخراج من بينهم، وذلك أنه مضرة بلا مصلحة؛ فإن مخالطته لهم فيها
فسادهم وفساد أولادهم، فإن الصبى إذا رأى صبيا مثله يفعل شيئًا تَشَبَّه به،
وسار بسيرته مع الفُسَّاق، فإن الاجتماع بالزناة واللوطيين فيه أعظم الفساد،
والضرر على النساء والصبيان والرجال، فيجب أن يعاقب اللوطى والزانى بما فيه
تفريقه وإبعاده
|
ص -311-
|
البدع، وهُجْرَان
الفُسَّاق، وهجران من يخالط هؤلاء كلهم أو يعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذى
لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى،
فالزناة واللوطية، وتارك الجهاد، وأهل البدع، وَشَرَبَةُ الخمر، هؤلاء كلهم
ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام، وليس فيهم معاونة لا على بر ولا تقوى، فمن لم
يهجرهم كان تاركا للمأمور فاعلا للمحظور، فهذا ترك المأمور من الاجتماع،وذلك فعل
المحظور منه، فعوقب كل منهما بما يناسب جُرْمَه ُ، فإن العقوبة إنما تكون على
ترك مأمور أو فعل محظور، كما قال الفقهاء: إنما يُشْرَع التعزير فى معصية ليس
فيها حد، فإن كان فيها كفارة فعلى قولين فى مذهب أحمد وغيره
قال: وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات
وغير ذلك فإنه يفعل منه بحسب الاستطاعة، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع
المشركين، فإنه يجاهد من يقدر على جهاده وكذلك إذا لم يقدر على عقوبة جميع
المعتدين، فإنه يعاقب من يقدر على عقوبته، فإذا لم يمكن النفى والحبس عن جميع
الناس؛ كان النفى والحبس على حسب القدرة، مثل أن يحبس بدار لا يباشر إلا أهلها
لا يخرج منها، أو ألا يباشر إلا شخصًا أو شخصين، فهذا هو الممكن، فيكون هو
المأمور به، وإن أمكن أن يجعل فى مكان قد قل فيه القبيح ولا يعدم بالكلية كان
ذلك هو المأمور به، فإن الشريعة جاءت بتحصيل
|
ص -312-
|
المصالح
وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض
الشر خير من تركه كله، وكذلك المرأة المتشبهة بالرجال تحبس شبيها بحالها إذا
زنت، سواء كانت بكرًا أو ثيبًا، فإن جنس الحبس مما شرع فى جنس الفاحشة
ومما يدخل فى هذا أن عمر بن الخطاب نفى نصر بن حجاج من المدينة، ومن وطنه إلى
البصرة، لما سمع تشبيب النساء به وتشبهه بهن، وكان أولاً قد أمر بأخذ شَعْرِهِ؛
ليزيل جماله الذى كان يفتن به النساء فلما رآه بعد ذلك من أحسن الناس وجنتين
غَمَّه ذلك فنفاه إلى البصرة، فهذا لم يصدر منه ذنب ولا فاحشة يعاقب عليها؛ لكن
كان فى النساء من يفتتن به فأمر بإزالة جماله الفاتن، فإن انتقاله عن وطنه مما
يضعف همته وبدنه، ويعلم أنه معاقب، وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم
الفاحشة والعشق قبل وقوعه، وليس من باب المعاقبة، وقد كان عمر ينفى فى الخمر إلى
خيبر زيادة فى عقوبة شاربها
ومن أقوى ما يهيج الفاحشة، إنشاد أشعار الذين فى قلوبهم مرض من العشق، ومحبة
الفواحش، ومقدماتها بالأصوات المطربة، فإن المغنى إذا غنى بذلك حرك القلوب
المريضة إلى محبة الفواحش، فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه، وإن كان القلب فى
عافية من ذلك جعل فيه مرضًا، كما قال بعض السلف: الغناء رُقْيَةُ الزنا
|
ص -313-
|
ورقية الحية هى
ما تستخرج بها الحية من جحرها، ورقية العين والحمة هى ما تستخرج به العافية،
ورقية الزنا هو ما يدعو إلى الزنا، ويخرج من الرجل هذا الأمر القبيح، والفعل
الخبيث، كما أن الخمر أم الخبائث، قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق فى القلب
كما ينبت الماء البقل، وقال تعالى لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء كما قال
من قال من السلف وبغيره من الأصوات؛ كالنياحة وغير ذلك، فإن هذه الأصوات كلها
توجب انزعاج القلب والنفس الخبيثة إلى ذلك، وتوجب حركتها السريعة، واضطرابها حتى
يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة، والنفس متحركة، فإن سكنت
فبإذن الله، وإلا فهى لا تزال متحركة
وشبهها بعضهم بكرة على مستوى أملس لا تزال تتحرك عليه،وفى الحديث المرفوع:
"القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا"، وفى الحديث
الآخر: "مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض تحركها الريح"، وفى
صحيح البخارى عن سالم عن ابن عمر قال: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا ومقلب القلوب"، وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبى صلى
الله عليه وسلم يقول: "اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك"،
وفى الترمذى
|
ص -314-
|
عن أبى سفيان
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك" قال: فقلت: ىا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف
علينا؟ قال: "نعم، القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف
يشاء"
وقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ
إلَّا زَانِيَةً أَو مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ
أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، لما أمر الله تعالى بعقوبة الزانيين حرم
مناكحتهما على المؤمنين هجرًا لهما، ولما معهما من الذنوب والسيئات كما قال
تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وجعل مجالس فاعل ذلك المنكر مثله بقوله تعالى:
{إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وهو زوج له، وقد قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أى: عشراءهم وقرناءهم وأشباههم ونظراءهم؛
ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب
ورفع إلى عمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، وكان فيهم جليس لهم صائم فقال:
ابدؤوا به فى الجلد، ألم تسمع الله يقول:
{فَلا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ}
[النساء: 140]، فإذا كان هذا فى المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم للمنكر
يكون مجالسهم مثلا لهم، فكيف بالعشرة الدائمة؟
والزوج يقال له: العشير، كما فى الحديث من حديث ابن عباس عن النبى صلى الله
عليه وسلم قال: "رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء
|
ص -315-
|
يكفرن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال:
"يَكْفرْنَ العشير ويَكْفُرْنَ الإحسان"
فأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زانٍ أو مشرك
أما المشرك: فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها، وأما الزانى:
ففجوره يدعوه إلى ذلك وإن لم يكن مشركا
وفى الآية دليل على أن الزانى ليس بمؤمن مطلق الإيمان، وإن لم يكن كافرًا
مشركًا، كما فى الصحيح: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن"، وذلك
أنه أخبر أنه لا ينكح إلا زانية أو مشركة، ثم قال تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فعلم أن الإيمان يمنع من ذلك ويزجر، وأن فاعله إما مشرك وإما
زان ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك، وذلك أن الزانية فيها إفساد
فراش الرجل، وفى مناكحتها معاشرة الفاجرة دائمًا، ومصاحبتها، والله قد أمر بهجر
السوء وأهله ما داموا عليه، وهذا المعنى موجود فى الزانى، فإن الزانى إن لم يفسد
فراش امرأته كان قرين سوء لها، كما قال الشُّعَبِىُّ: من زوج كريمته من فاسق
فقد قطع رحمها
وهذا مما يدخل به على المرأة ضرر فى دينها ودنياها، فنكاح الزانية أشد من جهة
الفراش، ونكاح الزاني أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم على المرأة، فتبقى
المرأة الحرة العفيفة فى أسر الفاجر الزاني الذي
|
ص -316-
|
يقصر فى حقوقها
ويتعدى عليها
ولهذا اتفق الفقهاء على اعتبار الكفاءة فى الدين، وعلى ثبوت الفسخ بفوات هذه
الكفاءة، واختلفوا فى صحة النكاح بدون ذلك، وهما قولان مشهوران فى مذهب أحمد
وغيره، فإن من نكح زانية مع أنها تزنى فقد رضى بأن يشترك هو وغيره فيها، ورضى
لنفسه بالقيادة والدياثة، ومن نكحت زان وهو يزنى بغيرها فهو لا يصون ماءه حتى
يضعه فيها؛ بل يرميه فيها وفى غيرها من البغايا، فهى بمنزلة الزانية المتخذة
خِدْنًا، فإن مقصود النكاح حفظ الماء فى المرأة، وهذا الرجل لا يحفظ ماءه، والله
سبحانه شرط فى الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين، فقال: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ
بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] وهذا المعنى مما لا ينبغى إغفاله؛ فإن القرآن
قد نصه وبينه بيانًا مفروضًا، كما قال تعالى: {سُورَةٌ
أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}
[النور: 1]
فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وفيه آثار
عن السلف، وإن كان الفقهاء قد تنازعوا فيه، وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه
وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بقوله:
{والْمُحْصَنَات}،
|
ص -317-
|
وزعموا أن البغى
من المحصنات، وتلك الآيات حجة عليهم، فإن أقل ما فى الإحصان العفة، وإذا اشترط
فيه الحرية فذاك تكميل للعفة والإحصان، ومن حرم نكاح الأَمَةِ لئلا يرق ولده،
كيف يبيح البغى التى تلحق به من ليس بولده، وأين فساد فراشه من رق ولده؟!
وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء، والمعنى أن الزانى لا يطأ إلا زانية أو
مشركة، والزانية لا يطؤها إلا زان أو مشرك، وهذا أبلغ فى الحجة عليهم، فمن وطئ
زانية أو مشركة بنكاح فهو زان، وكذلك من وطئها زان، فإن ذم الزانى بفعله الذى هو
الزنا حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره، وهو نائم كانت العقوبة للزانى دون
قرينه، وهذه المسألة مبسوطة فى كتب الفقه
والمقصود قوله: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ
إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}
[النور: 3]، فإن هذا يدل على أن الزانى لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، وأن
ذلك حرام على المؤمنين، وليس هذا لمجرد كونه فاجرًا، بل لخصوص كونه زانيًا،
وكذلك فى المرأة ليس لمجرد فجورها، بل لخصوص زناها، بدليل أنه جعل المرأة زانية
إذا تزوجت زانيًا، كما جعل الزوج زانيًا إذا تزوج زانية، هذا إذا كانا مسلمين
يعتقدان تحريم الزنا، وإذا كانا مشركين، فينبغى أن يعلم ذلك ومضمونه أن الرجل
الزانى لا يجوز نكاحه حتى يتوب، وذلك بأن يوافق اشتراطه الإحصان، والمرأة إذا
كانت
|
ص -318-
|
زانية لا تحصن
فرجها عن غير زوجها، بل يأتيها هو وغيره، كان الزوج زانيًا هو وغيره يشتركون فى
وطئها، كما تشترك الزناة فى وطء المرأة الواحدة، ولهذا يجب عليه نفى الولد الذى
ليس منه
فمن نكح زانية فهو زان أى تزوجها، ومن نكحت زانيًا فهى زانية أى تزوجته؛ فإن كثيرًا
من الزناة قصروا أنفسهم على الزوانى فتكون المرأة خِدْنًا وخليلا له لا يأتى
غيرها، فإن الرجل إذا كان زانيًا لا يعف امرأته، وإذا لم يعفها تشوقت هى إلى
غيره فزنت به، كما هو الغالب على نساء الزوانى أو من يلوط بالصبيان، فإن نساءه
يزنين ليقضين إربهن ووطرهن، ويراغمن أزواجهن بذلك حيث لم يعفوا أنفسهم عن غير
أزواجهن، فهن أيضًا لم يعففن أنفسهن عن غير أزواجهن؛ ولهذا يقال: عفوا تعف
نساؤكم وأبناؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما
تدين تدان، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها؛ فإن الرجل إذا رضى أن ينكح زانية رضى
بأن تزنى امرأته، والله تعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فأحدهما يحب لنفسه
ما يحب للآخر، فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيًا فقد رضيت عمله، وكذلك إن رضى
الرجل أن ينكح زانية فقد رضى عملها، ومن رضى الزنا كان بمنزلة الزانى فإن أصل
الفعل هو الإرادة؛ ولهذا جاء فى الأثر: من غاب عن معصية فرضيها
|
ص -319-
|
كان كمن شهدها أو
فعلها، وفى الحديث: "المرء على دين خليله" وأعظم الخلة خلة
الزوجين
وأيضًا، فإن الله قد جعل فى نفوس بنى آدم من الغيرة ما هو معروف، فيستعظم الرجل
أن يطأ الرجل امرأته أعظم من غيرته على نفسه أن يزنى، فإذا لم يكره أن تكون
زوجته بغياً وهو ديوث كيف يكره أن يكون هو زان؟! ولهذا لم يوجد من هو ديوث
أو قواد يعف عن الزنا، فإن الزانى له شهوة فى نفسه، والديوث ليس له شهوة فى زنا
غيره، فإذا لم يكن معه إيمان يكره به زنا غيره بزوجته كيف يكون معه إيمان يمنعه
من الزنا ؟ فمن استحل أن يترك امرأته تزنى استحل أعظم الزنا، ومن أعان على ذلك
فهو كالزانى، ومن أقر على ذلك مع إمكان تغييره فقد رضيه، ومن تزوج غير تائبة فقد
رضى أن تزنى إذ لا يمكنه منعها من ذلك، فإن كيد النساء عظيم
ولهذا جاز للرجل إذا أتت امرأته بفاحشة مبينة أن يعضلها [يعضلها: العضل هو أن
يضارها ولا يحسن عشرتها؛ ليضطرها ذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذى أمهرها]؛
لتفتدى نفسها منه، وهو نص أحمد وغيره؛ لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت
لإفساد نكاحه، فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب، ولا يسقط المهر بمجرد زناها،
كما دل عليه قول النبى صلى الله عليه وسلم للملاعن لما قال: مالى، قال:
"لا مال لك عندها، إن كنت صادقًا عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت
كاذبا عليها
|
ص -320-
|
فهو أبعد
لك"؛ لأنها إذا زنت قد تتوب لكن زناها يبيح له إعضالها حتى تفتدى منه
نفسها إن اختارت فراقه أو تتوب
وفى الغالب أن الرجل لا يزنى بغير امرأته إلا إذا أعجبه ذلك الغير، فلا يزال
يزنى بما يعجبه فتبقى امرأته بمنزلة المعُلَّقة التى لا هى أيم ولا ذات زوج،
فيدعوها ذلك إلى الزنا، ويكون الباعث لها على ذلك مقابلة زوجها على وجه القصاص
مكايدة له ومغايظة؛ فإنه ما لم يحفظ غيبها لم تحفظ غيبه، ولها فى بضعه حق كما له
فى بضعها حق، فإذا كان من العادين لخروجه عما أباح الله له لم يكن قد أحصن نفسه،
وأيضا، فإن داعية الزانى تشتغل بما يختاره من البغايا، فلا تبقى داعيته إلى
الحلال تامة، ولا غيرته كافية فى إحصانه المرأة، فتكون عنده كالزانية المتخذة
خِدْنًا وهذه معان شريفة لا ينبغى إهمالها
وعلى هذا، فالمرأة المساحقة زانية كما جاء فى الحديث: "زنا النساء
سحاقهن" والرجل الذى يعمل عمل قوم لوط بمملوك أو غيره هو زان، والمرأة
الناكحة له زانية، فلا تنكحه إلا زانية أو مشركة؛ ولهذا يكثر فى نساء اللوطية من
تزنى بغير زوجها،وربما زنت بمن يتلوط هو به مراغمة له وقضاء لوطرها، وكذلك
المرأة المزوجة بمُخَنَّث ينكح كما تنكح هى متزوجة بزان،بل هو أسوأ الشخصين
حالاً،فإنه مع الزنا صار مخنثًا ملعونًا على نفسه للتخنيث غير اللعنة التى تصيبه
بعمل قوم لوط،
|
ص -321-
|
فإن النبى صلى
الله عليه وسلم لعن من يعمل عمل قوم لوط،وثبت عنه فى الصحيح أنه لعن المخنثين من
الرجال والمترجلات من النساء، وقال: "أخرجوهم من
بيوتكم"
وكيف يجوز للمرأة أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى
دبره؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة، وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزانى
بغير امرأته عنها، فإذا لم تكن له غيرة على نفسه ضعفت غيرته على امرأته وغيرها،
ولهذا يوجد من كان مخنثًا ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله، والمرأة
إذا رضيت بالمخنث واللوطى كانت على دينه فتكون زانية وأبلغ، فإن تمكين المرأة من
نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه، فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها
ولفظ هذه الآية وهو قوله تعالى: {الزَّانِي
لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً الآية}
[النور: 3]، يتناول هذا كله إما بطريق عموم اللفظ، أو بطريق التنبيه وفحوى
الخطاب الذى هو أقوى من مدلول اللفظ، وأدنى ذلك أن يكون بطريق القياس، كما قد
بيناه فى حد اللوطى ونحوه والله أعلم
وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}
[النور: 26] فأخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، فلا تكون
خبيثة لطيب، فإن ذلك خلاف الحصر، فلا
|
ص -322-
|
تنكح الزانية
الخبيثة إلا زانيًا خبيثًا، وأخبر أن الطيبين للطيبات، فلا يكون الطيب لامرأة
خبيثة، فإن ذلك خلاف الحصر ؛ إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين، فلا تبقى
خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين فلا تبقى طيبة
لخبيث، فجاء الحصر من الجانبين موافقًا لقوله: {الزَّانِي
لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا
إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] ؛ ولهذا قال من قال من السلف: ما بغت امرأة نبى
قط، فإن هذه السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك وما قالوه فى عائشة ؛ ولهذا لما
قيل فيها ما قيل، وصارت شبهة، استشار النبى صلى الله عليه وسلم من استشاره فى
طلاقها قبل أن تنزل براءتها، إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة وقد روى
أنه: "لا يدخل الجنة ديوث" والديوث: الذى يقر السوء فى أهله
ولهذا كانت الغيرة على الزنا مما يحبها الله وأمر بها،حتى قال النبى صلى الله
عليه وسلم: أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله
أغير منى،من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"؛ ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجها أن يلاعن؛ فيشهد أربع
شهادات بالله إنه لمن الصادقين،وجعل ذلك يدفع عنه حد القذف،كما لو أقام على ذلك
أربعة شهود؛ لأنه محتاج إلى قذفها لأجل ما أمر الله به من
|
ص -323-
|
الغيرة؛ ولأنها
ظلمته بإفساد فراشه،وإن كانت قد حبلت من الزنا فعليه اللعان لينفى عنه النسب
الباطل؛ لئلا يلحق به ما ليس منه
وقد مضت سنة النبى صلى الله عليه وسلم بالتفريق بين المتلاعنين، سواء حصلت
الفرقة بتلاعنهما أو احتاجت إلى تفريق الحاكم، أو حصلت عند انقضاء لعان الزوج؛
لأن أحدهما ملعون أو خبيث، فاقترانهما بعد ذلك يقتضى مقارنة الخبيث الملعون
للطيب، وفى صحيح مسلم عن عمران بن حصين حديث المرأة التى لعنت ناقة لها فأمر
النبى صلى الله عليه وسلم فأخذ ما عليها وأرسلت، وقال:
"لا تصحبنا ناقة ملعونة"،
وفى الصحيحين عنه أنه لما اجتاز بديار ثمود قال:
"لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين،فإن لم تكونوا باكين
فلا تدخلوا عليهم لئلا يصيبكم ما أصابهم"،
فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب
وهكذا السنة فى مقارنة الظالمين والزناة، وأهل البدع والفجور وسائر المعاصى، لا
ينبغى لأحد أن يقارنهم ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل
وأقل ذلك أن يكون منكرًا لظلمهم، ماقتا لهم، شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان، كما
فى الحديث : "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،
فإن لم يستطع
|
ص -324-
|
فبقلبه،وذلك أضعف
الإيمان"، وقال تعالى: {وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ الآية} [التحريم: 11]، وكذلك ما ذكره عن يوسف الصديق وعمله على
خزائن الأرض لصاحب مصر لقوم كفار
وذلك أن مقارنة الفجار إنما يفعلها المؤمن فى موضعين: أحدهما: أن يكون مكرهًا
عليها، والثانى: أن يكون ذلك فى مصلحة دينية راجحة على مفسدة المقارنة، أو أن
يكون فى تركها مفسدة راجحة فى دينه، فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما،
وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة، وفى الحقيقة فالمكره هو من
يدفع الفساد الحاصل باحتمال أدناهما، وهو الأمر الذى أُكْرِهَ عليه، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال تعالى:
{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء} [النور: 33]، ثم قال:
{وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ} [النور: 33] وقال
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ
أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 99]، وقال:
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ}
الآية [النساء: 75]
|
ص -325-
|
فقد دلت هذه
الآية على النهى عن مناكحة الزانى، والمناكحة نوع خاص من المعاشرة والمزاوجة
والمقارنة والمصاحبة؛ ولهذا سمى كل منهما زوجًا وصاحبًا وقرينًا وعشيرًا للآخر،
والمناكحة فى أصل اللغة: المجامعة، والمضامة، فقلوبهما تجتمع إذا عقد العقد
بينهما، ويصير بينهما من التعاطف والتراحم ما لم يكن قبل ذلك، حتى تثبت بذلك
حرمة المصاهرة فى غير الربيبة لمجرد ذلك، والتوارث وعدة الوفاة وغير ذلك، وأوسط
ذلك اجتماعهما خاليين فى مكان واحد، وهو المعاشرة المقررة للصداق، كما قضى به
الخلفاء، وآخر ذلك اجتماع المباضعة، وهذا وإن اجتمع بدون عقد نكاح فهو اجتماع
ضعيف، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح
ودل قوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} على ذلك من جهة المعنى، ومن جهة
اللفظ، ودل أيضًا على النهى عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم، كما دل على هذا غير ذلك
من النصوص؛ مثل قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]،
أى: وأشباههم ونظراءهم، والزوج أعم من النكاح المعروف، قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء
الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى: 49،50]، وقال:
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}
[التكوير: 7]، وقال: {مِن كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ} [الحج: 5]، و {كَرِيمٌ}
[الشعراء: 7]، وقال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49]،
وقال: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3]، وقال: {وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْوَاجًا} [النبأ: 8]، وقال: {احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40]،
|
ص -326-
|
وقال: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ} [التغابن: 14]
وإن كان فى الآية نص فى الزوجة التى هى الصاحبة وفى الولد منها، فمعنى ذلك فى كل
مشابه ومقارن ومشارك، وفى كل فرع وتابع ف {الْحَمْدُ
لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ}
[الإسراء: 111]، و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1، 2]
فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع أهل طاعة الله تعالى على مراد
الله، ويدل على ذلك الحديث الذى فى السنن: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا
يأكل طعامك إلا تقى"، وفيها: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم
من يخالل"، وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ثم إن
زنت فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير"
و "الضفير": الحبل، وشك الراوى هل أمر ببيعها فى الثالثة أو
الرابعة وهذا أمر من النبى صلى الله عليه وسلم ببيع الأمة بعد إقامة الحد
عليها مرتين أو ثلاثًا ولو بأدنى مال، قال الإمام أحمد: إن لم يبعها كان تاركًا
لأمر النبى صلى الله عليه وسلم
|
ص -327-
|
والإماء اللاتى
يفعلن هذا تكون عامتهن للخدمة لا للتمتع، فكيف بأمة التمتع؟ وإذا وجب إخراج
الأمة الزانية عن ملكه فكيف بالزوجة الزانية؟ والعبد المملوك نظير الأمة، ويدل
على ذلك كله ما رواه مسلم فى صحيحه عن على بن أبى طالب عن النبى صلى الله عليه
وسلم: "أنه لعن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا" فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثًا سواء كان إحداثه
بالزنا أو السرقة أو غير ذلك، وسواء كان الإيواء بملك يمين أو نكاح أو غير ذلك؛
لأن أقل ما فى ذلك تركه إنكار المنكر
فَصْل
والمؤمن محتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه بنكاح وغيره، قال تعالى: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ الآية}
[الممتحنة: 10]، وكذلك المرأة التي زني بها الرجل، فإنه لا يتزوج بها إلا
بعد التوبة في أصح القولين، كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار، لكن إذا أراد أن
يمتحنها هل هي صحيحة التوبة أم لا؟ فقال عبدالله بن عمر وهو المنصوص عن أحمد:
أنه يراودها عن نفسها، فإن أجابته لم تصح توبتها، وإن لم تجبه فقد تابت وقالت
طائفة: هذا الامتحان
|
ص -328-
|
فيه طلب الفاحشة
منها، وقد تنقض التوبة، وقد تأمره نفسه بتحقيق فعل الفاحشة ويزين لهما الشيطان
ذلك؛ ولا سيما إن كان يحبها وتحبه، وقد تقدم له معها فعل الفاحشة مرات وذاقته
وذاقها، فقد تنقض التوبة ولا تخالفه فيما أراده منها
ومن قال بالأول قال: الأمر الذي يقصد به امتحانها لا يقصد به نفس الفعل، فلا
يكون أمرًا بما نهي الله عنه، ويمكنه ألا يطلب الفاحشة، بل يعَرِّض بها وينوي
شيئًا آخر، والتعريض للحاجة جائز، بل واجب في مواضع كثيرة، وأما نقضها توبتها
فإذا جاز أن تنقض التوبة معه جاز أن تنقضها مع غيره، والمقصود أن تكون ممتنعة
ممن يراودها، فإذا لم تكن ممتنعة منه لم تكن ممتنعة من غيره
وأما تزيين الشيطان له الفعل فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد
فيه محبته، فإذا أراد الإنسان أن يصاحب المؤمن، أو أراد المؤمن أن يصاحب أحدًا
وقد ذكر عنه الفجور وقيل: إنه تاب منه، أو كان ذلك مقولا عنه سواء كان ذلك
القول صدقا أو كذبا؛ فإنه يمتحنه بما يظهر به بره أو فجوره وصدقه أو كذبه، وكذلك
إذا أراد أن يولي أحدًا ولاية امتحنه؛ كما أمر عمر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن
ابن أبي موسي لما أعجبه سمته، فقال له: قد علمت مكاني عند أمير المؤمنين فكم
تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك؟
|
ص -329-
|
فبذل له مالا
عظيما، فعلم عمر أنه ليس ممن يصلح للولاية، وكذلك في المعاملات، وكذلك الصبيان
والمماليك الذين عرفوا أو قيل عنهم الفجور وأراد الرجل أن يشتريه بأنه يمتحنه،
فإن المخنث كالبغي، وتوبته كتوبتها ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات
الناس، وتارة تكون بالجرح والتعديل، وتارة تكون بالاختبار والامتحان
فصل
وكما عظم الله الفاحشة عظم ذكرها بالباطل وهو القذف، فقال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} [النور: 4]، ثم ذكر رمي الرجل امرأته، وما أمر فيه من
التلاعن، ثم ذكر قصة أهل الإفك، وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف المكذوب عليه،
وما فيه من الإثم للقاذف، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم
من المؤمنين الخير، ويقولون: هذا إفك مبين؛ لأن دليله كذب ظاهر، ثم أخبر أنه
قول بلا حجة، فقال: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ
اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
[النور: 13]، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به
|
ص -330-
|
وقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15]، فهذا بيان لسبب العذاب، وهو تلقي الباطل
بالألسنة والقول بالأفواه، وهما نوعان محرمان: القول بالباطل، والقول بلا علم
ثم قال سبحانه: {وَلَوْلَا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ
هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]
فالأول تحضيض على الظن الحسن، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف ففي الأول قوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، ويقول النبي صلي
الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب
الحديث"، وكذا قوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ
خَيْرًا} [النور: 12]، دليل على حسن مثل هذا
الظن الذي أمر الله به، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم قال
لعائشة: "ما أظن فلانا وفلانا يدريان من أمرنا
هذا شيئًا" فهذا يقتضي جواز بعض الظن كما احتج
البخاري بذلك، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الوازع له عن فعل
الفاحشة، يجب أن يظن به الخير دون الشر
وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان، ونهي عن أن يقول الإنسان ما ليس له به
علم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والله
تعالى جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ما لم يجعله في شيء من المعاصي؛
لأنه جعل فيها الرجم،وقد رجم هو تعالى قوم
|
ص -331-
|
لوط إذ كانوا هم
أول من فعل فاحشة اللواط، وجعل العقوبة على القذف بها ثمانين جلدة، والرمي
بغيرها فيه الاجتهاد، ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين عند كثير منهم،
كما قال على: لا أوتي بأحد يفَضِّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري
وكما قال عبد الرحمن بن عوف: إذا شرب هذي، وإذا هذي افتري، وحد الشرب ثمانون،
وحد المفتري ثمانون
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الآية}
[النور: 19] وهذا ذم لمن يحب ذلك، وذلك يكون بالقلب فقط ويكون مع ذلك
باللسان والجوارح، وهو ذم لمن يتكلم بالفاحشة أو يخبر بها محبة لوقوعها في
المؤمنين؛ إما حسدًا أو بغضًا، وإما محبة للفاحشة وإرادة لها، وكلاهما محبة
للفاحشة وبغضًا للذين آمنوا، فكل من أحب فعلها ذكرها
وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها، وكذلك ذكرها غيبة محرمة سواء كان
بنظم أو نثر، وكذلك التشبه بمن يفعلها منهي عنه؛ مثل الأمر بها، فإن الفعل يطلب
بالأمر تارة، وبالإخبار تارة، فهذان الأمران لفجرة الزناة اللوطية؛ مثل ذكر قصص
الأنبياء والصالحين للمؤمنين، أولئك يعتبرون من الغيرة بهم، وهؤلاء يعتبرون من
الاغترار، فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص
|
ص -332-
|
أشباههم ما يكون
به لهم فيهم قدوة وأسوة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:
6]، قيل: أراد الغناء، وقيل: أراد قصص الملوك من الكفار من الفرس
وبالجملة، كل ما رَغَّبَ النفوس في طاعة الله ونهاها عن معصيته من خبر أو أمر
فهو من طاعته، وكل ما رَغَّبَها في معصيته ونهي عن طاعته فهو من معصيته، فأما
ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة؛ مثل النهي عنها وعنهم والذم
لها ولهم، وذكر ما يبغضها وينفر عنها، وذكر أهلها مطلقًا حيث يسوغ ذلك، وما يشرع
لهم من الذم في وجوههم ومغيبهم؛ فهذا كله حسن يجب تارة، ويستحب أخري، وكذلك ما
يدخل فيها من وصفها ووصف أهلها من العشق على الوجه المشروع الذي يوجب الانتهاء
عما نهي الله عنه، والبغض لما يبغضه
وهذا كما أن الله قص علينا في القرآن قصص الأنبياء والمؤمنين والمتقين، وقصص
الفجار والكفار؛ لنعتبر بالأمرين؛ فنحب الأولين وسبيلهم ونقتدي بهم، ونبغض
الآخرين وسبيلهم ونجتنب فعالهم
وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين من ذكر الفاحشة
|
ص -333-
|
وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة، قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، إلى آخر القصة في مواضع من كتابه فهذا لوط
خاطب أهل الفاحشة وهو رسول الله بتقريعهم بها بقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}
وهذا استفهام إنكار ونهي، إنكار ذم، ونهي، كالرجل يقول للرجل: أتفعل كذا
وكذا؟ أما تتقي الله؟ ثم قال: {أأَئِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء} [النمل: 55]، وهذا استفهام ثان فيه من الذم والتوبيخ ما
فيه، وليس هذا من باب القذف واللمز
وكذلك قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ
الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 160]، إلى
آخر القصة، فقد واجههم بذمهم وتوبيخهم على فعل الفاحشة، ثم إن أهل الفاحشة
توعدوهم وتهددوهم بإخراجهم من القرية، وهذا حال أهل الفجور إذا كان بينهم من
ينهاهم طلبوا نفيه وإخراجه، وقد عاقب الله أهل الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن
يقصدوا به أهل التقوي؛ حيث أمر بنفي الزاني ونفي المخنث، فمضت سنة رسول الله صلي
الله عليه وسلم بنفي هذا وهذا، وهو سبحانه أخرج المتقين من بينهم عند نزول
العذاب
وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف: {وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ}
إلى قوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
[يوسف: 32 34]، وما ذكره بعد ذلك فمن كلام يوسف من قوله: {مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]،
|
ص -334-
|
{مَا بَالُ
النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب انتهار النفوس
عن معصية الله والتمسك بالتقوي، وكذلك ما بينه في آخر السورة بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي
الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]
ومع هذا فمن الناس والنساء من يحب سماع هذه السورة لما فيها من ذكر العشق وما
يتعلق به؛ لمحبته لذلك ورغبته في الفاحشة، حتي إن من الناس من يقصد إسماعها
للنساء وغيرهن لمحبتهم للسوء، ويعطفون على ذلك، ولا يختارون أن يسمعوا ما في
سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك، حتي قال بعض السلف: كل ما حصلته في سورة
يوسف أنفقته في سورة النور وقد قال تعالى {وَنُنَزِّلُ
مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ثم قال: {وَلاَ يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}
[الإسراء: 82] وقال: {وَإِذَا مَا
أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى
رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}
[التوبة: 124، 125] فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة، ويبغض
سماع ذلك إعراضًا عن دفع هذه المحبة وإزالتها، فهو مذموم
ومن هذا الباب ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في معصية الله
وصد عن سبيل الله
|
ص -335-
|
ومن هذا الباب
سماع كلام أهل البدع والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ويدعوه إلى سبيلهم وإلى معصية
الله، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات، والله تعالى ذم هؤلاء في مثل
قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وفي
مثل قوله: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، ومثل
قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن
تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ الآية} [الشعراء: 221]، وما بعدها، ومثل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ
بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}
[المؤمنون: 76]، ومثل قوله:
{وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ
سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}
[الأعراف: 146]، ومثل قوله: {وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ الآية} [الأنعام: 116]
ومثل هذا كثير في القرآن، فأهل المعاصي كثيرون في العالم، بل هم أكثر، كما قال
تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي
الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ}
الآية وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما لا يعلمه إلا
الله،وأهلها يدعون الناس إليها، ويقهرون من يعصيهم، ويزينونها لمن يطيعهم فهم
أعداء الرسل وأندادهم، فرسل الله يدعون الناس إلى طاعة الله ويأمرونهم بها
بالرغبة والرهبة، ويجاهدون عليها، وينهونهم عن معاصي الله، ويحذرونهم منها
بالرغبة والرهبة، ويجاهدون من يفعلها وهؤلاء يدعون الناس إلى معصية الله
|
ص -336-
|
ويأمرونهم بها
بالرغبة والرهبة قولا وفعلا، ويجاهدون على ذلك قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، ثم
قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ} [التوبة: 71]، وقال تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}
[النساء: 76]
ومثل هذا في القرآن كثير، والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به،
والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه، وقد أوجب
الله علىنا فعل المعروف وترك المنكر، فإن حب الشيء وفعله وبغض ذلك وتركه لا يكون
إلا بعد العلم بهما، حتي يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر، فإن ذلك مسبوق
بعلمه، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ولا فعل ولا ترك، لكن فعل
الشيء والأمر به يقتضي أن يعلم علمًا مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به
مفصلا
ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات؛ مثل صفة الصلاة،
والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف
|
ص -337-
|
والنهي عن المنكر،
إذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها، فكما أنا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم
الطاعة فلا نكون مطيعين إلا إذا لم نعلم وجودها، بل الجهل بوجودها كالعلم
بعدمها، وكون كل منهما معصية، فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع
الأموال الربوية بعضها بجنسه، فإن لم نعلم المماثلة كان كما لو علمنا المفاضلة
وأما معرفة ما يتركه وينهي عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملاً،
فالإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره، وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك،
وإلي الجواب عما يعارض به أصحابها من الحجج، وإلي دفع أهوائهم وإراداتهم، وذلك
يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك، وذلك لا يكون إلا بالصبر، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [ سورة العصر]
وأول ذلك أن نذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي
عنها وبيان ما فيها من الفساد، فإن الإنكار بالقلب واللسان قبل الإنكار باليد،
وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والفساق والعصاة من أقوالهم
وأفعالهم؛ يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها وبيان فسادها وضدها
والتحذير منها، كما أن فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان، ومن فيهم من أنبيائه
وأوليائه على وجه المدح والحب، وبيان صلاحه ومنفعته، والترغيب فيه،وذلك نحو قوله
تعالى:
|
ص -338-
|
{وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، {وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ
هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن
يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}
[مريم: 88 95]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِالآيات}
[التوبة: 30]
وهذا كثير جدًا، فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم؛ إما كافر، وإما فاجر بحسب
قوله وفعله، وليس منهم من هو بعكسه، وليس عليه عذاب في تركه؛ لكنه لا يثاب على
مجرد عدم ذلك، وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته، وذلك مسبوق بالعلم بقبح
ذلك وبغضه لله، وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه، وهو
أدني الإيمان؛ كما قال النبي صلي الله عليه وسلم:
"من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده"
إلى آخره، وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته وذلك لا يكون إلا بعد العلم به
وبقبحه، ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان، ثم يكون باليد، والنبي صلي الله عليه
وسلم قال: "وذلك أضعف الإيمان" فيمن رأي المنكر
فأما إذا رآه فلم يعلم أنه منكر ولم يكرهه لم يكن هذا الإيمان موجودًا في القلب
في حال وجوده ورؤيته؛ بحيث يجب بغضه
|
ص -339-
|
وكراهته، والعلم
بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا، وإذا لم يكن المنكر موجودًا لم
يجب ذلك، ويثاب من أنكره عند وجوده، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتي ينكره، وكذلك
ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال المنكرات قد يعرض عنها كثير من الناس
إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات، فليسوا من المجاهدين الذين
يجاهدون في إزالتها، حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
فتدبر هذا، فإنه كثيرًا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران بغض الكفر
وأهله، وبغض الفجور وأهله، وبغض نهيهم وجهادهم، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب
أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال؛ وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ
تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ
اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ
اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقوله: {لَا
تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} الآية
[المجادلة: 22]
|
ص -340-
|
وكثير من الناس، بل أكثرهم كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من
كراهتهم للمنكرات؛ لا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات فربما
مالوا إليها تارة وعنها أخري، فتكون نفس أحدهم لَوَّامَةً بعد أن كانت
أَمَّارَةً، ثم إذا ارتقي إلى الحال الأعلى في هجر السيئات، وصارت نفسه مطمئنة
تاركة للمنكرات والمكروهات، لا تحب الجهاد ومصابرة العدو على ذلك، واحتمال ما
يؤذيه من الأقوال والأفعال، فإن هذا شيء آخر داخل في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ
أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ
اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} الآيات، إلى قوله:
{وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} [النساء: 77 85]، والشفاعة: الإعانة؛ إذ المعين قد صار
شفعًا للمعان، فكل من أعان على بر أو تقوي كان له نصيب منه، ومن أعان على الإثم
والعدوان كان له كِفْلٌ منه، وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم
وأيديهم من الإعانة على البر والتقوي، والإعانة على الإثم والعدوان، ومن ذلك
الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين، كما قال تعالى قبل ذلك: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ
انفِرُواْ جَمِيعًا} إلى قوله: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 71، 76]
|
ص -341-
|
ومن هنا يظهر الفرق
في السمع والبصر: من الإيمان وآثاره، والكفر وآثاره، والفرق بين المؤمن البر
وبين الكافر والفاجر، فإن المؤمنين يسمعون أخبار أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على
وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم، كرؤية الصحابة
النبي صلي الله عليه وسلم، وسمعهم لما بلغه عن الله، والكافر والمنافق يسمع ويري
على وجه البغض والجهل، كما قال تعالى: {وَإِن
يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا
الذِّكْرَ} [القلم: 51]، وقال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:
20]، وقال: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ
يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وقال:
{فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ
اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71]، وقال تعالى في حق المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ
يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}
[الفرقان: 73]، وقال في حق الكفار: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، والآيات في هذا كثيرة جدًا
وكذلك النظر إلى زينة الحياة الدنيا فتنة، فقال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:
131]، وفي التوبة: {فَلاَ تُعْجِبْكَ
أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ الآية} [التوبة:
55]، وقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ الآية} [النور:
30]، وقال: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، وقال:
|
ص -342-
|
{أَفَلَا
يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْالآيات} [الغاشية: 17]، وقال: {قُلِ
انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، وقال: {أَفَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء
وَالْأَرْضِ الآية} [سبأ: 9]، وكذلك قال الشيطان: {إِنِّي أَرَى مَا
لاَ تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، وقال:
{ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ الآيات} [الشعراء: 61]، وقال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي
مَنَامِكَ قَلِيلاً الآية} [الأنفال: 43]
فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها منهي عنه، والنظر
إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه
وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك
وإزالته فمأمور به، وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة، فالعين الواحدة ينظر
إليها نظرا مأمورًا به؛ إما للاعتبار، وإما لبغض ذلك والنظر إليه لبغض الجهاد
منهي عنه، وكذلك الموالاة والمعاداة؛ وقد تحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه وهو يظن
أنه نظر عبرة، وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة، كالذين قال الله تعالى
فيهم: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي
وَلاَ تَفْتِنِّي الآية} [التوبة: 49]،
فإنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلي الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو
الروم فقال: إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم فائذن لي في القعود،
قال تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]
|
ص -343-
|
فهذا ونحوه مما
يكون باللسان من القول، وأما ما يكون من الفعل بالجوارح، فكل عمل يتضمن محبة أن
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخل في هذا، بل يكون عذابه أشد، فإن الله قد توعد
بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه
المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل، فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على
الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين
آمنوا، ومن رضي عمل قوم حُشِرَ معهم، كما حُشِرَت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل
فاحشة اللواط، فإن ذلك لا يقع من المرأة؛ لكنها لما رضيت فعلهم عمها العذاب
معهم
فمن هذا الباب، قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها؛ مثل القَوَّاد الذي يقود
النساء والصبيان إلى الفاحشة؛ لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل
الصناعات التي تنفق بذلك؛ مثل المغنين، وشَرَبَة الخمر، وضمان الجهات السلطانية
وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة؛ ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين،
بخلاف ما إذا كانت قليلة خفيفة خفية، ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعو إلى
معصية الله وينهي عن طاعته منهي عنه محرم، بخلاف عكسه فإنه واجب، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}
[العنكبوت: 45]، أي: إن ما فيها من طاعة الله وذكره وامتثال أمره أكبر من
ذلك
|
ص -344-
|
وقال في الخمر
والميسر: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ
اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 91]،
أي: يوقعهم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم المنكرات
التي تنهي عنه الصلاة، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر كما هو الواقع، فإن شارب
الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما، فالله تعالى لم يذكر الجماع؛
لأن الخمر لا تدعو إلى الحرام بعينه من الجماع، فيأتي شارب الخمر ما يمكنه من
الجماع، سواء كان حلالا أو حرامًا، والسكر يزيل العقل الذي كان يميز السكران به
بين الحلال والحرام، والعقل الصحيح ينهي عن مواقعة الحرام، ولهذا يكثر شارب الخمر
من مواقعة الفواحش ما لا يكثر من غيرها حتي ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه،
وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه، ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالباطل:
من سرقة، ومحاربة، وغير ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغيره
من فواحش وغناء
وشرب الخمر يظْهِرُ أسرار الرجال حتي يتكلم شاربه بما في باطنه، وكثير من الناس
إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار يسقونهم الخمر، وربما يشربون
معهم ما لا يسكرون به
وأيضًا، فالخمر تصد الإنسان عن علمه وتدبيره ومصلحته في معاشه ومعاده، وجميع
أموره التي يدبرها برأيه وعقله، فجميع الأمور التي تصد
|
ص -345-
|
عنها الخمر من
المصالح وتوقعها من المفاسد داخلة في قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 91]
وكذلك، إيقاع العداوة والبغضاء هي منتهي قصد الشيطان؛ ولهذا قال النبي صلي الله
عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة
والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟"
قالوا: بلي يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين، فإن
إفساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول : تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الفواحش والظلم وغير ذلك
من الذنوب توقع العداوة والبغضاء، وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من معصية الله،
والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها، ولا يرضي بغاية ما قدر على
ذلك
وأيضًا، فالعداوة والبغضاء شر محض لا يحبها عاقل؛ بخلاف المعاصي فإن فيها لذة
كالخمر والفواحش؛ فإن النفوس تريد ذلك، والشيطان يدعو إليها النفوس حتي يوقعها
في شر لا تهواه ولا تريده، والله تعالى قد بين ما يريده الشيطان بالخمر والميسر
ولم يذكر ما يريده الإنسان، ثم قال في سورة النور: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}
[النور: 21]،
|
ص -346-
|
وقال في سورة
البقرة: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169]، فنهي عن اتباع خطواته وهو اتباع أمره
بالاقتداء والاتباع وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا
علم، وقال فيها: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ
الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ
وَفَضْلاً} [البقرة: 268]،
فالشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر والسوء، والله يعد المغفرة
والفضل،ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وينهي عن الفحشاء والمنكر
والبغي، وقال عن نبيه: {يَأْمُرُهُم
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
[الأعراف: 157]، وقال عن أمته: {يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71]
وذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي، وتارة يقرنه
بالفحشاء، وتارة يقرن معهما البغي، وكذلك المعروف: تارة يخصه بالأمر، وتارة
يقرن به غيره كما في قوله تعالى: {لاَّ
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}
[النساء: 114]، وذلك لأن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد
والتركيب؛ كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد كان عامًا لما يدلان عليه
عند الاقتران؛ بخلاف اقترانهما فإنه يكون معنى كل
|
ص -347-
|
منهما ليس هو
معنى الآخر، بل أخص من معناه عند الإفراد، وأيضًا، فقد يعطف على الاسم العام بعض
أنواعه على سبيل التخصيص، ثم قد قيل: إن ذلك المخصص يكون مذكورًا بالمعني العام
والخاص
فإذا عرف هذا، فاسم "المنكر" يعم كل ما كرهه الله ونهي عنه وهو
المبغض،واسم "المعروف" يعم كل ما يحبه اللّه ويرضاه ويأمر به،
فحيث أفردا بالذكر فإنهما يعمان كل محبوب في الدين ومكروه، وإذا قرن المنكر
بالفحشاء فإن الفحشاء مبناها على المحبة والشهوة، و"المنكر" هو
الذي تنكره القلوب، فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول في
المنكر، وإن كانت مما تنكرها القلوب فإنها تشتهيها النفوس،
و"المنكر" قد يقال: إنه يعم معني الفحشاء، وقد يقال: خصت لقوة
المقتضي لما فيها من الشهوة، وقد يقال: قصد بالمنكر ما ينكر مطلقا والفحشاء
لكونها تشتهي وتحب، وكذلك "البغي" قرن بها؛ لأنه أبعد عن محبة
النفوس
ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء، ومنشؤه من قوة الغضب،
كما أن الفحشاء منشؤها عن قوة الشهوة، ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها،
فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر، وأما الإشراك والقول على اللّه بلا علم فإنه
منكر
|
ص -348-
|
محض ليس في
النفوس ميل إليهما؛ بل إنما يكونان عن عناد وظلم، فهما منكر وظلم محض بالفطرة
فهذه الخصال فساد في القوة العلمية والعملية، فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر،
ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، سواء كان الضمير عائداً إلى
الشيطان، أو إلى من يتبع خطوات الشيطان، فإن من أتي الفحشاء والمنكر سواء، فإن
كان الشيطان أمره فهو متبعه مطيعه عابد له، وإن كان الآتي هو الآمر فالأمر
بالفعل أبلغ من فعله، فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان، والمغني هو مُؤَذِّنُه الذي
يدعو إلى طاعته، فإن الغناء رُقْيةُ الزنا، وكذلك من اتباع خطوات الشيطان القول
على اللّه بلا علم {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، وهذه حال أهل البدع والفجور، وكثير ممن
يستحل مؤاخاة النساء والمردان وإحضارهم في سماع الغناء، ودعوي محبة صورهم لله،
وغير ذلك مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين
ثم إنه سبحانه نهي المظلوم بالقذف أن يمنع ما ينبغي له فعله من الإحسان إلى ذوي
قرابته، والمساكين، وأهل التوبة، وأمره بالعفو
|
ص -349-
|
والصفح؛ فإنهم
كما يحبون أن يغفر اللّه لهم فليعفوا وليصفحوا وليغفروا، ولا ريب أن صلة الأرحام
واجبة، وإيتاء المساكين واجب، وإعانة المهاجرين واجب، فلا يجوز ترك ما يجب من
الإحسان للإنسان بمجرد ظلمه وإساءته في عرضه، كما لا يمنع الرجل ميراثه وحقه من
الصدقات والفيء بمجرد ذنب من الذنوب، وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب
وفي الآية دلالة على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون
بفرض ولا تعصيب فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك أن أبا بكر الصديق
حلف ألا ينفق على مِسْطَح بن أثاثة، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة،
وكانت أم مِسْطَح بنت خالة أبي بكر، وقد جعله اللّه من ذوي القربي الذين نهي عن
ترك إيتائهم، والنهي يقتضي التحريم، فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل كان الفعل
واجباً؛ لأن الحلف على ترك الجائز جائز
فَصل
قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وقال
فيها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]،
|
ص -350-
|
{ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وقال فيها: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 13]، فذكر عدد الشهداء وأطلق صفتهم، ولم يقيدهم
بكونهم منا ولا ممن نرضي ولا من ذوي العدل، كما قيد صفة الشهداء في غير هذا
الموضع
ولهذا تنازع العلماء،هل شهادة الأربعة التي يجب بها الحد على
الزاني، مثل شهادة أهل الفسوق والعصيان وغيرهم؟ هل تدرأ الحد عن القاذف؟ على
قولين في مذهب أحمد:
أحدهما: أنها تدرأ الحد عن القاذف وإن لم توجب حد الزنا على
المقذوف، كشهادة الزوج على امرأته أربع شهادات باللّه، فإن ذلك يدرأ حد القذف
ولا يجب الحد على امرأته لمجرد ذلك؛ لأنها تدفع العذاب عنها بشهادتها أربع
شهادات، ولو لم تشهد فهل تحد أو تحبس حتي تقر أو تلاعن أو يخلي سبيلها؟ فيه
نزاع مشهور بين العلماء، فلا يلزم من درء الحد عن القاذف وجوب حد الزنا على
المقذوف؛ فإن كلاهما حد، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، والأربع شهادات للقاذف
شُبْهَة قوية، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثاً دُرِئ الحد عن القاذف،
ولم يجب الحد عنها عند أكثر العلماء، ولو كان المقذوف غير محصن مثل أن يكون
مشهوراً بالفاحشة لم يحد قاذفه حد القذف، ولم يحد هو حد الزنا لمجرد الاستفاضة،
|
ص -351-
|
وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد، وقد اعتبر نصاب حد الزنا
بأربعة شهداء
وكذلك تعتبر صفاتهم، فلا يقام حد الزنا على مسلم إلا بشهادة
مسلمين،لكن يقال: لم يقيدهم بأن يكونوا عدولا مرضيين، كما قيدهم في آية الدين
بقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاء} [البقرة: 282]،
وقال في آية الوصية: {اثْنَانِ ذَوَا
عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 106]،
وقال في آية الرجعة: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، فقد أمرنا اللّه سبحانه بأن نحمل الشهادة
المحتاج إليها لأهل العدل والرضا، وهؤلاء هم الممتثلون ما أمرهم اللّه به بقوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا
فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ الآية} [النساء: 135]، وفي قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وقوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]، وقوله: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة: 282]، وقوله : وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]، فهم يقومون بالشهادة بالقسط للّه فيحصل
مقصود الذي استشهده
الوجه الثاني: أن كون شهادتهم مقبولة مسموعة، لأنهم أهل
العدل والرضا فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء، وقد نهي سبحانه عن قبول
شهادة الفاسق بقوله: {إِن جَاءكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا الآية}
[الحجرات: 6]، لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره،
|
ص -352-
|
وأما الفاسقان فصاعداً فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخري، وما
ذكروه من عدد الشهود لا يعتبر في الحكم باتفاق العلماء في مواضع، وعند جمهورهم
قد يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك، ويحكم بشاهد ويمين كما
مضت سنة رسول اللّه صلي الله عليه وسلم فإنه قضي بشاهد ويمين، رواه أبو داود وغيره
من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم من حديث ابن عباس: "أن رسول اللّه صلي
الله عليه وسلم قضي بشاهد ويمين" ورواه غيرهما، ويدل على هذا أن اللّه لم
يعتبر عند الأداء هذا القيد: لا في آية الزنا ولا في آية القذف،بل قال: {فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} [النساء: 15]، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 4]، وإنما
أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد؛ ولم يأمر به عند خبر الفاسقين، فإن خبر
الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد؛ ولهذا قال العلماء: إذا
استراب الحاكم في الشهود فَرَّقَهُم وسألهم عن مكان الشهادة وزمانها وصفتها
وتحملها، وغير ذلك مما يتبين به اتفاقهم واختلافهم
وقوله تعالى:
{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، فهذا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل لهم شهادة
أبداً، واحداً كانوا أو عدداً، بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل؛
لأن الآية نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير، وكان
الذين قذفوا
|
ص -353-
|
عائشة عدداً، ولم يكونوا واحداً لما رأوها قد قدمت} [في] صحبة
صفوان ابن المعَُطَّل السُّلَمي بعد قفول العسكر، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها
عدمت، فرفع أصحاب الهودج هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ولم تكن فيه، فلما رجعت
لم تجد أحداً من الجيش فمكثت مكانها، وكان صفوان قد تَخَلَّفَ وراء الجيش، فلما
رآها أعرض بوجهه عنها، وأناخ راحلته حتي ركبتها، ثم ذهب بها إلى العسكر، فكانت
خلوته بها للضرورة، كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة، كسفر الهجرة؛
مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط مهاجرة وقصة عائشة
وقد دلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا
متفرقين
ودلت أيضاً على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب
الجمهور؛ فإنه كان من جملتهم مِسْطَح بن أُثَاثَة وحسان بن ثابت كما في الصحيح
عن عائشة، وكان منهم حِمْنَةُ بنت جحش وغيرها، ومعلوم أنه لم يرد النبي صلي الله
عليه وسلم ولا المسلمون بعده شهادة أحد منهم؛ لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن
ببراءتها، ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن، وهؤلاء ما زالوا مسلمين،
وقد نهي اللّه عن قطع صلتهم ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض
رد عمر شهادة أبي بكرة، وقصة عائشة كانت أعظم من قصة المغيرة، لكن من
|
ص -354-
|
رد شهادة القاذف بعد التوبة قد يقول: أرد شهادة من حد في القذف
وهؤلاء لم يحدوا
والأولون يجيبون بأجوبة:
أحدها: أنه قد روي في السنن أن النبي صلي الله عليه وسلم حد
أولئك
والثاني: أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن، وهم لا
يقولون به كما هو مقرر في موضعه
والثالث: أن الذين اعتبروا الحد اعتبروه، وقالوا: قد يكون
القاذف صادقاً وقد يكون كاذباً، فإعراض المقذوف عن طلب حد القذف قد يكون لصدق
القاذف، فإذا طلب الحد ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه، ومعلوم أن الذين
قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد؛ فإن اللّه هو الذي برأها بكلامه
الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلي، فإذا كانت شهادتهم بعد توبتهم مقبولة، فشهادة
غيرهم ممن شهد على غيرها بالقذف أولي بالقبول، وقصة عمر بن الخطاب التي حكم فيها
بين المهاجرين والأنصار في شأن المغيرة، لما شهد عليه ثلاثة بالزنا وتوقف الرابع
عن الشهادة فجلد أولئك الثلاثة، ورد شهادتهم دليل على الفصلين جميعاً، كما دلت
قصة عائشة على قبول شهادتهم بعد التوبة والجلد، لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل
عمر
|
ص -355-
|
والمسلمون شهادتهما، والثالث: وهو أبو بكرة مع كونه من أفضلهم
لم يتب، فلما لم يتب لم يقبل المسلمون شهادته، وكان من صالحي المسلمين، وقد قال
عمر: تب أقْبَلُ شهادتك، لكن إذا كان القرآن قد بين أن القَذَفَةِ إن لم يأتوا
بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبداً، ثم قال بعد ذلك: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } [النور: 4، 5]، فمعلوم أن قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وصف ذم لهم زائد على ما ذكره من رد شهادتهم
وأما تفسير "العدالة" المشروطة في هؤلاء
الشهداء: فإنها الصلاح في الدين والمروءة، والصلاح في أداء الواجبات، وترك
الكبيرة، والإصرار على الصغيرة و"الصلاح في المروءة": استعمال
ما يجَمِّله ويزَينُه واجتناب ما يدَنِّسَه ويشينه، فإذا وجد هذا في شخص كان
عدلا في شهادته، وكان من الصالحين الأبرار وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية أو
رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتي يكون بهذه الصفة، فليس في كتاب اللّه وسنة
رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن
كان المستحبات لم يكملها، ومن كان كذلك كان من أولياء اللّه المتقين
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس
ونحوها، بل قد يجب على الإنسان من حقوق اللّه وحقوق عباده ما لا يحصيه
|
ص -356-
|
إلا اللّه تعالى مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنا،
ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته؛ إما لعدم استشعار كثرة الواجبات، وإما
لالتفاتهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات، وليس الأمر كذلك في الشريعة،
وبالجملة، هذا معتبر في باب الثواب والعقاب، والمدح والذم، والموالاة والمعاداة
وهذا أمر عظيم
وأما قول من يقول: الأصل في المسلمين العدالة فهو باطل، بل
الأصل في بني آدم الظلم والجهل، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] ومجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقال
الإنسان عن الظلم والجهل إلى العدل
و"باب الشهادة": مداره على أن يكون الشهيد
مرضياً أو يكون ذا عدل، يتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله والصدق في شهادته
وخبره، وكثيراً ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات، كما أن الصفات التي
اعتبروها كثيراً ما توجد بدون هذا، كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيراً، لكن
يقال: إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها؛
فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى
الجنة" الحديث إلى آخره
|
ص -357-
|
فالصدق مستلزم للبر كما أن الكذب مستلزم للفجور، فإذا وجد
الملزوم وهو تحري الصدق وجد اللازم وهو البر، وإذا انتفي اللازم وهو البر انتفي
الملزوم وهو الصدق، وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم، وإذا
انتفي اللازم وهو الفجور انتفي الملزوم وهو الكذب، فلهذا استدل بعدم بر الرجل على
كذبه، وبعدم فجوره على صدقه
فالعدل الذي ذكره الفقهاء من انتفي فجوره، وهو إتيان الكبيرة
والإصرار على الصغيرة، وإذا انتفي ذلك فيه انتفي كذبه الذي يدعوه إلى هذا
الفجور، والفاسق هو من عُدِمَ بره، وإذا عدم بره عدم صدقه، ودلالة هذا الحديث
مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور
فالخطأ كالنسيان، والعمد كالكذب واللّه أعلم
|
ص -358-
|
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
في قوله تعالي: {إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، في طرده الكلام على ما يتعلق بهذه الآية
وغيرها فقال: وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
خاصة في قول كثير من أهل العلم، فروي هشيم عن العوام بن حوشب، ثنا شيخ من بني
كاهل، قال: فسر ابن عباس : "سورة النور" فلما أتي على هذه
الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخر الآية [النور: 32]، قال: هذه في شأن عائشة وأزواج
النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة
فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 4، 5]، فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة،
قال: فهمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسره
|
ص -359-
|
وقال أبو سعيد الأشج: حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العوام، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} نزلت في عائشة خاصة، واللعنة في المنافقين عامة، فقد بين ابن
عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين؛ لما في قذفهن من
الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها، كما
هو أذى لابنها؛ لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زنا امرأته
يؤذيه أذى عظيمًا؛ ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت، ودرأ الحد عنه
باللعان، ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال، ولعل ما يلحق بعض الناس من العار
والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف
ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدي الروايتين المنصوصتين عنه:
إلى أن من قذف امرأة محصنة كالأمة والذمية، ولها زوج أو ولد محصن حدَّ لقذفها،
لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين، والرواية الأخري عنه وهي قول
الأكثرين أنه لا حد عليه؛ لأنه أذى لهما لا قذف لهما، والحد التام إنما يجب
بالقذف، وفي جانب النبي صلى الله عليه وسلم أذي، كقذفه، ومن يقصد عيب النبي صلى
الله عليه وسلم بعيب أزواجه فهو منافق، وهذا معني قول ابن عباس: اللعنة في
المنافقين عامة
وقد وافق ابن عباس جماعة، فروي الإمام أحمد والأَشَج عن
خَصِيف
|
ص -360-
|
قال: سألت سعيد بن جبير، فقلت: الزنا أشد أو قذف المحصنة؟
قال: لا، بل الزنا، قال: قلت: فإن الله تعالي يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، فقال: إنما كان هذا في عائشة خاصة، وروي أحمد
بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية: {إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، فقال: هذه الآية
لأمهات المؤمنين خاصة، وروي الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية، قال: هن نساء
النبي صلى الله عليه وسلم، وقال معمر عن الكلبي: إنما عُنِي بهذه الآية أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من رمي امرأة من المسلمين فهو فاسق، كما قال
الله تعالي أو يتوب
ووجه هذا، أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد
القذف، فتكون اللام في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لتعريف المعهود، والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛
لأن الكلام في قصة الإفك، ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة، أو يقصر اللفظ
العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك
ويؤيد هذا القول: أن الله سبحانه رتب هذا الوعيد على قذف
محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول السورة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً الآية} [النور: 4]، فرتب الحد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف
المحصنات،فلابد أن يكون
|
ص -361-
|
المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات؛ وذلك
والله أعلم لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان؛ لأنهن أمهات
المؤمنين، وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة،وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في
الغالب ظاهر الإيمان
ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [النور: 11]،
فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف،
وإنما يمس متولي كبره فقط، وقال هنا: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:
23]، فعلم أن الذي رمي أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم،
وتولي كبر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أبي والله أعلم أنه على هذا القول تكون
هذه الآية حجة أيضًا موافقة لتلك الآية، لأنه لما كان رَمْي أمهات المؤمنين أذى
للنبي صلى الله عليه وسلم لُعِنَ صاحبه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال ابن عباس:
ليس فيها توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته، أو يريد إذا
تاب من القذف حتي يسلم إسلامًا جديدًا، وعلي هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد
به أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما
بغت امرأة نبي قط
|
ص -362-
|
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، ما خرجاه
في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو على المنبر : "يا معشر المسلمين
من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا
خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا
معي" فقام سعد بن معاذ
الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن
كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج
وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتلنه
ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن
عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار
الحيان الأوس والخزرج حتي هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم
على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتي سكتوا وسكت وفي
رواية أخري صحيحة أن هذه الآية في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة
ويقول آخرون: يعني أزواج المؤمنين عامة، وقال أبو سلمة: قذف
|
ص -363-
|
المحصنات من الموجبات، ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية [النور:
23]،وعن عمر بن قيس قال: قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة، رواهما الأشج، وهذا
قول كثير من الناس
ووجهه ظاهر الخطاب، فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه؛ إذ لا
موجب لخصوصه، وليس هو مختصًا بنفس السبب بالاتفاق؛ لأن حكم غير عائشة من أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم داخل في العموم، وليس هو من السبب؛ ولأنه لفظ جمع
والسبب في واحدة هنا؛ ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة
الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقصر على سببه، والفرق
بين الآيتين: أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من
الجلد ورد الشهادة والتفسيق، وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة
في الدارين والعذاب العظيم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن
أصحابه: "إن قذف المحصنات من الكبائر"، وفي لفظ في الصحيح: "قذف
المحصنات الغافلات المؤمنات"
ثم اختلف هؤلاء فقال أبو حمزة الثُّمَالي: بلغنا أنها نزلت
في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فكانت
المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
|
ص -364-
|
مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر،
فعلي هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدهن به عن الإيمان، ويقصد بذلك ذم
المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام، كما فعل كعب بن الأشرف، وعلي هذا فمن فعل ذلك
فهو كافر، وهو بمنزلة من سب النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله: إنها نزلت زمن العهد، يعني والله أعلم : أنه عني بها
مثل أولئك المشركين المعاهدين، وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك، وكان الإفك في
غزوة بني المصطلق قبل الخندق، والهدنة كانت بعد ذلك بسنين، ومنهم من أجراها على
ظاهرها وعمومها؛ لأن سبب نزولها قذف عائشة، وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق، وسبب
النزول لابد أن يندرج في العموم؛ ولأنه لا موجب لتخصيصها
والجواب على هذا التقدير: أنه سبحانه قال هنا: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، على بناء الفعل للمفعول ولم يسَمَّ اللاعن،
وقال في الآية الأخري:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
[الأحزاب: 57]، وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة
والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت، وجاز أن الله
يتولي لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنًا في الدين، ويتولي خلقه لعنة الآخرين،
وإذا كان اللاعن مخلوقًا فلعنه قد يكون بمعنى
|
ص -365-
|
الدعاء عليهم، وقد يكون بمعني أنهم يبعدونهم عن رحمة الله
ويؤيد هذا، أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في
الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبًا
في القذف أن يلعنه الله، كما أمر الله رسوله أن يباهل مَنْ حاجه في المسيح بعد
ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فهذا مما يلعن به
القاذف، ومما يلعن به أن يجلد، وأن ترد شهادته، ويفسق، فإنه عقوبة له وإقصاء له
عن مواطن الأمن والقبول، وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في
الدنيا والآخرة، فإن لعنة الله له توجب زوال النصر عنه من كل وجه، وبعده عن
أسباب الرحمة في الدارين
ومما يؤيد الفرق أنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا
في حق الكفار، كقوله: {الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ
اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 37]، وقوله: {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102]،
وقوله: {فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ
عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90]،
{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178]، {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج: 57]،
|
ص -366-
|
{وَإِذَا عَلِمَ
مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
مُّهِينٌ} [الجاثية: 9]، {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُّهِينٌ} [المجادلة: 5]،V {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
[المجادلة: 16] وأما قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14]، فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها،
على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له
وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدًا للمؤمنين في قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[الأنفال: 68]، وقوله: {وَلَوْلَا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، وفي المحارب: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]،
وفي القاتل: {وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقوله: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ
فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ
عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]، وقد قال سبحانه: {وَمَن يُهِنِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج:
18]، وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي، وذلك قدر زائد على ألم العذاب، فقد
يعذب الرجل الكريم ولا يهان، فلما قال في هذه الآية: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 75]، علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار
والمنافقين، ولما قال هناك: {وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، جاز
أن يكون من جنس العذاب في قوله:
{لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]
|
ص -367-
|
ومما يبين الفرق أيضًا أنه سبحانه قال هناك: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن جهنم لهم
خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين
يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين،
قال سبحانه: {وَاتَّقُواْ النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل
عمران: 131]، فأمر سبحانه المؤمنين ألا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله، وأن
يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا
الربا وفعلوا المعاصي، مع أنها معدة للكافرين لا لهم
ولذلك جاء في الحديث: "أما
أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما أقوام لهم ذنوب
فيصيبهم سفع من النار ثم يخرجهم الله منها" [والسفع: علامة تغير ألوانهم يقال: سفعت الشيء إذا جعلت
عليه علامة، يريد أثرًا من النار]
وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء
والضراء، وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم، ويدخلها قوم بالشفاعة، وقوم
بالرحمة، وينشئ الله لما فضل منها خلقًا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها؛
وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه، ولمن هو أولي الناس به، ثم قد
يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر والله أعلم
|
ص -368-
|
وقال شيخ الإسلام :
فصل
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} إلى قوله: {قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 27 30]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إنما جعل الاستئذان من أجل
النظر" والنظر المنهي عنه هو
نظر العورات ونظر الشهوات وإن لم تكن من العورات
والله سبحانه ذكر الاستئذان على نوعين: ذكر في هذه الآية
أحدهما، وفي الآيتين في آخر السورة النوع الثاني، وهو استئذان الصغار والمماليك،
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ
الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ
جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور: 58]، فأمر
باستئذان الصغار والمماليك حين الاستيقاظ من النوم، وحين إرادة النوم،
|
ص -369-
|
وحين القائلة [وقت القيلولة]؛ فإن في هذه الأوقات تبدو
العورات، كما قال تعالى:
{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}
وفي ذلك ما يدل على أن المملوك المميِّز، والمميز من
الصبيان: ليس له أن ينظر إلى عورة الرجل، كما لا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة
الصبي والمملوك وغيرهما
وأما دخول هؤلاء في غير هذه الأوقات بغير استئذان، فهو مأخوذ
من قوله تعالي: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا
عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ
} [النور: 58]، وفي ذلك دلالة على أن
الطوافين يرخص فيهم ما لا يرخص في غير الطوافين عليكم والطوافات، والطواف من
يدخل بغير إذن كما تدخل الهرة، وكما يدخل الصبي والمملوك، وإذا كان هذا في الصبي
المميز فغير المميز أولي
ويرخص في طهارته، كما قال ذلك طائفة من الفقهاء من أصحاب
أحمد وغيرهم في الصبيان والهرة وغيرهم: أنهم إن أصابتهم نجاسة أنها تطهر بمرور
الريق عليها، ولا تحتاج إلى غسل؛ لأنهم من الطوافين، كما أخبر به الرسول في
الهرة مع علمه أنها تأكل الفأرة، ولم تكن بالمدينة مياه تردها السنانير
[السنانير: الهر، والأنثي سنورة]، ليقال: طهر فمها بورودها الماء، فعلم أن
طهارة هذه الأفواه لا تحتاج إلى غسل، فالاستئذان في أول السورة قبل دخول
|
ص -370-
|
البيت مطلقًا، والتفريق في آخرها لأجل الحاجة، لأن المملوك
والصغير طواف يحتاج إلى دخول البيت في كل ساعة فشق استئذانه، بخلاف المحتلم
وقال تعالى: {قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى} الآية، إلى قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:
30، 31]، فأمر الله سبحانه الرجال والنساء بالغض من البصر وحفظ الفرج، كما
أمرهم جميعًا بالتوبة، وأمر النساء خصوصًا بالاستتار، وألاَّ يبدين زينتهن إلا
لبعولتهن ومن استثناه الله تعالي في الآية، فما ظهر من الزينة هو الثياب
الظاهرة، فهذا لا جناح عليها في إبدائها إذا لم يكن في ذلك محذور آخر، فإن هذه
لابد من إبدائها، وهذا قول ابن مسعود وغيره، وهو المشهور عن أحمد وقال ابن
عباس: الوجه واليدين من الزينة الظاهرة، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وهو قول
طائفة من العلماء كالشافعي وغيره
وأمر سبحانه النساء بإرخاء الجلابيب لئلا يعرفن ولا يؤذين،
وهذا دليل على القول الأول، وقد ذكر عبيدة السلماني [هو عبيدة بن عمرو السلماني
المرادي الكوفي، الفقيه، أسلم في عام فتح مكة بأرض إلى من، ولا صحبة له، برع في
الفقه وكان ثبتًا في الحديث، وهاجر إلى المدينة في زمان عمر وحضر كثيرًا من
الوقائع، وكان يوازي شريحًا في القضاء توفي في سنة 72ه] وغيره: أن نساء
المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتي لا يظهر إلا عيونهن لأجل
رؤية الطريق، وثبت في الصحيح: أن المرأة المُحْرِمة تنهي عن الانتقاب
والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب
|
ص -371-
|
والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي
ستر وجوههن وأيديهن
وقد نهي الله تعالي عما يوجب العلم بالزينة الخفية بالسمع أو
غيره، فقال: {وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، وقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فلما نزل ذلك عمد نساء المؤمنين إلى خمرهن فشققنهن وأرخينها على
أعناقهن و [الجيب]: هو شق في طول القميص فإذا ضربت المرأة بالخمار على
الجيب سترت عنقها، وأمرت بعد ذلك أن ترخي من جلبابها، والإرخاء إنما يكون إذا
خرجت من البيت، فأما إذا كانت في البيت فلا تؤمر بذلك، وقد ثبت في الصحيح: أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل بصفية قال أصحابه: إن أرخي عليها الحجاب فهي
من أمهات المؤمنين، وإن لم يضرب عليها الحجاب فهي مما ملكت يمينه، فضرب عليه
الحجاب، وإنما ضرب الحجاب على النساء لئلا تري وجوههن وأيديهن
والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أن الحرة تحتجب والأمة تبرز، وكان عمر رضي
الله عنه إذا رأى أمة مختمرة ضربها، وقال أتتشبهين بالحرائر، أي لَكاعَ
[اللكاع: المرأة اللئيمة]، فيظهر من الأمة رأسها ويداها ووجهها
|
ص -372-
|
وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ
مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ
أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن
يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} [النور: 60]،
فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلبابها ولا
تحتجب، وإن كانت مستثنةة من الحرائر لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما
استثني التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم، لعدم الشهوة
التي تتولد منها الفتنة، وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي
من جلبابها وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها
وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء ولا ترك
احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر، والسنة فرقت
بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة
المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثني القرآن من النساء الحرائر
القواعد فلم يجعل عليهن احتجابًا، واستثني بعض الرجال وهم غير أولي الإربة، فلم
يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم، لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأن يستثني بعض
الإماء أولي وأحري، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء
زينتها
وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف، لم
يجز
|
ص -373-
|
إبداء الزينة الخفية له،فالخطاب خرج عاما على العادة، فما خرج عن
العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إلى ها فتنة وجب المنع
من ذلك، كما لو كانت في غير ذلك، وهكذا الرجل مع الرجال والمرأة مع النساء،لو
كان في المرأة فتنة للنساء وفي الرجل فتنة للرجال؛ لكان الأمر بالغض للناظر من
بصره متوجهًا،كما يتوجه إلى ه الأمر بحفظ فرجه، فالإماء والصبيان إذا كن حسانًا
تختشي الفتنة بالنظر إلى هم كان حكمهم كذلك،كما ذكر ذلك العلماء
قال المروزي : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل :
الرجل ينظر إلى المملوك، قال: إذا خاف الفتنة لم ينظر إلى ه، كم نظرة ألقت في
قلب صاحبها البلاء، وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله: رجل تاب، وقال: لو
ضُرِب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية إلا أنه لا يدع النظر، فقال: أي توبة
هذه؟! قال جرير: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: "اصرف بصرك"، وقال ابن
أبي الدنيا: حدثني أبي وسويد قالا: حدثني إبراهيم بن هِراسة، عن عثمان بن
صالح، عن الحسن بن ذكوان، قال: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورًا كصور
النساء، وهم أشد فتنة من العذاري
وهذا الاستدلال والقياس والتنبيه بالأدني على الأعلي، وكان
يقال :
|
ص -374-
|
لا يبيت الرجل في بيت مع الغلام الأمرد، وقال ابن أبي الدنيا
بإسناده عن أبي سهل الصعلوكي، قال: سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم: اللوطيون
على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل، وقال
إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون مجالسة الأغنياء وأبناء الملوك، وقال: مجالستهم
فتنة إنما هم بمنزلة النساء ووقفت جارية لم ير أحسن وجهًا منها على بشر الحافي
فسألته عن باب حرب، فدلها، ثم وقف عليه غلام حسن الوجه فسأله عن باب حرب، فأطرق
رأسه، فرد عليه الغلام السؤال فغمض عينيه، فقيل له: يا أبا نصر، جاءتك جارية
فسألتك فأجبتها، وجاءك هذا الغلام فسألك فلم تكلمه، فقال: نعم يروي عن سفيان
الثوري أنه قال: مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسي
شيطانيه
وروي أبو الشيخ القزويني بإسناده عن بشر أنه قال: احذروا
هؤلاء الأحداث، وقال فتح الموصلي: صحبت ثلاثين شيخًا كانوا يعدون من الأبدال
كلهم أوصاني عند مفارقتي له: اتق صحبة الأحداث، اتق معاشرة الأحداث وكان
سفيان الثوري لا يدع أمرد يجالسه، وكان مالك بن أنس يمنع دخول المرد مجلسه
للسماع، فاحتال هشام فدخل في غمار الناس مستترًا بهم وهو أمرد فسمع منه ستة عشر
حديثًا، فأخبر بذلك مالك فضربه ستة عشر سوطًا، فقال هشام: ليتني سمعت
|
ص -375-
|
مائة حديث وضربني مائة سوط، وكان يقول: هذا علم إنما أخذناه عن
ذوي اللحي والشيوخ فلا يحمله عنا إلا أمثالهم، وقال يحيي بن معين: ما طمع أمرد
أن يصحبني ولا أحمد بن حنبل في طريق
وقال أبو على الروذباري [هو أبو على أحمد بن محمد بن القاسم
بن منصور الروذباري، الزاهد المشهور الشافعي، كان فقيهًا نحويا حافظًا للأحاديث
عارفًا بالطريقة، له تصانيف كثيرة، وأصله من بغداد، وسكن بمصر وصحب الجنيد حتي
صار أحد أئمة الوقت وشيخ الصوفية، توفي بمصر سنة 322ه]: قال لي أبو العباس
أحمد بن المؤدب: يا أبا علي، من أين أخذ صوفية عصرنا هذا الأنس بالأحداث وقد تصحبهم
السلامة في كثير من الأمور؟ فقال: هيهات قد رأينا من هو أقوي منهم إيمانًا
إذا رأي الحدث قد أقبل نفر منه كفراره من الأسد، وإنما ذاك على حسب الأوقات التي
تغلب الأحوال على أهلها فيأخذها تصرف الطباع، ما أكثر الخطأ، ما أكثر الغلط!
قال الجنيد بن محمد: جاء رجل إلى أحمد بن حنبل معه غلام أمرد حسن الوجه، فقال
له: من هذا الفتي؟! فقال الرجل: ابني، فقال: لا تجئ به معك مرة أخري،
فلامه بعض أصحابه في ذلك، فقال أحمد: على هذا رأينا أشياخنا، وبه أخبرونا عن
أسلافهم
وجاء حسن بن الرازي إلى أحمد ومعه غلام حسن الوجه، فتحدث معه
ساعة، فلما أراد أن ينصرف قال له أحمد: يا أبا علي، لا تمش مع هذا الغلام في
طريق، فقال: يا أبا عبد الله، إنه ابن أختي، قال: وإن كان لا يأثم الناس فيك،
وروي ابن الجوزي بإسناده عن
|
ص -376-
|
سعيد بن المسُيب قال: إذا رأيتم الرجل يلح بالنظر إلى الغلام
الأمرد فاتهموه، وقد روي في ذلك أحاديث مسندة ضعيفة، وحديث مرسل أجود منها، وهو
ما رواه أبو محمد الخلال، ثنا عمر بن شاهين، ثنا محمد بن أبي سعيد المقري، ثنا
أحمد بن حماد المصيصي، ثنا عباس بن مجوز، ثنا أبو أسامة، عن مُجَالد، عن سعيد،
عن الشعبي قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام
أمرد ظاهر الوضاءة، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم وراء ظهره، وقال: "كانت خطيئة داود في النظر" هذا حديث منكر
وأما المسندة فمنها ما رواه ابن الجوزي بإسناده عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من
نظر إلى غلام أمرد بريبة حبسه الله في النار أربعين عامًا"، وروي الخطيب البغدادي بإسناده عن أنس عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "لا تجالسوا أبناء
الملوك، فإن الأنفس تشتاق إلى هم ما لا تشتاق إلى الجواري العواتق"، إلى غير ذلك من الأحاديث الضعيفة
وكذلك المرأة مع المرأة، وكذلك محارم المرأة: مثل ابن زوجها
وابنه وابن أخيها وابن أختها ومملوكها عند من يجعله محرمًا: متي كان يخاف عليه
الفتنة أو عليها توجه الاحتجاب بل وجب وهذه المواضع التي أمر الله تعالي
الاحتجاب فيها مظنة الفتنة، ولهذا قال تعالى:
|
ص -377-
|
{ذَلِكَ أَزْكَى
لَهُمْ} [النور: 30] فقد
تحصل الزكاة والطهارة بدون ذلك لكن هذا أزكي، وإذا كان النظر والبروز قد انتفي
فيه الزكاة والطهارة لما يوجد في ذلك من شهوة القلب واللذة بالنظر، كان ترك
النظر والاحتجاب أولي بالوجوب، ولا زكاة بدون حفظ الفرج من الفاحشة، لأن حفظه
يتضمن حفظه عن الوطء به في الفروج والأدبار ودون ذلك، وعن المباشرة ومس الغير له
وكشفه للغير ونظر الغير إلى ه، فعليه أن يحفظ فرجه عن نظر الغير ومسه
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث بَهْز بن حكيم عن أبيه
عن جده لما قال له: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر، فقال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قال: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها"، قال: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فالله أحق أن يسْتَحْيا منه من الناس" وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تباشر المرأةُ المرأةَ في
شعار واحد، وأن يباشر الرجلُ الرجلَ في شعار واحد ونهي عن المشي عراة ونهي
عن أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وأن تنظر المرأة إلى عورة المرأة وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا
بمئزر" وفي رواية: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل
الحمام إلا بمئزر"
|
ص -378-
|
وقال العلماء: يرخص للنساء في الحمام عند الحاجة، كما يرخص
للرجال مع غض البصر وحفظ الفرج، وذلك مثل أن تكون مريضة أو نفساء، أو عليها غسل
لا يمكنها إلا في الحمام وأما إذا اعتادت الحمام وشق عليها تركه فهل يباح
لها؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: لا يباح، والثاني: يباح، وهو مذهب
أبي حنيفة واختاره ابن الجوزي
وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى
المحرمات فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره
ثيابه، وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان، وذلك أن البيوت
سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين في قوله تعالى: {وَاللّهُ
جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ
أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ
تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، فكل
منهما وقاية من الأذى الذي يكون سمومًا مؤذيا كالحر والشمس والبرد، وما يكون من
بني آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك
وقد ذكر في أول "سورة النحل" أصول النِّعم،
وذكر هنا ما يدفع البرد فإنه من المهلكات، وذكر في أثنائها تمام النِّعم وما
يدفع الحر فإنه من المؤذيات، ثم قال: {كَذَلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]،
|
ص -379-
|
وفي الصحيحين عن أبي هريرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "إذا اطلع في بيتك
أحد ولم تأذن له فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" وهذا الخاص يفسر العام الذي في الصحيح عن عبد الله بن
مُغَفَّل: أنه رأي رجلاً يخذف، قال: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهي عن الخذف، وقال: "إنه لا يصاد به صيد
ولا ينكأ به عدو، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" وفي الصحيحين عن سهل بن سعد: أن رجلاً اطلع في حجرة في باب
النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدري يحك بها رأسه، فقال: "لو أعلم أنك تنظر إلى لطعنت به في عينك؛ إنما جعل
الاستئذان من أجل البصر"
وقد ظن طائفة من العلماء أن هذا من باب دفع الصائل؛ لأن
الناظر معتد بنظره فيدفع كما يدفع سائر البغاة، ولو كان الأمر كما قالوا؛ لدفع
بالأسهل فالأسهل ولم يجز قلع عينه ابتداء إذا لم يذهب إلا بذلك، والنصوص تخالف
ذلك؛ فإنه أباح أن تخذفه حتي تفقأ عينه قبل أمره بالانصراف، وكذلك قوله: "لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك"، فجعل نفس النظر مبيحًا للطعن في العين، ولم يذكر الأمر له
بالانصراف، وهذا يدل على أنه من باب المعاقبة له على ذلك، حيث جني هذه الجناية على
حرمة صاحب البيت فله أن يفقأ عينه بالحصا والمدري
|
ص -380-
|
والنظر إلى العورات حرام، داخل في قوله تعالي: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33]، وفي قوله: {وَلاَ
تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ} [الأنعام: 151]،
فإن الفواحش وإن كانت ظاهرة في المباشرة بالفرج أو الدبر وما يتبع ذلك من
الملامسة والنظر وغير ذلك، وكما في قصة لوط: {أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، {أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}
[النمل: 54]، وقوله: {تَقْرَبُواْ الزِّنَى
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32]،
فالفاحشة أيضًا تتناول كشف العورة وإن لم يكن في ذلك مباشرة، كما قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا
آبَاءنَا} [الأعراف: 28]، وهذه
الفاحشة هي طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله
فيها، إلا الحُمْسَ فإنهم كانوا يطوفون في ثيابهم، وغيرهم إن حصل له ثياب من
الحمس طاف فيها وإلا طاف عريانًا، وإن طاف بثيابه حرمت عليه فألقاها، فكانت تسمي
لقاء، وكذلك المرأة إذا لم يحصل لها ثياب جعلت يدها على فرجها ويدها الأخري على
دبرها وطافت وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو
كله
|
وما
بدا منه فلا أحله
|
وقد سمي الله ذلك فاحشة، وقوله في سياق ذلك: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]،
يتناول كشف العورة أيضًا وإبداءها، ويؤكد ذلك أن إبداء فعل النكاح باللفظ الصريح
يسمي فحشاء وتَفَحُّشًا، فكشف الأعضاء والفعل للبصر ككشف ذلك للسمع،
|
ص -381-
|
وكل واحد من الكشفين يسمي وصفًا، كما قال عليه السلام: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها حتي كأنه ينظر
إليها"، ويقال: فلان يصف
فلانًا وثوب يصف البشرة، ثم إن كل واحد من إظهار ذلك للسمع والبصر يباح للحاجة،
بل يستحب إذا لم يحصل المستحب أو الواجب إلا بذلك، كقول النبي صلى الله عليه
وسلم لماعز: "أنكتها"، وكقوله: "من تعزي بعزاء
الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا"
والمقصود أن الفاحشة تتناول الفعل القبيح وتتناول إظهار
الفعل وأعضاءه، وهذا كما أن ذلك يتناول ما فحش وإن كان بعقد نكاح، كقوله تعالي:
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم
مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا
وَسَاء سَبِيلاً} [النساء: 22]،
فأخبر أن هذا النكاح فاحشة، وقد قيل: إن هذا من الفواحش الباطنة، فظهر أن
الفاحشة تتناول العقود الفاحشة، كما تتناول المباشرة بالفاحشة، فإن قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} يتناول العقد والوطء، وفي قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، عموم لأنواع كثيرة من الأقوال والأفعال،
وأمر تعالي بحفظ الفرج مطلقًا بقوله:
{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:
30]، وبقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ الآيات} [المؤمنون: 5، 6]، وقال: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]، فحفظ الفرج مثل قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ} [التوبة: 112]، وحفظها هو صرفها عما لا يحل
|
ص -382-
|
وأما الأبصار فلابد من فتحها والنظر بها،وقد يفجأ الإنسان ما
ينظر إليه بغير قصد، فلا يمكن غضها مطلقًا؛ ولهذا أمر تعالي عباده بالغض منها،
كما أمر لقمان ابنه بالغض من صوته وأما قوله تعالي:لآ {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ
اللَّهِ} الآية [الحجرات:
3]، فإنه مدحهم على غض الصوت عند رسوله مطلقًا، فهم مأمورون بذلك في مثل ذلك
ينهون عن رفع الصوت عنده صلى الله عليه وسلم، وأما غض الصوت مطلقًا عند رسول
الله صلي الله عليه وآله وسلم فهو غض خاص ممدوح، ويمكن العبد أن يغض صوته مطلقًا
في كل حال، ولم يؤمر العبد به، بل يؤمر برفع الصوت في مواضع؛ إما أمر إيجاب أو
استحباب؛ فلهذا قال: {وَاغْضُضْ مِن
صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، فإن
الغض في الصوت والبصر جماع ما يدخل إلى القلب ويخرج منه، فبالسمع يدخل القلب،
وبالصوت يخرج منه، كما جمع العضوين في قوله: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8، 9]، فبالعين والنظر يعرف القلب الأمور، واللسان
والصوت يخرجان من عند القلب الأمور، هذا رائد القلب وصاحب خبره وجاسوسه، وهذا
ترجمانه
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ
أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة
: 232]، وقال: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]، وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
[الأحزاب: 33] وقال في آية الاستئذان
|
ص -383-
|
{وَإِن قِيلَ
لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]
وقال: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن
وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] وقال: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ
لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم
طهر قلبي من خطاياي بالماء والثلج والبرد"، وقال في دعاء الجنازة: "واغسله
بماء وثلج وبرد، ونقه من خطاياه كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس"
فالطهارة والله أعلم هي من الذنوب التي هي رجس، والزكاة
تتضمن معني الطهارة التي هي عدم الذنوب، ومعني النماء بالأعمال الصالحة: مثل
المغفرة والرحمة، ومثل النجاة من العذاب والفوز بالثواب، ومثل عدم الشر وحصول
الخير، فإن الطهارة تكون من الأرجاس والأنجاس، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقال: {فّاجًتّنٌبٍوا برٌَجًسّ مٌنّ الأّوًثّان } [الحج: 03]، وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ
رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
[المائدة: 90]، وقال عن المنافقين: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة: 95]
وقال عن قوم لوط:
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74]، وقال اللوطية عن لوط وأهله: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]،
قال مجاهد: عن أدبار الرجال، ويقال في دخول الغائط: أعوذ بك من الخبث
والخبائث، ومن الرجس النجس الخبيث
|
ص -384-
|
خبث، وهذه النجاسة تكون من الشرك والنفاق والفواحش والظلم
ونحوها، وهي لا تزول إلا بالتوبة عن ترك الفاحشة وغيرها، فمن تاب منها فقد تطهر،
وإلا فهو متنجس وإن اغتسل بالماء من الجنابة فذاك الغسل يرفع حدث الجنابة، ولا
يرفع عنه نجاسة الفاحشة التي قد تنجس بها قلبه وباطنه، فإن تلك نجاسة لا يرفعها
الاغتسال بالماء، وإنما يرفعها الاغتسال بماء التوبة النصوح المستمرة إلى
الممات
وهذا معني ما رواه ابن أبي الدنيا وغيره: ثنا سويد بن سعيد،
ثنا مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن كثير، عن مجاهد، قال: لو أن الذي يعمل يعني
عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسًا ورواه
ابن الجوزي، وروي القاسم بن خلف [هو أبو عبيد قاسم بن خلف بن فتح بن عبد الله
بن جبير، قاضٍٍ أندلسي، من علماء المالكية، ولد وتفقه في قرطبة، ولي قضاء بلنسية
وطرطوسة زمانًا، له كتاب "في التوسط بين مالك وابن القاسم" فيما
خالف به ابن القاسم مالكًا، ولد سنة 312، وتوفي سجينًا سنة 378ه] في كتاب [ذم
اللواط] بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قال: لو أن لوطيا اغتسل بكل قطرة نزلت
من السماء للقي الله غير طاهر وقد روي أبو محمد الخلال عن العباس الهاشمي ذلك
مرفوعًا وحديث إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: اللوطيان لو اغتسلا بماء البحر
لم يجزهما إلا أن يتوبا، ورفع مثل هذا الكلام، وإنما هو معروف من كلام السلف
وكذلك روي عن أبي هريرة وابن عباس قالا: خطبنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال في خطبته: "من نكح
امرأة في دبرها
|
ص -385-
|
أو غلامًا، أو رجلاً: حشر يوم القيامة أنتن من الجيفة يتأذى به
الناس حتى يدخله الله نار جهنم، ويحبط الله عمله، ولا يقبل منه صرفًا ولا عدلا،
ويجعل في تابوت من نار، ويسمر عليه بمسامير من حديد، فتشك تلك المسامير في وجهه
وجسده" قال أبو هريرة: هذا لمن لم يتب، وذلك أن تارك اللواط متطهر كما
دل عليه القرآن، ففاعله غير متطهر من ذلك فيكون متنجسًا، فإن ضد الطهارة
النجاسة، لكن النجاسة أنواع مختلفة تختلف أحكامها
ومن هاهنا غلط بعض الناس من الفقهاء، فإنهم لما رأوا ما دل
عليه القرآن من طلب طهارة الجنب بقوله:
{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6]، قالوا: فيكون الجنب نجسًا، وقد ثبت في
الصحيح من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن لا ينجس" لما انخنس منه وهو جنب، وكره أن يجالسه، فهذه النجاسة التي نفاها
النبي صلى الله عليه وسلم هي نجاسة الطهارة بالماء التي ظنها أبو هريرة،
والجنابة تمنع الملائكة أن تدخل بيتًا فيه جنب، وقال أحمد: إذا وضع الجنب يده
في ماء قليل أنجس الماء، فظن بعض أصحابه أنه أراد النجاسة الحسية، وإنما أراد
الحكمية، فإن الفرع لا يكون أقوي من الأصل، ولا يكون الماء أعظم من البدن، بل
غايته أن يقوم به المانع الذي قام بالبدن، والجنب ظاهره ممنوع من الصلاة، فيكون
الماء كذلك طاهرًا لا يتوضأ به للصلاة
|
ص -386-
|
وأما الزكاة فهي متضمنة النماء والزيادة كالزرع، وإن كانت
الطهارة قد تدخل في معناها، فإن الشيء إذا تنظف مما يفسده زكي ونما وصلح وزاد في
نفسه، كالزرع ينقي من الدغل، قال الله تعالي: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا
مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء} [النور: 21]، {قَالَ
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74]، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، وقال: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]، فإن الرجوع عمل صالح يزيد المؤمن زكاة وطهارة،
وقال: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}
[الأحزاب: 53]، فإن ذلك مجانبة لأسباب الريبة، وذلك من نوع مجانبة الذنوب
والبعد عنها ومباعدتها، فأخبر أن ذلك أطهر لقلوب الطائفتين
وأما الآية التي نحن فيها وهي قوله: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] فالغض من البصر وحفظ الفرج يتضمن البعد عن
نجاسة الذنوب، ويتضمن الأعمال الصالحة التى يزكو بها الإنسان، وهو أزكى، والزكاة
تتضمن الطهارة؛ فإن فيها معنى ترك السيئات ومعنى فعل الحسنات؛ ولهذا تفسر تارة
بالطهارة وتارة بالزيادة والنماء، ومعناها يتضمن الأمرين، وإن كان قرن الطهارة
معها فى الذكر مثل قوله:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]، فالصدقة توجب الطهارة من الذنوب، وتوجب
الزكاة التى هى العمل الصالح، كما أن الغض من البصر وحفظ الفرج هو أزكى لهم،
|
ص -387-
|
وهما يكونان باجتناب الذنوب وحفظ الجوارح، ويكونان بالتوبة
والصدقة التى هى الإحسان، وهذان هما التقوى والإحسان {و إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم
مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]
وقد روى الترمذى وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم سُئِلَ
: ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: "الأجوفان:
الفم والفرج"، وسُئِلَ عن أكثر ما
يدخل الناس الجنة؟ فقال: "تقوى الله وحسن
الخلق" فيدخل فى تقوى الله
حفظ الفرج وغض البصر، ويدخل فى حسن الخلق الإحسان إلى الخلق والامتناع من
إيذائهم، وذلك يحتاج إلى الصبر، والإحسان إلى الخلق يكون عن الرحمة، والله تعالى
يقول: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:
17]
وهو سبحانه ذكر الزكاة هنا، كما قدمها فى قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا
مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:
21]، فإن اجتناب الذنوب يوجب الزكاة التى هى زوال الشر وحصول الخير،
والمفلحون: هم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، كما وصفهم فى أول سورة
البقرة فقال: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الآيات} [البقرة: 1، 2]، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، فإذا كان قد أخبر أن هؤلاء مفلحون، وأخبر أن
المفلحين هم المتقون: {الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]،
وأخبر أن من زَكَّى نفسه فهو مفلح؛ دل ذلك على أن
|
ص -388-
|
الزكاة تنتظم الأمور المذكورة فى أول سورة البقرة
وقوله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء: 49]، وقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، فالتزكية من العباد لأنفسهم هى إخبارهم عن
أنفسهم بكونها زاكية واعتقاد ذلك؛ لأنفس جعلها زاكية، وقال تعالى عن إبراهيم:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:
129]، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى
الْمُؤمِنِينَ الآية} [آل عمران: 164]،
وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ الآية} [الجمعة:
2]، فامتن سبحانه على العباد بإرساله فى عدة مواضع،فهذه أربعة أمور أرسله
بها: تلاوة آياته عليهم، وتزكيتهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة
وقد أفرد تعليمه الكتاب والحكمة بالذكر مثل قوله: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة: 231]،
وقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى
فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، وذلك أن التلاوة عليهم وتزكيتهم أمر عام
لجميع المؤمنين؛ فإن التلاوة هى تبليغ كلامه تعالى إليهم وهذا لابد منه لكل
مؤمن، وتزكيتهم هو جعل أنفسهم زكية بالعمل الصالح الناشئ عن الآيات التى سمعوها
وتليت عليهم، فالأول سمعهم، والثانى طاعتهم، والمؤمنون يقولون: سمعنا وأطعنا
الأول علمهم والثانى عملهم، والإيمان قول وعمل، فإذا سمعوا آيات الله وعوها
بقلوبهم وأحبوها وعملوا بها، ولم يكونوا كمن قال فيهم:
|
ص -389-
|
{وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ
دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وإذا عملوا بها زكوا بذلك وكانوا من
المفلحين المؤمنين
والله قال: {يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال فى ضدهم: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ
يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97]، فأخبر أنهم أعظم كفرًا ونفاقًا وجهلاً وذلك
ضد الإيمان والعلم، فاستماع آيات الله والتزكى بها أمر واجب على كل أحد، فإنه
لابد لكل عبد من سماع رسالة سيده التى أرسل بها رسوله إليه، وهذا هو السماع
الواجب الذى هو أصل الإيمان، ولابد من التزكى بفعل المأمور وترك المحظور، فهذان
لابد منهما
وأما العلم بالكتاب والحكمة فهو فرض على الكفاية، لا يجب على
كل أحد بعينه أن يكون عالمًا بالكتاب: لفظه ومعناه، عالمًا بالحكمة جميعها، بل
المؤمنون كلهم مخاطبون بذلك وهو واجب عليهم، كما هم مخاطبون بالجهاد، بل وجوب
ذلك أسبق وأوكد من وجوب الجهاد، فإنه أصل الجهاد، ولولاه لم يعرفوا علام
يقاتلون؛ ولهذا كان قيام الرسول والمؤمنين بذلك قبل قيامهم بالجهاد، فالجهاد
سنام الدين، وفرعه وتمامه، وهذا أصله وأساسه وعموده ورأسه، ومقصود الرسالة فعل
الواجبات والمستحبات جميعًا، ولا ريب أن استماع كتاب الله والإيمان به وتحريم
حرامه وتحليل حلاله والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه واجب
|
ص -390-
|
على كل أحد، وهذا هو التلاوة المذكورة فى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:
121]، فأخبر عن الذين يتلونه حق تلاوته أنهم يؤمنون به، وبه قال سلف الأمة من
الصحابة والتابعين وغيرهم، وقوله: {حَقَّ
تِلاَوَتِهِ} كقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، {واتَّقُواْ
اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:
102]
وأما حفظ جميع القرآن وفهم جميع معانيه ومعرفة جميع السنة فلا
يجب على كل أحد، لكن يجب على العبد أن يحفظ من القرآن ويعلم معانيه ويعرف من
السنة ما يحتاج إليه، وهل يجب عليه أن يسمع جميع القرآن؟ فيه خلاف، ولكن هذه
المعرفة الحكمية التى تجب على كل عبد ليس هو علم الكتاب والحكمة التى علمها
النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته، بل ذلك لا يكون إلا بمعرفة حدود ما أنزل
الله على رسوله من الألفاظ والمعانى والأفعال والمقاصد، ولا يجب هذا على كل
أحد
وقوله تعالى: {فَلَا
تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، دليل على أن الزكاة هى التقوى، والتقوى تنتظم
الأمرين جميعًا، بل ترك السيئات مستلزم لفعل الحسنات؛ إذ الإنسان حارث هُمَام،
ولا يدع إرادة السىئات وفعلها إلا بإرادة الحسنات وفعلها، إذ النفس لا تخلو عن
الإرادتين جميعًا، بل الإنسان بالطبع مريد فعال، وهذا دليل على أن هذا يكون سببه
|
ص -391-
|
الزكاة والتقوى التى بها يستحق الإنسان الجنة، كما فى صحيح
البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من
تكفل لى بحفظ ما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة"
ومن تزكى فقد أفلح فيدخل الجنة، والزكاة متضمنة حصول الخير
وزوال الشر، فإذا حصل الخير وزال الشر من العلم والعمل حصل له نور وهدى ومعرفة
وغير ذلك، والعمل يحصل له محبة وإنابة وخشية وغير ذلك هذا لمن ترك هذه
المحظورات وأتى بالمأمورات ويحصل له ذلك أيضًا قدرة وسلطانًا، وهذه صفات
الكمال: العلم، والعمل، والقدرة، وحسن الإرادة، وقد جاءت الآثار بذلك، وأنه
يحصل لمن غض بصره نور فى قلبه ومحبة، كما جرب ذلك العالمون العاملون وفى مسند
أحمد حدثنا عَتَّابَ عن عبد الله وهو ابن المبارك أنا يحيى بن أيوب، عن عبيد
الله بن زَحْر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى صلى الله
عليه وسلم قال: "ما من مسلم ينظر
إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها"
ورواه أبو بكر ابن الأنبارى فى أماليه من حديث ابن أبى
مريم، عن يحيى بن أيوب به، ولفظه: "من نظر إلى امرأة فغض بصره عند أول
دفعة رزقه الله عبادة يجد حلاوتها"وقد رواه أبو نعيم فى الحلية :
|
ص -392-
|
حدثنا أبى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد ابن
يعقوب: قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو مهدى سعيد بن سنان، عن أبى
الزاهِرَّية، عن كُثَير بن مُرَّةَ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "النظرة الأولى خطأ،
والثانية عمد، والثالثة تدبر، نظر المؤمن إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام
إبليس، من تركه خشية الله ورجاء ما عنده أثابه الله تعالى بذلك عبادة تبلغه
لذتها"، رواه أبو جعفر
الخرائطى فى كتاب "اعتلال القلوب" ثنا على بن حرب، ثنا إسحاق بن
عبد الواحد، ثنا هُشَىْم، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن مُحِارب بن دِثار، عن
جَبَلة، عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه خوفًا
من الله أثابه الله إيمانًا يجد حلاوته فى قلبه"
وقد رواه أبو محمد الخَلاَّل من حديث عبد الرحمن بن إسحاق،
عن النعمان بن سعد، عن على، وفيه ذكر السهم ورواه أبو نعيم: ثنا عبد الله بن
محمد هو أبو الشيخ ثنا ابن عفير، قال: ثنا شعيب بن سلمة، ثنا عصمة بن محمد، عن
موسى يعنى ابن عقبة عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما من عبد يَكُفُّ بصره عن محاسن
امرأة ولو شاء أن ينظر إليها لنظر إلا أدخل الله قلبه عبادة يجد
حلاوتها"، وروى ابن أبى الفوارس
من طريق
|
ص -393-
|
ابن الجوزى، عن محمد بن المُسَيَّب، ثنا عبد الله، قال: حدثنى
الحسن، عن مجاهد قال: غض البصر عن محارم الله يورث حب الله وقد روى مسلم فى
صحيحه من حديث يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبى زُرْعَة بن عمرو بن جرير،
عن جده جرير بن عبد الله البجلى قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر
الفجأة فأمرنى أن أصرف بصرى ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، عن يونس به، ورواه
أبو داود والترمذى والنسائى من حديثه أيضًا وقال الترمذى: حسن صحيح وفى رواية
قال: "أطرق بصرك"، أى: انظر إلى الأرض، والصرف أعم، فإنه قد يكون إلى الأرض أو
إلى جهة أخرى
وقال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزارى، حدثنا
شَرِىك، عن ربيعة الإىادى، عن عبد الله بن بَرِيدة، عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعلى: "يا على، لا تتبع
النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخرى" ورواه الترمذى من حديث شَرِيك، وقال: غريب لا نعرفه إلا من
حديثه، وفى الصحيح عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس على الطرقات"، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نقعد فيها، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
أبيتم فأعطوا الطريق حقه"، قالوا:
وما حق الطريق
|
ص -394-
|
يا رسول الله؟ قال: "غض
البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"، وروى أبو القاسم البغوى عن أبى أمامة قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "اكفلوا لى ستًا
أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا
يخلف غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم"
فالنظر داعية إلى فساد القلب قال بعض السلف: النظر سهم سم
إلى القلب؛ فلهذا أمر الله بحفظ الفروج، كما أمر بغض الأبصار التى هى بواعث إلى
ذلك، وفى الطبرانى من طريق عبيد الله بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعًا:
"لتغضن أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمن وجوهكم، أو لتكسفن
وجوهكم"، وقال الطبرانى: حدثنا أحمد بن زهير التسترى، قال: قرأنا على
محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرى: حدثنا يحيى بن أبى كثير، حدثنا هزيم بن
سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
النظر سهم من سهام إبليس مسموم، فمن تركه من مخافة الله أبدله الله إيمانًا يجد
حلاوته فى قلبه"، وفى حديث أبى هريرة
الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم: "زنا
العينين النظر"، وذكر الحديث رواه
البخارى تعليقًا ومسلم مسندًا، وقد كانوا ينهون
|
ص -395-
|
أن يحد الرجل بصره إلى المردان، وكانوا يتهمون مَنْ فعل ذلك فى
دينه
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى
الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلا
قال شيخ الإسلام: وأما النور والعلم والحكمة،فقد دل عليه
قوله تعالى فى قصة يوسف: {وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، فهى
لكل محسن وفى هذه السورة ذكر آية النور بعد غض البصر وحفظ الفرج، وأمره
بالتوبة مما لا بد منه أن يدرك ابن آدم من ذلك وقال أبو عبد الرحمن السلمى
[هو أبو عبد الرحمن بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدى السلمى النيسابورى، من
علماء المتصوفة إمام حافظ محدث شيخ خراسان، بلغت تصانيفه مائة أو أكثر، منها:
[حقائق التفسير] و [طبقات الصوفية] وغيرها، ولد سنة 325ه، ومات فى شهر
شعبان سنة 412 ه، وكانت جنازته مشهودة] سمعت أبا الحسين الوَرَّاق يقول: من
غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدى بها، ويهدى بها إلى طريق
مرضاته؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل؛ فإذا كان النظر إلى محبوب فتركه لله عوضه
الله ما هو أحب إليه منه، وإذا كان النظر بنور العين مكروهًا أو إلى مكروه فتركه
لله، أعطاه الله نورًا فى قلبه وبصرًا يبصر به الحق قال شاه الكرمانى: من
غَضَّ بصره عن المحارم، وعَمَّرَ باطنهِ بِدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة،
وعَوَّدَ نفسه أكل الحلال، وكَفَّ نفسه عن الشهوات، لم تخطئ له فراسة وإذا
صَلُحَ علم الرجل فعرف الحق وعمله واتبع الحق، صار زكيًا تقيًا مستوجبًا للجنة
|
ص -396-
|
ويؤيد ذلك حديث أبى أمامة المشهور من رواية البغوى: حدثنا طالوت
بن عَبَّادُ، حدثنا فَضَالة بن جبير، سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "اكفلوا لى بست
أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا
يخلف، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم" فقد كفل بالجنة لمن أتى بهذه الست خصال، فالثلاثة الأولى
تبرئة من النفاق، والثلاثة الأخرى تبرئة من الفسوق، والمخاطبون مسلمون، فإذا لم
يكن منافقًا كان مؤمنًا، وإذا لم يكن فاسقًا كان تقيًا فيستحق الجنة ويوافق
ذلك ما رواه ابن أبى الدنيا: حدثنا أبو سعيد المدنى، حدثنى عمر بن سهل المازنى،
قال: حدثنى عمر بن محمد بن صُهْبَان، حدثنى صفوان بن سُلَىم، عن أبى هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عين
باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله، وعينا سهرت فى سبيل الله، وعينا
يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله"
وقوله سبحانه:
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]، يتناول النظر إلى الأموال واللباس والصور وغير
ذلك من متاع الدنيا: أما اللباس والصور فهما اللذان لا ينظر الله إليهما، كما
فى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
|
ص -397-
|
"إن الله لا ينظر إلى
صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وقد قال تعالى:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا
وَرِئْيًا} [مريم: 74]، وذلك
أن الله يمتع بالصور كما يمتع بالأموال، وكلاهما من زهرة الحياة الدنيا، وكلاهما
يفتن أهله وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دنيا وأخرى
والهلكى رجلان: فمستطيع وعاجز، فالعاجز: مفتون بالنظر ومد
العين إليه، والمستطيع: مفتون فيما أوتى منه، غارق قد أحاط به ما لا يستطيع
إنقاذ نفسه منه وهذا المنظور قد يعجب المؤمن وإن كان المنظور منافقًا أو
فاسقًا كما يعجبه المسموع منهم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن
يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}
[المنافقون: 4]، فهذا تحذير من الله تعالى
من النظر إليهم واستماع قولهم، فلا ينظر إليهم ولا يسمع قولهم، فإن الله سبحانه
قد أخبر أن رؤياهم تعجب الناظرين إليهم، وأن قولهم يعجب السامعين
ثم أخبر عن فساد قلوبهم وأعمالهم بقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}، فهذا مثل قلوبهم وأعمالهم، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا الآية} [البقرة: 204]،
وقد قال تعالى فى قصة قوم لوط: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]،
والتوسم من السمة، وهى العلامة، فأخبر
|
ص -398-
|
سبحانه أنه جعل عقوبات المعتدين آيات للمتوسمين وفى الترمذى عن
النبى صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا
فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ فدل ذلك على أن من اعتبر بما عاقب الله به غيره من أهل الفواحش
كان من المتوسمين
وأخبر تعالى عن اللوطية أنه طمس أبصارهم، فكانت عقوبة أهل
الفواحش طمس الأبصار، كما قد عرف ذلك فيهم وشوهد منهم، وكان ثواب المعتبرين بهم
التاركين لأفعالهم إعطاء الأنوار، وهذا مناسب لذكر آية النور عقيب غض الأبصار
وأما القدرة والقوة التى يعطيها الله لمن اتقاه وخالف هواه فذلك حاصل معروف، كما
جاء: إن الذى يترك هواه يفرق الشيطان من ظله وفى الصحيح أن النبى صلى الله
عليه وسلم قال: "ليس الشديد
بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب" وفى رواية: أنه مر بقوم يخذفون حجرًا، فقال: "ليس الشدة فى هذا، وإنما الشدة فى أن يمتلئ أحدكم غيظًا ثم
يكظمه لله" أو كما قال
وهذا ذكره فى الغضب؛ لأنه معتاد لبنى آدم كثيرًا، ويظهر
للناس وسلطان الشهوة يكون فى الغالب مستورًا عن أعين الناس، وشيطانها خاف،
ويمكن فى كثير من الأوقات الاعتياض بالحلال عن
|
ص -399-
|
الحرام، وإلا فالشهوة إذا اشتعلت واستولت قد تكون أقوى من الغضب،
وقد قال تعالى : {وَخُلِقَ الإِنسَانُ
ضَعِيفًا} [النساء: 28]،
أى: ضعىفا عن النساء لا يصبر عنهن، وفى قوله {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، ذكروا منه العشق، والعشق يفضى بأهله إلى
الأمراض والإهلاك، وإن كان الغضب قد يبلغ ذلك أيضًا وقد دل القرآن على أن القوة
والعزة لأهل الطاعة التائبين إلى الله فى مواضع كثيرة، كقوله فى سورة هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ
يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ } [هود: 52]،وقوله:
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 139]
وإذا كان الذى قد يهجر السيئات يغض بصره ويحفظ فرجه وغير ذلك مما نهى الله عنه،
يجعل الله له من النور والعلم والقوة والعزة ومحبة الله ورسوله، فما ظنك بالذى
لم يَحُمْ حول السيئات، ولم يُعِرْها طرفه قط ولم تحدثه نفسه بها؟! بل هو
يجاهد فى سبيل الله أهلها ليتركوا السيئات فهل هذا وذاك سواء؟ بل هذا له من
النور والإيمان والعزة والقوة والمحبة والسلطان والنجاة فى الدنيا والآخرة أضعاف
أضعاف ذاك، وحاله أعظم وأعلى، ونوره أتم وأقوى، فإن السيئات تهواها النفوس،
ويزينها الشيطان، فتجتمع فيها الشبهات والشهوات
فإذا كان المؤمن قد حبب الله إليه الإيمان وزينه فى قلبه،
وكَرَّه
|
ص -400-
|
إليه الكفر والفسوق والعصيان حتى يعوض عن شهوات الغى بحب الله
ورسوله وما يتبع ذلك، وعن الشهوات والشبهات بالنور والهدى، وأعطاه الله من القوة
والقدرة ما أيده به، حيث دفع بالعلم الجهل، وبإرادة الحسنات إرادة السيئات،
وبالقوة على الخير القوة على الشر فى نفسه فقط، والمجاهد فى سبيل الله يطلب فعل
ذلك فى نفسه وغيره أيضًا حتى يدفع جهله بالظلم، وإرادته السيئات بإرادة الحسنات
ونحو ذلك
والجهاد تمام الإيمان وسنام العمل، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، وقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية} [آل عمران: 110]، وقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآيةْ [التوبة: 19]، فكذلك يكون هذا الجزاء فى حق
المجاهدين، كما قال تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فهذا فى العلم والنور، وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ
أَنفُسَكُمْ} إلى قوله: {صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [ النساء
: 66 68]، فقتل النفوس هو قتل بعضهم بعضًا، وهو من الجهاد، والخروج من ديارهم
هو الهجرة، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ما يوعظون به من الهجرة والجهاد كان خيرًا
لهم وأشد تثبيتًا،ففى الآية أربعة أمور: الخير المطلق، والتثبيت المتضمن للقوة
والمكنة، والأجر العظيم، وهداية الصراط المستقيم وقال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
} [محمد: 7]، وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}
|
ص -401-
|
إلى قوله:
{عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:
40، 41] وقال: {يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54]
وأما أهل الفواحش الذين لا يغضون أبصارهم ولا يحفظون فروجهم،
فقد وصفهم الله بضد ذلك: من السكرة، والعمه، والجهالة، وعدم العقل، وعدم الرشد،
والبغض، وطمس الأبصار، هذا مع ما وصفهم به من الخبث، والفسوق، والعدوان،
والإسراف، والسوء، والفحش، والفساد، والإجرام، فقال عن قوم لوط : {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]، فوصفهم بالجهل، وقال{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وقال: {أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} [هود: 78]، وقال: {فَطَمَسْنَا
أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]،
وقال: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
مُّسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]،
وقال: {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:
69]، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ
سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74]،
وقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَر} إلى قوله: {انصُرْنِي
عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت: 29 34]، وقوله: {مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 34]
|
ص -402-
|
فَصْل
فى قوله فى آخر الآية: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:
31]، فوائد جليلة، منها: أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة فى هذا السياق تنبيه
على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التى هى ترك غض البصر وحفظ الفرج، وترك
إبداء الزينة وما يتبع ذلك، فمستقل ومستكثر، كما فى الحديث: "ما من أحد من بنى آدم إلا أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن
زكريا"وذلك لا يكون إلا عن
نظر، وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل بنى آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"، وفى الصحيح عن أبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا عبادى إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا
أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالى، فاستغفرونى أغفر لكم"
وفى الصحيحين عن ابن عباس قال: ما رأيت شىئًا أشبه باللمم
مما قال أبو هريرة: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة،
فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق" الحديث
إلى آخره وفيه: "والنفس
|
ص -403-
|
تتمنى ذلك وتشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" أخرجه
البخارى تعليقًا من حديث طاووس عن أبى هريرة ورواه مسلم من حديث سهيل بن أبى
صالح، عن أبيه عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "كتب على
ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر، والأذنان
زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجلان زناهما
الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه"، وقد روى الترمذى
حديثًا واستغربه عن ابن عباس فى قوله: {إِلَّا
اللَّمَمَ} [النجم: 32]، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
تغفر اللهم تغفر جمًا، وأى عبد لك لا ألما"
ومنها: أن أهل الفواحش الذين لم يغضوا أبصارهم ولم يحفظوا
فروجهم مأمورون بالتوبة، وإنما أمروا بها لتقبل منهم، فالتوبة مقبولة منهم ومن
سائر المذنبين، كما قال تعالى: {يَعْلَمُواْ
أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ
الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]،
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ
التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]،
وسواء كانت الفواحش مغلظة لشدتها وكثرتها كإتيان ذوات المحارم، وعمل قوم لوط أو
غير ذلك وسواء تاب الفاعل أو المفعول به فمن تاب تاب الله عليه، بخلاف ما عليه
طائفة من الناس فإنهم إذا رأوا من عمل من هذه الفواحش شيئًا أيسوه من رحمة الله،
حتى يقول
|
ص -404-
|
أحدهم: من عمل من ذلك شيئًا لا يفلح أبدًا، ولا يرجون له قبول
توبة، ويروى عن على أنه قال: منا كذا ومنا كذا، والمعفوج [المعفوج: مأخوذ من
العَفْج، وهو أن يفعل الرجل بالغلام فعل قوم لوط، وربما يكنى به عن الجماع]
ليس منا، ويقولون: إن هذا لا يعود صالحًا ولو تاب، مع كونه مسلمًا مقرًا بتحريم
ما فعل
ويدخلون فى ذلك من استكره على فعل شىء من هذه الفواحش،
ويقولون: لو كان لهذا عند الله خير ما سلط عليه من فعل به مثل هذا واستكرهه،
كما يفعل بكثير من المماليك طوعًا وكرهًا، وكما يفعل بأجراء أهل الصناعات طوعًا
وكرهًا، وكذلك من فى معناهم من صبيان الكتاتيب وغيرهم، ونسوا قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ
فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 33]، وهؤلاء قد لا يعلمون صورة التوبة، وقد يكون
هذا حالا وعملا لأحدهم، وقد يكون اعتقادًا، فهذا من أعظم الضلال والغى، فإن
القنوط من رحمة الله بمنزلة الأمن من مكر الله تعالى وحالهم مقابل لحال مستحلى
الفواحش، فإن هذا أمن مكر الله بأهلها، وذاك قنط أهلها من رحمة الله، والفقيه كل
الفقيه هو الذى لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصى الله
وهذا فى أصل الذنوب الإرادية نظير ما عليه أهل الأهواء والبدع
|
ص -405-
|
فإن أحدهم يعتقد تلك السيئات حسنات فيأمن مكر الله، وكثير من
الناس يعتقد أن توبة المبتدع لا تقبل، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وفى
الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى لنا
نفسه أسماء، فقال: "أنا محمد، وأنا
أحمد، والمُقَفِّى، والحاشر، ونبى التوبة، ونبى الرحمة"، وفى حديث آخر: "أنا
نبى الرحمة وأنا نبى الملحمة" وذلك
أنه بعث بالملحمة، وهى: المقتلة لمن عصاه، وبالتوبة لمن أطاعه، وبالرحمة لمن
صدقه واتبعه، وهو رحمة للعالمين، وكان من قبله من الأنبياء لا يؤمر بقتال
وكان الواحد من أممهم إذا أصاب بعض الذنوب يحتاج مع التوبة
إلى عقوبات شديدة، كما قال تعالى: {وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ
أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54]، وقد روى عن أبى العالية وغيره: أن أحدهم كان
إذا أصاب ذنبًا أصبحت الخطيئة والكفارة مكتوبة على بابه، فأنزل الله فى حق هذه
الأمة: {وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} إلى قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]، فخص الفاحشة بالذكر مع قوله: {ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ}، والظلم
يتناول الفاحشة وغيرها تحقيقًا لما ذكرناه
|
ص -406-
|
من قبول التوبة من الفواحش مطلقًا: من اللذين يأتيانها من
الرجال والنساء جميعًا
وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده
بالنهار ليتوب مسىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها"،وفى الصحيح عنه أنه قال: "من
تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه"، وفى السنن عنه أيضًا أنه قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى
تطلع الشمس من مغربها"، وعنه صلى
الله عليه وسلم قال: "قال الشيطان:
وعزتك يارب لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم فى أجسادهم، فقال الرب تعالى
: وعزتى وجلالى وارتفاع مكانى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى"، وعن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: ىابن آدم، إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على
ما كان منك ولا أبالى، ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك
ولا أبالى، ابن آدم، لو لقيتنى بقراب الأرض خطىئة ثم لقيتنى لا تشرك بى شئًا
لأتيتك بقرابها مغفرة"
والذى يمنع توبة أحد هؤلاء إما بحاله وإما بقاله، ولا يخلو
من أحد أمرين: أن يقول: إذا تاب أحدهم لم تقبل توبته، وإما أن
|
ص -407-
|
يقول أحدهم: لا يتوب الله على أبدًا، أما الأول فباطل بكتاب
الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وإن كان قد تكلم بعض العلماء فى توبة القاتل
وتوبة الداعى إلى البدع، وفى ذلك نزاع فى مذهب أحمد، وفى مذهب مالك أىضًا نزاع
ذكره صاحب التمثيل والبيان فى "الجامع" وغيره، وتكلموا أيضًا فى
توبة الزنديق، ونحو ذلك
فهم قد يتنازعون فى كون التوبة فى الظاهر تدفع العقوبة: إما
لعدم العلم بصحتها، وإما لكونها لا تمنع ما وجب من الحد، ولم يقل أحد من
الفقهاء: إن الزنديق ونحوه إذا تاب فيما بينه وبين الله توبة صحيحة لم يتقبلها
الله منه، وأما القاتل والمضل فذاك لأجل تعلق حق الغير به، والتوبة من حقوق
العباد لها حال آخر، وليس هذا موضع الكلام فيها وفى تفصيلها، وإنما الغرض أن
الله يقبل التوبة من كل ذنب، كما دل عليه الكتاب والسنة
والفواحش خصوصًا ما علمت أحدًا نازع فى التوبة منها، والزانى
والمزنى به مشتركان فى ذلك إن تابا تاب الله عليهما، ويبين التوبة خصوصًا من عمل
قوم لوط من الجانبين ما ذكره الله فى قصة قوم لوط، فإنهم كانوا يفعلون الفاحشة
بعضهم ببعض، ومع هذا فقد دعاهم جمىعهم إلى تقوى الله والتوبة منها، فلو كانت
توبة المفعول به أو غيره لا تقبل لم يأمرهم بما لا يقبل، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:
160، 163]،
|
ص -408-
|
فأمرهم بتقوى الله
المتضمنة لتوبتهم من هذه الفاحشة، والخطاب وإن كان للفاعل فإنه إنما خص به، لأنه
صاحب الشهوة والطلب فى العادة، بخلاف المفعول به، فإنه لم تخلق فيه شهوة لذلك فى
الأصل، وإن كانت قد تعرض له لمرض طارئ، أو أجر يأخذه من الفاعل، أو لغرض آخر
والله سبحانه وتعالى أعلم
|
ص -409-
|
سُئِلَ شيخ الإسلام عن قوله
تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ
مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا الآية} [النور:
30، 31]، والحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذكر زنا الأعضاء كلها، وماذا
على الرجل إذا مس يد الصبى الأمرد، فهل هو من جنس النساء ينقض الوضوء أم لا؟
وما على الرجل إذا جاءت إلى عنده المردان، ومد يده إلى هذا وهذا ويتلذذ بذلك،
وما جاء فى التحريم من النظر إلى وجه الأمرد الحسن؟ وهل هذا الحديث المروى:
أن النظر إلى الوجه المليح عبادة صحيح أم لا؟ وإذا قال أحد: أنا ما أنظر إلى
المليح الأمرد لأجل شىء، ولكنى إذا رأيته قلت: سبحان الله! تبارك الله أحسن
الخالقين! فهل هذا القول صواب أم لا؟ أفتونا مأجورين
فأجاب قدس الله روحه، ونور ضريحه، ورحمه ورضى عنه، ونفع
بعلومه وحشرنا فى زمرته :
|
ص -410-
|
الحمد لله، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء، وهو المشهور فى
مذهب مالك، وذكره القاضى أبو يعلى فى "شرح المذهب"، وهو أحد
الوجهين فى مذهب الشافعى
والثانى: أنه لا ينقض، وهو المشهور من مذهب الشافعى
والقول الأول أظهر،فإن الوطء فى الدبر يفسد العبادات التى تفسد بالوطء فى القبل،
كالصيام والإحرام والاعتكاف، ويوجب الغسل كما يوجبه هذا، فتكون مقدمات هذا فى
باب العبادات كمقدمات هذا، فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم، كما عليه لو
مس أجنبية لشهوة، وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة
فى نقض الوضوء
والذى لا ينقض الوضوء بمسه يقول: إنه لم يخلق محلاً لذلك
فيقال: لا ريب أنه لم يخلق لذلك، وأن الفاحشة اللوطية من
أعظم المحرمات، لكن هذا القدر لم يعتبر فى بعض الوطء، فلو وطئ فى الدبر تعلق به
ما ذكر من الأحكام، وإن كان الدبر لم يخلق محلا
|
ص -411-
|
للوطء،مع أن نفرة الطباع عن الوطء فى الدبر أعظم من نفرتها عن
الملامسة، ونقض الوضوء باللمس يراعى فيه حقيقة الحكمة، وهو أن يكون المس لشهوة
عند الأكثرين كمالك وأحمد وغيرهما يراعى كما يراعى مثل ذلك فى الإحرام والاعتكاف
وغير ذلك
وعلى هذا القول فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم، حتى لو
مس بنته وأخته وأمه لشهوة انتقض وضوؤه؛ فكذلك من الأمرد
وأما الشافعى وأحمد فى رواية فيعتبر المظنة، وهو أن النساء
مظنة الشهوة، فينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة؛ ولهذا لا ينقض مس
المحارم، لكن لو مس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة وكذلك إذا مس
الأمرد لشهوة، والتلذذ بمس الأمرد كمصافحته ونحو ذلك حرام بإجماع المسلمين، كما
يحرم التلذذ بمس ذوات المحارم والمرأة الأجنبىة، كما أن الجمهور على أن عقوبة
اللوطى أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية، فيجب قتل الفاعل والمفعول به، سواء كان
أحدهما محصنًا أو لم يكن، وسواء كان أحدهما مملوكًا للآخر، أو لم يكن، كما جاء
ذلك فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف
بينهم، وقتله بالرجم، كما قتل الله قوم لوط؛ وبذلك جاءت الشريعة فى قتل الزانى
أنه بالرجم، فرجم النبى صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك، والغامدية، واليهوديين،
|
ص -412-
|
والمرأة التى أرسل إليها أنيسا، وقال: "اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فرجمها
والنظر إلى وجه الأمرد بشهوة كالنظر إلى وجه ذوات
المحارم،والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو كانت شهوة
التلذذ بالنظر،كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية: كان معلومًا لكل أحد
أن هذا حرام،فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة
وقول القائل: إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة، كقوله: إن
النظر إلى وجوه النساء الأجانب والنظر إلى محارم الرجل كبنت الرجل وأمه وأخته
عبادة ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة فهو بمنزلة من جعل الفواحش
عبادة قال الله تعالى:
{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ
عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
[الأعراف: 28]
ومعلوم أنه قد يكون فى صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم
من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما فى صور المردان، فهل يقول مسلم: إن
للإنسان أن ينظر على هذا الوجه إلى صور النساء نساء العالمين وصور محارمه
ويقول: إن ذلك عبادة؟ بل من جعل مثل هذا
|
ص -413-
|
النظر عبادة فإنه كافر مرتد، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل
وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفاحشة عبادة، أو جعل تناول
يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر من الحشيشة عبادة، فمن جعل المعاونة بقيادة أو
غيرها عبادة، أو جعل شيئًا من المحرمات التى يعلم تحريمها فى دين الإسلام
عبادة: فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل وهو مُضَاهٍ به للمشركين {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا
آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة،
وكانوا يقولون: لا نطوف فى الثياب التى عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا
يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن
جعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة؟
والله سبحانه قد أمر فى كتابه بغض البصر وهو نوعان: غض
البصر عن العورة وغضه عن محل الشهوة
فالأول: كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبى صلى
الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى
عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال لمعاوية بن حيدة:
"احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك"،
|
ص -414-
|
قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه؟ قال: "إن استطعت أن لا
تريها أحدًا فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال:
"فالله أحق أن يستحىا منه من الناس"
ويجوز كشفها بقدر الحاجة، كما تكشف عند التخلى، وكذلك إذا
اغتسل الرجل وحده بحيث يجد ما يستره فله أن يغتسل عريانًا، كما اغتسل موسى
عريانًا، وأيوب، وكما فى اغتسال النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، واغتساله
فى حديث ميمونة
وأما النوع الثانى من النظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من
المرأة الأجنبية: فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم
الخنزير، وعلى صاحبها الحد، وتلك المحرمات إذا تناولها مستحلاً لها كان عليه
التعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر وكذلك النظر إلى
عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن وكذلك النظر إلى
الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على
تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم بشهوة
والخالق سبحانه يُسبَّح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق
الأمرد بأعجب فى قدرته من خلق ذى اللحية، ولا خلق النساء بأعجب فى
|
ص -415-
|
قدرته من خلق الرجال؛ فتخصيص الإنسان بالتسبيح بحال نظره إلى
الأمرد دون غيره كتخصيصه بالتسبيح بالنظر إلى المرأة دون الرجل ؛ وما ذاك لأنه
أدل على عظمة الخالق عنده؛ ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله، وقد يذهله ما رآه،
فيكون تسبيحه لما حصل فى نفسه من الهوى، كما أن النسوة لما رأين يوسف: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا
بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى
قلوبكم وأعمالكم" فإذا كان الله لا
ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما
لم يفضله الله به وقد قال تعالى: {وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]، وقال فى المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن
يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ} [المنافقون: 4]
فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم، لما
فيهم من البهاء والرواء، والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة، قد ذكر
الله عنهم ما ذكر، فيكف بمن ينظر إليه لشهوة؟
|
ص -416-
|
وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى،وهنا
الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته،وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على
المصور فهذا حسن وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه، كما ينظر إلى الخيل
والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار والأنهار، والأزهار؛فهذا أيضًا إذا كان على وجه
استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]
وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس
فقط: كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذى لا يستعان به على الحق
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا
ريب، سواء كانت شهوة تمتع بالنظر أو كان نظرًا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده
الإنسان عند نظره إلى الأشجار والأزهار، وما يجده عند نظره إلى النسوان
والمردان
فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعى، فصار النظر إلى المردان
ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تقترن به الشهوة فهو محرم بالاتفاق
|
ص -417-
|
والثانى: ما يجزم أنه لا شهوة معه كنظر الرجل الورع إلى ابنه
الحسن، وابنته الحسنة، وأمه الحسنة، فهذا لا يقترن به شهوة إلا أن يكون الرجل من
أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم وعلى هذا نظر من لا يميل قلبه إلى
المردان، كما كان الصحابة وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من
هؤلاء لا يفرق من هذا الوجه بين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبى أجنبى، لا يخطر
بقلبه شىء من الشهوة؛ لأنه لم يعتد ذلك، وهو سليم القلب من قبل ذلك، وقد كانت
الإماء على عهد الصحابة يمشين فى الطرقات مكشفات الرؤوس، ويخدمن الرجال مع سلامة
القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس فى مثل
هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد
وكذلك المردان الحسان، لا يصلح أن يخرجوا فى الأمكنة والأزقة
التى يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج،
ولا من الجلوس فى الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه
فتنة للناس، والنظر إليه كذلك
وإنما وقع النزاع بين العلماء فى "القسم
الثالث" من النظر، وهو: النظر إليه بغير شهوة لكن مع خوف ثورانها،
ففيه وجهان فى
|
ص -418-
|
مذهب أحمد، أصحهما وهو المحكى عن نص الشافعى وغيره أنه لا يجوز
والثانى: يجوز، لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره والأول هو
الراجح، كما أن الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير
حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرم الخلوة
بالأجنبية، لأنه مظنة الفتنة والأصل أن كلما كان سبباً للفتنة فإنه لا يجوز،
فإن الذريعة إلى الفساد سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة
ولهذا كان النظر الذى قد يفضى إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان
لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم
الشهوة وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز ومن كرر النظر إلى
الأمرد ونحوه وأدامه، وقال: إنى لا أنظر لشهوة كذب فى ذلك، فإنه إذا لم يكن له
داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل فى القلب من اللذة بذلك
وأما نظر الفجأة فهو عفو إذا صرف بصره، كما ثبت فى الصحاح عن
جرير، قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، قال: "اصرف بصرك"، وفى السنن
أنه قال لعلى رضى اللّه عنه:
|
ص -419-
|
يا على، لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك
الثانية"
وفى الحديث الذي فى المسند وغيره: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس"، وفيه: "من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث
اللّه قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة" أو كما قال
ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر
إليها: كالمرأة، والأمرد الحسن، يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر:
أحدها: حلاوة الإيمان ولذته التي هى أحلى وأطيب مما تركه
للّه، فإن من ترك شيئاً للّه عوضه اللّه خيراً منه، والنفس تحب النظر إلى هذه
الصور، لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تنجذب بسببها إلى
الصور، حتى تبقى الصورة تخطف أحدهم وتصرعه، كما يصرعه السبع
ولهذا قال بعض التابعين: ما أنا على الشاب التائب من سبع
يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه وقال بعضهم: اتقوا النظر إلى
أولاد الملوك، فإن فتنتهم كفتنة العذارى وما زال أئمة العلم والدين كأئمة
الهدى وشيوخ الطريق يوصون بترك صحبة الأحداث، حتى يروى عن فتح الموصلى أنه قال:
صحبت ثلاثين من
|
ص -420-
|
الأبدال كلهم يوصينى عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم:
ما سقط عبد من عين اللّه إلا ابتلاه بصحبة هؤلاء الأنتان
ثم النظر يولد المحبة، فيكون علاقة، لتعلق القلب بالمحبوب،
ثم صبابة، لانصباب القلب إليه، ثم غراما؛ للزومه للقلب كالغريم الملازم
لغريمه، ثم عشقاً، إلى أن يصير تتيما، والمتيم: المعبد، وتيم اللّه: عبد
اللّه، فيبقى القلب عبداً لمن لا يصلح أن يكون أخا ولا خادما
وهذا إنما يبتلى به أهل الأعراض عن الإخلاص للّه، الذين فيهم
نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال اللّه تعالى فى حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:
24]، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف
- عليه السلام - مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له
بالحبس على العفة: عصمه اللّه بإخلاصه للّه، تحقيقاً لقوله: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]،
قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، و"الغى": هو اتباع الهوى
وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور
من المتفلسفة كابن سينا وذويه، أو من الفرس، كما يذكر
|
ص -421-
|
عن بعضهم من جُهَّال المتصوفة فإنهم أهل ضلال، فهم مع مشاركة
اليهود فى الغى، والنصارى فى الضلال: زادوا على الأمتين فى ذلك، فإن هذا وإن ظن
أن فيه منفعة للعاشق كتلطيف نفسه، وتهذيب أخلاقه، أو للمعشوق من السعى فى
مصالحه، وتعليمه وتأديبه وغير ذلك، فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من
نفعه ؟!
وإنما هذا كما يقال: إن فى الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل
له من اللذة والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال: إن فى شرب الخمر
منافع بدنية ونفسية وقال تعالى فى الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة:
219]، وهذا قبل التحريم، دع ما قاله عند التحريم وبعده، فإن التعبد بهذه الصور
هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من باطن الإثم قال اللّه
تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ
الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]،
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، وقال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا
آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 28]
وليس بين أئمة الدين نزاع فى أن هذا ليس بمستحق، كما أنه ليس
بواجب، فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج عن إجماع المسلمين، واليهود
والنصارى، بل وعمّا عليه عقلاء بنى آدم من جميع الأمم، وهو
|
ص -422-
|
ممن اتبع هواه بغير هدى من اللّه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]، وقال تعالى : {َلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا
يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]
وأما من نظر إلى المردان ظانا أنه ينظر إلى مظاهر الجمال
الإلهى، وجعل هذا طريقا له إلى اللّه، كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة،
فقوله هذا أعظم كفراً من قول عُبَّاد الأصنام، ومن كُفْرِ قوم لوط فهؤلاء من
شر الزنادقة المرتدين، الذين يجب قتلهم بإجماع كل أمة، فإن عباد الأصنام قالوا:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:
3]
وهؤلاء يجعلون اللّه سبحانه موجوداً فى نفس الأصنام، وحالا
فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه فى المخلوقات أنها أدلة عليه، وآيات له، بل
يريدون أنه - سبحانه - ظهر فيها، وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء فى
الصوفة، والزبد فى اللبن، والزيت فى الزيتون، والدهن فى السمسم، ونحو ذلك مما
يقتضى حلول نفس ذاته فى مخلوقاته، أو اتحاده بها، فيقولون فى جميع المخلوقات
نظير ما قاله النصارى فى المسيح خاصة، ثم يجعلون المرادن مظاهر الجمال، فيقرون هذا
الشرك الأعظم طريقاً إلى استحلال الفواحش، بل إلى استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل
|
ص -423-
|
مشايخهم التلمسانى: إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما
الفرق بين أمى وأختى وبنتى حتى يكون هذا حلال وهذا حرام؟ قال: الجميع عندنا
سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض
الأشخاص، إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة، كقول الغالية فى على، أو
ببعض الشيوخ، كالحَلاّجِية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور، كصور
المردان ويقول أحدهم: إنما أنظر إلى صفات خالقى، وأشهدها فى هذه الصورة،
والكفر فى هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن باللّه ورسوله ولو قال مثل
هذا الكلام فى نبي كريم لكان كافراً، فكيف إذا قاله فى صبى أمرد؟! فقبح
اللّه طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها !!
وقد قال تعالى: {وَلاَ
يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 80]، فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا
مع اعترافهم بأنهم مخلوقون للّه كفارًا، فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا؟
مع أن اللّه فيها، أو متحد بها، فوجوده وجودها، ونحو ذلك من المقالات
|
ص -424-
|
وأما الفائدة الثانية فى غض البصر: فهو نور القلب والفراسة، قال
تعالى عن قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
[الحجر: 72]، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب، بل
جنونه، كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر
مدامة
|
فمتى
يفيق من به سكران
|
وقيل - أيضا- :
قالوا جننت بمن
تهوى فقلت لهم
|
العشق
أعظم مما بالمجانين
|
العشق
لا يستفيق الدهر صاحبه
|
وإنما
يصرع المجنون فى الحين
|
وذكر اللّه سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، وكان شُجَاعُ بن شاه الكرمانى لا تخطئ له
فراسة، وكان يقول: من عَمَّرَ ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام
|
ص -425-
|
المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكَفَّ نفسه عن الشهوات، وذكر
خصلة سادسة أظنه هو أكل الحلال: لم تخطئ له فراسة واللّه تعالى يجزى العبد
على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة
والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل اللّه له
سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن فى الأثر: الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من
ظله؛ ولهذا يوجد فى المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله اللّه لمن
عصاه، فإن اللّه جعل العزة لمن أطاعه، والذلة لمن عصاه قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]،
وقال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]
ولهذا كان فى كلام الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك
ولا يجدونه إلا فى طاعة اللّه وكان الحسن البصرى يقول: وإن هَمْلَجَتْ}
[هملج: مشى مشية سهلة فى سرعة، حسن سير الدابة] بهم البراذين} [البرذون:
دابة معروفة]، وطقطقت بهم ذُلُل البغال، فإن ذل المعصية فى رقابهم، أبى اللّه
إلا أن يذل من عصاه، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط
من فعل من عاداه بمعاصيه، وفى دعاء القنوت: "إنه لا يذل من واليت، ولا
يعز من عاديت"
|
ص -426-
|
ثم الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق فى الأمة لم
يكونوا يستحسنون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم فى الكلام فى ذم صحبة الأحداث، وفى
الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق: ما لا يتسع هذا الموضع لذكره
وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فيتظاهر بدعوى الولاية
للّه، وتحقيق الإيمان والعرفان، وهو من شر أهل العداوة للّه، وأهل النفاق
والبهتان واللّه تعالى يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل
لأعدائه الصفقة الخاسرة واللّه سبحانه أعلم
|
ص -427-
|
سورة الفرقان
قال شيخ الإسلام رَحِمهُ اللّه تعالى
:
فصل
أكبر الكبائر ثلاث: الكفر، ثم قتل النفس بغير الحق، ثم
الزنا، كما رتبها اللّه فى قوله:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، وفى الصحيحين من حديث عبد اللّه بن مسعود
قال: قلت: يا رسول اللّه، أى الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل للّه ندا وهو
خلقك"، قلت: ثم أى؟ قال: "ثم أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ
معك"، قلت: ثم أى؟ قال: "أن
تزانى بحليلة جارك"
ولهذا الترتيب وجه معقول، وهو أن قوى الإنسان ثلاث: قوة
العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة فأعلاها القوة العقلية التي يختص بها الإنسان
دون سائر الدواب، وتشركه فيها الملائكة، كما قال أبو بكر عبد العزيز من أصحابنا
وغيره: خُلق للملائكة عقول بلا شهوة،
|
ص -428-
|
وخُلق للبهائم شهوة بلا عقل، وخُلق للإنسان عقل وشهوة، فمن غلب
عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه ثم
القوة الغضبية التي فيها دفع المضرة، ثم القوة الشهوية التي فيها جلب المنفعة
ومن الطبائعيين من يقول: القوة الغضبية هى الحيوانية،
لاختصاص الحيوان بها دون النبات والقوة الشهوية هى النباتية لاشتراك الحيوان
والنبات فيها واختصاص النبات بها دون الجماد
لكن يقال: إن أراد أن نفس الشهوة مشتركة بين النبات
والحيوان فليس كذلك، فإن النبات ليس فيه حنين ولا حركة إرادية، ولا شهوة ولا
غضب وإن أراد نفس النمو والاغتذاء فهذا تابع للشهوة وموجبها
وله نظير فى الغضب: وهو أن موجب الغضب وتابعه هو الدفع
والمنع، وهذا معنى موجود فى سائر الأجسام الصلبة القوية، فذات الشهوة والغضب
مختص بالحى وأما موجبهما من الاعتداء والدفع فمشترك بينهما وبين النبات القوى،
فقوة الدفع والمنع موجود فى النبات الصلب القوى، دون اللين الرطب، فتكون قوة
الدفع مختصة ببعض النبات، لكنه موجود فى سائر الأجسام الصلبة، فبين الشهوة
والغضب عموم وخصوص
|
ص -429-
|
وسبب ذلك، أن قوى الأفعال فى النفس إما جذب وإما دفع، فالقوة
الجاذبة الجالبة للملائم هى الشهوة وجنسها من المحبة والإرادة ونحو ذلك، والقوة
الدافعة المانعة للمنافى هى الغضب وجنسها من البغض والكراهة، وهذه القوة باعتبار
القدر المشترك بين الإنسان والبهائم هى مطلق الشهوة والغضب، وباعتبار ما يختص به
الإنسان: العقل والإيمان والقوى الروحانية المعترضة
فالكفر متعلق بالقوة العقلية الناطقة الإيمانية، ولهذا لا
يوصف به من لا تمييز له، والقتل ناشئ عن القوة الغضبية، وعدوان فيها والزنا عن
القوة الشهوانية فالكفر اعتداء وفساد فى القوة العقلية الإنسانية، وقتل النفس
اعتداء وفساد فى القوة الغضبية والزنا اعتداء وفساد فى القوة الشهوانية
ومن وجه آخر ظاهر، أن الخلق خلقهم اللّه لعبادته، وقوام
الشخص بجسده، وقوام النوع بالنكاح والنسل، فالكفر فساد المقصود الذي له خلقوا،
وقتل النفس فساد النفوس الموجودة، والزنا فساد فى المنتظر من النوع فذاك إفساد
الموجود، وذاك إفساد لما لم يوجد بمنزلة من أفسد مالاً موجودا، أو منع المنعقد
أن يوجدوإعدام الموجود أعظم فسادا، فلهذا كان الترتيب كذلك
|
ص -430-
|
ومن وجه ثالث، أن الكفر فساد القلب والروح الذي هو ملك الجسد،
والقتل إفساد للجسد الحامل له، وإتلاف الموجود وأما الزنا فهو فساد فى صفة
الوجود لا فى أصله، لكن هذا يختص بالزنا، ومن هنا يتبين أن اللواط أعظم فسادا من
الزنا فصل
وباعتبار القوى الثلاث، انقسمت الأمم التي هى أفضل الجنس
الإنسانى، وهم العرب والروم والفرس فإن هذه الأمم هى التي ظهرت فيها الفضائل
الإنسانية، وهم سكان وسط الأرض طولا وعرضا، فأما من سواهم كالسودان والترك
ونحوهم فتبع
فغلب على العرب القوة العقلية النطقية، واشتق اسمها من
وصفها، فقيل لهم: عرب من الأعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خاصة القوة
المنطقية
وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما،
واشتق اسمها من ذلك فقيل لهم: الروم، فإنه يقال: رمت هذا أرومه إذا طلبته
واشتهيته
|
ص -431-
|
وغلب على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء
والرياسة، واشتق اسمها من ذلك، فقيل: فرس، كما يقال: فرسه يفرسه إذا قهره
وغلبه
ولهذا توجد هذه الصفات الثلاث غالبة على الأمم الثلاث
حاضرتها وباديتها؛ ولهذا كانت العرب أفضل الأمم، وتليها الفرس؛ لأن القوة
الدفعية أرفع، وتليها الروم
فصل
وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثاً: فضيلة العقل،
والعلم والإيمان: التي هى كمال القوة المنطقية، وفضيلة الشجاعة: التي هى كمال
القوة الغضبية، وكمال الشجاعة هو الحلم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند
الغضب"، والحلم والكرم
ملزوزان فى قرن، كما أن كمال القوة الشهوية العفة، فإذا كان الكريم عفيفاً
والسخى حليما اعتدل الأمر
وفضيلة السخاء والجود التي هى كمال القوة الطلبية الحبية،
فإن السخاء يصدر عن اللين والسهولة ورطوبة الخلق، كما تصدر الشجاعة عن
|
ص -432-
|
القوة والصعوبة ويبس الخلق، فالقوة الغضبية هى قوة النصر، والقوة
الشهوية قوة الرزق، وهما المذكوران فى قوله: { الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، والرزق والنصر مقترنان فى الكتاب والسنة، وكلام
الناس كثيراً
وأما الفضيلة الرابعة: التي يقال لها: العدالة، فهى صفة
منتظمة للثلاث وهو الاعتدال فيها، وهذه الثلاث الأخيرات هى الأخلاق العملية، كما
جاء من حديث سعد لما قال فيه العبسى: إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل فى القضية،
ولا يخرج فى السرية
فَصل
وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث: المسلمون، واليهود
والنصارى، فإن المسلمين فيهم العقل والعلم والاعتدال فى الأمور،فإن معجزة نبيهم
هى علم اللّه وكلامه؛ وهم الأمة الوسط
وأما اليهود فأضعفت القوة الشهوية فيهم، حتى حرم عليهم من
المطاعم والملابس ما لم يحرم على غيرهم، وأمروا من الشدة والقوة بما أمروا به، ومعاصيهم
غالبها من باب القسوة والشدة لا من باب الشهوة،
|
ص -433-
|
والنصارى أضعفت فيهم القوة الغضبية فنهوا عن الانتقام والانتصار،
ولم تضعف فيهم القوة الشهوية، فلم يحرم عليهم من المطاعم ما حرم على من قبلهم،
بل أحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وظهر فيهم من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر
فى اليهود، وفيهم من الرقة والرأفة والرحمة ما ليس فى اليهود، فغالب معاصيهم من
باب الشهوات لا من باب الغضب، وغالب طاعاتهم من باب النصر لا من باب الرزق
ولما كان فى الصوفية والفقهاء عيسوية مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الشهوات
ووقع فيهم من الميل إلى النساء والصبيان والأصوات المطربة ما يذمون به، ولما كان
فى الفقهاء موسوية مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الغضب ووقع فيهم من القسوة
والكبر ونحو ذلك ما يذمون به
فَصل
جنس القوة الشهوية الحب، وجنس القوة الغضبية البغض،
والغضب والبغض متفقان فى الاشتقاق الأكبر؛ ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب فى اللّه، والبغض فى اللّه" فإن هاتين القوتين هما الأصل، وقال: "من أحب للّه وأبغض للّه
|
ص -434-
|
وأعطى للّه ومنع للّه فقد استكمل الإيمان"، فالحب والبغض هما الأصل، والعطاء عن الحب وهو السخاء، والمنع
عن البغض وهو الشحاحة فأما الغضب فقد يقال: هو خصوص فى البغض، وهو الشدة التي
تقوم فى النفس التي يقترن بها غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا هو الغضب
الخاص؛ ولهذا تعدل طائفة من المتكلمين عن مقابلة الشهوة بالغضب إلى مقابلتها
بالنفرة، ومن قابل الشهوة بالغضب فيجب ألا يريد الغضب الخاص، فإن نسبة هذا إلى
النفرة نسبة الطمع إلى الشهوة، فأما الغضب العام فهو القوة الدافعة البغضية
المقابلة للقوة الجاذبة الحبية
فَصل
فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية الحبية الشهوية، وترك
المنهى عنه صادر عن القوة الكراهية البغضية الغضبية النفرية، والأمر بالمعروف
صادر عن المحبة والإرادة،والنهى عن المنكر صادر عن البغض والكراهة،وكذلك الترغيب
فى المعروف والترهيب عن المنكر، والحض على هذا والزجر عن هذا؛ولهذا لا تكف
النفوس عن الظلم إلا بالقوة الغضبية الدفعية،وبذلك يقوم العدل والقسط فى الحكم
والقسم
|
ص -435-
|
وغير ذلك، كما أن الإحسان يقوم بالقوة الجذبىة الشهوىة، فإن
اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدم، إذ لا محبوب ولا مكروه، وحصول المحبوب
والمكروه وجود فاسد، إذ قد حصلا معا وهما متقابلان فى الترجيح، فربما يختار بعض
النفوس هذا ويختار بعضها هذا، وهذا عند التكافؤ، وأما المكروه اليسير مع المحبوب
الكثير فيترجح فيه الوجود، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه
العدم
لكن لما كان المقتضى لكل واحد من المحبوب والمكروه الذي هو
الخير والشر موجوداً، وبتقدير وجودهما يحصل النصر كالرزق مع الخوف، صار يعظم فى
الشرع والطبع دفع المكروه أما فى الشرع فبالتقوى، فإن اسمها فى الكتاب والسنة
والإجماع عظيم، والعاقبة لأهلها والثواب لهم، وأما فى الطبع فتعظيم النفوس لمن
نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدو أو غيره، فإن أهل الرزق معظمون لأهل النصر أكثر من
تعظيم أهل النصر لأهل الرزق؛ وذاك - واللّه أعلم - لأن النصر بلا رزق ينفع، فإن
الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعمل عملها، وأما الرزق بلا نصر فلا ينفع، فإن
الأسباب الناصرة تابعة، وفى هذا نظر فقد يقال: هما متقابلان فإن أهل النصر
يحبون أهل الرزق أكثر مما يحب أهل الرزق لأهل النصر، فإن الرزق محبوب والنصر
معظم
|
ص -436-
|
وقد يقال: بل النصر أعظم كما تقدم، فإن اندفاع المكروه محبوب
أيضاً وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هى أقوى من قوة الجذب، فاختص الناصر
بالتعظيم لدفعه المعارض، وأما الرازق فلا معارض له، بل له موافق، فالناصر محبوب
معظم وقد يقابل هذا بأن يقال: وفوات المحبوب مكروه - أيضاً- والمحبوب لا يحصل
إلا بقوة الجذب، ولا نسلم أن قوة الدفع أقوى، بل قد يكون الجذب أقوى، بل الجذب
فى الأصل أقوى، لأنه المقصود بالقصد الأول، والدفع خادم تابع له، وكما أن الدافع
دفع المعارض فالجاذب حصل المقتضى، وترجيح المانع على المقتضى غير حق، بل المقتضى
أقوى بالقول المطلق، فإنه لابد منه فى الوجود
وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض، وقد لا يكون
معارض، فالمقتضى والمحبة هو الأصل والعمدة فى الحق الموجود والحق المقصود،وأما
المانع والبغضة فهو الفرع والتابع
ولهذا كتب اللّه فى الكتاب الموضوع عنده فوق العرش :
"إن رحمتى تغلب غضبى" ولهذا كان الخير فى أسماء اللّه وصفاته،
وأما الشر ففى الأفعال، كقوله: {نَبِّىءْ
عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ
الأَلِيمَ } [الحجر: 49، 50]،
وقوله {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98]
|
ص -437-
|
يبقى أن يقال: فلم عظمت التقوى؟ فيقال: إنها هى تحفظ الفطرة
وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها؛ لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى محرك؛
ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهى عن الإشراك؛ لأن الإقرار
الفطرى حاصل لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه؛ ولهذا كانت
حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض والجالبة لمنفعة بعضهم بعضاً،
كما أوجب اللّه الزكاة النافعة وحرم الربا الضار، وأصل الدين: هو عبادة اللّه
الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس
وهذه المحبة التي هى أصل الدين: انحرف فيها فريق من منحرفة
الموسوية من الفقهاء والمتكلمين حتى أنكروها، وزعموا أن محبة اللّه ليست إلا
إرادة عبادته، ثم كثير منهم تاركون للعمل بما أمروا به، فيأمرون الناس بالبر
وينسون أنفسهم، وهذا فاش فيهم، وهو عدم المحبة والعمل، وفريق من منحرفة العيسوية
من الصوفية والمتعبدين، خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم
ينكروا شيئاً ولم يكرهوه أو قصروا فى الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور
والأصوات ومحبة الأنداد
ولهذا كان لغواة الأولين وصف الغضب واللعنة الناشئ عن
|
ص -438-
|
البغض؛ لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لضلال الآخرين وصف الضلال
والغلو؛ لأن فيهم محبة لغير معبود صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، ولكن لا إلى
مطلوب صحيح، ولا مراد صحيح، ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغلوا وأشركوه، ففيهم
محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما فى الآخرين بغض الحق
والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه واللّه سبحانه يهدينا صراطه المستقيم فيحمد
من هؤلاء محبة الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بغض الباطل وإنكاره
|
ص -439-
|
سورة النمل
قال شيخ الإسلام:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير
إلا ما هو خطأ فيها
منها قوله تعالى: {مَن
جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا الآية} [النمل: 89]، المشهور عن السلف أن الحسنة: لا إله إلا
اللّه، وأن السيئة: الشرك، وعن السدى قال: ذلك عند الحساب ألغى بدل كل حسنة
عشر سيئات، فإن بقيت سيئة واحدة فجزاؤه النار إلا أن يغفر اللّه له
قلت: تضعيف الحسنة إلى عشر وإلى سبعمائة ثابت فى الصحاح،
وأن السيئة مثلها، وأن الهم بالحسنة حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب
فأهل القول الأول قالوه؛ لأن أعمال البر داخلة فى التوحيد،
فإن عبادة اللّه بما أمر به كما قال: {بَلَى
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ الآية} [البقرة: 112]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً
طَيِّبَةً} الآية [إبراهيم:
24]
|
ص -440-
|
فالكلمة الطيبة: التوحيد، وهى كالشجرة، والأعمال ثمارها فى كل
وقت، وكذلك السيئة، هى العمل لغير اللّه، وهذا هو الشرك، فإن الإنسان حارث
هُمَام لابد له من عمل ولابد له من مقصود يعمل لأجله وإن عمل للّه ولغيره فهو
شرك
والذنوب من الشرك فإنها طاعة للشيطان قال: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ الآية} [إبراهيم: 22]، وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا
تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الآية} [يس:
60]، وفى الحديث: "وشر الشيطان وشركه" لكن إذا كان موحداً
وفعل بعض الذنوب نقص توحيده كما قال: "لا يزنى
الزانى" إلخومن ليس بمؤمن فليس بمخلص، وفى الحديث: "تعس عبد
الدينار" إلخ وحديث أبى بكر: قل: "اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك
بك شيئاً وأنا أعلم" إلخ، لكن إذا لم يعدل
باللّه غيره فيحبه مثل حب اللّه، بل اللّه أحب إليه وأخوف عنده وأرجى من كل
مخلوق، فقد خلص من الشرك الأكبر
|
ص -441-
|
سورة الأحزاب
وقال شيخ الإِسلام رحِمهُ اللّه :
قوله تعالى: {النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ
وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم
مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]، دليل على مثل معنى الحديث الصحيح: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك مالاً فلورثته، ومن ترك
كًلا أو ضياعًا فعلىّ "
[الكلُّ: العيال] حيث جعله اللّه أولى بهم من أنفسهم
ثم جعل الأقارب بعضهم أولى ببعض؛ لأن كونه أولى بهم من
أنفسهم يقتضى أن يكون أولى بهم من أولى أرحامهم؛ وذلك لا يقتضى ملك مالهم أحياء
فكذلك أمواتاً، وإنما يقتضى حمل الكل والضياع من ماله، وهو الخمس، أو خمسه، أو
مال الفىء كله، على الخلاف المعروف، وفيه دليل على أن الأولوية المقتضية للميراث
المذكورة فى قوله صلى الله عليه وسلم : "فلأولى
رجل ذكر"، مشروطة بالإيمان
|
ص -442-
|
وهذه الآية المقيدة تقضى على تلك المطلقة فى الأنفال ؛ لثلاثة
أوجه:
أحدها: أن هذه فى صورة الأحزاب بعد الخندق وتلك فى الأنفال
عقب بدر
الثانى : أن هذا مطلق ومقيد فى حكم واحد وسبب واحد والحكم
هنا متضمن للإباحة، والاستحقاق، والتحريم على الغير، وإيجاب الإعطاء
الثالث: أن آية الأنفال ذكر فيها الأولوية بعد أن قطع
الموالات بين المؤمنين والكافرين أيضاً فهى دليل ثان، وهاتان الآيتان تفسر
المطلق فى آية المواريث، ويكون هذا تفسير القرآن بالقرآن، وإن كان قوله: "لا يرث الكافر المسلم" موافقاً له، فأما ميراث المسلم من الكافر ففيه الخلاف الشاذ
فنستفيد من الآيتين أيضاً مع الحديث، ويدخل فى الآيتين سائر الولايات، من
المناكح والأموال، والعقل، والموت، وفى قوله {إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 6]، دليل على الوصية كآيات النساء
قوله: {فَلَمَّا
قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ الآية} [الأحزاب: 37]، دليل على أن ما أبيح له كان مباحاً لأمته؛
لأنه أخبر أن التزويج كان لمنع الحرج عن الأمة فى مثل ذلك التزويج، فلولا أن
فعله المباح له يقتضى الإباحة لأمته لم يحسن التعليل وهذا ظاهر
|
ص -443-
|
وأيضاً، فإنه إذا كان ذلك فى تزويجه امرأة الدعى الذي كان يعتقد
أن تزوجها حرام، ففى ما لا شبهة فيه أولى
وأيضاً، إذا كان هذا فى النكاح الذي خص فيه من المباحات بما
لم تشركه أمته، كالنكاح بلا عدد وتزوج الموهوبة بلا مهر، وقد بين أن إباحة عقده
النكاح دليل على إباحة ذلك لأمته، ففيما لم يظهر خصوصية فيه كالنكاح أولى وهذا
يدل على أن سائر ما أبيح له مباح لأمته، إلا ما خصه الدليل من المعاملات
والأطعمة واللباس، ونحو ذلك
وأيضاً، فيدل على هذا الأصل قوله: فى سياق ما أحله له: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ
إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50]، من وجهين:
أحدهما: أنه لما أحل له الواهبة قال: خَالِصَةً لَّكَ
مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ليبين اختصاصه بذلك فعلم أنه حيث سكت عن الاختصاص
كان الاشتراك ثابتاً، وإلا فلا معنى لتخصيص هذا الموضع ببيان الاختصاص
الثانى: أنه ما أحله من الأزواج ومن المملوكات ومن الأقارب
|
ص -444-
|
أطلق، وفى الموهوبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أن سكوته عن التقييد
فى أولئك دليل الاشتراك
فإن قيل: السكوت لا يدل على واحد منهما، والتقييد بالخلوص
ينفى الاشتراك، فتكون فائدته ألا يظن الاشتراك بدليل منفصل، فإن التحليل له لا
يدل على الاختصاص قطعاً، لكن هل يدل على الاشتراك أم لا يدل على واحد منهما؟
هذا موضع التردد فإذا قيد بالخلوص دل على الاختصاص قيل: لو لم يدل على
الاشتراك لم يثبت الحكم فى حق الأمة لانتفاء دليله، كما أن ما سكت عنه من
المحرمات لم يثبت الحكم لانتفاء دليله
وهنا إما أن يقال: كانوا يستحلونه على الأصل، وليس كذلك؛ لأن
الفروج محظورة إلا بالتحليل الشرعى، فكان يكون محظوراً عليهم فلا يحتاج إلى
إخلاصه له لو لم يكن الخطاب المطلق يقتضى الاشتراك والعموم، وأنه من باب الخاص
فى اللفظ العام فى الحكم
وأصل هذا أن اللفظ فى اللغة قد يصير بحسب العرف الشرعى أو
غيره أخص أو أعم، فالخطاب له وإن كان خاصاً فى اللفظ لغة فهو عام عرفاً، وهو مما
نقل بالعرف الشرعى من الخصوص إلى العموم، كما ينقل مثل ذلك فى مخاطبات الملوك
ونحو ذلك، وهو كثير كما أن
|
ص -445-
|
العام قد يصير بالعرف خاصاً
وأيضاً، فإنه يبنى ذلك على أصل دليل الخطاب،وأن التخصيص
بالذكر مع العام المقتضى للتعميم يدل على التخصيص بالحكم، فلما خص خطاب الموهوبة
بذكر الخلوص دل على انتفاء الخلوص عن الباقى وإنما انتفاء الخلوص عن الباقى بعدم
ذكر الخلوص مع إثبات التحليل للرسول صلى الله عليه وسلم، فعلم أن إثبات التحليل
له مع عدم تخصيصه به يقتضى العموم
وعلى هذا، فالخطاب الذي مخرجه فى اللغة خاص ثلاثة أقسام:
إما أن يدل على العموم كما فى العام عرفاً، مثل خطاب الرسول
والواحد من الأمة، ومثل تنبيه الخطاب كقوله: لا أشرب لك الماء من عطش ومثقال
حبة وقنطار ودينار
وإما أن يدل على اختصاص المذكور بالحكم ونفيه عما سواه، كما
فى مفهوم المخالفة إذا كان المقتضى للتعميم قائماً وخص أحد الأقسام بالذكر
وإما ألا يدل على واحد منهما لفظاً ثم يوجد العموم من جهة
المعنى، إما من جهة قياس الأولى، وإما من جهة سائر أنواع القياس،
|
ص -446-
|
ويجب الفرق بين تنبيه الخطاب وبين قياس الأولى، فإن الحكم فى ذاك
مستفاد من اللفظ عمهما عرفاً وخطابا، وهنا مستفاد من الحكم بحيث لو دل على الحكم
فعل أو إقرار أو خطاب يقطع معه بأن المتكلم لم يرد إلا الصورة؛ لكان ثبوت الحكم
لنوع يقتضى ثبوته لما هو أحق به منه، فالعموم هنا معنوى محض، وهناك لفظى ومعنوى،
فتدبر هذا فإنه فصل بين المتنازعين من أصحابنا وغيرهم فى التنبيه هل هو مستفاد
من اللفظ أو هو قياس جلى؟ لتعلم أنه قسمان
والفرق أن المستفاد من اللفظ يريد المتكلم به العموم ويمثل
بواحد تنبيهاً كقول النحوى: ضرب زيد عمراً، بخلاف المستفاد من المعنى
والآية المتقدمة وهى قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا} [الأحزاب: 37]، تدل على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تقتضى
الإباحة لأمته، مع القطع بأن الفعل فى نفسه لا يعم لفظاً ووضعا ً، وإنما يعم بما
ثبت من أن الأصل الاشتراك والإيتساء ويدل على ذلك أيضاً قوله فى السورة : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
الآية} [ الأحزاب: 21] فإن فيها التأسي
فيما أصابه ومتى ثبت الحكم في الإيتساء به فى حكمه عند ما أصابه: كان كذلك
فيما فعله؛ إذ المصاب عليه فيه واجبات ومحرمات؛ فدلت هذه
|
ص -447-
|
الآية على أن الأصل مشاركته فى الإيجاب والحظر، كما دلت تلك على
أن الأصل مشاركته فى الإحلال
قوله: {قُل
لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن
جَلَابِيبِهِنَّ الآية} [الأحزاب: 59]،
دليل على أن الحجاب إنما أمر به الحرائر دون الإماء؛ لأنه خص أزواجه وبناته، ولم
يقل: وما ملكت يمينك وإماؤك وإماء أزواجك وبناتك ثم قال: وَنِسَاء
الْمُؤْمِنِينَ والإماء لم يدخلن فى نساء المؤمنين، كما لم يدخل فى قوله:
{نِسَائِهِنَّ ما ملكت أيمانهن حتى عطف عليه في آيتي النور والأحزاب، وهذا
قد يقال: إنما ينبنى على قول من يخص ما ملكت اليمين بالإناث، وإلا فمن قال: هى
فيهما أو في الذكور ففيه نظر
وأيضاً، فقوله:
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [البقرة: 226]، وقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} [المجادلة: 2]، إنما أريد به الممهورات دون المملوكات،
فكذلك هذا، فآية الجلابيب في الأرْدِية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند
المخاطبة في المساكن، فهذا مع ما في الصحيح من أنه لما اصطفى صفية بنت حُيَىِّ
وقالوا: إن حَجبَها فهى من أمهات المؤمنين، وإلا فهى مما ملكت يمينه، دل على أن
الحجاب كان مختصاً بالحرائر
وفي الحديث دليل على أن أموة المؤمنين لأزواجه دون سراريه،
|
ص -448-
|
والقرآن ما يدل إلا على ذلك؛ لأنه قال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وقال: {وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، وهذا أيضا دليل ثالث من الآية؛ لأن الضمير
في قوله: {وَإِذَا
سَأَلْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 53]،
عائد إلى أزواجه فليس للمملوكات ذكر في الخطاب، لكن إباحة سراريه من بعده فيه
نظر
فصل
من قال: من أن السراح والفراق صريح في الطلاق؛ لأن القرآن
ورد بذلك، وجعل الصريح ما استعمله القرآن فيه، كما يقوله الشافعى والقاضى
وغيرهما من الأصحاب، فقوله ضعيف لوجهين:
أحدهما: أن هذا الأصل لا دليل عليه، بل هو فاسد؛ فإن الواقع
أن الناس ينطقون بلغاتهم التي توافق لغة العرب أو تخالفها من عربية أخرى عربا
مقررة أو مغيرة لفظا أو معنى، أو من عربية مُوَلَّدة، أو عربية مُعَرَّبة، تلقيت
عن العجم، أو عن عجمية، فإن الطلاق ونحوه يثبت بجميع هذه الأنواع من اللغات، إذ
المدار على المعنى ولم يحرم ذلك عليهم، أو حرم عليهم فلم يلتزموه، فإن ذلك لا
يوجب وقوع ما لم يوقعوه وأيضاً، فاستعمال القرآن لفظا في معنى
|
ص -449-
|
لا يقتضى أن ذلك اللفظ لا يحتمل غير ذلك المعنى
الوجه الثانى: وهو القاصم أن هذه الألفاظ أكثر ما جاءت في
القرآن في غير الطلاق، مثل قوله: {إِذَا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ}
[الأحزاب: 49]، فهذا بعد التطليق البائن الذي لا عدة فيه أمر بتسريحهن مع
التمتيع، ولم يرد به إيقاع طلاق ثان، فإنه لا يقع ولا يؤمر به وفاقًا، وإنما
أراد التخلية بالفعل، وهو رفع الحبس عنها، حيث كان النكاح فيه الجمع ملكا وحكما،
والجمع حسا وفعلا بالحبس، وكلاهما موجبه، وهما متلازمان؛ فإذا زال الملك أُمِر
بإزالة اليد: كما يقال: في الأموال الملك والحيازة، فالقبض في الموضعين تابع
للعقد فإذا رفع العقد إما بإزالة اليد التي هى القبض
وقوله:
{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]، لا يستدل به على أن التسريح هو التطليق،
فإنه قد يريد به التخلية الفعلية حيث قرنه بالمتاع، لكن التخلية الفعلية مستلزمة
للتطليق، أو يريد به الأمرين، ولم يرد به الطلاق وحده؛ لأن ذلك لا يفيدهن بل
يضرهن، وكذلك قوله: { فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وقوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، كذلك فإن الرجعية إذا قاربت انقضاء العدة لا
يؤمر فيها بتطليق ثان إذا لم يرتجعها، وإنما يؤمر
|
ص -450-
|
بتخلية سبيلها وهو التسريح والفراق بالأبدان، بحيث لا يحبسهن ولا
يستولى عليهن، كرفع اليد عن الأموال
قوله:
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا
آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، نص في أنه لا حرج فيما أخطأ به من دعاء الرجل
إلى غير أبيه، أو إلى غير مولاه
ثم قد يستدل به على رفع الجناح في جميع ما أخطأ به الإنسان
من قول أو عمل: إما بالعموم لفظا، ويقال: ورود اللفظ العام على سبب مقارن له
في الخطاب لا يوجب قصره عليه، وإما بالعموم المعنوى بالجامع المشترك من أن
الإخطاء لا تأثير له في القلب، فيكون عمل جارحة بلا عمد قلب، والقلب هو الأصل
كما قال: "إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد
وإذا كان الأصل لم يعمل شيئا لم يضر عمل الفروع دونه؛ لأنه صالح لا فساد فيه
فيكون الجسد كله صالحا فلا يكون فاسداً، فلا يكون في ذلك إثم إذ الإثم لا يكون
إلا عن فساد في الجسد، وتكون هذه الآية ردفا لقوله: {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال: قد فعلت
ويؤيده قوله في الإيمان: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]،
{وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، فإنه
|
ص -451-
|
إذا كان اليمين بالله وفيها ما فيها لا يؤاخذ فيها إلا بما كسب
القلب، فغيرها من الأقوال كذلك وأولى، وإذا كان ما حلف عليه من اليمين يظنه كما
حلف عليه، فتبين بخلافه هو من الخطأ الذي هو اللغو؛ لأن قلبه لم يكسب مخالفة،
كما لو أنه أخبر بذلك من غير يمين لم يكن عليه إثم الكاذب، كما لو دعا الرجل
لغير أبيه ومولاه خطأ، وإذا لم يكن بلا يمين عليه إثم الكاذب لم يكن مع اليمين
عليه حكم الحالف المخالف؛ إذ اليمين على الماضى حين يؤكد بالقسم، فكذلك ما حلف
عليه من المستقبل، وفعل المحلوف عليه ناسيًا ليمينه، أو مخطئًا جاهلا بأنه
المحلوف عليه لم يكسب قلبه مخالفة ولا حنثا، كما أنه لو وعد بذلك من غير يمين لم
يكن مخالفًا، ولو أمر به فتركه كذلك لم يكن عاصيا
وهذا دليل يتناول الطلاق وغيره، إما من جهة العموم المعنوى
أو المعنوى واللفظى، وأى فرق بين أن يقارن اللغو عقد اليمين، أو يقارن الحنث
فيها، وقوله: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم
بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ}، أى: هذا
سبب المؤاخذة؛ لا أنه موجب لها بالاتفاق فيوجد الخطأ في سببها وشرطها، ومن قال:
لا لغو في الطلاق فلا حجة معه؛ بل عليه لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير
عمد القلب لم يقع به وفاقا، وأما إذا قصد اللفظ به هازلاً فقد عمد قلبه ذكره،
كما لو عمد ذكر اليمين به
|
ص -452-
|