عنوان الكتاب:

مجموع فتاوى ابن تيمية – الجزء الثامن

تأليف:

أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

728هـ

دراسة وتحقيق:

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم

الناشر:

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية

1416هـ/1995م

(العقيدة)
كتاب القدر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده0
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية  طيب الله ثراه‏:‏
فصل
في قدرة الرب عز وجل
اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله على كل شىء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جدًا‏.‏ وقد بسطت الكلام في الرد على من أنكر قدرة الرب في غير موضع، كما قد كتبناه على ‏[‏الأربعين‏]‏، و‏[‏المحصل‏]‏ وفي شرح ‏[‏الأصبهانية‏]‏ وغير ذلك، وتكلمنا على ما ذكره الرازي وغيره

 

ص -7-

في ‏[‏مسألة كون الرب قادرًا مختارًا‏]‏، وما وقع فيها من التقصير الكثير مما ليس هذا موضعه0
والمقصود هنا‏:‏ الكلام بين أهل الملل الذين يصدقون الرسل فنقول‏:‏ هنا مسائل‏:‏
المسألة الأولى‏:‏ قد أخبر الله أنه على كل شىء قدير، والناس في هذا على ثلاثة أقوال‏:‏
طائفة تقول‏:‏ هذا عام يدخل فيه الممتنع لذاته من الجمع بين الضدين، وكذلك يدخل في المقدور، كما قال ذلك طائفة منهم ابن حزم0
وطائفة تقول‏:‏ هذا عام مخصوص يخص منه الممتنع لذاته، فإنه وإن كان شيئًا، فإنه لا يدخل في المقدور، كما ذكر ذلك ابن عطية وغيره، وكلا القولين خطأ0
والصواب‏:‏ هو القول الثالث الذي عليه عامة النظار، وهو‏:‏ أن الممتنع لذاته ليس شيئًا البتة، و إن كانوا متنازعين في المعدوم، فإن الممتنع لذاته لا يمكن تحققه في الخارج، ولا يتصوره الذهن ثابتًا في الخارج، ولكن يقدر اجتماعهما في الذهن، ثم يحكم على ذلك بأنه ممتنع في الخارج؛ إذ كان يمتنع تحققه في الأعيان، وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل بأن يقال‏:‏ قد تجتمع

 

ص -8-

الحركة والسكون في الشىء، فهل يمكن في الخارج أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد، كما تجتمع الحركة والسكون‏؟‏ فيقال‏:‏ هذا غير ممكن، فيقدر اجتماع نظير الممكن ثم يحكم بامتناعه، وأما نفس اجتماع البياض والسواد في محل واحد، فلا يمكن ولا يعقل، فليس بشىء لا في الأعيان ولا في الأذهان، فلم يدخل في قوله‏:‏ ‏{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 2‏]‏0
المسألة الثانية‏:‏ أن المعدوم ليس بشىء في الخارج عند الجمهور وهو الصواب0
وقد يطلقون أن الشىء هو الموجود، فيقال على هذا‏:‏ فيلزم ألا يكون قادرًا إلا على موجود، وما لم يخلقه لا يكون قادرًا عليه، وهذا قول بعض أهل البدع، قالوا‏:‏ لا يكون قادرًا إلا على ما أراده، دون ما لم يرده، ويحكى هذا عن تلميذ النظام‏.‏ والذين قالوا‏:‏ إن الشىء هو الموجود  من نظار المثبتة كالأشعري، ومن وافقه من أتباع الأئمة؛ أحمد وغير أحمد، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهما  يقولون‏:‏ إنه قادر على الموجود، فيقال‏:‏ إن هؤلاء أثبتوا ما لم تثبته الآية، فالآية أثبتت قدرته على الموجود، وهؤلاء قالوا‏:‏ هو قادر على الموجود والمعدوم0
والتحقيق‏:‏ أن الشىء اسم لما يوجد في الأعيان، ولما يتصور في الأذهان، فما قدَّره الله وعلم أنه سيكون هو شىء في التقدير والعلم والكتاب، وإن لم يكن

 

ص -9-

/شيئًا في الخارج‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، ولفظ الشىء في الآية يتناول هذا وهذا، فهو على كل شىء ما وجد وكل ما تصوره الذهن موجودًا، إن تصور أن يكون موجودًا قديرًا، لا يستثنى من ذلك شىء، ولا يزاد عليه شىء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، وقد ثبت في الصحيحين‏:‏ أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏‏.‏ فلما نزل‏:‏{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ الآية قال‏:‏ ‏[‏هاتان أهون‏]‏‏.‏ فهو قادر على الأولتين وإن لم يفعلهما، وقال‏:‏ ‏{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏0
قال المفسرون‏:‏ لقادرون على أن نذهب به حتى تموتوا عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم‏.‏ ومعلوم أنه لم يذهب به، وهذا كقوله‏:‏ ‏
{أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 68-82‏]‏، وهذا يدل على أنه قادر على ما لا يفعله‏.‏ فإنه أخبر أنه لو شاء جعل الماء أجاجًا وهو لم يفعله، ومثل هذا‏:‏ ‏{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏0 ‏{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏، ‏{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، فإنه أخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أشياء وهو لم يفعلها، فلو لم يكن قادرًا عليها؛ لكان إذا شاءها لم يمكن فعلها0
المسألة الثالثة‏:‏ أنه على كل شىء قدير، فيدخل في ذلك

 

ص -10-

أفعال العباد وغير أفعال العباد‏.‏ وأكثر المعتزلة يقولون‏:‏ إن أفعال العبد غير مقدورة0
المسألة الرابعة‏:‏ أنه يدخل في ذلك أفعال نفسه، وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله تعالى‏:‏
‏{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، ‏{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 40‏]‏، ‏{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 4‏]‏ ونظائره كثيرة0
والقدرة على الأعيان جاءت في مثل قوله‏:‏
‏{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏، ‏{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏، وجاءت منصوصًا عليها في الكتاب والسنة0 أما الكتاب فقوله‏:‏ ‏{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 41‏]‏، فبين أنه  سبحانه  يقدر عليهم أنفسهم، وهذا نص في قدرته على الأعيان المفعولة، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، و‏{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ وهو يدل بمفهومه على أن الرب هو الجبار عليهم المسيطر، وذلك يستلزم قدرته عليهم، وقوله‏:‏ ‏{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏  على قول الحسن وغيره من السلف ممن جعله من القدرة  دليل على أن الله قادر عليه وعلى أمثاله، وكذلك قول الموصى لأهله‏:‏ لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين‏.‏ فلما حرقوه أعاده الله  تعالى  وقال له‏:‏ ‏(‏ما حملك على ما صنعت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ خشيتك يا رب‏!‏ فغفر له، وهو كان مخطئًا في قوله‏:‏ لئن قدر الله علي ليعذبني كما يدل عليه الحديث، وإن الله

 

ص -11-

قدر عليه، لكن لخشيته وإيمانه غفر الله له هذا الجهل والخطأ الذي وقع منه0
وقد يستدل بقوله‏:‏
‏{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 20 23‏]‏ على قول من جعله من القدرة، فإنه يتناول القدرة على المخلوقين وإن كان  سبحانه  قادرًا  أيضًا  على خلقه، فالقدرة على خلقه قدرة عليه، والقدرة عليه قدرة على خلقه، وجاء  أيضًا  الحديث منصوصًا في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود لما رآه يضرب عبده‏:‏ ‏(‏لله أقدر عليك منك على هذا‏)‏0 فهذا فيه بيان قدرة الرب على عين العبد، وأنه أقدر عليه منه على عبده، وفيه إثبات قدرة العبد0
وقد تنازع الناس في قدرة الرب والعبد، فقالت طائفة‏:‏ كلا النوعين يتناول الفعل القائم بالفاعل، ويتناول مقدوره وهذا أصح الأقوال، وبه نطق الكتاب والسنة، وهو أن كل نوع من القدرتين يتناول الفعل القائم بالقادر ومقدوره المباين له، وقد تبين بعض ما دل على ذلك في قدرة الرب‏.‏ وأما قدرة العبد، فذكر قدرته على الأفعال القائمة به كثيرة، وهذا متفق عليه بين الناس الذين يثبتون للعبد قدرة، مثل قوله‏:‏
‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، ‏{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، ‏{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبِكَ‏)‏‏

 

ص -12-

وأما المباين لمحل القدرة، فمثل قوله‏:‏ ‏{وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا‏}‏ إلى ‏{قَدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ ‏.‏2021‏]‏، فدل على أنهم قدروا على الأول، وهذه يمكن أن يقدروا عليها وقتًا آخر‏.‏ وهذه قدرة على الأعيان، وقوله‏:‏ ‏{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا‏}‏ الآية ‏[‏القلم‏:‏ 2532‏]‏0
قال أبو الفرج‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{قّادٌرٌينّ‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏
أحدها‏
:‏ قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة‏.‏ قلت‏:‏ وهو قول مجاهد وقتادة، رواه ابن أبي حاتم عنهما‏.‏ قال مجاهد‏:‏ قادرين في أنفسهم، وهذا الذي ذكره البغوي‏:‏ قادرين عند أنفسهم على جنتهم، وثمارها، لا يحول بينهم وبينها أحد، وعن قتادة قال‏:‏ غدا القوم وهم يحدون إلى جنتهم، قادرين على ذلك في أنفسهم0
قال أبو الفرج‏:‏ والثاني‏:‏ قادرين على المساكين، قاله الشعبي، أي‏:‏ على منعهم‏.‏ وقيل‏:‏ على إعطائهم لكن البخل منعهم من الإعطاء، والله أعلم0
والثالث‏:‏ غدوا وهم قادرين، أى‏:‏ واجدون، قاله ابن قتيبة0
قلت‏:‏ الآية وصفتهم بأنهم غدوا على حرد قادرين، فالحرد يرجع إلى القصد، فغدوا بإرادة جازمة وقدرة، ولكن الله أعجزهم‏.‏ وقول من قال‏:‏ قادرين عند أنفسهم، أى‏:‏ ظنوا أن الأمر يبقى كما كان، ولو كان كذلك، لتمت قدرتهم، لكن سلبوا القدرة بإهلاك جنتهم0

 

ص -13-

قال البغوي‏:‏ الحرد في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب‏.‏ قال الحسن وقتادة وأبو العالية‏:‏ على جد وجهد‏.‏ وقال القرطبي ومجاهد وعكرمة‏:‏ على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم‏.‏ قال‏:‏ وهذا على معنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشىء جاد مجمع على الأمر‏.‏ وقال أبو عبيدة والقُتَيبي‏:‏ غدوا من أنفسهم على حرد‏:‏ على منع المساكين، يقول‏:‏ حاردت السَّنَةُ‏:‏ إذا لم يكن لها مطر، وحاردت الناقة علىّ‏:‏ إذا لم يكن لها لبن‏.‏ وقال الشعبي وسفيان‏:‏ على حنق وغضب من المساكين‏.‏ وفي تفسير الوالبي‏:‏ عن ابن عباس‏:‏ على قدرة0
قلت‏:‏ الحرد فيه معنى العزم الشديد، فإن هذا اللفظ يقتضى هذا، وحرد السنة والناقة لما فيه من معنى الشدة، وكذلك الحنق والغضب فيه شدة؛ فكان لهم عزم شديد على أخذها، وعلى حرمان المساكين، وغدوا بهذا العزم قادرين ليس هناك ما يعجزهم وما يمنعهم، لكن جاءها أمر من السماء فأبطل ذلك كله، وقيل‏:‏ الحرد‏:‏ هو الغيظ والغضب، والله أعلم0
ونظير هذا  وهو صريح في المطلوب  أن القدرة تكون على الأعيان، قوله تعالى‏:‏
‏{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ‏}‏ الآية‏:‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، يبين أنه لولا الجائحة لكان ظنهم صادقًا، وكانوا قادرين عليها، لكن لما أتاها أمر الله تبين خطأ الظن، ولو لم يكونوا قادرين عليها لا في حال سلامتها ولا في حال عطبها، لم يكن الله أبطل ظنهم بما أحدثه

 

ص -14-

/من الإهلاك، وهؤلاء لم يكونوا ذهبوا ليحصدوا، بل سلبوا القدرة عليها  وهي القدرة التامة  فانتفت لانتفاء المحل القابل؛ لا لضعف من الفاعل، وفي تلك قال‏:‏ ‏{عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 25‏]‏، ولم يقل‏:‏ قادرين عند أنفسهم، فإن كان كما قاله من قال‏:‏ عند أنفسهم فالمعنى واحد، وإن أريد بكونهم قادرين، أي‏:‏ ليس في أنفسهم ما ينافى القدرة؛ كالمرض والضعف، ولكن بطل محل القدرة كالذي يقدر على النقد والرزق ولا شىء عنده0
وقوله تعالى‏:‏ ‏
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏، فهم في هذه الحال لا يقدرون مما كسبوا على شىء، فدل على أنهم في غير هذا يقدرون على ما كسبوا، وكذلك غيرهم يقدر على ما كسب، فالمراد بالمكسوب المال المكسوب0
وقوله تعالى‏:‏ ‏
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75‏]‏، فلما ذكر في المملوك أنه لا يقدر على شىء، ومقصوده أن الآخر ليس كذلك، بل هو قادر على ما لا يقدر عليه هذا، وهو إثبات الرزق الحسن مقدورًا لصاحبه، وصاحبه قادر عليه، و بهذا ينطق عامة العقلاء يقولون‏:‏ فلان يقدر على كذا وكذا، وفلان يقدر على كذا وكذا، ومقدرة هذا دون مقدرة هذا0

 

ص -15-

ومما يبين ذلك‏:‏ أن الملك نائب للعباد على ما ملكهم الله إياه، والملك مستلزم للقدرة فلا يكون مالكًا إلا من هو قادر على التصرف بنفسه، أو بوليه أو وكيله، والعقد والمنقول مملوك لمالكه، فدل على أنه مقدور له، وقد قال موسى‏:‏ ‏{رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏، لما كان قادرًا على التصرف في أخيه؛ لطاعته له جعل ذلك ملكا له، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ أي‏:‏ مطيقين، فدل على أنهم صاروا مقرنين مطيقين لما سخرها لهم، فهو معنى قوله‏:‏ ‏{فّهٍمً لّهّا مّالٌكٍونّ‏}‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 97‏]‏، فدل على أنهم لو نقبوا ذلك لكانوا قد استطاعوا النقب، والنقب ليس هو حركة أيديهم، بل هو جعل الشىء منقوبًا، فدل على أن ذلك النقب مقدور للعباد0
وأيضًا، فالقرآن دل على أن المفعولات الخارجة مصنوعة لهم، وما كان مصنوعًا لهم فهو مقدور بالضرورة والاتفاق، والمنازع يقول‏:‏ ليس شىء خارجًا عن محل قدرتهم مصنوعًا لهم، و هذا خلاف القرآن، قال تعالى لنوح‏:‏
‏{وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37، 38‏]‏، وقد أخبر أن الفلك مخلوقة مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها من آياته، فقال‏:‏ ‏{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏، ‏{سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏، ‏{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏.‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95، 96‏]‏0

 

ص -16-

فجعل الأصنام منحوتة معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم فإن ‏[‏ما‏]‏ هاهنا بمعنى الذي، والمراد خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقًا للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد‏.‏ وأما قول من قال‏:‏ ‏[‏ما‏]‏ مصدرية، فضعيف جدًا0
وقال تعالى‏:
‏ ‏{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، وإنما دمر ما بنوه وعرشوه، فأما الأعراض التي قامت بهم، فتلك فنيت قبل أن يغرقوا، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏ دليل على أن العروش مفعول لهم، هم فعلوا العرش الذي فيه، وهو التأليف، ومثل قوله‏:‏ ‏{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128‏]‏، يدل على أن المبني هم بنوه، حيث قال‏:‏ ‏{أَتَبْنُونَ‏}‏‏؟‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 149‏]‏، هو كقوله‏:‏ ‏{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 9‏]‏، دل على أنهم جابوا الصخر، أي‏:‏ قطعوه0
ومنه قوله تعالى‏:‏
‏{فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، فأمر بقتلهم، والأمر إنما يكون بمقدور العبد، فدل على أن القتل مقدور له، وهو الفعل الذي يفعله في الشخص فيموت، وهو مثل الذبح، ومنه قوله‏:‏ ‏{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، يدل على أن الصيد مقتول للآدمي الذي قتله، بخلاف قوله‏:‏ ‏{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏، فإنه مثل قوله‏:‏ ‏{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ‏ رَمَى}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏،

 

ص -17-

فإن قتلهم حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، مثل إنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وكذلك الرمي، لم يكن في قدرته أن التراب يصيب أعينهم كلهم، ويرعب قلوبهم، فالرمي الذي جعله الله خارجًا عن قدرة العبد المعتاد، هو الرمي الذي نفاه الله عنه0
قال أبو عبيد‏:‏ ما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله ظفرك وأيدك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ما بلغ رميك كفًا من تراب، أو حصًا أن يملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله تولى ذلك‏.‏ وذكر ابن الأنباري‏:‏ ما رميت قلوبهم بالرعب، إذ رميت وجوههم بالتراب‏.‏ ولهذا كان هذا أمرًا خارجًا عن مقدوره، فكان من آيات نبوته0
وقيل‏:‏ بل الرب  تعالى  لا يقدر إلا على المخلوق المنفصل لا يقوم به فعل يقدر عليه، والعبد لا يقدر إلا على ما يقوم بذاته، لا يقدر على شىء منفصل عنه، وهذا قول الأشعري ومن وافقه من أتباع الأئمة‏:‏ كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم0
وقيل‏:‏ إن العبد يقدر على هذا وهذا، والرب لا يقدر إلا على المنفصل وهو قول المعتزلة، وقيل‏:‏ إن كليهما يقدر على ما يقوم به دون المنفصل، وما علمت أحدًا قال‏:‏ كلاهما يقدر على المنفصل دون المتصل0
المسألة الخامسة‏:‏ أن القدرة هي قدرته على الفعل، والفعل نوعان‏:‏

 

ص -18-

لازم، و متعد، والنوعان في قوله‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، فالاستواء والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك أفعال لازمة، لا تتعدى إلى مفعول؛ بل هي قائمة بالفاعل، والخلق والرزق والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع، والهدى والنصر، والتنزيل ونحو ذلك، تتعدى إلى مفعول0
والناس في هذين النوعين على ثلاثة أقوال‏:‏
منهم من لا يثبت فعلا قائما بالفاعل، لا لازمًا ولا متعديًا، أما اللازم فهو عنده منتفٍ، وأما المتعدى  كالخلق  فيقول‏:‏ الخلق هو المخلوق، أو معنى غير المخلوق، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم كالأشعري ومتبعيه، وهذا أول قولي القاضي أبي يعلى، وقول ابن عقيل‏.‏
وكثير من المعتزلة يقولون‏:‏ الخلق هو المخلوق‏.‏ وآخرون يقولون‏:‏ هو غيره، لكن يقولون‏:‏ بأن الخلق له خلق آخر، كما يقوله مَعْمَر بن عَبَّاد، ويسمون أصحاب المعاني المتسلسلة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ الخلق هو نفس الإرادة، كما يقوله من يقوله من بعض المعتزلة من أهل البصرة0
والقول الثاني‏:‏ أن الفعل المتعدي قائم بنفسه دون اللازم‏.‏ فيقولون‏:‏ الخلق قائم بنفسه ليس هو المخلوق‏.‏ وهم على قولين‏:‏

 

ص -19-

منهم من جعل ذلك الفعل حادثًا0
ومنهم من يجعله قديمًا، فيقول‏:‏ التخليق والتكوين قديم أزلي‏.‏ وهؤلاء منهم من يجعل عين التخليق شيئًا واحدًا هو قديم، والمخلوقين مادته؛ ولكنه قديم أزلي، ولا يثبتون نزولا قائمًا بنفسه، ولا استواء؛ لأن هذه حوادث وهذا قول الكُلابِيَّة الذين يقولون‏:‏ فعله قديم مثل كلامه، كما قال أصحاب ابن خُزَيْمَة، وهو قول كثير من الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية، ومنهم من يجعل القديم هو النوع وأفراده حادثة، فعلى هذا القول يكون الفعل نفسه مقدورًا، وأما على قول من يجعله شيئًا معينًا، فهؤلاء إن قالوا‏:‏ قديم، تناقضوا ولزمهم أن يكون القديم المعين مقدورًا، وإن قالوا‏:‏ هو غير مقدور، تناقضوا؛ لأن الفعل يجب أن يكون مقدورًا، والله أعلم0
والقول الثالث‏:‏ إثبات الفعلين‏:‏ اللازم والمتعدي كما دل عليه القرآن، فنقول‏:‏ إنه كما أخبر عن نفسه‏:‏ إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو قول السلف وأئمة السنة، وهو قول من يقول‏:‏ إنه تقوم به الصفات الاختيارية كأصحاب أبي معاذ وزهير البابي وداود بن علي والكَرَّامِيَّة وغيرهم من الطوائف، وإن كانت الكرامية يقولون‏:‏ بأن النزول والإتيان أفعال تقوم به، وهؤلاء يقولون‏:‏ يقدر على أن يأتي ويجيء وينزل ويستوي، ونحو ذلك من الأفعال، كما أخبر عن نفسه، وهذا هو الكمال0

 

ص -20-

وقد صرح أئمة هذا القول بأنه يتحرك، كما ذكر ذلك حرب الكَرْماني عن أهل السنة والجماعة، وسمى منهم‏:‏ أحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم‏.‏ وكذلك ذكره عثمان بن سعيد الدارمي عن أهل السنة، وجعل نفي الحركة عن الله  عز وجل  من أقوال الجهمية التي أنكرها السلف، وقال‏:‏ كل حي متحرك، وما لا يتحرك فليس بحي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا قال لك الجهمي‏:‏ أنا كافر برب يتحرك، فقل‏:‏ أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء0
وهؤلاء يقولون‏:‏ من جعل هذه الأفعال غير ممكنة ولا مقدورة له، فقد جعله دون الجماد، فإن الجماد وإن كان لا يتحرك بنفسه فهو يقبل الحركة في الجملة‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ إنه  تعالى  لا يقبل ذلك بوجه ولا تمكنه الحركة، والحركة والفعل صفة كمال، كالعلم والقدرة والإرادة، فالذين ينفون تلك الصفات سلبوه صفات الكمال، فكذلك هؤلاء الكلابية0
وأولئك  نفاة الصفات  إذا قيل لهم‏:‏ لو لم يكن حيًا، عليمًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا؛ للزم أن يكون ميتًا، جاهلاً، أصم، أعمى، أخرس، وهذه نقائص يجب تنزيهه عنها، فإنه  سبحانه  قد خلق من هو حي سميع بصير متكلم عالم، قادر متحرك، فهو أولى بأن يكون كذلك، فإن كل كمال في المخلوق المعلول فهو من كمال الخالق الذي يسمونه علة فاعلية‏.‏

 

ص -21-

وأيضًا، فالقديم الواجب بنفسه أكمل من المحدث، فيمتنع أن يختص الناقص بالكمال‏.‏ قالوا‏:‏ وأما الجماد فلا يسمي حيًا ولا ميتًا‏.‏ وقد ذكرنا في غير موضع الجواب عن هذه بأجوبة‏:‏
أحدها‏:‏ أن قولهم‏:‏ إن الجماد لا يسمى حيًا، وإنما يسمى ميتًا ما كان قابلاً للحياة‏:‏ هو اصطلاح، وإلا فالقرآن قد سمى الجماد ميتًا في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏
‏{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏.‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 20، 21‏]‏، فسمى الأصنام أمواتًا وهي حجارة، وقال‏:‏ ‏{وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33‏]‏0
الوجه الثاني‏:‏ لا نسلم امتناع قبول هذه الحياة، بل الرب  تعالى  قد جعل الجمادات قابلة للحياة، ولا يمتنع قبولها لها، فإن الله تعالى قد جعل عصى موسى حية تسعى، فدل على أن الخشب يمكن أن يكون حيوانًا، وموسى لما اغتسل جعل ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، وقد أحيا الله الحوت المشوي الذي كان معه ومع فتاه، وقد سبح الحصا والطعام  سبح وهو يؤكل  وكان حجر يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع، والجبال سبحت مع داود، ونظائر هذا كثيرة، وقد قال تعالى‏:
‏ ‏{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏0
الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ هب أنه لا يوصف بالموت إلا ما قبل الحياة، فمعلوم أن ما قبل الحياة أكمل ممن لا يقبلها، فالجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ

 

ص -22-

 فيه الروح أكمل من الحجر، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏، فالجنين يمكن أن يصير حيًا في العادة، ناطقًا نطقًا يسمعه الإنسان السماع المعتاد، فهو أكمل من الحجر والتراب0
وأيضًا، فيقال لهم‏:‏ رب العالمين إما أن يقبل الاتصاف بالحياة والعلم ونحو ذلك، وإما ألا يقبل، فإن لم يقبل ذلك ولم يتصف به، كان دون الأعمى الأصم الأبكم، وإن قبلها ولم يتصف بها، كان ما يتصف بها أكمل منه، فجعلوه دون الإنسان والبهائم، وهكذا يقال لهم في أنواع الفعل القائم به  كالإتيان، والمجىء، والنزول، وجنس الحركة‏:‏ إما أن يقبل ذلك وإما ألا يقبله، فإن لم يقبله، كانت الأجسام التي تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله، كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك، وما يقبل الحركة أكمل ممن لا يقبلها0
والنفاة عمدتهم أنه لو قبل الحركة لم يخل منها، ويلزم وجود حوادث لا تتناهى، ثم ادعوا نفي ذلك وفي نفيه نقائص لا تتناهى، والمثبتون لذلك يقولون‏:‏ هذا هو الكمال، كما قال السلف‏:‏ لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، كما قال ذلك ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما‏.‏ وذكر البخاري عن نعيم بن حماد أنه قال‏:‏ الحي هو الفعال، وما ليس بفعال فليس بحي‏.‏ وقد عرف

 

ص -23-

بطلان قول الجهمية وغيرهم بامتناع دوام الفعل والحوادث، كما قد بسط في غير هذا الموضع0
والمقصود هاهنا، أن هؤلاء لا يجعلونه قادرًا على هذه الأفعال، وهي أصل الفعل، فلا يكون على شىء قدير على قولهم، بل ولا على شىء، وقد قال‏:‏ ‏
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهٌِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ قال ابن عباس  في رواية الوالبي عنه ‏:‏ هذه في الكفار، فأما من آمن أن الله على كل شىء قدير، فقد قدر الله حق قدره0
وذكروا في قوله‏:‏
‏{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 74‏]‏، ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما وصفوه حق صفته، وهذه الكلمة ذكرها الله في ثلاثة مواضع‏:‏ في الرد على المعطلة، وعلى المشركين، وعلى من أنكر إنزال شىء على البشر، فقال في الأنعام‏:‏ ‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، وقال في الحج‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الآيتان‏:‏ 73، 74‏]‏، وقال في الزمر‏:‏ ‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 67‏]‏0
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود‏:‏ أن حبرًا من اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
يا محمد، إن الله يوم القيامة يجعل السموات على

 

ص -24-

إصبع، والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، ويقول‏:‏ أنا الملك‏.‏ قال‏:‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ‏:‏ ‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ الآية‏.‏ وفي الصحيحين  أيضًا  عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين ملوك الأرض‏؟‏ ثم يقول‏:‏ أين الجبارون‏؟‏ أين المتكبرون‏؟‏‏)‏، وكذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر‏:‏‏)‏يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين الجبارون‏؟‏ أين المتكبرون‏؟‏‏(‏، وفي لفظ لمسلم قال‏:‏ ‏(‏يأخذ الجبار تبارك وتعالى سمواته وأرضه بيديه جميعًا، فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أنا الجبار، وأنا الملك، أين الجبارون‏؟‏وأين المتكبرون ‏؟‏ ‏!‏‏)‏ ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شىء منه حتى إني لأقول‏:‏ أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم0
وفي السنن‏:‏ عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏ قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال‏:‏ ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه‏:‏ ‏(‏سبحان ذي الجبروت و الملكوت والكبرياء والعظمة‏)‏، ثم يسجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة‏.‏ رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل‏.‏ فقال في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏سبحان ذي

 

ص -25-

الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة‏)‏‏.‏ وهذه الأربعة نوزع الرب فيها، كما قال‏:‏ ‏(‏أين الملوك‏؟‏‏!‏ أين الجبارون‏؟‏‏!‏ أين المتكبرون‏؟‏‏!‏‏)‏، وقال عز وجل‏:‏ ‏(‏العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته‏)‏0
ونفاة الصفات ما قدروا الله حق قدره، فإنه عندهم لا يمسك شيئًا ولا يقبضه ولا يطويه، بل كل ذلك ممتنع عليه، ولا يقدر على شىء من ذلك، وهم  أيضًا  في الحقيقة يقولون‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شىء لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن الإنزال إنما يكون من علو، والله  تعالى  عندهم ليس في العلو، فلم ينزل منه شىء، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏، ‏{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1، الجاثية‏:‏ 2، الأحقاف‏:‏ 2‏]‏ إلى غير ذلك، وقولهم‏:‏ إنه خلقه في مخلوق، ونزل منه باطل؛ لأنه قال‏:‏ ‏{مٍنّزَّلِ مٌَن رَّبٌَكّ‏}‏ ولم يجئ هذا في غير القرآن، والحديد ذكر أنه أنزله مطلقًا، ولم يقل‏:‏ منه، وهو منزل من الجبال، والمطر أنزل من السماء، والمراد‏:‏ أنه أنزله من السحاب، وهو المزْن، كما ذكر ذلك في قوله‏:‏ ‏{أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 69‏]‏0
والثاني‏:‏ أنه لو كان من مخلوق لكان صفة له وكلاماً له، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل؛ ولأن الله لا يتصف بالمخلوقات، ولو اتصف بذلك لاتصف بأنه مصوت إذا خلق الأصوات، ومتحرك إذا خلق الحركات في غيره، إلى غير ذلك، إلى أن قال‏:‏ فقد تبين أن الجهمية ما قدروا

 

ص -26-

 الله حق قدره، وإنهم داخلون في هذه الآية، وإنهم لم يثبتوا قدرته لا على فعل ولا على الكلام بمشيئته، ولا علي نزوله، ولا على إنزاله منه شيئًا، فهم من أبعد الناس عن التصديق بقدرة الله، وأنه على كل شىء قدير، وإذا لم يكن قديرًا لم يكن قويًا، ويلزمهم أنه لم يخلق شيئًا، فيلزمهم الدخول في قوله‏:‏ ‏{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ‏.‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73، 74 ‏]‏0
فهم ينفون حقيقة قدرته في الأزل، وحقيقة قولهم‏:‏ إنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، والقدرة التي يثبتونها لا حقيقة لها0
وهذا أصل مهم، من تصوره عرف حقيقة الأقوال الباطلة، وما يلزمها من اللوازم، وعرف الحق الذي دل عليه صحيح المنقول، وصريح المعقول، لا سيما في هذه الأصول التي هي أصول كل الأصول، والضالون فيها لما ضيعوا الأصول حرموا الوصول، وقد تبين أنه كلما تحققت الحقائق، وأعطى النظر والاستدلال حقه من التمام؛ كان ما دل عليه القرآن هو الحق، وهو الموافق للمعقول الصريح الذي لم يشتبه بغيره مما يسمى معقولاً، وهو مشتبه مختلط، كما قال مجاهد في قوله تعالى‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، قال‏:‏ هم أهل البدع والشبهات، فهم في أمور مبتدعة في الشرع، مشتبهة في العقل0
والصواب‏:‏ هو ما كان موافقًا للشرع مبينًا في العقل، فإن الله  سبحانه  أخبر أن القرآن منزل منه، وأنه تنزيل منه، وأنه كلامه، وأنه قوله، وأنه كفر من قال‏:‏ إنه قول البشر، وأخبر أنه قول رسول كريم من الملائكة ورسول كريم

 

ص -27-

من البشر، والرسول يتضمن المرسل، فبين أن كلا من الرسولين بلغه، لم يحدث هو منه شيئًا، وأخبر أنه جعله قرآنًا عربيًا، وقال عما ينزل منه جديدًا بعد نزول غيره قديمًا‏:‏ ‏{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2‏]‏، وأخبر أن للكلام المعين وقتًا معينًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى‏}‏‏[‏طه‏:‏ 11‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏0
والذين قالوا‏:‏ إنه مخلوق، ليس معهم حجة إلا ما يدل على أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وهذا حق، لكن ضموا إلى ذلك أن ما كان بمشيئته لا يقوم بذاته، فغلطوا ولبسوا الحق بالباطل، فضموا ما نطق به القرآن الموافق للشرع والعقل إلى ما أحدثوه من البدع والشبهات0
وكذلك الذين قالوا‏:‏ إنه قديم، ليس معهم إلا ما يدل على أنه قائم بذاته، لكن ضموا إلى ذلك أن ما يقوم بذاته لا يكون بمشيئته وقدرته، فأخطؤوا في ذلك ولبسوا الحق بالباطل، وأولئك فسروا قوله‏:‏
‏{جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، بأنه جعله بائنًا عنه مخلوقًا، وقالوا‏:‏ جعل بمعنى‏:‏ خلق، وهؤلاء قالوا‏:‏ جعلناه‏:‏ سميناه، كما في قوله‏:‏ ‏{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏، وهذا إنما يقال فيمن اعتقد في الشىء صفة حقًا أو باطلا إذا كانت الصفة خفية، فيقال‏:‏ أخبرعنه بكذا، وكون القرآن عربيًا أمر ظاهر لا يحتاج إلى الإخبار، ثم كل من أخبر بأنه عربي فقد جعله عربيًا بهذا الاعتبار، والرب  تعالى  اختص بجعله عربيًا، فإنه

 

ص -28-

 هو الذي تكلم به وأنزله، فجعله قرآنًا عربيًا بفعل قام بنفسه وهو تكلم به، واختاره لأن يتكلم به عربيًا  عن غير ذلك من الألسنة  باللسان العربي وأنزله به0
ولهذا قال أحمد‏:‏ الجعل من الله قد يكون خلقًا وقد يكون غير خلق، فالجعل فعل، والفعل قد يكون متعديًا إلى مفعول مباين له؛ كالخلق، وقد يكون الفعل لازمًا وإن كان له مفعول في اللغة كان مفعوله قائمًا بالفعل؛ مثل التكلم، فإن التكلم فعل يقوم بالمتكلم والكلام نفسه قائم بالمتكلم، فهو  سبحانه  جعله قرآنًا عربيًا، فالجعل قائم به والقرآن العربي قائم به، فإن الكلام يتضمن شيئين‏:‏ يتضمن فعلا؛ هو التكلم، والحروف المنظومة والأصوات الحاصلة بذلك الفعل؛ ولهذا يجعل القول تارة نوعًا من الفعل، وتارة قسيمًا للفعل، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، والله أعلم0
وقد ذكرت في غير هذا الموضع‏:‏ أنه ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل، إلا وذلك الدليل إذا أعطى حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل؛ تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به، وأنه دليل لأهل الحق، وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقا، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا، والله أعلم0
المسألة السادسة‏:‏ دوام كونه قادرًا في الأزل والأبد، فإنه قادر ولا

 

ص -29-

 يزال قادرًا على ما يشاؤه بمشيئته، فلم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء، وهذا قول السلف والأئمة كابن المبارك وأحمد0
إلى أن قال‏:‏ وفي صحيح البخاري  تعليقًا  عن سعيد بن جبير؛ أن رجلاً سأل ابن عباس عن قوله‏:‏
‏{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏، ‏{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 7‏]‏، ‏{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 134‏]‏، فكأنه كان فمضى، فقال ابن عباس‏:‏ قوله‏:‏ ‏{وَكَانَ اللَّهُ‏}‏، ‏{وَكَانَ اللَّهُ‏}‏ فإنه يجل نفسه عن ذلك، وسمى نفسه بذلك لم يجله أحد غيره، وكان أي‏:‏ لم يزل كذلك‏.‏ رواه عبد بن حميد في تفسيره مسندًا موصولا، ورواه ابن المنذر  أيضًا  في تفسيره، وهذا لفظ رواية عبد 0
والمقصود هنا التنبيه على تنازع الناس في مسألة القدرة‏.‏ وفي الحقيقة أنه من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرًا، فالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة والقدرية المجبرة والنافية، حقيقة قولهم‏:‏ إنه ليس قادرًا وليس له الملك، فإن الملك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلابد من القدرة، فمن لم يثبت له القدرة حقيقة لم يثبت له ملكًا، كما لا يثبتون له حمدًا0
إلى أن قال‏:‏ وأيضًا فالقديم الأزلي‏:‏ القيوم الصمد الواجب الوجود بنفسه، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، أحق بالكمال من الممكن المحدث المفتقر، فيمتنع أن يكون هذا قادرًا على الكلام والفعل، والقيوم

 

ص -30-

  الصمد ليس قادرًا على الفعل والكلام، إلى أن قال‏:‏
والمقصود هنا أنه  سبحانه  عدل لا يظلم وعدله إحسان إلى خلقه، فكل ما خلقه فهو إحسان إلى عباده؛ ولهذا كان مستحقًا للحمد على كل حال؛ ولهذا ذكر في سورة النجم أنواعًا من مقدوراته، ثم قال‏:‏ ‏
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 55‏]‏، فدل على أن هذه الأنعم مثل إهلاك الأمم المكذبة للرسل، فإن في ذلك من الدلالة على قدرته وحكمته ونعمته على المؤمنين ونصره للرسل، وتحقيق ما جاؤوا به، وأن السعادة في متابعتهم والشقاوة في مخالفتهم ما هو من أعظم النعم0
وكذلك ما ذكره في سورة الرحمن، وكل مخلوق هو من آلائه من وجوه‏:‏ منها أنه يستدل به عليه وعلى توحيده وقدرته وغير ذلك، وأنه يحصل به الإيمان والعلم وذكر الرب‏.‏ وهذه النعمة أفضل ما أنعم الله به على عباده في الدنيا، وكل مخلوق يعين عليها ويدل عليها، هذا مع ما في المخلوقات من المنافع لعباده غير الاستدلال بها، فإنه  سبحانه  يقول‏:‏ ‏
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏[‏الرحمن‏:‏ 13‏]‏؛ لما يذكر ما يذكره من الآية، وقال‏:‏ ‏{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏، والآلاء‏:‏ هي النعم، والنعم كلها من آياته الدالة على نفسه المقدسة ووحدانيته ونعوته ومعاني أسمائه، فهي آلاء آيات، وكل ما كان من آلائه فهو من آياته، وهذا ظاهر، وكذلك كل ما كان من آياته فهو من آلائه، فإنه يتضمن التعريف والهداية والدلالة على الرب  تعالى  وقدرته وحكمته ورحمته ودينه، والهدى أفضل النعم‏.‏

 

ص -31-

وأيضًا، ففيها نعم ومنافع لعباده غير الاستدلال، كما في خلق الشمس والقمر والسحاب والمطر والحيوان والنبات، فإن هذه كلها من آياته، وفيها نعم عظيمة على عباده غير الاستدلال، فهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلالة، قال تعالى‏:‏{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، وقال‏:‏ ‏{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 8‏]‏، فإن العبد يدعوه إلى عبادة الله داعي الشكر وداعي العلم، فإنه يشهد نعم الله عليه، وذاك داع إلى شكرها، وقد جبلت النفوس علي حب من أحسن إليها، والله تعالى هو المنعم المحسن الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده، كما في الحديث‏:‏ ‏(‏من قال إذا أصبح‏:‏ اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قال ذلك إذا أمسى فقد أدى شكر تلك الليلة‏)‏0 رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ الحمد لله ربي لا أشرك به شيئًا أشهد أن لا إله إلا الله‏)‏0
وقد ذم سبحانه من كفر بعد إيمانه كما قال‏:‏
‏{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 63‏]‏، فهذا في كشف الضر، وفي النعم قال‏:‏ ‏{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 82‏]‏، أي‏:‏ شكركم، وشكر ما رزقكم الله، ونصيبكم تجعلونه تكذيبًا وهو الاستسقاء بالأنواء، كما ثبت في حديث ابن عباس الصحيح قال‏:‏ مطر

 

ص -32-

الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر‏)‏، قالوا‏:‏ هذه رحمة الله، وقال بعضهم‏:‏ لقد صدق نَوْء كذا وكذا، قال‏:‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75  82‏]‏ رواه مسلم0
وفي صحيح مسلم  أيضًا  عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏(‏ما أنزل من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغَيْث فيقول‏:‏ الكوكب كذا وكذا‏)‏، وفي لفظ له‏:‏ ‏(‏بكوكب كذا وكذا‏)‏، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح على إثر سَمَاء كانت من الليل، قال‏:‏ ‏(‏أتدرون ماذا قال ربكم‏؟‏‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم ‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال‏:‏ مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال‏:‏ مطرنا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب‏)‏، وهذا كثير جدًا في الكتاب والسنة، يذم  سبحانه  من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشركه به، قال بعض السلف‏:‏ هو كقولهم‏:‏ كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا0
ولهذا قرن الشكر بالتوحيد في الفاتحة وغيرها؛ أولها شكر، وأوسطها توحيد، وفي الخطب المشروعة لابد فيها من تحميد وتوحيد، وهذان هما ركن في كل خطاب، ثم بعد ذلك يذكر المتكلم من مقصوده ما يناسب من الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وغير ذلك0

 

ص -33-

وقوله‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد‏)‏، يتضمن التوحيد والتحميد، وكذلك كان يقول عقب الصلاة‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون‏)‏، وهو  سبحانه  يفتتح خطابه بالحمد ويختم الأمور بالحمد، وأول ما خلق آدم كان أول شىء أنطقه به الحمد، فإنه عطس فأنطقه بقوله‏:‏ الحمد لله، فقال له‏:‏ يرحمك ربك يا آدم‏!‏ وكان أول ما تكلم به الحمد، وأول ما سمعه الرحمة0
وهو يختم الأمور بالحمد كقوله‏:‏
‏{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏، ‏{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏، ‏{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏، وهو سبحانه‏:‏ ‏{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 70‏]‏0
والتوحيد أول الدين وآخره، فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، وقال‏
:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله‏)‏ ، وقال لمعاذ‏:‏ ‏(‏إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)‏، وختم الأمر بالتوحيد فقال في الصحيح  من رواية مسلم  عن عثمان‏:‏ ‏(‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏، وفي الحديث الصحيح من رواية مسلم عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله‏)‏، وفي السنن من حديث معاذ‏:‏ ‏(‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏، وفي المسند‏(‏إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد

 

ص -34-

 حين الموت إلا وجد روحه لها روحًا‏)‏، وهي الكلمة التي عرضها على عمه عند الموت0
فهو  سبحانه  جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، فيتذكر الآيات المثبتة للعلم والإيمان، فإذا عرف آلاء الله شكره على آلائه، وكلاهما متلازمان، فالآيات والآلاء متلازمان، ما كان من الآلاء فهو من الآيات، وما كان من الآيات فهو من الآلاء، وكذلك الشكر والتذكر متلازمان، فإن الشاكر إنما يشكر بحمده، وطاعته، وفعل ما أمر به، وذلك إنما يكون بتذكر ما تدل عليه آياته من أسمائه وممادحه، ومن أمره ونهيه، فيثنى عليه بالخير، ويطاع في الأمر هذا هو الشكر، ولابد فيهما من التذكر، والمتذكر إذا تذكر آياته عرف ما فيها من النعمة والإحسان، فآياته تعم المخلوقات كلها، وهي خير ونعم وإحسان‏.‏
فكل ما خلقه  سبحانه  فهو نعمة على عباده، وهو خير، وهو  سبحانه  بيده الخير، والخير بيديه، وفي دعاء القنوت‏(‏ونثني عليك الخير كله‏)‏، وفي دعاء الاستفتاح‏:‏
‏(‏والخير بيديك، والشر ليس إليك‏)‏0
وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة، كما قال‏:‏
‏{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏ ‏{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏، وهو  سبحانه  غني عن العالمين، فالحكمة تتضمن شيئين‏:‏
أحدهما‏:‏ حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها0

 

ص -35-

والثاني‏:‏ إلى عباده، هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها، وهذا في المأمورات وفي المخلوقات0
أما في المأمورات، فإن الطاعة هو يحبها ويرضاها، ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يعرفه الناس، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه، فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه، ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة، وذلك مما يفرح به العبد المطيع، فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده، قال تعالى‏:‏ ‏
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍُ‏.‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏.‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏.‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10-13‏]‏0
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها، وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار، وقد قال في أول السورة‏:‏ ‏
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏، فهو يحب ذلك، ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى، وفيه رحمة للعباد، وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا

 

ص -36-

والآخرة، هكذا سائر ما أمر به، وكذلك ما خلقه خلقه لحكمة تعود إليه يحبها، وخلقه لرحمة بالعباد ينتفعون بها0
والناس لما تكلموا في علة الخلق وحكمته؛ تكلم كل قوم بحسب علمهم، فأصابوا وجهًا من الحق، وخفى عليهم وجوه أخرى0
وهكذا عامة ما تنازع فيه الناس، يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشىء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق، فهم جاؤوا بالصدق وصدقوا به فلا يختلفون0
ولأهل الكلام هنا ثلاثة أقوال لثلاث طوائف مشهورة، وقد وافق كل طائفة ناس من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد‏:‏
القول الأول‏:‏ قول من نفى الحكمة وقالوا‏:‏ هذا يفضي إلى الحاجة، فقالوا‏:‏ يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا له القدرة والمشيئة، وإنه يفعل ما يشاء‏.‏ وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة، وهذا قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يَعْلَى وابن الزاغوني والجُوَيْني

 

ص -37-

 والباجي ونحوهم، وهذا القول في الأصل قول جَهْم ابن صفوان ومن اتبعه من المجبرة0
والفلاسفة لهم قول أبعد من هذا، وهو‏:‏ أن ما يقع من عذاب النفوس وغير ذلك من الضرر لا يمكن دفعه، فإنهم يقولون‏:‏ إنه موجب بذاته، وكل ما يقع هو من لوازم ذاته‏.‏ ولو قالوا‏:‏ إنه موجب بمشيئته وقدرته لما يفعله لكانوا قد أصابوا، وقد قالوا  أيضًا ‏:‏ الشر يقع في العالم مغلوبًا مع الخير في الوجود، وهذا صحيح؛ لكن هذا يستلزم أن يكون الخالق قد خلق لحكمة معلومة تسلم ولا تعد، وإلا فمع انتفاء هذين يبقى الكلام ضائعًا، ففي قول كل طائفة نوع من الحق ونوع من الباطل، فهذه أربعة أقوال0
والقول الخامس، قول الأئمة، وهو أن له حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة 0
والقول الثاني  أي‏:‏ من الثلاثة التي لأهل الكلام ‏:‏ أنه يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهو نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق، ولم يأمر إلا لذلك، وهذا قول المعتزلة وغيرهم، ثم من هؤلاء من تكلم في تفصيل الحكمة، فأنكر القدر، ووضع لربه شرعًا بالتعديل والتجويز، وهذا قول القدرية‏.‏ ومنهم من أقر بالقدر وقال‏:‏ لله حكمة خفيت علينا‏.‏ وهذا قول ابن عقيل

 

ص -38-

وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات حكمة ترجع إلى المخلوق لكن يقرون مع ذلك بالقدر0
والقول الثالث‏:‏ قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقالوا‏:‏ خلقهم ليعبدوه ويحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، وهم من خلقه لذلك، وهم من وجد منه ذلك فهو مخلوق لذلك، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقًا له‏.‏ قالوا‏:‏ وهذه حكمة مقصودة وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد، ثم قالوا‏:‏ خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق بل يتضرر به، فتناقضوا، ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وهي معرفة عباده المؤمنين به، وحمدهم له، وثناؤهم عليه، وتمجيدهم له، وهذا واقع من المؤمنين‏.‏
قالوا‏:‏ وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد وإن تضمن ضررًا لبعض الناس‏.‏ قالوا‏:‏ وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهاد ومصالح‏.‏ وهذا القول اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، ذكره في كتابه ‏[‏أصول الدين‏]‏ الذي صنفه على كتاب محمد بن الهَيْصَم الكَرّامِيّ‏.‏
قالوا‏:‏ وقوله تعالى‏:‏‏
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف‏.‏ قالوا‏:‏ والمراد

 

ص -39-

بذلك من وجدت منه العبادة، فهو مخلوق لها، ومن لم توجد منه فليس مخلوقًا لها‏.‏ وعن سعيد بن المسَيَّب قال‏:‏ ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، وكذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة  وهذا قول خاص بأهل طاعته  قال الضحاك‏:‏ هي للمؤمنين، وهذا قول الكَرَّامِيَّة، كما ذكره محمد بن الهيصم، قال‏:‏ ويدل عليه قوله قبل ذلك‏:‏ ‏{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏54‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ أي‏:‏ هؤلاء المؤمنين الذين تنفعهم الذكرى‏.‏
قالوا‏:‏ وهي غاية مقصودة واقعة، فإن العبادة وقعت من المؤمنين، وهذا القول اختيار أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى وغيرهما ممن يقول‏:‏إنه لا يفعل لعلة، قالوا  واللفظ للقاضي أبي يعلى ‏:‏ هذا بمعنى الخصوص لا العموم؛ لأن البُلْه والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس ،وكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله‏
:‏‏{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة‏.‏
قلت‏:‏قول هؤلاء الكرامية ومن وافقهم،وإن كان أرجح من قول الجهمية والمعتزلة، فيما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور، ولما تدل عليه الآية، فإن قصد العموم ظاهر في الآية، وبين بيانًا لا يحتمل النقيض ؛ إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة، فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له،

 

ص -40-

 ولم يذكر الإنس والجن عمومًا، ولم تذكر الملائكة، مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن‏.‏
وأيضًا، فإن سياق الآية يقتضي أن هذا ذم وتوبيخ لمن لم يعبد الله منهم؛ لأن الله خلقه لشىء فلم يفعل ما خلق له؛ ولهذا عقبها بقوله‏:‏
‏{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات ‏:‏57‏]‏، فإثبات العبادة ونفي هذا يبين أنه خلقهم للعبادة، ولم يرد منهم ما يريده السادة من عبيدهم من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، ولهذا قال بعد ذلك‏:‏ ‏{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا‏}‏ أي‏:‏ نصيباً ‏{مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏59‏]‏ أى‏:‏ المتقدمين من الكفار، أي‏:‏ نصيبًا من العذاب، وهذا وعيد لمن لم يعبده من الإنس والجن، فذكر هذا الوعيد عقيب هذه الآية  من أولها إلى آخرها  يتضمن وعيد من لم يعبده‏.‏
وذكر عقابه لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى في أولها‏:‏
‏{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏.‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏1، 6‏]‏،ثم ذكر قوله‏:‏‏{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏.‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8، 9‏]‏، ثم ذكر وعيد الآخرة بقوله‏:‏ ‏{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ‏.‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ‏.‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏10، 13‏]‏، ثم ذكر وعده للمؤمنين فقال‏:‏‏{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏.‏ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏.‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏.‏ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏15-23‏]‏، ثم ذكر قصص من آمن فنفعه إيمانه، ومن كفر فعذبه بكفره، فذكر قصة إبراهيم ولوط وقومه وعذابهم،

 

ص -41-

ثم قال‏:‏ ‏{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏.‏ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 37، 38‏]‏، أي‏:‏ في قصة موسى آية  أيضًا  هذا قول الأكثرين، ومنهم من لم يذكر غيره كأبي الفرج، وقيل‏:‏ هو عطف على قوله‏:‏ ‏{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ‏}‏ ، ‏{وَفِي مُوسَى‏}‏ وهو ضعيف؛ لأن قصة فرعون وعاد هي من جنس قوم لوط، فيها ذكر الأنبياء ومن اتبعهم ومن خالفهم، يدل بها على إثبات النبوة، وعاقبة المطيعين والعصاة‏.‏
وأما قوله‏:‏
‏{وَفِي الْأَرْضِ‏}‏ ، ‏{وَفِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ ، فتلك آيات على الصانع جل جلاله، وقد تقدمت؛ ولأنه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمثل هذا الكلام الكثير، مع أن قبله لا يصلح العطف عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{وَفِي عَادٍ‏}‏ ، ‏{وَفِي ثَمُودَ ّ‏}‏، ثم ذكر أنه بني السماء بأيد، وفرش الأرض، وخلق من كل شىء زوجين لعلكم تذكرون، فلما بين الآيات الدالة على ما يجب من الإيمان وعبادته، أمر بذلك، فقال‏:‏ ‏{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏.‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ الآية ‏[‏الذاريات‏:‏50، 51‏]‏، ثم بين أن هؤلاء المكذبين من جنس من قبلهم ليتأسى الرسول والمؤمنون ويصبروا على ما ينالهم من أذى الكفار، فقال‏:‏ ‏{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏.‏ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات ‏:‏52، 53‏]‏‏.‏
فهذا كله يتضمن أمر الإنس والجن بعبادته وطاعته وطاعة رسله، واستحقاق من يفعل العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا قال بعد ذلك‏:‏

 

ص -42-

 ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏.‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56، 57‏]‏؛ كان هذا مناسبًا لما تقدم، مؤتلفًا معه، أي‏:‏ هؤلاء الذين أمرتهم، إنما خلقتهم لعبادتي ما أريد منهم غير ذلك، لا رزقًا ولا طعامًا‏.‏
فإذا قيل‏:‏ لم يرد بذلك إلا المؤمنين، كان هذا مناقضًا لما تقدم  يعني في السورة  وصار هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه، وغايته يقول‏:‏ أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك، ولو خلقتني لها لكنت عابدًا، وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك، وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك، وأكذب رسلك، وأعبد الشيطان وأطيعه، وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له، فلا ذنب لي، ولا أستحق العقوبة، فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول، وكلام الله منزه عن هذا، وهم إنما قالوا هذا؛ لأن الله  تعالى  فعال لما يريد، قالوا‏:‏ فلو كان أراد منهم أن يطيعوه؛ لجعلهم مطيعين، كما جعل المؤمنين‏.‏
والقدرية يقولون‏:‏ لم يرد من هؤلاء ولا هؤلاء إلا الطاعة، لكن هو لم يجعل لا هؤلاء ولا هؤلاء مطيعين، بل الإرادة بمعنى الأمر يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم‏.‏
وأولئك علموا فساد قول القدرية من جهة أن الله خالق كل شىء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما شاءه، ولا يكون في ملكه شىء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما دل على ذلك السمع

 

ص -43-

 في تفسير الآية إلى الخصوص، فإنهم لم يمكنهم الجمع بين الإيمان بالقدر، وبين أن يكون خلقهم لعبادته، فلم تقع منهم العبادة له، وقالوا‏:‏ من ذرأه لجهنم لم يخلقه لعبادته، فمن قال‏:‏ خلق الخلق ليعبده المؤمنون منهم، سلك هذا المسلك‏.‏
وأما نفاة الحكمة، كالأشعري وأتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي يعلي وغيرهم، فهؤلاء أصلهم‏:‏ أن الله لا يخلق شيئًا لشىء، فلم يخلق أحدًا لا لعبادة ولا لغيرها، وعندهم ليس في القرآن لام كي، لكن قد يقولون‏:‏ في القرآن لام العاقبة، كقوله‏:‏ ‏
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏8‏]‏، وكذلك يقولون في قوله‏:‏ ‏{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏ يعنون‏:‏ كان عاقبة هؤلاء جهنم، وعاقبة المؤمنين العبادة، من غير أن يكون الخالق قصد أن يخلقهم لا لهذا ولا لهذا، ولكن أراد خلق كل ما خلقه، لا لشىء آخر، فهذا قولهم، وهو ضعيف لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن لام العاقبة التي لم يقصد فيها الفعل لأجل العاقبة، إنما تكون من جاهل أو عاجز، فالجاهل كقوله‏:
‏‏{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ لم يعلم فرعون بهذه العاقبة، والعاجز كقولهم‏:‏ لِدُوا للموت، وابنوا للخراب، فإنهم يعلمون هذه العاقبة، لكنهم عاجزون عن دفعها، والله  تعالى  عليم قدير، فلا يقال‏:‏ إن فعله كفعل الجاهل العاجز‏.‏

 

ص -44-

الثاني‏:‏ أن الله أراد هذه الغاية بالاتفاق، فالعبادة التي خلق الخلق لأجلها هي مرادة له بالاتفاق،وهم يسلمون أن الله أرادها، وحيث تكون اللام للعاقبة لا يكون الفاعل أراد العاقبة، وهؤلاء يقولون‏:‏ خلقهم وأراد أفعالهم، وأراد عقابهم عليها، فكل ما وقع فهو مراد له ولكنه عندهم لا يفعل مرادًا لمراد أصلاً؛ لأن الفعل للعلة يستلزم الحاجة، وهذا ضعيف بين الضعف، وأهل الخصوص قالوا مثل هذا الجواب‏.‏
وطائفة أخرى قالوا‏:‏ هي على العموم لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقهم له، من السعادة والشقاوة، هذا جواب زيد بن أسلم وطائفة، وهذا القول الثاني في تفسير الآية‏.‏
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، عن زيد بن أسلم في قوله‏:‏
‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ قال‏:‏ جَبَلَهُم على الشقاوة والسعادة، وقال وَهْبُ بن مُنَبه‏:‏ جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية، وهذا يشبه قول من قال في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏، أي ‏:‏على ما كتب له من سعادة وشقاوة، كما قال ذلك طائفة؛ منهم‏:‏ ابن المبارك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وقد قيل لمالك‏:‏ أهل القدر يحتجون علينا بهذا الحديث، فقال‏:‏ احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله‏:‏ ‏(‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏)‏، وهذا الجواب يصلح أن يجاب به من أنكر العلم، كما كان على ذلك طائفة من القدماء وهم المعروفون بالقدرية في لغة مالك‏.‏

 

ص -45-

إلى أن قال‏:‏ ومن فسر هذه الآية بأن المراد ب ‏{يَعْبُدُونِ‏}‏‏:‏ هو ما جبلهم عليه، وما قدره عليهم من السعادة والشقاوة، وإن ذلك هو معنى الحديث، فإن هؤلاء جعلوا معني ‏{يَعْبُدُونِ‏}‏ بمعنى‏:‏ يستسلمون لمشيئتي وقدرتي، فيكونون مُعَبَّدِينَ مُذَلَّلِين؛كي يجرى عليهم حكمي ومشيئتي لا يخرجون عن قضائي وقدري، فهذا معنى صحيح في نفسه، وإن كانت القدرية تنكره، فبإنكارهم لذلك صاروا من أهل البدع، بل الله خالق كل شىء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجرٌ من شر ما ذرأ وبرأ، وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده‏)‏‏.‏
فكلماته التامة هي التي كون بها الأشياء كما قال تعالى ‏:‏‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، لا يجاوزها بر ولا فاجر، ولا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، وهذا المعنى قد دل عليه القرآن في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، ‏{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏70‏]‏، وقوله في السحر‏:‏‏{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏102‏]‏، ‏{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
ولكن قوله‏:‏
‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه وحاموا حوله،من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره

 

ص -46-

وحكمه، فالمخلوقات كلها داخلة في هذا، لا يشذ منها شىء عن هذا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏.‏ وَأَنْ اعْبُدُونِي‏}‏الآية ‏[‏يس‏:‏60، 61‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏36‏]‏، ‏{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏17‏]‏، ‏{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏3‏]‏ وقال‏:‏ ‏{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏18‏]‏‏.‏
فهذا  ونحوه  كثير في القرآن‏.‏ لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدون الله، بل يعبدون الشيطان وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله  تعالي  كما أخبر الله بذلك‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جاريًا عليهم‏؟‏ والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله، وبين أن يعبدهم هو وينفذ فيهم مشيئته، وتكون عبادتهم لغيره‏:‏ للشيطان وللأصنام من المقدور‏.‏
وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين‏:‏ أنا كافر برب يعصى، فيجعل كل ما يقع طاعة، كما جعله هؤلاء عبادة لله  تعالى  لكونهم تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس‏:‏ إن كان عصى الأمر، فقد أطاع المشيئة ،لكن هؤلاء مباحية، يسقطون الأمر‏.‏

 

ص -47-

وأما زيد بن أسلم، ووهب بن منبه، ونحوهم، فحاشاهم من مثل هذا، فإنهم كانوا من أعظم الناس تعظيمًا للأمر والنهي، والوعد والوعيد ،ولكن قصدوا الرد على المكذبين بالقدر، القائلين‏:‏ بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهؤلاء حقيقة قولهم‏:‏ أنه لا يقدر على تعبيدهم، وتصريفهم تحت مشيئته، فأرادوا إبطال قول هؤلاء، ونعم ما أرادوا ‏!‏لكن الكلام فيما أريد بالآية‏.‏
وقول أولئك الإباحية يشبه قول من قال‏:‏ إن العارف إذا شهد المشيئة سقط عنه الملام، وأنه إذا شهد الحكم يعني المشيئة لم يستحسن ولم يستقبح سببه، ونحو هذا من أقوال هؤلاء الذين تشبه أقوالهم أقوال المشركين الذين قالوا‏:‏
‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، كما قد بسط الكلام عليه، وبين أن إثبات القدر السابق حق، لكن ذلك هو الذي يصير العبد إليه، ليس هو الذي فطر عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِهِ أو يُنصرَانِه أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتِجُ البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جَدْعَاء‏؟‏ ‏)‏‏.‏ فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ضربه ‏:‏أن البهيمة تولد سليمة ثم تُجْدَع، والجَدْع كان مقدرًا عليها، كذلك العبد يولد على الفطرة سليمًا، ثم يفسد بالتَّهَوّدِ والتنصير، وذلك كان مكتوبًا أن يكون‏.‏
وصاحب هذا القول إنما قاله ليبين ما خلقوا له، وقد قصد هذا طائفة

 

ص -48-

فسروا العبادة بأمر واقع عام، وليست هي العبادة المأمور بها على ألسن الرسل، ففي تفسير ابن أبي طلحة المضاف إلى ابن عباس‏:‏ إلا ليقروا بالعبودية طوعًا وكرهًا، وهذه العبودية كقوله‏:‏ ‏{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏83‏]‏، وقوله‏:‏‏{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏15‏]‏، وفسرت طائفة الكره بأنه جريان حكم القدر، فيكون كالقول قبله، والصحيح أنه انقيادهم لحكمه القدري بغير اختيارهم، كاستسلامهم عند المصائب، وانقيادهم لما يكرهون من أحكامه الشرعية، فكل أحد لابد له من انقياده لحكمه القدري والشرعي، فهذا معنى صحيح، قد بسط في غير هذا الموضع، لكن ليس هو العبادة‏.‏
وكذلك قال بعضهم‏:‏ إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، قالوا‏:‏ ومعنى العبادة في اللغة‏:‏ التذلل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله  تعالى  متذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق‏.‏
وقد ذكر أبو الفرج قول ابن عباس هذا، قال‏:‏ وبيان هذا قوله‏:‏
‏{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏87‏]‏، وهذه الآية توافق من قال‏:‏ إلا ليعرفون  كما سيأتي  وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم لم يقروا بذلك كرهًا، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له فإنه يكون كرهًا، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه، وبذلوه طوعًا ‏.‏

 

ص -49-

وقيل‏:‏ قول رابع‏:‏ روى ابن أبي حاتم عن زائدة عن السُّدِّي‏:‏ ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ قال‏:‏ خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع ‏{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏ هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع شركهم، وهذا المعنى صحيح، لكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله لا يعبد، ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانع عبادة لله مع الشرك بالله، ولكن يقال كما قال‏:‏ ‏{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏106‏]‏ فإيمانهم بالخالق مقرون بشركهم به، وأما العبادة ففي الحديث‏:‏ ‏(‏ يقول الله‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك ‏)‏، فعبادة المشركين وإن جعلوا بعضها لله لا يقبل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله  سبحانه  ومثل هذا قول من قال‏:‏ إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء، دون النعمة والرخاء، بيانه في قوله‏:‏ ‏{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏65‏]‏‏.‏
وقيل‏:‏ قول خامس‏:‏ ذكره ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، قال‏:‏ ليعرفون، قال‏:‏ وروى عن قتادة، وذكره البغوي عن مجاهد‏.‏ قال‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ إلا ليعرفون‏.‏ قال‏:‏ وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، ودليله قوله‏:‏ ‏
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏، فيقال‏:‏ هذا المعنى صحيح، وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضى أن

 

ص -50-

 خلقهم شرط في معرفتهم، لا يقتضى أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها، و هذا من جنس قول السدى، فإن هذا الإقرار العام هم مشركون فيه، كما قال‏:‏ ‏{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏172‏]‏، لكن ليس هذا هو العبادة‏.‏
فهذه الأقوال الأربعة، قول من عرف أن الآية عامة، فأراد أن يفسرها بعبادة تعم الإنس والجن، واعتقد أنه إن فسرها بالعبادة المعروفة، وهي الطاعة لله والطاعة لرسله، لزم أن تكون واقعة منهم، ولم تقع، فأراد أن يفسرها بعبادة واقعة، وظن أنه إذا فسرها بعبادة لم تقع لزمه قول القدرية، وأنه خلقهم لعبادته فعصوه بغير مشيئته وغير قدرته، ففروا من قول القدرية وهم معذورون في هذا الفرار، لكن فسرها بما لم يرد بها، كما يصيب كثير من الناس في الآيات التي يحتج أهل البدع بظاهرها، كاحتجاج الرافضة بقوله‏:‏ ‏
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ على مسح ظهر القدمين، فترى المخالفين لهم يذكرون أقوالاً ضعيفة، هذا يقول‏:‏ مجرورًا بالمجاورة، كقوله‏:‏ جُحْر ضَبّ خَرِب، ونحو هذا من الأقوال الضعيفة، وكذلك ما قالوه في قوله‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى‏)‏ وأمثال ذلك‏.‏
والقول السادس  وإن كان أبو الفرج لم يذكر فيها إلا أربعة أقوال  وهو الذي عليه جمهور المسلمين‏:‏ أن الله خلقهم لعبادته وهو فعل ما أمروا به؛ ولهذا يوجد المسلمون قديمًا وحديثًا يحتجون بهذه الآية على هذا

 

ص -51-

 المعنى، حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم، كما في حكاية إبراهيم بن أدهم‏:‏ ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؛ وفي حديث إسرائيلي‏:‏ يابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكَفَّلتُ برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شىء، وإن فُتَّكَ فاتك كل شىء وأنا أحب إليك من كل شىء‏.‏ وهذا هو المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، وغيره من السلف، فذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي‏.‏
قالوا‏:‏ ويؤيده قوله تعالى‏:
‏‏{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، وهذا اختيار الزجاج وغيره، وهذا هو المعروف عن مجاهد بالإسناد الثابت، قال ابن أبي حاتم‏:‏ ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أسامة عن شِبْل، عن ابن أبي نجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏‏:‏ لآمرهم وأنهاهم، كذلك روى عن الرَّبِيع بن أنس قال‏:‏ ما خلقتهما إلا للعبادة‏.‏
ويدل على هذا مثل قوله‏:‏
‏{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏36‏]‏، يعنى‏:‏ لا يؤمر ولا ينهى، وقوله‏:‏ ‏{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏77‏]‏، أي‏:‏ لولا عبادتكم، وقوله‏:‏ ‏{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏147‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏130، 131‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏.‏ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ الآيات ‏[‏يس‏:‏60، 61‏]‏

 

ص -52-

 وما بعدها، وقالت الجن لما سمعوا القرآن‏:‏ ‏{يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏.‏ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏30، 31‏]‏ ، وما بعدها، وقالت الجن‏:‏ ‏{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا‏}‏ الآية ‏[‏الجن‏:‏14‏]‏ وما بعدها‏.‏
وقد قال في القرآن في غير موضع‏:‏
‏{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏21‏]‏، ‏{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏1‏]‏، فقد أمرهم بما خلقهم له وأرسل الرسل إلى الإنس والجن، ومحمد أرسل إلى الثقلين، وقرأ القرآن على الجن، وقد روى أنه لما قرأ عليهم سورة الرحمن وجعل يقرأ‏:‏ ‏{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏13‏]‏ يقولون‏:‏ ولا بشىء من آلائك ربنا نُكَذِّب فلك الحمد‏.‏ فهذا هو المعنى الذي قصد بالآية قطعًا، وهو الذي تفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه، ويعترفون بأنه الله خلقهم ليعبدوه، لا ليضيعوا حقه، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏‏(‏ فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك‏؟‏‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم،قال‏:‏‏(‏ فإن حقهم عليه ألا يعذبهم ‏)‏، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏‏.‏

 

ص -53-

ثم للناس على هذا القول قولان‏:‏
قول أهل السنة المثبتة للقدر، وقول نفاته، فصارت الأقوال في الآية سبعة، وفي الحكمة خمسة‏.‏
فأما أهل السنة المثبتون للقدر فيقولون‏:‏ قوله‏:‏ ‏
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونٍِِِِ}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، لا يستلزم وقوع العبادة منهم، كما قال أصحاب هذه الأقوال المتقدمة، ولا يستلزم نفي المقدور أن يكون في ملكه ما لا يشاء أو يشاء مالا يكون، كما قالت القدرية، فهؤلاء يقولون‏:‏ لم يقع ما خلقهم له لكونه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، أولئك قالوا‏:‏ إذا كان ما يشاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما لم يقع لم يشأه، فما لم يقع من العبادة لم يشأها، وهذا معنى صحيح، ثم قالوا‏:‏ وما خلقهم له فلابد أن يشاء أن يخلقه، فلما لم يشأه أن يخلق هذا لم يخلقهم له‏.‏
فالطائفتان أصل غلطهم ظنهم أن ما خلقهم له يشاء وقوعه، وأولئك يقولون‏:‏ يشاء أن يخلقه، وهؤلاء يقولون‏:‏ يشاء وقوعه منهم، بمعنى‏:‏ يأمرهم به، وما عندهم أن له مشيئة في أفعال العباد غير الأمر، وهم يعصون أمره؛ فلهذا قالوا‏:‏ يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، كما يقولون‏:‏ يفعلون ما نهاهم عنه، ويتركون ما أمرهم به، وهذا المعنى صحيح إذا أريد الأمر الشرعي؛ لكن القدرية النفاة لا يقولون‏:‏ إنه شاء إلا بمعنى أمر، فعندهم ما ليس طاعة من أفعال العباد ما لا

 

ص -54-

 يشاؤه فإنه لا يخلقه عندهم، وإذا لم يخلقه لم يشأه، فإنه ما شاء أن يخلقه خلقه باتفاق المسلمين‏.‏
والقدرية لا تنازع في هذا، لا ينازعون في أنه ما شاء أن يفعله هو فعله، وأنه قادر على أن يفعل ما يشاء أن يفعله، لكن عندهم أن أفعال العباد لا تدخل في خلقه، ولا في قدرته، ولا في مشيئته، ولا في مشيئته أن يفعل، لكن المشيئة المتعلقة بها بمعنى الأمر فقط، فيقولون‏:‏ خلقهم لعبادته أن يفعلوها هم، وقد أمرهم بها، فإذا لم يفعلوها كان ذلك بمنزلة عصيان أمره‏.‏
وأما المثبتون للقدر فيقولون‏:‏ إنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، و هو  سبحانه  خالق كل شىء‏
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118‏]‏، ‏{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، ‏{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏112‏]‏ وأمثال ذلك، فإذا خلقهم للعبادة المأمور بها ولم يفعلوها لم يكن قد شاء أن تكون ؛ إذ لو شاء أن تكون لكونها، لكن أمرهم بها، وأحب أن يفعلوها، ورضى أن يفعلوها، وأراد أن يفعلوها، إرادة شرعية تضمنها أمره بالعبادة‏.‏
ومن هنا يتبين معنى الآية، فإن
قوله‏:‏ ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، يشبه قوله‏:‏ ‏{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏، وقوله‏:‏‏{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏97‏]‏،

 

ص -55-

 وقوله‏:‏ ‏{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ‏}‏ الآية ‏[‏الطلاق‏:‏12‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ فهو لم يرسله إلا ليطاع، ثم قد يطاع وقد يعصى‏.‏
وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، ومثل هذا كثير في القرآن، يبين أنه فعل ما فعل ليكبروه وليعدلوا، ولا يظلموا، وليعلموا ما هو متصف به، وغيره مما أمر الله به العباد، وأحبه لهم ورضيه منهم، وفيه سعادتهم وكمالهم وصلاحهم وفلاحهم إذا فعلوه، ثم منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعله‏.‏
وهو  سبحانه  لم يقل‏:‏ إنه فعل الأول ليفعل هو الثاني، ولا ليفعل بهم الثاني، فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة، ويمتنع أن يفعل أمرًا ليفعل أمرًا ثانيًا ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونون هم الفاعلين له فيحصل بفعلهم سعادتهم، وما يحبه ويرضاه لهم، فيحصل ما يحبه هو وما يحبونه هم، كما تقدم أن كل ما خلقه وأمر به غايته محبوبة لله ولعباده، وفيه حكمة له، وفيه رحمة لعباده‏.‏
فهذا الذي خلقهم له لو فعلوه لكان فيه ما يحبه وما يحبونه، ولكن لم يفعلوه فاستحقوا ما يستحقه العاصي المخالف لأمره، التارك فعل ما خلق لأجله من

 

ص -56-

 عذاب الدنيا والآخرة، وهو  سبحانه  قد شاء أن تكون العبادة ممن فعلها، فجعلهم عابدين مسلمين بمشيئته وهداه لهم، وتحبيبه إليهم الإيمان، كما قال تعالى‏:‏‏{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏7‏]‏، فهؤلاء أراد العبادة منهم خلقًا وأمرًا أمرهم بها، وخلقًا جعلهم فاعلين‏.‏
والصنف الثاني لم يشأ هو أن يخلقهم عابدين، وإن كان قد أمرهم بالعبادة، والله سبحانه أعلم‏.‏

 

ص -57-

 وسئل  رحمه الله  عن تفصيل ‏[‏الإرادة‏]‏ و ‏[‏الإذن‏]‏ و ‏[‏الكتاب‏]‏ و ‏[‏الحكم‏]‏ و‏[‏القضاء‏]‏ و ‏[‏التحريم‏]‏ وغير ذلك، مما هو ديني موافق لمحبة الله ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية‏؟‏
فأجاب ‏:‏
الحمد لله، هذه الأمور المذكورة، وهي الإرادة والإذن والكتاب والحكم والقضاء والتحريم وغيرها، كالأمر والبعث والإرسال ينقسم في كتاب الله إلى نوعين‏:‏
أحدهلاما‏:‏ ما يتعلق بالأمور الدينية التي يحبها الله  تعالى  ويرضاها، ويثيب أصحابها، ويدخلهم الجنة، وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينصر بها العباد من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين وعباده الصالحين‏.‏
والثاني‏:‏ ما يتعلق بالحوادث الكونية التي قدرها الله وقضاها مما يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه، وأهل طاعته الذين يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم هو وملائكته، وأهل معصيته الذين يبغضهم ويمقتهم ويلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏.‏

 

ص -58-

فمن نظر إليها من هذا الوجه شهد الحقيقة الكونية الوجودية، فرأى الأشياء كلها مخلوقة لله، مدبرة بمشيئته، مقهورة بحكمته، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس،لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، ورأى أنه  سبحانه  رب كل شىء ومليكه، له الخلق والأمر، وكل ما سواه مربوبًا له، مدبر مقهور لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، بل هو عبد فقير إلى الله  تعالى  من جميع الجهات، والله غني عنه، كما أنه الغني عن جميع المخلوقات، وهذا الشهود في نفسه حق، لكن طائفة قصرت عنه، وهم القدرية المجوسية، وطائفة وقفت عنده وهم القدرية المشركية‏.‏
أما الأولون، فهم الذين زعموا أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله ومشيئته وخلقه، كأفعال العباد، وغلاتهم أنكروا علمه القديم، وكتابه السابق، وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة، فرد عليهم الصحابة وسلف الأمة، و تبرؤوا منهم‏.‏
وأما الطائفة الثانية، فهم شر منهم، وهم طوائف من أهل السلوك والإرادة والتأله والتصوف والفقر ونحوهم،يشهدون هذه الحقيقة ورأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد ومريد جميع الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتد ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبئ، ولا ولي لله ولا عدو،

 

ص -59-

 ولا مرضى لله ولا مسخوط، ولا محبوب لله ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر و العقوق، ولا بين أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار، ولا بين الأبرار والفجار، حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات وعموا عن الفارق بينهما، وصاروا ممن يخاطب بقوله تعالى‏:‏‏{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏.‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏35، 36‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏‏.‏‏{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏137‏]‏، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر من شر ما خلق وذَرَأ وبَرَأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن‏)‏، فالكلمات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ليست هي أمره ونهيه الشرعيين، فإن الفُجَّار عَصَوْا أمره ونهيه، بل هي التي بها يكون الكائنات، وأما الكلمات الدينية المتضمنة لأمره ونهيه الشرعيين، فمثل الكتب الإلهية‏:‏ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن،وقال/تعالى‏:‏‏{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏،

 

ص -60-

 وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واستحللتم فروجهن بكلمة الله‏)‏، وأما قوله تعالى‏:‏‏{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ فإنه يعم النوعين‏.‏
وأما البعث بالمعنى الأول، ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏5‏]‏، والثاني في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏2‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ‏.‏
وأما الإرسال بالمعنى الأول، ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏
{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏83‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏22‏]‏‏.‏
وبالمعنى الثاني، في مثل قوله تعالي‏
:‏‏{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏1‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏119‏]‏، وقوله تعالى ‏:‏‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏64‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏، وقوله تعالى‏:‏{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏.‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا‏} ‏[‏المزمل‏:‏15، 16‏]‏‏.‏

 

ص -61-

سئل  رحمه الله تعالى‏:‏ عن أقوام يقولون‏:‏ المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل، وأقوام يقولون‏:‏ المشيئة في المستقبل لا في الماضي‏.‏ ما الصواب‏؟‏
فأجاب
‏:‏
الماضي مضى بمشيئة الله، والمستقبل لا يكون إلا أن يشاء الله، فمن قال في الماضي‏:‏ إن الله خلق السموات إن شاء الله، وأرسل محمدًا إن شاء الله، فقد أخطأ ‏.‏ ومن قال‏:‏ خلق الله السموات بمشيئة الله، وأرسل محمدًا بمشيئته ونحو ذلك، فقد أصاب‏.‏
ومن قال‏:‏ إنه يكون في الوجود شيء بدون مشيئة الله، فقد أخطأ‏.‏ ومن قال‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،فقد أصاب، وكل ما تقدم فقد كان بمشيئة الله قطعا، فالله خلق السموات بمشيئته قطعًا، وأرسل محمدًا بمشيئته قطعًا، والإنسان الموجود خلقه الله بمشيئته قطعًا، وإن شاء الله أن يغير المخلوق من حال إلى حال، فهو قادر على ذلك، فما خلقه فقد كان بمشيئته قطعًا، وإن شاء الله أن يغيره غيره بمشيئته قطعًا، والله أعلم‏.‏

 

ص -62-

ما تقول السادة  أئمة المسلمين  في جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره، وخيره وشره،منهم من يرى أن الخير من الله  تعالى  والشر من النفس خاصة‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب الشيخ  رضي الله عنه ‏:‏
مذهب أهل السنة والجماعة‏:‏ أن الله  تعالى  خالق كل شىء، وربه ومليكه لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شىء قدير، وبكل شىء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله، وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله، ومعصية رسوله، فإن أطاع كان ذلك نعمة، وإن عصى كان مستحقًا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله  تعالى  وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، لكن يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهي عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم‏.‏
وما يصيب العبد من النعم، فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه

 

ص -63-

ومعاصيه، كما قال تعالي ‏:‏‏{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ أي‏:‏ ما أصابك من خِصْب ونَصْر وهُدى فالله أنعم به عليك، وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك، وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلابد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره، وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره‏.‏
فمن نظر إلى الحقيقة القدرية وأعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد، كان مشابهًا للمشركين، ومن نظر إلى الأمر والنهي، وكذب بالقضاء والقدر كان مشابهًا للمجوسيين، ومن آمن بهذا وبهذا، فإذا أحسن حمد الله  تعالى  وإذا أساء استغفر الله  تعالى  وعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره،فهو من المؤمنين، فإن آدم  عليه السلام  لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه، وإبليس أصر واحتج، فلعنه الله وأقصاه، فمن تاب كان آدميًا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيًا، فالسعداء يتبعون أباهم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس‏.‏
فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم،صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين يا رب العالمين‏.‏

 

ص -64-

 سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس عن الحديث الذي ورد‏:‏ ‏(‏إن الله قبض قبضتين، فقال‏:‏ هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي‏)‏ فهل هذا الحديث صحيح‏؟‏ والله قبضها بنفسه، أو أمر أحدا من الملائكة بقبضها‏؟‏ والحديث الآخر في‏:‏ ‏(‏أن الله لما خلق آدم أراه ذريته عن اليمين والشمال، ثم قال‏:‏ هؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي‏)‏ وهذا في الصحيح‏.‏
فأجاب  رضي الله عنه ‏:‏
نعم، هذا المعنى مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، مثل ما في موطأ مالك، وسنن أبي داود والنسائي، وغيره عن مسلم بن يَسَار، وفي لفظ عن نعيم بن ربيعة، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية‏:‏ ‏
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ فقال عمر‏:‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال‏:‏ خلقت

 

ص -65-

هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون‏)‏، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، ففيم العمل‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله إذا خلق الرجل للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق الرجل للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار‏)‏‏.‏
وفي حديث الحَكَم بن سفيان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قبض قبضة فقال‏:‏ إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال‏:‏ إلى النار ولا أبالي‏)‏‏.‏ وهذا الحديث ونحوه فيه فصلان‏:‏
أحدهما‏:‏ القدر السابق، وهو أن الله  سبحانه  علم أهل الجنة من أهل النار من قبل أن يعملوا الأعمال، وهذا حق يجب الإيمان به، بل قد نص الأئمة؛ كمالك والشافعي وأحمد‏:‏ أن من جحد هذا فقد كفر، بل يجب الإيمان أن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون،ويجب الإيمان بما أخبر به من أنه كتب ذلك، وأخبر به قبل أن يكون، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
(‏إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏)‏، وفي صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كان الله ولا شىء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شىء، وخلق السموات والأرض وفي لفظ‏:‏ ثم خلق السموات والأرض‏)‏‏.‏

 

ص -66-

وفي المسند عن العِرْبَاض بن سَارِية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏)‏، وفي حديث ميسرة الفجر‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، متى كتبت نبيًا‏؟‏ وفي لفظ‏:‏ متى كنت نبيًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وآدم بين الروح والجسد‏)‏‏.‏
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه  قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق‏:‏
‏(‏إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نُطْفَةً، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال‏:‏ اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏فوالذي نفسي بيده  أو قال‏:‏ فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار‏)‏‏.‏
وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبَقِيع الغَرْقَدِ في جنازة، فقال‏:‏ ‏(‏ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا نَتِّكِل على الكتاب ونَدَع العمل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة

 

ص -67-

 فسييسر لعمل أهل الشقاوة‏)‏، ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏5-10‏]‏‏.‏
وفي الصحيح  أيضًا  أنه قيل له‏:‏ يا رسول الله، أعْلم أهل الجنة من أهل النار، فقال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، فقيل له‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ قال‏:‏
‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله علم أهل الجنة من أهل النار، وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلوا على هذا الكتاب، ويدعوا العمل كما يفعله الملحدون‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ كل ميسر لما خلق له‏)‏، وأن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا من أحسن ما يكون من البيان‏.‏
وذلك أن الله  سبحانه وتعالى  يعلم الأمور على ما هي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسبابًا تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب، كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا‏:‏ إذا علم الله أنه يولد لي، فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق؛ لأن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء، وكذلك إذا علم أنه هذا ينبت له الزرع بما يسقيه من الماء ويبذره من الحب، فلو قال‏:‏ إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى البذر، كان جاهلا ضالاً؛ لأن الله علم أن سيكون بذلك، وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل، وهذا يروي بالشرب، وهذا يموت بالقتل، فلابد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها‏.‏

 

ص -68-

وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدًا في الآخرة، وهذا شقيًا في الآخرة،قلنا ذلك؛ لأنه يعمل بعمل الأشقياء، فالله علم أنه يشقى بهذا العمل، فلو قيل‏:‏ هو شقي، وإن لم يعمل كان باطلاً؛لأن الله لا يدخل النار أحدًا إلا بذنبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏58‏]‏، فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه، ومن اتبع إبليس فقد عصى الله  تعالى  ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله‏.‏
ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين، قال‏:‏
‏(‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏)‏ يعنى‏:‏ أن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا، وقد روى أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية‏.‏
وكذلك الجنة، خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته، فمن قدر أن يكون منهم يسره للإيمان والطاعة، فمن قال‏:‏ أنا أدخل الجنة، سواء كنت مؤمنًا أو كافرًا، إذا علم أني من أهلها،كان مفتريًا على الله في ذلك، فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان، فإذا لم يكن معه إيمان، لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة، بل من لم يكن مؤمنًا بل كافرًا، فإن الله يعلم أنه من أهل النار، لا من أهل الجنة‏.‏
ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب‏.‏ ومن قال‏:‏ أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالاً على القدر،كان مخطئًا  أيضًا  لأن الله جعل الدعاء

 

ص -69-

  والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه‏.‏ وإذا قدر للعبد خيرًا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شىء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات‏.‏
ولهذا قال بعضهم‏:‏ الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لابد من ريح مُرْبِيَة بإذن الله، ولابد من صرف الانتفاء عنه، فلابد من تمام الشروط، وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له، بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع‏.‏
وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هي سبب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏
(‏إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا أنا، إلا أن يتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه و فضل‏)‏ وقد قال‏:‏ ‏{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏، فهذه باء السبب، أي‏:‏ بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم باء المقابلة، كما يقال‏:‏ اشتريت هذا بهذا، أي ليس العمل عوضًا وثمنًا كافيا في دخول الجنة، بل لابد من عفو الله

 

ص -70-

 وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف البركات‏.‏
وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس‏:‏
فريق آمنوا بالقدر، وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود، فأعرضوا عن الأسباب الشرعية، والأعمال الصالحة، وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه‏.‏
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله، كما يطلبه الأجير من المستأجر، مُتَّكِلِين على حَوْلِهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال، فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو  سبحانه  كما قال‏:‏ ‏(‏ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏)‏، فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم، فيطالبون بجزاء ذلك، والله  تعالى  غني عن العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤوا فلها، لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا ‏
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏46‏]‏‏.‏
وفي الحديث الصحيح عن الله  تعالى  أنه قال‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تَظَّالموا، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل

 

ص -71-

 والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم ضال إلا ما هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك في ملكي شىئًا، إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏‏.‏
وهو  سبحانه  مع غناه عن العالمين، خلقهم وأرسل إليهم رسولا يبين لهم ما يسعدهم وما يشقيهم،ثم إنه هدى عباده المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فمَنَّ عليهم بالإيمان والعمل الصالح فخلقه بفضله، وإرساله الرسول بفضله، وهدايته لهم بفضله، وجميع ما ينالون به الخيرات من قواهم وغير قواهم هي بفضله، فكذلك الثواب والجزاء هو بفضله، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرم على نفسه الظلم، ووعد بذلك كما قال‏:‏
‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏47‏]‏، فهو واقع لا محاله واجب بحكم إيجابه ووعده؛

 

ص -72-

 لأن الخلق لا يوجبون على الله شىئًا أو يحرمون عليه شيئًا، بل هم أعجز من ذلك وأقل من ذلك، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الحديث المتقدم‏:‏ ‏(‏إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏‏.‏
وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن يقول العبد ‏:‏اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏)‏، فقوله‏:‏ ‏(‏أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي‏)‏، اعتراف بإنعام الرب وذنب العبد، كما قال بعض السلف‏:‏ إني أصبح بين نعمة تنزل من الله عليَّ وبين ذنب يصعد مني إلى الله، فأريد أن أحدث للنعمة شكرًا، وللذنب استغفارًا‏.‏
فمن أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد ناظرًا إلى القدر، فقد ضل، ومن طلب القيام بالأمر والنهي معرضًا عن القدر، فقد ضل، بل المؤمن كما قال تعالي‏:‏
‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، فنعبده اتباعًا للأمر، ونستعينه إيمانًا بالقدر، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏‏.‏

 

ص -73-

فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشيئين‏:‏ أن يحرص على ما ينفعه، وهو امتثال الأمر، وهو العبادة، وهو طاعة الله ورسوله، وأن يستعين بالله، وهو يتضمن الإيمان بالقدر‏:‏ أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏
فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته، كما يزعم القدرية والمجوسية، فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شىء، ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محمودًا، سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده، واستحق من غضبه وعقابه أعظم ما يستحقه الأول‏.‏
فإن العبد قد يريد ما يرضاه ويحبه ويأمر به ويقرب إليه، وقد يريد ما يبغضه الله ويكرهه ويسخطه، وينهى عنه ويعذب صاحبه، فكل من هذين قد يسر له ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ‏
(‏كل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا‏.‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا‏.‏ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏18-20‏]‏، وقال تعالى‏:‏

 

ص -74-

 ‏{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ‏.‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ.‏ كَلَّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏15-17‏]‏‏.‏
بين  سبحانه  أنه ليس كل من ابتلاه في الدنيا يكون قد أهانه، بل هو يبتلى عبده بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، فالمؤمن يكون صبارًا شكورًا، فيكون هذا وهذا خيرًا له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏(‏لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له‏)‏‏.‏والمنافق هَلُوعٌ جَزُوعٌ، كما قال تعالى‏:‏‏{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا‏.‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا‏.‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏.‏ إِلَّا الْمُصَلِّينَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ‏.‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ‏.‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏}‏‏[‏المعارج‏:‏19- 35‏]‏‏.‏
ولما كان العبد ميسرًا لما لا ينفعه، بل يضره من معصية الله والبَطَر والطغيان، وقد يقصد عبادة الله وطاعته والعمل الصالح فلا يتأتى له ذلك؛ أمر في كل صلاة بأن يقول‏:‏
‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة ‏:‏5‏]‏، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏يقول الله عز وجل‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏:‏ نصفها لي، ونصفها لعبدي،ولعبدى ما سأل، فإذا قال‏:‏ ‏{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏2‏]‏ قال‏:‏ حمدني عبدي، فإذا قال‏:‏ ‏{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏3‏]‏ قال‏:‏ أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال‏:‏ ‏{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏4‏]‏ قال‏:‏ مجدني عبدي، فإذا قال‏:‏‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ قال‏:‏ هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال‏:‏‏

 

ص -75-

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏.‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة ‏:‏6، 7‏]‏ قال‏:‏ فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل‏)‏‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ أنزل الله  عز وجل  مائة كتاب، وأربعة كتب، جمع علمها في الكتب الأربعة‏:‏ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجمع الأربعة في القرآن، وعلم القرآن في المفصل، وعلم المفصل في الفاتحة، وعلم الفاتحة في قوله‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏.‏
فكل عمل يعمله العبد، ولا يكون طاعة لله وعبادة، وعملاً صالحا فهو باطل، فإن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، وإن نال بذلك العمل رئاسة ومالاً، فغاية المترئس أن يكون كفرعون، وغاية المتمول أن يكون كقارون، وقد ذكر الله في سورة القصص من قصة فرعون وقارون ما فيه عبرة لأولى الألباب، وكل عمل لا يعين الله العبد عليه، فإنه لا يكون ولا ينفع، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم، فلذلك أمر العبد أن يقول‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏‏.‏
والعبد له في المقدور حالان‏:‏ حال قبل القدر وحال بعده، فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك، وإن كان ذنبًا استغفر إليه من ذلك‏.‏
وله في المأمور حالان‏:‏ حال قبل الفعل وهو العزم على الامتثال

 

ص -76-

والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير، وقال تعالى‏:‏‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏55‏]‏، أمره أن يصبر على المصائب المقدرة ويستغفر من الذنب،وإن كان استغفار كل عبد بحسبه، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏، وقال يوسف‏:‏ ‏{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏، فذكر الصبر على المصائب والتقوى بترك المعائب،وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏‏.‏
فأمره إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر، ولا يتحسر على الماضي، بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالنظر إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعائب، قال تعالى‏:‏ ‏
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏.‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏11‏]‏، قال عَلْقَمَة وغيره‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، والله  سبحانه وتعالى  أعلم‏.‏

 

ص -77-

 وسئل عن الباري  سبحانه‏:‏ هل يُضِلّ ويَهدي‏؟‏
فأجاب‏
:‏
إن كل ما في الوجود فهو مخلوق، خلقه بمشيئته وقدرته، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويضل ويهدي، ويسعد ويشقى، ويولي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويشرح صدر من يشاء للإسلام ويجعل صدر من يشاء ضيقًا كأنما يَصَّعَّد في السماء، وهو يقلب القلوب، ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وهو الذي حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون‏.‏
وهو الذي جعل المسلم مسلمًا، والمصلي مصليًا، قال الخليل ‏:‏‏
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏128‏]‏، وقال‏:‏ ‏{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏40‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏24‏]‏، وقال آل فرعون‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏41‏]‏، وقال تعالى‏:

 

ص -78-

{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا‏.‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا‏.‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19-21‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏38‏]‏‏.‏
والفلك مصنوعة لبني آدم، وقد أخبر الله  تبارك وتعالى  أنه خلقها بقوله‏:
‏ ‏{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏42‏]‏، وقال‏:‏‏{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا‏}‏ الآيات ‏[‏النحل‏:‏80‏]‏، وهذه كلها مصنوعة لبني آدم‏.‏
وقال تعالى ‏:‏‏
{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏.‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏95، 96‏]‏، ف ‏[‏ما‏]‏ بمعنى ‏[‏الذي‏]‏، ومن جعلها مصدرية فقد غلط، لكن إذا خلق المنحوت كما خلق المصنوع والملبوس والمبني، دل على أنه خالق كل صانع وصنعته، وقال تعالى ‏:‏‏{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏17‏]‏ ،وقال‏:‏ ‏{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏،وهو  سبحانه  خالق كل شىء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته‏.‏
فإنه  سبحانه وتعالى  أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وقد أحسن كل شىء خلقه، وقال تعالى‏:‏

 

ص -79-

 ‏{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏88‏]‏، وقد خلق الأشياء بأسباب، كما قال تعالى ‏:‏‏{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏164‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏57‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏160‏]‏

 

ص -80-

 سئل شيخ الإسلام  رحمه الله تعالى  عن حسن إرادة الله  تعالى  لخلق الخلق وإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أو لغير علة‏؟‏ فإن قيل‏:‏ لا لعلة فهو عبث  تعالى الله عنه  وإن قيل‏:‏ لعلة ،فإن قلتم‏:‏ إنها لم تزل، لزم أن يكون المعلول لم يزل، وإن قلتم‏:‏ إنها محدثة، لزم أن يكون لها علة، والتسلسل محال‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة كبيرة من أجَلِّ المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعوبا وفروعًا، وأكثرها شبهًا ومحارات، فإن لها تعلقًا بصفات الله  تعالى  وبأسمائه وأفعاله، وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق  سبحانه  وكذلك الشرائع كلها  الأمر والنهي والوعد والوعيد  متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، وبمسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس، فعلم الفقه الذي هو الأمر والنهي متعلق بها‏.‏

 

ص -81-

 وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي، كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش، هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك‏؟‏ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة‏؟‏ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث أو بمعنى الأمارة والعلامة‏؟‏ وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل، ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا ‏؟‏
وتكلم الناس في تنزيه الله  تعالى  عن الظلم، هل هو منزه عنه مع قدرته عليه‏؟‏ أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه‏؟‏
وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه، هل هي بمعنى إرادته‏؟‏ أو هي الثواب والعقاب المخلوق‏؟‏ أم هذه صفات أخص من الإرادة‏؟‏
وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان، هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث‏؟‏ أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته، وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتديًا‏؟‏ أم هو واقع بقدرته ومشيئته‏؟‏ ولا يكون في ملكه ما لا يريد، وله في جميع خلقه حكمة بالغة، وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه، وإن إرادة الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه‏.‏ وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها‏.‏

 

ص -82-

 ولأجل تجاذب هذا الأصل ووقوع الاشتباه فيه،صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل، وكل تقدير قال به طوائف من بني آدم من المسلمين وغير المسلمين‏.‏
فالتقدير الأول‏:‏ هو قول من يقول‏:‏ خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة، وهذا قول كثير ممن يثبت القدر، وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول الأشعري، وأصحابه، وقول كثير من نفاة القياس في الفقه  الظاهرية كابن حزم وأمثاله‏.‏
ومن حجة هؤلاء‏:‏ أنه لو خلق الخلق لعلة، لكان ناقصًا بدونها مستكملاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكملاً بها، فيكون قبلها ناقصًا‏.‏
ومن حجتهم‏:‏ ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد  كما يقال‏:‏ أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك، ويقال‏:‏ إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلا  فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عنه، فمن فعل فعلاً

 

ص -83-

 لمطلوب يطلبه بذلك الفعل، كان حصول المطلوب بعد الفعل، فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديمًا، كان الفعل قديمًا بطريق الأولى‏.‏
فلو قيل‏:‏ إنه يفعل لعلة قديمة، لزم ألا يحدث شىء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة، وإن قيل‏:‏ إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون محلاً للحوادث، فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه، فإن لم يعد إليه منها حكم، امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم، كان ذلك حادثًا فتقوم به الحوادث‏.‏
المحذور الثاني‏:‏ أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي  أيضًا  مما يحدثه الله  تعالى  بقدرته ومشيئته، فإن كانت لغير علة، لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه أحدثه لعله والعلة مما أحدثه، لزم تسلسل الحوادث‏.‏ الثاني‏:‏ أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها؛ لأن ما أراده الله  تعالى  لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها، فالقول في ذلك الغير كالقول فيها، ويلزم التسلسل، فهذا ونحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه‏.‏
والتقدير الثاني‏:‏ قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية

 

ص -84-

 قديمة، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه، وكما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم، وهؤلاء أصل قولهم‏:‏ إن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها، لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها، وأعظم حججهم قولهم‏:‏ إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل، لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها، فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل، فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول، فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة، وإن لم تكن العلة التامة  التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضى التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل، إن لم يكن جميعها في الأزل  فلابد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث، وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإذا كان هناك سبب حادث، فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول، ويلزم التسلسل، قالوا‏:‏ فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح‏.‏
ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلية، ولكنهم متناقضون، فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية، ويقولون مع هذا‏:‏ ليس له إرادة بل هو موجب بالذات، لا فاعل بالاختيار، وقولهم باطل من وجوه كثيرة‏:‏

 

ص -85-

 منها‏:‏ أن يقال‏:‏ هذا القول يستلزم ألا يحدث شىء، وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث، ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل، وبطلان الترجيح بلا مرجح، وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها، ولا يجوز أن يتأخر عنها شىء من معلولها، فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة، وليس هناك ما تصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة، فإذا امتنع صدور الحوادث عنه، وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن تحدث بلا محدث‏.‏
وأيضًا، فلو قدر أن غيره أحدثها، فإن كان واجبًا بنفسه، كان القول فيه كالقول في الواجب الأول، وأصل قولهم‏:‏ إن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له، فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث، لا بواسطة ولا بغير واسطة؛ لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه،فامتنع صدور الحوادث عنها، وإن كانت حادثة، كان القول فيها كالقول في غيرها‏.‏
وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه، كان ممكنًا مفتقرًا إلى موجب يوجب به، ثم إن قيل‏:‏إنه محدث، كان من الحوادث، وإن قيل‏:‏ إنه قديم، كان له علة تامة مستلزمة له، وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه، فإن الممكن لا يوجد هو ولا شىء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه، فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة، قيل‏:‏ هل حدث فيه سبب

 

ص -86-

  يقتضى الحدوث أم لا ‏؟‏ فإن قيل‏:‏ لم يحدث سبب، لزم الترجيح بلا مرجح، وإن قيل‏:‏ حدث سبب، لزم التسلسل كما تقدم‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ الذي يبين بطلان قولهم أن يقال‏:‏ مضمون الحجة‏:‏ أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة، لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح، والتسلسل عندكم جائز، فإن أصل قولهم‏:‏ إن هذه الحوادث متسلسلة شيئًا بعد شىء، وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم‏:‏ هي العقل الفعال، أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول،أو غير ذلك من الوسائط، وإذا كان التسلسل جائزًا عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث من غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل، بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم ،وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه أهل الملل  المسلمون واليهود والنصارى  فإن قيل‏:‏ إنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك، كان خيرًا من قولكم‏:‏ إنها قديمة أزلية معه في الشرع، وكان أولى في العقل؛ لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع، وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شىء إلا بسبب حادث، فإذا قيل‏:‏ إن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك، لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية، إما أن يكون ممكنًا في العقل أو ممتنعًا، فإن كان ممتنعًا في العقل، لزم أن الحوادث جميعها

 

ص -87-

لها أول، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام، وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك، وإن كان ممكنًا، أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفًا على حوادث قبل ذلك، كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك، فيلزم فساد حجتكم على التقديرين‏.‏
ثم يقال‏:‏ إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة، وإما ألا تثبتوا، فإن لم تثبتوا؛ بطل قولكم بإثبات العلة الغائية، وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري  تعالى  في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات، وأيضًا، فالوجود يبطل هذا القول؛ فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء، كإحداثه  سبحانه  لما يحدثه من نعمته ورحمته ووقت حاجة الخلق إليه، كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة، وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، وإن أثبتم له حكمة مطلوبة  وهي باصطلاحكم العلة الغائية  لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة، فإن القول‏:‏ بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريدا لتلك الحكمة المطلوبة جمع بين النقيضين، وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضًا؛ ولهذا يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو الإرادة، والإرادة هي القدرة، وأمثال ذلك، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع‏.‏
وأما التقدير الثالث‏:‏ وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة

 

ص -88-

 محمودة، فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين، وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكَرَّامِيَّة والمرجئة وغيرهم، وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وقول أكثر قدماء الفلاسفة، وكثير من متأخريهم؛ كأبي البركات وأمثاله؛ لكن هؤلاء على أقوال‏:‏
منهم من قال‏:‏ إن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه  أيضًا  كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم، وقالوا‏:‏ الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق، والحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب، وقالوا‏:‏ إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل، فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم، ولا قام به فعل ولا نعت‏.‏
فقال لهم الناس‏:‏ أنتم متناقضون في هذا القول؛ لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك،وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمده لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء،لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثًا في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة

 

ص -89-

 ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة، كان عابثًا ولم يكن محمودًا على هذا، وأنتم عللتم أفعاله فرارًا من العبث، فوقعتم في العبث، فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل؛ ولهذا لم يأمر الله  تعالى  ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحدًا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك، إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة، وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لافي العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر‏.‏
ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسألة التحسين والتقبيح العقلي، فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم، وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، ونفي ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له، ولكونه ضارًا للفاعل منافرًا له، أنه يمكن معرفته بالعقل، كما يعرف بالشرع، وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا، وهذا ليس كذلك، بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم، والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له، والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له‏.‏

 

ص -90-

 والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله  تعالى  لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله، ومنازعوهم لما اعتقدوا ألا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك، وقالوا‏:‏ القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته، وكل ما يقدر ممكنا من الأفعال فهو حسن؛ إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول، وأولئك أثبتوا حسنًا وقبحًا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته، إذ عندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل ولا غير ذلك، وإن كانوا قد يتناقضون‏.‏
ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله  سبحانه  ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله ولا يثبتون له مشيئة عامة، ولا قدرة تامة، فلا يجعلونه على كل شىء قدير، ولا يقولون‏:‏ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يقرون بأنه خالق كل شىء، ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه، فإنه قال‏:‏
‏{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏112‏]‏، أي‏:‏لا يخاف أن يظلم، فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏29‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم  في حديث البطاقة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما ‏:‏ ‏(‏يجاء برجل من أمتي يوم القيامة، فتنشر له تسعة وتسعون سِجِلاً كل سجل مد البصر، فيقال له‏:‏ هل تنكر من هذا شيئًا‏؟‏ فيقول‏:‏ لا يارب، فيقال له‏:‏ ألك عذر‏؟‏ ألك حسنة‏؟‏ فيقول‏:‏ لا يارب، فيقول‏:‏ بلى

 

ص -91-

 إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏فتخرج له بطاقة فيها‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة‏)‏ ‏.‏فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم، بل يثاب على ما أتي به من التوحيد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه‏.‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏7، 8‏]‏‏.‏
وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ‏[‏عدلية‏]‏ يقولون‏:‏ من فعل كبيرة واحدة أحبطت جميع حسناته، وخلد في نار جهنم، فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلمًا يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم، ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلما، والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام‏.‏
وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله  سبحانه  أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه، وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه، ومذهبهم‏:‏ أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل، ولا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتديًا‏.‏
وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام، كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة  أيضًا  فلا يوافقونهم على

 

ص -92-

 هذا، بل يقولون‏:‏ إنه يفعل ما يفعل  سبحانه  لحكمة يعلمها  سبحانه وتعالى  وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك، والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة، كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى ‏:‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏107‏]‏، فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق، وفيه أعظم حكمة
للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى‏:‏ ‏{
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏164‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏53‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏ قالوا‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
فإذا قال قائل‏:‏ فقد تضرر برسالته طائفة من الناس، كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب، كان عن هذا جوابان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه نفعهم بحسب الإمكان، فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم، وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم، ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره، فكان ذلك تقليلاً لشره، والرسل  صلوات الله عليهم

 

ص -93-

 بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان‏.‏
والجواب الثاني‏:‏ أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع، كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت، أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقَصَّارين ونحوهم، وما كان نفعه ومصلحته عامة، كان خيرًا مقصودًا ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس، وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية، وهو جواب كثير من المتفلسفة‏.‏
وقال هؤلاء‏:‏ جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر، فلابد فيه من حكمة، قال الله تعالى‏:
‏ ‏{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏ ‏{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏7‏]‏، و الضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شرًا مطلقًا، وإن كان شرًا بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجىء في كلام الله  تعالي  وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا علي أحد وجوه ثلاثة‏:‏ إما أن يدخل في عموم المخلوقات، فإنه إذا دخل في العموم؛ أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق، وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم، وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل، وإما أن يحذف فاعله‏.‏
فالأول، كقوله تعالى‏:‏
‏{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏62‏]‏ ونحو ذلك، ومن هذا الباب‏:‏ أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع، والضار النافع، المعز المذل، الخافض الرافع،

 

ص -94-

فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه، ولا الضار عن قرينه؛ لأن اقترانهما يدل على العموم، وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله  تعالى  وما في الوجود من غير ذلك، فهو من عدله، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يمين الله ملأى لا يُغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض‏؟‏ فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى القِسْط يخفض ويرفع‏)‏، فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله‏.‏
وأما حذف الفاعل، فمثل قول الجن‏:‏
‏{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏10‏]‏، وقوله تعالى في سورة الفاتحة‏:‏ ‏{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
وإضافته إلى السبب، كقوله‏:‏
‏{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏79‏]‏، مع قوله‏:‏ ‏{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏82‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏

 

ص -95-

  ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر، و إنما يذكر الشر في مفعولاته، كقوله‏:‏‏{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏.‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏49، 50‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏167‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏98‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏.‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏.‏ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏12-14‏]‏، فبين  سبحانه  أن بطشه شديد، وأنه هو الغفور الودود‏.‏
واسم ‏[‏المنتقم‏]‏ ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء في القرآن مقيدًا كقوله تعالى‏:‏
‏{إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏47‏]‏، والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم فذكر في سياقه‏:‏ ‏(‏البر التواب المنتقم العفو الرؤوف‏)‏ ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أو عن بعض شيوخه؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي، رواه عن طريق الوليد بن مسلم بسياق، ورواه غيره باختلاف في الأسماء، وفي ترتيبها يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر من روي هذا الحديث أنه عن أبي هريرة، ثم عن الأعرج، ثم عن أبي الزناد، لم يذكروا أعيان الأسماء؛ بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة‏)‏‏.‏ وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهم، ولكن روى عدد الأسماء من

 

ص -96-

طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة، ورواه ابن ماجة، وإسناده ضعيف، يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في عدد الأسماء الحسنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسألة، فإن نفوس بني آدم لا يزال يحوك فيها من هذه المسألة أمر عظيم‏.‏
وإذا علم العبد  من حيث الجملة ‏:‏ أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علمًا وإيمانًا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه، حيث قال‏:‏
‏{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏53‏]‏، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها‏)‏‏(‏4‏)‏، وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة، واحتبس عنده تسعًا وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده‏)‏، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمته فلا ينفونها، كما نفاها الأشعرية ونحوهم

 

ص -97-

الذين لم يثبتوا إلا إرادة بلا حكمة، ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضى‏.‏ وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة إليه سواء، لا يفرقون بالإرادة والمحبة والرضى، بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا‏:‏ إنه يحبه ويرضاه كما يريده، وإذا قالوا‏:‏ لا يحبه ولا يرضاه دينا قالوا‏:‏ إنه لا يريده دينًا وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏108‏]‏ فأخبر أنه لا يرضاه، مع أنه قدره وقضاه  لا يوافقون المعتزلة على إنكار قدرة الله  تعالى  وعموم خلقه ومشيئته وقدرته، ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم، كما فعل هؤلاء، ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله، بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال، ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال، وقالوا‏:‏ إن الله خالق كل شيء ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير‏.‏ وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله‏.‏
وقالوا‏:‏ مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات، أعيانها وأفعالها، كما قال تعالى‏:‏‏
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏35‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏} ‏[‏ص‏:‏28‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:

 

ص -98-

 ‏{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏.‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ‏.‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ‏.‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏19-22‏]‏ وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات‏.‏ وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد، كما قال تعالى‏:‏‏{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏2‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏30‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏31‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ‏.‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 14-16‏]‏ ونظائر هذا في القرآن كثيرة‏.‏
وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف، وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله، ويأمر بالمعروف وينهون عن المنكر، لكن ضلوا في القدر، واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقًا متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته، وغلطوا في ذلك‏.‏
فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏ وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهذا حسن وصواب، لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى خرج غلاتهم إلى الإلحاد، فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا‏:
‏ ‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏‏.‏

 

ص -99-

فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث إنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شرًا غير الله  سبحانه  فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏، فالمشركون شر من المجوس، فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين، وقد ذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم وطعامهم، ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية، وجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون الجزية وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من أحد من المشركين؛ بل قال‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول لله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل‏)‏‏.‏
والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل بين جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور والمحظور، والمؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء، وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون وكفار مكة سواء‏.‏
وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة، لا سيما

 

ص -100-

 

 إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة و البغض والرضى والسخط، الذين يقولون‏:‏ التوحيد هو توحيد الربوبية، و الإلهية عندهم هي القدرة على الاختراع، ولا يعرفون توحيد الإلهية، ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود‏.‏ وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيدًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏106‏]‏، قال عكرمة‏:‏ تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون‏:‏ الله، وهم يعبدون غيره، وهؤلاء يدعون التحقيق والفناء في التوحيد، ويقولون‏:‏ إن هذا نهاية المعرفة، وإن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة‏.‏ وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، الذين قال الله عنهم‏:‏ ‏{
قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏.‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ‏.‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏84-89‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ‏.‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏.‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏61، 63‏]‏،

 

ص -101-

 وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏25‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏87‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ‏.‏ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ‏.‏ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ‏.‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏31-35‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ‏.‏ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏.‏ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ‏.‏ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏.‏ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏60-64‏]‏ ‏.‏

 

ص -102-

 فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم، وبيده ملكوت كل شيء، بل كانوا مقرين بالقدر أيضًا فإن العرب كانوا يثبتون القدر في الجاهلية، وهو معروف عنهم في النظم والنثر، ومع هذا فلما لم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له، بل عبدوا غيره كانوا مشركين شرًا من اليهود والنصارى‏.‏ فمن كان غاية توحيده وتحقيقه هو هذا التوحيد كان غاية توحيده توحيد المشركين‏.‏
وهذا المقام مقام وأي مقام ‏!‏ زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وبدل فيه دين المسلمين، والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام، على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام‏.‏
ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة القدرية المثبتين للأمر والنهي، والوعد والوعيد خير ممن يسوى بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبئ الكاذب، وأولياء الله وأعدائه‏.‏ ويجعل هذا غاية التحقيق، ونهاية التوحيد، وهؤلاء يدخلون في مسمى ‏[‏القدرية‏]‏ الذين ذمهم السلف، بل هم أحق بالذم من المعتزلة ونحوهم، كما قال أبو بكر الخلال في ‏[‏كتاب السنة‏]‏‏:‏ الرد على القدرية، وقولهم إن الله أجبر العباد على المعاصي، وذكر عن المروذي قال‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال‏:‏ هكذا لا تقول، وأنكر ذلك، وقال‏
:‏‏{يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏31‏]‏‏.‏ وذكر عن المروذي رجلاً قال‏:‏ إن الله لم يجبر العباد على المعاصي‏.‏

 

ص -103-

فرد عليه آخر فقال‏:‏ إن الله جبر العباد  أراد بذلك إثبات القدر  فسألوا عن ذلك أحمد ابن حنبل، فأنكر عليهما جميعًا؛ على الذي قال‏:‏ جبر، وعلى الذي قال‏:‏ لم يجبر حتى تاب، وأمر أن يقال‏:‏ ‏{يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏31‏]‏‏.‏
وذكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال‏:‏ أنكر سفيان الثوري ‏[‏جبر‏]‏ وقال‏:‏ إن الله جبل العباد‏.‏قال المروذى‏:‏ أراد قول النبى صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس  يعنى قوله ‏:‏ ‏[‏إن فيك لخلقين يحبهما الله‏:‏ الحلم والأناءة ‏]‏‏.‏ فقال‏:‏أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏بل خلقين جبلت عليهما ‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ الحمد لله الذي جبلنى على خلقين يحبهما‏.‏
وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال‏:‏ قال الأوزاعي‏:‏ أتانى رجلان فسألانى عن القدر، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما، قلت‏:‏ رحمك الله، أنت أولى بالجواب، قال‏:‏ فأتانى الأوزاعي ومعه الرجلان، فقال‏:‏ تكلما، فقالا‏:‏ قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا فى القدر ونازعناهم فيه، حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا‏:‏ إن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقلت‏:‏ يا هؤلاء، إن الذين آتوكم بما آتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثًا، وإنى أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه، فقال‏:‏ أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق‏.‏
وذكر عن بقية بن الوليد قال‏:‏سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر،

 

ص -104-

فقال الزبيدي‏:‏ أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحب‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القران والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وقد قال مطرف بن الشخير‏:‏ لم نوكل إلى القدر، وإليه نصير‏.‏ وقال ضمرة بن ربيعة‏:‏ لم نؤمر أن نتكل على القدر، وإليه نصير‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ‏)‏‏.‏ وهذا باب واسع‏.‏
والمقصود هنا أن الخلال وغيره من أهل العلم أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى ‏"‏القدرية‏"‏، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي، فكيف بمن يحتج به على المعاصي‏؟‏‏!‏ ومعلوم أنه يدخل فى ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له، فإن ضلال هذا أعظم؛ ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة فى كلام غير واحد من السلف‏.‏ وروي فى ذلك حديث مرفوع؛ لأن كلا من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد، فإلارجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم

 

ص -105-

والقدري إن احتج به كان عونًا للمرجئ، وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى‏.‏
ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصدق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت، كما قال تعالى‏:‏‏
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏64‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏80‏]‏، والإيمان بالقدر من تمام ذلك‏.‏ فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضًا للأمر فقد أذهب الأصل‏.‏
ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل هؤلاء قولهم متناقض لا يمكن أحدًا منهم أن يعيش به، ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق، ولا يتعاشر عليه اثنان؛ فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد، وإلا فليس حجة لأحد‏.‏ فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك، فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر‏.‏ ومن ادعى أن العارف إذا شهد القدر سقط عنه الأمر كان هذا الكلام من الكفر الذي لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع؛ فإن الجائع يفرق بين الخبز والتراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب، فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه، والجميع مخلوق لله تعالى، فالحي  وإن

 

ص -106-

كان من كان  لابد أن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره، وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه‏.‏ وهذا حقيقة الأمر والنهي، فإن الله  تعالى  أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم‏.‏
والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع؛ فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره، يستند إليه في الذنوب والمعائب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعائب، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏.‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏22، 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏11‏]‏، قال بعض السلف‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏ قال تعالى‏:‏‏{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏135‏]‏‏.‏
وقد ذكر الله تعالى عن آدم  عليه السلام  أنه لما فعل ما فعل قال‏:
‏‏{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏، وعن إبليس أنه قال‏:‏ ‏{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏39‏]‏، فمن تاب أشبه

 

ص -107-

أباه آدم، ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس، والحديث الذي في الصحيحين في احتجاج آدم وموسى  عليهما السلام  لما قال له موسى‏:‏ ‏(‏أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وعلمك أسماء كل شيء، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ فقال له آدم‏:‏ أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبًا علي قبل أن أُخلق ‏{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏121‏]‏، قال‏:‏ بكذا وكذا سنة‏.‏ قال‏:‏ فحج آدم موسى‏)‏‏.‏ وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبى هريرة، وقد روى بإسناد جيد من حديث عمر رضي الله عنه‏.‏
فآدم  عليه السلام  إنما حج موسى؛ لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه له لأجل حق الله في الذنب، فإن آدم كان قد تاب من الذنب، كما قال تعالي‏:‏
‏{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏122‏]‏، وموسى  ومن هو دون موسى  عليه السلام  يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب‏.‏ وموسى  عليه السلام  أعلم بالله  تعالى  من أن يقبل هذه الحجة، فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر وفاجر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم على موسى؛ لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك، وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه ‏.‏

 

ص -108-

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏11‏]‏، وقال أنس‏:‏ خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته، لم فعلته‏؟‏ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته‏؟‏ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول‏:‏ ‏(‏دعوه، فلو قضى شيء لكان‏)‏، وفي الصحيحين عن عائشة  رضي الله عنها  قالت‏:‏ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا ولا امرأة ولا دابة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها‏)‏، ففي أمر الله ونهيه يسارع إلى الطاعة، ويقيم الحدود على من تعدى حدود الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا آذاه مؤذٍ أو قصر مقصر في حقه، عفا عنه، ولم يؤاخذه نظرًا إلى القدر‏.‏
فهذا سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وهذا واجب فيما قدر من المصائب بغير فعل آدمي كالمصائب السماوية، أو بفعل لا سبيل فيه إلى العقوبة كفعل آدم  عليه السلام  فإنه لا سبيل إلى لومه شرعًا  لأجل التوبة  ولا قدرًا؛ لأجل القضاء والقدر، وأما إذا ظلم رجل رجلاً، فله أن يستوفى مظلمته على وجه العدل، وإن عفا عنه كان أفضل له، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏45‏]‏‏.‏

 

ص -109-

وأما الصنف الثالث، فهم الذين لا ينظرون إلى القدر، لا في المعائب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد، بل يضيفون ذلك كله إلى العبد، وإذا أساؤوا استغفروا، وهذا حسن، لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى به عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم‏:‏ دعوه، فلو قضى شيء لكان، لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم فلا ينظرون إليها وقد قال تعالى‏:‏‏{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏48‏]‏‏.‏
ومن هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏.‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78، 79‏]‏‏.‏ فإن هذه الآية تنازع فيها كثير من مثبتي القدر ونفاته، هؤلاء يقولون‏:‏ الأفعال كلها من الله؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ الحسنة من الله والسيئة من نفسك؛ لقوله‏:‏ ‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏.‏
وقد يجيبهم الأولون بقراءة مكذوبة‏:‏ ‏[‏فمن نفسك ‏؟‏ ‏]‏ بالفتح على معنى الاستفهام، وربما قدر بعضهم تقديرًا‏:‏ أي أفمن نفسك‏؟‏ وربما قدر بعضهم القول في قوله تعالى‏:‏‏{مَا أَصَابَكَ‏}‏ فيقولون‏:‏ تقدير الآية‏:‏ ‏{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏

 

ص -110-

يقولون فيحرفون لفظ القرآن ومعناه، ويجعلون ما هو من قول الله  قول الصدق  من قول المنافقين الذين أنكر الله قولهم، ويضمرون في القرآن ما لا دليل على ثبوته بل سياق الكلام ينفيه؛ فكل من هاتين الطائفتين جاهلة بمعنى القرآن وبحقيقة المذهب الذي تنصره‏.‏
وأما القرآن، فالمراد منه هنا بالحسنات والسيئات‏:‏ النعم والمصائب، ليس المراد الطاعات والمعاصي، وهذا كقوله تعالى‏:‏
‏{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏210‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ‏.‏ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏50، 51‏]‏، ومنه قوله تعالى‏:‏‏{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏168‏]‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏35‏]‏ أي‏:‏ بالنعم والمصائب‏.‏
وهذا بخلاف قوله‏:‏
‏{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏160‏]‏ وأمثال ذلك، فإن المراد بها‏:‏ الطاعة والمعصية، وفي كل موضع ما يبين المراد باللفظ، فليس في القرآن العزيز بحمد الله تعالى إشكال، بل هو مبين‏.‏ وذلك أنه إذا قال‏:‏‏{مَا أَصَابَكَ‏}‏ وما ‏(‏مسك‏)‏ ونحو ذلك، كان من فعل غيرك بك كما قال‏:‏‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏‏{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏ وقال تعالى‏:‏‏{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏‏.‏

 

ص -111-

 وإذا قال‏:‏ ‏{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏160، النمل‏:‏89، والقصص‏:‏84‏]‏، كانت من فعله؛ لأنه هو الجائي بها، فهذا يكون فيما فعله العبد لا فيما فعل به، وسياق الآية يبين ذلك، فإنه ذكر هذا في سياق الحض على الجهاد وذم المتخلفين عنه فقال تعالى‏:‏‏{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا‏.‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا‏.‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏71-73‏]‏‏.‏
فأمر  سبحانه  بالجهاد وذم المثبطين، وذكر ما يصيب المؤمنين تارة من المصيبة فيه، وتارة من فضل الله فيه، كما أصابهم يوم أحد مصيبة فقال‏:‏
‏{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏، وأصابهم يوم بدر فضل من الله بنصره لهم وتأييده، كما قال تعالى‏:‏‏{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 123‏]‏، ثم إنه  سبحانه  قال‏:‏ ‏{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏.‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏74-78‏]‏، فهذا من كلام الكفار والمنافقين، إذا أصابهم نصر وغيره من النعم قالوا‏:‏هذا من عند الله، وإن أصابهم ذل وخوف وغير ذلك من المصائب قالوا‏:

 

ص -112-

  هذا من عند محمد بسبب الدين الذي جاء به، فإن الكفار يضيفون ما أصابهم من المصائب إلى فعل أهل الإيمان‏.‏
وقد ذكر نظير ذلك في قصة موسى وفرعون، قال تعالى‏:‏
‏{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏.‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏130، 131‏]‏، ونظيره قوله تعالى في سورة يس‏:‏‏{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ‏.‏ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏.‏ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏16-18‏]‏، فأخبر الله  تعالى  أن الكفار كانوا يتطيرون بالمؤمنين فإذا أصابهم بلاء جعلوه بسبب أهل الإيمان، وما أصابهم من الخير جعلوه لهم من الله  عز وجل  فقال تعالى‏:‏ ‏{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏، والله  تعالى  نزل أحسن الحديث، فلو فهموا القرآن لعلموا أن الله أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أمر بالخير ونهى عن الشر، فليس فيما بعث الله به رسله ما يكون سببًا للشر، بل الشر حصل بذنوب العباد، فقال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، أي‏:‏ ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله نعمة أنعم بها عليك، وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة، فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى، ومن عليك بالإيمان وزينه في قلبك وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان‏.‏
وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي  حديث أبي ذر  عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى‏:‏ ‏
(‏ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم

 

ص -113-

  ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏ وفي الحديث الصحيح  سيد الاستغفار  أن يقول العبد‏:‏ ‏(‏اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت‏.‏ أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي‏.‏ فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏ من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه ذلك دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏)‏‏.‏
ثم قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ من ذل وخوف وهزيمة كما أصابهم يوم أحد‏:‏‏{فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ أي‏:‏ بذنوبك وخطاياك، وإن كان ذلك مكتوبًا مقدرًا عليك، فإن القدر ليس حجة لأحد، لا على الله ولا على خلقه، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقب ظالم، ولم يقاتل مشرك، ولم يقم حد، ولم يكف أحد عن ظلم أحد‏.‏ وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرورة فساده للعالم بصريح المعقول‏.‏ المطابق لما جاء به الرسول‏.‏
فالقدر يؤمن به ولا يحتج به، فمن لم يؤمن بالقدر ضارع المجوس، ومن احتج به ضارع المشركين، ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهًا بإبليس، فإن الله ذكر عنه‏:‏ أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه وهواه، وأنه قال‏:‏‏
{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏39‏]‏‏.‏
وقد ذكر طائفة من أهل الكتاب وبعض المصنفين في المقالات كالشهرستاني

 

ص -114-

 أنه ناظر الملائكة في ذلك معارضًا لله تعالى في خلقه وأمره، لكن هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات، ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه، ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبونه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقونه‏)‏‏.‏
ويشبه  والله أعلم  أن تكون تلك المناظرة من وضع بعض المكذبين بالقدر إما من أهل الكتاب وإما من المسلمين، والشهرستاني نقلها من كتب المقالات، والمصنفون في المقالات ينقلون كثيرًا من المقالات من كتب المعتزلة كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة، فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفًا في هذا الباب؛ ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم فوضعوا هذه المناظرة على لسان إبليس، كما رأينا كثيرًا منهم يضع كتابًا أو قصيدة على لسان بعض اليهود أو غيرهم، ومقصودهم بذلك الرد على المثبتين للقدر، يقولون‏:‏ إن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بالتكذيب بالقدر، كما وضعوا في مثالب ابن كلاب أنه كان نصرانيًا؛ لأنه أثبت الصفات، وعندهم من أثبت الصفات فقد أشبه النصارى وتتلقى أمثال هذه الحكايات بالقبول من المنتسبين إلى السنة ممن لم يعرف حقيقة أمرها‏.‏
والمقصود هنا، أن الآية الكريمة حجة على هؤلاء‏.‏ وهؤلاء حجة على من يحتج بالقدر، فإن الله تعالى أخبر أنه عذبهم بذنوبهم، فلو كانت حجتهم مقبولة

 

ص -115-

لم يعذبهم بذنوبهم، وحجة على من كذب بالقدر، فإنه  سبحانه  أخبر أن الحسنة من الله، وأن السيئة من نفس العبد، والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية كما هو المحدث للطاعة، والله عندهم ما أحدث لا هذا ولا هذا، بل أمر بهذا ونهى عن هذا‏.‏
وليس عندهم لله نعمة أنعمها على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار، فعندهم أن علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية؛ إذ كل منهما أرسل إليه الرسول، وأقدر على الفعل، وأزيحت علته، لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها، وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذلك المؤمن ولا خصه بنعمة آمن لأجلها، وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله، كما حببه إلى المؤمنين كعلي  رضي الله عنه  وأمثاله، وزينه في قلوب الطائفتين، وكرَّه الكفر والفسوق والعصيان إلى الطائفتين سواء، لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها، وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم‏.‏
ومن توهم عنهم أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد، فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله، فإن أصل قولهم‏:‏ إن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية، كلاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه الله بإرادة خلقها فيه، ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم وكانت الآية حجة عليهم

 

ص -116-

  لا لهم؛ لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏} ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏، وعندهم ليس الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند الله بل كلاهما من العبد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏، مخالف لقولهم؛ فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله  سبحانه‏.‏
وكذلك من احتج من مثبتة القدر بالآية على إثباته إذا احتج بقوله تعالى‏:‏ ‏
{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏ كان مخطئًا، فإن الله ذكر هذه الآية ردًا على من يقول‏:‏ الحسنة من الله والسيئة من العبد، ولم يقل أحد من طوائف الناس‏:‏ إن الحسنة المفعولة من الله، والسيئة المفعولة من العبد‏.‏
وأيضًا، فإن نفس فعل العبد وإن قال أهل الإثبات‏:‏ إن الله خلقه، وهو مخلوق له ومفعول له؛ فإنهم لا ينكرون أن العبد هو المتحرك بالأفعال، وبه قامت، ومنه نشأت، وإن كان الله خلقها‏.‏
وأيضًا، فإن قوله بعد هذا‏:‏
‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ يمتنع أن يفسر بالطاعة والمعصية، فإن أهل الإثبات لا يقولون‏:‏ إن الله خالق إحداهما دون الأخرى، بل يقولون‏:‏ إن الله خالق لجميع الأفعال وكل الحوادث‏.‏
ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ أن مذهب سلف الأمة  مع قولهم‏:‏ الله خالق كل

 

ص -117-

  شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير وأنه هو الذي خلق العبد هلوعًا‏.‏ إذا مسه الشر جزوعًا‏.‏ وإذا مسه الخير منوعًا ونحو ذلك  إن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏.‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 54-56‏]‏ ‏.‏
وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر‏.‏ فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة‏:‏ الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة‏.‏ والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا تكون فعلا له‏.‏
وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر‏:‏ بل هي فعله وليست أفعالا للعباد، بل هي كسب للعبد‏.‏ وقالوا‏:‏ إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها‏.‏ وأن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارنًا لها‏.‏ فيكون الفعل خلقًا من الله إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد لوقوعه مقارنًا لقدرته، وقالوا‏:‏ إن العبد ليس محدثًا لأفعاله ولا موجدًا لها‏.‏ ومع هذا فقد يقولون‏:‏ إنا لا نقول بالجبر المحض، بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة‏.‏

 

ص -118-

وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق، فقالوا‏:‏ الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة‏.‏ وقالوا  أيضًا ‏:‏ الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه‏.‏
فقال لهم الناس‏:‏ هذا لا يوجب فرقًا بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وأحدث وصنع وعمل ونحو ذلك؛ فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضًا مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة‏.‏
وأيضًا، فهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجًا عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين‏:‏ أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك‏.‏
والثاني‏:‏ أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها ولا يكون شيء من مقدورها خارجًا عن محلها‏.‏ وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه‏.‏
وأيضا، فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجًا عن المحل‏.‏
وأيضًا، قال لهم المنازعون‏:‏ من المستقر في فطر الناس أن من فعل

 

ص -119-

العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك؛ لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم، قالوا‏:‏ وهذا كما قلتم أنتم وسائر الصفاتية، من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم، ومن قامت به القدرة فهو قادر، ومن قامت به الحركة فهو متحرك، ومن قام به التكلم فهو متكلم، ومن قامت به الإرادة فهو مريد، وقلتم‏:‏ إذا كان الكلام مخلوقًا، كان كلامًا للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات، فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها  أيضًا  من فعل الأفعال‏.‏
وقالوا  أيضًا ‏:‏ القرآن مملوء بذكر إضافة هذه الأفعال إلى العباد كقوله تعالي ‏:
‏‏{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏17، والواقعة‏:‏ 24‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ‏}‏ ‏[‏ التوبة‏:‏ 105‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏277، يونس ‏:‏9، هود ‏:‏32‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏
وقالوا  أيضًا ‏:‏ إن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنة له أو سيئة، فلو لم يكن إلا فعل غيره، لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها‏.‏
وفي المسألة كلام ليس هذا موضع بسطه، لكن ننبه على نكت نافعة في هذا الموضع المشكل، فنقول‏:‏

 

ص -120-

 قول القائل‏:‏ هذا فعل هذا، وفعل هذا، لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، و تارة يراد به مسمي المصدر، فيقول‏:‏ فعلت هذا أفعله فعلًا، وعملت هذا أعمله عملًا، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمي المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمي المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالي‏:‏ ‏{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏13‏]‏، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالي‏:‏ ‏{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏96‏]‏، فإنه في أصح القولين ‏(‏ما‏)‏ بمعني الذي، والمراد به‏:‏ ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالي ‏:‏‏{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏.‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏95، 96‏]‏ أي‏:‏ والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله خالق كل صانع وصنعته‏)‏، لكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال‏:‏ إذا كان خالقًا لما يعملونه من المنحوتات، لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثانًا بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم، وإذا كان خالقًا للتأليف، كان خالقًا لأفعالهم‏.‏
والمقصود أن لفظ ‏[‏الفعل‏]‏ و‏[‏العمل‏]‏ و‏[‏الصنع‏]‏ أنواع، وذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة تقع على نفس مسمى
المصدر، وعلي المفعول، وكذلك لفظ‏:‏‏[‏التلاوة‏]‏ و‏[‏القراءة‏]‏ و‏[‏الكلام‏]‏ و‏[‏القول‏]‏ يقع على نفس مسمي

 

ص -121-

المصدر وعلي ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء المتلو، كما يراد بها مسمي المصدر‏.‏
والمقصود هنا أن القائل إذا قال‏:‏ هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد؛ فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعني المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق‏.‏
ثم من هؤلاء من قال‏:‏ إنه ليس لله فعل يقوم به، فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه‏.‏
وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا فيقولون‏:‏ هذه مخلوقة لله مفعولة لله ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهي فعله القائم به، وهي أيضًا مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول، فمن لم يفرق في حق الرب تعالي بين الفعل والمفعول إذا قال‏:‏ إنها فعل الله تعالي وليس لمسمي فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلًا للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولي، وبعض هؤلاء قال‏:‏ هي فعل للرب وللعبد فأثبت مفعولًا بين فاعلين‏.
وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى لا يكون إلا بمعنى مفعوله، مع أنهم يفرقون في العبد بين الفعل والمفعول، فلهذا عظم النزاع

 

ص -122-

وأشكلت المسألة على الطائفتين وحاروا فيها‏.‏
وأما من قال‏:‏ خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال‏:‏ إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل ‏:‏إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال‏:‏ إنها نفس فعل العبد وعلي هذا تزول الشبهة؛ فإنه يقال‏:‏ الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلًا له، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه  سبحانه  لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعمًا مرًا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفًا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة‏.‏ ومعني قبحها‏:‏ كونها ضارة لفاعلها، وسببًا لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به، لا على الخالق الذي خلقها فعلًا لغيره‏.‏
ثم على قول الجمهور الذين يقولون له حكمة فيما خلقه في العالم مما هو مستقبح وضار ومؤذ يقولون‏:‏ له فيما خلقه من هذه الأفعال القبيحة الضارة لفاعلها حكمة عظيمة، كما له حكمة عظيمة فيما خلقه من الأمراض والغموم، ومن يقول‏:‏ لا تعلل أفعاله لا يعلل لا هذا ولا هذا‏.‏

 

ص -123-

 يوضح ذلك أن الله  تعالى  إذا خلق في الإنسان عمي ومرضًا وجوعًا وعطشًا ووصبًا ونصبًا و نحو ذلك، كان العبد هو المريض الجائع العطشان المتألم‏.‏ فضرر هذه المخلوقات وما فيها من الأذي والكراهة عاد إليه ولا يعود إلى الله  تعالى  شيء من ذلك‏.‏ فكذلك ما خلق فيه من كذب وظلم وكفر ونحو ذلك، هي أمور ضارة مكروهة مؤذية‏.‏ وهذا معني كونها سيئات وقبائح، أي أنها تسوء صاحبها وتضره، وقد تسوء  أيضًا  غيره وتضره، كما أن مرضه ونتن ريحه ونحو ذلك قد يسوء غيره ويضره‏.‏
يبين ذلك أن القدرية سلموا أن الله قد يخلق في العبد كفرًا وفسوقًا على سبيل الجزاء، كما في قوله تعالى
‏:‏‏{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏110‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 50‏]‏
ثم إنه من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلًا للعبد وكسبًا له يجزي عليها ويستحق الذم عليها والعقاب، وهي مخلوقة لله  تعالى  فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه من أعمال العباد ابتداء كالقول فيما يخلقه جزاء من هذا الوجه، وإن افترقا من وجه آخر، وهم لا يمكنهم أن يفرقوا بينهما بفرق يعود إلى كون هذا فعلا لله دون هذا، وهذا فعلا للعبد دون هذا، ولكن يقولون‏:‏ إن هذا يحسن من الله  تعالى  لكونه جزاء للعبد، وذلك لا يحسن منه لكونه ابتداء للعبد

 

ص -124-

بما يضره وهم يقولون لا يحسن منه أن يضر الحيوان إلا بجرم سابق، أو عوض لاحق‏.‏
وأما أهل الإثبات للقدر، فمن لم يعلل منهم لا يفرق بين مخلوق ومخلوق‏.‏ وأما القائلون بالحكمة  وهم الجمهور  فيقولون‏:‏ لله  تعالى  فيما يخلقه من أذي الحيوان حكم عظيمة كما له حكم في غير هذا، ونحن لا نحصر حكمته في الثواب والعوض، فإن هذا قياس لله  تعالى  على الواحد من الناس، وتمثيل لحكمة الله وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله‏.‏
والمعتزلة مُشَبِّهَة في الأفعال مُعَطِّلَة في الصفات، ومن أصولهم الفاسدة‏:‏ أنهم يصفون الله بما يخلقه في العالم؛ إذ ليس عندهم صفة لله قائمة به ولا فعل قائم به فيسمونه به، ويصفونه بما يخلقه في العالم، مثل قولهم‏:‏ هو متكلم بكلام يخلقه في غيره، ومريد بإرادة يحدثها لا في محل‏.‏ وقولهم‏:‏ إن رضاه وغضبه وحبه وبغضه هو نفس المخلوق الذي يخلقه من الثواب والعقاب، وقولهم‏:‏ إنه لو كان خالقًا لظلم العبد وكذبه لكان هو الظالم الكاذب، وأمثال ذلك من الأقوال التي إذا تدبرها العاقل علم فسادها بالضرورة، ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة عليهم، لاسيما لما أظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وعلم السلف أن هذا في الحقيقة هو إنكار لكلام الله  تعالى  وأنه لو كان كلامه هو ما يخلقه للزم أن يكون كل كلام مخلوق كلامًا له، فيكون إنطاقه للجلود يوم القيامة، وإنطاقه للجبال والحصي بالتسبيح، وشهادة الأيدي والأرجل ونحو ذلك كلامًا له، وإذا كان خالقًا لكل

 

ص -125-

شيء كان كل كلام موجود كلامه، وهذا قول الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص وأمثاله، ولهذا يقولون‏:‏

 وكل كلام في الوجود كلامه

 سواء علينا نثره ونظامه

وقد علم بصريح المعقول‏:‏ أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل، فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وإذا خلق لونًا أو ريحًا في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك، وإذا خلق علمًا أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي، فكذلك إذا خلق إرادة وحبًا وبغضًا في محل كان هو المريد المحب المبغض‏.‏ وإذا خلق فعلا لعبد كان العبد هو الفاعل، فإذا خلق له كذبًا وظلمًا وكفرًا كان العبد هو الكاذب الظالم الكافر، وإن خلق له صلاة وصومًا وحجًا كان العبد هو المصلي الصائم الحاج‏.‏
والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم، ويقولون‏:‏ إن خلق الله للسماوات والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض، بل الخلق غير المخلوق، لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله؛ فإن المعتزلة ومن وافقهم من الجهمية والقدرية نقضوا هذا الأصل على من لم يقل‏:‏ إن الخلق غير المخلوق كالأشعري ومن وافقه، فقالوا‏:‏

 

ص -126-

إذا قلتم إن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره  كما ذكرتم في الحركة والعلم والقدرة وسائر الأعراض  انتقض ذلك عليكم بالعدل والإحسان وغيرهما من أفعال الله تعالي، فإنه يسمي عادلا يعدل خلقه في غيره، محسنًا بإحسان خلقه في غيره، فكذا يسمي متكلمًا بكلام خلقه في غيره‏.‏
والجمهور من أهل السنة وغيرهم يجيبون بالتزام هذا الأصل، ويقولون‏:‏ إنما كان عادلًا بالعدل الذي قام بنفسه، ومحسنًا بالإحسان الذي قام بنفسه‏.‏ وأما المخلوق الذي حصل للعبد فهو أثر ذلك، كما أنه رحمن رحيم بالرحمة التي هي صفته، وأما ما يخلقه من الرحمة فهو أثر تلك الرحمة، واسم الصفة يقع تارة على الصفة التي هي مسمي المصدر، ويقع تارة على متعلقها الذي هو مسمي المفعول؛ كلفظ ‏[‏الخلق‏]‏ يقع تارة على الفعل وعلي المخلوق أخري، والرحمة تقع على هذا وهذا، وكذلك الأمر يقع على أمره الذي هو مصدر أمر يأمر أمرًا، ويقع على المفعول تارة كقوله تعالي‏:‏
‏{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏38‏]‏ وكذلك لفظ ‏[‏العلم‏]‏ يقع على المعلوم و ‏[‏القدرة ‏]‏ تقع على المقدور ونظائر هذا متعددة‏.‏
وقد استدل الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في جملة ما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله  عليه السلام
‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات‏) ونحو ذلك وقالوا‏:‏ الاستعاذة لا تحصل بالمخلوق، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏(‏اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك‏)‏‏.‏

 

ص -127-

ومن تدبر هذا الباب ونحوه وجد أهل البدع والضلال لا يستطيلون على فريق من المنتسبين إلى السنة والهدي إلا بما دخلوا فيه من نوع بدعة أخري وضلال آخر، لا سيما إذا وافقوهم على ذلك، فيحتجون عليهم بما وافقوهم عليه من ذلك، ويطلبون لوازمه، حتى يخرجوهم من الدين إن استطاعوا خروج الشعرة من العجين، كما فعلت القرامطة الباطنية والفلاسفة وأمثالهم بفريق فريق من طوائف المسلمين‏.‏
والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله  تعالى  فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم في أن كلام الله غير مخلوق، وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل، واستطالوا عليهم بذلك في ‏[‏مسألة القدر‏]‏، واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلا لله رب العالمين دون العبد، ثم أثبتوا كسبًا لا حقيقة له، فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل؛ ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا، ويقولون‏:‏ ثلاثة أشياء لا حقيقة لها‏:‏ طَفْرَة النَظَّام، وأحوال أبي هاشم، وكسْب الأشعري‏.‏
واضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي، والاقتران العادي يقع بين كل ملزوم ولازمه، ويقع بين المقدور والقدرة، فليس جعل هذا مؤثرًا في هذا بأولي من العكس، ويقع بين المعلول وعلته

 

ص -128-

المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا تتجاوز محلها، ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول، وأبو إسحاق الإسفرائيني إلى قول، وأبو المعالي الجويني إلى قول؛ لما رأوا ما في هذا القول من التناقض، والكلام على هذا مبسوط في موضعه، والمقصود هنا التنبيه‏.‏
ومن النكت في هذا الباب أن لفظ ‏[‏التأثير‏]‏ ولفظ ‏[‏الجبر‏]‏ ولفظ ‏[‏الرزق‏]‏ ونحو ذلك ألفاظ مجملة، فإذا قال القائل‏:‏ هل قدرة العبد مؤثرة في مقدورها أم لا‏؟‏ قيل له أولا‏:‏ لفظ القدرة يتناول نوعين‏:‏
أحدهما‏:‏ القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي‏.‏
والثاني‏:‏ القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها‏.‏ فالأولي هي المذكورة في قوله تعالي‏:‏‏
{وَلِلَّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًاْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل، لم يجب حج البيت إلا على من حج، فلا يكون من لم يحجج عاصيًا بترك الحج، سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلي جنب‏)‏، وكذا قوله تعالي‏:‏ ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل، لكان قد قال‏:‏ فافعلوا منه ما تفعلون، فلا يكون من لم يفعل شيئًا عاصيًا

 

ص -129-

 له، وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم‏.‏
والناس متنازعون في مسمي الاستطاعة والقدرة، فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا هذه، ويقولون‏:‏ الاستطاعة لابد أن تكون قبل الفعل، ومنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل، وتجد كثيرًا من الفقهاء يتناقضون، فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين  المثبتين للقدر ‏:‏ إن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، وافقوهم على ذلك، وإذا خاضوا في الفقه، أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي‏.‏
وعلي هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق، فإن الطاقة هي الاستطاعة، وهي لفظ مجمل، فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحدًا شيئًا بدونها، فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير، وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل، فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار، فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين‏.‏
وكذا تنازعهم في العبد هل هو قادر على خلاف المعلوم‏؟‏ فإذا أريد بالقدرة القدرة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي كالاستطاعة المذكورة في قوله تعالى ‏
:‏‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏، فكل من أمره الله ونهاه، فهو مستطيع بهذا الاعتبار، وإن علم أنه لا يطيعه، وإن أريد بالقدرة القدرية التي لا تكون إلا مقارنة للمفعول، فمن علم أنه لا يفعل الفعل، لم تكن هذه القدرة ثابتة له‏.‏

 

ص -130-

ومن هذا الباب تنازع الناس في الأمر، والإرادة، هل يأمر بما لا يريد أو لا يأمر إلا بما يريد‏؟‏ فإن الإرادة لفظ فيه إجمال‏.‏ يراد بالإرادة‏:‏ الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث، كقول المسلمين‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكقوله تعالي‏:‏ ‏{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وقول نوح  عليه السلام ‏:‏ ‏{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏34‏]‏، ولا ريب أن الله يأمر العباد بما لا يريده بهذا التفسير والمعني، كما قال تعالي‏:‏ ‏{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏} ‏[‏السجدة‏:‏13‏]‏، فدل على أنه لم يؤت كل نفس هداها مع أنه قد أمر كل نفس بهداها، وكما اتفق العلماء على أن من حلف بالله ليقضين دين غريمه غدًا إن شاء الله، أو ليردن وديعته أو غصبه، أو ليصلين الظهر أو العصر إن شاء الله، أو ليصومن رمضان إن شاء الله، ونحو ذلك مما أمره الله به، فإنه إذا لم يفعل المحلوف عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله‏:‏ إن شاء الله، فعلم أن الله لم يشأه مع أمره به‏.‏
وأما الإرادة الدينية، فهي بمعني المحبة والرضا، وهي ملازمة للأمر كقوله تعالي‏:‏
‏{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، ومنه قول المسلمين‏:‏ هذا يفعل شيئًا لا يريده الله  إذا كان يفعل بعض الفواحش  أي أنه لا يحبه ولا يرضاه، بل ينهي عنه ويكرهه‏.‏
وكذلك لفظ ‏[‏الجبر‏]‏ فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون

 

ص -131-

 رضاه، كما يقال‏:‏ إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبرًا بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضا، والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبرًا بهذا الاعتبار، ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات؛ كقول محمد بن كعب القُرَظِيّ‏:‏ الجبار‏:‏ الذي جبر العباد على ما أراد‏.‏ وكما في الدعاء المأثور عن على  رضي الله عنه ‏:‏ جبار القلوب على فطراتها، شقيها وسعيدها، والجبر ثابت بهذا التفسير‏.‏
فلما كان لفظ الجبر مجملًا، نهي الأئمة الأعلام عن إطلاق إثباته أو نفيه‏.‏
وكذلك لفظ ‏[‏الرزق‏]‏ فيه إجمال، فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه أو ملكه، فلا يدخل الحرام في مسمي هذا الرزق، كما في قوله تعالى
‏:‏‏{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏75‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏ وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك، فيدخل فيه الحرام، كما في قوله تعالى‏:‏ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا على اللَّهِ رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏6‏]‏، وقوله عليه السلام في الصحيح‏:‏ ‏(‏فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد‏)‏‏.‏
ولما كان لفظ الجبر والرزق ونحوهما فيها إجمال، منع الأئمة من إطلاق ذلك نفيًا أو إثباتًا كما تقدم عن الأوزاعي وأبي إسحاق الفَزَاريّ وغيرهما من الأئمة‏.‏

 

ص -132-

وكذا لفظ ‏[‏التأثير‏]‏ فيه إجمال، فإن القدرة مع مقدورها كالسبب مع المسبب، والعلة مع المعلول، والشرط مع المشروط، فإن أريد بالقدرة القدرة الشرعية المصححة للفعل المتقدمة عليه، فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه، وعلة ناقصة له، وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له، فتلك علة للفعل وسبب تام، و معلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة وسبب تام للحوادث  بمعني أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق، والشمس في الإشراق، والطعام والشراب في الإشباع والإرواء ونحو ذلك، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده، بل لابد من أن ينضم إليه سبب آخر، ومع هذا فلهما موانع تمنعهما عن الأثر، فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع، وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء‏.‏
وهذا مما يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا‏:‏ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك، فإن هذا غلط، فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ فاعل؛ كالنار‏.‏ والثاني‏:‏ قابل؛ كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس، فإن شعاعها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير

 

ص -133-

ذلك، فهذا الواحد الذي قدروه في أنفسهم لا وجود له في الخارج، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة، كالوجود المجرد عن الصفات، وكالعقول المجردة، وكالكليات التي يدعون تركب الأنواع منها، وكالمادة والصورة العقليين، وأمثال ذلك لا وجود لها في الخارج، بل إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، وهي أشد بعدًا عن الوجود من الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من أهل الكلام، فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج، وكذلك الجوهر كما قد بسط في موضعه‏.‏
والمقصود هنا‏:‏ أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع  وكل ذلك بخلق الله تعالى  فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون، ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثرًا، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
‏{مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏ فاطر‏:‏2‏]‏، ‏{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏.‏ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ ‏:‏22، 23‏]‏، ‏{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏،

 

ص -134-

ونظائر هذا في القرآن كثيرة‏.‏
فإذا عرف ما في لفظ ‏[‏التأثير‏]‏ من الإجمال والاشتراك، ارتفعت الشبهة وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين، فمن قال‏:‏ إن المؤمن والكافر سواء فيما أنعم الله عليهما من الأسباب المقتضية للإيمان، وإن المؤمن لم يخصه الله بقدرة ولا إرادة آمن بها، وأن العبد إذا فعل لم تحدث له معونة من الله وإرادة لم تكن قبل الفعل، فقوله معلوم الفساد، وقيل لهؤلاء‏:‏ فعل العبد من جملة الحوادث والممكنات، فكل ما به يعلم أن الله تعالى أحدث غيره يعلم به أن الله أحدثه، فكون العبد فاعلًا بعد أن لم يكن أمر ممكن حادث، فإن أمكن صدور هذا الممكن الحادث بدون محدث واجب يحدثه ويرجح وجوده على عدمه أمكن ذلك في غيره، فانتقض دليل إثبات الصانع‏.‏
ولا ريب أن كثيرًا من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر، سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا في مسألة إحداث العالم‏:‏ إن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعًا من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضي الرجحان، وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح، أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر، فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله يحدث الحوادث

 

ص -135-

ونظائر هذا في القرآن كثيرة‏.‏
فإذا عرف ما في لفظ ‏[‏التأثير‏]‏ من الإجمال والاشتراك، ارتفعت الشبهة وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين، فمن قال‏:‏ إن المؤمن والكافر سواء فيما أنعم الله عليهما من الأسباب المقتضية للإيمان، وإن المؤمن لم يخصه الله بقدرة ولا إرادة آمن بها، وأن العبد إذا فعل لم تحدث له معونة من الله وإرادة لم تكن قبل الفعل، فقوله معلوم الفساد، وقيل لهؤلاء‏:‏ فعل العبد من جملة الحوادث والممكنات، فكل ما به يعلم أن الله تعالى أحدث غيره يعلم به أن الله أحدثه، فكون العبد فاعلًا بعد أن لم يكن أمر ممكن حادث، فإن أمكن صدور هذا الممكن الحادث بدون محدث واجب يحدثه ويرجح وجوده على عدمه أمكن ذلك في غيره، فانتقض دليل إثبات الصانع‏.‏
ولا ريب أن كثيرًا من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر، سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا في مسألة إحداث العالم‏:‏ إن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعًا من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضي الرجحان، وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح، أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر، فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله يحدث الحوادث

 

ص -136-

عادي كاقتران الدليل بالمدلول؛ فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز‏.‏
قال بعض الفضلاء‏:‏ تكلم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوي والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم‏.‏
ثم إن هؤلاء يقولون‏:‏ لا ينبغي للإنسان أن يقول‏:‏ إنه شبع بالخبز، وروي بالماء، يقول‏:‏شبعت عنده ورويت عنده؛ فإن الله يخلق الشبع والري ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة، لا بها، وهذا خلاف الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏14‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏52‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏9‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏99‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏27‏]‏،

 

ص -137-

وقال تعالي‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏.‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏10، 11‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا‏}‏إلي قوله‏:‏‏{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏.‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏15، 16‏]‏ ومثل هذا في القرآن كثير، وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله‏:‏ ‏(‏لا يموتن أحد منكم، إلا آذنتموني به حتى أصلي عليه، فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نورًا‏)‏، ومثل هذا كثير‏.‏
ونظير هؤلاء، الذين أبطلوا الأسباب المقدرة في خلق الله، من أبطل الأسباب المشروعة في أمر الله، كالذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات، إن كان مقدرًا حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدرًا لم يحصل بذلك، وهؤلاء كالذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب‏؟‏ فقال‏:‏
‏(‏لا، اعملوا فكل ميسر لماخلق له ‏)‏‏.‏
وفي السنن أنه قيل‏:‏ يارسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقي نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هي من قدر الله‏)‏؛ ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏ الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد،

 

ص -138-

ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع‏.‏
والله  سبحانه  خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل‏:‏ إن كان هذا مقدرًا حصل بدون السبب وإلا لم يحصل، جوابه أنه مقدر بالسبب وليس مقدرًا بدون السبب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏
:‏ ‏(‏إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لماخلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة‏)‏‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن مسعود  رضي الله عنه  قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو الصادق المصدوق ‏:‏ ‏(‏ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات‏:‏ فيقال‏:‏ اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏‏.‏

 

ص -139-

فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا يدخل الجنة بالعمل الذي يعمله ويختم له به، وهذا يدخل النار بالعمل الذي يعمله ويختم له به، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالخواتيم‏)‏؛ وذلك لأن جميع الحسنات تحبط بالردة، وجميع السيئات تغفر بالتوبة، ونظير ذلك من صام ثم أفطر قبل الغروب، أو صلى وأحدث عمدًا قبل كمال الصلاة بطل عمله‏.‏
وبالجملة، فالذي عليه سلف الأمة وأئمتها ما بعث الله به رسله وأنزل كتبه، فيؤمنون بخلق الله وأمره بقدره وشرعه بحكمه الكوني وحكمه الديني وإرادته الكونية والدينية، كما قال في الآية الأولي‏:‏ ‏{
فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وقال نوح عليه السلام‏:‏ ‏{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏34‏]‏، وقال تعالى في الإرادة الدينية‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏، وقال‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، وقال‏:‏‏{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏‏.‏
وهم مع إقرارهم بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه خلق الأشياء بقدرته ومشيئته، يقرون بأنه لا إله إلا هو، لا يستحق العبادة غيره، ويطيعونه ويطيعون رسله، ويحبونه ويرجونه ويخشونه، ويتكلون عليه، وينيبون إليه، ويوالون أولياءه، ويعادون أعداءه، ويقرون بمحبته لما أمر به ولعباده المؤمنين

 

ص -140-

ورضاه بذلك، وبغضه لما نهي عنه، وللكافرين وسخطه لذلك ومقته له، ويقرون بما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من‏:‏ ‏(‏ أن الله أشد فرحًا بتوبة عبده التائب من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فقال تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته‏)‏‏.‏
فهو إلههم الذي يعبدونه وربهم الذي يسألونه كما قال تعالي‏:‏
‏{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏2-5‏]‏، فهو المعبود المستعان، والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل، فهم يحبونه أعظم مما يحب كل محب محبوبه كما قال تعالي‏:‏ ‏{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏165‏]‏، وكل ما يحبونه سواه، فإنما يحبونه لأجله، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان‏:‏ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار‏)‏، وفي الترمذي وغيره‏:‏ ‏(‏ أوثق عُرَى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن أحب لله وأبغض لله وأعطي لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان‏)‏‏.‏
وهو  سبحانه  يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فإن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، واستفاض

 

ص -141-

عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله‏)‏، يعني نفسه؛ ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يُحِبُّ وَيُحَبُّ‏.‏
وأنكرت الجهمية ومن اتبعهم محبته، وأول من أنكر ذلك الجَعْد بن درهم  شيخ الجهم بن صفوان  فضحي به خالد بن عبد الله القسري بواسط وقال‏:‏ أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسي تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا‏.‏ ثم نزل فذبحه‏.‏
وهذا أصل ملة إبراهيم الذي جعله الله إمامًا للناس؛ قال تعالي‏:‏ ‏
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏124‏]‏، وقال‏:‏‏{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏125‏]‏‏.‏
ومن قال‏:‏ إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه، فقوله متناقض؛ فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته، فمن أحب الله نفسه، أحب التقرب إليه، ومن كان لا يحبه نفسه، امتنع أن يحب التقرب إليه، وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر، فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله، وقد

 

ص -142-

جعل طاعة الله وسيلة إليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادي مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه فيقولون‏:‏ ما هو ‏؟‏ ألم يبيض وجوهنا‏؟‏ ويثقل موازيننا‏؟‏ ويدخلنا الجنة‏؟‏ ويجرنا من النار‏؟‏ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة‏)‏‏.‏
فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون به، ومحبة النظر إليه تبع لمحبته، فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه، وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله، وطمأنينة بذكره وتنعمًا بمعرفته، ولذة وسرورًا بذكره ومناجاته، وذلك يقوي ويضعف، ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق، فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره‏:‏ ‏(‏ حبب إلى من دنياكم النساء والطيب  ثم قال  وجعلت قرة عيني في الصلاة‏)‏، وكان صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏أرحنا بالصلاة يا بلال‏)‏‏.‏ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم  سبحانه وتعالى  وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏
(‏يقول الله تعالي‏:‏ من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر

 

ص -143-

به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏)‏‏.‏
فقد بين‏:‏ أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله، فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله، وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه، وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين، فكان حبه للمؤمنين تبعًا لحب نفسه‏.‏
فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه، فهم لا يحصون ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه، كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏
‏(‏ اللّهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه‏)‏‏.‏ وقال له الأسود بن سَرِيع‏:‏ إني حمدت ربي بمحامد فقال‏:‏ ‏(‏إن ربك يحب الحمد‏)‏، فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له، ويحب ثناءهم عليه، وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه، وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه، فهو  سبحانه  أعلم بنفسه من كل أحد، وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق، فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم

 

ص -144-

أنه قرأ على المنبر‏:‏‏{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏67‏]‏، قال‏:‏ ‏(‏يقبض الله الأرض، ويطوي السموات بيمينه ثم يهزهن، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئًا، أنا الذي أعيدها‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏يمجد الرب نفسه سبحانه‏)‏، فهو يحمد نفسه ويثني عليها، ويمجد نفسه سبحانه وتعالي، وهو الغني بنفسه لا يحتاج إلى أحد غيره، بل كل ما سواه فقير إليه ‏{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏29‏]‏، وهو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد‏.‏
فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين ونحو ذلك، لم يجز أن يقال‏:‏ هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه، فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهو الذي هداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به‏.‏
فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته و خلقه، فله الملك لا شريك له، وله الحمد في الأولي والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون‏.‏
فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها‏.‏

 

ص -145-

قالوا‏:‏ وقول القائل‏:‏ إن هذا يقتضي أنه مستكمل بغيره، فيكون ناقصًا قبل ذلك، عنه أجوبة‏:‏
أحدها‏:‏ أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جوابًا في المفعولات كان جوابًا عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلًا إلا مستكملًا بفعله‏.‏
الثاني‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ كماله أن يكون لا يزال قادرًا على الفعل بحكمة، فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان ناقصًا‏.‏
الثالث‏:‏ قول القائل‏:‏ إنه مستكمل بغيره باطل، فإن ذلك إنما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك ‏.‏ فلم يكن في ذلك محتاجًا إلى غيره، وإذا قيل‏:‏ كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل‏:‏ كمل بصفاته أو كمل بذاته‏.‏
الرابع‏:‏ قول القائل‏:‏ كان قبل ذلك ناقصًا إن أراد به عدم ما تجدد فلا نسلم أن عدمه قبل الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصًا، وإن أراد بكونه ناقصًا معنى غير ذلك فهو ممنوع، بل يقال‏:‏ عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال، كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده فيه كمال، فليس عدم كل شيء نقصًا، بل عدم ما يصلح وجوده

 

ص -146-

هو النقص، كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص، لا أن عدمها هو النقص؛ ولهذا كان الرب تعالى موصوفًا بالصفات الثبوتية المتضمنة لكماله، وموصوفًا بالصفات السلبية المستلزمة لكماله أيضًا، فكان عدم ما ينفي عنه هو من الكمال كما أن وجود ما يستحق ثبوته من الكمال، وإذا عقل مثل هذا في الصفات، فكذلك في الأفعال ونحوها، وليس كل زيادة يقدرها الذهن من الكمال، بل كثير من الزيادات تكون نقصًا في كمال المزيد، كما يعقل مثل ذلك في كثير من الموجودات، والإنسان قد يكون وجود أشياء في حقه في وقت نقصًا وعيبًا، وفي وقت آخر كمالاً ومدحًا في حقه، كما يكون في وقت مضرة له وفي وقت منفعة له‏.‏
الخامس‏:‏ أنا إذا قدرنا من يقدر على إحداث الحوادث لحكمة، ومن لا يقدر على ذلك كان معلومًا ببديهة العقل‏.‏ أن القادر على ذلك أكمل، مع أن الحوادث لا يمكن وجودها إلا حوادث لا تكون قديمة، وإذا كانت القدرة على ذلك أكمل، وهذا المقدور لا يكون إلا حادثًا كان وجوده هو الكمال، وعدمه قبل ذلك من تمام الكمال، إذ عدم الممتنع الذي هو شرط في وجود الكمال من الكمال‏.‏
ثم هم هنا ثلاث فرق‏:‏ فرقة تقول‏:‏ إرادته وحبه ورضاه ونحو هذا قديم، ولم يزل راضيًا عمن علم أنه يموت مؤمنا،ولم يزل ساخطًا على من علم أنه يموت

 

ص -147-

كافرًا، كما يقول ذلك من يقوله من الكلاَّبيَّةِ وأهل الحديث والفقهاء والصوفية، فهؤلاء لا يلزمهم التسلسل لأجل حلول الحوادث؛ لكن يعارضهم الأكثرون الذي ينازعونهم في الحكمة المحبوبة، كما ينازعونهم في الإرادة، فإنهم قالوا لهم‏:‏ إذا كانت الإرادة قديمة لم تزل ونسبتها إلى جميع الأزمنة والحوادث سواء، فاختصاص زمان دون زمان بالحدوث ومفعول دون مفعول، تخصيص بلا مخصص‏.‏
قال أولئك‏:‏ الإرادة من شأنها أن تخصص، قال لهم المعارضون‏:‏ من شأنها جنس التخصيص، وأما تخصيص هذا المعين على هذا المعين فليس من لوازم الإرادة، بل لابد من سبب يوجب اختصاص أحدهما بالإرادة دون الآخر‏.‏ والإنسان يجد من نفسه أنه يخصص بإرادته، ولكنه يعلم أنه لا يريد هذا دون هذا إلا لسبب اقتضى التخصيص، وإلا فلو تساوى ما يمكن إرادته من جميع الوجوه، امتنع تخصيص الإرادة لواحد من ذلك دون أمثاله، فإن هذا ترجيح بلا مرجح، ومتى جوز هذا انسد باب إثبات الصانع، قالوا‏:‏ ومن تدبر هذا وأمعن النظر فيه علمه حقيقة، وإنما ينازع فيه من يقلد قولاً قاله غيره من غير اعتبار لحقيقته‏.‏
وهكذا يقول لهم الجمهور‏:‏ إذا كان الله  تعالى  راضيًا في أزله ومحبًا وفرحًا بما يحدثه قبل أن يحدثه، فإذا أحدثه هل حصل بإحداثه حكمة يحبها ويرضاها ويفرح بها أو لم يحصل إلا ما كان في الأزل‏؟‏ فإن قلتم‏:‏ لم يحصل إلا ما كان في

 

ص -148-

الأزل، قيل ذاك كان حاصلاً بدون ما أحدثه من المفعولات، فامتنع أن تكون المفعولات فعلت لكي يحصل ذاك، فقولكم كما تضمن أن المفعولات تحدث بلا سبب يحدثه الله تعالى يتضمن أنه يفعلها بلا حكمة يحبها ويرضاها، قالوا‏:‏ فقولكم يتضمن نفي إرادته المقارنة ومحبته وحكمته التي لا يحصل الفعل إلا بها‏.‏
والفرقة الثانية قالوا‏:‏ إن الحكمة المتعلقة به تحصل بمشيئته وقدرته كما يحصل الفعل بمشيئته وقدرته‏.‏ قالوا‏:‏ وإن قام ذلك بذاته، فهو كقيام سائر ما أخبر به من صفاته وأفعاله بذاته‏.‏ والمعتزلة تنفي قيام الصفات والأفعال به وتسمى الصفات أعراضًا والأفعال حوادث، ويقولون‏:‏ لا تقوم به الأعراض ولا الحوادث، فيتوهم من لم يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون الله  تعالى  عن النقائص والعيوب والآفات، ولا ريب أن الله يجب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة، فإنه القدوس السلام الصمد السيد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالاً يدرك الخلق حقيقته، منزه عن كل نقص تنزيهًا لا يدرك الخلق كماله، وكل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص، فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه، وكل نقص ينزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه‏.‏
روينا من طريق غير واحد كعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي جعفر الطبري، وأبي بكر البيهقي وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏
‏{الصَّمَدٍُ‏}‏ قال‏:‏ السيد الذي قد كمل في سُؤْدَده، والشريف الذي قد كمل

 

ص -149-

في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد،وهو الله عز وجل ،هذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ، وليس كمثله شيء، سبحانه الواحد القهار‏.‏
وهذا التفسير ثابت عن عبد الله بن أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة الوالبي، لكن يقال‏:‏ إنه لم يسمع التفسير من ابن عباس، ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف، وروى عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ الصمد‏:‏ الكامل في صفاته وأفعاله‏.‏ وثبت عن أبي وائل  شَقِيق بن سلمة  أنه قال‏:‏ الصمد‏:‏ السيد الذي انتهى سؤدده‏.‏
وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف، كسعيد بن المسيب وسعيد ابن جُبَيْر ومجاهد والحسن والسُّدِّي والضحاك وغيرهم، من أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا منقول عن ابن مسعود وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه موقوفًا أو مرفوعًا، فإن كلا القولين حق كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع‏.‏
ولفظ الأعراض في اللغة، قد يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها، وكذلك لفظ الحوادث والمحدثات، قد يفهم ما يحدثه الإنسان من

 

ص -150-

الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدث للإنسان من الأمراض ونحو ذلك، والله  سبحانه وتعالى  يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور‏؟‏ ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم‏:‏ هو منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته وأفعاله، فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضى ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجىء ولا نزول ولا استواء ولا غير ذلك من صفاته وأفعاله‏.‏
وجماهير المسلمين يخالفونهم في ذلك، ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات دون الأفعال، ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات دون بعض، ومن الناس من ينازعهم في الفعل القديم ويقول‏:‏ إن فعله قديم وإن كان المفعول محدثًا، كما يقول في نظير ذلك من يقوله في الإرادة، وبسط هذه الأقوال وذكر قائليها وأدلتهم مذكور في غير هذا الموضع ‏.‏
والمقصود هنا التنبيه على مجامع أجوبة الناس عن السؤال المذكور‏.‏
وهذا الفريق الثاني إذا قال لهم الناس‏:‏ إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن، لزمكم التسلسل، قالوا‏:‏ القول في حدوث هذه الحكمة كالقول في حدوث سائر ما أحدثه من المفعولات، ونحن نخاطب من يسلم لنا أنه أحدث المحدثات بعد أن لم تكن، فإذا قلنا‏:‏ إنه أحدثها بحكمة حادثة، لم يكن له أن

 

ص -151-

يقول هذا يستلزم التسلسل، بل نقول له‏:‏ القول في حدوث الحكمة كالقول في حدوث المفعول المستعقب للحكمة، فما كان جوابك عن هذا كان جوابنا عن هذا‏.‏
فلما خصم الفريق الثاني الفريق الأول قال لهم الفريق الثالث  من أئمة الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام ‏:‏ هذه حجة جدلية إلزاميةو ولم تشفوا الغليل بهذا الجواب، وليس معكم من الأدلة الشرعية ولا العقلية ما ينفي هذا التسلسل، بل التسلسل نوعان، والدور نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ التسلسل في العلل والمعلولات، فهذا ممتنع وفاقًا‏.‏
والثلااني‏:‏ التسلسل في الشروط والآثار، فهذا في جوازه قولان معروفان للمسلمين وغيرهم‏.‏ وطوائف من أهل الكلام والحديث والفلسفة يجوزون هذا، ومن هؤلاء السلف والأئمة الذين يقولون‏:‏ لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، وأنه لم يزل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها‏.‏
وبين هؤلاء أن ما استدل به منازعوهم على نفي التسلسل في الآثار وامتناع وجود ما لا يتناهي في الماضي أدلة ضعيفة، كدليل المطابقة بين الجملتين مع زيادة إحداهما، وكدليل الشفع والوتر ونحو ذلك من الأدلة التي بين هؤلاء فسادها ونقضوها عليهم بالحوادث في المستقبل، وبعقود الأعداد، وبمعلومات الله مع

 

ص -152-

مقدوراته وغير ذلك مما قد بسط في موضعه‏.‏
والدور نوعان‏:‏ فالدور القبلي السبقي ممتنع‏:‏ وهو ألا يوجد هذا إلا بعد هذا ولا يوجد هذا إلا بعد هذا وهذا دور العلل، وأما الدور المعي الاقتراني‏:‏ وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ولا يكون هذا إلا مع هذا، فهذا هو الدور في الشروط وما أشبهها من المتضايفات و المتلازمات، ومثل هذا جائز‏.‏
فهذه مجامع أجوبة الناس عن هذا السؤال‏.‏ وهي عدة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ قول من لا يعلل لا أفعاله ولا أحكامه‏.‏ والثاني‏:‏ قول من يعلل ذلك بأمور مباينة له منفصلة عنه من جملة مفعولاته‏.‏ والثالث‏:‏ قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به قديمة‏.‏ والرابع‏:‏ قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به متعلقة بقدرته ومشيئته، لكن يقول‏:‏ جنسها حادث‏.‏ والخامس‏:‏ قول من يعلل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته‏.‏ فإن كان الفعل المقتضى للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قدر أنه قام به كلام أو فعل متعلق بمشيئته وأنه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك، فيكون النوع قديمًا وإن كانت آحاده حادثة‏.‏
ويمكن الجواب عن السؤال بتقسيم حاصر، بأن يقال‏:‏ لا ريب أن الله  عز وجل  يحدث مفعولات لم تكن، فأما أن تكون الأفعال المحدثة يجب أن يكون لها ابتداء ويجوز أن تكون غير متناهية في الابتداء كما هي غير متناهية في

 

ص -153-

الانتهاء، فإن وجب أن يكون لها ابتداء، أمكن حدوث الحوادث بدون تسلسلها، فإذا قال القائل‏:‏ لو فعل لعلة محدثة لكان القول في حدوث تلك العلة كالقول في حدوث معلولها ويلزم التسلسل، كان جوابه على هذا التقدير‏:‏ أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وإذا فعل الفعل لحكمة محدثة كان الفعل وحكمته محدثين، ولا يجب أن يكون للعلة المحدثة علة محدثة، إلا إذا جاز ألا يكون للحوادث ابتداء، فأما إذا جاز أن يكون لها ابتداء بطل هذا السؤال، فكيف إذا وجب أن يكون لها ابتداء‏؟‏‏!‏
وإن قيل‏:‏ يجوز أن تكون الحوادث غير متناهية في الابتداء، كما أنها غير متناهية في الانتهاء عند المسلمين وسائر أهل الملل وجمهور الخلق، ولم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع الذين يقولون بفناء الجنة والنار كما يقوله الجهم بن صفوان، أو بفناء حركات أهل الجنة، كما يقوله أبو الهذيل، فإن هذين أوجبا أن يكون لجنس الحوادث انتهاء كما يجب أن يكون لها عندهم ابتداء، وأكثر الذين وافقوهم على وجوب الابتداء خالفوهم في الانتهاء وقالوا‏:‏ لها ابتداء وليس لها انتهاء‏.‏ والطائفة الثالثة قالت‏:‏ ليس لها ابتداء ولا انتهاء ‏.‏ والأقوال الثلاثة معروفة في طوائف المسلمين‏.‏
والمقصود هنا‏:‏ أن الجواب يحصل على التقديرين، فمن جوز ألا يكون لها نهاية في الابتداء جوز تسلسل الحوادث، وقال‏:‏ هذا تسلسل في الآثار والشروط، لا تسلسل في العلل والمؤثرات، والممتنع إنما هو الثاني دون الأول،/

 

ص -154-

وقال‏:‏ إنه لا يقوم دليل على امتناع الثاني كما يقول ذلك طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم، ومتقدمي أهل الحديث ومتأخريهم، ومن أوجب أن يكون لها ابتداء، قال في حدوث العلة ما يقوله في حدوث المفعول؛ إذ لا فرق بينهما في هذا المعنى‏.‏
ومن الأجوبة الحاصرة أن يقال‏:‏ خلق الله إما أن يجوز تعليله أو لا، فإن لم يجز تعليله، كان هذا هو التقرير الأول‏.‏ وعلى هذا التقدير فلا يسمى هذا عبثًا، وإذا سماه المسمى عبثًا؛ لم تكن تسميته عبثًا قدحًا فيما تحقق، فإنا نتكلم على تقدير امتناع التعليل، وإذا كان التعليل ممتنعًا وجب القول به، ولو سماه المسمى بأي شيء سماه، وإن جاز تعليله فلا يخلو إما أن يجوز تعليله بعلة حادثة وإما ألا يجوز، فإن قيل‏:‏ لا يجوز ذلك، لزم كون العلة قديمة وامتنع على هذا التقدير قدم المعلول؛ فإنا نتكلم على تقدير جواز تعليل المفعول الحادث بعلة قديمة، وإن قيل‏:‏ يجوز تعليله بعلة حادثة أمكن القول بذلك‏.‏
ثم إما أن يقال‏:‏ يجوز تعليل الحوادث بعلة متناهية للفاعل لئلا يلزم أن يقوم به شيء حادث يجب أن يقوم به لحكمة، وإن كانت مقدورة مرادة له‏.‏ فإن قيل بالأول لزم كون العلة الحادثة منفصلة عنه، ولزم على هذا كون الفاعل يحدث الحوادث بعد أن لم تكن لعلة حادثة بغيره من غير حدوث سبب يوجب أول الحوادث، ولا قيام حادث بالمحدث‏.‏ وإن قيل‏:‏ بل لا يجوز أن

 

ص -155-

يحدث الحوادث لغير معنى يعود إليه، بل يجب أن يقوم به ما هو السبب والحكمة في حدوث الحوادث فإنه يجب القول بذلك‏.‏
ثم إما أن يقال‏:‏ هذا يستلزم التسلسل أو لا يستلزمه، فإن قيل‏:‏ لا يستلزمه لم يكن التسلسل لازمًا فاندفع المحذور، وإن قيل‏:‏ إن التسلسل لازم لم يكن التسلسل على هذا التقدير محذورًا؛ لأن التقدير أنه يجوز تعليل أفعاله بعلة حادثة، وإن ذلك يستلزم التسلسل‏.‏
ومن المعلوم أن الأمر الجائز لا يستلزم ممتنعًا، فإنه لو استلزم ممتنعًا لكان ممتنعًا بغيره، وإن كان جائزًا بنفسه، والتقدير أنه جائز جوازًا مطلقًا لا امتناع فيه، وما كان جائزًا جوازًا مطلقًا لا امتناع فيه لم يلزمه ما يمتنع ثبوته، فيكون التسلسل على هذا التقدير غير ممتنع‏.‏
فهذا جواب عن السؤال من غير التزام قول بعينه، بل نبين أنه ليس في نفس الأمر محذور، ولكن السؤال مبني على ست مقدمات‏:‏ لزوم العبث، وأنه منتف، ولزوم قدم المفعول، وأنه منتف، ولزوم التسلسل، وأنه منتف‏.‏
فصاحب القول الأول يقول‏:‏ لا أسلم أنه يلزم العبث، وصاحب القول الثاني يقول‏:‏ لا أسلم أنه يلزم قدم المفعول، وصاحب القول الثالث يقول‏:‏

 

ص -156-

لا أسلم أنه يلزم التسلسل، أو يقول‏:‏ لا أسلم أن التسلسل في الآثار ممتنع، فهذه أربع ممانعات لابد منها‏.‏ ويمتنع أن تكون كلها فاسدة، بل لابد من صحة واحد منها وأيها صح اندفع به السؤال وهو المقصود؛ وذلك لأن القسمة العقلية تحصر الأقسام فيما ذكر فمن توجه عنده أحد الأقسام قال به، ونحن قد بسطنا الكلام على أصول هذه المسألة ولوازمها وأقوال الناس فيها في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا الذب عن مجموع المسلمين، فإن هذا السؤال مما أورده على الناس القائلون بقدم العالم، وقد ذكرنا عنه أجوبة متعددة فيما كتبناه في جواب شبهة القائلين بقدم العالم‏.‏
ومن جملة أجوبتهم أن يقال‏:‏ هذا السؤال ليس مختصًا بحدوث العالم، بل هو وارد في كل ما يحدث في الوجود من الحوادث، والحدوث مشهود محسوس متفق عليه بين العقلاء، فكل ما يورده المورد على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة‏.‏
وقد نبهنا على جنس ما تحتج به كل طائفة من الطوائف في هذا المقام، لكن استقصاء الكلام في ذلك لا تسعه هذه الأوراق، ولا يحتمله هذا المقام‏.‏

 

ص -157-

ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب، وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدريج مقامًا بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها؛ فلهذا يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر دليل كل قول، ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله سبحانه أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

 

ص -158-

وسئل‏:‏
هل أراد الله  تعالى المعصية من خلقه أم لا ‏؟‏
فأجاب‏
:‏
لفظ ‏[‏الإرادة‏]‏ مجمل له معنيان‏:‏ فيقصد به المشيئة لما خلقه، ويقصد به المحبة والرضا لما أمر به‏.‏
فإن كان مقصود السائل‏:‏ أنه أحب المعاصي ورضيها وأمر بها فلم يردها بهذا المعنى، فإن الله لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، بل قال لما نهى عنه‏:‏ ‏
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وإن أراد أنها من جملة ما شاءه وخلقه، فالله خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في الوجود إلا ما شاء‏.‏
وقد ذكر الله في موضع أنه يريدها، وفي موضع أنه لا يريدها، والمراد بالأول أنه شاءها خلقًا، وبالثاني أنه لا يحبها ولا يرضاها أمرًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وقال نوح‏:‏ ‏{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 34‏]‏، وقال في الثاني‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏،

 

ص -159-

وقال تعالى‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏.‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26-28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏

 

ص -160-

سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية  رضي الله عنه  عن قول علي  رضي الله عنه ‏:‏ لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ما معنى ذلك‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  وهو من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏.‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏
فإن كثيرًا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي‏.‏

 

ص -161-

ثم المثبتة للقدر يحتجون بقوله‏:‏ ‏{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ فيعارضهم قوله‏:‏ ‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏، ونفاة القدر يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم‏:‏ أن العبد يخلق جميع أعماله، ويعارضهم قوله‏:‏ ‏{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏‏.‏
وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي، وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 9‏]‏ ونحو ذلك، وهذا كثير‏.‏
وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره، فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا‏:‏ هذا من عند الله، وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا‏:‏ هذا من عندك  يا محمد  بسبب الدين الذي أمرتنا به، كما قال قوم فرعون لموسى، وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى‏:‏
{فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏}‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏،وكما قال الكفار لرسل عيسى‏:‏ ‏{إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 18‏]‏‏.‏
فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين،فبين

 

ص -162-

الله  سبحانه  أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏"‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏.‏ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ ‏[‏ هود‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏
فبين‏:‏ أن من وحده واستغفره متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏يقول الشيطان‏:‏ أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار‏"‏، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا‏.‏
ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{
فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏.‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42، 43‏]‏، أي‏:‏ فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجىء البأس التضرع، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 76‏]‏‏.‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة؛

 

ص -163-

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏.‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173- 175‏]‏‏.‏
فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه‏:‏ لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله، كما في الأثر‏:‏ ‏"‏ يقول الله‏:‏ أنا الله، مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم‏"‏‏.‏
أما قوله‏:‏ لا يرجون عبد إلا ربه‏.‏ فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله ‏
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، ‏{مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 12‏]‏،

 

ص -164-

وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏
فهؤلاء قالوا‏:‏ حسبنا الله، أي‏:‏ كافينا الله في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا‏:‏ حسبنا في جلب النعماء، فهو  سبحانه  كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير، أليس الله بكاف عبده، ومن توكل على غير الله ورجاه، خذل من جهته وحرم،
‏{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 41‏]‏، ‏{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏.‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81، 82‏]‏، ‏{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 31‏]‏، ‏{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 22‏]‏، وقال الخليل‏:‏ ‏{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏‏.‏
فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى‏:‏
‏{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏،

 

ص -165-

وقال تعالى‏:‏ ‏{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ كما قيل في تفسيرها‏:‏ كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏‏.‏
ومما يوضح ذلك‏:‏ أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله  سبحانه  هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن، وإن شاءه الناس‏.‏
وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب، فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب  وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره  لكان الواجب ألا

 

ص -166-

يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه، حتى يحصل المقصود‏.‏
فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده، لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات، والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك، فهو  مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل  فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكًا مطاعًا، ولابد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضى وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضى، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيًا، وإن سمى مقتضيًا وسمى سائر ما يعينه شروطًا، فهذا نزاع لفظي‏.‏ وحينئذ فيقال‏:‏ لابد من وجود المقتضى الشروط، وانتفاء الموانع، وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها، فهذا باطل‏.‏

 

ص -167-

ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب، فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له‏:‏ هذا أيضًا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏] فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو  سبحانه  خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يطلب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏.‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏.‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26-28‏]‏‏.‏

 

ص -168-

والصادر عنهم إما قول وإما عمل، فالقول لا يسبقونه به بل لا يقولون حتى يقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وعلينا أن نكون معه ومع رسله هكذا، فلا نقول في الدين حتى يقول، ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله ولا نعبده إلا بما أمر، وأعلى من هذا ألا نعمل إلا بما أمر، فلا تكون أعمالنا إلا واجبة أو مستحبة، وإذا كان هكذا في مثل هذه الأسباب فكيف بمن توكل أو رجا أسبابًا غير هذه من الكواكب أو غيرها، أو من أفعال الآدميين من الملوك والرؤساء والأصحاب والأصدقاء والمماليك والأتباع وغير ذلك‏؟‏‏!‏
ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ ما قاله طائفة من العلماء، قالوا‏:‏ الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب‏:‏ أن تكون أسبابًا، نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع‏.‏
وبيان ذلك‏:‏ أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلا، ولابد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء ومليكه، وأن السموات والأرض وما بينهما والأفلاك وماحوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلا بإحداث شيء

 

ص -169-

من الحوادث، بل لابد من مشارك ومعاون وهو مع ذلك له معارضات وممانعات‏.‏
ومن أعظم ذلك ‏[‏الفلك الأطلس التاسع‏]‏ الذي يظن كثير من المتفلسفة الإلهيين والمنجمين وغيرهم أن حركته هي السبب في حدوث الحوادث كلها، وإليها انتهى علمهم بأسباب الحوادث، ثم هم إما أن يجعلوه معلولاً لواجب الوجود بتوسط عقل أو نفس أو بغير توسط ذلك، وإما أن ينكروا أن يكون معلولا ويجعلونه واجب الوجود بنفسه، فقولهم هذا من أعظم الأقوال فسادًا، وإن كانوا مع ذكائهم لا يهتدون لذلك، ولا يهتدي كثير من الناس للرد عليهم في ذلك‏.‏
وكل من نظر إلى السماء علم أن حركته ليست هي السبب في جميع الحركات العلوية، فإن كثيرًا ما يقال‏:‏ إنه بحركته المشرقية يتحرك كل ما فيه من الأفلاك من المشرق إلى المغرب، لكن مع هذا لكل فلك حركة أخرى تخصه تخالف هذه الحركة فلك الثوابت وفلك الشمس والقمر وغيرهما من الخنس الجواري الكنس، وهذه الحركات المختلفة ليست عن تلك الحركة تخالفها، ولا أفلاكها معلولة عن ذلك الفلك التاسع‏.‏
فلو قدر أن الحوادث تكون بحركة الكواكب، وما يحدث من الأشكال المختلفة بالتثليث والتربيع والتسديس والقران وغير ذلك، فمن المعلوم أن تلك/

 

ص -170-

الأشكال المختلفة ليست معلولة عن حركة التاسع، بل حركة التاسع جزء السبب، كما أن حركة كل فلك جزء السبب، والشكل الفلكي حادث عن مجموع الحركتين، أو الحركات المختلفة، فإذا قدر أن التسعة اقترنت فلها سبع حركات بل أكثر من ذلك عندهم بحسب الأفلاك الأخر الزوائد المستدل عليها بالحركات المختلفة، كالأفلاك البدرية وغيرها مما تكون به استقامة الكواكب ورجوعها، وغير ذلك من حركاته، وإذا كان كذلك فمن جعل حركة التاسع هي السبب في جميع الحوادث، كان قوله مخالفًا لما هو معلوم عند هؤلاء الفلاسفة والمنجمين، وعند كل عاقل، ثم إذا قدر أنها سبب حركة جميع الأفلاك فليست مستقلة بإحداث شيء من السحب والرعود والبروق والأمطار والنبات وأحوال الحيوان والمعدن؛ لأن حركات هذه الأجسام ليست كلها عن حركات الأفلاك، بل فيها قوى وأسباب توجب لها حركات أخر، كما في كل فلك مبتدأ حركة ليست عن الفلك الآخر‏.‏
والحركات كلها‏:‏ إما ‏[‏طبيعية‏]‏ وإما ‏[‏إرادية‏]‏ وإما ‏[‏قسرية‏]‏، فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية هي التي لا إحساس للمتحرك بها كحركة التراب إلى أسفل، والإرادية هي التي للمتحرك بها حس كحركة الحيوان، فما كان من هذه متحركًا بطبع فيه أو إرادة، فمبدأ حركته منه، وما كان مقسورًا فقاسره من المخلوقات إنما يقسره لما فيه من الاستعداد لقبول قسره، وذلك معنى ليس

 

ص -171-

من القاسر، فحركات الأفلاك إذا اجتمعت ليست مستقلة بتحريك هذه الأجسام، وإن جاز أن تكون جزءًا للسبب، كما نشهد أن الشمس جزء سبب في نمو بعض الأجسام ورطوبتها ويبسها ونحو ذلك، ثم بتقدير أن تكون أسبابًا فلها موانع ومعارضات؛ إذ ما من سبب يقدر إلا وله مانع إرادي أو طبيعي، أو غير ذلك كالدعاء والصدقة والأعمال الصالحة، فإنها من أعظم الأسباب في دفع البلاء النازل من السماء، ولهذا أمرنا بذلك عند الكسوف وغيره من الآيات السماوية التي تكون سببًا للعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة‏"‏، وأمر صلى الله عليه وسلم عند الكسوف، بالصلاة والذكر والاستغفار والصدقة والعتاقة‏.‏
وإذا عرف أن كل واحد من الموجودات المشهودة، إذا نظرت إليها  واحدًا واحدًا  من الفلك التاسع وغيره، وجدته غير مستقل بإحداث شيء أصلا، بل لابد للحوادث من أسباب أخر، وإن كان هو جزء سبب، ولها معارضات أخر، علم بذلك أنه ليس في هذه الأمور ما يجوز أن يقال‏:‏ هو المحدث للحوادث المشهودة، فضلاً عن أن يقال‏:‏ هو المبدع للأجسام المتحركة حركة تخالف حركته، وتدفع موجبها، فإن الشيء لا يوجب ما يضاده ويخالفه، وإذا كان في الأجسام المتحركة، ما يخالف مقتضاه موجب الفلك التاسع ومقتضاه

 

ص -172-

ويضاده، امتنع أن يكون أحدهما علة الآخر، لأن المعلول لا يضاد علته، كما لا يجوز أن يكون فاعلا لها، كما أن الشيء لا يكون ضدًا لنفسه ولا فاعلاً لنفسه، فإن مضادته لنفسه توجب أن يكون وجوده تابعًا لوجوده، فيكون موجودًا معدومًا، وفعله لنفسه مع كون العلة متقدمة على المعلول يوجب أن تكون نفسه موجودة معدومة‏.‏
ومن المعلوم أن ‏[‏الفلك التاسع‏]‏ إذا لم تكن الحوادث والحركات التي عن قوى الأجسام منه، وإنما منه حركة عرضية لها، فألا تكون نفس الأجسام وقواها منه أولى وأحرى ‏!‏ ويعلم بذلك أن المحرك للأفلاك وغيرها من الأجسام المشهودة والمبدع لهذه الأجسام بسبب آخر رب غيرها، هو الذي أبدعها على صورها المختلفة وحركها بالحركات المختلفة، وهو المطلوب‏.‏
ثم هذه الكواكب إذا كانت جزء السبب من بعض الحوادث، فإنما تكون جزء السبب في حال دون حال،فإنها في حال ظهورها على وجه الأرض يظهر نورها وأثرها،فإذا أفلت انقطع نورها وأثرها،فلا تبقى حينئذ سببًا ولا جزءًا من السبب؛ولهذا قال الخليل صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏ فإنها في حال أفولها قد انقطع أثرها عنا بالكلية،فلم تبق شبهة يستند إليها المتعلق بها،والرب الذي يدعي ويسأل ويرجى ويتوكل عليه لابد أن يكون قيومًا يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال‏:‏‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏، وقال‏:‏‏{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255،آل عمران‏:‏ 2‏]‏، فهذا وغيره من أنواع

 

ص -173-

النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه‏.‏
وأما كونه لا يخاف إلا ذنبه، فلما علم من أنه لا تصيبه مصيبة إلا بذنوبه، وهذا يعلم بآيات الآفاق والأنفس، وبما أخبر في كتابه كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وبينا سر ذلك بما لا يحتمله هذا الموضع‏.‏
وهذا تحقيق ما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال‏
:‏ ‏"‏يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏ فبين أن كل ما يجده العبد من الخير فليحمد الله عليه، فإن الله هو الذي أنعم به، وإن ما يجده من الشر فلا يلومن فيه إلا نفسه‏.‏
وفي الصحيح  أيضًا  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏، فقوله‏:‏ ‏"‏أبوء لك بنعمتك عليَّ‏"‏ اعتراف وإقرار بالنعمة، وقوله‏:‏ ‏"‏وأبوء بذنبي‏"‏ إقرار بالذنب؛ ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث بالنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، لكن الشكر يكون بعد النعمة والتوكل والرجاء يكون قبل النعمة، كما قال الخليل‏:‏ ‏{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏17‏]‏،

 

ص -174-

وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‏"‏، فجمع بين حمده والاستعانة به والاستغفار له، فقد تبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، وهو ظلم وجهل، وهذه حال من دعا غير الله وتوكل عليه‏.‏
وأما قولهم‏:‏ محو الأسباب أن تكون أسبابًا‏:‏ نقص في العقل، فهو كذلك وهو طعن في الشرع أيضًا، فإن كثيرًا من أهل الكلام أنكروا الأسباب بالكلية وجعلوا وجودها كعدمها، كما أن أولئك الطبعيين جعلوها عللا مقتضية، وكما أن المعتزلة فرقوا بين أفعال الحيوان وغيرها، والأقوال الثلاثة باطلة؛ فإن الله يقول‏:‏
‏{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏57‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏164‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏16‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏26‏]‏، وأمثال ذلك، فمن قال‏:‏ يفعل عندها لا بها، فقد خالف لفظ القرآن مع أن الحس والعقل يشهد أنها أسباب، ويعلم الفرق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر، وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر‏.‏
وأما قولهم‏:‏ الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل هو أيضًا قدح في العقل، فإن أفعال العباد من أقوى الأسباب لما نيط بها، فمن جعل

 

ص -175-

الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أو يجعل المتقين كالفجار، فهو من أعظم الناس جهلا وأشدهم كفرًا، بل ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب، فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من الشقاوات‏.‏
ومع هذا، فقد قال خير الخلق‏:‏
‏"‏إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله‏"‏، قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل‏"‏، ولما قال لهم‏:‏ ‏"‏ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة، ومقعده من النار‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة‏"‏‏.
وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال‏:‏ ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل، فهو بمنزلة من يقول‏:‏ ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن، وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر، وإن كان الأول ليس مثل هذا في الضلال؛ إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، لكن لا ريب أن ما جعل الله الدعاء سببًا له، فهو بمنزلة ما جعل العمل

 

ص -176-

الصالح سببًا له، وهو قادر على أن يفعله  سبحانه  بدون هذا السبب، وقد يفعله بسبب آخر‏.‏
وكذلك من ترك الأسباب المشروعة المأمور بها أمر إيجاب أو استحباب من جلب المنافع أو دفع المضار قادح في الشرع خارج عن العقل، ومن هنا غلطوا في ترك الأسباب المأمور بها، وظنوا أن هذا من تمام التوكل، والتوكل مقرون بالعبادة في قوله‏:‏ ‏
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، والعبادة فعل المأمور، فمن ترك العبادة المأمور بها وتوكل، لم يكن أحسن حالا ممن عبده ولم يتوكل عليه، بل كلاهما عاص لله تاركًا لبعض ما أمر به‏.‏
والتوكل يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة، قال تعالى‏:‏ ‏
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏
فمن لم يفعل ما أمر به، لم يكن مستعينًا بالله على ذلك، فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها بترك التوكل في هذا الموضع أيضًا، وآخر يتوكل بلا فعل مأمور وهذا هو العجز المذموم، كما في سنن أبي داود‏:‏ أن رجلين اختصما

 

ص -177-

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال المقضي عليه‏:‏ حسبى الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل‏:‏ حسبى الله ونعم الوكيل‏"‏، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏‏.‏
فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، اصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى‏:
‏‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏11‏]‏‏.‏ قال بعض السلف  إما ابن مسعود وإما علقمة ‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏
ولهذا قال آدم لموسى‏:‏ ‏"‏أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة فحج آدم موسى‏"‏؛لأن موسى قال له‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبًا؛ ولهذا احتج عليه آدم بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس، فليس مرادًا بالحديث؛ لأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب

 

ص -178-

والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس‏.‏
وأيضًا، فإن آدم احتج بالقدر، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا، لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر، ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدى عليه واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول‏.‏
ومن ظن أن الإيمان بالقدر، أن الله خالق أفعال العباد كما يظنه المباحية المشركية، الذين يقرون بالقدر دون الأمر، والقدرية المجوسية الذين يقرون بالأمر دون القدر، أو ظن أن التكليف مع ذلك غير معقول، ولكن الشارع أطيع فيه لمحض المشيئة الإلهية، وأن الله يفعل، وجعل ذلك حجة له في الأفعال لم يتضمن أسبابًا مناسبة للأمر والنهي، بل أنكر ما اشتملت عليه الشريعة من المصالح والمحاسن والمقاصد التي للعباد في المعاش والمعاد، وجعل ذلك الشرع مجرد إضافة من غير أن يكون من العلة والمعلول مناسبة وملائمة، وأنكر أن تكون الأفعال على وجوه لأجلها كانت حسنة مأمورًا بها، وكانت سيئة منهيًا عنها احتجاجًا على ذلك بالقدر، وأنه مع كون الرب هو الخالق يمتنع هذا كله

 

ص -179-

فهو مخطئ ضال يعلم فساد قوله بالضرورة، وبما اتفق عليه العقلاء مع دلالة الكتاب والسنة والإجماع على فساد قوله‏.‏
فإن عامة بني آدم يؤمنون بالقدر، ويقولون‏:‏ إنه لابد من عقوبة المعتدين حتى المجانين والبهائم، يؤدبون لكف عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة، وبعفو كمل الآدميين عن عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة فالعبد عليه أن يصبر، وينبغي له أن يرضي بما قدر من المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب ولا يحتج لها بالقدر، ويشكر ما قدر الله له من النعم والمواهب، فيجمع بين الشكر والصبر والاستغفار والإيمان بالقدر والشرع، والله أعلم‏.

 

ص -180-

ما تقول السادة أئمة المسلمين أئمة الدين  رضي الله عنهم أجمعين  في قوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}
‏ ‏[‏النحل‏:‏40‏]‏، فإن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، فإن كانت اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك، وإن كانت اللام للغرض لزم ألا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته، وليس كذلك، فكيف التخلص من هذا المضيق‏؟‏
وفيما ورد من الأخبار والآيات بالرضاء بقضاء الله تعالى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏
‏"‏جف القلم بما هو كائن‏"‏، وفي معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏، فإن كان الدعاء أيضًا بما هو كائن، فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه‏؟‏ ‏.‏
فأجاب شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن تيمية  رحمه الله ‏:‏
الحمد لله رب العالمين‏.‏

 

ص -181-

أما المسألة الأولى فهي مبنية على أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب، بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركًا يفعله بقدرة وإرادة  وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله  وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده‏؟‏ ولا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده‏.‏
وكذلك تنازعوا في الأول، هل هو خطاب حقيقي‏؟‏ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة‏؟‏ والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة‏.‏
والأصل الثاني‏:‏ أن المعدوم في حال عدمه، هل هو شىء أم لا‏؟‏ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شىء في الخارج، وذات وعين، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة، وأن وجودها زائد على حقيقتها، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة‏.‏
/والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشىء أصلاً ولا ذات ولا عين، وأنه ليس في الخارج شيئان‏:‏ أحدهما حقيقته، والآخر وجوده الزائد على حقيقته، فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات، فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له  سبحانه وتعالى  لكن في هؤلاء من يقول‏:‏ المعدوم ليس بشىء أصلا، وإنما سمى شيئًا باعتبار ثبوته في العلم فكان مجازًا‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ لا ريب أن له ثبوتًا في العلم، ووجودًا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شىء وذات، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت، كما فرق من قال‏:‏ المعدوم شىء، ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشىء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشىء، وإنما النزاع في الممكن‏.‏
وعمدة من جعله شيئًا إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك قالوا‏:‏ وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض، فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب‏.‏

 

ص -182-

والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشىء أصلاً ولا ذات ولا عين، وأنه ليس في الخارج شيئان‏:‏ أحدهما حقيقته، والآخر وجوده الزائد على حقيقته، فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات، فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له سبحانه وتعالى لكن في هؤلاء من يقول‏:‏ المعدوم ليس بشىء أصلا، وإنما سمى شيئًا باعتبار ثبوته في العلم فكان مجازًا‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ لا ريب أن له ثبوتًا في العلم، ووجودًا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شىء وذات، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت، كما فرق من قال‏:‏ المعدوم شىء، ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشىء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشىء، وإنما النزاع في الممكن‏.‏
وعمدة من جعله شيئًا إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك قالوا‏:‏ وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض، فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب‏.‏

 

ص -183-

وقوله تعالى‏:‏‏{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏40‏]‏‏.‏ ذلك الشىء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه،وبذلك كان مقدرًا مقضيًا، فإن الله  سبحانه وتعالى  يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو ‏:‏ ‏"‏إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏"‏، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏كان الله ولم يكن شىء معه وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شىء، ثم خلق السموات والأرض‏"‏، وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أول ما خلق الله القلم، فقال له‏:‏ اكتب، فقال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ ما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلومًا مخبرًا عنه مكتوبًا، فهو شىء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتًا في الخارج، بل هو عدم محض، ونفي صرف، وهذه المراتب الأربعة المشهورة للموجودات، وقد ذكرها الله  سبحانه وتعالى  في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله‏:‏ ‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏.‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏.‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏.‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏.‏ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1-5‏]‏، وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع‏.‏
وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت

 

ص -184-

به القدرة وخلق وكون، كما قال‏:‏‏{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏40‏]‏، فالذي يقال له‏:‏ كن هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم‏.‏
فإن قول السائل‏:‏ إن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال‏.‏
يقال له ‏:‏هذا إذا كان موجودًا في الخارج وجوده الذي هو وجوده، ولا ريب أن المعدوم ليس موجودًا، ولا هو في نفسه ثابت، وأما ما علم وأريد وكان شيئًا في العلم والإرادة والتقدير، فليس وجوده في الخارج محالاً، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة‏.‏
وقول السائل‏:‏ إن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم‏؟‏‏!‏
يقال له‏:‏ أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال؛ إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه، بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، وكذلك أيضًا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين، بمعنى أن يعتقد أنه شىء ثابت في الخارج، وأنه يخاطب بأن يكون‏.‏

 

ص -185-

وأما الشىء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه، فليس ذلك محالاً، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته، فإن كان قادرًا على حصوله، حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزا لم يحصل، وقد يقول الإنسان‏:‏ ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله  سبحانه  على كل شىء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون‏.‏
فصل
وأما المسألة الثانية فقول السائل‏:‏ قوله تعالى ‏
:‏‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ إن كانت هذه اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك‏؟‏ وإن كانت اللام للغرض لزم ألا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته‏؟‏ وليس الأمر كذلك فما التخلص من هذا المضيق‏؟‏‏!‏
فيقال‏:‏ هذه اللام ليست هي اللام التي يسميها النحاة لام العاقبة والصيرورة ولم يقل ذلك أحد هنا، كما ذكره السائل من أن ذلك لم يصر إلا

 

ص -186-

على قول من يفسر ‏{يَعْبُدُونِ‏}‏ بمعنى يعرفون، يعنى المعرفة التي أمر بها المؤمن والكافر؛ لكن هذا قول ضعيف، وإنما زعم بعض الناس ذلك في قوله‏:‏ ‏{وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏119‏]‏ التي في آخر سورة هود، فإن بعض القدرية زعم أن تلك اللام لام العاقبة والصيرورة، أي صارت عاقبتهم إلى الرحمة، وإلى الاختلاف، وإن لم يقصد ذلك الخالق، وجعلوا ذلك كقوله‏:‏ ‏{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏8‏]‏، وقول الشاعر‏:‏
لدوا للموت وابنوا للخراب
وهذا  أيضًا  ضعيف هنا؛ لأن لام العقبة إنما تجيء في حق من لا يكون عالمًا بعواقب الأمور ومصايرها، فيفعل الفعل الذي له عاقبة لا يعلمها كآل فرعون، فأما من يكون عالمًا بعواقب الأفعال ومصايرها، فلا يتصور منه أن يفعل فعلا له عاقبة لا يعلم عاقبته، وإذا علم أن فعله له عاقبة فلا يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون، فإن ذلك تمنٍّ وليس بإرادة‏.‏
وأما اللام فهي اللام المعروفة، وهي لام كي ولام التعليل، التي إذا حذفت انتصب المصدر المجرور بها على المفعول له، وتسمى العلة الغائية، وهي متقدمة في العلم والإرادة، متأخرة في الوجود والحصول، وهذه العلة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل، لكن ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين‏:‏

 

ص -187-

أحدهما‏:‏ الإرادة الكونية، وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد، التي يقال فيها‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله‏:‏ ‏{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وقوله‏:‏‏{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏34‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏39‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏ وهذه الإرادة هي مدلول اللام في قوله‏:‏ ‏{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118، 119‏]‏، قال السلف؛ خلق فريقًا للاختلاف، وفريقًا للرحمة، ولما كانت الرحمة هنا الإرادة، وهناك كونية؛ وقع المراد بها، فقوم اختلفوا، وقوم رحموا‏.‏
وأما النوع الثاني‏:‏ فهو الإرادة الدينية الشرعية، وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى، كما قال تعالى ‏:‏‏
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏.‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26-28‏]‏، فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة؛ ولهذا كانت الأقسام أربعة‏:‏

 

ص -188-

أحدها‏:‏ ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع؛ فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان‏.‏
والثاني‏:‏ ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع‏.‏
والثالث‏:‏ ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها‏:‏ كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها؛ إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
والرابع‏:‏ مالم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي، وإذا كان كذلك، فمقتضى اللام في قوله‏:‏ ‏:
‏‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، هذه الإرادة الدينية الشرعية، وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع، والمعنى أن الغاية التي يحب لهم ويرضى لهم والتي أمروا بفعلها هي العبادة، فهو العمل الذي خلق العباد له، أي هو الذي يحصل كمالهم وصلاحهم الذي به يكونون مرضيين محبوبين، فمن لم تحصل منه هذه الغاية؛ كان عادمًا لما يحب ويرضى ويراد له الإرادة الدينية التي فيها سعادته ونجاته، وعادمًا

 

ص -189-

لكماله وصلاحه العدم المستلزم فساده وعذابه، وقول من قال‏:‏ العبادة هي العزيمة أو الفطرية، فقولان ضعيفان فاسدان يظهر فسادهما من وجوه متعددة‏.‏
فصل
وأما المسألة الثالثة، فقوله‏:‏ فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله،فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله فهو محال وقدح في التوحيد،وإن كانت بقضاء الله  تعالى  فكراهتها وبغضها كراهة وبغض لقضاء الله تعالى ‏.‏
فيقال‏:‏ ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله آية، ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضى مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها؛ فهذا أصل يجب أن يعتني به، ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به، قال تعالى‏:‏ ‏
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏56‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد ‏:‏28‏]‏، وقال ‏:‏‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏، وذكر الرسول هنا يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني الشرعي، لا الكوني القدري، وقال صلى الله عليه وسلم في

 

ص -190-

الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا‏"‏‏.‏
وينبغي للإنسان أن يرضى مما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوبًا مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا بها فهو مشروع، لكن هل هو واجب أو مستحب‏؟‏ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهم، أصحهما أنه مستحب ليس بواجب‏.‏
ومن المعلوم أن أوثق عُرَي الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وقد أمرنا الله أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله، وننهي عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، فكيف نتوهم أنه ليس في المخلوقات ما نبغضه ونكرهه‏؟‏‏!‏ وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكر من المنهيات ‏:‏‏
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏38‏]‏، فإذا كان الله يكرهها وهو المقدر لها، فكيف لا يكرهها من أمر الله أن يكرهها ويبغضها،وهو القائل‏:‏ ‏{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏7‏]‏‏؟‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏28‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏6‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏108‏]‏، فأخبر أن من القول الواقع ما لا يرضاه‏.‏

 

ص -191-

وقال تعالى‏:‏ ‏{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏، وقال ‏:‏‏{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏7‏]‏، فبين أنه يرضى الدين الذي أمر به، فلو كان يرضى كل شىء لما كان له خصيصة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏‏"‏إن الله يغار والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه‏"‏، ولابد في الغيرة من كراهة ما يغار منه وبغضه وهذا باب واسع‏.‏
فصل
وأما المسألة الرابعة، فقوله‏:‏ ‏"‏إذا جف القلم بما هو كائن‏"‏، فما معنى قوله‏:‏
‏{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60 ‏]‏، وإن كان الدعاء  أيضًا  مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه‏؟‏
فيقال‏:‏ الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة، وكسائر الأسباب في اقتضائها المسببات، ومن قال‏:‏ إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول ليس بسبب، أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودًا ولا عدمًا، بل ما يحصل بالدعاء يحصل

 

ص -192-

بدونه، فهما قولان ضعيفان، فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله‏:‏ ‏{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏"‏ قالوا‏:‏ يارسول الله ‏!‏ إذا نكثر قال‏:‏ ‏"‏الله أكثر‏"‏، فعلق العطايا بالدعاء تعليق الوعد والجزاء بالعمل المأمور به، وقال عمر بن الخطاب‏:‏ إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، وأمثال ذلك كثير‏.‏
وأيضًا، فالواقع المشهود يدل على ذلك ويبينه، كما يدل على ذلك مثله في سائر الأسباب، وقد أخبر  سبحانه  من ذلك ما أخبر به في مثل قوله‏:‏ ‏
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏75‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏.‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏87، 88‏]‏ وقوله‏:‏ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏62‏]‏، وقوله تعالى عن زكريا‏:‏ ‏{رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ‏.‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏89، 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏56‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ‏.‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏.‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ‏.‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32-35‏]‏‏.‏

 

ص -193-

فأخبر أنه إن شاء أوبقهن؛ فاجتمع أخذهم بذنوبهم وعفوه عن كثير منها مع علم المجادلين في آياته أنه ما لهم من محيص؛ لأنه في مثل هذا الحال يعلم المورد للشبهات في الدلائل الدالة على ربوبية الرب وقدرته ومشيئته ورحمته أنه لا مخلص له مما وقع فيه، كقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد ‏:‏130‏]‏
فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي  الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال  هل الرب موجب بذاته، فلا يكون هو المحدث للحوادث ابتداء، ولا يمكنه أن يحدث شيئًا ولا يغير العالم حتى يدعي ويسأل‏؟‏ وهل هو عالم بالتفصيل والإجمال، وقادر على تصريف الأحوال، حتى يسأل التحويل من حال إلى حال‏؟‏ أو ليس كذلك كما يزعمه من يزعمه من المتفلسفة وغيرهم من الضلال، فيجتمع مع العقوبة والعفو من ذي الجلال، علم أهل المراء والجدال، أنه لا محيص لهم عما أوقع بمن جادلوا في آياته وهو شديد المحال، وقد تكلمنا على هذا وأشباهه وما يتعلق به من المقالات والديانات في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن يعلم أن الدعاء والسؤال هو سبب لنيل المطلوب المسؤول

 

ص -194-

ليس وجوده كعدمه في ذلك، ولا هو علامة محضة، كما عليه الكتاب والسنة، وإن كان قد نازع في ذلك طوائف من أهل القبلة وغيرهم، مع أن ذلك يقر به جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، لكن طوائف من المشركين والصابئين من المتفلسفة المشائين أتباع أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما  ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه  ونحو هؤلاء يزعمون أن تأثير الدعاء في نيل المطلوب كما يزعمونه في تأثير سائر الممكنات المخلوقات من القوى الفلكية والطبيعية والقوى النفسانية والعقلية، فيجعلون ما يترتب على الدعاء هو من تأثير النفوس البشرية من غير أن يثبتوا للخالق  سبحانه  بذلك علمًا مفصلا أو قدرة على تغيير العالم، أو أن يثبتوا أنه لو شاء أن يفعل غير ما فعل لأمكنه ذلك، فليس هو عندهم قادرًا على أن يجمع عظام الإنسان ويسوى بنانه، وهو  سبحانه  هو الخالق لها ولقواها، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
وأما قوله‏:‏ وإن كان الدعاء مما هو كائن، فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه‏؟‏
فيقال ‏:‏الدعاء المأمور به لا يجب كونًا، بل إذا أمر الله العباد بالدعاء فمنهم من يطيعه فيستجاب له دعاؤه، وينال طلبته، ويدل ذلك على أن المعلوم المقدور هو الدعاء والإجابة، ومنهم من يعصيه فلا يدعو فلا يحصل ما علق بالدعاء، فيدل ذلك على أنه ليس في المعلوم المقدور الدعاء ولا الإجابة، فالدعاء الكائن هو

 

ص -195-

الذي تقدم العلم بأنه كائن‏.‏ والدعاء الذي لا يكون هو الذي تقدم العلم بأنه لا يكون‏.‏
فإن قيل‏:‏ فما فائدة الأمر فيما علم أنه يكون من الدعاء‏؟‏ قيل‏:‏ الأمر هو سبب أيضًا في امتثال المأمور به، كسائر الأسباب، فالدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإن كان سبب البلاء أقوي لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه؛ ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، والله أعلم‏.‏

 

ص -196-

سئل شيخ الإسلام  رحمه الله تعالى  عن الأقضية، هل هي مقتضية للحكمة أم لا‏؟‏ فإذا كانت مقتضية للحكمة، فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه‏؟‏ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت‏.‏ فما معنى وجود العذر والحالة هذه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، قد أحاط ربنا  سبحانه وتعالى  بكل شىء علمًا، وقدرة وحكما، ووسع كل شىء رحمة وعلمًا، فما من ذرة في السموات والأرض، ولا معنى من المعاني إلا وهو شاهد لله تعالى بتمام العلم والرحمة، وكمال القدرة والحكمة، وما خلق الخلق باطلاً، ولا فعل شيئًا عبثًا، بل هو الحكيم في أفعاله وأقواله  سبحانه وتعالى  ثم من حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه‏.‏
وإرادته قسمان‏:‏ إرادة أمر وتشريع، وإرادة قضاء وتقدير‏.‏
فالقسم الأول‏:‏ إنما يتعلق بالطاعات دون المعاصي، سواء وقعت أو لم تقع كما في قوله‏:‏ ‏
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏

 

ص -197-

وأما القسم الثاني‏:‏ وهو إرادة التقدير، فهي شاملة لجميع الكائنات، محيطة بجميع الحادثات، وقد أراد من العالم ما هم فاعلوه بهذا المعنى لا بالمعنى الأول، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وفي قوله‏:‏‏{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏هود ‏:‏34‏]‏، وفي قول المسلمين‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ونظائره كثيرة‏.‏
وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي، دون ما لم يحدث، كما أن الأولى تتناول الطاعات حدثت أو لم تحدث، والسعيد من أراد منه تقديرًا ما أراد به تشريعًا، والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعًا، والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيرًا، ومن نظر إلى القدر دون الشرع أو الشرع دون القدر كان أعور، مثل قريش الذين قالوا‏:‏
‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏‏.‏
فإن هؤلاء اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه  وهي الإرادة القدرية  فقد أمر به ورضيه دون الإرادة الشرعية، ثم رأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده قالوا‏:‏ فيكون قد رضيه وأمر به، قال الله ‏:
‏‏{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏ بالشرائع من الأمر والنهي‏:‏‏{حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا‏}‏

 

ص -198-

بأن الله شرع الشرك وتحريم ما حرمتموه ‏{إِنْ تَتَّبِعُونَ‏}‏ في هذا ‏{إِلَّا الظَّنَّ‏}‏ وهو توهمكم أن كل ما قدره فقد شرعه ‏{وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏أي‏:‏ تكذبون وتفترون بإبطال شريعته، ‏{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏149‏]‏ على خلقه حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته، ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته، لكنه يمن على من يشاء فيهديه فضلاً منه وإحسانًا، ويحرم من يشاء؛ لأن المتفضل له أن يتفضل، وله ألا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة‏.‏
وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرادته الشرعية، وإن كان ذلك بإرادته القدرية، فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى  أيضًا  بعقابها، كما أنه  سبحانه  قد يقدر على العبد أمراضًا تعقبة آلامًا، فالمرض بقدره والألم بقدره، فإذا قال العبد‏:‏ قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض‏:‏ قد تقدمت الإرادة بالمرض فلا أتألم، وقد تقدمت الإرادة بأكل الحار فلا يحم مزاجي، أو قد تقدمت بالضرب فلا يتألم المضروب، وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه؛ بل اعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب عليه أيضًا، وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال‏:‏
‏{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏39‏]‏، وأما آدم فقال‏:‏ ‏{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏‏.‏
فمن أراد الله سعادته، ألهمه أن يقول كما قال آدم  عليه السلام أو نحوه

 

ص -199-

ومن أراد شقاوته، اعتل بعلة إبليس أو نحوها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومثله مثل رجل طار إلى داره شرارة نار، فقال له العقلاء‏:‏ أطفئها لئلا تحرق المنزل، فأخذ يقول‏:‏ من أين كانت ‏؟‏ هذه ريح ألقتها، وأنا لا ذنب لي في هذه النار فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها، هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير، ولا يردها بالاستغفار والمعاذير، بل حاله أسوأ من ذلك بالذنب الذي فعله، بخلاف الشرارة فإنه لا فعل له فيها، والله سبحانه يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه فإنها لا تنال طاعته إلا بمعونته، ولا تترك معصيته إلا بعصمته، والله أعلم‏.‏

 

ص -200-

 

وسئل  قدس الله روحه  عن الأقضية، هل هي مقتضية للحكمة أم لا‏؟‏ وإذا كانت مقتضية للحكمة، فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه أم لا‏؟‏ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت، فما معنى وجود العذر والحالة هذه‏؟‏
فأجاب‏
:‏
الحمد لله رب العالمين‏.‏ نعم، لله حكمة بالغة في أقضيته وأقداره، وإن لم يعلمه العباد، فإن الله علم علمًا وعلمه لعباده، أو لمن يشاء منهم، وعلم علما لم يعلِّمه لعباده
‏{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏
وهو  سبحانه  أراد من العباد ما هم فاعلوه إرادة تكوين، كما اتفق المسلمون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكما قال‏:‏ ‏{
فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118، 119‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم ‏:‏27‏]‏‏.‏

 

ص -201-

ولكن لم يرد المعاصي من أصحابها إرادة أمر وشرع ومحبة ورضى ودين، بل ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، ‏{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏27، 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏‏.‏  وبالتقسيم والتفصيل في المقال، يزول الاشتباه، ويندفع الضلال، وقد بسطت الكلام في ذلك بما يليق به في غير موضع من القواعد، إذ ليس هذا موضع بسط ذلك‏.‏
وأما قول السائل‏:‏ ما معنى وجود العذر‏؟‏ فالمعذور الذي يعرف أنه معذور هو من كان عاجزًا عن الفعل مع إرادته له‏:‏ كالمريض العاجز عن القيام، والصيام، والجهاد، والفقير العاجز عن الإنفاق، ونحو ذلك، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا معاقبين على ما تركوه، وكذلك العاجز عن السماع والفهم‏:‏ كالصبي والمجنون، ومن لم تبلغه الدعوة‏.‏

 

ص -202-

وأما من جعل محبا مختارًا راضيًا بفعل السيئات حتى فعلها، فليس مجبورًا على خلاف مراده، ولا مكرها على ما يرضاه، فكيف يسمى هذا معذورا ‏؟‏‏!‏ بل ينبغي أن يسمى مغرورًا ‏.‏ولكن بسط ذلك يحتاج إلى الحكمة في الخلق والأمر، فهذا مذكور في موضعه، وهذا المكان لا يسعه، والله أعلم وصلى الله على محمد‏.‏

 

ص -203-

قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية  رحمه الله تعالى‏:‏
في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏28‏]‏، و قوله‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏، فإنه ينفي التحريم عن غيرها، ويثبته لها، لكن هل أثبتها للجنس أو لكل واحد من العلماء كما يقال‏:‏ إنما يحج المسلمون، وذلك أن المستثنى هل هو مقتضى، أو شرط‏؟‏
ففي الآية وأمثالها هو مقتضى فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل ليس بتام العلم، تبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم‏.‏
وإذا كان كذلك فعدم العلم ليس شيئًا موجودًا، بل هو مثل عدم القدرة وعدم السمع وعدم البصر، والعدم ليس شيئًا، وإنما الشىء الموجود  والله خالق كل شىء  فلا يضاف العدم المحض إلى الله تعالى، لكن قد

 

ص -204-

يقترن به موجود، فإذا لم يكن عالمًا، والنفس بطبعها تحركه فإنها حية، والحركة الإرادية من لوازم الحياة، ولهذا أصدق الأسماء‏:‏ الحارث والهمام، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏مثل القلب مثل ريشة ملقاة‏"‏ إلخ، وفيه‏:‏ ‏"‏القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا‏"‏، فإذا كان كذلك، فإن هداها الله علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها وتركت ما يضرها، والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين؛ هما أصل السعادة‏:‏
أحدهما‏:‏ أن كل مولود يولد على الفطرة، كما في الصحيحين، ولمسلم عن عياض ابن حمار مرفوعًا‏:‏ ‏"‏إني خلقت عبادي حنفاء‏"‏الحديث، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها من يزين لها من شياطين الإنس والجن، قال تعالى‏:‏‏
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏172‏]‏، وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
الثاني‏:‏ أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة، بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى‏:‏
‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1-5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الرَّحْمنُ‏.‏ عَلَّمَ الْقُرْآنَ‏.‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ‏.‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1-4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏.‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏.‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1-3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏10‏]‏، ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك‏.‏

 

ص -205-

لكن قد يعرض الإنسان عن طلب علم ما ينفعه وذلك الإعراض أمر عدمي، لكن النفس من لوازمها الإرادة والحركة فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها أن تحيا الحياة النافعة فتعبد الله، ومتى لم تحى هذه الحياة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبًا لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة،ولا ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى‏:‏{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا‏} ‏[‏الأعلى‏:‏ 13‏]‏، فالجزاء من جنس العمل لما كان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة ولا ميتًا عديم الإحساس، كان في الآخرة كذلك، والنفس إن علمت الحق وأرادته، فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة؛ فهذا تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده وهذا عدم‏.‏
والقدرية يعترفون بهذا، وبأن الله خلق الإنسان مريدًا، لكن يجعلونه مريدًا بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريدًا لهذا المعين وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقا لله، وغلطوا بل الله خالق هذا كله، وهو الذي ألهم النفس فجورها وتقواها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول‏
:‏ ‏"‏اللهم آت نفسي تقواها‏"‏ إلخ، والله  سبحانه  جعل إبراهيم وأهل بيته أئمة يدعون بأمره، وجعل آل فرعون أئمة يدعون إلى النار، ولكن هذا إلى الله لوجهين من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه‏:‏

 

ص -206-

أما العلة الغائية، فإنه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير، وإن كان شرًا إضافيًا، فإذا أضيف مفردًا توهم المتوهم مذهب جهم بن صفوان‏:‏ أن الله خلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد، لا لحكمة ولا لرحمة، والكتاب والسنة والاعتبار يبطل هذا، كما إذا قيل‏:‏ محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض؛ كان هذا ذما لهم، وكان باطلاً، وإذا قيل‏:‏ يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ويقتلون من منعهم من ذلك؛ كان هذا مدحًا لهم وكان حقًا‏.‏
فإذا قيل‏:‏ إن الرب  تعالى  حكيم رحيم أحسن كل شىء خلقه وهو أرحم الراحمين، والخير بيديه والشر ليس إليه، لا يفعل إلا خيرًا، وما خلقه من ألم لبعض الحيوان، ومن أعماله المذمومة، فله فيه حكمة عظيمة ونعمة جسيمة، كان هذا حقًا وهو مدح للرب‏.‏
وأما إذا قيل‏:‏ يخلق الشر الذي لا خير فيه، ولا منفعة لأحد، ولا له فيه حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب، لم يكن مدحًا له بل العكس، وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة وما لم نعلم أعظم، والله  سبحانه وتعالى  يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقا‏.‏
وقد ذكرنا في غير هذا أن ما خلقه فهو نعمة يستحق عليها الشكر، وهو من آلائه؛ ولهذا قال في آخر سورة النجم‏:‏ ‏
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏55‏]‏،/

 

ص -207-

وفي سورة الرحمن يذكر‏:‏ ‏{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏26‏]‏ ونحو ذلك، ويقول عقبه‏:‏ ‏{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ قال طائفة واللفظ للبغوي  ثم ذكر قوله‏:‏‏{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏44‏]‏ قال‏:‏ كل ما ذكر الله عز وجل من قوله‏:‏ ‏{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏، فإنه مواعظ وهو نعمة؛ لأنه يزجر عن المعاصي، وقال آخرون منهم‏:‏ الزجاج، وابن الجوزي، في الآيات، أي‏:‏ ‏{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ بهذه الأشياء؛ لأنها كلها نعم في دلالتها إياكم على توحيده ورزقه إياكم ما به قوامكم، هذا قالوه في سورة الرحمن، وقالوا في قوله‏:‏ ‏{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏55‏]‏، فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تشكك، وقيل‏:‏ تشك وتجادل، وقال ابن عباس‏:‏ تكذب‏.‏
قلت‏:‏ ضمن تتمارى معنى تكذِّب؛ ولهذا عداه بالتاء، فإنه تفاعل من المراء، يقال‏:‏ تمارينا في الهلال، ومراء في القرآن كفر، وهو يكون لتكذيب وتشكيك، ويقال‏:‏ لما كان الخطاب لهم، قال‏:‏ تتمارى، أي يتمارون، ولم يقل‏:‏ تمتري؛ لأن التفاعل يكون بين اثنين‏.‏ قالوا‏
:‏‏{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏39‏]‏، قيل‏:‏ الوليد بن المغيرة، فإنه قال‏:‏ ‏{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى‏.‏ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏.‏ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 36-38‏]‏، ثم التفت إليه فقال‏:‏ ‏{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ‏.‏ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ‏.‏ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 14-16‏]‏‏.‏
ففي كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه/

 

ص -208-

يستحق أن يحمد عليها لذاته، فجميع المخلوقات فيها إنعام إلى عباده كالثقلين المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ من جهة أنها آيات يحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه؛ ولهذا قال عقيبه‏:‏ ‏{هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏56‏]‏ قيل‏:‏ محمد، وقيل‏:‏ القرآن، وهما متلازمان، يقول‏:‏ هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل، والكتب الأولى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى‏}‏، أي‏:‏ من جنسها، فأفضل النعم نعمة الإيمان، وكل مخلوق فهو من الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى‏:‏‏{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏، وقال‏:‏ ‏{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏8‏]‏‏.‏
وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ لأنه يكفر خطاياه ويثاب عليه بالصبر، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد،
‏{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏216‏]‏، وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف‏:‏ ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر؛ فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لما كان في السراء اللذة، وفي الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء، قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏هود‏:‏9-11‏]‏‏.‏

 

ص -209-

وأيضًا، صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، وأما صبر السراء فقد يكون مستحبًا، وصاحب الضراء قد يكون الشكر في حقه مستحبًا، واجتماع الشكر والصبر يكون مع تألم النفس وتلذذها، وهذا حال يعسر على كثير وبسطه له موضع آخر‏.‏
والمقصود أن الله  تعالى  منعم بهذا كله؛ وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون،وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة،وهي نعمة على غيره لما يحصل له بها من الاعتبار، ومن هذا قوله‏:‏‏"‏اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل غيري أسعد بما علمتني مني‏"‏، وفي دعاء القرآن‏:‏ ‏
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏85‏]‏، وكما فيه‏:‏ ‏{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا‏} ‏[‏الفرقان‏:‏74‏]‏‏.‏ واجعلنا أئمة لمن يقتدى بنا، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا، والآلاء في اللغة هي النعم، وهي تتضمن القدرة ‏.‏
والله  تعالى  في القرآن يذكر آياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر آياته التي فيها نعمه إلى عباده، ويذكر آياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة، لكن نعمة الانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا استدل بها في ‏[‏سورة النحل‏]‏، وتسمى ‏[‏سورة النعم‏]‏، كما قاله قتادة وغيره‏.‏ وعلى هذا فكثير من الناس يقول‏:‏ الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وغيرها، والشكر أعم من جهة أنواعه، فإنه يكون

 

ص -210-

بالقلب واللسان واليد، فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة، لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال‏.‏
لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم، والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا، وكذلك القدرية الذين يقولون‏:‏ لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق، فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة، والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، وحقيقة مذهبهم‏:‏ أنه لا يستحق الحمد؛ فله ملك بلا حمد، كما أن عند المعتزلة له نوع من الحمد بلا ملك، وعند السلف له الملك والحمد تامين‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل وله العزة والحكمة، وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة نقص الرب بعض حقه‏.‏
والجهمي الجبري لا يثبت عدلاً ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته، والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلا ولا عزة ولا حكمة، وإن قال‏:‏ إنه يثبت حكمة ما، معناها يعود إلى غيره، فتلك لا تكون حكمة، فمن فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره، فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم، وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر والحمد،/

 

ص -211-

وإن كان على نعمة وعلى حكمة، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر‏.‏
ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجردًا إذ كان نوعًا من الشكر، وشرع الحمد الذي هوالشكر مقولا أمام كل خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر مع التوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد‏.‏ والباقيات الصالحات نوعان‏:‏ فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏14‏]‏، ‏{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏، وهل الحمد على الأمور الاختيارية كما قيل في العزم، أم عام‏؟‏ فيه نظر ليس هذا موضعه‏.‏
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول‏:‏ ‏[‏ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولامعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏ هذا لفظ الحديث‏.‏و‏[‏أحق‏]‏ أفعل التفضيل، وقد غلط فيه طائفة فقالوا‏:‏ حق ما قال العبد، وهذا ليس بسديد، فإن العبد يقول الحق والباطل؛ بل حق ما يقوله الرب، كما قال‏:
‏ ‏{فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏84‏]‏، ولكن أحق خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ الحمد أحق ما قال العبد، ففيه أن الحمد أحق ما قاله العبد، ولهذا وجب في كل صلاة‏.‏

 

ص -212-

وإذا قيل‏:‏ يخلق ما هو شر محض، لم يكن هذا موجبًا لمحبة العباد له، وحمدهم، بل العكس؛ ولهذا كثير من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم نظمًا ونثرًا، وكثير من شيوخهم وعلمائهم يذكر ذلك، وإن لم يقله بلسانه، فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة، أو يخاف من المسلمين، وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا، ويقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله، وهو خلاف ما وصف به نفسه في قوله‏:‏ ‏{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏46‏]‏، ‏{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏101‏]‏، فقوله‏:‏ أحق ما قال العبد، يقتضى أن حمده أحق ما قاله العبد؛ لأنه سبحانه لا يفعل إلا الخير وهو سبحانه‏.‏
ونفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر حكمة بالغة ونعمة سابغة‏.‏
فإذا قيل‏:‏ فلم لا خلقها على غير هذا الوجه‏؟‏
قيل‏:‏ كان يكون ذلك خلقًا غير الإنسان، وكانت الحكمة بخلقه لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا‏:‏
‏{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏، فعلم من الحكمة في خلق هذا مالم تعلمه الملائكة، فكيف يعلمه آحاد الناس، ونفس الإنسان خلقت، كما قال تعالى‏:‏/

 

ص -213-

{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا‏.‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا‏.‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏19-21‏]‏، وقال‏:‏ ‏{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏37‏]‏، فقد خلق خلقة تستلزم وجود ما خلق منها، لحكمة عظيمة ورحمة عميمة فهذا من جهة الغاية مع أن الشر لا يضاف إليه سبحانه‏.‏
وأما الوجه الثاني‏:‏ من جهة السبب فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته، وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه؛ لكن النفس المدينة لما حصل لها من زين لها السيئات من شياطين الإنس والجن مالت إلى ذلك، وكان ذلك مركبًا من عدم ما ينفع، وهذا الأصل ووجود هذا العدم لا يضاف إلى الله  تعالى  وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها، خلقهم لحكمة، فلما كان عدم ما تصلح به هو أحد السببين، والشر المحض هو العدم المحض، وهو ليس شيئًا، والله خالق كل شىء فكانت السيئات منها باعتبار أنها مستلزمة للحركة الإرادية‏.‏
والعبد إذا اعترف أن الله خالق أفعاله، فإن اعترف إقرارًا بخلق الله لكل شىء وبكلماته التامات، واعترافًا بفقره إليه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، فخضع لعزته وحكمته، فهذا حال المؤمنين، وإن اعترف احتجاجًا بالقدر، فهذا الذنب أعظم من الأول، وهذا من أتباع الشيطان‏.‏
وهنا سؤال سأله طائفة‏:‏ وهو أنه لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا

 

ص -214-

له، وقد قضى عليه السيئات، وعنه جوابان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث؛ ولكن ما يصيبه من النعم والمصائب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له‏"‏ إلخ‏.‏ وهذا ظاهر اللفظ فلا إشكال‏.‏
والثاني‏:‏ إن قدر دخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن‏"‏، فإذا قضى له بأن يحسن فهو مما يسره، فإذا قضى له بسيئة، فهو إما يستحق العقوبة إذا لم يتب،فإن تاب أبدلت حسنة فيشكر عليها،وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فيصبرعليها فيكون ذلك خيرًا له وهو قال‏:‏ لا يقضى الله للمؤمن، والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب؛ بل يتوب منه فيكون حينئذ كما جاء في عدة آثار‏:‏ إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة،يعمله فلا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه واستغفاره وشهوده لفقره، وفاقته إليه سبحانه‏.‏
وفي قوله‏:‏
‏{فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79‏]‏ من الفوائد‏:‏ أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له الخير ويدفع عنه الشر؛ ولهذا كان أنفع

 

ص -215-

الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة‏:‏ ‏{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏.‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6، 7‏]‏‏.‏
فإنه إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه؛ ولهذا أمر به في كل صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن المأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فيها من الجهل والظلم الذي يقتضى شقاءها في الدنيا، والآخرة، فيعلم أن الله تعالى بفضله ورحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر‏.‏
ومما يبين ذلك أن الله  تعالى  لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى والحكم، فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل  فرعون ومن قبله  لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ لكن الأمر كما قال تعالى‏:
‏‏{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏43‏]‏، وقال‏:‏‏{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏52‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏118‏]‏، وقال‏:‏‏{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏30‏]‏؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

 

ص -216-

"‏لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏"‏، قالوا‏:‏ يارسول الله، اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فمن ‏؟‏‏"‏،وقال‏:‏ ‏"‏لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر،وذراعًا بذراع‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فارس والروم ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فمن ‏؟‏‏"‏، وكلا الحديثين في الصحيحين ‏.‏
ولما كان في غزوة حنين، كان للمشركين سدرة يعلقون عليها أسلحتهم، فقال بعض الناس‏:‏ يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏الله أكبر قلتم  والذي نفسي بيده  كما قال أصحاب موسى‏:‏ ‏{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏، إنها سنن لتركبن سنن من كان قبلكم‏"‏‏.‏
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله فأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة له سبحانه، أو إلها من دونه، وكل هذين وقع، فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا، وهذا إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان، قال بعض العارفين‏:‏ ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، إلا أنه قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر‏.‏

 

ص -217-

وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى‏:‏ ‏{أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏43‏]‏، والناس عنده كما هم عند ملوك الكفار من الترك وغيرهم‏:‏ ‏[‏يال، ياغي‏]‏، أي صديقي وعدوي، فمن وافق هواهم، كان وليًا وإن كان كافرًا، وإن لم يوافقه، كان عدوا وإن كان من المتقين، وهذه حال فرعون‏.‏
والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية وجحود الصانع، وهؤلاء وإن أقروا بالصانع، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه، كما عادى فرعون موسى  عليه السلام  وكثير من الناس عنده عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد، بل تطلب نفسه ما هو عنده، فإذا كان مطاعًا مسلمًا طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل‏.‏
وإن كان عالمًا أو شيخًا أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسدًا وبغيًا، كما فعلت اليهود لما بعث الله تعالى من يدعو إلى مثل ما دعى إليه

 

ص -218-

موسى قال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏الآية ‏[‏البقرة‏:‏91‏]‏، وقال‏:‏ّ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏14‏]‏؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون‏:‏ ‏{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ‏}‏الآية ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏‏{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏‏.‏
والله  سبحانه  إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى‏:‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏، وقد أمر الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه فقال‏:‏ ‏{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏92‏]‏، وقال‏:‏ ‏{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏.‏ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ الآية ‏[‏المؤمنون‏:‏51، 52‏]‏‏.‏
قال قتادة‏:‏ أي‏:‏ دينكم واحد، وربكم واحد، والشريعة مختلفة، وكذلك قال الضحاك‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أي دينكم دين واحد، قال ابن أبي حاتم، وروى عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن نحو ذلك‏.‏ قال الحسن‏:‏ بين لهم ما يتقون، وما يأتون، ثم قال‏:‏ إن هذه سنتكم سنة واحدة، وهكذا قال

 

ص -219-

جمهور المفسرين، والأمة‏:‏ الملة والطريقة، كما قال‏:‏‏{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏، كما تسمى الطريق إمامًا، لأن السالك فيها يؤتم به، فكذلك السالك يؤمه ويقصده، والأمة أيضًا‏:‏ معلم الخير الذي يأتم به الناس، وإبراهيم  عليه السلام  جعله الله إمامًا، وأخبر أنه كان أمة‏.‏
وأمر الله  تعالى  الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحدًا، لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين‏:‏ ‏"‏إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد‏"‏، وقال تعالى‏:‏
‏{شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏13‏]‏؛ ولهذا كان يصدق بعضهم بعضا لا يختلفون مع تنوع شرائعهم،فمن كان من المطاعين من الأمراء والعلماء والمشايخ متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بما أمر به ودعا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه، فإن الله يحب ذلك، فيحب ما يحبه الله؛ لأن قصده عبادة الله وحده، وأن يكون الدين لله، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك؛ فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون وأشباهه، فمن طلب أن يطاع دون الله فهذا حال فرعون، ومن طلب أن يطاع مع الله فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والله  سبحانه  أمر ألا يعبد إلا إياه ولا يكون الدين إلا له، وتكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به ‏.‏
فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل؛ ليكون الدين لله لا له

 

ص -220-

فإذا أمر غيره بمثل ذلك، أحبه وأعانه وسر به؛ وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسنًا فيرى أن عمله لله وبالله، وهذا مذكور في الفاتحة‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا، ولا يمن عليه بذلك، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، فعليه أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك أن يشكر الله إذ يسر له ما ينفعه، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو ليجزيه بطاعته له وتعظيمه إياه أو نفع آخر، وقد يمن عليه فيقول‏:‏ أنا فعلت وفعلت بفلان فلم يشكر ونحو ذلك، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، فلا عمل لله ولا عمل به، فهو كالمرائي‏.‏
وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي، فقال تعالى‏:‏
‏{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏.‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏264، 265‏]‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ تثبيتًا من أنفسهم‏:‏ احتسابًا من عند أنفسهم‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ يقينًا وتصديقًا من أنفسهم‏.‏ وقيل‏:‏ يخرجونها طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه‏.‏ قلت‏:‏ إذا كان المعطي محتسبًا للأجر من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه‏.‏

 

ص -221-

 

ص -222-

بالسيئات عدلاً من الله، كما قيل‏:‏ نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل‏.‏
وهذا الوجه إذا حقق يقطع مادة كلام طائفتي القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون‏:‏ خلقها لذلك، والتعذيب لهم ظلم، يقال لهم‏:‏ إنما أوقعهم فيها وطبع على قلوبهم عقوبة لهم، فما ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم، يقال‏:‏ ظلمته، إذا نقصته حقه، قال تعالى‏:‏ ‏
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏33‏]‏‏.‏
وكثير منهم يسلمون أن الله خلق من الأعمال ما يكون جزاء على عمل متقدم، ويقولون‏:‏ خلق طاعة المطيع لكن ما خلق شيئًا من الذنوب ابتداء، بل جزاءً ،فيقولون‏:‏ أول ما يفعل العبد لم يحدثه الله، وما ذكرنا يوجب أن يكون الله خالق كل شىء، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له، والعدم لا يضاف إلى الله، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركًا والشيطان مسلط عليه‏.‏
ثم تخصيصه  سبحانه  لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل؛ ولهذا يقول تعالى‏:‏‏
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏105‏]‏، وكذلك الفضل هو أعلم به، كما خص بعض الأبدان

 

ص -223-

بقوى لا توجد في غيرها، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية، وغير ذلك من حكمته، وتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب‏.‏
ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى‏:‏‏
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏110‏]‏ هذا من تمام قوله‏:‏ ‏{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏109‏]‏، فذكر أن هذا التقليب يكون لمن لم يؤمنوا به أول مرة، وهذا عدم الإيمان، لكن يقال‏:‏ هذا بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وقد كذبوا وتركوا الإيمان، وهذه أمور وجودية؛ لكن الموجب هو عدم الإيمان، وما ذكر شرط في التعذيب، كإرسال الرسول، فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح لا يستحق به العقوبة، إلا لأنه شغله عن الإيمان، ومن الناس من يقول ضد الإيمان هو تركه، وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك‏.‏
الفرق السابع‏:‏ أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إلا ذنبه الذي من نفسه، وما يصير من الخير لا تنحصر أسبابه؛ لأنه من فضل الله يحصل بعمله وبغيره عمله، وعمله من إنعام الله عليه، وهو  سبحانه  لا يجزيه بقدر العمل، بل يضاعفه، فلا يتوكل إلا على الله ولا يرجع إلا إليه، فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، وإنما يستحق غيره من الشكر ما يكون جزاء على ما يسره الله على يديه من الخير، كشكر الوالدين، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ لكن لا يبلغ من قول أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية الله أو يطاع بمعصيته، فإنه هو

 

ص -224-

المنعم، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏31‏]‏، وجزاؤه على الطاعة والشكر وعلى المعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله؛ فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا‏} الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏ 8‏]‏، وفي الآية الأخرى‏:‏‏{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏15‏]‏‏.‏
والمقصود أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، صار توكله ورجاؤه له سبحانه، وإذا علم ما يستحقه من الشكر الذي لا يستحقه غيره‏.‏
والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يأتي، فاستغفر واستعان بالله واستعاذ به مما لم يعمل بعد؛ كما قال من قال من السلف‏:‏ لا يرجْوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وهذا خلاف قول الجهمية الذين يقولون‏:‏ يعذب بلا ذنب، ويخافونه ولو لم يذنبوا، فإذا صدق بقوله‏:‏ ‏{
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، علم بطلان هذا القول، وقد تقدم قول ابن عباس وغيره‏:‏ إن ما أصابهم يوم أحد كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحدا، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص‏.‏

 

ص -225-

الفرق الثامن‏:‏ أن السيئة إذا كانت من النفس،والسيئة خبيثة مذمومة،ووصفها بالخبث في مثل قوله‏:‏ ‏{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏26‏]‏، قال جمهور السلف‏:‏ الكلمات الخبيثة للخبيثين، وقال بعضهم‏:‏ الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين، وقال تعالى‏:‏‏{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏24-26‏]‏، وقال‏:‏‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل، فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث، لم يكن محلها إلا ما يناسبها، فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح، ومن أراد أن يجعل الكذاب شاهدا لم يصلح، وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلمًا، أو الأحمق سائسًا، فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة، بل إذا كان في النفس خبث طهرت، وهذبت، كما في الصحيح‏:‏ ‏"‏إن المؤمنين إذا نجوا من النار وقفوا على قنطرة‏"‏الحديث‏.‏
وإذا علم أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله‏:‏
‏{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه‏.‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏7، 8‏]‏، وعلم أن الرب جارية أفعاله على قانون العدل والإحسان، وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏يمين الله ملأى‏"‏ الحديث، وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة، وهو  سبحانه  قد شهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط، وهم قصدوا مناقضة

 

ص -226-

المعتزلة في القدر والوعيد؛ فلهذا سلك مسلك جهم من ينتسب إلى السنة والحديث وأتباع السلف، وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد، مسلك المرجئة الغلاة،جهم وأتباعه، وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة‏:‏
نوع في الأسماء والصفات، فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم، والمعتزلة في الصفات دون الأسماء، والكلابية ومن وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث في نفي الصفات الاختيارية، والكَرَّامية ونحوهم وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا إذا شاء، وفعّالاً إذا يشاء لامتناع حوادث لا أول لها، وعن هذا الأصل نفي وجود ما لا يتناهي في المستقبل، وقال بفناء الجنة والنار، ووافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال تتناهى الحركات‏.‏
فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات‏.‏ وكذلك الأشعرية، ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري‏:‏ الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة، ومن الناس من يقول‏:‏ المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، والشهرستاني يذكر أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأنه إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية معهم بخلاف أئمة السنة، فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند

 

ص -227-

السلف بنفي الصفات، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف‏.‏
وأما المعتزلة، فامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدثه عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره‏:‏ أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن‏.‏
وبدعة القدرية حدثت قبل ذلك بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين، فبقى الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق والبصرة، وأقله كان بالحجاز فلما حدثت المعتزلة وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين، وقالوا‏:‏ بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها ضموا إلى ذلك القدر فإنه به يتم‏.‏
ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئًا من نفي الصفات، إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال‏:‏ أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما  تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا  ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق‏.‏

 

ص -228-

ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأى جهم؛ ولهذا كان علماء السنة بالمشرق أكثر كلامًا في رد مذهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله بن المبارك، وأمثالهم ،وقد تكلم في ذمهم مالك وابن الماجشون وغيرهما، وكذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد وغيرهم، وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه قد كان بخراسان مدة واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمانية عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة وخافوا فأطلقوه، وكان ابن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات من جميع الطوائف‏.‏ وعلماء السنة‏:‏ كابن المبارك وأحمد وإسحاق والبخاري يسمون هؤلاء جميعهم جهمية، وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة، وليس كذلك، بل المعتزلة نوع منهم‏.‏
والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه بدعتان‏:‏ إحداهما‏:‏ نفي الصفات‏.‏ والثانية‏:‏ الغلو في القدر والإرجاء‏.‏ فجعل

 

ص -229-

الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة، وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما، وأما الأشعري فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية‏.‏
وجهم لا يثبت شيئًا من الصفات، لا الإرادة ولا غيرها، فإذا قال‏:‏ إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي، فمعناه الثواب والعقاب، والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها هل هي المحبة أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها، وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وأهل السنة قبله على أن الله لا يحب المعاصي‏.‏
وشاع هذا القول في كثير من الصوفية فوافقوا جهما في مسائل الأفعال والقدر، وخالفوه في الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية في نفي الصفات، وله كتاب في تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة، وربما كان يلعنهم، وقال بعض الناس بحضرة نظام الملك‏:‏ أتلعن الأشعرية ‏؟‏ فقال‏:‏ ألعن من يقول ليس في السموات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضبًا، وهو مع هذا في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغ من الأشعرية، لا يثبت سببًا ولا حكمة، بل يقول‏:‏ إن مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأن العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء، والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد

 

ص -230-

لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه، والالتفات إلى هذا من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق‏.‏
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا من جهة المخلوق كان أعقل منهم، فإنهم يدعون أن العارف لا يفرق، وغلطوا في حق العبد وحق الرب، أما العبد فيلزمهم أن يستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعًا، فعزلوا الفرق الرحماني، وفرقوا بالطبعي الهوائي الشيطاني، ومن هنا وقع خلق منهم في المعاصي، وآخرون في الفسوق، وآخرون في الكفر حتى جوزوا عبادة الأصنام، ثم كثير منهم ينتقل إلى الوحدة ويصرحون بعبادة كل موجود‏.‏
والمقصود الكلام على من نفى الحكم والأسباب والعدل في القدر موافقة لجهم  وهي بدعته الثانية بخلاف الإرجاء، فإنه منسوب إلى طوائف غيره  فهؤلاء يقولون‏:‏ إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه؛ ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد، بل ينحل عنه أو عن بعضه، ويتكلف لما يعتقده، فإنهم إذا وافقوا جهما والأشعري في أن الحسن والقبيح كونه مأمورًا أو محظورًا، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، وهم يدعون الفناء عن الحظوظ، فتارة يقولون في امتثال الأمر والنهي‏:‏ إنه من مقام التلبيس، وتارة يقولون‏:‏ يفعل هذا لأجل أهل المارستان، أي العامة، كما يقوله الشيخ المغربي، إلى أنواع أخر‏.‏

 

ص -231-

ومن سلك مسلكهم إذا عظم الأمر والنهي غايته أن يقول كما نقل عن الشاذلي‏:‏ يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي؛ مثل دعوى أن الله يعطيه على المعصية أعظم مما يعطيه على الطاعة، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات أو أفضل، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي‏.‏
وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكبر الأولياء من يكون فاجرًا، بل كافرًا، ويقولون‏:‏ هذه موهبة وعطية، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان، قال تعالى‏:‏
‏{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏.‏ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏.‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏101-103‏]‏‏.‏

 

ص -232-

وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضَبّ لدخلتموه‏"‏ الحديث‏.‏
والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره، واتبع ماتتلوه الشياطين، فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته، ويعادى من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين لهم، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين‏.‏
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين، ولكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ‏.‏ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏51، 52‏]‏، وهؤلاء ضاهوا الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏‏{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101، 102‏]‏
ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام والعلم، وأهل العبادة والتصوف، حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم والفواحش ،فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به وبكتابه إذا

 

ص -233-

نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس وتعظيمهم له لرئاسة أو مال ينالونه، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ،واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم‏.‏
فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له‏.‏ وقال رحمه الله تعالى: فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السماوات ، وأنه خلق السماوات والأرض ليس شيئ منها خلق الناس ، كما قال موسى لفرعون لما قال له:{
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23، 24] وقال {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49، 50].

 

ص -234-

سئل رحمه الله تعالى‏:‏
عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان ‏؟‏ وأن الشر هو بيد العبد، إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فإذا أنكر عليه في هذه يقول‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ آية 28‏]‏، ‏{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ آية 7‏]‏، وإن عقيدة هذا، أن الخير من الله وأن الشر بيده، فإذا أراد أن يفعل الشر فعله؛ فإنه قال‏:‏ إن لي مشيئة فإذا أردت أن أفعل الشر فعلته، فهل له مشيئة فعالة أم لا ‏؟‏ ‏.‏
فأجاب‏:‏ الحمد لله - أصل هذا الكلام له مقدمتان ‏:‏
إحداهما‏:‏ أن يعلم العبد أن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح، ويحب الحسنات ويرضاها، ويكرم أهلها، ويثيبهم ويواليهم، ويرضى عنهم، ويحبهم ويحبونه، وهم جند الله المنصورون، وحزب الله الغالبون، وهم أولياؤه المتقون، وحزبه المفلحون، وعباده الصالحون أهل الجنة، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهم أهل الصراط المستقيم‏.‏ صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏.‏ وأن الله نهى عن السيئات من الكفر والفسوق والعصيان، وهو يبغض ذلك ويمقت أهله، ويلعنهم ويغضب عليهم، ويعاقبهم ويعاديهم، وهم أعداء الله ورسوله، وهم أولياء الشيطان، وهم أهل النار

 

ص -235-

وهم الأشقياء‏.‏ لكنهم يتقاربون في هذا ما بين كافر وفاسق، وعاص ليس بكافر ولا فاسق‏.‏
والمقدمة الثانية‏:‏ أن يعلم العبد أن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه‏.‏ لا رب غيره؛ ولا خالق سواه، وأنه ما شاء كان؛ وما لم يشأ لم يكن؛ لا حول ولا قوة إلا به؛ ولا ملجأ منه إلا إليه؛ وأنه على كل شيء قدير‏.‏ فجميع ما في السماوات والأرض‏:‏ من الأعيان وصفاتها؛ وحركاتها؛ فهي مخلوقة له؛ مقدورة له؛ مصرفة بمشيئته، لا يخرج شيء منها عن قدرته وملكه؛ ولا يشركه في شيء من ذلك غيره؛ بل هو سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد؛ وهو على كل شيء قدير، فالعبد فقير إلى الله في كل شيء، يحتاج إليه في كل شيء لا يستغني عن الله طرفة عين؛ فمن يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ فإذا ثبتت هاتان المقدمتان‏.‏
فنقول‏:‏ إذا ألهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته، أعانه وهداه، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا خذل العبد فلم يعبد الله؛ ولم يستعن به، ولم يتوكل عليه، وكل إلى حوله وقوته‏.‏ فيوليه الشيطان، وصد عن السبيل، وشقي في الدنيا والآخرة وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره؛ لا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، وليس لأحد على الله

 

ص -236-

حجة؛ بل ‏{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏149‏]‏ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل‏.‏ وعلى العبد أن يؤمن بالقدر، وليس له أن يحتج به على الله؛ فالإيمان به هدى؛ والاحتجاج به على الله ضلال وغي، بل الإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صبارا شكورا؛ صبورا على البلاء، شكورا على الرخاء، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره، سواء كانت النعمة حسنة فعلها، أو كانت خيرا حصل بسبب سعيها، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات، وهو الذي تفضل بالثواب عليها، فله الحمد في ذلك كله‏.‏ وإذا أصابته مصيبة صبر عليها، وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص، وهو الذي خلق أفعاله، وكانت مكتوبة على العبد؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏22‏]‏، ‏{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ آية 23‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ آية11‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏ وعليه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب، ولا يحتج على الله بالقدر، ولا يقول‏:‏ أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب؛ بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه؛ لكن العبد هو الذي أكل الحرام، وفعل الفاحشة،

 

ص -237-

وهو الذي ظلم نفسه؛ كما أنه هو الذي صلى وصام وحج وجاهد، فهو الموصوف بهذه الأفعال؛ وهو المتحرك بهذه الحركات، وهو الكاسب بهذه المحدثات، له ما كسب وعليه ما اكتسب، والله خالق ذلك وغيره من الأشياء لما له في ذلك من الحكمة البالغة بقدرته التامة ومشيئته النافذة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ آية55‏]‏‏.‏ فعلى العبد أن يصبر على المصائب، وأن يستغفر من المعائب‏.‏ والله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولا يحب الفساد، وهو سبحانه خالق كل شيء؛ وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏ فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ ومشيئة العبد للخير والشر موجودة، فإن العبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وهذا‏.‏ وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله وربه ومليكه؛ لا خالق غيره؛ ولا رب سواه؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏ وقد أثبت الله المشيئتين مشيئة الرب؛ ومشيئة العبد؛ وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب في قوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏29، 30‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏.‏ ِلمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏27‏:‏ 29‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏78‏]‏، ‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ آية79‏]‏‏.‏

 

ص -238-

وبعض الناس يظن أن المراد هنا بالحسنات والسيئات الطاعات والمعاصي، فيتنازعون هذا يقول‏:‏ قل كل من عند الله، وهذا يقول الحسنة من الله، والسيئة من نفسك، وكلاهما أخطأ في فهم الآية؛ فإن المراد هنا بالحسنات والسيئات، النعم والمصائب‏.‏ كما في قوله‏:‏ ‏{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ آية 168‏]‏‏.‏ أي امتحناهم واختبرناهم بالسراء والضراء‏.‏ ومعنى الآية في المنافقين‏:‏ كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل النصر والرزق والعافية‏.‏ قالوا‏:‏ هذا من الله، وإذا أصابتهم سيئة - مثل ضرب ومرض وخوف من العدو - قالوا‏:‏ هذا من عندك يا محمد أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا لأجله الناس، وابتلينا لأجله بهذه المصائب، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ آية 78‏]‏‏.‏
أنت إنما أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر، وما أصابك من نعمة‏:‏ نصر وعافية ورزق فمن الله، نعمة أنعم الله بها عليك، وما أصابك من سيئة‏:‏ فقر وذل وخوف ومرض وغير ذلك، فمن نفسك وذنوبك وخطاياك‏.‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ آية30‏]‏

 

ص -239-

وقال تعالى‏:‏ ‏{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ آية 48‏]‏‏.‏ فالإنسان إذا أصابته المصائب بذنوبه وخطاياه كان هو الظالم لنفسه، فإذا تاب واستغفر جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، والذنوب مثل أكل السم‏.‏ فهو إذا أكل السم مرض أو مات فهو الذي يمرض ويتألم ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله، وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم‏.‏ فإن شرب الترياق النافع عافاه الله، فالذنوب كأكل السم، والترياق النافع كالتوبة النافعة، والعبد فقير إلى الله تعالى في كل حال، فهو بفضله ورحمته يلهمه التوبة، فإذا تاب تاب عليه، فإذا سأله العبد ودعاه استجاب دعاءه‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏‏.‏ ومن قال‏:‏ لا مشيئة له في الخير ولا في الشر فقد كذب‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه يشاء شيئا من الخير أو الشر بدون مشيئة الله فقد كذب؛ بل له مشيئة لكل ما يفعله باختياره من خير وشر، وكل ذلك إنما يكون بمشيئة الله وقدرته فلا بد من الإيمان بهذا وهذا، ليحصل الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه‏.‏

 

ص -240-

ومن احتج بالقدر على المعاصي فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، بل هؤلاء الضالون‏.‏ كما قال فيهم بعض العلماء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏ فإن هؤلاء إذا ظلمهم ظالم، بل لو فعل الإنسان ما يكرهونه، وإن كان حقا لم يعذروه بالقدر، بل يقابلوه بالحق والباطل، فإن كان القدر حجة لهم فهو حجة لهؤلاء، وإن لم يكن حجة لهؤلاء لم يكن حجة لهم؛ وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه، لا عند ما يؤذيه الناس ويظلمونه‏.‏ وأما المؤمن فهو بالعكس في ذلك إذا آذاه الناس نظر إلى القدر، فصبر واحتسب، وإذا أساء هو تاب واستغفر‏.‏ كما قال تعالى‏:‏‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏,‏ فالمؤمن يصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب والمعايب، والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقيا في الدنيا والآخرة؛ والمؤمن سعيدا في الدنيا والآخرة‏.‏ والله سبحانه أعلم

 

ص -241-

سئل أبو العباس ابن تيمية
عن الخير والشر؛ والقدر الكوني؛ والأمر والنهي الشرعي ‏.‏
فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ اعلم أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا رب غيره ولا خالق سواه؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ وهو على كل شيء قدير؛ وبكل شيء عليم؛ والعبد مأمور بطاعة الله؛ وطاعة رسوله؛ منهي عن معصية الله؛ ومعصية رسوله؛ فإن أطاع كان ذلك نعمة من الله أنعم بها عليه؛ وكان له الأجر والثواب بفضل الله ورحمته، وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب؛ وكان لله عليه الحجة البالغة؛ ولا حجة لأحد على الله؛ وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته؛ لكنه يحب الطاعة ويأمر بها؛ ويثيب أهلها عليها ويكرمهم؛ ويبغض المعصية وينهى عنها؛ ويعاقب أهلها عليها ويهينهم‏.‏ وما يصيب العبد من النعم فإن الله أنعم بها عليه؛ وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعاصيه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏‏
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ من الآية30‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ آية 79‏]‏‏:‏ أي ما أصابك من خصب ونصر وهدى فالله أنعم بها عليك؛ وما أصابك من جدب وذل وشر فبذنوبك وخطاياك؛ وكل الأشياء كائنة بمشيئته وقدرته وخلقه

 

ص -242-

فلا بد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره؛ وأن يؤمن بشرع الله وأمره‏.‏ فمن نظر إلى الحقيقة القدرية وأعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد كان مشابها للمشركين؛ ومن نظر إلى الأمر والنهي وكذب بالقضاء والقدر كان مشابها للمجوسيين، ومن آمن بهذا وهذا، وإذا أحسن حمد الله؛ وإذا أساء استغفر الله؛ وعلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره فهو من المؤمنين‏.‏ فإن آدم - عليه السلام - لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه، وإبليس أصر واستكبر واحتج بالقدر؛ فلعنه وأقصاه، فمن تاب كان آدميا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا، فالسعداء يتبعون أباهم آدم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس‏.‏ فنسأل الله العظيم أن يهدينا الصراط المستقيم‏.‏ صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين‏.‏ والشهداء والصالحين‏.‏ والله أعلم ‏.‏

 

ص -243-

وقال الشيخ رحمه الله
حديث علي رضي الله عنه المخرج في الصحيح لما طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة - وهما نائمان - فقال‏:‏
‏"‏ألا تصليان فقال علي يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يمسكها وإن شاء أن يرسلها؛ فولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب بيده على فخذه وهو يقول‏:‏ ‏{وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏، هذا الحديث نص في ذم من عارض الأمر بالقدر، فإن قوله‏:‏‏"‏إنما أنفسنا بيد الله‏"‏ إلى آخره‏.‏ إستناد إلى القدر في ترك امتثال الأمر، وهي في نفسها كلمة حق، لكن لا تصلح لمعارضة الأمر بل معارضة الأمر فيها من باب الجدل المذموم الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ آية54‏]‏ وهؤلاء أحد أقسام القدرية وقد وصفهم الله في غير هذا الموضع بالمجادلة الباطلة ‏.‏

 

ص -244-

سؤال عن القدر‏:‏
أورده أحد علماء الذميين فقال‏:‏

 أيا علماء الدين، ذمي دينكم

 تحير دلوه بأوضح حجة

 إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم

 ولم يرضه مني، فما وجه حيلتي

 دعاني، وسد الباب عني، فهل إلى

 دخولي سبيل ‏؟‏ بينوا لي قضيتي

 قضى بضلالي، ثم قال‏:‏ ارض بالقضا

 فما أنا راض بالذي فيه شقوتي

 فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا

 فربي لا يرضى بشؤم بليتي

 فهل لي رضا، ما ليس يرضاه سيدي

 فقد حرت دلوني على كشف حيرتي

 إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة

 فهل أنا عاص في اتباع المشيئة

 وهل لي اختيار أن أخالف حكمه

 فبالله فاشفوا بالبراهين علتي

فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد ابن تيمية مرتجلا الحمد لله رب العالمين‏:‏

 

ص -245-

سؤالك يا هذا، سؤال معاند

 مخاصم رب العرش، باري البرية

 فهذا سؤال، خاصم الملأ العلا

 قديما به إبليس، أصل البلية

 ومن يك خصما للمهيمن يرجعن

 على أم رأس هاويا في الحفيرة

 ويدعى خصوم الله يوم معادهم

 إلى النار طرا، معشر القدرية

 سواء نفوه، أو سعوا ليخاصموا

 به الله، أو ماروا به للشريعة

 وأصل ضلال الخلق من كل فرقة

 هو الخوض في فعل الإله بعلة

 فإنهمو لم يفهموا حكمة له

 فصاروا على نوع من الجاهلية

 فإن جميع الكون أوجب فعله

 مشيئة رب الخلق باري الخليقة

 وذات إله الخلق واجبة بما

 لها من صفات واجبات قديمة

 مشيئته مع علمه، ثم قدرة

 لوازم ذات الله قاضي القضية

 وإبداعه ما شاء من مبدعاته

 بها حكمة فيه وأنواع رحمة

 ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة

 من المنكري آياته المستقيمة

 بل الحق أن الحكم لله وحده له

 الخلق والأمر الذي في الشريعة

 هو الملك المحمود في كل حالة

 له الملك من غير انتقاص بشركة

 فما شاء مولانا الإله، فإنه

 يكون وما لا لا يكون بحيلة

 وقدرته لا نقص فيها، وحكمه

 يعم‏.‏ فلا تخصيص في ذي القضية

ص -246-

 أريد بذا أن الحوادث كلها

 بقدرته كانت، ومحض المشيئة

 ومالكنا في كل ما قد أراده

 له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة

 فإن له في الخلق رحمته سرت

 ومن حكم فوق العقول الحكيمة

 أمورا يحار العقل فيها إذا رأى

 من الحكم العليا وكل عجيبة

 فنؤمن أن الله عز بقدرة

 وخلق وإبرام لحكم المشيئة

 فنثبت هذا كله لإلهنا

 ونثبت ما في ذاك من كل حكمة

 وهذا مقام طالما عجز الأولى

 نفوه وكروا راجعين بحيرة

 وتحقيق ما فيه بتبيين غوره

 وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة

 هو المطلب الأقصى لوراد بحره

وذا عسر في نظم هذي القصيدة  

 لحاجته إلى بيان محقق

 لأوصاف مولانا الإله الكريمة

 وأسمائه الحسنى، وأحكام دينه

 وأفعاله في كل هذي الخليقة

 وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا

 وإلهامه للخلق أفضل نعمة

 وقد قيل في هذا وخط كتابه

 بيان شفاء للنفوس السقيمة

 فقولك‏:‏ لم قد شاء ‏؟‏ مثل سؤال من

 يقول‏:‏ فلم قد كان في الأزلية؛

 وذاك سؤال يبطل العقل وجهه

 وتحريمه قد جاء في كل شرعة‏

 وفي الكون تخصيص كثير يدل من

 له نوع عقل‏:‏ أنه بإرادة

ص -247-

 وإصداره عن واحد بعد واحد

 أو القول بالتجويز رمية حيرة

 ولا ريب في تعليق كل مسبب

 بما قبله من علة موجبية

 بل الشأن في الأسباب، أسباب ما ترى

 وإصدارها عن الحكم محض المشيئة

 وقولك‏:‏ لم شاء الإله ‏؟‏ هو الذي

 أزل عقول الخلق في قعر حفرة

 فإن المجوس القائلين بخالق

 لنفع، ورب مبدع للمضرة

 سؤالهم عن علة السر، أوقعت

 أوائلهم في شبهة الثنوية

 وإن ملاحيد الفلاسفة الأولى

 يقولون بالفعل القديم لعلة

 بغوا علة للكون بعد انعدامه

 فلم يجدوا ذاكم، فضلوا بضلة

 وإن مبادي الشر في كل أمة

 ذوي ملة ميمونة نبوية

 بخوضهمو في ذاكم، صار شركهم

 وجاء دروس البينات بفترة

 ويكفيك نقضا أن ما قد سألته

 من العذر مردود لدى كل فطرة

 فأنت تعيب الطاعنين جميعهم

 عليك، وترميهم بكل مذمة

 وتنحل من والاك صفو مودة

 وتبغض من ناواك من كل فرقة

 ذوحالهم في كل قول وفعلة

 كحالك يا هذا بأرجح حجة

 وهبك كففت اللوم عن كل كافر

 وكل غوي خارج عن محبة

 فيلزمك الإعراض عن كل ظالم

 على الناس في نفس، ومال، وحرمة

ص -248-

 ولا تغضبن يوما على سافك دما

 ولا سارق مالا لصاحب فاقة

 ولا شاتم عرضا مصونا، وإن علا

 ولا ناكح فرجا على وجه غية

 ولا قاطع للناس نهج سبيلهم

 ولا مفسد في الأرض في كل وجهة

 ولا شاهد بالزور إفكا وفرية

 ولا قاذف للمحصنات بزنية

 ولا مهلك للحرث والنسل عامدا

 ولا حاكم للعالمين برشوة

 وكف لسان اللوم عن كل مفسد

 ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة

 وسهل سبيل الكاذبين تعمدا

 على ربهم، من كل جاء بفرية

 وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم

 بروم فساد النوع، ثم الرياسة

 وجادل عن الملعون، فرعون، إذ طغى

 فأغرق في اليم انتقاما بغضبة

 وكل كفور مشرك بإلهه

 وآخر طاغ كافر بنبوة

 كعاد، ونمروذ، وقوم لصالح

 وقوم لنوح، ثم أصحاب الأيكة

 وخاصم لموسى، ثم سائر من أتى

 من الأنبياء محييا للشريعة

 على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا

 ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة

ص -249-

 وإلا فكل الخلق في كل لفظة

 ولحظة عين، أو تحرك شعرة

 وبطشة كف، أو تخطي قديمة

 وكل حراك، بل وكل سكينة

 همو تحت أقدار الإله وحكمه

 كما أنت فيما قد أتيت بحجة

 وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل

 فعال ردى، طردا لهذي المقيسة

 فهل يمكن رفع الملام جميعه

  عن الناس طرا عند كل قبيحة

 وترك عقوبات الذين قد اعتدوا

 وترك الورى الإنصاف بين الرعية

 فلا تضمنن نفس ومال بمثله

 ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة

 وهل في عقول الناس، أو في طباعهم

 قبول لقول النذل‏:‏ ما وجه حيلتي ‏؟‏

 ويكفيك نقضا‏:‏ ما بجسم ابن آدم

 صبي، ومجنون، وكل بهيمة

 من الألم المقضي في غير حيلة

 وفيما يشاء الله أكمل حكمة

 إذا كان في هذا له حكمة، فما

 يظن بخلق الفعل، ثم العقوبة

 وكيف، ومن هذا عذاب مولد

 عن الفعل، فعل العبد عند الطبيعة

 كآكل سم، أوجب الموت أكله

 وكل بتقدير لرب البرية

ص -250-

 فكفرك يا هذا؛ كسم أكلته

 وتعذيب نار‏.‏ مثل جرعة غصة

 ألست ترى في هذه الدار من جنى

 يعاقب‏.‏ إما بالقضا‏.‏ أو بشرعة

 ولا عذر للجاني بتقدير خالق

 كذلك في الأخرى بلا مثنوية

 وتقدير رب الخلق للذنب موجب

 لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة

 وما كان من جنس المتاب لرفعه

 عواقب أفعال العباد الخبيثة

 كخير به تمحى الذنوب‏.‏ ودعوة

 تجاب من الجاني‏.‏ ورب شفاعة

 وقول حليف الشر‏:‏ إني مقدر

 علي‏.‏ كقول الذئب‏:‏ هذي طبيعتي

  وتقديره للفعل يجلب نقمة

كتقديره الأشياء طرا بعلة

 فهل ينفعن عذر الملوم‏.‏ بأنه

 كذا طبعه‏.‏ أم هل يقال لعثرة

 أم الذم والتعذيب أوكد للذي طبيعته

 فعل الشرور الشنيعة

 فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى

 ينجيك من نار الإله العظيمة

ص -251-

 فدونك رب الخلق، فاقصده ضارعا

 مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة

 وذلل قياد النفس للحق، واسمعن

 ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة

 وما بان من حق فلا تتركنه

 ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة

 ودع دين ذا العادات، لا تتبعنه

 وعج عن سبيل الأمة الغضبية

 ومن ضل عن حق فلا تقفونه

 وزن ما عليه الناس بالمعدلية

 هنالك تبدو طالعات من الهدى

 تبشر من قد جاء بالحنيفية

 بملة إبراهيم‏.‏ ذاك إمامنا

 ودين رسول الله خير البرية

 فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي

 به جاءت الرسل الكرام السجية

 وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي

 حوى كل خير في عموم الرسالة

 وأخبر عن رب العباد بأن من

 غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة

 فهذي دلالات العباد لحائر

 وأما هداه فهو فعل الربوبية

 وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من

 غدا عنه، بل يجري بلا وجه حجة

ص -252-

 وحجة محتج بتقدير ربه

 تزيد عذابا، كاحتجاج مريضة

 وأما رضانا بالقضاء فإنما

 أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة

 كسقم، وفقر، ثم ذل، وغربة

 وما كان من مؤذ، بدون جريمة

 فأما الأفاعيل التي كرهت لنا

 فلا ترتضى، مسخوطة لمشيئة

 وقد قال قوم من أولي العلم‏:‏ لا رضا

 بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة

 وقال فريق‏:‏ نرتضي بقضائه

 ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة

 وقال فريق نرتضي بإضافة

 إليه‏.‏ وما فينا فنلقي بسخطة

 كما أنها للرب خلق، وأنها

 لمخلوقه، ليست كفعل الغريزة

 فنرضى من الوجه الذي هو خلقه

 ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة

 ومعصية العبد المكلف تركه

 لما أمر المولى، وإن بمشيئة

 فإن إله الخلق حق مقاله

 بأن العباد في جحيم وجنة

 كما أنهم في هذه الدار هكذا

 بل البهم في الآلام أيضا ونعمة

 وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت

 من الفروق بعلم ثم أيد ورحمة

 يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي

 يقدره نحو العذاب بعزة

ص -253-

 ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم

 بأعمال صدق، في رجاء وخشية

 وأمر إله الخلق بين ما به

 يسوق أولي التنعيم نحو السعادة

 فمن كان من أهل السعادة أثرت

 أوامره فيه بتيسير صنعة

 ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل

 بأمر ولا نهي بتقدير شقوة

 ولا مخرج للعبد عما به قضي

 ولكنه مختار حسن وسوأة

 فليس بمجبور عديم الإرادة

 ولكنه شاء بخلق الإرادة

 ومن أعجب الأشياء‏:‏ خلق مشيئة

 بها صار مختار الهدى بالضلالة

 فقولك‏:‏ هل اختار تركا لحكمة

 كقولك‏:‏ هل اختار ترك المشيئة

 وأختار أن لا اختار فعل ضلالة

 ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة

 وذا ممكن، لكنه متوقف

 على ما يشاء الله من ذي المشيئة

ص -254-

فدونك فافهم ما به قد أجبت من

 معان إذا انحلت بفهم غريزة

 أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى

 ولله رب الخلق أكمل مدحة

 وصلى إله الخلق جل جلاله

 على المصطفى المختار خير البرية

ص -255-

قال شيخ الإسلام
فصل
قد ذكرت في غير موضع أن القدرية ثلاثة أصناف ‏:‏
قدرية مشركية وقدرية مجوسية وقدرية إبليسية‏.‏ فأما الأولون فهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، وقالوا‏:‏ ‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، إلى آخر الكلام في سورة الأنعام‏.‏ ‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏، في سورة النحل وفي سورة الزخرف ‏{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏‏.‏ فهؤلاء يئول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق وأنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهو الذي يبتلي به كثيرا - إما اعتقادا وإما حالا - طوائف من الصوفية والفقراء حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات وإسقاط الواجبات ورفع

 

ص -256-

العقوبات وإن كان ذلك لا يستتب لهم وإنما يفعلونه عند موافقة أهوائهم كفعل المشركين من العرب ثم إذا خولف هوى أحد منهم قام في دفع ذلك متعديا للحدود غير واقف عند حد كما كانت تفعل المشركون أيضا‏.‏ إذ هذه الطريقة تتناقض عند تعارض إرادات البشر‏.‏ فهذا يريد أمرا والآخر يريد ضده، وكل من الإرادتين مقدرة فلا بد من ترجيح إحداهما أو غيرهما أو كل منهما من وجه وإلا لزم الفساد‏.‏ وقد يغلو أصحاب هذا الطريق حتى يجعلوا عين الموجودات هي الله كما قد ذكر في غير هذا الموضع‏.‏ ويتمسكون بموافقة الإرادة القدرية في السيئات الواقعة منهم ومن غيرهم كقول الحريري‏:‏ أنا كافر برب يعصى، وقول بعض أصحابه لما دعاه مكاس فقيل له هو مكاس فقال‏:‏ إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة وقول ابن إسرائيل‏:‏

 أصبحت منفعلا لما يختاره

 مني ففعلي كله طاعات

وقد يسمون هذا حقيقة باعتبار أنه حقيقة الربوبية، والحقيقة الموجودة الكائنة أو الحقيقة الخبرية ولما كان في هؤلاء شوب من النصارى والنصارى فيهم شوب من الشرك تابعوا المشركين في ما كانوا عليه من التمسك بالقدر المخالف للشرع‏.‏ هذا مع أنهم يعبدون غير الله الذي قدر الكائنات كما أن هؤلاء فيهم شوب من ذلك

 

ص -257-

وإذا اتسع زنادقتهم الذين هم رؤساؤهم قالوا‏:‏ ما نعبد إلا الله إذ لا موجود غيره‏.‏ وقال رئيس لهم إنما كفر النصارى لأنهم خصصوا فيشرعون عبادة كل موجود بهذا الاعتبار ويقررون ما كان عليه المشركون من عبادة الأوثان والأحجار؛ لكنهم يستقصرونهم حيث خصصوا العبادة ببعض المظاهر والأعيان‏.‏ ومعلوم أن هذا حاصل في جميع المشركين؛ فإنهم متفننون في الآلهة التي يعبدونها وإن اشتركوا في الشرك؛ هذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد اللات، وهذا يعبد العزى وهذا يعبد مناة الثالثة الأخرى، فكل منهم يتخذ إلهه هواه ويعبد ما يستحسن، وكذلك في عبادة قبور البشر كل يعلق على تمثال من أحسن به الظن‏.‏ والقدرية الثانية المجوسية‏:‏ الذين يجعلون لله شركاء في خلقه كما جعل الأولون لله شركاء في عبادته‏.‏ فيقولون‏:‏ خالق الخير، غير خالق الشر، ويقول من كان منهم في ملتنا‏:‏ إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وربما قالوا‏:‏ ولا يعلمها أيضا ويقولون‏:‏ إن جميع أفعال الحيوان واقع بغير قدرته ولا صنعه فيجحدون مشيئته النافذة وقدرته الشاملة؛ ولهذا قال ابن عباس‏:‏ القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده‏.‏ ويزعمون أن هذا هو العدل ويضمون إلى ذلك سلب الصفات، ويسمونه التوحيد كما يسمي الأولون التلحيد التوحيد فيلحد كل منهما في أسماء الله وصفاته وهذا يقع كثيرا إما اعتقادا وإما

 

ص -258-

حالا في كثير من المتفقهة والمتكلمة‏.‏ كما وقع اعتقاد ذلك في المعتزلة، والشيعة المتأخرين وابتلي ببعض ذلك طوائف من المتقدمين من البصريين والشاميين وقد يبتلى به حالا لا اعتقادا بعض من يغلب عليه تعظيم الأمر والنهي من غير ملاحظة للقضاء والقدر‏.‏ ولما بين الطائفتين من التنافي تجد المعتزلة أبعد الناس عن الصوفية ويميلون إلى اليهود وينفرون عن النصارى ويجعلون إثبات الصفات هو قول النصارى بالأقانيم ولهذا تجدهم يذمون النصارى أكثر كما يفعل الجاحظ وغيره كما أن الأولين يميلون إلى النصارى أكثر‏.‏ ولهذا كان هؤلاء في الحروف والكلام المبتدع كما كان الأولون في الأصوات والعمل المبتدع كما اقتسم ذلك اليهود والنصارى؛ واليهود غالبهم قدرية بهذا الاعتبار؛ فإنهم أصحاب شريعة وهم معرضون عن الحقيقة القدرية‏.‏ ولهذا تجد أرباب الحروف والكلام المبتدع كالمعتزلة يوجبون طريقتهم ويحرمون ما سواها ويعتقدون أن العقوبة الشديدة لاحقة من خالفها حتى إنهم يقولون‏:‏ بتخليد فساق أهل الملل ويكفرون من خرج عنهم من فرق الأمة وهذا التشديد والآصار والأغلال شبه دين اليهود‏.‏ وتجد أرباب الصوت والعمل المبتدع لا يوجبون ولا يحرمون؛ وإنما يستحبون ويكرهون فيعظمون طريقهم ويفضلونه ويرغبون فيه حتى يرفعوه

 

ص -259-

فوق قدره بدرجات‏.‏ فطريقهم رغبة بلا رهبة إلا قليلا كما أن الأول رهبة في الغالب برغبة يسيرة وهذا يشبه ما عليه النصارى من الغلو في العبادات التي يفعلونها مع انحلالهم من الإيجاب والاستحباب لكنهم يتعبدون بعبادات كثيرة ويبقون أزمانا كثيرة على سبيل الاستحباب‏.‏ والفلاسفة يغلب عليهم هذا الطريق كما أن المتكلمين يغلب عليهم الطريق الأول‏.‏
والقسم الثالث‏:‏ القدرية الإبليسية الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران‏.‏ لكن عندهم هذا تناقض وهم خصماء الله كما جاء في الحديث‏.‏ وهؤلاء كثير في أهل الأقوال والأفعال من سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة كقول أبي العلاء المعري‏.‏ أنهيت عن قتل النفوس تعمدا وزعمت أن لها معادا آتيا ما كان أغناها عن الحالين‏.‏ وقول بعض السفهاء الزنادقة‏:‏ يخلق نجوما ويخلق بينها أقمارا‏.‏ يقول يا قوم غضوا عنهم الأبصار‏.‏ ترمي النسوان وتزعق معشر الحضار‏.‏ اطفوا الحريق وبيدك قد رميت النار‏.‏ ونحو ذلك مما يوجب كفر صاحبه وقتله‏.‏

 

ص -260-

فتدبر كيف كانت الملل الصحيحة الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون ليس فيها في الأصل قدرية؛ وإنما حدثت القدرية من الملتين الباطلتين‏:‏ المجوس والذين أشركوا‏.‏ لكن النصارى ومن ضارعهم مالوا إلى الصابئة واليهود ومن ضارعهم ‏.

 

ص -261-

سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام بقية السلف أبو العباس أحمد بن تيمية  رحمه الله تعالى  عن أقوام يحتجون بسابق القدر، ويقولون‏:‏ إنه قد مضي الأمر، والشقي شقي، والسعيد سعيد، محتجين بقول الله سبحانه‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏101‏]‏ قائلين‏:‏ بأن الله قدر الخير والشر، والزنا مكتوب علينا، ومالنا في الأفعال قدرة، وإنما القدرة لله، ونحن نتوقي ما كتب لنا،وأن آدم ما عصى، وأن من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق‏"‏ فبينوا لنا فساد قول هذه الطائفة بالبراهين القاطعة‏؟‏
فأجاب  رحمه الله تعالى‏:‏
الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، لكن حرفوا وبدلوا وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏.‏ أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏.‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏} ‏[‏النساء‏:‏150-152‏]‏،

 

ص -262-

فإذا كان من آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر حقًا، فكيف بمن كفر بالجميع، ولم يقر بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده، بل ترك ذلك محتجًا بالقدر، فهو أكفر ممن آمن ببعض وكفر ببعض‏.‏
وقول هؤلاء يظهر بطلانه من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد، وإما ألا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد، فهو حجة لجميع الناس، فإنهم كلهم مشتركون في القدر، وحينئذ فيلزم ألا ينكر على من يظلمه ويشتمه ويأخذ ماله ويفسد حريمه ويضرب عنقه ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعهم كذابون متناقضون، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات وترك الواجبات؛ لزمهم ألا يذموا أحدًا، ولا يبغضوا أحدًا، ولا يقولوا في أحد‏:‏ إنه ظالم، ولو فعل ما فعل‏.‏ ومعلوم أن هذا لا يمكن أحدا فعله، ولو فعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل، كما أنه كفر في الشرع، وأنهم كذابون مفترون في قولهم‏:‏ إن القدر حجة للعبد‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون وقوم نوح/

 

ص -263-

وعاد وكل من أهلكه الله بذنوبه معذورًا، وهذا من الكفر الذي اتفق عليه أرباب الملل‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن هذا يلزم منه ألا يفرق بين أولياء الله وأعداء الله، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا أهل الجنة وأهل النار، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏.‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏.‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏.‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏19-22‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏ ‏.‏
وذلك أن هؤلاء جميعهم سبقت لهم عند الله السوابق، وكتب الله مقاديرهم قبل أن يخلقهم، وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد بالإيمان والعمل الصالح، وإلى شقي بالكفر والفسق والعصيان، فعلم بذلك أن القضاء والقدر ليس بحجة لأحد على معاصي الله ‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول، ولو كان الاحتجاج مقبولا ؛ لقبل من إبليس وغيره من العصاة، ولو كان القدر حجة للعباد؛ لم يعذب أحد من الخلق، لا في الدنيا ولا في الآخرة ولو كان القدر حجة لم تقطع يد

 

ص -264-

سارق، ولا قتل قاتل، ولا أقيم حد على ذي جريمة، ولا جوهد في سبيل الله ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا فإنه قال‏
:‏ ‏"‏ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار‏"‏ فقيل‏:‏ يارسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب قال‏:‏ ‏"‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏ رواه البخاري ومسلم، وفي حديث آخر في الصحيح أنه قيل‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون، أفيما جفت به الأقلام، وطويت به الصحف‏؟‏ أم فيما يستأنفون مما جاءهم به‏؟‏  أو كما قيل  فقال‏:‏ ‏"‏بل فيما جفت به الأقلام، وطويت به الصحف‏"‏، فقيل‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ إن الله علم الأمور وكتبها على ما هي عليه، فهو سبحانه قد كتب أن فلانًا يؤمن، ويعمل صالحًا فيدخل الجنة، وفلانا يعصى ويفسق فيدخل النار، كما علم وكتب أن فلانًا يتزوج امرأة ويطؤها فيأتيه ولد، وأن فلانًا يأكل ويشرب فيشبع ويروى، وأن فلانا يبذر البذر فينبت الزرع، فمن قال‏:‏ إن كنت من أهل الجنة فأنا أدخلها بلا عمل صالح، كان قوله قولاً باطلاً متناقضًا؛ لأنه علم أنه يدخل الجنة بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل، كان هذا مناقضًا لما علمه الله وقدره‏.‏

 

ص -265-

ومثال ذلك من يقول‏:‏ أنا لا أطأ امرأة، فإن كان قد قضى الله لي بولد فهو يولد، فهذا جاهل، فإن الله إذا قضى بالولد قضى أن أباه يطأ امرأة فتحبل فتلد، وأما الولد بلا حبل ولا وطء، فإن الله لم يقدره ولم يكتبه، كذلك الجنة إنما أعدها الله للمؤمنين، فمن ظن أنه يدخل الجنة بلا إيمان كان ظنه باطلاً، وإذا اعتقد أن الأعمال التي أمر الله بها لا يحتاج إليها، ولا فرق بين أن يعملها أو لا يعملها، كان كافراً، والله قد حرم الجنة على الكافرين، فهذا الاعتقاد يناقض الإيمان الذي لا يدخل صاحبه النار‏.‏
فصل
وأما قوله تعالى‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏، فمن سبقت له من الله الحسنى، فلابد أن يصير مؤمنا تقيًا، فمن لم يكن من المؤمنين لم يسبق له من الله حسنى، ولكن إذا سبقت للعبد من الله سابقة استعمله بالعمل الذي يصل به إلى تلك السابقة، كمن سبق له من الله أن يولد له ولد، فلابد أن يطأ امرأة يحبلها، فإن الله سبحانه قدر الأسباب والمسببات، فسبق منه هذا وهذا، فمن ظن أن أحدًا سبق له من الله حسنى بلا سبب فقد ضل، بل هو  سبحانه  ميسر الأسباب والمسببات، وهو قد قدر فيما مضى هذا وهذا‏.‏

 

ص -266-

فصل
وأما قول القائل‏:‏ ما لنا في جميع أفعالنا قدرة فقد كذب، فإن الله  سبحانه  فرق بين المستطيع القادر وغير المستطيع، فقال‏:‏ ‏
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏97‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏54‏]‏، والله قد أثبت للعبد مشيئة وفعلا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏28، 29‏]‏، وقال‏:‏‏{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17، الأحقاف‏:‏ 14، الواقعة‏:‏ 24‏]‏؛ لكن الله سبحانه خالقه وخالق كل ما فيه من قدرة ومشيئة وعمل، فإنه لا رب غيره، ولا إله سواه، وهو خالق كل وربه ومليكه‏.‏

 

ص -267-

فصل
وأما قول القائل‏:‏ الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا، فهو كلام صحيح، لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به، فإن الله كتب أفعال العباد خيرها وشرها، وكتب ما يصيرون إليه من الشقاوة والسعادة، وجعل الأعمال سببًا للثواب والعقاب، وكتب ذلك، كما كتب الأمراض وجعلها سببًا للموت، وكما كتب أكل السم وجعله سببًا للمرض والموت، فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت، والله قدر وكتب هذا وهذا، كذلك من فعل ما نهى عنه من الكفر والفسق والعصيان، فإنه يعمل ما كتب عليه، وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك‏.‏
وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي، من جنس حجة المشركين، الذين قال الله عنهم‏:‏
‏{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏.‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏[‏الأنعام‏:‏148، 149‏]‏‏.‏

 

ص -268-

فصل
ومن قال‏:‏ إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله قال‏:‏
‏{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏121‏]‏ والمعصية‏:‏ هي مخالفة الأمر الشرعي، فمن خالف أمر الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه فقد عصى، وإن كان داخلا فيما قدره الله وقضاه، وهؤلاء ظنوا أن المعصية هي الخروج عن قدر الله، وهذا لا يمكن، فإن أحدًا من المخلوقات لا يخرج عن قدر الله، فإن لم تكن المعصية إلا هذا، فلا يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وعاد وثمود وجميع الكفار عصاة أيضًا؛ لأنهم داخلون في قدر الله، ثم قائل هذا يضرب ويهان، وإذا تظلم ممن فعل هذا به قيل له‏:‏ هذا الذي فعل هذا ليس بعاص، فإنه داخل في قدر الله كسائر الخلق، وقائل هذا القول متناقض لا يثبت على حال‏.‏

 

ص -269-

فصل
وأما قول القائل‏:‏ من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة‏؟‏ واحتجاجه بالحديث المذكور‏.‏
فيقال له‏:‏ لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏.‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏29، 30‏]‏، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وبهذا، لا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فهؤلاء المشركون أرادوا أن يصدقوا بالوعد، ويكذبوا بالوعيد‏.‏
والحرورية والمعتزلة‏:‏ أرادوا أن يصدقوا بالوعيد دون الوعد، وكلاهما أخطأ، والذي عليه أهل السنة والجماعة، الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد بين  سبحانه  أنه بشروط‏:‏ بألا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وبألا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فإن الحسنات يذهبن

 

ص -270-

السيئات وبألا يشاء الله أن يغفر له ف ‏{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏48‏]‏، فهكذا الوعد له تفسير وبيان، فمن قال بلسانه‏:‏ لا إله إلا الله، وكذب الرسول، فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئًا مما أنزل الله‏.‏
فلابد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول، ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدًا، كان في النار، فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة، ومن كان له حسنات وسيئات، فإن الله لا يظلمه، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، والله  تعالى  قد يتفضل عليه، ويحسن إليه بمغفرته ورحمته‏.‏
ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار، فالزاني والسارق لا يخلد في النار، بل لابد أن يدخل الجنة، فإن النار يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهؤلاء المسؤول عنهم يسمون‏:‏ القدرية المباحية المشركين، وقد جاء في ذمهم من الآثار ما يضيق عنه هذا المكان، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

 

ص -271-

سئل شيخ الإسلام  قدس الله روحه  عن قوم قد خصوا بالسعادة، وقوم قد خصوا بالشقاوة، والسعيد لا يشقى والشقي لا يسعد، وفي الأعمال لا تراد لذاتها، بل لجلب السعادة، ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال، فلا وجه لإتعاب النفس في عمل، ولا كفها عن ملذوذ، فإن المكتوب في القدم واقع لا محالة بينوا ذلك‏؟‏
فأجاب  رحمه الله‏:‏
الحمد لله، هذه المسألة قد أجاب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين قال‏:‏ قيل‏:‏ يارسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار‏؟‏ قال‏:‏‏"‏ نعم‏"‏ قيل‏:‏ ففيم يعمل العاملون‏؟‏ قال‏:
‏ ‏"‏كل ميسر لما خلق له‏"‏، وفي رواية البخاري‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له ‏.‏ رواه مسلم في صحيحه عن أبي الأسود الدؤلي قال‏:‏ قال لي عمران بن حصين‏:‏ أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سابق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم‏؟‏ فقلت‏:‏ بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم قال‏:‏فقال‏:‏ أفلا يكون ذلك ظلمًا‏؟‏ قال‏:‏ ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا، وقلت

 

ص -272-

كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال‏:‏ يرحمك الله ‏!‏ إني لم أرد بما سألتك إلا لأجود عقلك، إن رجلين من مُزَيْنَة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏:‏ يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر سابق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا، بل شيء قضى عليهم، ومضي فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله‏:‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏.‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7، 8‏]‏‏"‏‏.‏
وروى مسلم في صحيحه عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ جاء سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم فقال‏:‏ يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم‏؟‏ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير‏؟‏ أم فيما يستقبل ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير‏"‏، قال‏:‏ ففيم العمل ‏؟‏ قال زهير‏:‏ ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألت‏:‏ عما قال ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏اعملوا فكل ميسر‏"‏، وفي لفظ آخر‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏كل عامل ميسر بعمله‏"‏‏.‏
وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب  رضى الله عنه  قال‏:‏ كنا في جنازة في بقيع الغرقد ‏.‏فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال‏:‏ ‏"‏ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة‏"‏، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، من كان

 

ص -273-

من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال‏:‏ ‏"‏اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة،وأما أهل الشقاوة فسييسرون إلى عمل أهل الشقاوة‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏.‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏.‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏.‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏.‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏.‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏510‏]‏، وفي رواية البخاري‏:‏ ‏"‏أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل‏؟‏ فمن كان منا من أهل السعادة سيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة سيصير إلى عمل أهل الشقاوة، وقال‏:‏ أما عمل أهل السعادة‏"‏ الحديث ‏.‏
وفي رواية في الصحيحين عن علي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال‏:‏
‏"‏ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار‏"‏، فقالوا يا رسول الله ‏!‏ فلم نعمل، أولا نتكل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ‏!‏ اعملوا، فكل ميسر لما خلق له‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏.‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏.‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏.‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏.‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏.‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏‏.‏
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث وغيرها بما دل عليه القرآن  أيضًا  من أن الله  سبحانه  وتعالى تقدم علمه وكتابه وقضاؤه بما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاوة، كما تقدم علمه وكتابه بغير ذلك من أحوال العباد وغيرهم، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو الصادق المصدوق ‏:‏ ‏"‏إن أحدكم يجمع خلقه في

 

ص -274-

بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا بأربع كلمات‏:‏ فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره‏!‏ إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏"‏، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ورفع الحديث قال‏:‏ ‏"‏إن الله وكل بالرحم ملكًا فيقول‏:‏ أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقه قال الملك‏:‏ أي رب، ذكر أو أنثى‏؟‏ شقي أو سعيد‏؟‏ فما الرزق ‏؟‏ فما الأجل‏؟‏ فيكتب ذلك في بطن أمه‏"‏‏.‏
وهذا المعنى في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أيضًا‏.‏
والنصوص والآثار في تقدم علم الله وكتابته وقضائه وتقديره الأشياء قبل خلقها، وأنواعها كثيرة جدًا‏.‏
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا ينافى وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة، وإن من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة، وقد نهى أن يتكل الإنسان على القدر السابق ويدع العمل؛ ولهذا كان من اتكل

 

ص -275-

على القدر السابق وترك ما أمر به من الأعمال هو من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وكان تركهم لما يجب عليهم من العمل من جملة المقدور الذي يسروا به لعمل أهل الشقاوة، فإن أهل السعادة هم الذين يفعلون المأمور ويتركون المحظور، فمن ترك العمل الواجب الذي أمر به وفعل المحظور متكلاً على القدر، كان من جملة أهل الشقاوة الميسرين لعمل أهل الشقاوة‏.‏
وهذا الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية السداد والاستقامة، وهو نظير ما أجاب به في الحديث الذي رواه الترمذي أنه قيل‏:‏ يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها‏؟‏ ورقى نسترقي بها ‏؟‏ وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏
‏"‏هي من قدر الله‏"‏؛ وذلك لأن الله  سبحانه وتعالى  هو يعلم الأشياء على ما هي عليه وكذلك يكتبها، فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك، لم يجز أن يظن أن تلك الأمور تكون بدون الأسباب التي جعلها الله أسبابًا، وهذا عام في جميع الحوادث‏.‏
مثال ذلك‏:‏ إذا علم الله وكتب أنه سيولد لهذين ولد، وجعل الله سبحانه ذلك معلقا باجتماع الأبوين على النكاح وإنزال الماء المهين الذي ينعقد منه الولد، فلا يجوز أن يكون وجود الولد بدون السبب الذي علق به وجود الولد، والأسباب وإن كانت نوعين معتادة، وغريبة‏.‏

 

ص -276-

فالمعتادة‏:‏ كولادة الآدمي من أبوين، والغريبة‏:‏ كولادة الإنسان من أم فقط كما ولد عيسى، أو من أب فقط كما ولدت حواء، أو من غير أبوين كما خلق آدم أبو البشر من طين‏.‏
فجميع الأسباب قد تقدم علم الله بها وكتابته لها، وتقديره إياها، وقضاؤه بها، كما تقدم ربط ذلك بالمسببات، كذلك أيضًا الأسباب التي بها يخلق النبات من إنزال المطر وغيره من هذا الباب، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏164‏]‏، وقال‏:‏‏{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏57‏]‏، وقال‏:‏‏{وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏30‏]‏ وأمثال ذلك، فجميع ذلك مقدر معلوم، مقضى مكتوب قبل تكوينه، فمن ظن أن الشيء إذا علم وكتب أنه يكفي ذلك في وجوده ولا يحتاج إلى مابه يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب، فهو جاهل ضال ضلالاً مبينًا؛ من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ من جهة كونه جعل العلم جهلا، فإن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب؛ لأن ذلك هو الواقع، فمن قال‏:‏ إنه يعلم شيئًا بدون الأسباب، فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة من قال‏:‏ إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين، وأن هذا النبات نبت بلا ماء، فإن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء، فكما أن من أخبر عن الماضي بعلم الله بوقوعه بدون الأسباب يكون مبطلاً، فكذلك من أخبر عن المستقبل كقول القائل‏:‏ إن الله علم أنه خلق آدم من غير طين، وعلم

 

ص -277-

أنه يتناسل الناس من غير تناكح، وأنه أنبت الزروع من غير ماء ولا تراب فهو باطل ظاهر بطلانه لكل أحد، وكذلك إخباره عن المستقبل‏.‏
وكذلك الأعمال هي سبب في الثواب والعقاب، فلو قال قائل‏:‏ إن الله أخرج آدم من الجنة بلا ذنب، وإنه قدر ذلك، أو قال‏:‏ إنه غفر لآدم بلا توبة، وإنه علم ذلك، كان هذا كذبًا وبهتانًا بخلاف ما إذا قال‏:‏ ‏
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏37‏]‏، ‏{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏121‏]‏،فإنه يكون صادقًا في ذلك، والله سبحانه علم ما يكون من آدم قبل أن يكون وهو عالم به بعد أن كان‏.‏
وكذلك كل ما أخبر به من قصص الأنبياء، فإنه علم أنه أهلك قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ولوط ومدين وغيرهم بذنوبهم، وأنه نجى الأنبياء ومن اتبعهم بإيمانهم وتقواهم، كما قال‏:
‏ ‏{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏65‏]‏، وقال‏:‏‏{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا‏}‏الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏ 40‏]‏، وقال‏:‏‏{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏146‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏21‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏‏{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏.‏ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏52، 53‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏102‏]‏،

 

ص -278-

وقال‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏، وقال‏:‏ ‏{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏3‏]‏ وقال‏:‏‏{إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏.‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏34، 35‏]‏، وقال‏:‏ ‏{كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏137‏]‏ وأمثال ذلك في القرآن كثير‏.‏
وكذلك خبره عما يكون من السعادة والشقاوة بالأعمال كقوله‏:
‏ ‏{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏24‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏72‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏21‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 111‏]‏ وقوله‏{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا‏}‏ الآيات ‏[‏الإنسان‏:‏12‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 36‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏.‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏.‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏.‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين َ‏.‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين ِ‏.‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏.‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏42-48‏]‏، وأمثال هذا في القرآن كثير جدًا‏.‏
بين  سبحانه  فيما يذكره من سعادة الآخرة، وشقاوتها‏:‏ أن ذلك كان بالأعمال المأمور بها والمنهي عنها، كما يذكر نحو ذلك فيما يقضيه من العقوبات والمثوبات في الدنيا أيضًا‏.‏

 

ص -279-

والوجه الثاني‏:‏ أن العلم بأن الشيء سيكون والخبر عنه بذلك وكتابة ذلك لا يوجب استغناء ذلك عما به يكون من الأسباب التي لا يتم إلا بها؛ كالفاعل وقدرته ومشيئته، فإن اعتقاد هذا غاية في الجهل، إذ هذا العلم ليس موجبًا بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء، بل هو مطابق له على ما هو عليه لا يكسبه صفة ولا يكتسب منه صفة بمنزلة علمنا بالأمور التي قبلنا كالموجودات التي كانت قبل وجودنا؛ مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته، فإن هذا العلم ليس مؤثرًا في وجود المعلوم باتفاق العلماء، وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل ويعرفنا صفته وقدره، فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم؛ إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم، وهذا التفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علم فعلى له تأثير في المعلوم، وعلم انفعالي لا تأثير له في وجود المعلوم، هو فصل الخطاب في العلم‏.‏
فإن من الناس من يقول‏:‏ العلم‏:‏ صفة انفعالية لا تأثير له في المعلوم، كما يقوله طوائف من أهل الكلام، ومنهم من يقول‏:‏ بل هو صفة فعلية له تأثير في المعلوم، كما يقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام‏.‏
والصواب أنه نوعان، كما بيناه، وهكذا علم الرب  تبارك وتعالى  فإن علمه بنفسه  سبحانه  لا تأثير له في وجود المعلوم، وأما علمه بمخلوقاته التي خلقها بمشيئته وإرادته مما له تأثير في وجود معلوماته،والقول في

 

ص -280-

الكلام والكتاب كالقول في العلم، فإنه  سبحانه وتعالى  إذا خلق الشيء خلقه بعلمه وقدرته ومشيئته، ولذلك كان الخلق مستلزمًا للعلم ودليلاً عليه،كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏14‏]‏، وأما إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون فعلمه وخبره حينئذ ليس هو المؤثر في وجوده لعلمه وخبره به بعد وجوده لثلاثة أوجه‏:‏  أحدها‏:‏ أن العلم والخبر عن المستقبل كالعلم والخبر عن الماضي‏.‏
الثاني‏:‏ أن العلم المؤثر هو المستلزم للإرادة المستلزمة للخلق ليس هو ما يستلزم الخبر، وقد بينا الفرق بين العلم العملي والعلم الخبري‏.‏
الثالث‏:‏ أنه لو قدر أن العلم والخبر بما سيكون له تأثير في وجود المعلوم المخبر به فلا ريب أنه لا بد مع ذلك من القدرة والمشيئة، فلا يكون مجرد العلم موجبًا له بدون القدرة والإرادة، فتبين أن العلم والخبر والكتاب لا يوجب الاكتفاء بذلك عن الفاعل القادر المريد، مما يدل على ذلك أن الله  سبحانه وتعالى  يعلم ويخبر بما سيكون من مفعولات الرب، كما يعلم أنه سيقيم القيامة ويخبر بذلك، ومع ذلك، فمعلوم أن هذا العلم والخبر لا يوجب وقوع المعلوم المخبر به بدون الأسباب التي جعلها الله أسبابًا له‏.‏
إذا تبين ذلك فقول السائل‏:‏ السعيد لا يشقى، والشقي لا يسعد

 

ص -281-

كلام صحيح، أي من قدر الله أن يكون سعيدًا يكون سعيدا، لكن بالأعمال التي جعله يسعد بها، والشقي لا يكون شقيًا إلا بالأعمال التي جعله يشقى بها، التي من جملتها الاتكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة‏.‏
وأما قوله‏:‏ والأعمال لا تراد لذاتها بل لجلب السعادة ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال، فيقال له‏:‏ السابق نفس السعادة والشقاوة، أو تقدير السعادة والشقاوة علما وقضاء وكتابًا، هذا موضع يشتبه ويغلط فيه كثير من الناس حيث لا يميزون بين ثبوت الشيء في العلم والتقدير، وبين ثبوته في الوجود والتحقيق‏.‏
فإن الأول هو العلم به والخبر عنه، وكتابته، وليس شيء من ذلك داخلاً في ذاته ولا في صفاته القائمة به‏.‏
ولهذا يغلط كثير من الناس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ميسرة قال‏:‏ قلت‏:‏ يارسول الله، متى كنت نبيًا‏؟‏ وفي رواية‏:‏ متى كتبت نبيًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وآدم بين الروح والجسد‏"‏‏.‏ فيظنون أن ذاته ونبوته وجدت حينئذ، وهذا جهل، فإن الله إنما نبأه على رأس أربعين من عمره، وقد قال له‏:‏ ‏
{بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏ وقال‏:‏ ‏{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏7‏]‏ وفي الصحيحين‏:‏ أن الملك قال له  حين جاءه ‏:‏ اقرأ فقال‏:‏ ‏"‏لست بقارئ‏"‏ ثلاث مرات‏.‏

 

ص -282-

ومن قال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبيًا قبل أن يوحى إليه، فهو كافر باتفاق المسلمين، وإنما المعنى أن الله كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم، وقبل نفخ الروح فيه، كما أخبر أنه يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه، كما في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إني عبد الله وخاتم النبيين‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏إني عبد الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك‏:‏ دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏"‏‏.‏
وكثير من الجهال المصنفين وغيرهم يرويه‏:‏ ‏"‏كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين‏"‏، ‏"‏وآدم لا ماء ولا طين‏"‏ ويجعلون ذلك وجوده بعينه، وآدم لم يكن بين الماء والطين، بل الماء بعض الطين لا مقابله‏.‏
وإذا كان كذلك، فإن قال‏:‏ السابق نفس السعادة والشقاوة، فقد كذب، فإن السعادة إنما تكون بعد وجود الشخص الذي هو السعيد، وكذلك الشقاوة لا تكون إلا بعد وجود الشقي، كما أن العمل والرزق لا يكون إلا بعد وجود العامل ولا يصير رزقًا إلا بعد وجود المرتزق، وإنما السابق هو العلم بذلك وتقديره لا نفسه وعينه، وإذا كان كذلك فالعمل  أيضًا  سابق كسبق السعادة والشقاوة، وكلاهما معلوم مقدر، وهما

 

ص -283-

متأخران في الوجود، والله سبحانه علم وقدر أن هذا يعمل كذا فيسعد به، وهذا يعمل كذا فيشقى به، وهو يعلم أن هذا العمل الصالح يجلب السعادة، كما يعلم سائر الأسباب والمسببات، كما يعلم أن هذا يأكل السم فيموت، وأن هذا يأكل الطعام فيشبع، ويشرب الشراب فيروى، وظهر فساد قول السائل‏:‏ فلا وجه لإتعاب النفس في عمل، ولا لكفها عن ملذوذات، والمكتوب في القدم واقع لا محالة‏.‏
وذلك أن المكتوب في القدم هو سعادة السعيد لما يسر له من العمل الصالح، وشقاوة الشقي لما يسر له من العمل السيئ، ليس المكتوب أحدهما دون الآخر، فما أمر به العبد من عمل فيه تعب أو امتناع عن شهوة هو من الأسباب التي تنال بها السعادة، والمقدر المكتوب هو السعادة والعمل الذي به ينال السعادة، وإذا ترك العبد ما أمر به متكلاً على الكتاب، كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقيًا، وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول‏:‏ أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قضى بالشبع والري حصل، وإلا لم يحصل، أو يقول‏:‏ لا أجامع امرأتي، فإن كان الله قضي لي بولد فإنه يكون‏.‏
وكذلك من غلط فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظانًا أن ذلك من مقامات الخاصة ناظرًا إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"
‏المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن

 

ص -284-

بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏‏.‏
فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء ألا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك وكما قال بعض العقلاء‏:‏ الأمور أمران‏:‏ أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه‏.‏
وفي سنن أبي داود أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏"‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيَّ‏"‏ ‏.‏ رواه ابن ماجه والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏
وعن شدّاد بن أوس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏الكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل‏.‏ ومن الناس من يصحفه فيقول‏:‏ الفاجر، وإنما هو العاجز

 

ص -285-

في مقابلة الكيس، كما في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏كل شيء بقدر حتى العجز والكيس‏"‏‏.
وهنا سؤال يعرض لكثير من الناس وهو‏:‏ أنه إذا كان المكتوب واقعًا لا محالة فلو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير ‏؟‏ وهذا السؤال يقال في مسألة المقتول، يقال‏:‏ لو لم يقتل، هل كان يموت‏؟‏ ونحو ذلك‏.‏
فيقال‏:‏ هذا لو لم يعمل عملاً صالحًا لما كان سعيدا، ولو لم يعمل عملا سيئًا لما كان شقيًا، وهذا كما يقال‏:‏ إن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف كان يكون، فإن هذا من باب العلم والخبر بما لا يكون لو كان كيف يكون، كقوله‏:
‏ ‏{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا‏}‏ ‏[‏ التوبة‏:‏47‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏23‏]‏، وأمثال ذلك، كما روى أنه يقال للعبد في قبره حين يفتح له باب إلى الجنة وإلى النار، ويقال‏:‏ هذا منزلك، ولو عملت كذا وكذا أبدلك الله به منزلاً آخر‏.‏
وكذلك يقال‏:‏ هذا لو لم يقتله هذا لم يمت بل كان يعيش إلا أن يقدر له سبب آخر يموت به، واللازم في هذه الجملة خلاف الواقع المعلوم والمقدور، والتقدير للممتنع قد يلزمه حكم ممتنع ولا محذور في ذلك‏.‏

 

ص -286-

ومما يشبه هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر فأخبر أصحابه بمصارع المشركين فقال‏:‏ ‏"‏هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلانَ‏"‏، ثم إنه دخل العريش، وجعل يجتهد في الدعاء، ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم انجز لي ما وعدتني‏"‏؛ وذلك لأن علمه بالنصر، لا يمنع أن يفعل السبب الذي به ينصر، وهو الاستغاثة بالله‏.‏
وقد غلط بعض الناس هنا وظن أن الدعاء الذي علم وقوع مضمونه كالدعاء الذي في آخر سورة البقرة لا يشرع إلا عبادة محضة، وهذا كقول بعضهم‏:‏ إن الدعاء ليس هو إلا عبادة محضة؛ لأن المقدور كائن دعا أو لم يدع‏.‏
فيقال له‏:‏ إذا كان الله قد جعل الدعاء سببًا لنيل المطلوب المقدر، فكيف يقع بدون الدعاء‏؟‏ وهو نظير قولهم‏:‏ أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب‏؟‏
ومما يوضح ذلك‏:‏ أن الله قد علم وكتب أنه يخلق الخلق ويرزقهم ويميتهم ويحييهم، فهل يجوز أن يظن أن تقدم العلم والكتاب مغن لهذه الكائنات عن خلقه وقدرته ومشيئته، فكذلك علم الله بما يكون من أفعال العباد، وأنهم يسعدون بها، ويشقون كما يعلم  مثلاً  أن الرجل يمرض أو يموت بأكله السم أو جرحه نفسه ونحو ذلك‏.‏

 

ص -287-

وهذا الذي ذكرناه مذهب سلف الأمة وأئمتها، وجمهور الطوائف من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم، وإنما نازع في ذلك غلاة القدرية، وظنوا أن تقدم العلم يمنع الأمر والنهي، وصاروا فريقين‏:‏
فريق أقروا بالأمر والنهي والثواب والعقاب، وأنكروا أن يتقدم بذلك قضاء وقدر وكتاب، وهؤلاء نبغوا في أواخر عصر الصحابة، فلما سمع الصحابة بدعهم تبرؤوا منهم كما تبرؤوا منهم، ورد عليهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع وغيرهم، وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم‏.‏
والفريق الثاني‏:‏ من يقر بتقدم علم الله وكتابه، لكن يزعم أن ذلك يغني عن الأمر والنهي والعمل، وأنه لا يحتاج إلى العمل، بل من قضى له بالسعادة دخل الجنة، بلا عمل أصلا، ومن قضى عليه بالشقاوة شقى بلا عمل، فهؤلاء ليسوا طائفة معدودة من طوائف أهل المقالات، وإنما يقوله كثير من جهال الناس، وهؤلاء أكفر من أولئك وأضل سبيلا، ومضمون قول هؤلاء‏:‏ تعطيل الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى بكثير، وهؤلاء هم الذين سأل السائل عن مقالتهم‏.‏
وأما جمهور القدرية، فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم، لكن ينكرون/

 

ص -288-

أن الله خلق أفعال العباد، وإرادة الكائنات، وتعارضهم القدرية المجبرة الذين يقولون‏:‏ ليس للعبد قدرة ولا إرادة حقيقية ولا هو فاعل حقيقة، وكل هؤلاء مبتدعة ضلال‏.‏
وشر من هؤلاء من يجعل خلق الأفعال وإرادة الله الكائنات مانعة من الأمر والنهي كالمشركين الذين قالوا‏:‏ ‏
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، ومضمون قولهم‏:‏ تعطيل جميع ما جاءت به الرسل كلهم من الأمر والنهي‏.‏
ثم قولهم متناقض، معلوم الفساد بالضرورة لا يمكن أن يحيى معه بنو آدم لاستلزامه فساد العباد، فإنه إذا لم يكن علي العباد أمر ونهي، كان لكل أحد أن يفعل ما يهواه، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏71‏]‏، فإذا قيل‏:‏ إنه يمكن كل أحد مما يهواه من قتل النفوس وفعل الفواحش وأخذ الأموال وغير ذلك؛ كان ذلك غاية الفساد ؛ ولهذا لا تعيش أمة من بني آدم إلا بنوع من الشريعة التي فيها أمر ونهي، ولو كانت بوضع بعض الملوك مع ما فيها من فساد من وجوه أخرى‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا الذي ذكرتموه يبين أن تقدم علم الله وكتابه بالسعادة والشقاوة وغير ذلك من الأمور لا يمنع توقف ذلك على الأعمال والأسباب التي

 

ص -289-

جعل الله بها تلك الأمور، وذلك يبين أن ذلك لا يمنع أن يكون العبد عاملا للعمل الصالح الذي به يسعده الله، وأن يكون قادرًا على ذلك مريدًا له، وإن كان ذلك كله بتيسير الله للعبد  وإن تنازع الناس في تسمية ذلك جبرًا  لكن هل يكون العبد قادرًا على غير الفعل الذي فعله، الذي سبق به العلم والكتاب‏؟‏ فهذا مما تنازع فيه الناس، كما تنازعوا في أن الاستطاعة هل يجب أن تكون مع الفعل أو يجب أن تتقدمه‏؟‏ فمن قال من أهل الإثبات‏:‏ إن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، يقول العبد‏:‏ لا يستطيع غير ما يفعله، وهو ما تقدم به العلم والكتاب، ومن قال‏:‏ إن الاستطاعة قد تتقدم الفعل، وقد توجد دون الفعل، فإنه يقول‏:‏ إنه يكون مستطيعًا لما لم يفعله، ولما علم وكتب أنه لا يفعله‏.‏
وفصل الخطاب‏:‏ أن الاستطاعة جاءت في كتاب الله على نوعين‏:‏
الاستطاعة المشترطة للفعل، وهي مناط الأمر والنهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏97‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏‏{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏الآية ‏[‏النساء‏:‏25‏]‏، ‏{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏"‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏‏.‏ فإن الاستطاعة في هذه النصوص لو كانت لا توجد إلا مع الفعل؛ لوجب ألا يجب الحج إلا على من حج، ولا يجب صيام شهرين إلا على من

 

ص -290-

صام، ولا القيام في الصلاة إلا على من قام، وكان المعنى‏:‏ على الذين يصومون الشهر طعام مسكين، والآية إنما أنزلت لما كانوا مخيرين بين الصيام والإطعام في شهر رمضان‏.‏
والاستطاعة التي يكون معها الفعل، قد يقال‏:‏ هي المقترنة بالفعل الموجبة له، وهي النوع الثاني، وقد ذكروا فيها قوله تعالى‏:‏ ‏
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏101‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏20‏]‏، ونحو ذلك قوله‏:‏ ‏{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏.‏ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏
فإن الاستطاعة المنفية هنا  سواء كان نفيها خبرًا أو ابتداء  ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي، فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحمد والذم، والثواب والعقاب، ومعلوم أن هؤلاء في هذه الحال مأمورون منهيون موعودون متوعدون، فعلم أن المنفية هنا ليست المشروطة في الأمر والنهي المذكورة في قوله‏:‏ ‏
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏‏.‏
لكن قد يقال‏:‏ الاستطاعة هنا كالاستطاعة المنفية في قول الخضر لموسى‏:‏ ‏
{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏67، 72، 75‏]‏، فإن هذه الاستطاعة المنفية، لو كان المراد بها مجرد المقارنة في الفاعل والتارك؛لم يكن فرق بين هؤلاء المذمومين وبين المؤمنين،

 

ص -291-

ولا بين الخضر وموسى، فإن كل أحد فعل أو لم يفعل لا تكون المقارنة موجودة قبل فعله، والقرآن يدل على أن هذه الاستطاعة إنما نفيت عن التارك لا عن الفاعل، فعلم أنها مضادة لما يقوم بالعبد من الموانع التي تصد قلبه عن إرادة الفعل وعمله، وبكل حال فهذه الاستطاعة منتفية في حق من كتب عليه أنه لا يفعل، بل وقضى عليه بذلك‏.‏
وإذا عرف هذا التقسيم، أن إطلاق القول‏:‏ بأن العبد لا يستطيع غير ما فعل، ولا يستطيع خلاف المعلوم المقدر، وإطلاق القول بأن استطاعة الفاعل والتارك سواء، وأن الفاعل لا يختص عن التارك باستطاعة خاصة عرف أن كلا الإطلاقين خطأ وبدعة‏.‏
ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور طوائف أهل الكلام على أن الله قادر على ما علم وأخبر أنه لا يكون، وعلى ما يمتنع صدوره عنه لعدم إرادته،لا لعدم قدرته عليه، وإنما خالف في ذلك طوائف من أهل الضلال من الجهمية والقدرية والمتفلسفة الصابئة الذين يزعمون انحصار المقدور في الموجود، ويحصرون قدرته فيما شاءه وعلم وجوده، دون ما أخبر أنه لا يكون كما رجحه النظام والأسواري، وكما يقوله من يزعم‏:‏ أنه ليس من المقدور غير هذا العالم،ولا في المقدور ما يمكن أن يهدي به الضال،وقد قال الله تعالى‏:‏
‏{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏.‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏3، 4‏]‏ مع أنه  سبحانه  لا يسوى بنانه،وقال تعالي‏:‏‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏‏.‏

 

ص -292-

وقد ثبت في الصحيح عن جابر‏:‏ أنه لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏، ‏{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏، ‏{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هاتان أهون‏"‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏31‏]‏‏.‏ ومن حكى من أهل الكلام عن أهل السنة والجماعة أنهم يقولون‏:‏ إن العبد ليس قادرًا على غير ما فعل الذي هو خلاف المعلوم، فإنه مخطئ فيما نقله عنهم من نفي القدرة مطلقًا، وهو مصيب فيما نقله عنهم من نفي القدرة التي اختص بها الفاعل دون التارك، وهذا من أصول نزاعهم في جواز تكليف ما لا يطاق‏.‏
فإن من يقول‏:‏ الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فالتارك لا استطاعة له بحال، يقول‏:‏ إن كل من عصى الله فقد كلفه الله مالا يطيقه، كما قد يقولون‏:‏ إن جميع العباد كلفوا مالا يطيقون، ومن يقول‏:‏ إن استطاعة الفعل هي استطاعة الترك، يقول‏:‏ إن العباد لم يكلفوا إلا بما هم مستوون في طاقته وقدرته واستطاعته،لا يختص الفاعل دون التارك باستطاعة خاصة، فإطلاق القول‏:‏ بأن العبد كلف بما لا يطيقه؛ كإطلاق القول‏:‏ بأنه مجبور على أفعاله،/

 

ص -293-

إذا سلب القدرة في المأمور نظير إثبات الجبر في المحظور، وإطلاق القول‏:‏ بأن العبد قادر مستطيع على خلاف معلوم الله ومقدوره‏.‏
وسلف الأمة وأئمتها ينكرون هذه الإطلاقات كلها، لا سيما كل واحد من طرفي النفي والإثبات على باطل، وإن كان فيه حق أيضًا، بل الواجب إطلاق العبارات الحسنة وهي المأثورة التي جاءت بها النصوص، والتفصيل في العبارات المجملة المشتبهة، وكذلك الواجب نظير ذلك في سائر أبواب أصول الدين أن يجعل ما يثبت بكلام الله  عز وجل  ورسوله وإجماع سلف الأمة هي النص المحكم، وتجعل العبارات المحدثة المتقابلة بالنفي والإثبات المشتملة في كل من الطرفين في حق وباطل من باب المجمل المشتبه المحتاج إلى تفصيل الممنوع من إطلاق طرفيه‏.‏
وقد كتبنا في غير هذا الموضع ما قاله الأوزاعي، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من الأئمة من كراهة إطلاق الجبر ومن منع إطلاق نفيه أيضًا‏.‏
وكذلك أيضًا القول بتكليف مالا يطاق، لم تطلق الأئمة فيه واحدًا من الطرفين‏.‏ قال أبو بكر عبد العزيز، صاحب الخلال في ‏[‏كتاب القدر‏]‏ الذي في مقدمة ‏[‏كتاب المقنع‏]‏ له، لم يبلغنا عن أبي عبد الله في هذه المسألة قول فنتبعه، والناس فيه قد اختلفوا، فقال قائلون‏:‏ بتكليف ما لا يطاق، ونفاه

 

ص -294-

آخرون ومنعوا منه، قال‏:‏ والذي عندنا فيه أن القرآن شهد بصحة ما إليه قصدناه، وهو أن الله  عز وجل  يتعبد خلقه بما يطيقون وما لا يطيقون‏.‏ ثم قال في آخر الفصل‏:‏ ولعل قائلاً أن يعارض قولنا فيقول‏:‏ لو جاز أن يكلف الله العبد مالا يطيق جاز أن يكلف الأعمى صنعة الألوان، والمقعد المشي، ومن لا يد له البطش وما أشبه ذلك فيقال‏:‏ له‏:‏ قد قال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏97‏]‏‏:‏ هو مشيهم على وجوههم، وسقط السؤال في كل ما سألوا عنه على جواب ابن عباس في المشي على الوجوه‏.‏
ثم قال‏:‏ وقد أبان أبو الحسن  يعني الأشعري  فيما قدمنا ذكره عنه في هذه المعاني بما
فيه كفاية، قال القاضي أبو يعلي‏:‏ لما حكى كلام أبي الحسن  يعني أبا الحسن الأشعري  قد فصل بين ما يقدر على فعله لا لاستحالته فيجوز تكليفه، وما يستحيل لا يجوز، قال‏:‏ وظاهر كلام أبي الحسن الأشعري الاحتمال فيما يستحيل وجوده هل يصح تكليفه أم لا ‏؟‏ قال‏:‏ والصحيح ما ذكرناه من التفصيل، وهو أن ما لا يقدر على فعله لاستحالته كالأمر بالمحال، وكالجمع بين الضدين وجعل المحدث قديمًا، والقديم محدثِا، أو كان مما لا يقدر عليه للعجز عنه كالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام، فهذا الوجه لا يجوز تكليفه‏.‏
والوجه الثاني‏:‏ ما لا يقدر على فعله لا لاستحالته ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، كالكافر كلفه الإيمان في حال كفره؛ لأنه غير

 

ص -295-

عاجز عنه ولا مستحيل منه، فهوكالذي لا يقدر على العلم لاشتغاله بالمعيشة، فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى هو قول جمهور الناس من الفقهاء والمتكلمين وهو قول جمهور أصحاب الإمام أحمد، وذكر القاضي المنصوص عن الأشعري  فيما ذكره القاضي عنه  وقد ذكر أن أبا بكر عبد العزيز، ذكر كلام أبي الحسن في ذلك كما يذكر المصنف كلام أبي الحسن في ذلك، وكما يذكر المصنف كلام موافقيه وأصحابه؛ لأنه كان من جملة المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كما ذكر ذلك في كتبه‏.‏
وأما أتباع أبي الحسن فمنهم من وافق نفس الذي ذكره القاضي كأبي علي ابن شاذان وأتباعه، ومنهم من خالفه كأبي محمد اللبان، والرازي وطوائف، قالوا‏:‏ إنه يجوز تكليف الممتنع كالجمع بين الضدين والمعجوز عنه‏.‏
والقول الثالث‏:‏ الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز وهو أنه يجوز تكليف كل ما يمكن وإن كان ممتنعًا في العادة كالمشي على الوجوه، ونقط الأعمى المصحف‏.‏
وذكر أبوعبد الله بن حامد شيخ القاضي أبي يعلى في أصوله‏:‏ قولي التفريق والإطلاق عن أصحاب أحمد فقال‏:

 

ص -296-

فصل
لأنه ما وجد في الأمر ولو وجد بالفكر وهذا مثل مالم ترد الشريعة به كأمر الأطفال ومن لا عقل له والأعمى البصر، والفقير النفقة، والزمن أن يسير إلى مكة، فكل ذلك ما جاءت به الشريعة، ولو جاءت به لزم الإيمان به والتصديق فلا يقيد الكلام فيه‏.‏ قال‏:‏ وذهبت طائفة من أصحابنا إلى إطلاق الاسم من جواز تكليف ما لا يطاق من زمن وأعمى وغيرهم، وهو مذهب جهم وبرغوث‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ سلامة الآلة، لكن عدم الطاقة لعدم التوفيق والقبول، وذلك يجوز وجها واحدًا في معنى هذا أنه يجوز التكليف لمن قدر علم الله فيه أنه لا يفعله، وأبي ذلك المعتزلة والدليل عليه قوله تعالى لإبليس‏:‏
‏{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ الآيات ‏[‏الأعراف‏:‏12‏]‏، فأمر وقد سبق من علمه أنه لا يقع منه فعله، فكان الأمر متوجهًا إلي ما قد سبق من علم الله أنه لا يطيقه‏.‏
القول الثاني‏:‏ منقول عن أبى الحسن أيضًا، وزعم أبو المعالي الجويني أنه الذي مال إليه أكثر أجوبة أبي الحسن، وأنه الذي ارتضاه كثير من أصحابه

 

ص -297-

وقد توقف أبو الحسن عن الجواب في هذه المسألة في الموجز، وكان أبو المعالي يختاره أولا، ثم رجع عنه وقطع أن تكليف مالا يطاق محال، وهذا القول الأول قول ابن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي عبد الله الرازي وغيره، وهذا الثاني هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني وأبي بكر بن فورك، وأبي القاسم الأشعري، والغزالي، وادعى أبو إسحاق الإسفرائيني أنه مذهب شيخه أبي الحسن، وأنه مذهب أهل الحق، فأما القاضي أبو بكر فقد قال‏:‏ بجوازه في بعض كتبه، وأكثر كلامه على التفريق بين تكليف العاجز، وبين تكليف القادر على الترك، كما هو قول الجمهور‏.‏
وفي المسألة قول ثالث‏:‏ وهو الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز أنه يجوز تكليف كل ما يمكن وإن كان ممتنعًا في العادة كالمشي على الوجه، ونقط الأعمى المصحف دون الممتنع كالجمع بين الضدين‏.‏
وفصل الخطاب في هذه المسألة‏:‏ إن النزاع فيها في أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ التكليف الواقع الذي اتفق المسلمون علي وقوعه في الشريعة وهو أمر العباد كلهم بما أمرهم الله به ورسوله من الإيمان به وتقواه هل يسمى هذا أو شيء منه تكليف ما لا يطاق ‏؟‏ فمن قال‏:‏ بأن القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول‏:‏ إن العاصي كلف مالا يطيقه، ويقول‏:‏ إن كل أحد كلف حين كان غير مطيق، وكذلك من زعم أن تقدم العلم والكتاب بالشيء يمنع

 

ص -298-

أن يقدر على خلافه، وقال‏:‏ إن كلف خلاف المعلوم فقد كلف ما لا يطيقه، وكذلك من يقول‏:‏ إن العرض لا يبقى زمانين، يقول‏:‏ إن الاستطاعة المتقدمة لا تبقى إلى حين الفعل‏.‏
وهذا في الحقيقة ليس نزاعًا في الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها، هل يتناولها التكليف‏؟‏ وإنما هو نزاع في كونها غير مقدورة للعبد التارك لها وغير مقدورة قبل فعلها، وقد قدمنا أن القدرة نوعان، وأن من أطلق القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإطلاقه مخالف لما ورد في الكتاب والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها  كإطلاق القول بالجبر  وإن كان قد أطلق ذلك طوائف من المنتسبين إلى السنة في ردهم على القدرية من المنتسبين إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كأبي الحسن، وأبي بكر عبد العزيز، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم، فقد منع من هذا الإطلاق جمهور أهل العلم كأبي العباس ابن سريج، وأبي العباس القلانسي، وغيرهما، ونقل ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وهو مقتضى قول جميع الأمة‏.‏
ولهذا امتنع أبو إسحاق بن شاقلا من إطلاق ذلك، وحكى فيه القولين‏:‏ فقال‏:‏ - فيما ذكره عنه القاضي أبو يعلى ‏:‏ الاستطاعة مع الفعل أو قبله، حجة من قال‏:‏ إن الصلاة والحج والجهاد، لا يجوز أن يأمر به غير مستطيع،/

 

ص -299-

وحجة من قال‏:‏ إن الفعل خلق من خلق الله عز وجل، فإذا خلق فيه فعلاً فعله‏.‏
وهذا كما أن من قال‏:‏ إنه ليس للعبد إلا قدرة واحدة يقدر بها على الفعل والترك،وأنه مستغن في حال الفعل عن معونة من الله تعالى يفعل بها، وسوى بين نعمته على المؤمن والكافر والبر والفاجر، فهو مبطل وهم من القدرية الذين حاد منهم في الأيام المشهورة حيث كان قولهم‏:‏ إن العبد لا يفتقر إلى الله تعالى حال الفعل بالبر عما وجد قبل الفعل وأنه ليس لله تعالى نعمة أنعم بها على من آمن به وأطاعه أكبر من نعمته علي من كفر به وعصاه، فهذا القول خطأ قطعًا؛ ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على تضليل صاحب هذا القول ‏.‏
ثم النزاع بينهم بعد ذلك في هذه الأمور كثير‏:‏ منه لفظي، ومنه ما هو اعتباري، كتنازعهم في أن العرض هل يبقى أم لا يبقى، وبنوا على ذلك بقاء الاستطاعة، ولكن أحسن الألفاظ والاعتبارات ما يطابق الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمتها والواجب أن يجعل نصوص الكتاب والسنة هي الأصل المعتمد الذي يجب اتباعه ويسوغ إطلاقه، ويجعل الألفاظ حتى تنازع فيها الناس نفيًا أو إثباتًا موقوفة على الاستفسار والتفصيل، ويمنع من

 

ص -300-

 

إطلاق نفي ما أثبته الله ورسوله، وإطلاق إثبات ما نفى الله ورسوله‏.‏
والأصل الثاني‏:‏ فيما اتفق الناس على أنه غير مقدور للعبد، وتنازعوا في جواز تكليفه، وهو نوعان‏:‏ ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران ونحو ذلك، وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، فهذا في جوازه عقلاً ثلاثة أقوال كما تقدم، وأما وقوعه في الشريعة وجوازه شرعًا فقد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة، وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد منهم أبو الحسن بن الزاغوني فقال‏:‏
فصل
تكليف ما لا يطاق وهو على ضربين ‏:‏
أحدهما‏:‏ تكليف ما لا يطاق لوجود ضده من العجز، وذلك مثل أن يكلف المقعد القيام، والأعمى الخط ونقط الكتاب، وأمثال ذلك، فهذا مما لا يجوز تكليفه وهو مما انعقد الإجماع عليه، وذلك لأن عدم الطاقة فيه ملحقة بالممتنع والمستحيل، وذلك يوجب خروجه عن المقدور فامتنع تكليف مثله‏.‏
والثاني‏:‏ تكليف مالا يطاق لا لوجود ضده من العجز مثل أن يكلف الكافر الذي سبق في علمه أنه لا يستحب التكليف كفرعون وأبى جهل

 

ص -301-

وأمثالهم، فهذا جائز، وذهبت المعتزلة إلى أن تكليف مالا يطاق غير جائز، قال‏:‏ وهذه المسألة كالأصل لهذه‏.‏
قلت‏:‏ وهذا الإجماع هو إجماع الفقهاء وأهل العلم، فإنه قد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن تكليف الممتنع لذاته واقع في الشريعة، وهذا قول الرازي وطائفة قبله، وزعموا أن تكليف أبي لهب وغيره من هذا الباب حيث كلف أن يصدق بالأخبار التي من جملتها الإخبار بأنه لا يؤمن، وهذا غلط، فإنه من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلي النار بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان فقد حقت عليه كلمة العذاب، كالذي يعاين الملائكة وقت الموت لم يبق بعد هذا مخاطبًا من جهة الرسول بهذين الأمرين المتناقضين‏.‏
وكذلك من قال‏:‏ تكليف العاجز واقع محتمًا بقوله‏:‏ ‏{
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏، فإنه يناقض هذا الإجماع، ومضمون الإجماع نفي وقوع ذلك في الشريعة، وأيضًا فإن مثل هذا الخطاب إنما هو خطاب تعجيز على وجه العقوبة لهم لتركهم السجود وهم سالمون يعاقبون على ترك العبادة في حال قدرتهم بأن أمروا بها حال عجزهم على سبيل العقوبة لهم، وخطاب العقوبة والجزاء من جنس خطاب التكوين، لا يشترط فيه قدرة المخاطب إذ ليس المطلوب فعله، وإذا تبينت الأنواع والأقسام زال الاشتباه والإبهام‏.‏

 

ص -302-

قال شيخ الإسلام  قدس الله روحه‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏
فصل
في قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏فحج آدم موسى‏"‏ لما احتج عليه بالقدر‏.‏
وبيان أن ذلك في المصائب لا في الذنوب، وأن الله أمر بالصبر والتقوى فهذا في الصبر لا في التقوى، وقال‏:‏ ‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏55‏]‏،

 

ص -303-

فأمر بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب‏.‏
وذلك أن بني آدم اضطربوا في هذا المقام  مقام تعارض الأمر والقدر  وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع‏.‏
والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحيحين حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏احتج آدم وموسى، فقال موسى‏:‏ يا آدم ‏؟‏ أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ فقال له آدم‏:‏ أنت موسى الذي كلمك الله تكليمًا وكتب لك التوراة‏.‏ فبكم تجد فيها مكتوبًا ‏:‏‏
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏} ‏[‏طه‏:‏121‏]‏، قبل أن أخلق، قال‏:‏ بأربعين سنة، قال فحج آدم موسى‏"‏‏.‏
وهو مروي  أيضًا  من طريق عمر بن الخطاب بإسناد حسن، وقد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب‏:‏
فريق كذبوا بهذا الحديث‏:‏ كأبي على الجبائي وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله‏.‏

 

ص -304-

وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد‏:‏ كقول بعضهم‏:‏ إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم‏:‏ لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى، وقول بعضهم‏:‏ لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم‏:‏ لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة‏.‏
وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، ثم لم يمكنهم طرد ذلك، فلا بد في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضر نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتج بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره كما قيل في مثل هؤلاء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء ظالمون معتدون‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ هذا في حق أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبية وفنوا عما سوي الله، فيرون ألا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلاً، بل لا يرون فاعلاً إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلاً فإنه يذم ويعاقب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفية المدعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم‏.‏

 

ص -305-

قال أبو المظفر السمعاني‏:‏ وأما الكلام فيما جرى بين آدم وموسى من المحاجة في هذا الشأن، فإنما ساغ لهما الحجاج في ذلك؛ لأنهما نبيان جليلان خصا بعلم الحقائق، وأذن لهما في استكشاف السرائر، وليس سبيل الخلق الذين أمروا بالوقوف عند ما حد لهم والسكوت عما طوي عنهم سبيلها، وليس قوله‏:‏ ‏"‏فحج آدم موسى‏"‏ إبطال حكم الطاعة، ولا إسقاط العمل الواجب، ولكن معناه ترجيح أحد الأمرين، وتقديم رتبة العلة على السبب، فقد تقع الحكمة بترجيح معني أحد الأمرين، فسبيل قوله‏:‏ ‏"‏فحج آدم موسى‏"‏، هذا السبيل، وقد ظهر هذا في قضية آدم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏‏.‏
إلى أن قال‏:‏ فجاء من هذا أن آدم لم يتهيأ له أن يستديم سكنى الجنة إلا بألا يقرب الشجرة؛ لسابق القضاء المكتوب عليه في الخروج منها، وبهذا صال على موسى عند المحاجة، وبهذا المعنى قضى له على موسى فقال‏:‏ فحج آدم موسى‏.‏
قلت‏:‏ ولهذا يقول الشيخ عبد القادر  قدس الله روحه ‏:‏ كثير من الرجال إذا وصلوا إلي القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعًا للقدر لا موافقًا له، وهو  رضي الله عنه  كان يعظم الأمر والنهي، ويوصي باتباع ذلك، وينهي عن الاحتجاج بالقدر، وكذلك شيخه حماد الدباس وذلك لما رأوه في

 

ص -306-

كثير من السالكين من الوقوف عند القدر المعارض للأمر والنهي، والعبد مأمور بأن يجاهد في سبيل الله ويدفع ما قدر من المعاصي بما يقدر من الطاعة، فهو منازع للمقدور المحظور بالمقدور المأمور لله  تعالى  وهذا هو دين الله الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏
وممن يشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة‏:‏ كقول ابن سينا بأن يشهد سر القدر، والرازي يقرر ذلك؛ لأنه كان جبريًا محضًا‏.‏
وفي الجملة، فهذا المعني دائر في نفوس كثير من الخاصة من أهل العلم والعبادة فضلاً عن العامة، وهو مناقض لدين الإسلام‏.‏
ومن هؤلاء من يقول‏:‏ الخضر إنما سقط عنه الملام؛ لأنه كان مشاهدًا لحقيقة القدر، ومن شيوخ هؤلاء من كان يقول‏:‏ لو قتلت سبعين نبيًا لما كنت مخطئًا، ومنهم من يقول بطرد قوله بحسب الإمكان فيقول‏:‏ كل من قدر على فعل شيء وفعله فلا ملام عليه، فإن قدر أنه خالف غرض غيره فذلك ينازعه، والأقوى منهما يقمر الآخر، فأيهما أعانه القدر فهو المصيب، باعتبار أنه غالب وإلا فما ثم خطأ‏.‏
ومن هؤلاء الاتحادية الذين يقولون‏:‏ الوجود واحد، ثم يقولون‏:‏/

 

ص -307-

بعضه أفضل من بعض والأفضل يستحق أن يكون ربًا للمفضول، ويقولون‏:‏ إن فرعون كان صادقًا في قوله‏:‏ ‏{أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏، وهذا قول طائفة من ملاحدة المتصوفة المتفلسفة الاتحادية، كالتلمساني، والقول بالاتحاد العام المسمى وحدة الوجود، هو قول ابن عربي الطائي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم، لكن لهم في المعاد والجزاء نزاع، كما أن لهم نزاعًا في أن الوجود هل هو شيء غير الذوات أم لا‏؟‏ وهؤلاء ضلوا من وجوه‏:‏ منها جهة عدم الفرق بين الوجود الخالق والمخلوق‏.‏
وأما شهود القدر فيقال‏:‏ لا ريب أن الله  تعالى  خالق كل شيء ومليكه، والقدر هو قدرة الله، كما قال الإمام أحمد‏:‏ وهو المقدر لكل ما هو كائن، لكن هذا لا ينفي حقيقة الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من الأفعال ما ينفع صاحبه،فيحصل له به نعيم، ومنها ما يضر صاحبه فيحصل له به عذاب، فنحن لا ننكر اشتراك الجميع من جهة المشيئة والربوبية وابتداء الأمور، لكن نثبت فرقًا آخر من جهة الحكمة والأوامر الإلهية ونهاية الأمور، فإن العاقبة للتقوى، لا لغير المتقين، وقد قال تعالى‏:‏‏
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏35‏]‏‏.‏
وإذا كان كذلك فحقيقة الفرق‏:‏ أن من الأمور ما هو ملائم للإنسان نافع له فيحصل له به اللذة، ومنها ما هو مضاد له ضار له يحصل به الألم، فرجع

 

ص -308-

الفرق إلى الفرق بين اللذة والألم، وأسباب هذا وهذا، وهذا الفرق معلوم بالحس والعقل، والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم، بل هذا موجود في جميع المخلوقات، وإذا أثبتنا الفرق بين الحسنات والسيئات، وهو الفرق بين الحسن والقبيح، فالفرق يرجع إلى هذا‏.‏
والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائمًا للإنسان، وبعضها منافيًا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء‏.‏ وتنازعوا في الحسن والقبح، بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب، هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول، وليس هذا خارجًا عنه، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي، والمدح والثواب ملائم، والذم والعقاب مناف، فهذا نوع من الملائم والمنافي ‏.‏
يبقى الكلام في بعض أنواع الحسن والقبيح لا في جميعه، ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك‏.‏
والنزاع في أمور‏:‏
منها ‏:‏هل للفعل صفة صار بها حسنًا وقبيحًا، وأن الحسن العقلي هو كونه موافقا لمصلحة العالم، والقبح العقلي بخلافه، فهل في الشرع زيادة على

 

ص -309-

ذلك‏؟‏ وفي أن العقاب في الدنيا والآخرة هل يعلم بمجرد العقل‏؟‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
ومن الناس من أثبت قسمًا ثالثا للحسن والقبح، وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين‏:‏ كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة‏.‏
والتحقيق‏:‏ أن هذا القسم لا يخالف الأول، فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة أو الألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص فيعود الكمال،والنقص إلى الملائم والمنافي، وهذا مبسوط في موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن الفرق بين الأفعال الحسنة التي يحصل لصاحبها بها لذة، وبين السيئة التي يحصل له بها ألم أمر حسي يعرفه جميع الحيوان، فمن قال من المدعين للحقيقة القدرية، والفناء في توحيد الربوبية، والاصطلام‏:‏ إنه يبقي في عين الجمع بحيث لا يفرق بين ما يؤلم أو ما يلذ،، كان هذا مما يعلم كذبه فيه، إن كان يفهم ما يقول، وإلا كان ضالا يتكلم بما لايعرف حقيقته، وهو الغالب على من يتكلم في هذا‏.‏
فإن القوم قد يحصل لأحدهم هذا المشهد  مشهد الفناء في توحيد/

 

ص -310-

الربوبية  فلا يشهد فرقًا ما دام فى هذا المشهد، وقد يغيب عنه الإحساس بما يوجب الفرق مدة من الزمان، فيظن هذا الفناء مقامًا محمودًا، ويجعله إما غاية، وإما لازمًا للسالكين، وهذا غلط، فإن عدم الفرق بين ما ينعم ويعذب أحيانًا هو مثل عدم الفرق بين النوم والنسيان، والغفلة والاشتغال بشيء عن آخر وهو لا يزيل الفرق الثابت في نفس الأمر، ولا يزيل الإحساس به إذا وجد سببه‏.‏
والواحد من هؤلاء لابد أن يجوع أو يعطش، فلا يسوى بين الخبز والشراب، وبين الملح الأجاج، والعذب الفرات، بل لابد أن يفرق بينهما ويقول‏:‏ هذا طيب وهذا ليس بطيب، وهذا هو الفرق بين كل ما أمر الله ورسوله به ونهى عنه، فإنه أمر بالطيب من القول والعمل، ونهى عن الخبيث‏.‏
وإذا عرف أن المراد بالفرق هو أن من الأمور ما ينفع، ويوجب اللذة والنعيم، ومنها ما يضر ويوجب الألم والعذاب، فبعض هذه الأمور تدرك بالحس، وبعضها يدركه الناس بعقولهم لأمور الدنيا، فيعرفون ما يجلب لهم منفعة في الدنيا وما يجلب لهم مضرة، وهذا من العقل الذي ميز به الإنسان، فإنه يدرك من عواقب الأفعال مالا يدركه الحس، ولفظ العقل في القرآن يتضمن ما يجلب به المنفعة وما يدفع به المضرة‏.‏

 

ص -311-

والله  تعالى  بعث الرسل بتكميل الفطرة، فدلوهم على ما ينالون به النعيم في الآخرة وينجون من عذاب الآخرة، فالفرق بين المأمور والمحظور هو كالفرق بين الجنة والنار، واللذة والألم، والنعيم والعذاب، ومن لم يدرك هذا الفرق، فإن كان لسبب أزال عقله هو به معذور، وإلا كان مطالبًا بما فعله من الشر وتركه من الخير‏.‏
ولا ريب أن في الناس من قد يزول عقله في بعض الأحوال، ومن الناس من يتعاطى ما يزيل العقل؛ كالخمر وكسماع الأصوات المطربة، فإن ذلك قد يقوى حتى يسكر أصحابها، ويقترن بهم شياطين، فيقتل بعضهم بعضًا في السماع المسكر، كما يقتل شراب الخمر بعضهم بعضا إذا سكروا، وهذا مما يعرفه كثير من أهل الأحوال، لكن منهم من يقول‏:‏ المقتول شهيد، والتحقيق‏:‏ أن المقتول يشبه المقتول في شرب الخمر، فإنهم سكروا سكرًا غير مشروع، لكن غالبهم يظن أن هذا من أحوال أولياء الله المتقين، فيبقى القتيل فيهم كالقتيل في الفتنة، وليس هو كالذي تعمد قتله،ولا هو كالمقتول ظلمًا من كل وجه‏.‏
فإن قيل‏:‏ فهل هذا الفناء يزول به التكليف ‏؟‏
قيل‏:‏ إن حصل للإنسان سبب يعذر فيه، زال به عقله الذي يميز به، فكان بمنزلة النائم والمغمي عليه، والسكران سكرًا لا يأثم به، كمن سكر قبل التحريم أو أوجر الخمر، أو أكره على شربها عند الجمهور، وأما إن كان السكر لسبب محرم، فهذا فيه نزاع معروف بين العلماء‏.‏

 

ص -312-

والذين يذكرون عن أبي يزيد وغيره كلمات من الاتحاد الخاص، ونفي الفرق ويعذرونه في ذلك يقولون‏:‏ إنه غاب عقله حتى قال‏:‏ أنا الحق وسبحاني وما في الجبة إلا الله، ويقولون‏:‏ إن الحب إذا قوى على صاحبه وكان قلبه ضعيفًا يغيب بمحبوبه عن حبه وبموجوده عن وجده، وبمذكوره عن ذكره حتي يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ويحكون أن شخصًا ألقى بنفسه في الماء فألقى محبة نفسه خلفه، فقال‏:‏ أنا وقعت، فلم وقعت أنت‏؟‏ فقال‏:‏ غبت بك عني فظننت أنك أني‏.‏ فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور ليست علمًا ولا حقًا، بل غايته أنه نقص عقله الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يكون قوله تحقيقًا‏.‏
وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقًا وتوحيدًا، كما فعله صاحب منازل السائرين، وابن العريف وغيرهما، كما أن الاتحاد العام جعله طائفة تحقيقًا وتوحيدًا، كابن عربي الطائي‏.‏
وقد ظن طائفة أن الحلاج كان من هؤلاء ثم صاروا حزبين‏:‏
حزب يقول‏:‏ وقع في ذلك الفناء فكان معذورًا في الباطن، ولكن قتله واجب في الظاهر، ويقولون‏:‏ القاتل مجاهد، والمقتول شهيد، ويحكون عن بعض الشيوخ أنه قال‏:‏ عثر عثرة لو كنت في زمنه لأخذت بيده، ويجعلون حاله من جنس حال أهل الاصطلام والفناء‏.‏

 

ص -313-

وحزب ثان‏:‏ وهم الذين يصوبون حال أهل الفناء في توحيد الربوبية، ويقولون‏:‏ هو الغاية، يقولون‏:‏ بل الحلاج كان في غاية التحقيق والتوحيد‏.‏
ثم هؤلاء في قتله فريقان‏:‏
فريق يقول‏:‏ قتل مظلومًا وما كان يجوز قتله، ويعادون الشرع وأهل الشرع لقتلهم الحلاج، ومنهم من يعادي جنس الفقهاء وأهل العلم، ويقولون‏:‏ هم قتلوا الحلاج، وهؤلاء من جنس الذين يقولون‏:‏ لنا شريعة ولنا حقيقة تخالف الشريعة، والذين يتكلمون بهذا الكلام لا يميزون ما المراد بلفظ الشريعة في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، ولا المراد بلفظ الحقيقة أو الحق أو الذوق أو الوجد أو التوحيد في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، بل فيهم من يظن الشرع عبارة عما يحكم به القاضي‏.‏
ومن هؤلاء من لا يميز بين القاضي العالم العادل والقاضي الجاهل والقاضي الظالم، بل ما حكم به حاكم سماه شريعة، ولا ريب أنه قد تكون الحقيقة في نفس الأمر التي يحبها الله ورسوله خلاف ماحكم به الحاكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:
‏ ‏"‏إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه

 

ص -314-

شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار‏"‏‏.‏ فالحاكم يحكم بما يسمعه من البينة والإقرار، و قد يكون للآخر حجج لم يبينها، وأمثال هذا‏.‏
فالشريعة في نفس الأمر هي الأمر الباطن، وما قضى به القاضي ينفذ ظاهرًا، وكثير من الأمور قد يكون باطنها بخلاف ما يظهر لبعض الناس، ومن هذا قصة موسى والخضر فإنه كان الذي فعله مصلحة، وهو شريعة أمره الله بها، ولم يكن مخالفًا لشرع الله، لكن لما لم يعرف موسى الباطن، كان في الظاهر عنده أن هذا لا يجوز، فلما بين له الخضر الأمور وافقه، فلم يكن ذلك مخالفًا للشرع‏.‏
وهذا الباب يقال فيه‏:‏ قد يكون الأمر في الباطن بخلاف ما يظهر، وهذا صحيح، لكن تسمية الباطن حقيقة، والظاهر شريعة، أمر اصطلاحي‏.‏
ومن الناس من يجعل الحقيقة هي الأمر الباطن مطلقا، والشريعة الأمور الظاهرة‏.‏
وهذا كما أن لفظ الإسلام إذا قرن بالإيمان أريد به الأعمال الظاهرة، ولفظ الإيمان يراد به الإيمان الذي في القلب، كما في حديث جبريل، فإذا جمع بينهما فقيل‏:‏شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، كان هذا كلامًا صحيحًا، لكن متى

 

ص -315-

أفرد أحدهما تناول الآخر، فكل شريعة ليس لها حقيقة باطنة، فليس صاحبها من المؤمنين حقًا، وكل حقيقة لا توافق الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم فصاحبها ليس بمسلم، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين‏.‏
وقد يراد بلفظ الشريعة ما يقوله فقهاء الشريعة باجتهادهم، وبالحقيقة ما يذوقه ويجده الصوفية بقلوبهم، ولا ريب أن كلا من هؤلاء مجتهدون‏:‏ تارة مصيبون، وتارة مخطئون، وليس لواحد منهما تعمد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن اتفق اجتهاد الطائفتين، وإلا فليس على واحدة أن تقلد الأخرى إلا أن تأتي بحجة شرعية توجب موافقتها‏.‏
فمن الناس من يظهر أن الحلاج قتل باجتهاد فقهى يخالف الحقيقة الذوقية التي عليها هؤلاء، وهذا ظن كثير من الناس، وليس كذلك، بل الذي قتل عليه إنما هو الكفر، وقتل باتفاق الطائفتين، مثل دعواه أنه يقدر أن يعارض القرآن بخير منه، ودعواه أنه من فاته الحج أنه يبني بيتًا يطوف به، ويتصدق بشيء قدره، وذلك يسقط الحج عنه، إلى أمور أخرى توجب الكفر باتفاق المسلمين الذين يشهدون أن محمدًا رسول الله، علماؤهم وعبادهم وفقهاؤهم وفقراؤهم وصوفيتهم‏.‏
وفريق يقولون‏:‏ قتل لأنه باح بسر التوحيد والتحقيق الذي ما

 

ص -316-

كان ينبغي أن يبوح به، فإن هذا من الأسرار التي لا يتكلم بها إلا مع خواص الناس، وهي مما تطوى ولا تروى وينشدون ‏:‏

 من باح بالسر كان القتل شيمته

 من الرجال ولم يأخذ له ثار

 باحوا بالسر تباح دماؤهم

 وكذا دماء البائحين تباح

وحقيقة قول هؤلاء يشبه قول قائل‏:‏ إن ما قاله النصارى في المسيح حق، وهو موجود لغيره من الأنبياء والأولياء، لكن ما يمكن التصريح به؛ لأن صاحب الشرع لم يأذن في ذلك، وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا، وتوحيده الذي قال فيه ‏:‏

 ما وحد الواحد من واحد

 إذ كل من وحده جاحد

 توحيد من يخبر عن نعته

 عارية أبطلها الواحد

 توحيده إياه توحيده

 ونعت من ينعته لا حد

فإن حقيقة قول هؤلاء‏:‏ أن الموحد هو الموحد، وأن الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأنه لا يوحده إلا نفسه فلا يكون الموحد إلا الموحد، ويفرقون بين قول فرعون‏:‏ ‏{أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏، وبين قول الحلاج‏:‏ أنا الحق وسبحاني، فإن فرعون قال ذلك وهو يشهد نفسه، فقال عن نفسه، وأما أهل الفناء فغابوا عن نفوسهم، وكان الناطق على لسانهم غيرهم‏.‏

 

 

ص -317-

وهذا مما وقع فيه كثير من المتصوفة المتأخرين، ولهذا رد الجنيد  رحمه الله  على هؤلاء لما سئل عن التوحيد فقال‏:‏ هو الفرق بين القديم والمحدث، فبين الجنيد  سيد الطائفة  أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرق بين الرب القديم، والعبد المحدث، لا كما يقوله هؤلاء الذين يجعلون هذا هو هذا، وهؤلاء أهل الاتحاد والحلول الخاص والمقيد، وأما القائلون بالحلول والاتحاد العام المطلق، فأولئك هم الذين يقولون‏:‏ إنه بذاته في كل مكان، أو أنه وجود المخلوقات، وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضوع‏.‏
والمقصود هنا أن الحلاج لم يكن مقيدًا بصنف من هذه الأصناف، بل كان قد قال من الأقوال التي توجب الكفر والقتل باتفاق طوائف المسلمين ما قد ذكر في غير هذا الموضع، وكذلك أنكره أكثر المشايخ، وذموه‏:‏ كالجنيد، وعمر بن عثمان المكي، وأبي يعقوب النهرجوري‏.‏
ومن التبس عليه حاله منهم فلم يعرف حقيقة ما قاله  إلا من كان يقول بالحلول والاتحاد مطلقًا أو معينًا  فإنه يظن أن هذا كان قول الحلاج وينصر ذلك؛ ولهذا كانت فرقة ابن سبعين فيها من رجال الظلم جماعة منهم الحلاج، وعند جماهير المشايخ الصوفية، وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين،بل كان زنديقًا وزهده لأسباب متعددة يطول وصفها، ولم يكن من أهل الفناء في توحيد الربوبية، بل كان قد

 

ص -318-

تعلم السحر وكان له شياطين تخدمه إلى أمور أخرى مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏
وبكل حال آدم لما أكل هو وحواء من الشجرة، لم يكن زائل العقل ولا فانيا في شهود القدر العام، ولا احتج على موسى بذلك، بل قال‏:‏ لم تلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق‏؟‏ فاحتج بالقدر السابق لا بعدم تمييزه بين المأمور والمحظور‏.‏
فصل
إذا عرف هذا، فنقول‏:‏ الصواب في قصة آدم وموسى، أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص؛ ولهذا قال‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ لم يقل‏:‏ لماذا خالفت الأمر‏؟‏ ولماذا عصيت‏؟‏ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى‏:‏
‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏‏.‏ قال ابن مسعود أو غيره‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏احرص على

 

ص -319-

ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏‏.‏
فأمره بالحرص على ما ينفعه وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة مقدرة ألا ينظر إلى القدر ولا يتحسر بتقدير لا يفيد، ويقول‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، ولا يقول‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا، فيقدر ما لم يقع، يتمني أن لو كان وقع؛ فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنًا لا يفيد، والتسليم للقدر هو الذي ينفعه، كما قال بعضهم‏:‏ الأمر أمران‏:‏ أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه‏.‏
ومازال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي‏.‏
فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي حتى مات، ولم يخلف لولده مالا، أو ظلم الناس بظلم صاروا لأجله يبغضون أولاده، ويحرمونهم ما يعطونه لأمثالهم، لكان هذا مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب فعل الأب، فإذا قال أحدهم لأبيه‏:‏ أنت فعلت بنا هذا، قيل للابن‏:‏ هذا كان مقدورًا

 

ص -320-

عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعله من الظلم والتبذير، ملوم علي ذلك، لا يرتفع عنه ذم الله وعقابه بالقدر السابق، فإن كان الأب قد تاب توبة نصوحًا وتاب الله عليه وغفر له، لم يجز ذمه ولا لومه بحال، لا من جهة حق الله، فإن الله قد غفر له، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله؛ إذ لم يكن هو ظالمًا لأولئك، فإن تلك كانت مقدرة عليهم‏.‏
وهذا مثال قصة آدم‏:‏ فإن آدم لم يظلم أولاده، بل إنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وإنما هبط آدم وحواء، ولم يكن معهما ولد حتى يقال‏:‏ إن ذنبهما تعدي إلى ولدهما، ثم بعد هبوطهما إلى الأرض جاءت الأولاد، فلم يكن آدم قد ظلم أولاده ظلمًا يستحقون به ملامه، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر كان مقدرًا عليهم لا يستحقون به لوم آدم، وذنب آدم كان قد تاب منه، قال الله تعالى ‏:
‏‏{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏.‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏121، 122‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏37‏]‏، فلم يبق مستحقًا لذم ولا عقاب‏.‏
وموسى كان أعلم من أن يلومه لحق الله على ذنب قد علم أنه تاب منه، فموسى أيضًا فد تاب من ذنب عمله، وقد قال موسى‏:‏ ‏
{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏155‏]‏، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن المذنب لا ملام عليه، فكيف وقد علم أن إبليس لعنه الله بسبب

 

ص -321-

ذنبه وهو  أيضًا  كان مقدرًا عليه،وآدم قد تاب من الذنب واستغفر، فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له عند ربه لاحتج ولم يتب ويستغفر‏.‏
وقد روى في الإسرائيليات أنه احتج به، وهذا مما لا يصدق به لو كان محتملا،فكيف إذا خالف أصول الإسلام، بل أصول الشرع والعقل، نعم إن كان ذكر القدر مع التوبة فهذا ممكن، لكن ليس فيما أخبر الله به عن آدم شيء من هذا، ولا يجوز الاحتجاج في الدين بالإسرائيليات إلا ما ثبت نقله بكتاب الله أو سنة رسوله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال‏:‏
‏"‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم‏"‏‏.‏
وأيضًا فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له فلماذا أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض‏؟‏‏!‏
فإن قيل‏:‏ وهو قد تاب، فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض‏؟‏
قيل‏:‏ التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته، قال الله تعالى ‏:
‏‏{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 89‏]‏ في التائب من الردة، وقال في كاتم العلم‏:‏ ‏{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏160‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏، وقال في القذف‏:‏‏{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏ النور‏:‏ 5 ‏]‏،

 

ص -322-

وقال ‏:‏‏{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏.‏ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏70، 71‏]‏، وقال‏:‏‏{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏
ولما تاب كعب بن مالك وصاحباه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم حتى نسائهم ثمانين ليلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما رجمها‏:‏
‏"‏لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله‏"‏‏.‏ وقد أخبر الله عن توبته على بني إسرائيل حيث قال لهم موسى ‏:‏‏{يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏54‏]‏‏.‏
وإذا كان الله  تعالى  قد يبتلى العبد من الحسنات والسيئات، والسراء والضراء بما يحصل معه شكره وصبره، أم كفره وجزعه وطاعته أم معصيته فالتائب أحق بالابتلاء، فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له، ووفقه الله في هبوطه لطاعته فكان حاله بعد الهبوط،خيرًا من حاله قبل الهبوط، وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له، فإنه لا يكون عليه ملام البتة ولا هناك توبة تقتضي أن يبتلى صاحبها ببلاء ‏.‏
وأيضًا فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار‏:‏ مثل قوم

 

ص -323-

نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع ألا حجة لأحد في القدر، وأيضًا فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما يبين ذلك‏.‏
فصل
فقد تبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببًا في مصيبتهم، وبهذا جاء الكتاب والسنة، قال الله تعالى‏:‏‏
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وسواء في ذلك المصائب السمائية، والمصائب التي تحصل بأفعال الآدميين، قال تعالى‏:‏
‏{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏10‏]‏، ‏{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏34‏]‏، وقال في سورة الطور بعد قوله‏:‏ ‏{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ‏.‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ‏.‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ وإلى قوله‏:‏ ‏{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‏.‏ أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏، ‏{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏29-48‏]‏،

 

ص -324-

وقال تعالى‏: ‏في سورة ن‏:‏ ‏{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‏.‏ أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏.‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ ‏[‏القلم ‏:‏46-48‏]‏‏.‏
وقد قيل في معناه‏:‏ اصبر لما يحكم به عليك، وقيل ‏:‏اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت، والأول أصح‏.‏
وحكم الله نوعان‏:‏ خلق، وأمر‏.‏
فالأول‏:‏ ما يقدره من المصائب‏.‏
والثاني‏:‏ ما يأمر به وينهى عنه، والعبد مأمور بالصبر على هذا وعلى هذا، فعليه أن يصبر لما أمر به، ولما نهى عنه، فيفعل المأمور، ويترك المحظور، وعليه أن يصبر لما قدره الله عليه‏.‏
وبعض المفسرين يقول‏:‏ هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهذا يتوجه إن كان في الآية النهى عن القتال، فيكون هذا النهي منسوخًا، ليس جميع أنواع الصبر منسوخة، كيف والآية لم تتعرض لذلك هنا لا بنفي ولا إثبات‏؟‏‏!‏ بل الصبر واجب لحكم الله ما زال واجبًا، وإذا أمر بالجهاد فعليه أيضًا أن يصبر لحكم الله، فإنه يبتلى من قتالهم بما هو أعظم من، كلامهم، كما ابتلى به يوم أحد والخندق، وعليه حينئذ أن يصبر ويفعل ما أمر به من الجهاد‏.‏

 

ص -325-

والمقصود هنا قوله‏:‏ ‏{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، فإن ما فعلوه من الأذى هو مما حكم به عليك قدرًا، فاصبر لحكمه وإن كانوا ظالمين في ذلك، وهذا الصبر أعظم من الصبرعلى ما جرى وفعل بالأنبياء، وقوله‏:‏ ‏{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏87‏]‏ وسواء كان مغاضبًا لقومه أو لربه،فكانت مغاضبته من أمر قدر عليه،وبصبره صبر لحكم ربه الذى قدره وقضاه،وإن كان إنما تأذى من تكذيب الناس له‏.‏
وقالت الرسل لقومهم‏:‏
{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏12‏]‏، وقال موسى لقومه لما قال فرعون‏:‏ ‏{سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ‏.‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏127، 128‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏55‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏.‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل ‏:‏41، 42‏]‏، فهؤلاء ظلموا فصبروا على ظلم الظالم لهم، وسبب نزولها المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عامة في كل ما اتصف بهذه الصفة‏.‏

 

ص -326-

و أصل المهاجر،من هجر ما نهى الله عنه كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من هجر السوء فظلمه الناس على ترك الكفر والفسوق والعصيان حتى أخرجوه  لا هجر بعض أمور في الدنيا  فصبر على ظلمهم،فإن الله يبوئه في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر، كيوسف الصديق فإنه هجر الفاحشة حتي ألجأه ذلك هجر منزله‏.‏ واللبث في السجن بعد ما ظلم، فمكنه الله حتى تبوأ من الأرض حيث يشاء‏.‏
وقال الذين لقوا الكفار‏:
‏ ‏{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏250، الأعراف‏:‏126‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ‏.‏ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏65، 66‏]‏، وقال‏:‏ ‏{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏، فهذا كله صبر على ما قدر من أفعال الخلق، والله سبحانه مدح في كتابه الصبار الشكور، قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏5، لقمان‏:‏31، سبأ‏:‏19، الشورى‏:‏ 33‏]‏ في غير موضع‏.‏
فالصبر والشكر على ما يقدره الرب على عبده من السراء والضراء، من النعم والمصائب، من الحسنات التي يبلوه بها والسيئات، فعليه أن يتلقى المصائب بالصبر، والنعم بالشكر، ومن النعم ما ييسره له من أفعال الخير، ومنها ما هي خارجة عن أفعاله، فيشهد القدر عند فعله للطاعات، وعند إنعام الله عليه فيشكره

 

ص -327-

ويشهده عند المصائب فيصبر، وأما عند ذنوبه فيكون مستغفرا تائبًا، كما قال‏:‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏55‏]‏‏.‏
وأما من عكس هذا فشهد القدر عند ذنوبه، وشهد فعله عند الحسنات فهو من أعظم المجرمين، ومن شهد فعله فيهما فهو قدري، ومن شهد القدر فيهما ولم يعترف بالذنب ويستغفره فهو من جنس المشركين‏.‏
وأما المؤمن فيقول‏:‏ أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، كما في الحديث الصحيح الإلهي‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم متبعًا ما أمر به من الصبر على أذى الخلق، ففي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له، ولا دابة، ولا شيء قط؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله‏"‏ وقال أنس‏:‏ خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيء فعلته‏:‏ لم فعلته‏؟‏ ولا لشيء لم أفعله‏:‏ لم لا فعلته‏؟‏ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول‏:‏ ‏"‏دعوه، دعوه، فلو قضى شيء لكان‏"‏، وفي السنن عن ابن مسعود  رضي الله عنه  أنه ذكر للنبي

 

ص -328-

صلى الله عليه وسلم قول بعض من آذاه فقال‏:‏ ‏"‏دعنا منك، فقد أوذي موسي بأكثر من هذا فصبر‏"‏، فكان يصبر على أذى الناس له من الكفار والمنافقين وأذى بعض المؤمنين، كما قال تعالى‏:‏‏{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏53‏]‏ وكان يذكر‏:‏ أن هذا مقدر‏.‏
والمؤمن مأمور بأن يصبر على المقدور، ولذلك قال‏:‏ ‏
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏120‏]‏، فالتقوى فعل المأمور وترك المحظور، والصبر على أذاهم، ثم إنه حيث أباح المعاقبة قال‏:‏‏{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏.‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏126، 127‏]‏‏.‏
فأخبر أن صبره بالله، فالله هو الذي يعينه عليه، فإن الصبر على المكاره بترك الانتقام من الظالم ثقيل على الأنفس، لكن صبره بالله كما أمره أن يكون لله في قوله‏:‏ ‏
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 7‏]‏، لكن هناك ذكره في الجملة الطلبية الأمرية؛ لأنه مأمور أن يصبر لله لا لغيره، وهنا ذكره في الخبرية فقال‏:‏ ‏{وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 127‏]‏، فإن الصبر وسائر الحوادث لا تقع إلا بالله، ثم قد يكون ذلك وقد لا يكون، فمالا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، ولا يقال‏:‏ واصبر بالله فإن الصبر لا يكون إلا بالله، لكن يقال‏:‏ استعينوا بالله واصبروا فنستعين بالله على الصبر‏.‏

 

ص -329-

وكما أن الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب، فهو مأمور بذلك عند ما ينعم الله عليه من فعل الطاعات، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له، وتحقق قوله‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏] ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له علي فعل الطاعات، كقوله‏:‏ ‏"‏أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏يامقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ويا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏"‏اللهم ألهمني رشدي واكفني شر نفسي‏"‏‏.‏
ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله‏:‏ ‏
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏.‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏ ، فهذا الدعاء أفضل الأدعية وأوجبها على الخلق، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة، وكذلك الدعاء، بالتوبة فإنه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة، وكذلك دعاء الاستخارة ، فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له، وكذلك الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به إذا قام من الليل وهو في الصحيح‏:‏ ‏"‏اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه

 

ص -330-

من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏
وكذلك الدعاء الذي فيه‏:‏ ‏"‏اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا‏"‏، وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر، وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏اللهم أصلح لي قلبي ونيتي‏"‏، ومثل قول الخليل وإسماعيل‏:‏
‏{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏
وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء، شهد إنعام الله فيه، وكان في مقام الشكر والعبودية لله، وإن هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته‏.‏
فشهود القدر في الطاعات من أنفع الأمور للعبد، وغيبته عن ذلك من أضر الأمور به، فإنه يكون قدريا منكرًا لنعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، وإن لم يكن قدري الاعتقاد كان قدري الحال، وذلك يورث العجب والكبر، ودعوى القوة والمنة بعمله، واعتقاد استحقاق الجزاء على الله به، فيكون من يشهد العبودية مع الذنوب والاعتراف بها لا مع الاحتجاج بالقدر  عليها خيرًا من هذا الذي يشهد الطاعة منه، لا من إحسان الله إليه، ويكون أولئك المذنبون بما معهم من الإيمان، أفضل من طاعة بدون هذا الإيمان‏.‏

 

ص -331-

وأما من أذنب وشهد ألا ذنب له أصلا لكون الله هو الفاعل، وعند الطاعة يشهد أنه الفاعل، فهذا شر الخلق، وأما الذي يشهد نفسه فاعلا للأمرين، والذي يشهد ربه فاعلاً للأمرين، ولا يرى له ذنبًا؛ فهذا أسوأ عاقبة من القدري، والقدري أسوأ بداية منه، كما هو مبسوط في موضع آخر‏.‏
والناس في هذا المقام أربعة أقسام‏:‏ من يغضب لربه لا لنفسه، وعكسه، ومن يغضب لهما، ومن لا يغضب لهما، كما أنهم في شهود القدر أربعة أقسام‏:‏ من يشهد الحسنة من فعل الله والسيئة من فعل نفسه، وعكسه، ومن يشهد الثنتين من فعل ربه، ومن يشهد الثنتين من فعل نفسه، فهذه الأقسام الأربعة في شهود الربوبية، نظير تلك الأقسام الأربعة في شهود الإلهية، فهذا تقسيم العباد فيما لله ولهم، وذاك تقسيمهم فيما هو بالله وبهم، والقسم المحض أن يعمل لله بالله، فلا يعمل لنفسه ولا بنفسه‏.‏
والمقصود هنا، تقسيمهم فيما لله، فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه‏:‏ أن يصبروا على أذى الناس لهم باليد واللسان، ويجاهدون في سبيل الله، فيعاقبون ويغضبون وينتقمون لله لا لنفوسهم يعاقبون؛ لأن الله يأمر بعقوبة ذلك الشخص، ويحب الانتقام منه، كما في جهاد الكفار وإقامة الحدود، وأدناهم عكس هؤلاء يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، لا لربهم، فإذا أوذى أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه؛ لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين‏.‏

 

ص -332-

وبين هذين وهذين قسمان‏:‏ قسم يغضبون لربهم ولنفوسهم، وقسم يميلون إلى العفو في حق الله وحقوقهم، فموسى في غضبه علي قومه لما عبدوا العجل كان غضبه لله، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم في حقوق الله أبا بكر وعمر بإبراهيم وعيسى ونوح وموسى، فقال‏:‏ ‏"‏إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجر، ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وعيسى، ومثلك يا عمر كمثل نوح وموسى‏"‏‏.‏
وأما عفو الإنسان عن حقوقه، فهذا أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وكذلك غضبه لنفسه، تركه أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وأما ما كان من باب المصائب الحاصلة بقدر الله ولم يبق فيها مذنب يعاقب، فليس فيها إلا الصبر والتسليم للقدر‏.‏
وقصة آدم وموسى كانت من هذا الباب، فإن موسى لامه لأجل ما أصابه والذرية، وآدم كان قد تاب من الذنب وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فحج آدم موسى‏.‏
وهكذا قد يصيب الناس مصائب بفعل أقوام مذنبين تابوا، مثل كافر يقتل مسلمًا ثم يسلم ويتوب الله عليه، أو يكون متأولاً لبدعة ثم يتوب من المبدعة، أو يكون مجتهدًا، أو مقلدًا مخطئًا، فهؤلاء إذا أصاب العبد أذى بفعلهم، فهو من جنس المصائب السماوية التي لا يطلب فيها قصاص من آدمي‏.‏

 

ص -333-

ومن هذا الباب‏:‏ القتال في الفتنة‏.‏ قال الزهري‏:‏ وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، وكذلك، قتال البغاة المتأولين، حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوسًا وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء‏:‏ كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد‏.‏
وكذلك المرتدون إذا صار لهم شوكة فقتلوا المسلمين، وأصابوا من دمائهم وأموالهم، كما اتفق الصحابة في قتال أهل الردة‏:‏ أنهم لا يضمنون بعد إسلامهم ما أتلفوه من النفوس والأموال، فإنهم كانوا متأولين، وإن كان تأويلهم باطلاً، كما أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه مضت بأن الكفار إذا قتلوا بعض المسلمين وأتلفوا أموالهم ثم أسلموا، لم يضمنوا ما أصابوه من النفوس والأموال، وأصحاب تلك النفوس والأموال كانوا يجاهدون، قد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فعوض ما أخذ منهم على الله لا على أولئك الظالمين الذين قاتلهم المؤمنون‏.‏
وإذا كان هذا في الدماء والأموال فهو في الأعراض أولى، فمن كان مجاهدًا في سبيل الله باللسان‏:‏ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الدين وتبليغ مافي الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير، وبيان الأقوال المخالفة لذلك، والرد على من خالف الكتاب والسنة، أو باليد كقتال الكفار، فإذا

 

ص -334-

أوذي على جهاده بيد غيره أو لسانه فأجره في ذلك على الله لا يطلب من هذا الظالم عوض مظلمته، بل هذا الظالم إن تاب وقبل الحق الذي جوهد عليه فالتوبة تجب ما قبلها ‏{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏، وإن لم يتب بل أصر على مخالفة الكتاب والسنة، فهو مخالف لله ورسوله، والحق في ذنوبه لله ولرسوله، وإن كان أيضًا للمؤمنين حق تبعًا لحق الله، وهذا إذا عوقب عوقب لحق الله ولتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله لا لأجل القصاص فقط‏.‏
والكفار إذا اعتدوا على المسلمين مثل أن يمثلوا بهم، فللمسلمين أن يمثلوا بهم كما مثلوا، والصبر أفضل، وإذا مثلوا كان ذلك من تمام الجهاد، والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين، والدعاء على الكافرين‏.‏
وأما الدعاء على معينين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلعن فلانًا وفلانًا، فهذا قد روى أنه منسوخ بقوله‏:‏ ‏
{لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، فيما كتبته في قلعة مصر؛ وذلك لأن المعين لا يعلم أن رضى الله عنه أن يهلك، بل قد يكون ممن يتوب الله عليه، بخلاف الجنس، فإنه إذا دعى عليهم بما فيه عز الدين وذل عدوه وقمعهم كان هذا دعاء بما يحبه الله ويرضاه، فإن الله يحب الإيمان وأهل الإيمان وعلو أهل الإيمان وذل الكفار، فهذا دعاء بما يحب الله، وأما الدعاء على المعين بما لا يعلم أن الله

 

ص -335-

يرضاه فغير مأمور به، وقد كان يفعل ثم نهى عنه؛ لأن الله قد يتوب عليه أو يعذبه‏.‏
ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك، كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومع هذا فقد ثبت في حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول‏:‏ ‏"‏إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها‏"‏، فإنه وإن لم ينه عنها فلم يؤمر بها، فكان الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به واجب أو مستحب، فإن الدعاء من العبادات، فلا يعبد الله إلا بمأمور به واجب أو مستحب، وهذا لو كان مأمورًا به لكان شرعًا لنوح، ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا‏؟‏
وكذلك دعاء موسى بقوله‏:‏ ‏
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏ إذا كان دعاء مأمورًا به، بقى النظر في موافقة شرعنا له، والقاعدة الكلية في شرعنا‏:‏ أن الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا فهو حسن يثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا كالعدوان في الدماء فهو ذنب ومعصية، وإن كان مكروها فهو ينقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوى الطرفين فلا له ولا عليه، فهذا هذا، والله سبحانه أعلم‏.

 

ص -336-

فصل
وكلا الطائفتين ، الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو والقرب منه من غير اعتبار بالأمر والنهي المنزلين من عند الله، الذين ينتهون إلى الفناء في توحيد الربوبية، يقولون بالجمع والاصطلام في توحيد الربوبية، ولا يصلون إلى الفرق الثاني، ويقولون‏:‏ إن صاحب الفناء لا يستحسن حسنة، ولا يستقبح سيئة، ويجعلون هذا غاية السلوك‏.‏
والذين يفرقون بين ما يستحسنونه، ويستقبحونه ويحبونه ويكرهونه، ويأمرون به وينهون عنه، لكن بإرادتهم ومحبتهم وهواهم لا بالكتاب المنزل من عند الله، كلا الطائفتين متبع لهواه بغير هدى من الله، وكلا الطائفتين لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي ألا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما أبغضه، ويأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه، وإنك لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تسأل إلا الله، هذا ملة إبراهيم، وهذا الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين‏.‏

 

ص -337-

والفناء في هذا هو الفناء المأمور به، الذي جاءت به الرسل، وهو أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبرجائه وخوفه عن رجاء ما سواه وخوفه، فيكون مع الحق بلا خلق، كما قال الشيخ عبد القادر‏:‏ كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس‏.‏
وتحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله، يوجب أن تكون طاعته طاعة الله وإرضاؤه إرضاء الله، ودين الله ما أمر به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ولهذا طالب الله المدعين لمحبته بمتابعته، فقال‏:‏ ‏
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ وضمن لمن اتبعه أن الله يحبه بقوله‏:‏ ‏{يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏}‏ وصاحب هذه المتابعة لا يبقى مريدًا إلا ما أحبه الله ورسوله، ولا كارهًا إلا لما كرهه الله ورسوله، وهذا هو الذي يحبه الحق كما قال‏:‏ ‏"‏ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه‏"‏‏.‏

 

ص -338-

فهذا محبوب الحق، ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل، ومعلوم أن من كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله، ويبغض معصية الله ورسوله، فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله، ليس فيها كفر ولا فسوق، والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق، فإن الجزاء من جنس العمل، فلما لم يزل متقربًا إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الحق فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق، فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها من هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته، حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق، فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي‏.‏
وأما الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فهذا لم تبق عنده الأمور نوعان محبوب للحق، ومكروه، بل كل مخلوق فهو عنده محبوب للحق، كما أنه مراد، فإن هؤلاء أصل قولهم‏:‏ هو قول جهم بن صفوان من القدرية، فهم من غلاة الجهمية الجبرية في القدر، وإن كانوا في الصفات يكفرون الجهمية نفاة الصفات، كحال أبي إسماعيل الأنصاري صاحب منازل السائرين، وذم الكلام، والفاروق وتكفير الجهمية وغير ذلك، فإنه في باب إثبات الصفات في غاية المقابلة للجهمية والنفاة، وفي باب الأفعال والقدر قوله يوافق الجهم ومن اتبعه من غلاة الجبرية، وهو قول الأشعري وأتباعه، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث والصوفية‏.‏

 

ص -339-

فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة، وهم مصيبون في ذلك، وخالفوا القدرية من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر، ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم ابن صفوان وأتباعه فزعموا‏:‏ أن الأمور كلها لم تصدر إلا عن إرادة تخصيص أحد المتماثلين بلا سبب‏.‏ وقالوا‏:‏ الإرادة والمحبة والرضا سواء، فوافقوا في ذلك القدرية، فإن الجهمية والمعتزلة كلاهما يقول‏:‏ إن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح، وكلاهما يقول‏:‏ لا فرق بين الإرادة والمحبة والرضا‏.‏
ثم قالت القدرية‏:‏ وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، قالوا‏:‏ فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي واقعًا بدون مشيئته وإرادته كما هو واقع على خلاف أمره، وخلاف محبته ورضاه وقالوا‏:‏ إن محبته ورضاه لأعمال عباده هو بمعنى أمره بها، فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها، فلا يكون قط عندهم مريدًا لغير ما أمر به، وأخذ هؤلاء يتأولون ما في القرآن من إرادته لكل ما يحدث ومن خلقه لأفعال العباد بتأويلات محرفة‏.‏
وقالت الجهمية ومن اتبعها من الأشعرية وأمثالهم‏:‏ قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شىء وربه ومليكه، ولا يكون خالقًا إلا بقدرته ومشيئته؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما في الوجود فهو

 

ص -340-

بمشيئته وقدرته، وهو خالقه، سواء في ذلك أفعال العباد وغيرها، ثم قالوا‏:‏ وإذا كان مريدًا لكل حادث والإرادة هي المحبة والرضا، فهو محب راض لكل حادث، وقالوا‏:‏ كل مافي الوجود من كفر وفسوق وعصيان فإن الله راض به محب له، كما هو مريد له‏.‏
فقيل لهم‏:‏ فقد قال تعالى‏:‏
‏{لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، ‏{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا بمنزلة أن يقال‏:‏ لا يريد الفساد، ولا يريد لعباده الكفر، وهذا يصح علي وجهين‏:‏
وإما أن يكون خاصًا بمن لم يقع منه الكفر والفساد، ولا ريب أن الله لا يريد ولا يحب مالم يقع عندهم، فقالوا‏:‏ معناه لا يحب الفساد لعباده المؤمنين، ولا يرضاه لهم‏.‏
وحقيقة قولهم‏:‏ أن الله  أيضًا  لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار‏.‏ فالمحبة والرضا عندهم كالإرادة عندهم متعلقة بما وقع دون مالم يقع، سواء كان مأمورًا به أو منهيًا عنه‏.‏ وسواء كان من أسباب سعادة العباد أو شقاوتهم، وعندهم أن الله يحب ما وجد من الكفر والفسوق والعصيان، ولا يحب ما لم يوجد من الإيمان والطاعة، كما أراد هذا دون هذا‏.‏
والوجه الثاني‏:‏ قالوا‏:‏ لا يحب الفساد دينا، ولا يرضاه دينا، وحقيقة هذا القول أنه لا يريده دينا، فإنه إذا أراد وقوع الشيء على صفة لم يكن مريدًا له علي خلاف تلك الصفة، وهو إذا أراد وقوع شىء مع شىء

 

ص -341-

لم يرد وقوعه وحده فإنه إذا أراد أن يخلق زيدًا من عمرو لم يرد أن يخلقه من غيره‏.‏ وإذا أراد أن ينزل مطرًا فتنبت الأرض به، فإنه أراد إنزاله على تلك الصفة، وإذا أراد أن يركب البحر قوم فيغرق بعضهم، ، ويسلم بعضهم، ويربح بعضهم، فإنما أراده على تلك الصفة، فكذلك الإيمان والكفر، قرن بالإيمان نعيم أصحابه، و بالكفر عذاب أصحابه، وإن لم يكن عندهم جعل شىء لشىء سببًا، ولا خلق شىء لحكمة، لكن جعل هذا مع هذا‏.‏
وعندهم جعل السعادة مع الإيمان، لا به كما يقولون‏:‏ أنه خلق الشبع عند الأكل، لا به، فالدين الذي أمر به هو ما قرن به سعادة صاحبه في الآخرة، والكفر والفسوق والعصيان عندهم أحبه ورضيه كما أراده، لكن لم يحبه مع سعادة صاحبه، فلم يحبه دينا، كما أنه لم يرده مع سعادة صاحبه دينا‏.‏
وهذا المشهد الذي شهده أهل الفناء في توحيد الربوبية، فإنهم رأوا الرب تعالي خلق كل شىء بإرادته وعلم أن سيكون ما أراد، ولا سبب عندهم لشىء ولا حكمة، بل كل الحوادث تحدث بالإرادة‏.‏
ثم الجهم بن صفوان ونفاة الصفات من المعتزلة ونحوهم لا يثبتون إرادة قائمة بذاته، بل إما أن ينفوها، وإما أن يجعلوها بمعنى الخلق والأمر، وإما أن يقولوا‏:‏ أحدث إرادة لا في محل ‏.‏
وأما مثبتة الصفات، كابن كلاب والأشعري وغيرهما  ممن يثبت

 

ص -342-

الصفات، ولا يثبت إلا واحدًا معينًا  فلا يثبت إلا إرادة واحدة تتعلق بكل حادث، وسمعًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مسموع، وبصرًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مرئي، وكلامًا واحدًا بالعين يجمع جميع أنواع الكلام، كما قد عرف من مذهب هؤلاء، فهؤلاء يقولون‏:‏ جميع الحادثات صادرة عن تلك الإرادة الواحدة العين المفردة التي ترجح أحد المتماثلين لا بمرجح، وهي المحبة والرضا وغير ذلك‏.‏
وهؤلاء إذا شهدوا هذا لم يبق عندهم فرق بين جميع الحوادث في الحسن والقبح إلا من حيث موافقتها للإنسان، ومخالفة بعضها له، فما وافق مراده ومحبوبه كان حسنًا عنده، وما خالف ذلك كان قبيحًا عنده، فلا يكون في نفس الأمر حسنة يحبها الله ولا سيئة يكرهها إلا بمعنى أن الحسنة هي ما قرن بها لذة صاحبها، والسيئة ما قرن بها ألم صاحبها من غير فرق يعود إليه‏.‏ ولا إلى الأفعال أصلاً؛ ولهذا كان هؤلاء لا يثبتون حسنًا ولا قبيحًا‏.‏ لا بمعنى الملائم للطبع والمنافى له، والحسن والقبح الشرعي هو ما دل صاحبه على أنه قد يحصل لمن فعله لذة، أو حصول ألم له‏.‏
ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شىء حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شىء حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكل ما نهى عنه، ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شر، ولا حسن ولا قبيح، إلا بهذا الاعتبار، فما في الوجود ضر ولا نفع، والنفع والضر

 

ص -343-

أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضر هذا‏.‏ كما يقال‏:‏ مصائب قوم عند قوم فوائد‏.‏
فلما كان هذا حقيقة قولهم الذي يعتقدونه ويشهدونه صاروا حزبين‏:‏
حزبًا من أهل الكلام والرأي أقروا بالفرق الطبيعي، وقالوا‏:‏ ما ثم فرق إلا الفرق الطبيعي، ليس هنا فرق يرجع إلى الله بأنه يحب هذا ويبغض هذا‏.‏
ثم منهم من يضعف عنده الوعد والوعيد، إما لقوله بالإرجاء، وإما لظنه أن ذلك لمصالح الناس في الدنيا إقامة للعدل، كما يقول‏:‏ ذلك من يقوله من المتفلسفة، فلا يبقى عنده فرق بين فعل وفعل إلا ما يحبه هو ويبغضه، فما أحبه هو كان الحسن الذي ينبغي فعله، وما أبغضه كان القبيح الذي ينبغي تركه، وهذا حال كثير من أهل الكلام والرأي؛ الذين يرون رأي جهم والأشعري ونحوهما في القدر، تجدهم لا ينتهون في المحبة والبغضة والموالاة والمعاداة إلا إلى محض أهوائهم وإرادتهم، وهو الفرق الطبيعي‏.‏
ومن كان منهم مؤمنًا بالوعد فإنه قد يفعل الواجبات، ويترك المحرمات لكن لأجل ما قرن بهما من الأمور الطبيعية في الآخرة من أكل وشرب ، ونكاح، وهؤلاء ينكرون محبة الله، والتلذذ بالنظر إليه، وعندهم إذا قيل‏:‏ إن

 

ص -344-

العباد يتلذذون بالنظر إليه فمعناه أنهم عند النظر يخلق لهم من اللذات بالمخلوقات ما يتلذذون به، لا أن نفس النظر إلى الله يوجب لذة، وقد ذكر هذا غير واحد منهم أبو المعالي في الرسالة النظامية‏.‏ وجعل هذا من أسرار التوحيد وهو من إشراك التوحيد، الذي يسميه هؤلاء النفاة توحيدًا، لا من أسرار التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فإن المحبة لا تكون إلا لمعنى في المحبوب يحبه المحب، وليس عندهم في الموجودات شىء يحبه الرب إلا بمعنى يريده، وهو مريد لكل الحوادث، ولا في الرب عندهم معني يحبه العبد، وإنما يحب العبد ما يشتهيه، وإنما يشتهي الأمور الطبعية الموافقة لطبعه، ولا يوافق طبعه عندهم إلا اللذات البدنية كالأكل والشرب والنكاح‏.‏
والحزب الثاني‏:‏ من الصوفية الذي كان هذا المشهد هو منتهي سلوكهم، عرفوا الفرق الطبيعي، وهم قد سلكوا على ترك هذا الفرق الطبيعي، وإنهم يزهدون في حظوظ النفس وأهوائها لا يريدون شيئًا لأنفسهم، وعندهم أن من طلب شيئًا للأكل والشرب في الجنة، فإنما طلب هواه وحظه، وهذا كله نقص عندهم ينافي حقيقة الفناء في توحيد الربوبية وهو بقاء مع النفس وحظوظها‏.‏
والمقامات كلها عندهم  التوكل والمحبة، وغير ذلك  إنما هي منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شهدوا توحيد الربوبية كان ذلك عندهم عللا في الحقيقة، إما لنقص المعرفة والشهود، وإما لأنه ذب عن

 

ص -345-

النفس وطلب حظوظها، فإنه من شهد أن كل مافي الوجود فالرب يحبه ويرضاه ويريده، لا فرق عنده بين شىء وشىء، إلا أن من الأمور ما معه حظ لبعض الناس من لذة يصيبها، ومنها ما معه ألم لبعض الناس، فمن كان هذا مشهده فإنه قطعًا يرى أن كل من فرق بين شىء وشىء لم يفرق إلا لنقص معرفته، وشهوده أن الله رب كل شىء ومريد لكل شىء ومحب  على قولهم  لكل شىء، وإنما لفرق يرجع إلى حظه وهواه، فيكون طالبًا لحظه ذابًا عن نفسه، وهذا علة وعيب عندهم‏.‏
فصار عندهم كل من فرق، إما ناقص المعرفة والشهادة، وإما ناقص القصد والإرادة‏.‏ وكلاهما علة، لخلاف صاحب الفناء في مشهد الربوبية، فإنه يشهد كل مافي الوجود بإرادته ومحبته ورضاه عندهم، لا فرق بين شىء وشىء، فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، كما قاله صاحب منازل السائرين‏.‏
ولهذا في الكلام المنقول عن الذبيلي، وأبي يزيد أنه قال‏:‏ إذا رأيت أهل الجنة يتنعمون في الجنة، وأهل النار يعذبون في النار، فوقع في قلبك فرق، خرجت عن حقيقة التوكل، أو قال‏:‏ عن التوحيد الذي هو أصل التوكل، ومعلوم أن هذا الفرق لا يعدم من الحيوان دائمًا بل لابد له منه يميل إلى ما لا بد له منه من أكل وشرب، لكنه في حال الفناء قد يكون مستغرقًا في ذلك المشهد، ولكن لابد أن يميل إلى أمور يحتاج إليها فيريدها، وأمور تضره فيكرهها وهذا فرق طبيعي لا يخلو منه بشر‏.‏

 

ص -346-

لكن قد يقولون بالفرق في الأمور الضرورية التي لا يقوم الإنسان إلا بها من طعام ولباس ونحو ذلك، فيكتفون في الدنيا والآخرة بما لابد منه من طعام ولباس، ويرون هذا الزهد هو الغاية، فيزهدون في كل شىء، بمعنى أنهم لا يريدونه ولا يكرهونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه، ويكون زهدهم في المساجد كزهدهم في الحانات، ولهذا إذا قدم الشيخ الكبير منهم بلدًا يبدأ بالبغايا في الحانات ويقول‏:‏ كيف أنتم في قدر الله، فإنه لا فرق عنده في هذا المشهد بين المساجد والكنائس والحانات، وبين أهل الصلاة والإحرام وقراءة القرآن وأهل الكفر وقطاع الطريق والمشركين بالرحمن‏.‏
ولا ريب أن فناءهم وغيبتهم عن شهود الإلهية والنبوة، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما تضمنه من الفرق يرجع إلى نقص العلم والشهود والإيمان والتوحيد، فشهدوا نعتًا من نعوت الرب، وغابوا عن آخر وهذا نقص‏.‏
وقد يرون أن شهود الذات مجردة عن الصفات أكمل، ويقولون‏:‏ شهود الأفعال، ثم شهود الصفات، ثم شهود الذات المجردة، وربما جعلوا الأول للنفس، والثاني للقلب، والثالث للروح، ويجعلون هذا النقص من إيمانهم ومعرفتهم وشهودهم هو الغاية، فيكونون مضاهين للجهمية نفاة الصفات، حيث أثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات، وقالوا‏:‏ هذا هو الكمال، لكن أولئك يقولون‏:‏ بانتفائها في الخارج، فيقولون‏:‏ إنهم يشهدون أنها منتفية وهؤلاء يثبتونها في

 

ص -347-

الخارج علمًا واعتقادًا، ولكن يقولون‏:‏ الكمال في أن يغيب عن شهودها ولا يشهدون نفيها، لكن لا يشهدون ثبوتها، وهذا نقص عظيم وجهل عظيم‏.‏
أما أولاً، فلأنهم شهدوا الأمر على خلاف ما هو عليه، فذات مجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج‏.‏
وأما الثاني، فهو مطلوب الشيطان من التجهم ونفي الصفات، فإن عدم العلم والشهود لثبوتها يوافق فيه الجهمي المعتقد لانتفائها، ومن قال‏:‏ أعتقد أن محمدا ليس برسول، وقال الآخر‏:‏ وإن كنت أعلم رسالته فأنا أفنى عنها فلا أذكرها ولا أشهدها، فهذا كافر كالأول‏.‏ فالكفر عدم تصديق الرسول، سواء كان معه اعتقاد تكذيب أم لا، بل وعدم الإقرار بما جاء به والمحبة له، فمن ألزم قلبه أن يغيب عن معرفة صفات الله كما يعرف ذاته، وألزم قلبه أن يشهد ذاتًا مجردة عن الصفات، فقد ألزم قلبه أن لا يحصل له مقصود الإيمان بالصفات وهذا من أعظم الضلال‏.‏
وأهل الفناء في توحيد الربوبية قد يظن أحدهم أنه إذا لم يشهد إلا فعل الرب فيه فلا إثم عليه، وهم في ذلك بمنزلة من أكل السموم القاتلة، وقال‏:‏ أنا أشهد أن الله هو الذي أطعمني، فلا يضرني، وهذا جهل عظيم، فإن الذنوب والسيئات تضر الإنسان أعظم مما تضره السموم، وشهوده أن الله فاعل ذلك

 

ص -348-

لا يدفع ضررها، ولو كان هذا دافعًا لضررها لكان أنبياء الله، وأولياؤه المتقون أقدر على هذا الشهود الذي يدفعون به عن أنفسهم ضرر الذنوب‏.‏
ومن هؤلاء من يظن أن الحق، إذا وهبه حالاً يتصرف به وكشفا لم يحاسبه على تصرفه به، وهذا بمنزلة من يظن أنه إذا أعطاه ملكًا لم يحاسبه على تصرفه فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏، فبين أنه مع أنه المعطي المانع، فلا ينفع المجدود جده، إنما ينفعه الإيمان و العمل الصالح‏.‏
فهذا أصل عظيم ضل بالخطأ فيه خلق كثير، حتى آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى أن جعلوا أولياء الله المتقين يقاتلون أنبياءه، ويعاونون أعداءه، وأنهم مأمورون بذلك، وهو أمر شيطاني قدري، ولهذا يقول من يقول منهم‏:‏ أن الكفار لهم خفراء من أولياء الله، كما للمسلمين خفراء من أولياء الله، ويظن كثير منهم أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي فقال‏:‏ ‏"
‏يا أصحابي، تخلوني وتذهبون عني‏"‏ ‏؟‏‏!‏ فقالوا‏:‏ نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه‏.‏
ويجوزون قتال الأنبياء وقتلهم  كما قال شيخ مشهور منهم  كان بالشام ‏:‏ لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئًا فإنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما وقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، ومالم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه،

 

ص -349-

والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه؛ لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم، وإذا كان الرسول منصورًا كانوا معه، وإذا غلب أصحابه كانوا مع الكفار الذين غلبوهم‏.‏
وهؤلاء الذين يصلون إلى هذا الحد غالبهم لا يعرف وعيد الآخرة، فإن من أقر بوعيد الآخرة وأنه للكفار لم يمكنه أن يكون معاونًا للكفار مواليا لهم على ما يوجب وعيد الآخرة، لكن قد يقولون بسقوطه مطلقًا، وقد يقولون‏:‏ بسقوطه عمن شهد توحيد الربوبية، وكان في هذه الحقيقة القدرية، وهذا يقوله طائفة من شيوخهم، كالشيخ المذكور وغيره‏.‏
فلهذا يوجد هؤلاء الذين يشهدون القدر المحض، وليس عندهم غيره إلا ما هو قدر أيضًا  من نعيم أهل الطاعة، وعقوبة أهل المعصية  لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل ولا يدعون الله بنصر المؤمنين على الكفار، بل إذا رأى أحدهم من يدعو، قال الفقير أو المحقق أو العارف‏:‏ ما له ‏؟‏‏!‏ يفعل الله ما يشاء، وينصر من يريد، فإن عنده أن الجميع واحد بالنسبة إلى الله، و بالنسبة إليه أيضًا، فإنه ليس له غرض في نصر إحدى الطائفتين لا من جهة ربه، فإنه لا فرق على رأيه عند الله  تعالى  بينهما، ولا من جهة نفسه، فإن حظوظه لا تنقص باستيلاء الكفار، بل كثير منهم تكون

 

ص -350-

حظوظه الدنيوية مع استيلاء الكفار والمنافقين والظالمين أعظم، فيكون هواه أعظم‏.‏
وعامة من معهم من الخفراء هم من هذا الضرب، فإن لهم حظوظًا ينالونها باستيلائهم، لا تحصل لهم باستيلاء المؤمنين‏.‏ وشياطينهم تحب تلك الحظوظ المذمومة، وتغريهم بطلبهم، وتخاطبهم الشياطين بأمر ونهي وكشف يظنونه من جهة الله، وإن الله هو أمرهم ونهاهم، وأنه حصل لهم من المكاشفة، ما حصل لأولياء الله المتقين، ويكون ذلك كله من الشياطين، وهم لا يفرقون بين الأحوال الرحمانية، والشيطانية؛ لأن الفرق مبني على شهود الفرق من جهة الرب  تعالى  وعندهم لا فرق بين الأمور الحادثة كلها من جهة الله  تعالى  إنما هو مشيئة محضة تناولت الأشياء تناولاً واحدًا، فلا يحب شيئًا ولا يبغض شيئًا‏.‏
ولهذا يشترك هؤلاء في جنس السماع الذي يثير مافي النفوس، من الحب والوجد والذوق، فيثير من قلب كل أحد حبه وهواه، وأهواؤهم متفرقة، فإنهم لم يجتمعوا على محبة ما يحبه الله ورسوله، إذ كان محبوب الحق  على أصل قولهم  هو ما قدره فوقع، وإذا اختلفت أهواؤهم في الوجد، اختلفت أهواء شياطينهم، فقد يقتل بعضهم بعضا بشياطينه؛ لأنها أقوى من شياطين ذاك وقد يسلبه ما معه من الحال الذي هو التصرف والمكاشفة الحاصلة له بسبب شياطينهم، فتكون شياطينه هربت من شياطين ذلك‏.‏ فيضعف أمره، ويسلب حاله، كمن كان ملكًا له أعوان فأخذت أعوانه، فيبقى ذليلاً لا ملك له،

 

ص -351-

فكثير من هؤلاء كالملوك الظلمة الذين يعادي بعضهم بعضًا، إما مقتول وإما مأسور، وإما مهزوم‏.‏ فإن منهم من يأسر غيره فيبقى تحت تصرفه، ومنهم من يسلبه غيره، فيبقى لا حال له، كالملك المهزوم، فهذا كله من تفريع أصل الجهمية الغلاة في الجبر في القدر‏.‏
وإنما يخلص من هذا كله من أثبت لله محبته لبعض الأمور وبغضه لبعضها، وغضبًا من بعضها، وفرحًا ببعضها، وسخطًا لبعضها، كما أخبرت به الرسل، ونطقت به الكتب، وهذا هو الذي يشهد، أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويعلم أن التوحيد الذي بعثت به الرسل أن يعبد الله وحده لا شريك له، فيعبد الله دون ما سواه‏.‏
وعبادته تجمع كمال محبته وكمال الذل له ، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54‏]‏ ، فينيب قلبه إلى الله ويسلم له، ويتبع ملة إبراهيم حنيفًا ‏{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، ويعلم أن ما أمر الله ورسوله به فإن الله يحبه ويرضاه، وما نهى عنه فإنه يبغضه وينهى عنه ويمقت عليه ويسخط على فاعله، فصار يشهد الفرق من جهة الحق تعالى ‏.‏
ويعلم أن الله  تعالى  يحب أن يعبد وحده لا شريك له، ويبغض من يجعل له أندادًا يحبونهم كحب الله، وإن كانوا مقرين بتوحيد الربوبية كمشركي

 

ص -352-

العرب وغيرهم، وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية، حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏.‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148، 149‏]‏‏.‏
فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شىء، ما بقى عندهم من فرق من جهة الله  تعالى  بين مأمور ومحظور، فقالوا‏:‏ ‏
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وهذا حق، فإن الله لو شاء ألا يكون هذا لم يكن، لكن أي فائدة لهم في هذا، هذا غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر، ولا يلزم إذا كان مقدورًا أن يكون محبوبًا مرضيًا لله، ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص‏.‏
فإن احتجوا بالقدر، فالقدر عام لا يختص بحالهم‏.‏
وإن قالوا‏:‏ نحن نحب هذا، ونسخط هذا، فنحن نفرق الفرق الطبيعي؛ لانتفاء الفرق من جهة الحق، قال تعالى‏:‏ لا علم عندكم بانتفاء الفرق من جهة الله تعالى، والجهمية المثبتة للشرع تقول‏:‏ بأن الفرق الثابت هو أن التوحيد

 

ص -353-

قرن به النعيم، والشرك قرن به العذاب وهو الفرق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم يرجع إلي علم الله بما سيكون وإخباره، بل هؤلاء لا يرجع الفرق عندهم إلى محبة منه، لهذا وبغض لهذا‏.‏
وهؤلاء يوافقون المشركين في بعض قولهم لا في كله، كما أن القدرية من الأمة  الذين هم مجوس الأمة  يوافقون المجوس المحضة في بعض قولهم لا في كله، وإلا فالرسول قد دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى محبة الله دون ما سواه، وإلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والمحبة تتبع الحقيقة فإن لم يكن المحبوب في نفسه مستحقًا أن يحب لم يجز الأمر بمحبته فضلاً عن أن يكون أحب إلينا من كل ما سواه‏.‏
وإذا قيل‏:‏ محبته، محبة عبادته وطاعته، قيل‏:‏ محبة العبادة والطاعة فرع على محبة المعبود المطاع، وكل من لم يحب في نفسه لم تحب عبادته وطاعته؛ ولهذا كان الناس يبغضون طاعة الشخص الذي يبغضونه، ولا يمكنهم مع بغضه محبة طاعته، إلا لغرض آخر محبوب، مثل عوض يعطيهم على طاعته، فيكون المحبوب في الحقيقة هو ذلك العوض، فلا يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، إلا بمعنى أن العوض الذي يحصل من المخلوقات أحب إليهم من كل شىء‏.‏  ومحبة ذلك العوض مشروط بالشعور به، فما لا يشعر به تمتنع محبته، فإذا قيل‏:‏ هم قد وعدوا على محبة الله ورسوله بأن يعطوا أفضل محبوباتهم المخلوقة

 

ص -354-

قيل‏:‏ لامعنى لمحبة الله ورسوله عندكم إلا محبة ذلك العوض، والعوض غير مشعور به حتي يحب، وإذا قيل‏:‏ بل إذا قال‏:‏ من قال‏:‏ لا يحب غيره إلا لذاته‏.‏ المعنى‏:‏ أنك إذا أطعتني أعطيتك أعظم ما تحبه صار محبًا لذلك الآمر له، قيل‏:‏ ليس الأمر كذلك بل يكون قلبه فارغًا من محبة ذلك الآمر، وإنما هو معلق بما وعده من العوض على عمله كالفعلة الذين يعملون من البناء والخياطة والنساجة وغير ذلك ما يطلبون به أجورهم، فهم قد لا يعرفون صاحب العمل أو لا يحبونه ولا لهم غرض فيه، إنما غرضهم في العوض الذي يحبونه‏.‏
وهذا أصل قول الجهمية القدرية والمعتزلة الذي ينكرون محبة الله  تعالى  ولهذا قالت المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة‏:‏ إن معرفة الله وجبت لكونها لطفًا في أداء الواجبات العقلية فجعلوا أعظم المعارف تبعًا لما ظنوه واجبًا بالعقل، وهم ينكرون محبة الله والنظر إليه فضلاً عن لذة النظر‏.‏
وابن عقيل لما كان في كثير من كلامه طائفة من كلام المعتزلة سمع رجلاً يقول‏:‏ اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال‏:‏ يا هذا ‏!‏ هب أن له وجهًا أفتتلذذ بالنظر إليه‏؟‏‏!‏ وهذا اللفظ مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدعاء‏:‏
‏"‏اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك

 

ص -355-

الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين‏"‏‏.
وقد روى هذا اللفظ من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم  أظنه من رواية زيد بن ثابت  ومعناه في الصحيح من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون‏:‏ ما هو ‏؟‏ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار‏؟‏ قال‏:‏ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة‏"‏ يعني قوله‏:‏ ‏{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏
فقد أخبر أنه ليس فيما أعطوه من النعيم أحب إليهم من النظر، وإذا كان النظر إليه أحب الأشياء إليهم علم أنه نفسه أحب الأشياء إليهم، وإلا لم يكن النظر أحب أنواع النعيم إليهم، فإن محبة الرؤية تتبع محبة المرئي، وما لا يحب ولا يبغض في نفسه لا تكون رؤيته أحب إلى الإنسان من جميع أنواع النعيم‏.‏
وفي الجملة، فإنكار الرؤية والمحبة والكلام  أيضًا  معروف من كلام الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، والأشعرية ومن تابعهم يوافقونهم على

 

ص -356-

نفي المحبة ويخالفونهم في إثبات الرؤية ولكن الرؤية التي يثبتونها لا حقيقة لها‏.‏
وأول من عرف عنه في الإسلام أنه أنكر أن الله يتكلم، وأن الله يحب عباده‏:‏ الجعد ابن درهم، ولهذا أنكر أن يكون اتخذ الله إبراهيم خليلاً، أو كلم موسى تكليمًا، فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسري، وقال‏:‏ ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقوله الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه‏.‏
وأما الصوفية، فهم يثبتون المحبة بل هذا أظهر عندهم من جميع الأمور، وأصل طريقتهم إنما هي الإرادة والمحبة، وإثبات محبة الله مشهور في كلام أوليهم وآخريهم، كما هو ثابت بالكتاب والسنة واتفاق السلف‏.‏
والمحبة جنس تحته أنواع كثيرة فكل عابد محب لمعبوده، فالمشركون يحبون آلهتهم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏
{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وفيه قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ يحبونهم كحب المؤمنين لله، والثاني‏:‏ يحبونهم كما

 

ص -357-

يحبون الله؛ لأنه قد قال‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فلم يمكن أن يقال‏:‏ إن المشركين يعبدون آلهتهم كما يعبد الموحدون الله، بل كما يحبون  هم  الله، فإنهم يعدلون آلهتهم برب العالمين، كما قال‏:‏ ‏{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏.‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 97، 98‏]‏‏.‏
وقد قال‏:‏ بعض من نصر القول الأول في الجواب عن حجة القول الثاني قال المفسرون‏:‏ قوله‏:‏
‏{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏، أي‏:‏ أشد حبًا لله من المشركين لآلهتهم‏.‏ فيقال له‏:‏ ما قاله هؤلاء المفسرون مناقض لقولك، فإنك تقول‏:‏ إنهم يحبون الأنداد كحب المؤمنين لله، وهذا يناقض أن يكون المؤمنون أشد حبًا لله من المشركين لأربابهم، فتبين ضعف هذا القول وثبت أن المؤمنين يحبون الله أكثر من محبة المشركين لله ولآلهتهم، لأن أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلها لله‏.‏
وأيضًا، فقوله‏:‏
‏{كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ أضيف فيه المصدر إلى المحبوب المفعول، وحذف فاعل الحب، فإما أن يراد كما يحب الله  من غير تعيين فاعل  فيبقى عامًا في حق الطائفتين، وهذا يناقض قوله‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏، وإما أن يراد كحبهم لله، ولا يجوز أن يراد كما يحب غيرهم لله، إذ ليس في الكلام ما يدل على هذا بخلاف حبهم، فإنه قد دل عليه قوله‏:‏{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فأضاف الحب المشبه إليهم

 

ص -358-

فكذلك الحب المشبه لهم إذ كان سياق الكلام يدل عليه إذا قال‏:‏ يحب زيدًا كحب عمرو، أو يحب عليا كحب أبي بكر، أو يحب الصالحين من غير أهله كحب الصالحين من أهله، أو قيل‏:‏ يحب الباطل كحب الحق، أو يحب سماع المكاء والتصدية كحب سماع القرآن، وأمثال ذلك لم يكن المفهوم إلا أنه هو المحب للمشبه والمشبه به، وأنه يحب هذا كما يحب هذا، لا يفهم منه أنه يحب هذا كما يحب غيره هذا‏.‏ إذ ليس في الكلام ما يدل على محبة غيره أصلا‏.‏
والمقصود أن المحبة تكون لما يتخذ إلها من دون الله، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، فمن كان يعبد ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، فما هويه هوية إلهه، فهو لا يتأله من يستحق التأله، بل يتأله ما يهواه وهذا المتخذ إلهه هواه له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، و محبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله، وهذه محبة أهل الشرك‏.‏
والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله، وقد يخفى الهوى على النفس فإن حبك الشىء يعمي ويصم‏.‏
وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان ، أنه يعملها لله، وفي نفسه شرك قد خفى

 

ص -359-

عليه، وهو يعمله، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة، ولهذا قالوا‏:‏ يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏"‏‏.‏
فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة، ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة، دخل فيها نوع من الشرك، واتباع الأهواء والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله‏.‏ فقال‏:‏
‏{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏؛ وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شىء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شىء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات‏.‏
فكل من ادعى أنه يحب الله، ولم يتبع الرسول فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوي اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين‏.‏
وهكذا أهل البدع، فمن قال‏:‏ إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد

 

ص -360-

اتباع الرسول والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر‏.‏
وأيضًا، فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله، والجهاد في سبيله، لقوله تعالى‏:‏
‏{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏.‏ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 80، 81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏
فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم، ومن معه، حيث أبدوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده، فأين هذا من حال من لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ‏؟‏‏!‏

 

ص -361-

وهؤلاء سلكوا طريق الإرادة والمحبة، مجملا من غير اعتصام بالكتاب والسنة، كما سلك أهل الكلام والرأي طريق النظر والبحث، من غير اعتصام بالكتاب والسنة، فوقع هؤلاء في ضلالات وهؤلاء في ضلالات، كما قال تعالي‏:‏ ‏{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏.‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏.‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ‏.‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 123- 126‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 108‏]‏‏.‏ ومثل هذا كثير في القرآن ‏.‏
وقد بسط الكلام على هذا الأصل في غير هذا الموضع‏.‏
فإن قيل‏:‏ صاحب الفناء في توحيد الربوبية قد شهد أن الرب خلق كل شىء، وقد يكون ممن يثبت الحكمة، فيقول‏:‏ إنما خلق المخلوقات لحكمة، وهو يحب تلك الحكمة ويرضاها، وإنما خلق ما يكرهه لما يحبه، والذين فرقوا بين المحبة والإرادة، قالوا‏:‏ المريض يريد الدواء ولا يحبه، وإنما يحب ما يحصل به وهو العافية وزوال المرض، فالرب تعالي خلق الأشياء كلها بمشيئته فهو مريد لكل ما خلق، ولما أحبه من الحكمة، وإن كان لا يحب بعض المخلوقات من الأعيان والأفعال، لكنه يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فالعارف إذا شهد

 

ص -362-

هذا أحب أيضًا أن يخلق لتلك الحكمة وتكون الأشياء مرادة محبوبة له كما هي للحق فهو وإن كره الكفر والفسوق والعصيان، لكن ما خلقه الله منه خلقه لحكمة، وإرادة، فهو مراد محبوب باعتبار غايته لا باعتباره في نفسه‏.‏
قيل‏:‏ من شهد هذا المشهد، فهو يستحسن ما حسنه الله وأحبه ورضيه، ويستقبح ما كرهه الله وسخطه، ولكن إذا كان الله خلق هذا المكروه لحكمة يحبها، فالعارف هو أيضًا يكرهه ويبغضه كما كرهه الله، ولكن يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فيكون حبه وعلمه موافقًا لعلم الله وحبه، لا مخالفًا ‏.‏ والله عليم حكيم، فهو يعلم الأشياء على ما هي عليه، وهو حكيم فيما يحبه ويريده، ويتكلم به وما يأمر به ويفعله، فإن كان يعلم أن الفعل الفلاني والشىء الفلاني متصف بما هو مذموم لأجله، مستحق للبغض والكراهة كان من حكمته أن يبغضه ويكرهه، وإذا كان يعلم أن في وجوده حصول حكمة محبوبة محمودة، كان من حكمته أنه يخلقه ويريده؛ لأجل تلك الحكمة المحبوبة التي هي وسيلة إلى حصوله‏.‏
وإذا قيل‏:‏ إن هذا الوسط يحب باعتبار أنه وسيلة إلى محبوب لذاته، ويبغض باعتبار ما اتصف به من الصفات المذمومة كان هذا حسنا كما تقول‏:‏ إن الإنسان قد يبغض الدواء من وجه ويحبه من وجه، وكذلك أمور كثيرة تحب من وجه وتبغض من وجه‏.‏

 

ص -363-

وأيضًا يجب الفرق بين أن يكون مضرًا بالشخص مكروهًا له بكل اعتبار، وبين أن يكون الله خلقه لحكمة في ذلك‏.‏
وإذا كان الله خلق كل شىء لحكمة له في ذلك، فإذا شهد العبد أن له حكمة ورأي هذا مع الجمع الذي يشترك فيه المخلوقات، فلا يمنعه ذلك أن يشهد ما بينهما من الفرق الذي فرق الله به بين أهل الجنة، وأهل النار، بل لابد من شهود هذا الفرق في ذلك الجمع وهذا الشهود مطابق لعلم الله وحكمته‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، فأخبر أن من كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، فهو من أهل الوعيد، وقال في الذين يحبهم ويحبونه‏:‏ ‏{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏}‏ ‏[‏ المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏
فلابد لمحب الله من متابعة الرسول، والمجاهدة في سبيل الله، بل هذا لازم لكل مؤمن‏.‏ قال تعالى‏:‏
‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏،

 

ص -364-

فهذا حب المؤمن لله‏.‏
وأما المحبة الشركية، فليس فيها متابعة للرسول، ولا بغض لعدوه ومجاهدة له، كما يوجد في اليهود والنصارى والمشركين يدعون محبة الله، ولا يتابعون الرسول، ولا يجاهدون عدوه‏.‏
وكذلك أهل البدع المدعون للمحبة لهم، من الإعراض عن اتباع الرسول بحسب بدعتهم، وهذا من حبهم لغير الله، وتجدهم من أبعد الناس عن موالاة أولياء الرسول، ومعاداة أعدائه، والجهاد في سبيله لما فيهم من البدع التي هي شعبة من الشرك‏.‏
والذين ادعوا المحبة من الصوفية وكان قولهم في القدر من جنس قول الجهمية المجبرة هم في آخر الأمر، لا يشهدون للرب محبوبًا إلا ما وقع وقدر، وكل ما وقع من كفر وفسوق وعصيان فهو محبوبه عندهم، فلا يبقى في هذا الشهود فرق بين موسى، وفرعون، ولا بين محمد، وأبى جهل، ولا بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين عبادة الله وحده، وعبادة الأوثان، بل هذا كله عند الفاني في توحيد الربوبية سواء، ولا يفرق بين حادث وحادث إلا من جهة ما يهواه ويحبه، وهذا هو الذي اتخذ إلهه هواه، إنما يأله ويحب ما يهواه وهو وإن كان عنده محبة لله، فقد اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله، وهم

 

ص -365-

من يهواه، هذا ما دام فيه محبة لله، وقد ينسلخ منها حتي يصير إلى التعطيل، كفرعون وأمثاله الذي هو أسوء حالاً من مشركي العرب ونحوهم‏.‏
ولهذا هؤلاء يحبون بلا علم، ويبغضون بلا علم، والعلم ما جاء به الرسول، كما قال‏:‏
‏{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏، وهوالشرع المنزل؛ ولهذا كان الشيوخ العارفون كثيرًا ما يوصون المريدين باتباع العلم والشرع، كما قد ذكرنا قطعة من كلامهم في غير هذا الموضع، لأن الإرادة والمحبة إذا كانت بغير علم وشرع، كانت من جنس محبة الكفار وإرادتهم، فهؤلاء السالكون المريدون الصوفية والفقراء الزاهدون العابدون، الذين سلكوا طريق المحبة والإرادة إن لم يتبعوا الشرع المنزل، والعلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحبون ما أحب الله ورسوله، ويبغضون ما أبغض الله ورسوله، وإلا أفضى بهم الأمر إلى شعب من شعب الكفر والنفاق‏.‏
ولا يتم الإيمان والمحبة لله، إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر‏.‏
ومن الإيمان بما أخبر، الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فمن نفى الصفات فقد كذب خبره‏.‏
ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر وترك ما حظر، ومحبة الحسنات وبغض/

 

ص -366-

السيئات، ولزوم هذا الفرق إلى الممات، فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السيئ المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شىء، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏ وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏
فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله، لم يكن معه من الإيمان شىء؛ ولهذا يوجد المبتدعون الذين يدعون المحبة المجملة المشتركة التي تضاهى محبة المشركين، يكرهون من ينكر عليهم شيئًا من أحوالهم، ويقولون‏:‏ فلان ينكر، وفلان ينكر، وقد يبتلون كثيرًا بمن ينكر ما معهم من حق وباطل، فيصير هذا يشبه النصراني الذي يصدق بالحق والباطل، ويحب الحق والباطل، كالمشرك الذي يحب الله ويحب الأنداد، وهذا كاليهودي الذي يكذب بالحق والباطل، ويبغض الحق والباطل، فلا يحب الله، ولا يحب الأنداد، بل يستكبر عن عبادة الله، كما استكبر فرعون وأمثاله‏.‏

 

ص -367-

وهذا موجود كثيرا في أهل البدع من أهل الإرادة، والبدع من أهل الكلام، هؤلاء يقرون بالحق والباطل مضاهاة للنصارى، وهؤلاء يكذبون بالحق والباطل مضاهاة لليهود، وإنما دين الإسلام وطريق أهل القرآن والإيمان إنكار ما يبغضه الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله والتصديق بالحق، والتكذيب بالباطل، فهم في تصديقهم ومحبتهم معتدلون يصدقون بالحق، ويكذبون بالباطل، ويحبون الحق ويبغضون الباطل، يصدقون بالحق الموجود ويكذبون بالباطل المفقود، ويحبون الحق الذي يحبه الله ورسوله، وهو المعروف الذي أمر الله ورسوله به، ويبغضون المنكر الذي نهى الله ورسوله عنه، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا طريق المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق، فلا يصدقون به ولا يحبونه، ولا الضالين الذين يعتقدون ويحبون مالم ينزل الله به سلطانًا‏.‏
والمقصود هنا‏:‏ أن المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى ألا يستحسنوا حسنة، ولا يستقبحوا سيئة؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورًا ولا يبغض محظورًا، فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شىئًا، كما هو قول الجهمية نفاة الصفات، وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتًا لمحبة الله ورضاه، وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات، لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئًا غير الإرادة الشاملة، وهذا وقع فيه

 

ص -368-

طوائف من مثبتة الصفات، تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية، فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات، كحال صحاب ‏[‏منازل السائرين‏]‏ وغيره‏.‏
وأما أئمة الصوفية، والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزومًا للأمر والنهي، وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرًا من المشي مع القدر، كما مشى أصحابهم أولئك، وهذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقًا تخالف ذلك أصلا لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين، ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي، الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه، ويثبت أنه لا إله إلا هو‏.‏
وهذا من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك، فإن كثيرًا من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل، وإنما يعرف هذا من توجه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور، وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة، فإن لم يكن معه نور الإيمان والقرآن الذي يحصل به الفرقان، حتى يشهد الإلهية التي تميز بين أهل التوحيد والشرك، وبين ما يحبه الله وما يبغضه، وبين

 

ص -369-

ما أمر به الرسول، وبين ما نهى عنه، وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا، فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال فيهم ‏:‏ ‏{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏
وإنما يصير الرجل مسلمًا حنيفًا موحدًا إذا شهد أن لا إله إلا الله‏.‏ فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحدًا في تألهه، ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه، وإسلامه له، ودعائه له، والتوكل عليه، وموالاته فيه، ومعاداته فيه، ومحبته ما يحب؛ وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك، وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقًا لقوله‏:‏ لا إله إلا الله، فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه، ويثبت، ويبقى في قلبه تأله الله وحده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم  في الحديث الصحيح ‏:
‏ ‏"‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة‏"‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله دخل الجنة‏"‏، وقال في الصحيح‏:‏ ‏"‏لقنوا موتاكم لا إله إلا الله‏"‏، فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلمًا ‏.‏
والله  تعالى  قد أمرنا ألا نموت إلا على الإسلام في غير موضع‏.‏ كقوله تعالى‏:
‏ ‏{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏، وقال الصديق‏:‏ ‏{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، والصحيح من القولين أنه لم يسأل الموت، ولم يتمنه، وإنما سأل أنه إذا مات يموت على الإسلام، فسأل الصفة لا الموصوف كما أمر الله بذلك، وأمر به خليله إبراهيم وإسرائيل، وهكذا قال غير واحد من العلماء، منهم ابن عقيل وغيره، والله تعالى أعلم‏.

 

ص -370-

قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية  رحمه الله تعالى‏:‏
فصل
قد تكلم الناس من أصحابنا وغيرهم في استطاعة العبد، هل هي مع فعله أم قبله‏؟‏ وجعلوها قولين متناقضين، فقوم جعلوا الاستطاعة مع الفعل فقط، وهذا هو الغالب على مثبتة القدر المتكلمين من أصحاب الأشعري، ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم‏.‏
وقوم جعلوا الاستطاعة قبل الفعل، وهو الغالب علي النفاة من المعتزلة والشيعة، وجعل الأولون القدرة لا تصلح إلا لفعل واحد، إذ هي مقارنة له لا تنفك عنه، وجعل الآخرون الاستطاعة لا تكون إلا صالحة للضدين، ولا تقارن الفعل أبدا، والقدرية أكثر انحرافًا فإنهم يمنعون أن يكون مع الفعل قدرة بحال، فإن عندهم أن المؤثر لابد أن يتقدم على الأثر لا يقارنه بحال، سواء في ذلك القدرة والإرادة والأمر‏.‏

 

ص -371-

والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة، أن الاستطاعة متقدمة على الفعل، ومقارنة له أيضًا‏.‏ وتقارنه  أيضًا  استطاعة أخرى لا تصلح لغيره‏.‏
فالاستطاعة نوعان متقدمة صالحة للضدين، ومقارنة لا تكون إلا مع الفعل، فتلك هي المصححة للفعل المجوزة له، وهذه هي الموجبة للفعل المحققة له‏.‏
قال الله تعالى في الأولى‏:‏
‏{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، ولو كانت هذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج، ولا كان الحج واجبًا علي أحد قبل الإحرام به، بل قبل فراغه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة، ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحد من التقوي، إلا ما فعل فقط، إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ والوسع الموسوع، وهو الذي تسعه وتطيقه، فلو أريد به المقارن لما كلف أحد إلا الفعل الذي أتى به فقط، دون ما تركه من الواجبات‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، والمراد به الاستطاعة المتقدمة، وإلا كان المعنى، فمن لم يفعل الصيام فإطعام ستين، فيجوز حينئذ الإطعام لكل من لم يصم، ولا يكون الصوم واجبًا على أحد حتى يفعله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏.‏ ولو أريد به المقارنة فقط لكان المعنى‏:‏ فأتوا منه ما فعلتم،

 

ص -372-

فلا يكونون مأمورين إلا بما فعلوه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏"‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع، فعلي جنب‏"‏‏.‏ ولو أريد المقارنة لكان المعني، فإن لم تفعل فتكون مخيرًا، ونظائر هذا متعددة فإن كل أمر علق في الكتاب والسنة وجوبه بالاستطاعة وعدمه بعدمها لم يرد به المقارنة وإلا لما كان الله قد أوجب الواجبات إلا على من فعلها، وقد أسقطها عمن لم يفعلها فلا يأثم أحد بترك الواجب المذكور‏.‏
وأما الاستطاعة المقارنة الموجبة، فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏
{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 101‏]‏، فهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة، إذ الأخرى لابد منها في التكليف‏.‏
فالأولى‏:‏ هي الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس ‏.‏
والثانية‏:‏ هي الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل، فالأولى للكلمات الأمريات الشرعيات، والثانية للكلمات الخلقيات الكونيات‏.‏ كما قال‏:‏
‏{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وقد اختلف الناس في قدرة العبد على خلاف معلوم الحق أو مراده،

 

ص -373-

والتحقيق أنه قد يكون قادرًا بالقدرة الأولى الشرعية المتقدمة على الفعل‏.‏ فإن الله قادر أيضا على خلاف المعلوم والمراد، وإلا لم يكن قادرا إلا على ما فعله‏.‏وليس العبد قادرًا على ذلك بالقدرة المقارنة للفعل، فإنه لا يكون إلا ما علم الله كونه وأراد كونه، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك قول الحواريين‏:‏ ‏{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏، وإنما استفهموا عن هذه القدرة، وكذلك ظن يونس أن لن نقدر عليه أي فسر بالقدرة، كما يقال للرجل هل تقدر أن تفعل كذا‏؟‏ أي هل تفعله‏؟‏ وهو مشهور في كلام الناس‏.‏
ولما اعتقدت القدرية أن الأولى كافية في حصول الفعل، وأن العبد يحدث مشيئته جعله مستغنيًا عن الله حين الفعل، كما أن الجبرية لما اعتقدت أن الثانية موجبة للفعل، وهي من غيره  رأوه مجبورًا على الفعل، وكلاهما خطأ قبيح، فإن العبد له مشيئة، وهي تابعة لمشيئة الله كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع من كتابه‏:‏ ‏
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 55، 56‏]‏، ‏{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏، ‏{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏
فإذا كان الله قد جعل العبد مريدًا مختارًا شائيًا، امتنع أن يقال هو مجبور مقهور مع كونه قد جعل مريدًا‏.‏ وامتنع أن يكون هو الذي ابتدع لنفسه المشيئة‏.‏ فإذا قيل هو مجبور على أن يختار مضطرًا إلى أن يشاء، فهذا لا نظير له

 

ص -374-

وليس هو المفهوم من الجبر بالاضطرار ولا يقدر على ذلك إلا الله‏.‏
ولهذا افترق القدرية والجبرية على طرفي نقيض‏.‏ وكلاهما مصيب فيما أثبته دون ما نفاه، فأبو الحسين البصري، ومن وافقه من القدرية يزعمون، أن العلم بأن العبد يحدث أفعاله وتصرفاته، علم ضروري وإن جحد ذلك سفسطة‏.‏
وابن الخطيب ونحوه من الجبرية يزعمون أن العلم بافتقار رجحان فعل العبد على تركه إلى مرجح من غير العبد ضروري؛ لأن الممكن المتساوى الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، وكلا القولين صحيح، لكن دعوي استلزام أحدهما نفي الآخر ليس بصحيح، فإن العبد محدث لأفعاله كاسب لها، وهذا الإحداث مفتقر إلى محدث، فالعبد فاعل صانع محدث، وكونه فاعلا صانعًا محدثًا، بعد أن لم يكن، لابد له من فاعل كما قال‏:‏ ‏
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏}‏، فإذا شاء الاستقامة صار مستقيمًا، ثم قال‏:‏ ‏{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏.‏
فما علم بالاضطرار وما دلت عليه الأدلة السمعية والعقلية كله حق؛ ولهذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله، والعبد فقير إلى الله فقرًا ذاتىًا له في ذاته وصفاته وأفعاله، مع أن له ذاتًا وصفاتًا وأفعالاً، فنفى أفعاله كنفي صفاته وذاته وهو جحد للحق شبيه بغلو غالية الصوفية الذين يجعلونه هو الحق، أو جعل شىء منه مستغنيا عن الله أو كائنًا بدونه جحد للحق شبيه بغلو الذي قال‏:‏

 

ص -375-

‏{أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى‏} ‏[‏ النازعات‏:‏ 24 ‏]‏، وقال‏:‏ إنه خلق نفسه، وإنما الحق ما عليه أهل السنة والجماعة‏.‏
وإنما الغلط في اعتقاد تناقضه بطريق التلازم، وإن ثبوت أحدهما مستلزم لنفي الآخر، فهذا ليس بحق، وسببه كون العقل يزيد على المعلوم المدلول عليه ما ليس كذلك، وتلك الزيادة تناقض ما علم ودل عليه‏.‏

 

ص -376-

وقال الشيخ  قدس الله روحه‏:‏
فصل
وأما السؤال‏:‏ عن تعليل أفعال الله ‏.‏
فالذي عليه جمهور المسلمين  من السلف والخلف  أن الله تعالى يخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقه والعلم، ووافقهم على ذلك أكثر أهل الكلام، من المعتزلة والكرامية وغيرهم‏.‏
وذهب طائفة من أهل الكلام، ونفاة القياس، إلى نفي التعليل في خلقه وأمره، وهو قول الأشعري، ومن وافقه وقالوا‏:‏ ليس في القرآن لام تعليل في فعل الله وأمره، ولا يأمر الله بشىء لحصول مصلحة، ولا دفع مفسدة، بل ما يحصل من مصالح العباد ومفاسدهم بسبب من الأسباب، فإنما خلق ذلك عندها، لا أنه يخلق هذا لهذا، ولا هذا لهذا، واعتقدوا أن التعليل يستلزم الحاجة والاستكمال بالغير، وأنه يفضي إلى التسلسل‏.‏
والمعتزلة، أثبتت التعليل، لكن علي أصولهم الفاسدة في التعليل، والتجويز،

 

ص -377-

و أما أهل الفقه والعلم، وجمهور المسلمين‏.‏ الذين يثبتون التعليل، فلا يثبتونه على قاعدة القدرية، ولا ينفونه نفي الجهمية، وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في مواضع‏.‏
لكن قول الجمهور‏:‏ هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، والمعقول الصريح، وبه يثبت أن الله حكيم، فإنه من لم يفعل شيئًا لحكمة لم يكن حكيمًا، والكلام في هذا يبني على أصول‏.‏
أحدها‏:‏ إثبات محبة الله ورضاه، وأنه يستحق أن يعبد لذاته، ويحب لذاته، وليس شىء سواه يستحق أن يحب إلا هو، وكل محبة لغيره فهي فاسدة، وهذا من معاني الإلهية فإن الإله هو المألوه الذي يستحق من يؤله فيعبد، والعباد تجمع غاية الذل، وغاية الحب، وهذا لا يستحقه إلا هو، وهو  سبحانه  يحمد نفسه، ويثنى على نفسه، ويمجد نفسه، ويفرح بتوبة التائبين، ويرضى عن عباده المؤمنين‏.‏
والحمد‏:‏ هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها‏.‏ فلو أخبر مخبر بمحاسن غيره من غير محبة لها لم يكن حامدًا ولو أحبها ولم يخبر بها لم يكن حامدا‏.‏ والرب  سبحانه وتعالى  إذا حمد نفسه، فذكر أسماءه الحسنى وصفاته العلى، وأفعاله الجميلة، وأحب نفسه المقدسة، فكان هو الحامد والمحمود، والمثني والمثنى عليه، والممجد والممجد، والمحب والمحبوب، كان هذا غاية

 

ص -378-

الكمال، الذي لا يستحقه غيره، ولا يوصف به إلا هو ‏.‏
وهو  سبحانه  رب كل شىء، فلا يكون شىء إلا به، وهو الإله الذي لا إله إلا هو، ولا يجوز أن نعبد إلا هو، فما لا يكون به لا يكون، ومالا يكون له لا ينفع ولا يدوم، وكل عمل لم يرد به وجهه فهو باطل،
‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وهو الذي جعل المسلم مسلمًا، والمصلي مصليًا، والتائب تائبًا، والحامد حامدًا، فإذا يسر عبده لليسرى، فتاب إليه وفرح الله بتوبته، وشكره فرضي بشكره وعمل صالحًا فأحبه، لم يكن المخلوق هو الذي جعل الخالق راضيًا محبًا فرحًا بتوبته، بل الرب هو الذي جعل المخلوق فاعلا لما يفرحه ويرضيه ويحبه، وكل ذلك حاصل بمشيئته وقدرته لا شريك له في إحداث شىء من المحدثات، ولا هو مفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه، فإذا خلق شيئًا لحكمة يحبها ويرضاها لم يجز أن يقال‏:‏ هو مفتقر إلى غيره، إلا إذا كان هناك خالق غيره يفعل ما يحبه ويرضاه، وهذا يجىء على قول القدرية، الذين يزعمون أنه لم يخلق أفعال العباد، وإن الطاعات وجدت بدون قدرته وخلقه، فإذا قيل‏:‏ إنه يحبها ويرضاها، لزم أن يكون المخلوق جعله كذلك‏.‏
وأما على قول أهل السنة الذين يقولون‏:‏ إنه خالق كل شىء من

 

ص -379-

أفعال العباد وغيرها، فلم يوجد إلا ما خلقه هو، وله في ذلك من الحكمة البالغة ما يعلمه هو علي وجه التفصيل، وقد يعلم بعض عباده من ذلك ما يعلمه إياه إذ لا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء‏.‏
وأما كون ذلك يستلزم قيام الأمور الاختيارية بذاته، فهذا قول السلف، وأئمة الحديث والسنة، وكثير من أهل الكلام‏.‏
وأما كون ذلك يستلزم التسلسل في المستقبل، فإنه إذا خلق شيئًا لحكمة توجد بعد وجوده، وتلك الحكمة لحكمة أخري لزم التسلسل في المستقبل، فهذا جائز عند المسلمين وغيرهم ممن يقول بدوام نعيم أهل الجنة، وإنما يخالف في ذلك من شك، كالجهم بن صفوان الذي يقول بفناء الجنة والنار، وكأبي الهذيل الذي يقول بانقطاع حركات أهل الجنة والنار‏.‏ فإن هذين ادعيا امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل‏.‏ وخالفهم جماهير المسلمين‏.‏
والجواب الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ التسلسل نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ في الفاعلين وهو أن يكون لكل فاعل فاعل‏.‏ فهذا باطل بصريح العقل، واتفاق العقلاء‏.‏
والثاني‏:‏ التسلسل في الآثار، مثل أن يقال‏:‏ إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ويقال‏:‏ إن كلمات الله لا نهاية لها‏.‏ فهذا التسلسل يجوزه أئمة أهل

 

ص -380-

الملل، وأئمة الفلاسفة، ولكن الفلاسفة يدعون قدم الأفلاك، وأن حركات الفلك لا بداية لها، ولا نهاية لها‏.‏ هذا كفر مخالف لدين الرسل‏.‏ وهو باطل في صريح المعقول‏.‏
وكذلك القول‏:‏ بأن الرب لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته، ثم صار يمكنه الكلام، والفعل بمشيئته كما يقول ذلك الجهمية والقدرية، ومن وافقهم من أهل الكلام قول باطل‏.‏ وهو الذي أوقع الاضطراب بين ملاحدة المتفلسفة ومبتدعة أهل الكلام‏.‏ في هذا الباب، والكلام علي هذه الأمور مبسوط في موضعه وهذه مطالب غالية، إنما يعرف قدرها من عرف مقالات الناس والإشكالات اللازمة علي كل قول حتى أوقعت كثيرًا من فحول النظار في بحور الشك والارتياب، وهي مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -381-

قال شيخ الإسلام  رحمه الله‏:‏
فصل
حدثني بعض ثقات أصحابنا، أن شيخنا أبا عبد الله محمد بن عبد الوهاب، عاد شيخنا أبا زكريا بن الصرمي وعنده جماعة فسألوه الدعاء‏.‏
فقال في دعائه‏:‏ اللهم بقدرتك التي قدرت بها أن تقول بها للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا، قالتا أتينا طائعين‏.‏ افعل كذا وكذا‏.‏ قال أبو عبد الوهاب‏:‏ ولم أخاطبه فيه بحضرة الناس حتى خلوت به وقلت له‏:‏ هذا لا يقال لو قلت‏:‏ قدرت بها علي خلقك جاز، فأما قدرت بها أن تقول، فلا يجوز؛ لأن هذا يقتضي أن يكون قوله مقدورًا له مخلوقًا، وذكر لي الحاكي  وهو من فضلاء أصحاب الشافعي  أنه بلغ الإمام أبا زكريا النواوي فلم يتفطن لوجه الإنكار في هذا الدعاء حتي تبين له فعرف ذلك‏.‏
قلت‏:‏ هذه المسألة مثل مسألة المشيئة، وهو قولنا‏:‏ يتكلم إذا شاء، فإن

 

ص -382-

ما تعلقت به المشيئة تعلقت به القدرة، فإن ما شاء الله كان ولا يكون شىء إلا بقدرته، وما تعلقت به القدرة من الموجودات تعلقت به المشيئة، فإنه لا يكون شىء إلا بقدرته ومشيئته، وما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة، وكذلك بالعكس، وما لا فلا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏، والشىء في الأصل مصدر شاء يشاء شيئًا كنال ينال نيلاً، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول فسموا المشىء شيئًا، كما يسمى المنيل نيلاً، فقالوا‏:‏ نيل المعدن، وكما يسمى المقدور قدرة، والمخلوق خلقا، فقوله‏:‏ ‏{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ أي على كل ما يشاء، فمنه ما قد شىء فوجد، ومنه ما لم يشأ لكنه شىء في العلم بمعنى أنه قابل لأن يشاء وقوله‏:‏ ‏{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ‏}‏، يتناول ما كان شيئًا في الخارج والعلم، أو ما كان شيئًا في العلم فقط، بخلاف مالا يجوز أن تتناوله المشيئة وهو الحق تعالى وصفاته، أو الممتنع لنفسه، فإنه غير داخل في العموم؛ ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفسه ليس بشىء، وتنازعوا في المعدوم الممكن‏:‏
فذهب فريق من أهل الكلام من المعتزلة والرافضة، وبعض من وافقهم من ضلال الصوفية، إلي أنه شىء في الخارج لتعلق الإرادة والقدرة به وهذا غلط، وإنما هو معلوم لله ومراد له إن كان مما يوجد، وليس له في نفسه لا موت ولا وجود ولا حقيقة أصلا، بل وجوده وثبوته وحصوله شىء واحد، وماهيته وحقيقته في الخارج هي نفس وجوده، وحصوله وثبوته ليس في

 

ص -383-

الخارج شيئان، وإن كان العقل يميز الماهية المطلقة عن الوجود المطلق‏.‏
إذا عرف ذلك فهذه المسألة مبنية على مسألة كلام الله، ونحو ذلك من صفاته، هل هي قديمة لازمة لذاته لا يتعلق شىء منها بفعله وبمشيئته ولا قدرته‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، وإنها مع ذلك صفات فعليه‏؟‏ وهذا فيه قولان لأصحابنا وغيرهم من أهل السنة‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الدعاء الذي دعا به الشيخ أبو زكريا مأثور عن الإمام أحمد، ومن هناك حفظه الشيخ، والله أعلم‏.‏ فإنه كان كثير المحبة لأحمد وآثاره، والنظر في مناقبه وأخباره وقد ذكروه في مناقبه‏.‏ ورواه الحافظ البيهقي في مناقب أحمد وهي رواية الشيخ أبي زكريا عن الحافظ عبد القادر الرهاوي إجازة، و قد سمعوها عليه عنه إجازة، قال البيهقي‏:‏ وفيما أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة‏.‏ حدثني أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس، حدثني أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي، حدثنا أبو جعفر محمد ابن يعقوب الصفار قال‏:‏ كنا عند أحمد بن حنبل فقلنا‏:‏ ادع الله لنا، فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنا نعلم أنك لنا على أكثر ما نحب، فاجعلنا نحن لك علي ما تحب، قال‏:‏ ثم جلست ساعة، فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الله زدنا، فقال‏:‏ اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر فنطغى، ولا تقل علينا فننسى،

 

ص -384-

وهب لنا من رحمتك، وسعة من رزقك تكون بلاغًا في دنياك وغنى من فضلك‏.‏ قلت‏:‏ هذا على المعنى المتقدم موافق لقوله‏:‏ يتكلم إذا شاء، فجعله معلقًا بالقدرة والمشيئة‏.‏ وإن جعل القول هنا عبارة عن سرعة التكوين بلا قول حقيقي، فهذا خلاف ما احتج به أحمد في كتاب الرد على الجهمية في هذه، فإنه احتج بهذه الآية على أن الكلام لا يقف على لسان وأدوات ‏.‏

 

ص -385-

ما قول أهل الإسلام الراسخين في جذر الكلام، الباسقين في فن الأحكام، حياكم العلام في صدور دار السلام وحباكم القيام بتوضيح ما استبهم على الأفهام في معتقد أهل السنة والجماعة. نضر الله أرواح السلف، وكثر أعداد الخلف وأمدهم بأنواع اللطف، بأن الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله  تعالى  وبخلق العبد، فحقيقة كسب العبد ما هي ‏؟‏ وبعد هذا هل هو مؤثر في وجود الفعل‏؟‏ أم غير مؤثر‏؟‏ فإن كان فيصير العبد مشاركًا للخالق في خلق الفعل، فلا يكون العبد كاسبًا بل شريكًا خالقًا  وأهل السنة بررة برآء من هذا القول  وإن لم يكن مؤثرًا في وجود الفعل فقد وجد الفعل بكماله بالحق سبحانه وتعالى، وليس للعبد في ذلك شىء، فلزم الجبر الذي يطوي بساط الشرع، وأهل السنة الغراء والمحجة البيضاء فارون من هذه الكلمة الشنعاء والعقيدة العوراء، ولم ينسب إلى العبد الطاعة والعصيان والكفر والإيمان، حتى يستحق الغضب والرضوان، فكيف السلوك أيها الهداة الأدلاء على اللحب المستقيم والمنهج القويم ‏؟‏ وطرفي قصد الأمور ذميم‏.‏
فبينوا بيانًا يطلق العقول من هذا العقال، ويشفى القلوب من هذا الداء العضال‏.‏ أيدكم بروح القدس من له صفات الكمال‏.‏

 

ص -386-

فأجاب الشيخ الإمام العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور الإلهي، الجامع أشتات الفضائل، مفتى المسلمين، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية  رحمه الله تعالى  قال  رضي الله عنه‏:‏
تلخيص الجواب‏:‏ إن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر، كما قال تعالى‏:‏
‏{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، والناس يقولون‏:‏ فلان كسب مالا أو حمدًا أو شرفًا كما أنه ينتفع بذلك، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين صح إثبات السبب، إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم، والله  سبحانه وتعالى  فعله وصنعه عن كماله وجلاله، فأفعاله عن أسمائه وصفاته ومشتقة منها، كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"‏أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي‏"‏، والعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله فيحدث له اسم العالم والكامل بعد حدوث العلم والكمال فيه‏.‏
ومن هنا ضلت القدرية حيث شبهوا أفعاله  سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا  بأفعال العباد، وكانوا هم المشبهة في الأفعال، فاعتقدوا إن ما حسن منهم حسن منه مطلقًا، وما قبح منهم قبح منه مطلقًا بقدر علمهم وعقلهم، أو ما علموا أنها إنما حسنت منهم لإفضائها إلى ما فيه صلاحهم

 

ص -387-

وفلاحهم، وقبحت لإفضائها إلى ما فيه فسادهم، والله سبحانه متعال عن أن يلحقه مالا يليق به سبحانه‏.‏
وأما قوله‏:‏ هل هو مؤثر في وجود الفعل أو غير مؤثر‏؟‏
فالكلام في مقامين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن هذا سؤال فاسد، إن أخذ على ظاهره؛ لأن كسب العبد هو نفس فعله وصنعه، فكيف يقال‏:‏ هل يؤثر كسبه في فعله، أو هل يكون الشىء مؤثرًا في نفسه‏؟‏ وإن حسب حاسب أن الكسب هو التعاطي والمباشرة وقصد الشىء ومحاولته، فهذه كلها أفعال يقال فيها ما يقال في أفعال البدن من قيام وقعود‏.‏
وأظن السائل فهم هذا وتشبث بقول من يقول‏:‏ إن فعل العبد يحصل بخلق الله  عز وجل  وكسب العبد‏.‏
وتحقيق الكلام أن يقال‏:‏ فعل العبد خلق لله  عز وجل  وكسب للعبد، إلا أن يراد أن أفعال بدنه تحصل بكسبه، أي بقصده وتآخيه، وكأنه قال‏:‏ أفعاله الظاهرة تحصل بأفعاله الباطنة، وغير مستنكر عدم تجديد هذا السؤال، فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، وحسن المسألة نصف العلم ‏.‏ إذا كان السائل قد تصور السؤال ‏.‏ وإنما يطلب إثبات الشىء أو نفيه، ولو حصل التصور التام لعلم أحد الطرفين‏.‏

 

ص -388-

والمقام الثاني  في تحرير السؤال وجوابه ‏:‏ وهو أن يقال‏:‏ هل قدرة العبد المخلوقة مؤثرة في وجود فعله‏؟‏ فإن كانت مؤثرة لزم الشرك، وإلا لزم الجبر، والمقام مقام معروف، وقف فيه خلق من الفاحصين والباحثين والبصراء والمكاشفين، وعامتهم فهموا صحيحًا ولكن قل منهم من عبر فصيحًا‏.‏
فنقول‏:‏ التأثير اسم مشترك قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع، فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة، فحاشا لله لم يقله سنى، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال‏.‏
وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجه من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات‏.‏ فهو أيضًا باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل‏.‏ وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق‏.‏
وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة‏.‏ بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله  سبحانه وتعالى  الفعل بهذه القدرة ‏.‏ كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق

 

ص -389-

وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات‏.‏ وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا، وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركًا‏.‏وقد قال الحكيم الخبير‏:‏ ‏{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ ‏{فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏‏.‏
فبين أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه، فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة‏"‏‏.‏ فالله  سبحانه  هو الذي يجعل الرحمة، وذلك إنما يجعله بصلاة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التحرير فنقول‏:‏
خلق الله  سبحانه  أعمال الأبدان بأعمال القلوب، ويكون لأحد الكسبين تأثير في الكسب الآخر بهذا الاعتبار، ويكون ذلك الكسب من جملة القدرة المعتبرة في الكسب الثاني، فإن القدرة هنا ليست إلا عبارة عما يكون الفعل به لا محالة، من قصد وإرادة وسلامة الأعضاء والقوى المخلوقة في الجوارح وغير ذلك، ولهذا وجب أن تكون مقارنة للفعل، وامتنع تقديمها على الفعل بالزمان‏.‏
وأما القدرة التي هي مناط الأمر والنهي، فذاك حديث آخر ليس هذا موضعه‏.‏

 

ص -390-

وبالتمييز بين هاتين القدرتين يظهر لك قول من قال‏:‏ القدرة مع الفعل، ومن قال‏:‏ قبله، ومن قال‏:‏ الأفعال كلها تكليف ما لا يطاق، ومن منع ذلك، وتقف على أسرار المقالات‏.‏ وإذا أشكل عليك هذا البيان فخذ مثلاً من نفسك، أنت إذا كتبت بالقلم وضربت بالعصا ونجرت بالقدوم‏.‏ هل يكون القلم شريكك أو يضاف إليه شىء من نفس الفعل وصفاته ‏؟‏ أم هل يصلح أن تلغي أثره وتقطع خبره وتجعل وجوده كعدمه‏؟‏ أم يقال‏:‏ به فعل وبه صنع  ولله المثل الأعلى  فإن الأسباب بيد العبد ليست من فعله وهو محتاج إليها لا يتمكن إلا بها، والله  سبحانه  خلق الأسباب ومسبباتها، وجعل خلق البعض شرطًا وسببًا في خلق غيره، وهو مع ذلك غني عن الاشتراط والتسبب، ونظم بعضها ببعض، لكن لحكمة تتعلق بالأسباب، وتعود إليها والله عزيز حكيم‏.‏
وأما قوله‏:‏ إذا نفينا التأثير لزم انفراد الله  سبحانه  بالفعل، ولزم الجبر، وطي بساط الشرع الأمر والنهي‏.‏
فنقول‏:‏ إن أردت بالتأثير المنفي، التأثيرعلى سبيل الانفراد في نفس الفعل، أو في شىء من صفاته، فلقد قلت الحق، وإن كان بعض أهل الاستنان يخالفك في القسم الثاني‏.‏
وإن أردت به أن القدرة وجودها كعدمها، وإن الفعل لم يكن بها

 

ص -391-

ولم يصنع بها، فهذا باطل كما تقدم بيانه، وحينئذ لا يلزم الجبر بل ينبسط بساط الشرع، وينشر علم الأمر والنهي، ويكون لله الحجة البالغة‏.‏
فقد بان لك أن إطلاق القول، بإثبات التأثير أو نفيه دون الاستفصال، وبيان معنى التأثير ركوب جهالات واعتقاد ضلالات، ولقد صدق القائل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وبان لك ارتباط الفعل المخلوق بالقدرة المخلوقة، ارتباط الأسباب بمسبباتها، ويدخل في عموم ذلك جميع ما خلقه الله  تعالى  في السموات والأرض والدنيا والآخرة، فإن اعتقاد تأثير الأسباب على الاستقلال، دخول في الضلال، واعتقاد نفي أثرها وإلغاؤه ركوب المحال، وإن كان لقدرة الإنسان شأن ليس لغيرها كما سنومئ إليه إن شاء الله تعالى‏.‏
فلعلك أن تقول بعد هذا البيان‏:‏ أنا لا أفهم الأسباب، ولا أخرج عن دائرة التقسيم والمطالبة بأحد القسمين، وما أنت إن قلت هذا إلا مسبوق بخلق من الضلال‏:‏
‏{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 113‏]‏، وموقفك هذا مفرق طرق، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيعاد عليك البيان بأن لها تأثيرًا من حيث هي سبب، كتأثير القلم وليس لها تأثير من حيث الابتداع والاختراع، ونضرب لك الأمثال، لعلك تفهم صورة الحال، ويبين لك أن إثبات الأسباب مبتدعات هو الإشراك، وإثباتها أسبابًا موصولات هو عين تحقيق التوحيد‏.‏عسي الله أن يقذف بقلبك نورًا ترى هذا

 

ص -392-

البيان ‏{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏
فإن قلت‏:‏ إثبات القدرة سبب نفي للتأثير في الحقيقة، فما بال الفعل يضاف إلى العبد‏؟‏ وما باله يؤمر وينهى ‏؟‏ ويثاب ويعاقب وهل هذا إلا محض الجبر‏؟‏ وإذا كنت مشبهًا لقدرة الإنسان بقلم الكاتب، وعصا الضارب، فهل رأيت القلم يثاب أو العصا تعاقب‏؟‏ وأقول لك الآن إن شاء الله وجب هداك بمعونة مولاك، وإن لم تطلع من أسرار القدر إلا على مثل ضرب الأثر وألق السمع وأنت شهيد، عسى الله أن يمدك بالتأييد‏.‏
اعلم أن العبد فاعل على الحقيقة وله مشيئة ثابتة، وله إرادة جازمة وقوة صالحة، وقد نطق القرآن بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية كقوله‏:‏
‏{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏ ‏{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ‏{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏
ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن يعملون، يفعلون، يؤمنون، يكفرون، يتفكرون، يحافظون، يتقون‏.‏
وكما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق، فارقنا الجبرية بإثبات أن العبد كاسب فاعل صانع عامل، والجبر والمعقول الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرًا علي الشىء، من غير إرادة ولا مشيئة

 

ص -393-

ولا اختيار، مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح، وحركة‏.‏‏.‏‏.‏ بإطباق الأيدي ‏.‏ ومثله في الأناسي حركة المحموم والمفلوج والمرتعش فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان وقعوده وصلاته وجهاده، وزناه وسرقته وبين انتعاش المفلوج وانتفاض المحموم، ونعلم أن الأول قادر على الفعل مريد له مختار‏.‏ وأن الثاني غير قادر عليه ولا مريد له ولا مختار‏.‏
والمحكي عن جهم وشيعته الجبرية أنهم زعموا، أن جميع أفاعيل العباد قسم واحد، وهو قول ظاهر الفساد، وبما بين القسمين من الفرقان انقسمت الأفعال، إلى اختياري، واضطراري، واختص المختار منها بإثبات الأمر والنهي عليه، ولم يجئ في الشرائع ولا في كلام حكيم أمر الأعمى بنقط المصحف، والمقعد بالاشتداد أو المحموم بالسكون، وشبه ذلك، وإن اختلفوا في تجويزه عقلاً أو سمعا فإنما منع وقوعه بإجماع العقلاء أولى العقل من جميع الأصناف‏.‏
فإن قيل‏:‏ هب أن فعلي الذي أردته واخترته هو واقع بمشيئتي وإرادتي أليست تلك الإرادة وتلك المشيئة من خلق الله تعالى ‏؟‏ وإذا خلق الأمر الموجب للفعل‏.‏ فهل يتأتى ترك الفعل معه‏؟‏ أقصى ما في الباب أن الأول جبر بغير توسط الإرادة من العبد، وهذا جبر بتوسط الإرادة‏.‏

 

ص -394-

فنقول‏:‏ الجبر المنفي هو الأول كما فسرناه، وأما إثبات القسم الثاني، فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار، و أولى الألباب والأبصار، لكن لا يطلق عليه اسم الجبر خشية الالتباس بالقسم الأول، وفرارًا من تبادر الأفهام إليه، وربما سمى جبرًا إذا أمن من اللبس وعلم القصد، قال علي  رضي الله عنه  في الدعاء المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم داحي المدحوات، وباري المسموكات، جبار القلوب على فطراتها شقاها أو سعدها‏.‏
فبين أنه  سبحانه  جبر القلوب على ما فطرها عليه، من شقاوة أو سعادة وهذه الفطرة الثانية ليست الفطرة الأولى، وبكلا الفطرتين، فسر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل مولود يولد على الفطرة‏.‏ وتفسيره بالأولى واضح قاله محمد بن كعب القُرظِيّ  وهو من أفاضل تابعي أهل المدينة وأعيانهم، وربما فضل على أكثرهم  في قوله‏:‏ الجبار، قال‏:‏ جبر العباد على ما أراد، وروى ذلك عن غيره، وشهادة القرآن والأحاديث، ورؤية أهل البصائر والاستدلال التام لتقليب الله  سبحانه وتعالى  قلوب العباد، وتصريفه إياها وإلهامه فجورها وتقواها، وتنزيل القضاء النافذ من عند العزيز الحكيم، في أدنى من لمح البصر على قلوب العالمين، حتى تتحرك الجوارح بما قضي لها وعليها بين غاية البيان، إلا لمن أعمى الله بصره وقلبه‏.‏
فإن قلت‏:‏ أنا أسألك علي هذا التقدير بعد خروجي عن تقدير الجبر الذي نفوه وأبطلوه وثباتي على ما قالوه وبينوه كيف انبنى الثواب والعقاب

 

ص -395-

على فعله، وصح تسميته فاعلا على حقيقته وانبنى فعله على قدرته‏؟‏
فأقول  والله الهادي إلى سواء الصراط ‏:‏ اعلم أن الله  تعالى  خلق فعل العبد سببًا مقتضيًا لآثار محمودة أو مذمومة، والعمل الصالح مثل صلاة أقبل عليها بقلبه ووجهه وأخلص فيها وراقب، وفقه ما بنيت عليه من الكلمات الطيبات، والأعمال الصالحات، يعقبه في عاجل الأمر نور في قلبه، وانشراح في صدره، وطمأنينة في نفسه ومزيد في علمه، وتثبيت في يقينه، وقوة في عقله إلي غير ذلك من قوة بدنه، وبهاء وجهه، وانتهائه عن الفحشاء والمنكر، وإلقاء المحبة له في قلوب الخلق، ودفع البلاء عنه وغير ذلك مما يعلمه ولا نعلمه‏.‏
ثم هذه الآثار التي حصلت له من النور والعلم واليقين وغير ذلك أسباب مفضية إلى آثار أخر من جنسها ومن غير جنسها أرفع منها وهلم جرا، ولهذا قيل‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وكذلك العمل السيئ مثل الكذب  مثلاً  يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة وضيق في صدره، ونفاق واضطراب ونسيان ما تعلمه، وانسداد باب علم كان يطلبه، ونقص في يقينه وعقله، واسوداد وجهه وبغضه في قلوب الخلق، واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه، وهلم جرا، إلا أن يتداركه الله برحمته‏.‏

 

ص -396-

فهذه الآثار هي التي تورثها الأعمال، هي الثواب والعقاب، وإفضاء العمل إليها واقتضاؤه إياها، كإفضاء جميع الأسباب التي جعلها الله  سبحانه وتعالى  أسبابًا إلى مسبباتها، والإنسان إذا أكل أو شرب حصل له الري والشبع، وقد ربط الله  سبحانه وتعالى  الري والشبع بالشرب والأكل ربطًا محكمًا، ولو شاء ألا يشبعه ويرويه مع وجود الأكل والشرب فعل‏.‏ أما ألا يجعل في الطعام قوة، أو يجعل في المحل قوة مانعة، أو بما يشاء  سبحانه وتعالى  ولو شاء أن يشبعه ويرويه بلا أكل ولا شرب أو بأكل شيء غير معتاد فعل‏.‏
كذلك في الأعمال‏:‏ المثوبات والعقوبات حذو القذة بالقذة، فإنه إنما سمى الثواب ثوابًا؛ لأنه يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع‏.‏ والعقاب عقابًا؛ لأنه يعقب العمل، أي يكون بعده، ولو شاء الله ألا يثيبه على ذلك العمل، إما بألا يجعل في العمل خاصة تفضي إلى الثواب، أو لوجود أسباب تنفي ذلك الثواب، أو غير ذلك لفعل  سبحانه وتعالى  وكذلك في العقوبات‏.‏
وبيان ذلك‏:‏ أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته‏.‏ التي هي من فعل الله  سبحانه وتعالى  أيضًا، وحصول الشبع عقب الأكل ليس للعبد فيه صنع البتة، حتى لو أراد دفع الشبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يطق، وكذلك نفس العمل هو بإرادته واختياره، فلو شاء أن يدفع أثر ذلك العمل وثوابه بعد وجود موجبه لم يقدر‏.‏

 

ص -397-

فهذه حكمة الله  تعالى  ومشيئته في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة، لكن العلم بالأعمال النافعة في الدار الآخرة، والأعمال الضارة أكثره غيب عن عقول الخلق، وكذلك مصير العباد ومنقلبهم بعد فراق هذه الدار، فبعث الله  سبحانه وتعالى  رسله، وأنزل كتبه مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وحكمته في ذلك تضارع حكمته في جميع خلق الأسباب والمسببات‏.‏
وما ذاك إلا أن علمه الأزلي ومشيئته النافذة وقدرته القاهرة اقتضت ما اقتضته، وأوجبت ما أوجبته من مصير أقوام إلى الجنة، بأعمال موجبة لذلك منهم‏.‏ وخلق أعمالهم وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه، وكذلك أهل النار كما قال‏:‏ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لما قيل له‏:‏ ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب ‏؟‏ فقال‏:‏
‏"‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏.‏ أما من كان من أهل السعادة، فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فييسر لعمل أهل الشقاوة‏"‏‏.‏
فبين صلى الله عليه وسلم أن السعيد قد ييسر للعمل الذي يسوقه الله  تعالى  به إلى السعادة، وكذلك الشقي، وتيسيره له هو نفس إلهامه ذلك العمل وتهيئة أسبابه، وهذا هو تفسير خلق أفعال العباد، فنفس خلق ذلك العمل هو السبب المفضي إلى السعادة أو الشقاوة، ولو شاء لفعله بلا عمل بل هو فاعله‏.‏ فإنه ينشئ للجنة خلقًا لما يبقى فيها من الفضل‏.‏
يبقى أن يقال‏:‏ فالحكمة الكلية التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأول

 

ص -398-

وحقائق ما الأمر صائر إليه في العواقب، والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان، إلي غير ذلك من كليات القدر، التي لا تختص بمسألة خلق أفعال العباد‏.‏ وليس هذا الاستفتاء معقودًا لها، وتفسير جمل ذلك لا يليق بهذا الموضع، فضلا عن بعض تفصيله‏.‏
ويكفي العاقل أن يعلم أن الله  عز وجل  عليم حكيم رحيم، بهرت الألباب حكمته ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه وإن لله  تعالى  في قدره سرًا مصونًا، وعلمًا مخزونًا احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته، وإنما يصل به أهل العلم وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك، وقد لا يؤذن لهم في ذكر ما، وربما كلم الناس في ذلك على قدر عقولهم، وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا  تبارك وتعالى  عن شيء من سر القدر، و أنه لو شاء أن يطاع لأطيع وأنه مع ذلك يعصى، فأخبرهم  سبحانه وتعالى  أن هذا سره‏.‏
وفي هذا المقام، تاهت عقول كثير من الخلائق، وفيه ضل القائلون بقدم العالم، وأن صانعه موجب بذاته، ومقتضى بنفسه اقتضاء العلة للمعلول، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما صنع، ودب بعض هذا الداء إلى بعض أهل الكتاب وأتباع الرسل، فقد قرروا انحصار الممكن في الموجود وكل ذلك طلبًا للاستراحة من مؤمنة تعليل الأفعال الإلهية، ووجود الأسباب الحادثة للأمور الحادثة، وعلله أهل القدر بعللهم العائلة في التعديل والتجويز ووجوب رعاية الصالح، أو

 

ص -399-

الأصلح، ولم يستقم لواحد من الفريقين أصلهم، ولم يطرد لهم‏.‏
ومن هنا ذهب أهل التثنية والتمجس إلى الأصلين، والقول بقدم النور والظلمة، وسلم بعض السلامة  وإن كان فيه نوع من ظن السوء بالله وضرب من الجفاء  أكثر متكلي أهل الإثبات حيث ردوا الأمر إلى محض المشيئة، وصرف الإرادة، وإن إنشاءها جميع الجائزات واقتضاءها كل الممكنات على نحو واحد ووتيرة واحدة وإنها بذاتها تخصص وتميز‏.‏
ولو خلط بهذا الكلام ضرب من وجوه الرحمة، وأنواع الحكمة  علمناها أو جهلناها  لكان أقرب إلى القبول‏.‏
وبكل حال فلام التعليل في فعله  سبحانه وتعالى  ليست على ما يعقله أكثر الخلق من لام التعليل في أفعالهم، ووراء ما يعلمه هؤلاء ويقولون‏:‏ مما أنار الله  سبحانه وتعالى  به قلوب أوليائه، وقذف في أفئدة أصفيائه، ممن استمسك فيما يظهر من الكلام بسبيل أهل الآثار، واعتصم فيما يبطن عن الإفهام، بحبل أهل الإبصار‏.‏
وفي هذا المقام تعرف أولو الألباب سر قوله‏:‏ ‏"‏سبقت رحمتي غضبي‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏الشر ليس إليك‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{
بِيَدِكَ الْخَيْرُ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 26 ‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏

 

ص -400-

 

وقوله‏:‏ ‏{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏، ‏{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 10‏]‏، وما شاكل ذلك من أن الشر إما أن يحذف فاعله، أو يضاف إلى الأسباب، أو يندرج في العموم، وأما إفراده بالذكر مضافًا إلى خالق كل شيء، فلا يقتضيه كلام حكيم، لما توجبه الحقيقة المقتضية للأدب المؤسس لا لمحض‏.‏‏.‏ ‏.‏ متميز‏.‏
وهنا يعرف سبب دخول خلق كثير الجنة بلا عمل‏.‏ وإنشاء خلق لها، وأما النار فلا تدخل إلا بعمل، ولن يدخلها إلا أهل الدنيا، ويعرف حقيقة‏:‏
‏{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، ‏{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، مع أن السيئة من القدر، وقول الصديق وغيره من الصحابة‏:‏ إن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطئًا فمنى ومن الشيطان، إلى غير ذلك مما فيه ما قد لحظ كل ناظر منه شعبة من الحق، وتعلق بسبب من الصواب وما يتبع وجوه الحق، ويؤمن بالكتاب كله، إلا أولو الألباب وقليل ما هم، فهذه إشارة يسيرة إلى كلي التقدير‏.‏
وأما كون قدرة العبد، وكسبه له شأن من بين سائر الأسباب، فإن الله  عز وجل  خص الإنسان بأن علمه يورثه في الدنيا أخلاقًا وأحوالاً وآثارًا‏.‏ وفي الآخرة أيضًا أمورًا أخر لم يحصل هذا لغيره من مخلوقاته، والوجوه التي خص

 

ص -401-

بها الإنسان في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله شخصًا ونوعًا أكثر من أن تحصى، وما من عاقل إلا وعنده منها طرف؛ ولهذا حسن توجيه الأمر والنهي إليه، وصح إضافة الفعل إليه حقيقة وكسبًا، مع أنه خلق الله تعالى، فإن الله  تعالي  خلق العبد وعمله وجعل هذا العمل له عملاً قام به وصدر عنه، وحدث بقدرته الحادثة‏.‏
وأدنى أحوال الفعل، أن يكون بمنزلة الصفات، والأخلاق المخلوقة في العبد، إذا جعلت مفضية إلى أمور أخر، فهل يصح تجريد العبد عنها‏؟‏ كلا ولما‏.‏
وأما الأمر، فإنه في حق المطيعين من الأسباب التي بها يكون الفعل منهم، فإنه يبعث داعيتهم، ثم أنه يوجب لهم الطاعة ومحض الانقياد والاستسلام فهو من جملة القدر السابق لهم إلي السعادة، وفي حق العاصين هو السبب الذي يستحقون به العصيان، إذ لولا هو لما تميز مطيع من عاص‏.‏
وأيضًا، في حقهم من القدر السابق لهم إلى المعصية؛ ليضل به كثيرًا ويهدي به كثيرا، عن إدخال الأمر والنهي في جملة المقادير‏.‏‏.‏ ‏.‏ ، يحل عقدة كثيرة هذا‏.‏‏.‏ ‏.‏ سبحانه وتعالى؛ لعلمه بالعواقب، وأما أمر العباد فظاهر العدم‏.‏‏.‏ ‏.‏ من المعاصي في علمهم وإن قصدهم نفس صدور الفعل من الجميع فهو‏.‏‏.‏ ‏.‏ في ظاهر الأمر الشرعي على لسان المرسلين بالكتب المنزلة والله

 

ص -402-

كله‏.‏‏.‏ ‏.‏ مظهر أمر وحكم يمضيه، فالإرادة والأمر كل منهما منقسم‏.‏‏.‏ ‏.‏ عام الوقوع جامع للقسمين، وإلى شرع وبما بعد وربما وقف‏.‏‏.‏ ‏.‏ القدر له والخير كل الخير في نفوذه، وهو خاص الوقوع بفرق إلى القسمين، واضع الأشياء في مراتبها‏.‏
وإذا صح نسبة الطاعة والمعصية إلى من خلقت فيه، ولو أنه بخلق الصفات‏.‏ أفيحسن بالإنسان أن يقول‏:‏ أسود وأحمر وطويل، وقصير، وذكي، وبليد، وعربي، وعجمي، فيضيف إليه جميع الصفات التي ليس للإنسان فيها إرادة أصلا البتة لقيامها به‏.‏ وتأثيرها فيه، تارة بما يلائمه وتارة بما ينافره، ثم يستبعد أن يضاف إليه ما خلق فيه من الفعل بواسطة قصده وإرادته المخلوقين أيضًا‏؟‏ ثم يقول‏:‏ ليس للعبد في السيئ شيء، فهل الجميع إلا له‏؟‏ بل ليست لأحد غيره، لكن الله  سبحانه وتعالى  خلقها له، وإضافة الفعل إلى خالقه ومبدعه لا تنافى إضافته إلى صاحبه، ومحله الذي هو فاعله وكاسبه وقد بينا الجبر المذموم ما هو‏.‏
ونختم الكلام بكلام وجيز في سبب الفرق بين الخلق والكسب‏.‏ فنقول‏:‏
الخلق يجمع معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ الإبداع والبرء، والثاني‏:‏ التقدير والتصوير‏.‏

 

ص -403-

فإذا قيل‏:‏ خلق، فلا بد أن يكون أبدع إبداعًا مقدرًا، ولما كان سبحانه وتعالى أبدع جميع الأشياء من العدم وجعل لكل شيء قدرًا، صح إضافة الخلق إليه بالقول المطلق‏.‏ والتقدير في المخلوق لازم، إذ هو عبارة عن تحديده والإحاطة به وهذا لازم لجميع الكائنات، لا كما زعم، من حسب أن الخلق في‏.‏‏.‏ ‏.‏ ذوات المساحة وهي الأجسام مفرقًا بين الخلق والأمر بذلك، فإنه قول باطل مبتدع والأمر هو كلامه كما فسره الأولون، والخلق مفسر‏.‏‏.‏ ‏.‏ يجعل الخلق بإزاء إبداع الصور الذهنية وتقديرها ومنه تسمية‏.‏‏.‏ ‏.‏ اختلافًا إذ هو صور ذهنية ليس لها حقيقة خارجة عن الذهن و‏.‏‏.‏ ‏.‏ جعل الخلق بمعنى التقدير فقط مقطوعًا عنه النظر إلى الإبداع بما قال‏.‏‏.‏ ‏.‏ سدى ما خلقت، وكما قال على في تمثال صنعه‏:‏ أنا خلقته والفرق‏.‏‏.‏ ‏.‏ الأولى، من حيث أن تلك الصورة مبتدعة، لكان قولا‏.‏‏.‏ ‏.‏ يكون إلا الله  سبحانه وتعالى  صح وصفه سبحانه، بأنه خالق كل شيء‏.‏
وأما الكسب فقد ذكرنا أنه إنما ينظر فيه إلى تأثيره في محله، ولو لم يكن له عليه قدرة حتى يقال‏:‏ الثوب قد اكتسب من ريح المسك، والمسجد قد اكتسب الحرمة من أفعال العابدين، والجلد قد اكتسب الحرمة لمجاورة المصحف، والثمرة قد اكتسبت لونًا وريحًا وطعمًا، فكل محل تأثر عن شيء مؤثر، وملائمًا، ومنافرًا صح وصفه بالاكتساب بناء على تأثره، وتغيره، وتحوله

 

ص -404-

من حال إلى حال، والإنسان يتأثر عن الأفعال الاختيارية، ولا يتأثر عن الأفعال الاضطرارية، فتورثه أخلاقًا وأحوالاً على أي حال كان، حتى على رأى من يطلق اسم الجبر على مجموع أفعاله، فإنه يستيقن تأثير الأفعال الاختيارية في نفسه، بخلاف الاضطرارية، اللهم إلا من حيث قد توجب الأفعال الاضطرارية أمرًا في نفسه، فيكون ذلك اختيارًا‏.‏
ثم اعلم أن الاضطرار، إنما يكون في بدنه دون قلبه، إما بفعل الله  تعالي  كالأمراض والأسقام، وإما بفعل العباد كالقيد والحبس، وإما أفعال روحه المنفوخة فيه، إذا حركت يديه فهي كلها اختيارية، ومن وجه قد بيناه كلها اضطرارية، فاضطرارها هو عين‏.‏‏.‏ ‏.‏ ، واختيارها إنما هو بالاضطرار، وحقيقة الاضطرار هو أن اضطرار‏.‏‏.‏ ‏.‏ وربما أحبت من وجه وكرهت من وجه آخر، وهذا كله لا يمنع ورود التكليف، واقتضاء الثواب والعقاب‏.‏
هذا الذي تيسر كتابته في الحال‏:‏ ‏
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏ ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 4 ‏]‏، والحمد لله وحده‏.‏

 

ص -405-

سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تيمية  رحمه الله‏:‏
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين  رضي الله عنهم أجمعين  في أفعال العباد‏:‏ هل هي قديمة، أم مخلوقة حين خلق الإنسان‏؟‏
وما الحجة على من يقول‏:‏ إن سائر أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السموات والأرض‏؟‏ وفيمن لم يستثن في الأفعال الماضية، كقول القائل‏:‏ هذه نخلة أو شجرة زيتون قطعًا، لم يقل شيء إلا ويسترجع فيه المشيئة، ويسأل البسط في ذلك‏.‏
فأجاب  رضي الله عنه‏:‏
الحمد لله رب العالمين، أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كما نص علي ذلك سائر أئمة الإسلام، الإمام أحمد ومن قبله وبعده، حتي قال بعضهم‏:‏ من قال‏:‏ إن أفعال العباد غير مخلوقة، فهو بمنزلة من قال‏:‏ إن السماء والأرض غير مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد العطار‏:‏ ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة‏.‏
وكان السلف قد أظهروا ذلك لما أظهرت القدرية، أن أفعال العباد غير

 

ص -406-

مخلوقة لله، وزعموا أن العبد يحدثها أو يخلقها دون الله، فبين السلف والأئمة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها‏.‏
ثم لما أظهر طائفة من المنتسبين إلى السنة، أن ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة، وأنكر الإمام أحمد ذلك وبدع من قاله، ثم لما مات قام بعده صاحبه أبو بكر المروذي، فصنف في ذلك مصنفًا، ذكره أبو بكر الخلال في كتاب ‏[‏السنة‏]‏ وذكر مسألة أبي طالب لما أنكر عليه أحمد القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق، والجهمية أول من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، ورواه عنه ابناه صالح وعبد الله، وحنبل ابن عمه، والمروزي وفوران وغيرهم من أجلاء أصحابه‏.‏
وأنكر الأئمة من أصحاب أحمد وغيرهم من علماء السنة من قال‏:‏ إن أصوات العباد وأفعالهم غير مخلوقة، وصنف البخاري في ذلك مصنفًا، كما أنهم بدعوا وجهموا من قال‏:‏ إن الله لا يتكلم بصوت، أو أن حروف القرآن مخلوقة‏.‏ أو قالوا‏:‏ إن اللفظ بالقرآن مخلوق، فرد الأئمة هذه البدعة كما ذكرنا ذلك مبسوطًا في غير هذا الموضع‏.‏ ولم يقل قط أحد لا من أصحاب أحمد المعروفين، ولا من غيرهم من العلماء المعروفين، أن أفعال العباد قديمة‏.‏
وإنما رأيت هذا قولا لبعض المتأخرين بأرض العجم، وأرض مصر‏.‏ من المنتسبين إلى مذهب الشافعي أو أحمد، فرأيت بعض المصريين يقولون‏:‏

 

ص -407-

  إن أفعال العباد من خير وشر قديمة، ويقولون‏:‏ ليس مرادنا بالأفعال نفس الحركات، ولكن مرادنا الثواب الذي يكون عليها، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏أن المؤمن يرى عمله في صورة رجل حسن الوجه طيب الريح‏"‏‏.‏
واحتجوا على ذلك بأن الأفعال من القدر، والقدر سر الله وصفة من صفاته، وصفاته قديمة‏.‏
واحتجوا بأن الشرائع غير مخلوقة؛ لأنها أمر الله وكلامه، والأفعال هي الشرائع، فتكون قديمة، وهذا قول في غاية الفساد، وهو مخالف لنصوص أئمة الإسلام كلهم، وأحدهم الإمام أحمد، فإنه نص هو وغيره من الأئمة على أن الثواب الذي يعطيه الله على قراءة القرآن مخلوق‏.‏ فكيف بالثواب الذي يعطيه على سائر أعمال العباد‏.‏
ولما احتج الجهمية على الإمام أحمد، وغيره من أهل السنة على أن القرآن مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، ويأتي القرآن في صورة الرجل الشاحب‏"‏ ونحو ذلك قالوا‏:‏ ومن يأتي ويذهب لا يكون إلا مخلوقًا، أجابهم الإمام أحمد بأن الله تعالى قد وصف نفسه بالمجىء والإتيان، بقوله‏:‏ ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏، ومع هذا فلم يكن هذا دليلاً على أنه مخلوق

 

ص -408-

بالاتفاق، بل قد يقول القائل‏:‏ جاء أمره، وهكذا تقوله المعتزلة الذين يقولون‏:‏ القرآن مخلوق ويتأولون هذه الآية علي أن المراد بمجيئه مجيء أمره، فلم لا يجوز أن يتأول مجيء القرآن على مجيء ثوابه‏؟‏ ويكون المراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران بمجيء ثوابها، وثوابها مخلوق‏.‏
وقد ذكر هذا المعنى غير واحد، وبينوا أن المراد بقوله‏:‏‏"‏تجيء البقرة وآل عمران‏"‏ أي ثوابهما، ليجيبوا الجهمية الذين احتجوا بمجيء القرآن وإتيانه على أنه مخلوق، فلو كان الثواب أيضًا الذي يجيء في صورة غمامة أو صورة شاب غير مخلوق، لم يكن فرق بين القرآن والثواب، ولا كان حاجة إلى أن يقولوا‏:‏ يجيء ثوابه، ولا كان جوابهم للجهمية صحيح، بل كانت الجهمية تقول‏:‏ أنتم تقولون؛ إنه غير مخلوق، وأن ثوابه غير مخلوق، فلا ينفعكم هذا الجواب‏.‏
فعلم أن أئمة السنة مع الجهمية كانوا متفقين على أن ثواب قراءة القرآن مخلوق، فكيف يكون ثواب سائر الأعمال، وهذا بين، فإن الثواب والعقاب هو ما وعد الله به عباده، وأوعدهم به فالثواب هو الجنة بما فيها، والعقاب هو النار بما فيها، والجنة بما فيها مخلوق والنار بما فيها مخلوق، وقد ذكر الإمام أحمد هذه الحجة، فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فقال‏:‏
باب‏:‏ ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت

 

ص -409-

 

ص -410-

وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو الصادق المصدوق ‏:‏ ‏"‏أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏ اكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح‏"‏‏.‏ فالرزق والأجل قدره كما قدر عمله، ومعلوم أن الرزق الذي يأكله مخلوق مع أنه مقدر‏.‏ فكذلك عمله، وكذلك سعادته وشقاؤه، وسعادته وشقاؤه هي ثواب العمل وعقابه، وكل ذلك مقدر، كما أن الرزق مقدر، والمقدر مخلوق‏.‏
وأما قولهم‏:‏ إن الأعمال هي الشرائع، والشرائع غير مخلوقة، فيقال لهم أيضًا‏:‏ لفظ الشرع يراد به كلام الله الذي شرع به الدين، ويراد به الأعمال المشروعة، فإن هذه الألفاظ يراد بها المصدر، ويراد بها المفعول، كلفظ الخلق ونحوه‏.‏
فإن قلتم‏:‏ إن أعمال العباد هي الشرع الذي هو كلام الله، فهذا باطل ظاهر البطلان‏.‏
وإن أردتم أن الأعمال هي المشروعة بأمر الله بها فهذا حق، لكن أمر الله غير مخلوق، وأما المأمور به المكون بأمر الله أو الممتثل بأمر الله، فإنه مخلوق، كما أن العبد المأمور مخلوق‏.‏

 

ص -411-

ولفظ الأمر يراد به المصدر، والمفعول، فالمفعول مخلوق، كما قال‏:‏ ‏{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏1‏]‏ وقال‏:‏ ‏{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فهنا المراد به المأمور به، ليس المراد به أمره الذي هو كلامه، وهذه الآية التي احتج بها هؤلاء تضمنت الشرع، وهو الأمر والقدر، وقد ضل في هذا الموضع فريقان‏:‏
الجهمية الذين يقولون‏:‏ كلام الله مخلوق، ويحتجون بقوله‏
:‏ ‏{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ ويقولون‏:‏ ما كان مقدوراً فهو مخلوق‏.‏ وهؤلاء الحلولية الضالون، الذين يجعلون فعل العباد قديمًا بأنه أمر الله وقدره، وأمره وقدره، غير مخلوق‏.‏
ومثار الشبهة أن اسم القدر، والأمر، والشرع، يراد به المصدر ويراد به المفعول ففي قوله‏:‏ ‏
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 38 ‏]‏، المراد به المأمور به المقدور، وهذا مخلوق، وأما في قوله‏:‏ ‏{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 5‏]‏، فأمره كلامه إذ لم ينزل إلينا الأفعال التي أمرنا بها وإنما أنزل القرآن، وهذا كقوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، فهذا الأمر هو كلامه‏.‏
فإذا احتج الجهمي الذي يؤول أمره إلى أن يجعله حالاً في المخلوقات بقوله‏:‏
‏{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ قيل له‏:‏ المراد به المأمور به، كما في قوله‏:‏ ‏{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، وكما يقال عن الحوادث التي يحدثها الله‏:‏ هذا أمر عظيم، وإذا احتج الحلولي الذي يجعل صفات الرب تقارن ذاته، وتحل في

 

ص -412-

المخلوقات بقوله‏:‏ {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏، وقال الأفعال قدره وأمره، وأمره غير مخلوق، وقدره غير مخلوق، قيل له‏:‏ أمره وقدره الذي هو صفته كمشيئته وكلامه غير مخلوق، فأما أمره الذي هو قدر مقدور فمخلوق، فالمقدور مخلوق، والمأمور به مخلوق، وإن سميا أمرًا وقدرًا‏.‏
ثم يقال لهؤلاء الضالين‏:‏ هب أن المأمور به يسمى أمرًا وشرعًا، فالمنهي عنه ليس هو مأمورًا به ولا مشروعًا، وإنما هو مخالفة للأمر والشرع، وهو منهي عنه، فكيف سميتم الكفر، والفسوق، والعصيان شرائع، وليست من الشرائع‏؟‏‏!‏ ولكن هي مما نهت عنه الشريعة، ولما قال سبحانه‏:‏
‏{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏، هل دخل في هذه الشريعة الكفر، والفسوق، والعصيان‏؟‏‏!‏ وهل أمر الرسول باتباع ذلك وباجتنابه واتقائه‏؟‏‏!‏‏.‏
وأما قول السائل‏:‏ ما الحجة على من يقول‏:‏ إن أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السماوات والأرض ‏؟‏ فيقال له‏:‏ من قال هذا القول فقد أحسن وأصاب وليس عليه حجة، بل هذا الكلام حجة على نقيض مطلوبه، فإن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏إن الله قدر مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة‏"‏ فقدر أعمالهم وأرزاقهم وصورهم وألوانهم، وكل ذلك مخلوق، فدل ذلك على أن الأعمال من المقدورات المخلوقة، وهل يقول عاقل‏:‏ إن عمل العبد كان موجودًا

 

ص -413-

قبل وجوده، وعمل العبد حركته التي نشأت عنه، فكيف يكون ذلك موجودًا قبله‏.‏
ومن فسر كلامه وقال‏:‏ إنا لم نرد الحركة، ولكن أردنا ثوابها، فيقال له‏:‏ كل ما سوى الله فهو مخلوق، وكلامه وصفاته ليست خارجة عن مسماه، بل كلامه داخل في مسمى اسمه، ولو قال قائل‏:‏ ما سوى الله وصفاته فهو مخلوق، ليزيل هذه الشبهة، كان قد قصد معنى صحيحًا، وكذلك إذ قال  كما قال من قال من السلف ‏:‏ الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن، فإنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهؤلاء استثنوا القرآن لئلا يتوهم المستمع أن القرآن المنزل مخلوق‏.‏
فإن الجهمية كانوا يقولون للناس‏:‏ القرآن هو الله أو غير الله، فيجيبهم من لا يفهم مقصودهم بأنه غير الله، فيقولون‏:‏ كل ما سوى الله مخلوق، فقال من قال من السلف هذه العبارة؛ لئلا يظن من لم يعرف مقاصد الجهمية أن القرآن مخلوق؛ لظنه أن ذلك يدخل في عموم قوله‏:‏ وما سوى الله مخلوق، فقالوا‏:‏ إن ذلك لا يدخل في عموم قوله‏:‏ وما سوى الله مخلوق، فقالوا‏:‏ إلا القرآن فإنه ليس بمخلوق، وإن أدخله من أدخله في قول القائل وما سوى الله مخلوق، فلما كان لفظ الغير والسوي فيهما اشتراك، فصفة الشيء تدخل تارة في لفظ الغير والسوي، وتارة لا تدخل، والمخاطب ممن يفهم دخول القرآن في لفظ السوي، استثناه السلف‏.‏

 

ص -414-

فأما أفعال العباد، فلم يستثنها أحد من عموم المخلوقات، إلا القدرية الذين يقولون‏:‏ إن الله لم يخلقها  من المعتزلة ونحوهم‏.‏
لكن هؤلاء يقولون‏:‏ إنها محدثة كائنة بعد أن لم تكن، إلا هؤلاء الحلولية، وما علمت أحدًا من المتقدمين قال‏:‏ إن أفعال العباد من الخير أو الشر قديمة، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة إلا عن بعض متأخري المصريين، وبلغني نحو ذلك عن بعض متأخري الأعاجم ورأيت بعض شيوخ هؤلاء من الشاميين توقفوا عنها، فقالوا‏:‏ نقول‏:‏ هي مقضية مقدرة، ولا نقول‏:‏ مخلوقة ولا غير مخلوقة، وبعض الناس فرق بأن أفعال الخير من الإيمان، وكلام السلف في الإيمان مذكور في غير هذا الموضع‏.‏
وهذه الأقوال الثلاثة، بقدمها أو قدم أفعال الخير، والتوقف في ذلك أقوال فاسدة باطلة لم يقلها أحد من الأئمة المشهورين، ولا يقولها من يتصور ما يقول، وإنما أوقع هؤلاء فيها ما ظنوه في مسألة اللفظ بالقرآن، ومسألة التلاوة والمتلو، ومسألة الإيمان‏.‏ وقد أوضحنا مذاهب الناس في مسألة القرآن، وبينا القول الحق والوسط الذي كان عليه السلف، والأئمة الموافق للمنقول والمعقول، وبينا انحراف المنحرفين من المثبتة والنفاة في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -415-

وقد آل الأمر بطائفة ممن يجعلون بعض صفات العبد قديمًا، إلى أن جعلوا الروح التي فيه قديمة، وقالوا‏:‏ بقدم النور القائم بالشمس والقمر، ونحو ذلك من المقالات، التي بينا فسادها ومخالفتها للسلف والأئمة في غير هذا الموضع‏.‏
وهؤلاء يشتركون في القول بحلول بعض صفات الخالق في المخلوق، وأما الجهمية الذين هم شر من هؤلاء، فيؤول الأمر بهم إلى أن يجعلوا الخالق نفسه يحل في المخلوقات كلها، أو يجعلونه عين وجود المخلوقات، وكان قد اجتمع شيخ هؤلاء الحلولية الجهمية بشيوخ أولئك الحلولية الصفاتية‏.‏
وبسبب هذه البدع وأمثالها، وغيرها من مخالفة الشريعة جرى ما جرى من المصائب على الأئمة‏.‏
والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا القول بالحلول وشبهوا هؤلاء بالنصارى، وقال  فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية قال ‏:‏ فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله، أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان له خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقى أناسًا من المشركين يقال لهم‏:‏ السمنية، فعرفوا الجهم، فقالوا له‏:‏ نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا‏:‏ ألست تزعم أن لك إلهاً‏؟‏ قال الجهم

 

ص -416-

نعم، فقالوا له‏:‏ فهل رأيت إلهك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فهل سمعت كلامه ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فشممت له رائحة ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فوجدت له حسًا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فوجدت له مجسًا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فما يدريك أنه إله‏؟‏ قال‏:‏ فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة، مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى ابن مريم هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء، وينهي عما يشاء، وهو روح غائب عن الأبصار‏.‏
فاستدرك الجهم حجة، فقال للسمني‏:‏ ألست تزعم أن فيك روحًا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فهل رأيت روحك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل سمعت كلامه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فوجدت له حسًا أو مجسًا ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فكذلك الله لا ترى له وجهًا ولا تسمع له صوتًا، ولا تشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، وتكلم في الرد عليهم إلى أن قال‏:‏
ثم إن الجهم ادعى أمرًا آخر فقال‏:‏ إنا وجدنا آية من كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا‏:‏ أي آية‏؟‏ فقال‏:‏ قول الله‏:‏
‏{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، وعيسى مخلوق‏.‏ فقلنا‏:‏ إن الله منعك الفهم في القرآن، عيسى تجري عليه ألفاظ، لا تجري على القرآن؛ لأنه

 

ص -417-

يسميه مولودًا وطفلا وصبيًا، وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد‏.‏ ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى‏؟‏‏!‏‏.‏
ولكن المعنى في قول الله جل ثناؤه‏:‏
‏{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمٍَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له‏:‏ كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن، ولكن كان بكن، فالكن من الله قول، وليس الكن من الله مخلوقًا‏.‏
وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا‏:‏ عيسى روح الله، وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة‏.‏ وقالت النصارى‏:‏ عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله‏.‏ كما يقال‏:‏ إن هذه الخرقة من هذا الثوب‏.‏ وقلنا نحن‏:‏ إن عيسى بالكلمة كان‏.‏ وليس عيسى هو الكلمة‏.‏ وأما قول الله وروح منه‏.‏ يقول‏:‏ من أمره كان الروح فيه، كقوله‏:‏
‏{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏‏.‏ يقول‏:‏ من أمره، و تفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقها الله، كما يقال‏:‏ عبد الله وسماء الله‏.‏
وبين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، فضلاً عن أعمالهم فقال‏:‏

 

ص -418-

بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى، فقلنا‏:‏ لم أنكرتم ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئًا فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين‏.‏ فقلنا‏:‏ فهل يجوز لمكون غير الله، أن يقول‏:‏ يا موسى، أنا ربك أو يقول‏:‏ ‏{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، فمن زعم أن ذلك غير الله، فقد ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئًا كان يقول ذلك المكون‏:‏ ىا موسى إن الله رب العالمين، لا يجوز له أن يقول‏:‏ ‏{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 30‏]‏، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏، فهذا منصوص القرآن‏.‏
فأما ما قالوا‏:‏ إن الله لا يتكلم، ولا يكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏ما منكم من أحد إلا سيكلم ربه ليس بينه وبينه ترجمان‏"‏‏.‏ وبسط الكلام عليهم إلى أن قال‏:‏
قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال‏:‏ إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق، قلنا‏:‏ وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه، حين

 

ص -419-

زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة‏.‏ بل نقول‏:‏ إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول‏:‏ إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق، وذكر تمام كلامه‏.‏
فقد بين أن كلام الآدميين مخلوق خلقه الله، وذلك أبلغ من نصه على أن أفعال العباد مخلوقة، مع نصه على الأمرين‏.‏
وقال‏:‏ إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله، حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل‏:‏ أليس الله كان ولا شيء‏؟‏‏!‏ فيقول‏:‏ نعم، فقل له‏:‏ حين خلق خلقه، خلقه في نفسه أو خارجًا عن نفسه، فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل‏:‏ واحدة منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه‏.‏ وإن قال‏:‏ خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر ردىء‏.‏ وإن قال‏:‏ خلقهم خارجَا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة‏.‏
فقد بين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، ونص في غير موضع على أن أفعالهم مخلوقة، والنص على كلامهم أبلغ، فإن الشبه فيه أظهر‏.‏ فمن قال‏:‏ إن

 

ص -420-

كلام الآدميين، أو أفعالهم قديمة، فهو مبتدع مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها‏.‏
فصل
وأما الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن، مثل قوله‏:‏ هذه شجرة إن شاء الله، أو هذا إنسان إن شاء الله، أو السماء فوقنا إن شاء الله، أو لا إله إلا الله إن شاء الله، أو محمد رسول الله إن شاء الله، أو الامتناع من أن يقول‏:‏ محمد رسول الله قطعًا، وأن يقول‏:‏ هذه شجرة قطعًا‏.‏ فهذه بدعة مخالفة للعقل والدين‏.‏
ولم يبلغنا عن أحد من أهل الإسلام إلا عن طائفة من المنتسبين إلى الشيخ أبي عمرو ابن مرزوق ولم يكن الشيخ يقول بذلك ولا عقلاء أصحابه‏.‏ ولكن حدثني بعض الخبيرين أنه بعد موته تنازع صاحبان له‏:‏ حازم وعبد الملك، فابتدع حازم هذه البدعة في الاستثناء في الأمور الماضية المقطوع بها، وترك القطع بذلك، وخالفه عبد الملك في ذلك موافقة لجماعة المسلمين وأئمة الدين‏.‏
وأما الشيخ أبو عمرو، فكان أعقل من أن يدخل في مثل هذا

 

ص -421-

الهذيان، فإنه كان له علم ودين، وإن كان ما تقدم من مسألة قدم أفعال العباد من خير وشر يعزى إليه‏.‏ وقد أراني بعضهم خطه بذلك‏.‏ فقد قيل‏:‏ إنه رجع عن ذلك، وكان يسلك طريقة الشيخ أبي الفرج المقدسي الشيرازي، ونقل عنه أنه كان يقف ويقول‏:‏ هي مقضية مقدرة‏.‏ وأمسك‏.‏
والشيخ أبو الفرج كان أحد أصحاب القاضي أبي يعلي، ولكن القاضي أبو يعلي لا يرضى بمثل هذه المقالات، بل هو ممن يجزم بأن أفعال العباد مخلوقة، ولو سمع أحدًا يتوقف في الكفر والفسوق والعصيان أنه مخلوق  فضلا عن أن يقول‏:‏ إن أفعال العبد من خير وشر قديمة  لأنكرعليه أعظم الإنكار‏.‏
وإن كان في كلام القاضي مواضع اضطرب فيها كلامه وتناقص فيها وذكر في موضع كلامًا بني عليه من وافقه فيه من أبنية فاسدة، فالعالم قد يتكلم بالكلمة التي يزل فيها فيفرع أتباعه عليها فروعًا كثيرة، كما جرى في مسألة اللفظ وكلام الأدميين ومسألة الإيمان وأفعال العباد‏.‏
فإن السلف والأئمة  الإمام أحمد وغيره  لم يقل أحد منهم أن كلام الآدميين غير مخلوق ولا قالوا‏:‏ إنه قديم ولا أن أفعال العباد غير مخلوقة، ولا أنها قديمة‏.‏ ولا قالوا أيضًا‏:‏ إن الإيمان قديم ولا إنه غير مخلوق‏.‏ ولا قالوا‏:‏ إن لفظ العباد بالقرآن مخلوق، ولا إنه غير مخلوق ولكن منعوا من إطلاق

 

ص -422-

القول بأن الإيمان مخلوق، وأن اللفظ بالقرآن مخلوق، لما يدخل في ذلك من صفات الله تعالى، ولما يفهمه هذا اللفظ من أن نفس كلام الخالق مخلوق وأن نفس هذه الكلمة مخلوق، ومنعوا أن يقال‏:‏ حروف الهجاء مخلوقة؛ لأن القائل هذه المقالات يلزمه أن لا يكون القرآن كلام الله، وأنه لم يكلم موسى‏.‏
فجاء أقوام أطلقوا نقيض ذلك فقال بعضهم‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق، فبدع الإمام أحمد وغيره من الأئمة من قال ذلك‏.‏
وكذلك أطلق بعضهم القول بأن الإيمان غير مخلوق‏.‏ حتى صار يفهم من ذلك أن أفعال العباد التي هي إيمان غير مخلوقة، فجاء آخرون فزادوا على ذلك فقالوا كلام الآدميين مؤلف من الحروف التي هي غير مخلوقة‏.‏ فيكون غير مخلوق‏.‏ وقال آخرون‏:‏ فأفعال العباد كلها غيرمخلوقة‏.‏ والبدعة كلما فرع عليها وذكر لوازمها زادت قبحًا وشناعة، وأفضت بصاحبها إلى أن يخالف ما يعلم بالاضطرار من العقل والدين‏.‏
وقد بسطنا الكلام في هذا، وبينا اضطراب الناس في هذا في مسألة القرآن وغيرها‏.‏
وهذا كما أن أقوامًا ابتدعوا‏:‏ أن حروف القرآن ليست من كلام الله،

 

ص -423-

وأن كلام الله إنما هو معني قائم بذاته هو الأمر والنهي والخبر، وهذا الكلام فاسد بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، فإن المعني الواحد لا يكون هو الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مخبر، ولا يكون معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدًا، وهم يقولون‏:‏ إذا عبر عن ذلك الكلام بالعربية صار قرآنا، وإذا عبر عنه بالعبرية صار توراة، وهذا غلط، فإن التوراة يعبر عنها بالعربية ومعانيها ليست هي معاني القرآن، والقرآن يعبر عنه بالعبرية وليست معانيه هي معاني التوراة‏.‏
وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب، ولكنه هو ومن اتبعه عليه، كالأشعري وغيره يقولون مع ذلك‏:‏ إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة‏.‏
ومنهم من يمثل ذلك بأنه محفوظ بالقلوب كما أن الله معلوم بالقلوب، ومتلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن، ومكتوب في المصاحف، كما أن الله مكتوب في المصاحف، وهذا غلط في تحقيق مذهب ابن كلاب والأشعري فإن القرآن عندهم معنى عبارة عنه، والحقائق لها أربع مراتب‏:‏ وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي‏.‏ فليس العلم بالمعنى له المرتبة الثانية، وليس ثبوته في الكتاب كثبوت الأعيان في الكتاب‏.‏ فزاد هؤلاء قول ابن كلاب والأشعري قبحًا‏.‏

 

ص -424-

تم تبع أقوام من أتباعهم أحد أهل المذهب، وأن القرآن معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء أو صنفها جبريل أو محمد، فضموا إلى ذلك أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه، لما رأوا أن مجرد كونه دليلاً لا يوجب الاحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام، فإن الموجودات كلها أدلة عليه ولا يجب احترامها فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنهم من يكتب أسماء الله بالعذرة إسقاطاً لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش، أو يركضه برجله إهانة له، إنه كافر مباح الدم‏.‏
فالبدع تكون في أولها شبرًا، ثم تكثر في الاتباع حتى تصير أذرعًا وأميالاً وفراسخ‏.‏
وهذا الجواب لا يحتمل بسط هذا الباب، فإنه مبسوط في غيره‏.‏
وهؤلاء الذين يستثنون في هذه الأشياء الماضية المقطوع بها، مبتدعة ضلال جهال، وأحدهم يحتج على ذلك، فإذا قيل له‏:‏ هذه شجرة، قال إن شاء الله أن يقلبها حيوانًا فعل‏.‏

 

ص -425-

فيقال له‏:‏ هي الآن شجرة قطعًا، وإما إذا قلت‏:‏ قد انتقلت كما أن الإنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحما، ثم يحيى فبعد نفخ الروح فيه حي قطعًا، وإذا شاء الله أن يميته أماته، فالله إذا كان قادرًا على تحويل الخلق من حال إلي حال لم يمنع ذلك أن يكونوا في كل وقت على الحال التي خلقهم عليها‏.‏ فالسماء سماء بمشيئة الله وقدرته وخلقه، والإنسان إنسان بمشيئة الله وقدرته وخلقه، والفرس فرس بمشيئة الله وقدرته وخلقه، وإذا شاء الله أن يغير ما شاء غيره بمشيئته إن شاء وقدرته وخلقه‏.‏
ولم يجئ في الكتاب والسنة استثناء في الماضي، بل في المستقبل كقوله‏:‏
‏{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏.‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23، 24‏]‏ وقوله‏:‏ {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وإنا إن شاء الله بكم لاحقون‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏إن سليمان قال‏:‏ لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل امرأة بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه‏:‏ قل‏:‏ إن شاء الله، فلم يقل‏.‏ فلم تلد منهن إلا امرأة جاءت بشق ولد‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فلو قال‏:‏ إن شاء الله لقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعين‏"‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من حلف فقال‏:‏ إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك‏"‏، لأن الحالف يحلف على مستقبل ليفعلن هو أوغيره كذا، أو لا يفعل هو أو غيره كذا فيقول‏:‏ إن شاء الله لأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإن وقع الفعل كان الله شاءه، فلا حنث عليه، وإن لم يقع لم يكن الله شاءه فلا حنث عليه؛ لأنه إنما التزمه إن أشاء الله، فإذا لم يشأه الله لم يكن قد التزمه فلا يحنث‏.‏

 

ص -426-

والاستثناء في الإيمان مأثور عن ابن مسعود وغيره من السلف والأئمة لا شكا فيما يجب عليهم الإيمان به، فإن الشك في ذلك كفر‏.‏ ولكنهم استثنوا في الإيمان خوفًا ألا يكونوا قاموا بواجباته وحقائقه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هوالرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه‏"‏‏.
واستثنوا أيضا لعدم علمهم بالعاقبة والإيمان النافع هو الذي يموت المرء عليه.
واستثنوا خوفا من تزكية النفس ونحو ذلك من المعاني الصحيحة.
وكذلك من استثنى في أعمال البر كقوله: "صليت إن شاء الله" ونحو ذلك فهذا كله استثناء في أفعال لم يعلم وقوعها على الوجه المأمور المقبول فهو استثناء فيما لم تعلم حقيقته؛ أو في مستقبل علق بمشيئة الله، فأما الاستثناء في ماض معلوم فهذه بدعة بخلاف العقل والدين.

 

ص -427-

وقال  رحمه الله‏:‏
فصل
وأما مسألة تحسين العقل وتقبيحه، ففيها نزاع مشهور، بين أهل السنة والجماعة من الطوائف الأربعة وغيرهم‏.‏ فالحنفية وكثير من المالكية، والشافعية والحنبلية، يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، وهو قول الكَرَّامية والمعتزلة، وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين، واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، وكثير من الشافعية والمالكية والحنبلية ينفون ذلك، وهو قول الأشعرية، لكن أهل السنة متفقون على إثبات القدر، وإن الله على كل شيء قدير، خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏
والمعتزلة وغيرهم من القدرية، يخالفون في هذا، فإنكار القدر بدعة منكرة، وقد ظن بعض الناس أن من يقول‏:‏ بتحسين العقل وتقبيحه ينفي القدر، ويدخل مع المعتزلة في مسائل التعديل والتجويز، وهذا غلط بل جمهور المسلمين لا يوافقون المعتزلة على ذلك، ولا يوافقون الأشعرية علي نفي

 

ص -428-

الحكم والأسباب، بل جمهور طوائف المسلمين يثبتون القدر، ويقولون‏:‏ إن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، ويقولون‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
وأما الإقرار بتقدم علم الله وكتابه لأفعال العباد، فهذا لم ينكره إلا الغلاة من القدرية وغيرهم، وإلا فجمهور القدرية من المعتزلة وغيرهم يقرون بأن الله علم ما العباد فاعلون قبل أن يفعلوه، ويصدقون بما أخبر به الصادق المصدوق من أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏"‏، وفي صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ثم خلق السموات والأرض‏"‏‏.‏  وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو الصادق المصدوق  ‏"‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏ اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل

 

ص -429-

أهل النار حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة‏"‏‏.‏ والآثار مثل هذا كثيرة‏.‏
فهذا يقر به أكثر القدرية، وإنما ينكره غلاتهم، كالذين ذكروا لعبد الله بن عمر في الحديث الذي رواه مسلم في أول صحيحه بحيث قيل له‏:‏ ‏"‏قبلنا أقوام يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم، يزعمون ألا قدر وإن الأمر أنف، قال‏:‏ فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برىء منهم، وأنهم منى برآء‏"‏ ؛ولهذا كفر الأئمة‏:‏ كمالك والشافعي وأحمد، من قال‏:‏ إن الله لم يعلم أفعال العباد حتي يعملوها، بخلاف غيرهم من القدرية‏.‏
والمقصود هنا‏:‏ أن جماهير المسلمين يخالفون القدرية من المعتزلة وغيرهم، وجماهير المسلمين أيضًا يقرون بالأسباب التي جعلها الله أسبابًا في خلقه وأمره، ويقرون بحكمة الله التي يريدها، في خلقه وأمره، ويقولون‏:‏ كما قال الله في القرآن حيث قال‏:‏ ‏
{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، وجمهور المسلمين على ذلك يقولون‏:‏ إن هذا فعل بهذا، لا يقولون كما يقول نفاة الأسباب‏:‏ فعل عندها لا بها، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -430-

والمقصود هنا‏:‏ أن مسألة التحسين والتقبيح ، ليست ملازمة لمسألة القدر‏.‏ وإذا عرف هذا فالناس في مسألة التحسين والتقبيح على ثلاثة أقوال‏:‏ طرفان، ووسط‏.‏
الطرف الواحد، قول من يقول‏:‏ بالحسن والقبح، ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له، ولا يجعل الشرع إلا كاشفًا عن تلك الصفات، لا سببًا لشيء من الصفات فهذا قول المعتزلة  وهو ضعيف  وإذا ضم إلى ذلك قياس الرب على خلقه، فقيل‏:‏ ما حسن من المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق، ترتب على ذلك أقوال القدرية الباطلة‏.‏ وما ذكروه في التجويز والتعديل‏.‏ وهم مشبهة الأفعال، يشبهون الخالق بالمخلوق، والمخلوق بالخالق في الأفعال، وهذا قول باطل، كما أن تمثيل الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق في الصفات باطل‏.‏
فاليهود وصفوا الله بالنقائص التي يتنزه عنها، فشبهوه بالمخلوق، كما وصفوه بالفقر والبخل، واللغوب، وهذا باطل، فإن الرب تعالى منزه عن كل نقص، وموصوف بالكمال الذي لا نقص فيه، وهو منزه في صفات الكمال أن يماثل شيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين، فليس له كفؤًا أحد في شيء من صفاته، لا في علمه، و لا قدرته، ولا إرادته، ولا رضاه، ولا غضبه، ولا خلقه، ولا استوائه، ولا إتيانه ، ولا

 

ص -431-

نزوله، ولا غير ذلك مما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله‏.‏ بل مذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا ينفون عنه ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يمثلون صفاته بصفات المخلوقين، فالنافي معطل، والمعطل يعبد عدماً‏.‏ والمشبه ممثل، والممثل يعبد صنمًا‏.‏
ومذهب السلف إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى‏:
‏ ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وهذا رد على الممثلة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ رد على المعطلة‏.‏ وأفعال الله لا تمثل بأفعال المخلوقين، فإن المخلوقين عبيده، يظلمون ويأتون الفواحش، وهو قادر على منعهم ولو لم يمنعهم؛ لكان ذلك قبيحًا منه وكان مذمومًا على ذلك، والرب تعالى لا يقبح ذلك منه، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والنعمة السابغة، هذا علي قول السلف والفقهاء والجمهور الذين يثبتون الحكمة في خلق الله وأمره‏.‏
ومن قال‏:‏ إنه لا يخلق شيئًا بحكمة، ولا يأمر بشيء بحكمة، فإنه لا يثبت إلا محض الإرادة التي ترجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، كما هو أصل ابن كلاب، ومن تابعه، وهو أصل قولي القدرية والجهمية‏.‏
وأما الطرف الآخر في مسألة التحسين والتقبيح، فهو قول من يقول‏:‏

 

ص -432-

إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام، ولا على صفات هي علل للأحكام، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر، لمحض الإرادة، لا لحكمة، ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر‏.‏
ويقولون‏:‏ إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله، وينهي عن عبادته وحده ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش، وينهي عن البر والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفًا عندهم، ولا المنكر في نفسه منكرًا عندهم، بل إذا قال‏:‏
‏{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، فحقيقة ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم، وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، بل الأمر والنهي والتحليل والتحريم، ليس في نفس الأمر عندهم لا معروف، ولا منكر، ولا طيب، ولا خبيث، إلا أن يعبر عن ذلك بما يلائم الطباع، وذلك لا يقتضي عندهم كون الرب يحب المعروف ويبغض المنكر‏.‏
فهذا القول ولوازمه، هو أيضًا قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع السلف والفقهاء، مع مخالفته أيضًا للمعقول الصريح، فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء، فقال‏:‏
‏{إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر، فقال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏،

 

ص -433-

 وقال‏:‏ ‏{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏.‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 35، 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وعلى قول النفاة‏:‏ لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء‏.‏ وبين تفضيل بعضهم علي بعض، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر، وهذا خلاف المنصوص والمعقول‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏
‏{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، وعندهم تعلق الإرسال بالرسول، كتعلق الخطاب بالأفعال لا يستلزم ثبوت صفة لا قبل التعلق ولا بعده، والفقهاء وجمهور المسلمين يقولون‏:‏ الله حرم المحرمات فحرمت، وأوجب الواجبات فوجبت، فمعنا شيئان‏:‏ إيجاب وتحريم، وذلك كلام الله وخطابه، والثاني وجوب وحرمة و ذلك صفة للفعل، والله تعالى عليم حكيم، علم بما تتضمنه الأحكام من المصالح، فأمر ونهى لعلمه بما في الأمر والنهي والمأمور والمحظور من مصالح العباد ومفاسدهم، وهو أثبت حكم الفعل، وأما صفته، فقد تكون ثابتة بدون الخطاب، وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع‏:‏
أحدها‏:‏ أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل

 

ص -434-

  على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبًا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا‏:‏ إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا خلاف النص قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏.‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏.‏ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8- 10‏]‏‏.‏
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏ ‏"‏ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين‏"‏ ، والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة، ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح، أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم‏.‏
النوع الثاني‏:‏ أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنًا، وإذا نهى

 

ص -435-

عن شيء صار قبيحًا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع‏.‏
والنوع الثالث‏:‏ أن يأمر الشارع بشيء؛ ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه،
‏{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏، حصل المقصود، ففداه بالذبح، وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك‏:‏ أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضى عنك، وسخط على صاحبيك‏.‏
فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وإن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور، فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب‏.‏

 

ص -436-

وسئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية  رحمه الله تعالى  عن العبد، هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا‏؟‏ وإذا أراد أن يترك المعصية يكون قادرًا على تركها أم لا‏؟‏ وإذا فعل الخير نسبه إلى الله، وإذا فعل الشر نسبه إلى نفسه‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، نعم إذا أراد العبد الطاعة التي أوجبها الله عليه إرادة جازمة كان قادرًا عليها، وكذلك إذا أراد ترك المعصية التي حرمت عليه إرادة جازمة كان قادرًا على ذلك، وهذا مما اتفق عليه المسلمون وسائر أهل الملل، حتى أئمة الجبرية، بل هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وإنما ينازع في ذلك بعض غلاة الجبرية الذين يقولون‏:‏ إن الأمر الممتنع لذاته واقع فى الشريعة، ويحتجون بأمره أبا لهب بأنه يؤمن بما يستلزم عدم إيمانه‏.‏ وهذا القول خلاف ما أجمع عليه أئمة الإسلام، كالأئمة الأربعة وغيرهم، وأئمة الحديث والتصوف وغيرهم، وخلاف ما أجمع عليه أئمة الكلام من أهل النفي والإثبات‏.‏
فأما إجماع المعتزلة ، ونحوهم على ذلك فظاهر، وكذلك أئمة المتكلمين المثبتة‏:‏

 

ص -437-

كأبي محمد بن كلاب، وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك، وأبي إسحاق الإسفرائيني، والأستاذ أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، وكذلك أبو عبد الله محمد بن كرام وأصحابه‏:‏ كابن الهيصم، وسائر متكلمي أصحاب أبي حنيفة‏:‏ كأبي منصور الماتريدي، وغيره وأمثال هؤلاء كلهم متفقون‏.‏ وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد، كأبي الحسن بن الزاغوني، وإنما نازع في ذلك بعضهم، واتبعه أبو عبد الله الرازي‏.‏
واحتجاجهم بقصة أبي لهب حجة باطلة، فإن الله أمر أبا لهب بالإيمان قبل أن تنزل السورة، فلما أصر وعاند استحق الوعيد، كما استحق قوم نوح حين قيل له‏:‏
‏{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏، وحين استحق الوعيد أخبر الله بالوعيد الذي يلحقه، ولم يكن حينئذ مأمورًا أمرًا يطلب به منه ذلك، والشريعة طافحة بأن الأفعال المأمور بها مشروطة بالاستطاعة والقدرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏"‏صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب1‏"‏‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أن المصلي إذا عجز عن بعض واجباتها، كالقيام، أو القراءة أو الركوع، أو السجود، أو ستر العورة، أو استقبال القبلة، أو غير ذلك، سقط عنه ما عجز عنه‏.‏ وإنما يجب عليه ما إذا أراد فعله إرادة جازمة أمكنه فعله، وكذلك الصيام اتفقوا على أنه يسقط بالعجز عن مثل‏:‏

 

ص -438-

الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة؛ الذين يعجزون عنه أداء وقضاء‏.‏ وإنما تنازعوا هل على مثل ذلك الفدية بالإطعام‏؟‏ فأوجبها الجمهور‏:‏ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ولم يوجبها مالك، وكذلك الحج‏:‏ فإنهم أجمعوا على أنه لا يجب على العاجز عنه وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ وقد تنازعوا‏:‏ هل الاستطاعة مجرد وجود المال‏؟‏ كما هو مذهب الشافعي وأحمد، أو مجرد القدرة ولو بالبدن كما هو مذهب مالك‏؟‏ أو لابد منهما كمذهب أبي حنيفة‏؟‏ والأولون يوجبون على المغصوب أن يستنيب بماله، بخلاف الآخرين‏.‏
بل مما ينبغي أن يعرف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي، لم يكتف الشارع فيها بمجرد المكنة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادرًا على الفعل مع ضرر يلحقه جعل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة‏:‏ كالتطهر بالماء، والصيام في المرض، والقيام في الصلاة، وغير ذلك تحقيقًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ وفي الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأعرابي لما بال في المسجد قال‏:‏ ‏"‏لا تزرموه  أي لا تقطعوا عليه بوله  فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين‏"‏، وكذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبى موسى  حين بعثهما إلى اليمن ‏:‏ ‏"‏يسرا ولا

 

ص -439-

تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا‏"‏، وهذا وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يحصر‏.‏
فمن قال‏:‏ إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه، إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 125‏]‏، قال أبو قلابة‏:‏ هذا لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة‏.‏
لكن مع قوله ذلك، فيجب أن تعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإن الله خالق كل شيء فهو خالق العباد، وقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، فهو رب كل شيء ومليكه لا يكون شيء إلا بمشيئته، وإذنه وقضائه وقدره وقدرته، وفعله، وقد جاءت الإرادة في كتاب الله على نوعين‏:‏
أحدهما‏:‏ الإرادة الدينية، كما قال تعالى‏:‏
‏{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، ‏{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26، 27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
والثاني‏:‏ الإرادة الكونية، كما قال تعالى‏:‏

 

ص -440-

{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 253‏]‏، وقال نوح‏:‏ ‏{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏ يس‏:‏ 82‏]‏، وهذا التقسيم تقسيم شريف، وهو أيضًا وارد في كتاب الله في الإذن والأمر، والكلمات والتحريم والحكم والقضاء، كما قد بيناه في غير هذا الموضع، وبمعرفته تندفع شبهات عظيمة‏.‏
ومن مواقع الشبهة ومثارات الغلط‏:‏ تنازع الناس في القدرة هل يجب أن تكون مقارنة للفعل‏؟‏ أو يجب أن تكون متقدمة عليه‏؟‏ والتحقيق الذي عليه أئمة الفقهاء‏:‏ أن الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي  وهي التي تقدم الكلام فيها  لا يجب أن تقارن الفعل، فإن الله إنما أوجب الحج على من استطاعه فمن لم يحج من هؤلاء كان عاصيًا باتفاق المسلمين، ولم يوجد في حقه استطاعة مقارنة، وكذلك سائر من عصى الله من المأمورين المنهيين، وجد في حقه الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي‏.‏
وأما المقارنة فإنما توجد في حق من فعل، والفاعل لابد أن يريد الفعل إرادة جازمة، وأن يكون قادرًا عليه، وإذا وجد ذلك في حقه وجب وجود الفعل‏.‏ فمن قال‏:‏ الاستطاعة هي المقارنة، فهي مجموع ما يحب من الفعل ويدخل في ذلك الإرادة وغيرها وعلى هذا الاصطلاح يقال‏:‏ إذا لم يرد الفعل، فليس

 

ص -441-

بقادر عليه، وقد تبين أن مثل هذا النزاع لفظي، فمن فسر عدم القدرة بذلك ظهر مقصوده، فإذا حقق الأمر وقيل‏:‏ هل يكون العبد إذا أراد ما أمر به إرادة جازمة عاجزًا عنه، تبين الحق وظهر لكل أحد أنه إذا أراد ما أمر به لم يكن عاجزا، بل قادرًا عليه‏.‏ وأن ما كان عاجزًا عنه إذا أراده فإن الله لم يكلفه إياه، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، أي ما وسعته النفس‏.‏
ويجب أن يعلم العبد أن عمله من الحسنات هو بفضل الله ورحمته ومن نعمته، كما قال أهل الجنة‏:‏ ‏
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏
وكذلك إضافة السيئات إلى نفسه، هو الذي ينبغي أن يفعله مع علمه، بأن الله خالق كل موجود، من الأعيان والصفات، والحركات، والسكنات، كما قال آدم‏:
‏ ‏{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، وقال موسى‏:‏ ‏{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏، وقال الخليل‏:‏ ‏{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 82‏]‏،

 

ص -442-

وقال لخاتم الرسل‏:‏ ‏{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏، وقد قال  تعالى  في حق من عذبهم‏:‏ ‏{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 76‏]‏، ‏{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 5‏]‏، وأمثال هذا كثير في الكتاب والسنة‏.‏
وفي الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه مسلم وغيره، عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى‏:‏ ‏"‏ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم‏.‏ يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم‏.‏ ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا‏.‏ ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، لم ينقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص البحر إذ يغمس فيه المخيط غمسة واحدة‏.‏ ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏
فقد بين هذا الحديث، أن من وجد خيرًا بالعمل الصالح، فليحمد الله، فإنه هو الذي أنعم بذلك، وإن وجد غير ذلك إما شرًا له عقاب، وإما عبثًا

 

ص -443-

‏  لا فائدة فيه‏.‏ فلا يلومن إلا نفسه، فإنه هو الذي ظلم نفسه، وكل حادث فبقدرة الله ومشيئته، وكذلك في سيد الاستغفار الذي رواه البخاري، وغيره عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏سيد الاستغفار، أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أبوء لك بنعمتك علي‏"‏ يتناول نعمته عليه من الحسنات، وغيرها، وقوله‏:‏ ‏"‏وأبوء بذنبي‏"‏ اعتراف منه بذنبه‏.‏ وهذه الطريقة هي طريقة المؤمنين‏.‏ ومن عداهم ثلاثة أصناف‏:‏ فإن القسمة رباعية‏.‏
قسم يجعلون أنفسهم هي الخالقة المحدثة للحسنات والسيئات، وإن نعمة الله الدينية على المؤمن والكافر سواء، وأنه لم يعط العبد إلا قدرة واحدة تصلح للضدين، وليس بيد الله هداية خص بها المؤمن، أو تطلب منه بقول العبد‏:‏ ‏
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، وأنه لا يقدر على هداية ضال، ولا إضلال مهتد، فهؤلاء القدرية المجوسية‏.‏  وقسم يسلبون العبد اختياره وقدرته، ويجعلونه مجبورًا على حركاته

 

ص -444-

من جنس حركات الجمادات، ويجعلون أفعاله الاختيارية والاضطرارية من نمط واحد حتى يقول أحدهم‏:‏ إن جميع ما أمر الله به ورسوله فإنما هو أمر بما لا يقدر عليه، ولا يطيقه، فيسلبونه القدرة مطلقًا؛ إذ لا يثبتون له إلا قدرة واحدة مقارنة للفعل، ولا يجعلون للعاصي قدرة أصلا‏.‏
فهذه المقالات وأمثالها من مقالات الجبرية القدرية الذين أنكر قولهم  كما أنكروا قول الأولين  أئمة الهدى، مثل عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري، ومحمد بن الوليد الزبيدي، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن محمد بن حنبل وغيرهم‏.‏
فإن ضموا إلى ذلك إقامة العذر للعصاة بالقدر، وقالوا‏:‏ إنهم معذورون لذلك لا يستحقون اللوم والعذاب، أو جعلوا عقوبتهم ظلمًا، فهؤلاء كفار، كما أن من أنكر علم الله القديم من غلاة القدرية فهوكافر‏.‏
وإن جعلوا ثبوت القدر موجبًا ، لسقوط الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، كفعل المباحية فهؤلاء أكفر من اليهود والنصاري من جنس المشركين، الذين قالوا‏:‏
‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏.‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148، 149‏]‏، فإن هذا القول يستلزم طي بساط كل أمر ونهي

 

ص -445-

وهذا مما يعلم بالاضطرار من العقل والدين، أنه يوجب الفساد في أمر الدنيا والمعاد‏.‏
وأما القسم الرابع‏:‏ فهو شر الأقسام كما قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي‏.‏ قال‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وأنت عند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فهؤلاء شر أتباع الشيطان، وليس هو مذهبًا لطائفة معروفة، ولكن هو حال عامة المحلولين عن الأمر والنهي، إن فعل طاعة أخذ يضيفها إلى نفسه ويعجب حتى يحبط عمله، وإن فعل معصية أخذ يعتذر بالقدر ويحتج بالقضاء، وتلك حجة داحضة، وعذر غير مقبول‏.‏
وتراه إذا أصابته مصيبة بفعل العباد أو غيرهم لا يستسلم للقدر، وتراه إذا ظلم نفسه أو غيره احتج بالقدر ويقول‏:‏ العبد مسكين لا قادر ولا معذور ويقول‏:‏

 ألقاه في البحر مكتوفًا وقال له

 إياك إياك أن تبتل بالماء

وإن ظلمه غيره ظلمًا دون ذلك أو توهم أنه ظلمه أحد، سعى في الانتقام من ذلك بأضعاف ذلك، ولا يعذر غيره بمثل ما عذر به نفسه من القدر، وهما سواء، فهذه الجمل يجب اعتقادها‏.‏
وأما الكلام على الحقيقة الموجبة لإضافة الذنوب إلى العبد مع عموم الخلق

 

ص -446-

وفي سرد وقوع هذه الشرور، في القدر، وأنه مع ذلك لم يضف إلى الله في كتابه الأعلى أحد وجوه ثلاثة‏:‏
إما على طريق العموم، كقوله تعالى‏:‏
‏{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102، الرعد‏:‏ 16، الزمر‏:‏ 62، غافر‏:‏ 62‏]‏‏.‏
وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله تعالى‏:‏
‏{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وإما أن يحذف الفاعل كقول الجن‏:‏
‏{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 10‏]‏‏.‏
والكلام على أن أسماء الله الحسنى لابد أن تتضمن إضافة الخير، والشر داخل في مفعولاته، كقوله تعالى‏:‏
‏{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏.‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49 ، 50‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏، فتحريرهذه الحقائق الشريفة التي هي شرف الأولين والآخرين يحتاج إلى بسط وإطناب في غير هذا الجواب، والله الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

 

ص -447-

سئل شيخ الإسلام بقية السلف الكرام، العلامة الرباني، والحجة النوراني، أوحد عصره وفريد دهره، حلية الطالبين، ونخبة الراسخين، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تيمية الحراني  رضي الله عنه  وأثابه الجنة بمنه وكرمه‏.‏ فقيل‏:سئل عن أبيات في الجبر

 يأيها الحبر الذي علمه

 وفضله في الناس مذكور

 كيف اختيار العبد أفعاله

 والعبد في الأفعال مجبور

 لأنهم قد صرحوا أنه

 على الإرادات لمقسور

 ولم يكن فاعل أفعاله

 حقيقة والحكم مشهور

 ومن هنا لم يكن للفعل في

 ما يلحق الفاعل تأثير

 وما تشاؤون دليل له

 في صحة المحكى تقرير

 وكل شيء ثم لو سلمت لم

 يك للخالق تقدير

 أو كان فاللازم من كونه

 حدوثه والقول مهجور

 ولا يقال‏:‏ علم الله ما يختار

 فالمختار مسطور

ص -448-

والجبر  إن صح  يكن مكرها

 وعندك المكره معذور

 نعم ذلك الجبر كنت أمرءًا

 له إلى نحوك تشمير

 سيقمن الشوق ولكنني

 تقعدني عنك المقادير

فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، أصل هذه المسألة‏:‏ أن يعلم الإنسان أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد وغير أفعال العباد ‏.‏
وأنه  سبحانه  ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لايمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادر عليه‏.‏
وأنه سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر آجالهم وأرزاقهم، و أعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء،

ص -449-

وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون‏.‏ وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون‏.‏ وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي مستأنف‏.‏
وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة‏.‏ معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم، وأنكروا مقالتهم، كما قال عبد الله بن عمر  لما أخبر عنهم  إذا لقيت أولئك فأخبرهم‏:‏ إني برىء منهم، وإنهم برآء مني، وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين، فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة‏:‏ كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم‏:‏ إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون‏.‏
ثم كثر خوض الناس في القدر، فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق، لكن ينكرون عموم مشيئة الله، وعموم خلقه وقدرته، ويظنون أنه لا معني لمشيئته إلا أمره، فما شاءه فقد أمر به، ومالم يشأه لم يأمر به، فلزمهم أن يقولوا‏:‏ إنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وأنكروا أن

 

ص -450-

يكون الله تعالى خالقًا لأفعال العباد، أو قادرا عليها‏.‏ أو أن يخص بعض عباده من النعم بما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له‏.‏
وزعموا أن نعمته  التي يمكن بها الإيمان والعمل الصالح  على الكفار كأبي لهب، وأبي جهل، مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بمنزلة رجل دفع لأولاده مالا فقسمه بينهم بالسوية، لكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة، وهؤلاء أحدثوا أعمالهم الفاسدة، ومن غير نعمة خص الله بها المؤمنين وهذا قول باطل‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وقد أمرنا الله أن نقول في صلاتنا‏:‏ ‏
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏.‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ وقال أهل الجنة‏:‏ ‏{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏، وقال الخليل صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏، وقال‏:‏ ‏{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 40‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 41‏]‏، ونصوص الكتاب، والسنة، وسلف الأمة المبينة لهذه

 

ص -451-

الأصول كثيرة، مع مافي ذلك من الدلائل العقلية الكثيرة على ذلك‏.‏
فصل
وسلف الأمة وأئمتها متفقون  أيضًا  على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده، ومن احتج بالقدر على ترك مأمور، أو فعل محظور أو دفع ما جاءت به النصوص في الوعد والوعيد، فهو أعظم ضلالاً، وافتراء على الله، ومخالفة لدين الله من أولئك القدرية، فإن أولئك مشبهون بالمجوس، وقد جاءت الآثار فيهم أنهم مجوس هذه الأمة، كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره من السلف، وقد رويت في ذلك أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه أبو داود والترمذي، ولكن طائفة من أئمة الحديث طعنوا في صحة الأحاديث المرفوعة في ذلك، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
والمقصود هنا أن القدرية النافية يشبهون المجوس في كونهم أثبتوا غير الله، يحدث أشياء من الشر بدون مشيئته وقدرته وخلقه‏.‏

 

ص -452-

وأما المحتجون على القدر بإسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد، فهؤلاء يشبهون المشركين الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 47‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏‏.‏
فهؤلاء المحتجون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذبين للرسل، وهم أسوأ حالاً من المجوس، وهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد‏.‏
ومن هؤلاء من يظن أن آدم احتج على موسى بالقدر على الذنب، وأن ذلك جائز لخاصة الأولياء المشاهدين للقدر، وهذا ضلال عظيم، فإن موسى إنما لام آدم على المعصية التي لحقت الذرية بسبب أكله من الشجرة، فقال‏:‏ ‏"‏لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏"‏‏؟‏ والعبد مأمور عند المصائب أن يرجع للقدر، فإن سعادة العبد أن يفعل المأمور، ويترك المحظور ويسلم للمقدور، قال الله تعالى‏:‏

 

ص -453-

‏{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏، قال ابن مسعود‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏
فالسعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب‏.‏ كما قال تعالى‏:‏
‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏، والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب، وإلا فآدم صلى الله عليه وسلم قد تاب من الذنب، وقد اجتباه ربه وهداه، وموسى أجل قدرًا من أن يلوم أحدًا على ذنب قد تاب منه وغفر الله له، فضلا عن آدم، وهو أيضًا قد تاب مما فعل حيث قال‏:‏ ‏{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏، وموسى وآدم أعلم بالله من أن يظن واحد منهما أن القدر عذر لمن عصى الله، وقد علمنا ما حل بإبليس وغير إبليس، وآدم نفسه قد أخرج من الجنة وطفق هو وامرأته يخصفان عليهما من ورق الجنة، وقد عاقب الله قوم نوح، وهود، وصالح، وغيرهم من الأممم وقد شرع الله عقوبة المعتدين وأعد جهنم للكافرين، فكيف يكون القدر عذرًا للذنب‏؟‏‏!‏ ‏.‏
وهؤلاء لا يحتجون بالقدر إلا إذا كانوا متبعين لأهوائهم بغير علم، ولا يطردون حجتهم، فإن القدر لو كان عذرًا للخلق للزم ألا يلام أحد ولا يذم ولا يعاقب لا في الدنيا والآخرة، ولا يقتص من ظالم أصلا، بل يمكن الناس أن يفعلوا ما يشتهون مطلقًا، ومعلوم أن هذا لا يتصور أن يقوم عليه مصلحة أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هو موجب الفساد العام وصاحب

 

ص -454-

هذا لا يكون إلا ظالمًا متناقضًا، فإذا آذاه غيره أو ظلمه طلب معاقبته وجزاه، ولم يعذره بالقدر، وإذا كان هو الظالم احتج لنفسه بالقدر، فلا يحتج أحد بالقدر لاتباع هواه بغير علم، ولا يكون إلا مبطلاً لاحق معه، كما احتج به المشركون فقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وقال‏:‏ ‏{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏‏.‏
ولهذا كان هؤلاء المشركون المحتجون بالقدر، إذا عاداهم أحد قابلوه وقاتلوه وعاقبوه، ولم يقبلوا حجته إذا قال‏:‏ لو شاء الله ما عاديتكم، بل هم دائمًا يعيبون من ظلم واعتدى ولا يقبلون احتجاجه بالقدر، فلما جاءهم الحق من ربهم، أخذوا يدافعون ذلك بالقدر، فصاروا يحتجون على دفع أمر الله ونهيه بما لا يجوزون أن يحتج به عليهم في دفع أمرهم ونهيهم، بل ولا يجوز أحد من العقلاء أن يحتج به عليه في دفع حقه، فعارضوا ربهم ورسل ربهم بما لا يجوزون أن يعارض به أحد من الناس، ولا رسل أحد من الناس، فكان أمر المخلوق ونهيه وحقه أعظم على قولهم من أمر الله و نهيه وحقه على عباد الله، وكان أمر الله ونهيه وحقه على عباده أخف حرمة عندهم، من أمر المخلوق ونهيه وحقه على غيره، فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، كما ثبت في الصحيحين عن معاذ بن جبل قال‏:‏ كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال‏:
‏"‏يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏حقه

 

ص -455-

عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ماحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏حقهم عليه ألا يعذبهم‏"‏‏.‏
فكان هؤلاء المشركون من أعظم الناس جهلاً وعداوة لله ورسوله، فاحتجوا على إسقاط حقه وأمره ونهيه بما لا يجوزون  لا هم ولا أحد من العقلاء  أن يحتج به على إسقاط حق مخلوق، ولا أمره ولا نهيه‏.‏
وهذا، كما جعلوا لله شركاء وبنات، وهم لا يرضى أحدهم أن يكون مملوكه شريكه، ولا يرضى البنات لنفسه، قال تعالى‏:‏
‏{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ أي كخيفة بعضكم بعضًا‏.‏
وقوله تعالى‏:‏
‏{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏، فالمكذبون للرسل دائما حجتهم داحضة متناقضة، فهم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 33‏]‏،

 

ص -456-

وقال تعالى‏: ‏{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏، فحجة المشركين في شركهم بالله وجعلهم له ولدًا، وفي دفع أمره ونهيه بالقدر داحضة‏.‏ وقد بسط الكلام على هذه الأمور وما يناسبها في غير هذا الموضع‏.‏
وبين أن قول الفلاسفة  القائلين بقدم العالم، وأنه صادر عن موجب بالذات متولد عن العقول والنفوس الذين يعبدون الكواكب العلوية ويصنعون لها التماثيل السفلية، كأرسطو وأتباعه  أعظم كفرًا وضلالا من مشركي العرب الذين كانوا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، بمشيئته وقدرته، ولكن خرقوا له بنين وبنات بغير علم وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا‏.‏
وكذلك المباحية الذين يسقطون الأمر والنهي مطلقًا، ويحتجون بالقضاء والقدر أسوأ حالاً من اليهود والنصارى ومشركي العرب، فإن هؤلاء مع كفرهم يقرون بنوع من الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولكن كان لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، بخلاف المباحية المسقطة للشرائع مطلقًا، فإنما يرضون بما تهواه أنفسهم، ويغضبون لما تهواه أنفسهم، لا يرضون لله، ولا يغضبون لله، ولا يحبون لله، ولا يبغضون لله، ولا يأمرون بما أمر الله به، ولا

 

ص -457-

ينهون عما نهى عنه، إلا إذا كان لهم في ذلك هوى، فيفعلونه لأجل هواهم لا عبادة لمولاهم‏.‏
ولهذا لا ينكرون ما وقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان، إلا إذا خالف أغراضهم، فينكرونه إنكارًا طبيعيًا شيطانيًا لا إنكارًا شرعيا رحمانيا، ولهذا تقترن بهم الشياطين إخوانهم فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، وقد تتمثل لهم الشياطين وتخاطبهم وتعينهم على بعض أهوائهم، كما كانت الشياطين تفعل بالمشركين عباد الأصنام، وهؤلاء يكثرون في الطوائف الخارجين عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة الذين يسلكون طرقًا في العبادات والاعتقادات مبتدعة في الدين ولا يتحرون في عباداتهم، واعتقاداتهم موافقة الرسول والاعتصام بالكتاب والسنة، فتكثر فيهم الأهواء والشبهات، وتغويهم الشياطين، وتصير فيهم شبهة من المشركين بحسب بعدهم عن الرسول‏.‏
وكما يجب إنكار قول القدرية المضاهين للمجوس، فإنكار قول هؤلاء أولى، والرد عليهم أحرى، وهؤلاء لم يكونوا موجودين في عصر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، فإن البدع إنما يظهر منها أولا فأولاً الأخف فالأخف كما حدث في آخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والشيعة، ثم في آخر عصر الصحابة، بدعة المرجئة والقدرية، ثم في آخر عصر التابعين بدعة الجهمية معطلة الصفات وأما هؤلاء المباحية المسقطون للأمر والنهي محتجين على ذلك بالقدر، فهم شر من جميع هذه الطوائف وإنما حدثوا بعد هؤلاء كلهم‏.

 

ص -458-

فصل
ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها  مع إيمانهم بالقضاء والقدر  أن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم أن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏.‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏الآية ‏[‏المدثر‏:‏ 54  56‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏.‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27-29‏]‏‏.‏
والقرآن قد أخبر بأن العباد يؤمنون، ويكفرون، ويفعلون، ويعملون، ويكسبون، ويطيعون، ويعصون، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون، ويعتمرون، ويقتلون، ويزنون، ويسرقون ، ويصدقون، ويكذبون، ويأكلون، ويشربون، ويقاتلون، ويحاربون، فلم يكن من السلف والأئمة من يقول‏:‏ إن العبد ليس بفاعل ولا مختار، ولا مريد ولا قادر‏.‏ ولا قال أحد منهم‏:‏ إنه فاعل

 

ص -459-

فصل
ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها  مع إيمانهم بالقضاء والقدر  أن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم أن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله تعالى‏:‏
‏{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏.‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏الآية ‏[‏المدثر‏:‏ 54  56‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏.‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27-29‏]‏‏.‏
والقرآن قد أخبر بأن العباد يؤمنون، ويكفرون، ويفعلون، ويعملون، ويكسبون، ويطيعون، ويعصون، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون، ويعتمرون، ويقتلون، ويزنون، ويسرقون ، ويصدقون، ويكذبون، ويأكلون، ويشربون، ويقاتلون، ويحاربون، فلم يكن من السلف والأئمة من يقول‏:‏ إن العبد ليس بفاعل ولا مختار، ولا مريد ولا قادر‏.‏ ولا قال أحد منهم‏:‏ إنه فاعل

 

ص -460-

حتى في لفظ الجبر أنكروا على من قال‏:‏ جبر، وعلى من قال‏:‏ لم يجبر‏.‏
والآثار بذلك معروفة عن الأوزاعي، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من سلف الأمة وأئمتها، كما ذكر طرفًا من ذلك أبو بكر الخلال في ‏"‏كتاب السنة‏"‏ هو وغيره ممن يجمع أقوال السلف، وقال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر، وإنما في السنة لفظ جبل كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس لما قدم عليه وفد عبد القيس من البحرين، فقالوا‏:‏ يارسول الله، بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به، ونأمر به من وراءنا، فقال‏:‏
‏"‏آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان‏؟‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم‏"‏‏.‏ ونهاهم عن الانتباذ في الأوعية التي يسرع إليها السكر‏.‏ حتى قد يشرب الرجل ولا يدري أنه شرب مسكرًا، بخلاف الظروف التي توكأ فإنها إذا اشتد الشراب انشقت، ونهى عن الدباء وهو القرع والحنتم وهو ما يصنع من المدر كالجرار والمزفت  وهي الظروف المزفتة  والنقير وهو الخشب المنقور ثم قد قيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم أباح ذلك بعد هذا النهي‏.‏
ولهذا تنازع العلماء في هذا النهي، هل هو منسوخ أم لا‏؟‏ على قولين

 

ص -461-

مشهورين للعلماء، هما روايتان عند أحمد، والقول بالنسخ مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بأن هذا كان لم ينسخ مذهب مالك، لكن مالك لا ينهى إلا عن صنفين فإنه ثبت في صحيح البخاري أنه حرم ذينك الصنفين، وأباح الآخرين بعد النهي‏.‏
وأما مسلم ، فروى في صحيحه النسخ في الجميع؛ فلهذا اختلف قول أحمد؛ لأن الأحاديث بالنهي متواترة، وحديث النسخ ليس مثلها؛ فلهذا صار للناس فيها ثلاثة أقوال، وهؤلاء وفد عبد القيس كانوا بالبحرين أسلموا طوعًا، كما أسلم أهل المدينة، وأول جمعة جمعت في الإسلام في قرية عندهم من قري البحرين‏.‏
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لأشج عبد القيس‏:‏
‏"‏إن فيك لخلقين يحبهما الله، الحلم والأناة‏"‏، فقال‏:‏ أخلقين تخلقت بهما‏؟‏ أم خلقين جبلت عليهما‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏بل خلقين جبلت عليهما‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ الحمد لله الذي جبلني على ما يحب، فقال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما من السلف لفظ الجبل جاءت به السنة، فيقال‏:‏ جبل الله فلانا على كذا، وأما لفظ الجبر فلم يرد، وأنكر الأوزاعي والزبيدي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم لفظ الجبر في النفي والإثبات‏.‏
وذلك ؛لأن لفظ الجبر مجمل، فإنه يقال‏:‏ جبر الأب ابنته على النكاح، وجبر

 

ص -462-

الحاكم الرجل على بيع ما له لوفاء دينه، ومعنى ذلك أكرهه، ليس معناه أنه جعله مريدا لذلك مختارًا محبا له راضيًا به‏.‏ قالوا‏:‏ ومن قال‏:‏ إن الله  تعالى  جبر العباد بهذا المعنى فهو مبطل، فإن الله أعلي وأجل قدرًا من أن يجبر أحدًا، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله مريدا للفعل مختارًا له محباً له راضياً به والله سبحانه قادر على ذلك، فهو الذي جعل المريد للفعل، المحب له، الراضي به، مريدًا له، محبًا له، راضيًا به، فكيف يقال أجبره وأكرهه كما يجبر المخلوق المخلوق، مثل ما يجبر السلطان والحاكم والأب وغيرهم من يجبرونه، إما بحق وإما بباطل، وإجبارهم هو إكراههم لغيرهم على الفعل، والإكراه قد يكون إكراهًا بحق، وقد يكون إكراها بباطل‏.‏
فالأول‏:‏ كإكراه من امتنع من الواجبات على فعلها، مثل إكراه الكافر الحربي على الإسلام، أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون، وإكراه المرتد على العود إلى الإسلام، وإكراه من أسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وعلى قضاء الديون التي يقدر على قضائها، وعلى أداء الأمانة التي يقدر على أدائها، وإعطاء النفقة الواجبة عليه التي يقدر على إعطائها‏.‏
وأما الإكراه بغير حق، فمثل إكراه الإنسان على الكفر والمعاصي، وهذا الإجبار الذي هو الإكراه يفعله العباد بعضهم مع بعض؛ لأنهم لا يقدرون على إحداث الإرادة والاختيار في قلوبهم وعلي جعلهم فاعلين

 

ص -463-

  لأفعالهم، والله  تعالى  قادر على إحداث إرادة للعبد ولاختياره، وجعله فاعلا بقدرته و مشيئته، فهو أعلا وأقدر من أن يجبر غيره ويكرهه على أمر شاءه منه، بل إذا شاء جعله فاعلاً له بمشيئته، كما أنه قادرعلى أن يجعله فاعلا للشيء مع كراهته له، فيكون مريدًا له حتى يفعله مع بغضه له، كما قد يشرب المريض الدواء مع كراهته له، قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 83‏]‏‏.‏
فكل ما يقع من العباد بإرادتهم ومشيئتهم، فهو الذي جعلهم فاعلين له بمشيئتهم، سواء كانوا مع ذلك فعلوه طوعًا، أو كانوا كارهين له فعلوه كرهاً، وهو سبحانه لا يكرههم على ما لا يريدونه، كما يكره المخلوق المخلوق حيث يكرهه على أمر وإن لم يرده، وليس هو قادرًا أن يجعله مريدًا له فاعلاً له، لا مع الكراهة، ولا مع عدمها، فلهذا يقال للعبد‏:‏ إنه جبر غيره على الفعل، والله أعلى وأجل وأقدر من أن يقال بأنه جبر بهذا المعنى‏.‏
وقد يستعمل لفظ الجبر في أعم من ذلك، بحيث يتناول كل من قهر غيره وقدر عليه فجعله فاعلاً لما يشاء منه، وإن كان هو المحدث لإرادته وقدرته عليه‏.‏
قال محمد بن كعب القرظي  في اسم الله الجبار قال ‏:‏ هو الذي جبر

 

ص -464-

العباد على ما أراد، وكذلك ينقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال في الدعاء المأثور‏:‏ اللهم داحي المدحوات، وباري المسموكات، جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها‏.‏ والجبر من الله بهذا الاعتبار معناه القهر والقدرة، وأنه يقدر أن يفعل ما يشاء، ويجبر علي ذلك، ويقهرهم عليه، فليس كالمخلوق العاجز الذي يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، ومن جبره وقهره وقدرته، أن يجعل العباد مريدين لما يشاء منهم، إما مختارين له طوعًا، وإما مريدين له مع كراهتهم له، ويجعلهم فاعلين له، وهذا الجبر الذي هو قهره بقدرته لا يقدرعليه غيره، وليس هو كإجبار غيره، وإكراهه من وجوه‏:‏
منها‏:‏ أن ما سواه عاجز لا يقدر أن يجعل العباد مريدين لما يشاؤه، ولا فاعلين له‏.‏
ومنها‏:‏ أن غيره قد يجبر الغير ويكرهه إكراهًا يكون ظالمًا به، والله تعالى عادل لا يظلم مثقال ذرة‏.‏
ومنها‏:‏ أن غيره قد يكون جاهلا، أو سفيها لا يعلم ما يفعله، وما يجبر عليه، لا يقصد حكمة تكون غير ذلك، والله عليم حكيم، ما خلقه وأمر به له فيه حكمة بالغة صادرة من علمه وحكمته وقدرته‏.‏

 

ص -465-

فصل
وأما السلف والأئمة، كما أنهم متفقون على الإيمان بالقدر، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء من أفعال العباد، وغيرها، وهم متفقون على إثبات أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وأنه لا حجة لأحد على الله في ترك مأمور، ولا فعل محظور، فهم أيضًا متفقون على أن الله حكيم رحيم وأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
"‏الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها‏"‏‏.‏ وقد أخبر عن حكمته في خلقه وأمره بما أخبر به في كتابه وسنة رسوله‏.‏
والجهم بن صفوان ومن اتبعه، ينكرون حكمته ورحمته، ويقولون‏:‏ ليس في أفعاله وأوامره لام كي، لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لشيء‏.‏
وكثير من المتأخرين من المثبتين للقدر من أهل الكلام، ومن وافقهم سلكوا مسلك جهم في كثير من مسائل هذا الباب، وإن خالفوه في بعض

 

ص -466-

ذلك، إما نزاعًا لفظيًا، وإما نزاعًا لا يعقل، وإما نزاعًا معنويا، وذلك كقول من زعم، أن العبد كاسب ليس بفاعل حقيقة، وجعل الكسب مقدورًا للعبد، وأثبت له قدرة لا تأثير لها في المقدور؛ ولهذا قال جمهور العقلاء‏:‏ إن هذا كلام متناقض غير معقول، فإن القدرة إذا لم يكن لها تأثير أصلا في الفعل كان وجودها كعدمها، ولم تكن قدرة، بل كان اقترانها بالفعل، كاقتران سائر صفات الفاعل في طوله وعرضه ولونه‏.‏
ولما قيل لهؤلاء‏:‏ ما الكسب‏؟‏ قالوا‏:‏ ما وجد بالفاعل، وله عليه قدرة محدثة، أو ما يوجد في محل القدرة المحدثة، فإذا قيل لهم‏:‏ ما القدرة‏؟‏ قالوا‏:‏ ما يحصل به الفرق بين حركة المرتعش، وحركة المختار، فقال لهم جمهور العقلاء‏:‏ حركة المختار حاصلة بإرادته دون حركة المرتعش، وهي حاصلة بقدرته أيضًا، فإن جعلتم الفرق مجرد الإرادة، فالإنسان قد يريد فعل غيره ولا يكون فاعلاً له، وإن أردتم أنه قادر عليه، فقد عاد الأمر إلى معنى القدرة، والمعقول من القدرة معني به يفعل الفاعل، ولا تثبت قدرة لغير فاعل، ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى الفاعل سواء‏.‏
وهؤلاء المتبعون لجهم يقولون‏:‏ إن العبد ليس بفاعل حقيقة، وإنما هو كاسب حقيقة، ويثبتون مع الكسب قدرة لا تأثير لها في الكسب، بل وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء، ولكن قرنت به من غير تأثير فيه، وزعموا أن كل مافي الوجود من القوى، والطبائع، والأسباب العلوية، والسفلية

 

ص -467-

كقدرة العبد لا تأثير لشيء منها فيما اقترنت به من الحوادث والأفعال، والمسببات، بل قرن الخالق هذا بهذا لا لسبب، ولا لحكمة أصلا‏.‏
وقالوا‏:‏ إن الطاعات والمعاصي مع الثواب والعقاب كذلك، ليس في الطاعة معنى يناسب الثواب، ولا في المعصية معنى يناسب العقاب، ولا كان في الأمر والنهي حكمة لأجلها أمر ونهي، ولا أراد بإرسال الرسل رحمة العباد ومصلحتهم، بل أراد أن ينعم طائفة ويعذب طائفة لا لحكمة، والسبب هو جعل الأمر والنهي، و الطاعة والمعصية، علامة على ذلك لا لسبب ولا لحكمة، وأنه يجوز أن يأمر بكل شيء حتى بالشرك، وتكذيب الرسل والظلم والفواحش، وينهي عن كل شيء حتى التوحيد والإيمان بالرسل وطاعتهم‏.‏
وكثير من هؤلاء كأبي الحسن وأتباعه ومن وافقهم من متأخري أصحاب مالك والشافعى وأحمد، مثل ابن عقيل وابن الجوزي، وأمثالهما يقولون‏:‏ إن الخلق هو المخلوق، والفعل هو المفعول، وقد جعلوا أفعال العباد فعلاً لله، والفعل عندهم هو المفعول، فامتنع مع هذا أن يكون فعلاً للعبد؛ لئلا يكون فعل واحد له فاعلان‏.‏
وأما الجمهور، فيقولون‏:‏ إنها مخلوقة لله مفعولة له، وهي فعل للعبد قائمة به، وليست فعلاً لله قائمًا به، بل مفعوله غير فعله، والرب

 

ص -468-

تعالى لا يوصف بما هو مخلوق له، وإنما يوصف بما هو قائم به، فلم يلزم هؤلاء أن يكون الرب ظالمًا، وأما أولئك، فإذا قالوا‏:‏ إنه يوصف بالمخلوق المنفصل عنه، فيسمى عادلاً وخالقًا؛ لوجود مخلوق منفصل عنه خلقه، فإنهم ألزموهم أن يكون ظالمًا لخلقه ظلمًا منفصلا عنه؛ إذ كانوا لا يفرقون فيما انفصل عنه بينما يكون صفة لغيره وفعلاً له، وبين ما لا يكون، إذ الجميع عندهم نسبته واحدة إلى قدرته ومشيئته وخلقه‏.‏
وهؤلاء أطلقوا القول بتكليف ما لا يطلق، وليس في السلف والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يطاق، كما أنه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر، وإطلاق القول بأنه يجبر العباد، كإطلاق القول بأنه يكلفهم ما لا يطيقون، هذا سلب قدرتهم على ما أمروا به، وذلك سلب كونهم فاعلين قادرين‏.‏
ولهذا كان المقتصدون من هؤلاء، كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأكثر أصحاب أبي الحسن، وكالجمهور من أصحاب مالك، والشافعي وأحمد بن حنبل، كالقاضي أبي يعلى، وأمثاله يفصلون في القول بتكليف ما لا يطاق، كما تقدم القول في تفصيل الجبر، فيقولون‏:‏ تكليف ما لا يطاق؛ لعجز العبد عنه لا يجوز، وأما ما يقال أنه لا يطاق؛ للاشتغال بضده، فيجوز تكليفه، وهذا؛ لأن الإنسان لا يمكنه في حال واحدة أن يكون قائمًا قاعدًا، ففي حال القيام لا يقدر أن يفعل معه القعود، ويجوز أن يؤمر حال القعود بالقيام،

 

ص -469-

وهذا متفق علي جوازه بين المسلمين، بل عامة الأمر والنهي هو من هذا النوع، لكن هل يسمى هذا تكليف مالا يطاق‏؟‏ فيه نزاع‏.‏
قيل‏:‏ إن العبد لا يكون قادرًا إلا حين الفعل، وإن القدرة لا تكون إلا مع الفعل، كما يقوله أبو الحسن الأشعري، وكثير من نظار المثبتة للقدر، فعلى قول هؤلاء كل مكلف، فهو حين التكليف قد كلف ما لا يطيقه حينئذ، وإن كان قد يطيقه حين الفعل بقدرة يخلقها الله له وقت الفعل، ولكن هذا لا يطيقه لاشتغاله بضده وعدم القدرة المقارنة للفعل؛ لا لكونه عاجزا عنه‏.‏ وأما العاجز عن الفعل، كالزمن العاجز عن المشي، والأعمي العاجز عن النظر ونحو ذلك، فهؤلاء لم يكلفوا بما يعجزون عنه، ومثل هذا التكليف لم يكن واقعًا في الشريعة باتفاق طوائف المسلمين، إلا شرذمة قليلة من المتأخرين ادعوا وقوع مثل هذا التكليف في الشريعة، ونقلوا ذلك عن الأشعري وأكثر أصحابه، وهو خطأ عليهم‏.‏
وأما جواز هذا التكليف عقلاً، فأكثر الأمة نفت جوازه مطلقًا، وجوزه عقلاً طائفة من المثبتة للقدر من أصحاب أبي الحسن الأشعري، ومن وافقهم من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، كابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما‏.‏وطائفة ثالثة فرقت في الجواز العقلي، بين الممكن لذاته الذي

 

ص -470-

يتصور وجوده في الخارج، كالطيران، وبين الممتنع عقلاً كالجمع بين النقيضين‏.‏
والذين زعموا وقوع التكليف بالممتنع لذاته  كالرازي وغيره  احتجوا بأن الله كلف أبا لهب بالإيمان مع علمه بأنه لا يؤمن، وإخباره بأنه لا يؤمن‏.‏ فكلفه بالجمع بين النقيضين بأن يفعل الشيء، وبأن يصدق أنه لا يكون مصدقًا بذلك، وهو صادق في تصديقه إذا لم يكن، واحتجوا بأنه كلف خلاف المعلوم، وخلاف المعلوم محال، فيكون حقيقة التكليف أنه يجعل علم الله جهلاً، وهذا ممتنع لذاته‏.‏
وهؤلاء جعلوا لفظ ما لا يطاق لفظًا عامًا يدخل فيه كل فعل؛ لكون القدرة عندهم لا تكون إلا مع الفعل، ويدخل فيه خلاف المعلوم، ويدخل فيه المعجوز عنه، ويدخل فيه الممتنع لذاته، ثم ذكروا نحو عشر حجج يستدلون بها على جواز هذا الجنس، فإذا فصل الأمر عليهم ثبت أن دعواهم جواز ما لا يطاق للعجز عنه  سواء كان ممتنعا لذاته أو ممكنًا  باطلة لا دليل عليها، وأما جواز تكليف ما يقدر العبد عليه من العبادة، ويقولون هم‏:‏ أنه لا يكون قادرًا عليه إلا حين الفعل، فهذا مما اتفق الناس على جواز التكليف به، لكن ثم نزاع لفظي ومعنوي في كونه يدخل فيما لا يطاق، فصار ما أدخلوه في هذا الاسم أنواعًا مختلفة‏:‏ منها ما ينازعون في جوازه أو وقوعه‏.‏ و منها‏:‏ ما ينازعون في اسمه وصفته لا في وقوعه‏.‏

 

ص -471-

أما تكليف أبي لهب، وغيره بالإيمان، فهذا حق، وهو إذا أمر أن يصدق الرسول في كل ما يقوله، وأخبر مع ذلك أنه لا يصدقه، بل يموت كافرًا، لم يكن هذا متناقضًا، ولا هو مأمور أن يجمع بين النقيضين، فإنه مأمور بتصديق الرسول في كل ما بلغ، وهذا التصديق لا يصدر منه، فإذا قيل له أمرناك بأمر ونحن نعلم أنك لا تفعله لم يكن هذا تكليفًا للجمع بين النقيضين‏.‏
فإن قال‏:‏ تصديقكم في كل ما تقولون يقتضي أن أكون مؤمنًا، إذا صدقتكم وإذا صدقتكم لم أكن مؤمنًا؛ لأنكم أخبرتم أني لا أؤمن بكل ما أخبر به، قيل له‏:‏ لو وقع منك لم يكن فيه هذا الخبر، ولم يكن يخبر أنك لا تؤمن، فأنت قادر على تصديقنا، وبتقدير وجوده لا يحصل هذا الخبر، وإنما وقع؛ لأنك أنت لم تفعل ما قدرت عليه من تصديقنا بهذا الخبر، فوقع بعد تكذيبك وتركك ما كنت قادرًا عليه، لم نقل لك حين أمرناك بالتصديق العام وأنت قادر عليه‏.‏
ولو قيل لك‏:‏ آمن ونحن نعلم أنك لا تؤمن بهذا الخبر، فالذي أمرت أن تؤمن به هو الإخبار بأن محمدًا رسول الله، وهذا أنت قادر عليه ولا تفعله، وإذا صدقتنا في خبرنا أنك لا تؤمن لم يكن هناك تناقض، لكن لا يمكن الجمع بين الإيمان والتصديق، فإنه لم يقع ونحن لم نأمرك بهذا، بل أمرناك بإيمان مطلق تقدر عليه، وأخبرنا مع ذلك أنك لا تفعل ذلك المقدور عليه، ولم نقل لك صدقنا في هذا وهذا في حال واحدة، لكن الواجب عليك هو

 

ص -472-

التصديق المطلق، والتصديق بهذا لا يجب عليك حينئذ، ولو وقع منك التصديق المطلق امتنع منا هذا الخبر، بل هذا الخبر إنما وقع لما علمنا أنه لا يقع منك التصديق المطلق‏.‏
وهذا كله لو قدر أن أبا لهب أسمع هذه الآية وأمر بالتصديق بها، وليس الأمر كذلك، لكن لما أنزل الله قوله‏:‏
‏{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏، ولم يسلم لهم أن الله أمر نبيه بإسماع هذا الخطاب لأبي لهب، وأمر أبا لهب بتصديقه، بل لا يقدر أحد أن ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا لهب أن يصدق بنزول هذه السورة، فقوله‏:‏ أنه أمر أن يصدق بأنه لا يؤمن قول باطل لم ينقله أحد من علماء المسلمين، فنقله عن النبي صلى الله عليه وسلم قول بلا علم، بل كذب عليه‏.‏
فإن قيل‏:‏ فقد كان الإيمان واجبًا على أبي لهب، ومن الإيمان أن يؤمن بهذا، قيل له‏:‏ لا نسلم أنه بعد نزول هذه السورة وجب على الرسول أن يبلغه إياها، بل ولا غيرها، بل حقت عليه كلمة العذاب، كما حقت على قوم نوح إذ قيل له‏:‏
‏{لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏، وبعد ذلك لا يبقى الرسول مأمور بتبليغهم الرسالة، فإنه قد بلغهم فكفروا حتى حقت عليهم كلمة العذاب بأعيانهم‏.‏
وقد يخبر الله الرسول عن معين أنه لا يؤمن، ولكن لا يأمره أن يعلمه

 

ص -473-

بذلك، بل هو مأمور بتبليغه وإن كان الرسول يعلم أنه لا يؤمن، كالذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
فهؤلاء قد يعلم بعض الملائكة، وبعض البشر من الأنبياء وغيرهم في معين منهم أنه لا يؤمن، وإن كانوا مأمورين بتبليغه أمر الله ونهيه، وليس في ذلك تكليفه بالجمع بين النقيضين، وذلك خلاف المعلوم، فإن الله يفعل ما يشاء بقدرته وما لا يشاء يعلم أنه لا يفعله وأنه قادرعليه لو شاء لفعله، وعلمه أنه لا يفعله، لا يمنع أن يكون قادرًا عليه‏.‏
والعباد الذين علم الله أنهم يطيعونه بإرادتهم، ومشيئتهم وقدرتهم، وإن كان خالقًا لذلك، فخلقه لذلك أبلغ في علمه به قبل أن يكون، كما قال تعالى‏:‏
‏{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، وما لم يفعلوه فما أمرهم به يعلم أنه لا يكون لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وليس الأمر به أمرًا بما يعجزون عنه، بل هو أمر بما لو أرادوه لقدروا على فعله، لكنهم لا يفعلونه، لعدم إرادتهم له‏.‏
وجهم ، ومن وافقه من المعتزلة اشتركوا في أن مشيئة الله ومحبته ورضاه بمعنى واحد، ثم قالت المعتزلة‏:‏ وهو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فلا يشاؤه، فقالوا‏:‏ إنه يكون بلا مشيئة، وقالت الجهمية، بل هو يشاء

 

ص -474-

ذلك، فهو يحبه ويرضاه، وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء، فذكر أبو المعالي الجويني، أن أبا الحسن أول من خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرق بين المشيئة والمحبة والرضا‏.‏
وأما سلف الأمة وأئمتها وأكابر أهل الفقه والحديث والتصوف، وكثير من طوائف النظار، كالكلابية، والكَرَّامية، وغيرهم، فيفرقون بين هذا وهذا، ويقولون‏:‏ إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ويرضى به، كما لا يأمر ولا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه، كما لا يأمر به وإن كان قد شاءه؛ ولهذا كان حملة الشريعة من الخلف والسلف متفقين على أنه لو حلف ليفعلن واجبًا أو مستحبًا، كقضاء دين يضيق وقته، أو عبادة يضيق وقتها، وقال‏:‏ إن شاء الله، ثم لم يفعله لم يحنث وهذا يبطل قول القدرية، ولو قال‏:‏ إن كان الله يحب ذلك ويرضاه فإنه يحنث، كما لو قال‏:‏ إن كان يندب إلى ذلك، ويرغب فيه أو يأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وهذا يرد على الجهمية، ومن اتبعهم، كأبي الحسن الأشعري ومن وافقه من المتأخرين‏.‏ وبسط هذه الأمور له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا جواب هذه المسألة فإن هذه الإشكالات المذكورة إنما ترد على قول جهم، ومن وافقه من المتأخرين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وغيرهم، وطائفة من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد‏.‏

 

ص -475-

وأما أئمة أصحاب مالك والشافعي وأحمد وعامة أصحاب أبي حنيفة، فإنهم لا يقولون بقول هؤلاء، بل يقولون بما اتفق عليه السلف من أنه  سبحانه  ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ويثبتون الفرق بين مشيئته، وبين محبته ورضاه فيقولون‏:‏ إن الكفر والفسوق والعصيان  وإن وقع بمشيئه  فهو لا يحبه ولا يرضاه، بل يسخطه ويبغضه، ويقولون‏:‏ إرادة الله في كتابه نوعان‏:‏
نوع بمعنى المشيئة لما خلق، كقوله‏:‏ ‏
{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏
ونوع بمعنى محبته ورضاه لما أمر به، وإن لم يخلقه، كقوله‏:‏
‏{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، ‏{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، ‏{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏.‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا‏.‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26-28‏]‏‏.‏
وبهذا يفصل النزاع في مسألة الأمر‏.‏ هل هو مستلزم للإرادة أم لا‏؟‏ فإن القدرية تزعم أنه مستلزم للمشيئة، فيكون قد شاء المأمور به ولم يكن، والجهمية قالوا‏:‏ إنه غير مستلزم لشيء من الإرادة، لا لحبه له، ولا رضاه

 

ص -476-

به إلا إذا وقع، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك عندهم ما أحبه ورضيه كان، وما لم يحبه ولم يرضه لم يكن، وتأولوا قوله‏:‏ ‏{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، على أن المراد ممن لم يقع منه الكفر، أو لا يرضاه دينا، كما يقولون‏:‏ لم يشأه ممن لم يقع منه، أو لا يشاءه دينًا؛ إذ كانوا موافقين للجهمية والقدرية، في أنه لا فرق بين المحبة والمشيئة، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، فأخبر أنه إذا وقع الكفر من عباده لم يرضه لعباده، كما قال‏:‏ ‏{إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 108‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، مع قوله‏:‏ ‏{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏
وفصل الخطاب‏:‏ أن الأمر ليس مستلزمًا لمشيئة أن يخلق الرب الآمر الفعل المأمور به‏.‏ ولا إرادة أن يفعله، بل قد يأمر بما لا يخلقه، وذلك مستلزم لمحبة الرب ورضاه من العبد أن يفعله، بمعنى أنه إذا فعل ذلك أحبه ورضيه، وهو يريده منه إرادة الآمر من المأمور بما أمره به لمصلحته، وإن لم يرد أن يخلقه وأن يعينه عليه؛ لما له في ترك ذلك من الحكمة، فإن له حكمة بالغة فيما خلقه وفيما لم يخلقه‏.‏
وفرق بين أن يريد أن يخلق هو الفعل، ويجعل غيره فاعلاً يحسن إليه، ويتفضل عليه بالإعانة له على مصلحته، وبين أن يأمر غيره بما يصلحه، ويبين له ما ينفعه إذا فعله، وإن كان لا يريد هو  نفسه  أن يعينه لما في ترك إعانته

 

ص -477-

من الحكمة؛ لكون الإعانة قد تستلزم ما يناقض حكمته، والمنهي عنه الذي خلقه هو يبغضه ويمقته، كما يمقت ما خلقه من الأعيان الخبيثة، كالشياطين والخبائث، ولكنه خلقها لحكمة يحبها ويرضاها‏.‏
ونحن نعلم أن العبد يريد أن يفعل ما لا يحبه؛ لإفضائه إلى ما يحبه، كما يشرب المريض الدواء الكريه؛ لإفضائه إلى ما يحبه من العافية، ويفعل ما يكرهه من الأعمال لإفضائه إلى مطلوبه المحبوب له، ولا منافاة بين كون الشيء بغيضًا إليه مع كونه مخلوقًا له؛ لحكمة يحبها‏.‏ وكذلك لا منافاة بين أن يحبه إذا كان ولا يفعله؛ لأن فعله قد يستلزم تفويت ما هو أحب إليه منه، أو وجود ما هو أبغض إليه من عدمه‏.‏
فصل
إذا عرف هذا فنقول‏:‏
أما قول القائل كيف يكون العبد مختارًا لأفعاله وهو مجبور عليها ‏؟‏ إنما يتوجه على الجهمية الذين يقولون‏:‏ بإطلاق الجبر، ونفي قدرة العبد واختياره، وتأثير قدرته في الفعل، وقد بينا أن إطلاق الجبر مما أنكره أئمة السنة، كالأوزاعي والزبيدي والثوري وعبد الرحمن ابن مهدي، وأحمد بن حنبل

 

ص -478-

وغيرهم، وما علمت أحدًا من الأئمة أطلقه، بل ما علمت أحدًا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أطلقوه في مسائل القدر والجبر‏.‏
ولا قال أحد من أئمة المسلمين  لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، لا مالك، ولا أبو حنيفة، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء  إن الله يكلف العباد ما لا يطيقونه، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن العبد ليس بفاعل لفعله حقيقة، بل هو فاعل مجازًا، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، أو لا تأثير لها في كسبه، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن العبد لا يكون قادرًا إلى حين الفعل، وأن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا معه، وأن العبد لا استطاعة له على الفعل قبل أن يفعله‏.‏
بل نصوصهم مستفيضة بما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات استطاعة لغير الفاعل‏.‏ كقوله تعالى‏:‏
‏{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏"‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏‏.‏
واتفقوا على أن العبادات لا تجب إلا على مستطيع، وأن المستطيع يكون مستطيعًا مع معصيته وعدم فعله، كمن استطاع ما أمر به من الصلاة، والزكاة،

 

ص -479-

والصيام، والحج، ولم يفعله‏.‏ فإنه مستطيع باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وهو مستحق للعقاب على ترك المأمور الذي استطاعه ولم يفعله، لا على ترك ما لم يستطعه‏.‏
وصرحوا بما صرح به أبو حنيفة، وأبو العباس بن سريج، وغيرهما من أن الاستطاعة المتقدمة على الفعل تصلح للضدين، وإن كان العبد حين الفعل مستطيعًا أيضًا عندهم‏.‏ فهو مستطيع عندهم قبل الفعل ومع الفعل، وهو حين الفعل لا يمكنه أن يكون فاعلا تاركًا، فلا يقولون‏:‏ إن الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل‏.‏ كقول المعتزلة، ولا بأنها لا تكون إلا مع الفعل كقول المجبرة، بل يكون مستطيعًا قبل الفعل، وحين الفعل‏.‏
وأما قوله‏:‏ العلماء قد صرحوا بأن العبد يفعلها قسرًا‏.‏ يقال له‏:‏ لم يصرح بهذا أحد من علماء السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، ولا أحد من أكابر أتباع الأئمة الأربعة، وإنما يصرح بهذا بعض المتأخرين الذين سلكوا مسلك جهم ومن وافقه وليس هو لأهل علماء السنة، بل ولا جمهورهم ولا أئمتهم، بل هم عند أئمة السلف من أهل البدع المنكرة‏.‏

 

ص -480-

فصل
وأما قول الناظم السائل‏:‏

 لأنهم قد صرحوا أنه

 على الإرادات لمقسور

فيقال له‏:‏ القسر على الإرادة منه‏.‏ إذا أريد به أنه جعله مريدًا فهذا حق، لكن تسمية مثل هذا قسرًا وإكراها وجبرًا تناقض لفظًا ومعنى، فإن المقسور المكره المجبور لا يكون مريدًا مختارًا محبًا راضيًا، والذي جعل مختارًا محبًا راضيا لا يقال إنه مقسور مكره مجبور‏.‏
وإذا قيل‏:‏ المراد بذلك أنه جعل مريدًا بمشيئة الله وقدرته بدون إرادة منه متقدمة، اختار بها أن يكون مريدًا‏.‏ قيل له‏:‏ هذا المعنى حق سواء سمى قسرًا، أو لم يسم‏.‏ ولكن هذا لا يناقض كونه مختارًا، فإن من جعل مريدًا مختار، قد أثبت له الإرادة والاختيار، والشيء لا يناقض ذاته ولا ملازمه، فلا يجوز أن يقال‏:‏ كيف يكون المختار قد جعل مختارًا، والمريد جعل مريدًا‏؟‏
وإذا قيل‏:‏ يخير على أن يكون مختارًا‏.‏ قيل‏:‏ معنى ذلك أن الله جعله

 

ص -481-

مختارًا بغير إرادة منه سابقة لأن يكون مختارًا، كما جعله قادرًا، وجعله عالمًا، وجعله حيًا، وجعله أسود وأبيض وطويلا وقصيرًا‏.‏ ومعلوم أن الله إذا جعله موصوفًا بصفة لم يناقض ذلك اتصافه بتلك الصفة، فإن الله إذا جعله على صفة كان كونه على تلك الصفة؛ لأن ما جعل الله له، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وإذا كان كونه مختارًا وعالمًا وقادرًا أمرًا ملازمًا لمشيئة الله وجعله، والمتلازمان لا يناقض أحدهما الآخر، بل يجامعه، ولا يفارقه، فيكون اختيار العبد مع إطلاق الجبر الذي يعني به أن الله جعله مختارًا أمرين متلازمين، لا أمرين متناقضين، ولا عجب من اجتماع المتلازمين، إنما العجب من تناقضهما‏.‏
فصل
وأما قول السائل‏:‏

 لأنهم قد صرحوا أنه

 على الإرادات لمقسور

 ولم يكن فاعل أفعاله

 حقيقة والحكم مشهور

فيقال له‏:‏ المصرح بأنه غير فاعل حقيقة هم الجهمية، أتباع الجهم بن صفوان ومن وافقهم من المتأخرين، ولم يصرح بهذا أحد من الصحابة، والتابعين لهم

 

ص -482-

بإحسان، ولا أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، بل الذين تكلموا بلفظ الحقيقة، والمجاز واتبعوا السلف في هذا الأصل كلهم يقولون‏:‏ إنه فاعل حقيقة كما صرح بذلك أئمة أصحاب الأئمة الأربعة  أصحاب أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم  وكتبهم مشحونة بذلك‏.‏
وأما الذين قالوا‏:‏ إنه فاعل مجازًا، وقالوا‏:‏ إن الفعل لا يقوم بالفاعل، بل الفعل هو المفعول، فهؤلاء يلزمهم ألا يكون لأفعال العباد فاعل لا الرب، ولا العبد‏.‏ أما العبد، فإنها وإن قامت به الأفعال فإنه غير فاعل لها عندهم، وأما الرب فعندهم لم يقم به فعل، لا هذه ولا غيرها، والفاعل المعقول من قام به الفعل، كما أن المتكلم المعقول من قام به الكلام والمريد المعقول من قامت به الإرادة، والحي والعالم والقادر من قامت به الحياة والعلم والقدرة، والمتحرك من قامت به الحركة، فإثبات هؤلاء فاعلا لا يقوم به فعل كإثبات متقدميهم من الجهمية والمعتزلة متكلمًا لا يقوم به كلام، ومريدًا لا يقوم به إرادة، وعالمًا لا يقوم به علم، وقادرًا لا تقوم به قدرة، وهذا كله باطل كما قرروه في مسألة كلام الله، وإثبات صفاته، كما قد بسط في موضعه‏.‏
فإن الأصل الذي وافقوا به أئمة السنة، واحتجوا به على المعتزلة هو، أن المعنى إذا قام بمحل عاد حكمه على ذلك المحل، واشتق لذلك المحل منه اسم، ولم يشتق لغيره منه اسم وعاد حكمه على ذلك المحل، ولم يعد على غيره، كما أن الحركة والسواد والبياض، والحرارة والبرودة إذا قامت بمحل كان هو

 

ص -483-

المتحرك الأسود الأبيض الحار البارد، دون غيره‏.‏ قالوا‏:‏ فكذلك الكلام والإرادة، إذا قاما بمحل كان ذلك المحل هو المتكلم المريد، دون غيره، قالوا‏:‏ فلا يكون المتكلم متكلمًا إلا بكلام يقوم به، ولا مريدًا إلا بإرادة تقوم به، وكذلك لا يكون حيًا عالمًا قادرا، إلا بحياة وعلم وقدرة تقوم به، وطرد هذا أنه لا يكون فاعلا، إلا بفعل يقوم به‏.‏
ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بصفات الله تعالى، وأفعاله، وذاته، فقال‏:
‏ ‏(‏اللهم، إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏‏.‏ وهذا مما استدل به الأئمة أحمد بن حنبل وغيره على أن كلام الله ليس بمخلوق، قالوا‏:‏ لأنه استعاذ به ولا يستعاذ بمخلوق‏.‏
فصل
وأما قول السائل‏:‏

 ومن هنا لم يكن للفعل في

 ما يلحق الفاعل تأثير

فإن أراد بذلك، أنه لا تأثير للفعل، فيما يلحق الفاعل من المدح والذم والثواب، والعقاب، فهذا إنما يقوله منكروا الأسباب، كجهم ومن

 

ص -484-

وافقه‏.‏ وإلا فالسلف والأئمة متفقون على إثبات الأسباب والحكم، خلقًا وأمرًا‏.‏
ففي الأمر، مثل ما يقول الفقهاء‏:‏ الأسباب المثبتة للإرث ‏[‏ثلاثة‏]‏ نسب، و نكاح، وولاء عتق، واختلفوا في المحالفة، والإسلام على يديه وكونهما من أهل الديوان، منهم من يجعل ذلك سببًا للإرث، كأبي حنيفة، ومنهم من لا يجعله سببًا، كمالك والشافعي، وعن أحمد روايتان‏.‏ ومثل ما يقولون‏:‏ ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، والقتل العمد العدوان المحض سبب للقود، والسرقة سبب للقطع‏.‏
ومذهب الفقهاء أن السبب له تأثير في مسببه، ليس علامة محضة، وإنما يقول‏:‏ إنه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الذين بنوا على قول جهم، وقد يطلق ما يطلقونه طائفة من الفقهاء، وجمهور من يطلق ذلك من الفقهاء يتناقضون‏.‏ تارة يقولون‏:‏ بقول السلف والأئمة، وتارة يقولون‏:‏ بقول هؤلاء‏.‏
وكذلك الحكمة وشرع الأحكام للحكم مما اتفق عليه الفقهاء مع السلف‏.‏
وكذلك الحكمة في الخلق والقرآن مملوء بذلك في الخلق، والأمر،

 

ص -485-

ومملوء بأنه يخلق الأشياء بالأسباب، لا كما يقوله أتباع جهم، أنه يفعل عندها لا بها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 65‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏.‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏.‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 911‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
وأما دخول لام كي في الخلق والأمر، فكثير جدًا، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
وقد بسط حجج نفاة الحكمة، والتعليل العقلية والشرعية، وبين فسادها كما بين فساد حجج المعتزلة والقدرية‏.‏
وحينئذ فالأفعال سبب للمدح والذم، والثواب والعقاب‏.‏
والفقهاء المثبتون للأسباب والحكم، قسموا خطاب الشرع وأحكامه إلى قسمين‏:‏ خطاب تكليف، وخطاب وضع وإخبار، كجعل الشيء سببًا وشرطًا ومانعًا، فاعترض عليهم نفاة ذلك، بأنكم إن أردتم بكون الشيء

 

ص -486-

سببًا أن الحكم يوجد إذا وجد فليس هنا حكم آخر، وإن أردتم معنى آخر فهو ممنوع‏.‏
وجوابهم‏:‏ أن المراد أن الأسباب تضمنت صفات مناسبة للحكم، شرع الحكم لأجلها، وشرع لإفضائه إلى الحكمة، كما قال تعالى‏:‏
‏{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ الآية‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وكذلك  أيضًا  الذين قالوا لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله هم هؤلاء أتباع جهم نفاة الأسباب، وإلا فالذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وإن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات‏.‏ والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لابد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها  مع ذلك  أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة‏.‏
وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلابد من إزالة الموانع، كإزالة

 

ص -487-

القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره‏.‏
فصل
وقوله تعالى‏:‏
‏{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30، التكوير‏:‏ 29‏]‏، لا يدل على أن العبد ليس بفاعل لفعله الاختياري، ولا أنه ليس بقادر عليه، ولا أنه ليس بمريد، بل يدل على أنه لا يشاؤه إلا أن يشاء الله، وهذه الآية رد على الطائفتين‏:‏ المجبرة الجهمية والمعتزلة القدرية‏.‏ فإنه تعالى قال‏:‏ ‏{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28‏]‏، فأثبت للعبد مشيئة وفعلاً، ثم قال‏:‏ ‏{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 29‏]‏، فبين أن مشيئة العبد معلقة بمشيئة الله‏.‏ والأولى رد على الجبرية، وهذه رد على القدرية، الذين يقولون‏:‏ قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله كما يقولون‏:‏ إن الله يشاء ما لا يشاؤون‏.‏
وإذا قالوا‏:‏ المراد بالمشيئة هنا الأمر على أصلهم، والمعنى وما يشاؤون فعل ما أمر الله به إن لم يأمر الله به‏.‏ قيل‏:‏ سياق الآية يبين أنه ليس المراد هذا، بل المراد وما تشاؤون بعد أن أمرتم بالفعل أن تفعلوه إلا أن يشاء الله، فإنه تعالى ذكر الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، ثم قال بعد ذلك‏:
‏ ‏{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَمَا تَشَاءُونَ‏}‏ نفي لمشيئتهم في المستقبل‏.‏ وكذلك قوله ‏{إلاَّ أّن يَشَاءَ اللهُ}‏

 

ص -488-

تعليق لها بمشيئة الرب في المستقبل، فإن حرف ‏"‏أن‏"‏ تخلص الفعل المضارع للاستقبال، فالمعنى‏:‏ إلا أن يشاء بعد ذلك، والأمر متقدم على ذلك، وهذا كقول الإنسان‏:‏ لا أفعل هذا إلا أن يشاء الله‏.‏
وقد اتفق السلف، والفقهاء على أن من حلف فقال‏:‏ لأصلين غدًا، إن شاء الله، أو لأقضين ديني غدًا إن شاء الله، ومضى الغد ولم يقضه أنه لا يحنث، ولو كانت المشيئة هي الأمر لحنث، لأن الله أمره بذلك، وهذا مما احتج به على القدرية، وليس لهم عنه جواب، ولهذا خرق بعضهم الإجماع القديم وقال‏:‏ إنه يحنث‏.‏
وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 29‏]‏ سيق لبيان مدح الرب والثناء عليه ببيان قدرته، وبيان حاجة العباد إليه، ولو كان المراد لا تفعلون إلا أن يأمركم لكان كل أمر بهذه المثابة، فلم يكن ذلك من خصائص الرب التي يمدح بها، وإن أريد أنهم لا يفعلون إلا بأمره كان هذا مدحًا لهم، لا له‏.

 

ص -489-

 فصل
وقوله‏:‏

 وكل شيء.‏ ثم لو سلمت

 لم يك للخالق تقدير

إن أراد به أنه لو سلم أن العبد فاعل أفعاله حقيقة، ونحو ذلك من أقوال السلف لزم نفي التقدير، فهذا التلازم ممنوع‏.‏
وإن أراد أنه لو سلم أن يشاء ما لم يشأ الله، لزم انتفاء مشيئة الله عن المحرمات، والمباحات باتفاق الناس، بل يلزم انتفاء مشيئته في الحقيقة لأفعال العباد كلها، كما يلزم انتفاء قدرته على أفعال العباد كلها، وانتفاء خلقه لشيء منها‏.‏ وفي ذلك نفي هذا التقدير الذي هو بمعنى المشيئة والقدرة والخلق‏.‏
وأما التقدير الذي هو بمعنى تقديرها في نفسه وعلمه بها، وخبره عنها وكتابته لها فهذا إنما يلزم لزومًا بينا على قول من ينكر العلم المتقدم، وجمهور القدرية لا تنكره، لكن إذا جوزوا حدوث حوادث كثيرة بدون مشيئته وقدرته وخلقه، أثبتوا في العالم حوادث كثيرة يحدثها غيره، وهو غير قادر على إحداثها، وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بقوله‏:‏
‏{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏

 

ص -490-

على أنه عالم بها، فإنه لم يخلقها عندهم، فقد ينازعهم إخوانهم القدرية في علمه بها قبل أن تكون، ولا يمكنهم الاحتجاج عليهم بهذه الآية، وقد يقولون علمه بها، مع أمره، بخلاف المعلوم يقتضي تكليف ما لا يطاق؛ لأن خلاف المعلوم ممتنع، فلا يكون عالمًا بها، فيلزمونهم بنفي التقدير السابق‏.‏
فصل
وقوله‏:‏

 أو كان فاللازم من كونه

 حدوثه والقول مهجور

كأنه يريد  والله أعلم  لو كان الله مقدرًا لها عالما بها، فيلزم من كونه عالما بها مقدرًا لها، بعد أن تكون حدوث العلم بها بعد أن كانت، ويلزم ألا يكون الرب عالما بأفعال العباد، ولا مقدرًا لها حتى فعلت، وهذا القول مهجور باطل، مما اتفق على بطلانه سلف الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين، بل كفروا من قاله، والكتاب والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده‏.‏
فإن الله قد أخبر عما يكون من أفعال العباد قبل أن تكون، بل أعلم بذلك من شاء من ملائكته وغير ملائكته، قال تعالى‏:‏

 

ص -491-

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، فالملائكة حكموا بأن الآدميين يفسدون، ويسفكون الدماء قبل أن يخلق الإنس ولا علم لهم إلا ما علمهم الله، كما قالوا‏:‏ ‏{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، وتضمن هذا ما يكون فيما بعد من آدم، وإبليس وذريتهما، وما يترتب على ذلك‏.‏
ودلت هذه الآية على أنه يعلم أن آدم يخرج من الجنة فإنه لولا خروجه من الجنة لم يصر خليفة في الأرض فإنه أمره أن يسكن الجنة، ولا يأكل من الشجرة، بقوله‏:‏ ‏
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى‏.‏ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى‏.‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 117-119‏]‏، نهاه أن يخرجها من الجنة، وهو نهي عن طاعة إبليس التي هي سبب الخروج، وقد علم قبل ذلك أنه يخرج من الجنة، وأنه إنما يخرج منها بسبب طاعته إبليس، وأكله من الشجرة؛ لأنه قال قبل ذلك‏:‏ ‏{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏‏.‏
ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ إنه قدر خروجه من الجنة قبل أن يأمره بدخولها بقوله‏:‏ ‏
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏، وقال بعد هذا‏:‏ ‏{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 36‏]‏، وقال

 

ص -492-

‏ تعالى‏:‏ ‏{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏.‏ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 24، 25‏]‏، وهذا خبر عما سيكون من عداوة بعضهم بعضًا وغير ذلك، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، وهذا خبر عن المستقبل، وأنهم لا يؤمنون‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏، وهذا قسم منه على ذلك، وهو الصادق البار في قسمه، وصدقه مستلزم لعلمه بما أقسم عليه، وهو دليل على أنه قادر على ذلك‏.‏
وقد يستدل به على أنه خالق أفعال العباد؛إذ لو كانت أفعالهم غير مقدورة له لم يمكنه أن يملأ جهنم، بل كان ذلك إليهم إن شاؤوا عصوه فملأها، وإن شاؤوا أطاعوه فلم يملأها‏.‏
لكن قد يقال‏:‏ إنه علم أنهم يعصونه، فأقسم على جزائهم على ذلك، وقد يجاب عن ذلك بأن علمه بالمستقبل قبل أن يكون مستلزم لخلقه له، فإنه سبحانه لا يستفيد العلم من غيره، كالملائكة والبشر، ولكن علمه من لوازم نفسه، فلو كانت أفعاله خارجة عن مقدوره ومراده لم يجب أن يعلمها كما يعلم مخلوقاته‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

 

ص -493-

وقال تعالى عن المنافقين‏:‏ ‏{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏، وهذا خبر عما سيكون منهم من الذنوب قبل أن يفعلوها‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏، وهذا خبر عن دعاء من يدعوهم إلى جهاد هؤلاء؛ ودعاؤه لهم من جملة أفعال العباد، ومثل هذا في القرآن كثير‏.‏
بل العلم بالمستقبل من أفعال العباد يحصل لآحاد المخلوقين من الملائكة، والأنبياء وغيرهم، فكيف لا يكون حاصلا لرب العالمين‏؟‏‏!‏ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما سيكون من الأفعال المستقبلة من أمته، وغير أمته مما يطول ذكره، كإخباره بأن ابنه الحسن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وإخباره بأنه تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وإخباره بأن قومًا يرتدون بعده على أعقابهم، وإخباره بأن خلافة النبوة تكون ثلاثين سنة ثم تصير ملكًا، وإخباره بأن الجبل ليس عليه إلا نبي وصديق وشهيد، وكان أكثرهم شهداء وإخباره يوم بدر بقتل صناديد قريش قبل أن يقتلوا، وإخباره بخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وقتل عيسى عليه السلام له على باب لد‏.‏
وإخباره بخروج يأجوج ومأجوج، وإخباره بخروج الخوارج الذين قال فيهم‏:‏ ‏"‏يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه

 

ص -494-

مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية آيتهم أن فيهم رجلاً مخدج اليد على يده مثل البضعة من اللحم تدردر‏"‏، وكان الأمر كما أخبر به لما قاتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان، ووجد هذا الشخص كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإخباره بقتال الترك وصفتهم حيث قال‏:‏ ‏"‏لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الخدود دلف الأنف ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة‏"‏‏.‏ وقد قاتل المسلمون هؤلاء الترك، وغيرهم لما ظهروا، ومثل هذا من أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم أكثرمن أن تذكر وهو إنما يعلم ما علمه الله وإذا كان هو يعلم كثيرًا مما يكون من أعمال العباد، فكيف الذي خلقه وعلمه ما لم يكن يعلم‏.‏
وهو  سبحانه  لا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء ولا يعلم أحد  لا نبي ولا غيره  إلا ما علمه الله، وقال الخضر لموسى‏:‏ إنني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، ولما نقر العصفور في البحر قال له‏:‏ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، وهو سبحانه  القائل في حق موسى‏:‏
‏{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏‏.‏
والمقصود أن نفى علم الله بالحوادث أفعال العباد وغيرها قبل أن تكون باطل، وغلاة القدرية ينفون ذلك‏.‏

 

ص -495-

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 12‏]‏، ونحو ذلك، فهذا هو العلم الذي يتعلق، بالمعلوم بعد وجوده، وهو العلم الذي يترتب عليه المدح والذم، والثواب والعقاب، والأول هو العلم بأنه سيكون، ومجرد ذلك العلم لا يترتب عليه مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، فإن هذا إنما يكون بعد وجود الأفعال‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أنه قال في هذا‏:‏ لنرى، وكذلك المفسرون قالوا‏:‏ لنعلمه موجودًا بعد أن كنا نعلم أنه سيكون، وهذا المتجدد فيه قولان مشهوران للنظار‏:‏
منهم من يقول‏:‏ المتجدد هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم فقط، وتلك نسبة عدمية‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ بل المتجدد علم بكون الشيء ووجوده، وهذا العلم غير العلم بأنه سيكون، وهذا كما في قوله‏:‏ ‏
{وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 105‏]‏، فقد أخبر بتجدد الرؤية، فقيل نسبة عدمية، وقيل المتجدد أمر ثبوتي‏.‏ والكلام على القولين، ومن قال هذا وهذا، وحجج الفريقين قد بسط في موضع آخر‏.‏
وعامة السلف وأئمة السنة والحديث، على أن المتجدد أمر ثبوتي كما دل عليه النص، وهذا مما هجر أحمد بن حنبل الحارث المحاسبي على نفيه، فإنه كان يقول

 

ص -496-

بقول ابن كلاب فر من تجدد أمر ثبوتي، وقال بلوازم ذلك‏.‏ فخالف من نصوص الكتاب والسنة، وآثار السلف ما أوجب ظهور بدعة اقتضت أن يهجره الإمام أحمد، ويحذر منه، وقد قيل‏:‏ إن الحارث رجع عن ذلك‏.‏
والمتأخرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة على قولين‏:‏ منهم من سلك طريقة ابن كلاب، وأتباعه، ومنهم من سلك طريقة أئمة السنة والحديث، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
والمقصود هنا أن تقدم علم الله وكتابته لأعمال العباد حق، والقول بحدوث ذلك قول مهجور، كما قاله الناظم إن كان قد أراد ذلك، وليس في ذلك ما ينافي أمر الله ونهيه، فإن كونه خالقًا لأفعال العباد لا ينافى الأمر والنهي‏.‏ فكيف العلم المتقدم، وليس في ذلك ما يقتضى كون العبد مجبورًا لا قدرة له‏.‏ ولا فعل كما تقوله الجهمية المجبرة‏.‏
فصل
وأما قوله‏:‏

 ولا يقال علم الله ما

 يختار فالمختار مسطور

ص -497-

فهو يتضمن إيراد سؤال من القدرية وجوابه منهم‏:‏ فإنهم قد يقولون‏:‏ نحن نقول‏:‏ إنه يعلم، وإذا قلنا ذلك، لم نكن قد نفينا القدرة، بل أثبتنا القدر بمعنى العلم مع نفي كون الرب تعالى شائيًا جميع الحوادث، خالقًا لأفعال العباد‏.‏ قال الناظم فإن الذي يختاره العبد مسطور قبل ذلك، فلا يمكن بغيره فيلزم الجبر‏.‏
وقد يعترض على هذا الجواب، بأن يقال‏:‏ اللازم هنا بمنزلة الملزوم، فإن علمه بأنه يختاره موافق لما كتبه من أنه يختاره، وتغيير العلم أعظم من تغيير المسطور‏.‏
وقد يقال‏:‏ إنه أراد جعل السطر من تمام القول، أي لا يقال علم ما يختاره، وسطر ذلك‏.‏ أي‏:‏ فتقدم العلم والكتاب كاف في الإيمان بالقدر، فإن مجرد ذلك لا يكفي في الإيمان بالقدر، وهذا من حجة القائلين بالجبر‏.‏ قالوا‏:‏ خلاف المعلوم ممتنع، فالأمر به أمر بممتنع؛ لأنه لو وقع المأمور للزم انقلاب العلم جهلاً‏.‏
وجوابهم‏:‏ أن الممتنع لفظ مجمل، فإن أرادوا أن خلاف المعلوم لا يقع، ولا يكون، فهذا صحيح، ولكن التكليف بما لا يكون لا يكون تكليفًا بما يعجز عنه الفاعل، فإن مالا يفعله الفاعل قد لا يفعله ؛ لعجزه عنه وقد لا يفعله ؛ لعدم إرادته، فإنما كلف بما يطيقه مع علم الرب

 

ص -498-

أنه لا يكون، كما يعلم أن ما لا يشاؤه هو لا يكون، مع أنه لو شاء لفعله‏.‏
وقول المحتج‏:‏ لو وقع لانقلب العلم جهلاً‏.‏
قيل‏:‏ هذا صحيح، وهو يدل على أنه لا يقع، لكن لا يدل على أن المكلف عاجز عنه، لو أراده لم يقدر على فعله، فإنه لا يقع لعدم إرادته له، لا لعدم قدرته عليه، كالذي لا يقع من مقدورات الرب التي لو شاء لفعلها، هو يعلم أنه لا يفعلها‏.‏
ولا يجوز أن يقال‏:‏ إنه غير قادر عليها، كما قاله بعض غلاة أهل البدع، بل قد قال سبحانه‏
:‏ ‏{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ‏.‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، مع أنه قد ثبت في الصحيحين عن جابر، أنه لما نزل قوله‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏، ‏{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏، قال‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏، ‏{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هاتان أهون‏"‏‏.‏ فهذا الذي أخبر أنه قادر عليه منه ما لا يكون، وهو إرسال عذاب من فوق الأمة، أو من تحت أرجلهم‏.‏ ومنه ما يكون وهو لبسهم شيعًا، وإذاقة بعضهم بأس بعض‏.‏ كما ثبت في الصحيح

 

ص -499-

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فأعطانيها، وسألته ألا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها‏"‏‏.‏
وقد ذكر في غير موضع من القرآن، ما لا يكون أنه لو شاء لفعله، كقوله‏:‏
‏{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏، وأمثال هذه الآيات، تبين أنه لو شاء أن يفعل أمورًا لم تكن لفعلها، وهذا يدل على أنه قادر على ما علم أنه لا يكون، فإنه لولا قدرته عليه لكان إذا شاء لا يفعله، فإنه لا يمكن فعله إلا بالقدرة عليه، فلما أخبر  وهو الصادق في خبره  أنه لو شاء لفعله، علم أنه قادر عليه وإن علم  سبحانه  أنه لا يكون، وعلم أيضًا أن خلاف المعلوم قد يكون مقدورًا‏.‏
وإذا قيل‏:‏ هو ممتنع، فهو من باب الممتنع؛ لعدم مشيئة الرب له، لا لكونه ممتنعًا في نفسه، ولا لكونه معجوزًا عنه‏.‏
ولفظ الممتنع، فيه إجمال كما تقدم، وما سمى ممتنعًا بمعنى أنه لا يكون مع

 

ص -500-

 

أنه لو شاء العبد لفعله؛ لقدرته عليه، فهذا يجوز تكليفه بلا نزاع، وإن سماه بعضهم بما لا يطاق، فهذا نزاع لفظي، ونزاع في أن القدرة، هل يجوز أن تتقدم الفعل أم لا‏؟‏
فصل
وأما قوله‏:‏

 والجبر إن صح يكن مكرهًا

 وعندك المكره معذور

يقال‏:‏ قد تقدم بيان معنى الجبر وأن الجبر إذا أريد به الإكراه، كما يجبر الإنسان غيره، ويكرهه على خلاف مراده، فالله تعالى أجل وأعلا وأقدر من أن يحتاج إلى مثل هذا الجبر والإكراه، فإن هذا إنما يكون من عاجز يعجز عن جعل غيره مريدًا لفعله مختارًا له محبًا له راضيا به، والله سبحانه على كل شيء قدير، فإذا شاء أن يجعل العبد محبًا لما يفعله، مختارًا له جعله كذلك، وإن شاء أن يجعله مريدًا له بلا محبة بل مع كراهة فيفعله كارهًا له جعله كذلك‏.‏
وليس هذا كإكراه المخلوق للمخلوق، فإن المخلوق لا يقدر أن يجعل في قلب غيره لا إرادة وحبا، ولا كراهة وبغضًا، بل غايته أن يفعل ما يكون

ص -501-

سببًا لرغبته أو رهبته، فإذا أكرهه فعل به من العقاب أو الوعيد ما يكون سببًا لرهبته وخوفه، فيفعل ما لا يختار فعله، ولا يفعله راضيًا بفعله، ويكون مراده دفع الشر عنه، فهو مريد للفعل، لكن المقصود دفع الشر عنه، لا نفس الفعل، ولهذا قد يسمى مختارًا، ويسمى غير مختار باعتبار، ويسمى مريدًا، ويسمى غير مريد باعتبار‏.‏
ولكن اللغة العربية لا يسمى فيها مختارًا بل مكرهًا، وهي لغة الفقهاء‏.‏ كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏إذا دعا أحدكم فلا يقل‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له‏"‏‏.‏ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من يفعل بمشيئته لا يكون مكرهًا، والمكره يفعل بمشيئة غيره، وهو المكره له، فإنه وإن كان قاصدًا لما يفعله ليس هو بمنزلة المفعول به الذي لا قدرة له، ولا إرادة له في الفعل بحال، فإن مقصوده بالقصد الأول دفع الشيء لا نفس الفعل، فالمراتب ثلاثة‏:‏
أحدها‏:‏ من يفعل به الفعل من غير قدرة له على الامتناع، كالذي يحمل بغير اختياره ويدخل إلى مكان أو يضرب به غيره، أو تضجع المرأة وتفعل بها الفاحشة بغير اختيارها، من غير قدرة على الامتناع، فهذا ليس له فعل اختياري، ولا قدرة ولا إرادة‏.‏ ومثل هذا الفعل ليس فيه أمر ولا نهي، ولا عقاب باتفاق العقلاء، وإنما يعاقب إذا أمكنه الامتناع فتركه؛ لأنه إذا لم

 

ص -502-

يمتنع كان مطاوعًا لا مكرها، ولهذا فرق بين المرأة المطاوعة على الزنا والمكرهة عليه‏.‏
والثانية‏:‏ أن يكره بضرب أو حبس، أو غير ذلك حتى يفعل، فهذا الفعل يتعلق به التكليف، فإنه يمكنه ألا يفعل، وإن قتل؛ ولهذا قال الفقهاء‏:‏ إذا أكره علي قتل المعصوم، لم يحل له قتله، وإن قتل فقد اختلفوا في القود‏.‏ فقال أكثرهم كمالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه‏:‏ يجب القود على المكره والمكرَه لأنهما جميعا يشتركان فى القتل، وقال أبو حنيفة‏:‏ يجب على المكره الظالم؛ لأن المكره قد صار كالآلة، وقال زفر‏:‏ بل على المكره المباشر؛ لأنه مباشر وذاك متسبب‏.‏ وقال‏:‏ لو كان كالآلة لما كان آثما، وقد اتفقوا على أنه آثم، وقال أبو يوسف‏:‏ لا تجب على واحد منهما‏.‏
وأما إن أكره على الشرب للخمر، ونحوه من الأفعال، فأكثرهم يجوز ذلك له، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏
{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، وأما إن أكره الرجل على الزنا، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره‏:‏
أحدهما‏:‏ لا يكون مكرها عليه، كقول أبي حنيفة، وهو منصوص أحمد‏.‏

 

ص -503-

والثاني‏:‏ قد يكون مكرها عليه، كقول الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد‏.‏
وإذا أكره على كلمة الكفر جاز له التكلم بها، مع طمأنينة قلبه بالإيمان‏.‏
وإذا أكره على العقود كالبيع، والنكاح، والطلاق، والظهار، والإيلاء، والعتق، ونحو ذلك، فمذهب الجمهور، كمالك، والشافعي، وأحمد أن كل قول أكره عليه بغيرحق فهو باطل، فلا يقع به طلاق ولا عتاق، ولا يلزمه نذر، ولا يمين، ولا غير ذلك، وأما أبو حنيفة فيفرق بين ما يقبل الفسخ عنده، ويثبت فيه الخيار كالبيع و نحوه، فلا يلزم مع الإكراه، وما ليس كذلك كالنكاح والطلاق والعتاق فيلزم مع الإكراه‏.‏
وأما المكره بحق كالحربي على الإسلام، فهذا يلزمه ما أكره عليه باتفاق العلماء‏.‏
فقول الناظم‏:‏

 والجبر إن صح يكن مكرها

 وعندك المكره معذور

قول مؤلف من مقدمتين باطلتين‏:‏

 

ص -504-

  الأولى‏:‏ إن صح الجبر كان مكرها، وقد عرف أن لفظ الجبر، إذا أريد به الجبر المعروف من إجبار الإنسان غيره على ما لا يريده، فهذا الجبر لم يصح، وإن أريد به أن الله يخلق إرادته، فهذا الجبر إذا صح لم يكن مكرها‏.‏
والمقدمة الثانية قوله‏:‏ والمكره عندك معذور، فليس الأمر كذلك، بل المكره نوعان‏:‏
نوع أكرهه المكره بحق، فهذا ليس بمعذور، والله تعالى لا يكره أحدًا إلا بحق، سواء قدر الإكراه بخلقه وقدره، أو شرعه وأمره، وإنما المكره المعذور هو المظلوم المكره بغير حق، والله تعالى لا يظلم أحدًا مثقال ذرة، بل هو الحكم العدل القائم بالقسط، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وقد اتفق المسلمون وغيرهم، على أن الله منزه عن الظلم، لكن تنازع الناس في معنى الظلم الذي يجب تنزيه الرب عنه، فجعلت القدرية من المعتزلة وغيرهم الظلم الذي ينزه عنه الخالق من جنس الظلم الذي ينهي عنه المخلوق، وشبهوا الله تعالى بخلقه، فأوجبوا عليه من جنس ما يجب على

 

ص -505-

المخلوق، وتكلموا في التعديل والتجويز بكلام متناقض، كما هو معروف عنهم و ألزموا الناس إلزامات كثيرة‏.‏
منها‏:‏ أن قالوا‏:‏ إن العبد لو رأى رفقة يظلم بعضهم بعضًا، وهو يقدر على منعهم من الظلم ولم يمنعم لكان ظالمًا ومثل هذا ليس ظلماً من الله فقالوا‏:‏ هو قد نهاهم عن ذلك، وعرضهم للثواب إذا أطاعوه، وللعقاب إذا عصوه، وهم قد ظلموا باختيارهم، ولم يمكن منعهم من ذلك إلا بإلجائهم إلى الترك، والإلجاء يزيل التكليف الذي عرضهم به للثواب‏.‏
فقال لهم الجمهور‏:‏ الواحد منا لو فعل ذلك مع علمه بأن عباده لا يطيعون أمره، ولا يمتنعون عن الظلم، بل يزدادون عصيانًا وظلما، لم يكن ذلك حكمة ولا عدلا، وإنما يحمد ذلك من الواحد منا لعدم علمه بالعاقبة، أو لعجزه عن المنع، والله عليم بالعواقب، وهو على كل شيء قدير، وإلا فإذا كان الواحد منا يعلم أنه إذا أمرهم، ليعرضهم للثواب عصوة وظلم بعضهم بعضًا، وجب عليه أن يمنعهم من الظلم بالإلجاء‏.‏
وتمام الكلام في ذلك مبسوط في موضع آخر‏.‏ فإن هذا الجواب لا يحتمل إلا التنبيه‏.‏
وقالت طائفة من مثبتة القدر من المتقدمين، والمتأخرين، من الجهمية

 

ص -506-

وأهل الكلام، والفقهاء وأهل الحديث ‏:‏ الظلم منه ممتنع لذاته، فكل ممكن يدخل تحت القدرة ليس فعله ظلمًا، وقالوا‏:‏ الظلم التصرف في ملك الغير، أو الخروج عن طاعة من تجب طاعته، وكل من هذين ممتنع في حق الله‏.‏
وقال كثير من أهل السنة والحديث والنظار‏:‏ بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ومن ذلك أن يبخس المحسن شيئًا من حسناته، أو يحمل عليه من سيئات غيره، وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، كقوله تعالى‏:‏
‏{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏‏.‏ قال غير واحد من السلف‏:‏ الهضم أن يهضم من حسناته، والظلم أن يزاد في سيئاته، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى‏.‏ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏.‏ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏.‏ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 3639‏]‏ وقال‏:‏ ‏{لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ‏.‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏
وفي حديث البطاقة، الذي رواه الترمذي وغيره وحسنه، ورواه الحاكم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏ ‏"‏يجاء يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله تعالى له‏:‏ أتنكر من هذا شيئًا‏؟‏ فيقول‏:‏ لا يارب‏.‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ ألك عذر أو حسنة‏؟‏ فيهاب الرجل فيقول‏:‏ لا يارب‏.‏ فيقول الله تعالى‏:‏ بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فتخرج

 

ص -507-

له بطاقة فيها‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله‏.‏ فيقول‏:‏ يارب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات‏؟‏ فيقول‏:‏ إنك لا تظلم‏.‏ قال‏:‏ فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة‏"‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 76‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، ومثل هذه النصوص كثيرة، ومعلوم أن الله تعالى لم ينف بها الممتنع الذي لا يقبل الوجود، كالجمع بين الضدين، فإن هذا لم يتوهم أحد وجوده، وليس في مجرد نفيه ما يحصل به مقصود الخطاب، فإن المراد بيان عدل الله، وأنه لا يظلم أحدًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ بل يجازيهم بأعمالهم، ولا يعاقبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏‏.‏
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل، وأنزل الكتب‏"‏‏.‏

 

ص -508-

ومثل هذه النصوص كثيرة، وهي تبين أن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه ليس هو ما تقوله القدرية، ولا ما تقوله الجبرية، ومن وافقهم، وقد بسط الكلام على تحقيق هذا المقام في مواضع أخر، وبين فيها حكمة الله وعدلة، فإن هذا المقام هو من أعظم المقامات التي اضطرب فيها كثير من الأولين والآخرين‏.‏ والبسط الكثير الذي ينتهي به إلى تفصيل أقوال الناس، وحقيقة الأمر في ذلك ببيان الدلائل، والجواب عن المعارضات لا يناسب جواب هذا النظم، وهو مذكور في موضع آخر‏.‏
وفي الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيما يروي عن ربه  تبارك وتعالى  أنه قال‏:‏ ‏
"‏ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، ياعبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، ياعبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم‏.‏ ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم‏.‏ ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏.‏ ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا‏.‏ ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا‏.‏ ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل

 

ص -509-

البحر‏.‏ ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏ قال سعيد‏:‏ كان أبو أدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه‏.‏
فذكر في أول هذا الحديث الإلهي، الذي قال فيه الإمام أحمد‏:‏ هو أشرف حديث لأهل الشام، أنه حرم الظلم على نفسه‏.‏ والتحريم ضد الإيجاب، وبين في القرآن أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا علي قول الطائفة الثانية المراد به مجرد خبره بمجرد الوعد والوعيد، وعلى قول الآخرين‏:‏ بل هو  سبحانه  كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم كما أخبر عن نفسه، فقال تعالى‏:‏
‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏، فهو حق أحقه  سبحانه  على نفسه، لا أن أحدًا من الخلق يوجب عليه حقًا، ولا يحرم عليه شيئًا‏.‏
وختم الحديث، بقوله‏:‏ ‏"‏إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه‏"‏، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏ ‏"‏سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللّهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏ من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏"‏‏.‏

 

ص -510-

وفي هذا الحديث قوله‏:‏ ‏"‏أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي‏"‏، ومن نعمه على عبده المؤمن، ما ييسره له من الإيمان والحسنات فإنها من فضله وإحسانه ورحمته وحكمته، وسيئات العبد من عدله وحكمته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو لا يسأل عما يفعل ؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقوله جهم وأتباعه، وقد بسط الكلام على هذا وبين حقيقة قوله‏:‏ ‏"‏والخير بيديك، والشر ليس إليك‏"‏ وإن كان خالق كل شيء، وبين أن الشر لم يضف إلى الله في الكتاب والسنة، إلا على أحد وجوه ثلاثة‏:‏
إما بطريق العموم، كقوله‏:‏
‏{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16، الزمر‏:‏ 62‏]‏، وإما بطريقة إضافته إلى السبب، كقوله‏:‏ ‏{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن‏:‏
‏{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وقد جمع في الفاتحة الأصناف الثلاثة، فقال‏:‏
‏{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏، وهذا عام‏.‏ وقال‏:‏ ‏{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏، فحذف فاعل الغضب‏.‏ وقال‏:‏ ‏{وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏، فأضاف الضلال إلى المخلوق، ومن هذا قول الخليل‏:‏ ‏{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏،

 

ص -511-

وقول الخضر‏:‏ ‏{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، ‏{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 81‏]‏، ‏{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقد بسط الكلام على حقائق هذه الأمور، وبين أن الله لم يخلق شيئًا إلا لحكمة، قال تعالى‏
:‏ ‏{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏، فالمخلوق باعتبار الحكمة التي خلق لأجلها خير وحكمة، وإن كان فيه شر من جهة أخري، فذلك أمر عارض جزئي ليس شرًا محضًا، بل الشر الذي يقصد به الخير الأرجح هوخير من الفاعل الحكيم، وإن كان شرا لمن قام به‏.‏
وظن الظان أن الحكمة المطلوبة التامة قد تحصل مع عدمه، إنما يقوله لعدم علمه بحقائق الأمور، وارتباط بعضها ببعض، فإن الخالق إذا خلق الشيء، فلابد من خلق لوازمه، فإن وجود الملزوم بدون وجود اللازم ممتنع، ولابد من ترك خلق أضداده التي تنافيه، فإن اجتماع الضدين المتنافيين في وقت واحد ممتنع‏.‏
وهو  سبحانه  على كل شيء قدير، لا يستثنى من هذا العموم شيء، لكن مسمي الشيء، ما تصور وجوده، فأما الممتنع لذاته فليس شيئًا باتفاق العقلاء‏.‏

 

ص -512-

والقدرة على خلق المتضادات قدرة على خلقها على البدل، فهو  سبحانه  إذا شاء أن يجعل العبد متحركا جعله، وإن شاء أن يجعله ساكنًا جعله، وكذلك في الإيمان والكفر وغيرهما، لكن لا يتصور أن يكون العبد في الوقت الواحد متصفًا بالمتضادات، فيكون مؤمنا صديقًا من أولياء الله المتقين، كافرًا منافقًا من أعداء الله، وإن كان يمكن أن يجتمع فيه شعبة من الإيمان وشعبة من النفاق‏.‏
والذي يجب على العبد أن يعلم أن علم الله، وقدرته، وحكمته، ورحمته في غاية الكمال الذي لا يتصور زيادة عليها، بل كلما أمكن من الكمال الذي لا نقص فيه، فهو واجب للرب تعالى، وقد يعلم بعض العباد بعض حكمته، وقد يخفى عليهم منها ما يخفى‏.‏
والناس يتفاضلون في العلم بحكمته، ورحمته، وعدله، وكلما ازداد العبد علمًا بحقائق الأمور ازداد علمًا بحكمة الله، وعدله، ورحمته، وقدرته، وعلم أن الله منعم عليه بالحسنات عملها وثوابها، وإن ما يصيبه من عقوبات ذنوبة فبعدل الله  تعالى  وإن نفس صدور الذنوب منه  وإن كان من جملة مقدورات الرب  فهو لنقص نفسه وعجزها وجهلها الذي هو من لوازمها، وإن ما في نفسه من الحسنات فهو من فعل الله، وإحسانه وجوده، وإن الرب، مع أنه قد خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فإلهام الفجور والتقوى وقع

 

ص -513-

بحكمة بالغة، لو اجتمع الأولون والآخرون من عقلاء الآدميين على أن يروا حكمة أبلغ منها لم يروا حكمة أبلغ منها‏.‏
لكن تفصيل حكمة الرب، مما يعجز كثير من الناس عن معرفتها، ومنها ما يعجز عن معرفته جميع الخلق حتى الملائكة، ولهذا قالت الملائكة لما قال الله تعالى لهم‏:‏
‏{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏قال‏:‏ ‏{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، فتكفيهم المعرفة المجملة، والإيمان العام‏.‏
والله  سبحانه  قد أمرهم أن يطلبوا منه جميع ما يحتاجون إليه من هدى، ورشاد، وصلاح في المعاش والمعاد، ومغفرة ورحمة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح‏:‏
‏"‏اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفة، والغنى‏"‏ ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها‏"‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر‏"‏ وكل هذا في الأحاديث التي في الصحيح‏.‏
وفي صحيح مسلم أنه كان يقول‏:‏ إذا قام من الليل‏:‏ ‏"‏اللهم رب جبريل، وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت

 

ص -514-

تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا‏:‏ ‏{
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏.‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏ وهذا أفضل الأدعية وأوجبها على العباد‏.‏
ومن تحقق بهذا الدعاء جعله الله من أهل الهدى والرشاد، فإنه سميع الدعاء لا يخلف الميعاد، والله أعلم‏.‏

 

ص -515-

وسئل عن المقتول، هل مات بأجله، أم قطع القاتل أجله‏؟‏
فأجاب‏:‏
المقتول كغيره من الموتى، لا يموت أحد قبل أجله، ولا يتأخر أحد عن أجله‏.‏ بل سائر الحيوان والأشجار لها آجال لا تتقدم ولا تتأخر‏.‏ فإن أجل الشيء هو نهاية عمره وعمره مدة بقائه، فالعمر مدة البقاء، والأجل نهاية العمر بالانقضاء‏.‏
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
:‏ ‏"‏قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏"‏ وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض  وفي لفظ  ثم خلق السماوات والأرض‏"‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏‏.‏
والله يعلم ما كان قبل أن يكون، وقد كتب ذلك، فهو يعلم أن هذا يموت

 

ص -516-

بالبطن، أو ذات الجنب، أو الهدم أو الغرق، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يموت مقتولاً، إما بالسم وإما بالسيف، وإما بالحجر، وإما بغير ذلك، من أسباب القتل‏.‏
وعلم الله بذلك وكتابته له بل مشيئته لكل شيء، وخلقه لكل شيء، لا يمنع المدح والذم، والثواب والعقاب، بل القاتل إن قتل قتيلاً أمر الله به ورسوله، كالمجاهد في سبيل الله أثابه الله على ذلك، وإن قتل قتيلاً حرمه الله ورسوله، كقتل القطاع، والمعتدين، عاقبه الله على ذلك، وإن قتل قتيلاً مباحًا  كقتيل المقتص  لم يثب ولم يعاقب إلا أن يكون له نيه حسنة، أوسيئة في أحدهما‏.‏
والأجل أجلان‏:‏ أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد‏.‏ وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏
:‏ ‏"‏من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه‏"‏، فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلاً وقال‏:‏ ‏"‏إن وصل رحمه زدته كذا وكذا‏"‏‏.‏ والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر‏.‏
ولو لم يقتل المقتول، فقد قال بعض القدرية‏:‏ إنه كان يعيش، وقال بعض نفاة الأسباب‏:‏ إنه يموت، وكلاهما خطأ، فإن الله علم أنه يموت بالقتل، فإذا قدر خلاف معلومه كان تقديرًا لما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وهذا قد يعلمه بعض الناس، وقد لا يعلمه، فلو فرضنا أن الله علم أنه لا يقتل أمكن أن

 

ص -517-

يكون قدر موته في هذا الوقت، وأمكن أن يكون قدر حياته إلى وقت آخر فالجزم بأحد هذين على التقدير الذي لا يكون جهل‏.‏
وهذا كمن قال‏:‏ لو لم يأكل هذا ما قدر له من الرزق، كان يموت، أو يرزق شيئا آخر، وبمنزلة من قال‏:‏ لو لم يحبل هذا الرجل لهذه المرأة هل تكون عقيمًا، أو يحبلها رجل آخر، ولو لم تزدرع هذه الأرض هل كان يزدرعها غيره، أم كانت تكون مواتًا لا يزرع فيها، وهذا الذي تعلم القرآن من هذا، لو لم يعلمه‏.‏ هل كان يتعلم من غيره‏؟‏ أم لم يكن يتعلم القرآن البتة، ومثل هذا كثير‏.‏

 

ص -518-

سئل شيخ الإسلام عن الغلاء، والرخص‏:‏ هل هما من الله تعالى أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
جميع ما سوى الله من الأعيان وصفاتها وأحوالها مخلوقة لله، مملوكة لله، هو ربها وخالقها ومليكها ومدبرها، لا رب لها غيره، ولا إله سواه، له الخلق والأمر، لا شريك له في شيء من ذلك، ولا معين، بل هو كما قال سبحانه‏:‏ ‏
{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏.‏ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏
أخبر  سبحانه  أن ما يدعي من دونه، ليس له مثقال ذرة في السماوات ، ولا في الأرض، ولا شرك في ملك، ولا إعانة على شيء، وهذه الوجوه الثلاثة، هي التي ثبت بها حق الغير، فإنه إما أن يكون مالكًا للشيء مستقلا بملكه، أو يكون مشاركًا له فيه نظير، أو لا ذا ولا ذاك، فيكون معينًا لصاحبه، كالوزير والمشير، والمعلم والمنجد والناصر، فبين سبحانه أنه ليس لغيره ملك لمثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا لغيره شرك في ذلك لا قليل ولا كثير، فلا

 

ص -519-

يملكون شيئًا، ولا لهم شرك في شيء، ولا له سبحانه ظهير، وهو المظاهر المعاون، فليس له وزير ولا مشير ولا ظهير‏.‏  وهذا كما قال سبحانه‏:‏ ‏{وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 111‏]‏، فإن المخلوق يوالي المخلوق لذله؛ فإذا كان له من يواليه؛ عز بوليه والرب تعالى لا يوالى أحدًا لذلته تعالى، بل هو العزيز بنفسه و‏{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، وإنما يوالي عباده المؤمنين لرحمته، ونعمته، وحكمته وإحسانه، وجوده، وفضله وإنعامه‏.‏
وحينئذ، فالغلاء بارتفاع الأسعار، والرخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببًا في بعض الحوادث، كما جعل قتل القاتل سببًا في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار، قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس، ولهذا أضاف من أضاف من القدرية المعتزلة وغيرهم الغلاء والرخص إلى بعض الناس، وبنوا على ذلك أصولاً فاسدة‏.‏
أحدها‏:‏ أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى‏.‏

 

ص -520-

والثاني‏:‏ إنما يكون فعل العبد سببًا له يكون العبد هو الذي أحدثه‏.‏
والثالث‏:‏ أن الغلاء والرخص إنما يكون بهذا السبب‏.‏
وهذه الأصول باطلة، فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، ودلت على ذلك الدلائل الكثيرة، السمعية والعقلية، وهذا متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها، وهم مع ذلك يقولون‏:‏ إن العباد لهم قدرة ومشيئة، وإنهم فاعلون لأفعالهم ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب، وما خلق الله من الحكم‏.‏
ومسألة القدر، مسألة عظيمة، ظل فيها طائفتان من الناس طائفة أنكرت أن يكون الله خالقا لكل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما أنكرت ذلك المعتزلة، وطائفة أنكرت أن يكون العبد فاعلا لأفعاله، وأن تكون لهم قدرة لها تأثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره، وأن يكون الله خلق شيئًا لحكمة، كما أنكر ذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة الذي نسب كثير منهم إلى السنة، والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع أخر‏.‏
والأصل الثاني‏:‏ وهو إنما كان فعل العبد أحد أسبابه، كالشبع

 

ص -521-

الذي يكون بسبب الأكل، وزهوق النفس الذي يكون بالقتل، فهذا قد جعله أكثر المعتزلة فعلاً للعبد، والجبرية لم يجعلوا لفعل العبد فيه تأثيرًا بل ما تيقنوا أنه سبب، قالوا‏:‏ إنه عنده لا به، وأما السلف والأئمة فلا يجعلون العبد فاعلا لذلك، كفعله لما قام به من الحركات، فلا يمنعون أن يكون مشاركًا في أسبابه، وأن يكون الله جعل فعل العبد، مع غيره أسبابا في حصول مثل ذلك‏.‏
وقد ذكر الله في كتابه النوعين بقوله‏:‏
‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏.‏ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120، 121‏]‏، والإنفاق والسير هو نفس أعمالهم القائمة بهم، فقال فيها‏:‏ إلا كتب لهم، ولم يقل إلا كتب لهم به عمل صالح، فإنها نفسها عمل، فنفس كتابتها يحصل به المقصود، بخلاف الظمأ والنصب والجوع الحاصل بغير الجهاد، بخلاف غيظ الكفار بما نيل منهم، فإن هذه ليست نفس أفعالهم، وإنما هي حادثة عن أسباب منها أفعالهم؛ فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏
فتبين أن ما يحدث من الآثار عن أفعال العباد لهم بها عمل، لأن أفعالهم كانت سببًا فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"
‏من دعا إلى هدى كان له من

 

ص -522-

الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء‏"‏‏.‏
والأصل الثالث‏:‏ أن الغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض، بل قد يكون سببه قلة ما يخلق، أو يجلب من ذلك المال المطلوب، فإذا كثرت الرغبات في الشيء، وقل المرغوب فيه، ارتفع سعره، فإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره، والقلة والكثرة قد لا تكون بسبب من العباد، وقد تكون بسبب لا ظلم فيه، وقد تكون بسبب فيه ظلم، والله تعالى يجعل الرغبات في القلوب‏.‏ فهو سبحانه كما جاء في الأثر، قد تغلوا الأسعار والأهواء غرار، وقد ترخص الأسعار والأهواء فقار‏.

 

ص -523-

وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية  قدس الله روحه  عما قاله أبو حامد الغزالي  في كتابه المعروف ب ‏[‏منهاج العابدين‏]‏ في زاد الآخرة من العقبة الرابعة‏:‏ وهي العوارض، بعد كلام تقدم في التوكل بأن الرزق مضمون  قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ هل يلزم العبد طلب الرزق بحال، فاعلم أن الرزق المضمون، هو الغذاء والقوام، فلا يمكن طلبه إذ هو شيء من فعل الله بالعبد كالحياة والموت، لا يقدر العبد على تحصيله ولا دفعه‏.‏
وأما المقسوم من الأسباب، فلا يلزم العبد طلبه، إذ لا حاجة للعبد إلى ذلك، إنما حاجته إلى المضمون وهو من الله وفي ضمان الله‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏
‏{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏، المراد به العلم والثواب وقيل‏:‏ بل هو رخصة إذ هو أمر وارد بعد الحظر، فيكون بمعنى الإباحة، لا بمعنى الإيجاب والإلزام‏.‏
فإن قيل‏:‏ لكن هذا الرزق المضمون له أسباب، هل يلزم منا طلب الأسباب‏؟‏ قيل‏:‏ لا يلزم منك طلب ذلك، إذ لا حاجة بالعبد إليه، إذ الله سبحانه يفعل

 

ص -524-

بالسبب، وبغير السبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب‏؟‏ ثم إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا من غير شرط الطلب والكسب، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏‏.‏
ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه؛ إذ لا يعرف أي سبب منها رزقه يتناوله لا عرف الذي صير سبب غذائه وتربيته لا غير ، فالواحد منا لا يعرف ذلك السبب بعينه، من أين حصل له‏؟‏ فلا يصح تكليفه، فتأمل  راشدًا  فإنه بين، ثم حسبك أن الأنبياء  صلوات الله وسلامه عليهم  والأولياء المتوكلين لم يطلبوا الرزق في الأكثر والأعم، وتجردوا للعبادة، وبإجماع أنهم لم يكونوا تاركين لأمر الله تعالى، ولا عاصين له في ذلك، فليس لك أن تطلب الرزق وأسبابه بأمر لازم للعبد‏.‏
فما الفرق بين هذا الكلام من هذا الإمام، والمنصوص عليه في كتب الأئمة، كالفقه وغيره‏؟‏ وهو أن العبد يجب عليه طلب الرزق، وطلب سببه، وأبلغ من ذلك أن العبد لو احتاج إلى الرزق ووجده عند غيره فاضلاً عنه، وجب عليه طلبه منه، فإن منعه قهره، وإن قتله‏.‏ فهل هذا الذي نص عليه في المنهاج يختص بأحد دون أحد‏؟‏ فأوضحوا لنا ما أشكل علينا من تناقض الكلامين، مثابين، مأجورين، وابسطوا لنا القول‏.‏
فأجاب  رضي الله عنه‏:‏

 

ص -525-

الحمد لله رب العالمين، هذا الذي ذكره أبو حامد قد ذهب إليه طائفة من الناس، ولكن أئمة المسلمين وجمهورهم على خلاف هذا، وأن الكسب يكون واجبا تارة، ومستحبا تارة، ومكروهًا تارة، ومباحًا تارة، ، ومحرمًا تارة، فلا يجوز إطلاق القول بأنه لم يكن منه شيء واجب، كما أنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس منه شيء محرم‏.‏
والسبب الذي أمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله‏.‏ والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏.‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8، 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏.‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، والتقوى تجمع فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه‏.‏ ويروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يا أبا ذر، لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم‏"‏‏.‏
ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ما احتاج تقي قط‏.‏ يقول‏:‏ إن الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجًا مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم، من حيث لا يحتسبون، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا، فليستغفر الله وليتب إليه، ولهذا جاء في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي أنه قال‏:‏ ‏"‏من

 

ص -526-

أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏"‏‏.‏
والمقصود‏:‏ أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر، وترك ما حذر، فمن ظن أنه يرضى ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضى الله عليه دون التوكل، كان ضالا، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض‏.‏
وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل، وإذا قرن أحدهما بالآخر، كان للتوكل اسم يخصه‏.‏ كما في نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول، فإن التقوى إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول ‏.‏ وقد يعطف أحدهما على الآخر؛ كقول نوح عليه السلام‏:‏ ‏
{اعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا‏} ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏
وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏
{قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقول شعيب‏:‏ ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏} ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏، فإن الإنابة إلى الله والمتاب هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والعبد لا يكون مطيعًا لله ورسوله  فضلاً أن يكون من خواص أوليائه المتقين  إلا بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، ويدخل في ذلك التوكل‏.‏

 

ص -527-

وأما من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها ، فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله‏.‏
وهذه المسألة مما سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏ ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة والنار‏"‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا ‏!‏ اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏ وكذلك في الصحيحين عنه أنه قيل له‏:‏ أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون، أفيما جفت الأقلام، وطويت الصحف‏؟‏ ولما قيل له‏:‏ أفلا نتكل على الكتاب ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏
وبين صلى الله عليه وسلم أن الأسباب المخلوقة والمشروعة ، هي من القدر، فقيل له‏:‏ أرأيت رقى نسترقى بها‏؟‏ وتقى نتقى بها‏؟‏ وأدوية نتداوى بها هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏هي من قدر الله‏"‏‏.‏
فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله، لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب

 

ص -528-

مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها، فهو عاجز مفرط مذموم‏.‏
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة  رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏
:‏ ‏"‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏، وفي سنن أبي داود‏:‏ أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر، فقل‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏"‏‏.‏
وقد تكلم الناس في حمل الزاد في الحج وغيره من الأسفار، فالذي مضت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وأكابر المشائخ هو حمل الزاد لما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وانتفاع الحامل ونفعه للناس‏.‏
وزعمت طائفة أن من تمام التوكل ألا يحمل الزاد، وقد رد

 

ص -529-

الأكابر هذا القول كما رده الحارث المحاسبي في ‏"‏كتاب التوكل‏"‏ وحكاه عن شقيق البلخي، وبالغ في الرد على من قال بذلك، وذكر من الحجج عليهم ما يبين به غلطهم وأنهم غالطون في معرفة حقيقة التوكل، وأنهم عاصون لله بما يتركون من طاعته، وقد حكى لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال، بحقيقة التوكل كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه، ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب‏.‏
وهذا وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته، ورحمته، وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها، فهو غالط، فالله سبحانه، وإن كان قد ضمن للعبد رزقه وهو لابد أن يرزقه ما عمر، فهذا لا يمنع أن يكون ذلك الرزق المضمون له أسباب تحصل من فعل العبد وغير فعله‏.‏
وأيضًا، فقد يرزقه حلالاً وحرامًا، فإذا فعل ما أمره به رزقه حلالاً، وإذا ترك ما أمره به، فقد يرزقه من حرام‏.‏
ومن هذا الباب‏:‏ الدعاء والتوكل، فقد ظن بعض الناس أن ذلك لا تأثير

 

ص -530-

له في حصول مطلوب، ولا دفع مرهوب، ولكنه عبادة محضة، ولكن ما حصل به حصل بدونه، وظن آخرون أن ذلك مجرد علامة، والصواب الذي عليه السلف والأئمة والجمهور، أن ذلك من أعظم الأسباب التي تنال بها سعادة الدنيا والآخرة‏.‏
وما قدره الله بالدعاء، والتوكل، والكسب، وغير ذلك من الأسباب، إذا قال القائل فلو لم يكن السبب ماذا يكون، بمنزلة من يقول‏:‏ هذا المقتول لو لم يقتل هل كان يعيش ‏؟‏ وقد ظن بعض القدرية أنه كان يعيش، وظن بعض المنتسبين إلى السنة أنه كان يموت، والصواب أن هذا تقدير لأمر علم الله أنه يكون، فالله قدر موته بهذا السبب فلا يموت إلا به كما قدر الله سعادة هذا في الدنيا والآخرة بعبادته، ودعائه، وتوكله، وعمله الصالح، وكسبه، فلا يحصل إلا به، وإذا قدر عدم هذا السبب لم يعلم ما يكون المقدر، وبتقدير عدمه فقد يكون المقدر حينئذ أنه يموت، وقد يكون المقدر أنه يحيى والجزم بأحدهما خطأ‏.‏
ولو قال القائل‏:‏ أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قدر حياتي فهو يحييني بدون الأكل والشرب، كان أحمق، كمن قال‏:‏ أنا لا أطأ امرأتي فإن كان الله قدر لي ولدًا تحمل من غير ذكر‏.‏

 

ص -531-

فصل
إذا عرف هذا‏:‏ فالسالكون طريق الله منهم من يكون مع قيامه بما أمره الله به من الجهاد، والعلم، والعبادة، وغير ذلك عاجزًا عن الكسب، كالذين ذكرهم الله في قوله‏:‏
‏{لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏، والذين ذكرهم الله في قوله‏:‏ ‏{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏‏.‏
فالصنف الأول، أهل صدقات، والصنف الثاني، أهل الفىء، كما قال تعالى في الصنف الأول‏:‏ ‏
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271273‏]‏، وقال في الصنف الثاني‏:‏ ‏{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7- 9‏]‏ ‏.‏ فذكر المهاجرين والأنصار وكان المهاجرون تغلب

 

ص -532-

عليهم التجارة، والأنصار تغلب عليهم الزراعة، وقد قال للطائفتين‏:‏ ‏{أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏، فذكر زكاة التجارة وزكاة الخارج من الأرض وهو العشر، أو نصف العشر، أو ربع العشر‏.‏
ومن السالكين من يمكنه الكسب مع ذلك وقد قال  تعالى  لما أمرهم بقيام الليل‏:‏
{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، فجعل المسلمين أربعة أصناف، صنفًا أهل القرآن والعلم والعبادة، وصنفًا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وصنفًا يجاهدون في سبيل الله، والرابع المعذورون‏.‏
وأما قول القائل‏:‏ إن الغذاء والقوام هو من فعل الله، فلا يمكن طلبه كالحياة، فليس كذلك هو، بل ما فعل الله بأسباب يمكن طلبه بطلب الأسباب كما مثله في الحياة والموت، فإن الموت يمكن طلبه ودفعه بالأسباب التي قدرها الله، فإذا أردنا أن يموت عدو الله سعينا في قتله، وإذا أردنا دفع ذلك عن المؤمنين دفعناه بما شرع الله الدفع به، قال تعالى في داود عليه السلام‏:
‏ ‏{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 80‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، وهذا مثل دفع الحر والبرد عنا هو من فعل الله، فاللباس، والاكتساب، ومثل دفع الجوع، والعطش، هو من فعل الله بالطعام والشراب‏.‏

 

ص -533-

وهذا كما أن إزهاق الروح، هو من فعل الله، ويمكن طلبه بالقتل وحصول العلم والهدى في القلب، هو من فعل الله ويمكن طلبه بأسبابه المأمور بها وبالدعاء‏.‏
وقول القائل‏:‏ إن الله يفعل بسبب وبغير سبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب‏.‏
جوابه أن يقال له‏:‏ ليس الأمر كذلك، بل جميع ما يخلقه الله ويقدره إنما يخلقه ويقدره بأسباب، لكن من الأسباب ما يخرج عن قدرة العبد، ومنها ما يكون مقدورًا له، ومن الأسباب ما يفعله العبد، ومنها ما لا يفعله‏.‏
والأسباب منها، معتاد، ومنها نادر، فإنه في بعض الأعوام قد يمسك المطر ويغذي الزرع بريح يرسلها، وكما يكثر الطعام والشراب بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل الصالح، فهو أيضًا سبب من الأسباب، ولا ريب أن الرزق قد يأتي على أيدي الخلق، فمن الناس من يأتيه برزقه جنى أو ملك أو بعض الطير والبهائم‏.‏ وهذا نادر، والجمهور إنما يرزقون بواسطة بني آدم مثل أكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، أو نذرًا، وإما غير ذلك، مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم‏.‏

 

ص -534-

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يا ابن آدم، إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسك الفضل شر لك، ولا يلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى‏"‏، وفي حديث آخر صحيح‏:‏ ‏"‏يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى‏"‏‏.‏
وبعض الناس يزعم أن يد السائل الآخذ هي العليا؛ لأن الصدقة تقع بيد الحق، وهذا خلاف نص رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر، أن يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى ‏.‏
وقول القائل‏:‏ إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا‏.‏
فيقال له‏:‏ هذا لا يمنع وجوب الأسباب على ما يجب، فإن فيما ضمنه رزق الأطفال والبهائم والزوجات، ومع هذا، فيجب على الرجل أن ينفق على ولده وبهائمه وزوجته، بإجماع المسلمين ونفقته على نفسه أوجب عليه‏.‏
وقول القائل‏:‏ كيف يطلب مالا يعرف مكانه‏؟‏
جوابه‏:‏ أنه يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته؛ مثل الذي يشق الأرض، ويلقي الحب، ويتوكل علي الله في إنزال المطر، وإنبات الزرع، ودفع المؤذيات، وكذلك التاجر غاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها، وأما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا

 

ص -535-

ليس مقدورًا للعبد، ومن فعل ما قدر عليه لم يعاقبه الله بما عجز عنه، والطلب لا يتوجه إلى شيء معين، بل إلى ما يكفيه من الرزق، كالداعي الذي يطلب من الله رزقه وكفايته من غير تعيين‏.‏
فصل
فإذا عرف ذلك، فمن الكسب ما يكون واجبًا، مثل الرجل المحتاج إلى نفقته على نفسه، أو عياله، أو قضاء دينه، وهو قادر على الكسب، وليس هو مشغولاً بأمر أمره الله به، هو أفضل عند الله من الكسب، فهذا يجب عليه الكسب باتفاق العلماء، وإذا تركه كان عاصيًا آثمًا‏.‏
ومنه ما يكون مستحبًا، مثل هذا إذا اكتسب ما يتصدق به، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
"‏على كل مسلم صدقة‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ فمن لم يجد ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏يعمل بيده ينفع نفسه ويتصدق‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يجد‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏يعين ذا الحاجة الملهوف‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يجد، قال‏:‏ ‏"‏فليأمر بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة‏"‏‏.‏

 

ص -536-

فصل
وأما قول القائل‏:‏ إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقًا، فليس الأمر كذلك، بل عامة الأنبياء كانوا يفعلون أسبابًا يحصل بها الرزق، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏"‏‏.‏وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه‏"‏، وكان داود يأكل من كسبه، وكان يصنع الدروع، وكان زكريا نجارًا، وكان الخليل له ماشية كثيرة حتى إنه كان يقدم للضيف الذين لا يعرفهم عجلاً سمينًا، وهذا إنما يكون مع اليسار‏.‏
وخيار الأولياء المتوكلين، المهاجرون والأنصار، وأبو بكر الصديق  رضي الله عنه  أفضل الأولياء المتوكلين، بعد الأنبياء‏.‏ وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها، كان الصديق تاجرًا، وكان يأخد ما يحصل له من المغنم، ولما ولى

 

ص -537-

الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان، وقد أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما تركت لأهلك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ تركت لهم الله ورسوله، ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئًا لا صدقة، ولا فتوحًا، ولا نذرًا، بل إنما كان يعيش من كسبه‏.‏
بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانًا أنه يقتدى بالصديق، وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة، فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق، بل في المسند‏:‏ أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه، ولا يقول لأحد‏:‏ ناولني إياه، ويقول‏:‏ إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا‏.‏ فأين هذا ممن جعل الكدية وسؤال الناس طريقًا إلى الله، حتى إنهم يأمرون المريد بالمسألة للخلق‏.‏
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم مسألة الناس، إلا عند الضرورة، وقال‏
:‏ ‏"‏لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ‏.‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏، فأمره أن تكون رغبته إلى الله وحده‏.‏
ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصًا، وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم، وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات، وهو طريق أنبياء الله، وقد أمر العباد بسؤاله فقال‏:‏
{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏، ومدح

 

ص -538-

الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة‏.‏ ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم، كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب‏.‏
ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقى في النار قال له جبرائيل‏:‏ هل لك من حاجة ‏؟‏ فقال‏:‏ أما إليك فلا، قال‏:‏ سل ‏.‏قال‏:‏ ‏"‏حسبي من سؤالي علمه بحالي‏"‏‏.‏ وأول هذا الحديث معروف، وهو قوله‏:‏ أما إليك فلا؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، أنه قالها إبراهيم حين ألقي في النار‏.‏ وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم‏.‏
وأما قوله‏:‏ حسبي من سؤالي علمه بحالي، فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل، وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة، كقولهم‏:‏
‏{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏، ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها، فكيف يكون مجرد العلم مسقطًا لما خلقه وأمر به‏؟‏‏!‏ والله أعلم‏.‏ وصلى الله على محمد وسلم‏.‏

 

ص -539-

سئل شيخ الإسلام عن الرزق‏:‏ هل يزيد أو ينقص‏؟‏ وهل هو ما أكل، أو ما ملكه العبد‏؟‏
فأجاب‏:‏
الرزق نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ ماعلمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يتغير‏.‏
والثاني‏:‏ ما كتبه وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب، فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتب له رزقًا، وإن وصل رحمه زاده الله على ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏من سره أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه‏"‏‏.‏ وكذلك عمر داود زاد ستين سنة فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين‏.‏ ومن هذا الباب قول عمر‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت‏.‏
ومن هذا الباب‏:‏ قوله تعالى عن نوح‏:‏
‏{أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏.‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 3، 4‏]‏ وشواهده كثيرة‏.‏
والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه، واكتسابه، ألهمه السعي، والاكتساب،

 

ص -540-

وذلك الذي قدره له بالاكتساب، لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه، يأتيه به بغير اكتساب ‏.‏ والسعي سعيان، سعى فيما نصب للرزق؛ كالصناعة والزراعة والتجارة‏.‏ وسعى بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‏.‏
فصل
والرزق يراد به شيئان‏:‏
أحدهما‏:‏ ما ينتفع به العبد ‏.‏
والثاني‏:‏ ما يملكه العبد، فهذا الثاني هو المذكور في قوله‏:‏
‏{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏، وهذا هو الحلال الذي ملكه الله إياه‏.‏
وأما الأول‏:‏ فهو المذكور في قوله‏:‏
‏{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها‏"‏ ونحو ذلك‏.‏
والعبد قد يأكل الحلال، والحرام، فهو رزق بهذا الاعتبار، لا بالاعتبار الثاني، وما اكتسبه، ولم ينتفع به هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول، فإن هذا في الحقيقة مال وارثه لا ماله، والله أعلم‏.‏

 

ص -541-

سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام، أوحد عصره، فريد دهره، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية  رحمه الله ورضى عنه  عن الرجل‏:‏ إذا قطع الطريق وسرق، أو أكل الحرام ونحو ذلك، هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له‏.‏ولا يحب ذلك ولا يرضاه‏.‏ولا أمره أن ينفق منه‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏، ونحو ذلك لم يدخل فيه الحرام، بل من أنفق من الحرام، فإن الله تعالى يذمه، ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة، بحسب دينه، وقد قال الله‏:‏ ‏{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏، وهذا أكل المال بالباطل‏.‏
ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل

 

ص -542-

ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد‏"‏، فكما أن الله كتب ما يعمله من خير وشر، وهو يثيبه على الخير، ويعاقبه على الشر‏.‏ فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام، مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام‏.‏
ولهذا كل مافي الوجود واقع بمشيئة الله وقدره، كما تقع سائر الأعمال، لكن لا عذر لأحد بالقدر، بل القدر يؤمن به، وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر، بل لله الحجة البالغة، ومن احتج بالقدر على ركوب المعاصي، فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، كالذين قالوا‏:‏ ‏
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، والذين قالوا‏:‏ ‏{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ ‏.‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56، 57‏]‏
وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده، فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأما من ليس من المتقين، فضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا، ثم يعاقبه في الأخرة، كما قال عن الخليل‏:‏ ‏
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏قال الله‏:‏ ‏{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏‏.‏

 

ص -543-

والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته، لم يبحه لمن يستعين به على معصيته، بل هؤلاء وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم، كما قال‏:‏ ‏{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، فإنما أباح الأنعام لمن يحرم عليه الصيد في الإحرام‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏، فكما أن كل حيوان يأكل ما قدر له من الرزق، فإنه يعاقب على أخذ مالم يبح له، سواء كان محرم الجنس، أو كان مستعينا به على معصية الله، ولهذا كانت أموال الكفار غير مغصوبة، بل مباحة للمؤمنين، وتسمى فيئًا إذا عادت إلى المؤمنين؛ لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله لا من يعصيه بها، فالمؤمنون يأخذونها بحكم الاستحقاق، والكفار يعتدون في إنفاقها، كما أنهم يعتدون في أعمالهم، فإذا عادت إلى المؤمنين فقد فاءت إليهم كما يفىء المال إلى مستحقه‏.‏

 

ص -544-

وسئل عن الخمر، والحرام‏:‏ هل هو رزق الله للجهال‏؟‏ أم يأكلون ما قدر لهم‏؟‏
فأجاب‏:‏
إن لفظ الرزق يراد به ما أباحه الله تعالى للعبد، وملكه إياه، ويراد به ما يتغذى به العبد‏.‏
فالأول كقوله‏:‏ ‏
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏، ‏{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، فهذا الرزق هو الحلال، والمملوك لا يدخل فيه الخمر والحرام‏.‏
والثاني كقوله‏:‏
‏{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏، والله تعالى يرزق البهائم، ولا توصف بأنها تملك، ولا بأنه أباح الله ذلك لها إباحة شرعية، فإنه لا تكليف على البهائم  وكذلك الأطفال والمجانين  لكن ليس بمملوك لها وليس بمحرم عليها، وإنما المحرم بعض الذي يتغذى به العبد، وهو من الرزق الذي علم الله أنه يغتذى به‏.‏ وقدر ذلك بخلاف ما أباحه وملكه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يجمع خلق أحدكم في بطن أمه

 

ص -545-

أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏ اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح‏.‏ قال‏:‏ فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏"‏‏.‏
والرزق الحرام، مما قدره الله، وكتبته الملائكة، وهو مما دخل تحت مشيئة الله، وخلقه، وهو مع ذلك قد حرمه، ونهى عنه، فلفاعله من غضبه وذمه وعقوبته ما هو أهله، والله أعلم‏.‏

 

ص -546-

سئل الشيخ  رحمه الله  عن قول الشيخ عبد القادر‏:‏ نازعت أقدار الحق بالحق للحق‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، جميع الحوادث كائنة بقضاء الله وقدره، وقد أمرنا الله سبحانه أن نزيل الشر بالخير بحسب الإمكان‏.‏ ونزيل الكفر بالإيمان والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة من أنفسنا ومن عندنا، فكل من كفر أو فسق أو عصى فعليه أن يتوب، وإن كان ذلك بقدر الله، وعليه أن يأمر غيره بالمعروف، وينهاه عن المنكر بحسب الإمكان، ويجاهد في سبيل الله، وإن كان ما يعمله من المنكر والكفر والفسوق والعصيان بقدر الله، ليس للإنسان أن يدع السعي فيما ينفعه الله به متكلاً على القدر، بل يفعل ما أمر الله ورسوله، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف‏.‏ وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن‏.‏ وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏‏.‏
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرص على ما ينفعه، والذي ينفعه

 

ص -547-

يحتاج إلى منازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قدر من الشر بما قدره الله من الخير‏.‏ وعليه مع ذلك أن يستعين بالله فإنه لا حول ولا قوة إلا به‏.‏ وأن يكون عمله خالصا لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وهذا حقيقة قولك‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ والذي قبله حقيقة‏:‏ ‏{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ فعليه أن يعبد الله بفعل المأمور وترك المحظور، وأن يكون مستعينًا بالله على ذلك، وفي عبادة الله وطاعته فيما أمر إزالة ما قدر من الشر بما قدر من الخير، ودفع ما يريده الشيطان، ويسعى فيه من الشر قبل أن يصل بما يدفعه الله به من الخير‏.‏
قال الله تعالى‏:‏
‏{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 251‏]‏ كما يدفع شر الكفار والفجار الذي في نفوسهم والذي سعوا فيه بالحق كإعداد القوة ورباط الخيل، وكالدعاء والصدقة الذين يدفعان البلاء كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض‏"‏ فالشر تارة يكون قد انعقد سببه وخيف فيدفع وصوله، فيدفع الكفار إذا قصدوا بلاد الإسلام، وتارة يكون قد وجد فيزال وتبدل السيئات بالحسنات وكل هذا من باب دفع ما قدر من الشر بما قدر من الخير‏.‏ وهذا واجب تارة، ومستحب تارة‏.‏
فالذي ذكره الشيخ  رحمه الله  هو الذي أمر الله به ورسوله‏.‏

 

ص -548-

والمقصود من ذلك أن كثيرًا من أهل السلوك والإرادة يشهدون ربوبية الرب، وما قدره من الأمور التي ينهى عنها فيقفون عند شهود هذه الحقيقة الكونية، ويظنون أن هذا من باب الرضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال قد يؤدي إلى الكفر، والانسلاخ من الدين‏.‏ فإن الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏
والله تعالى قد قال‏:‏
‏{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏ وقال‏:‏ ‏{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ فكيف يأمرنا أن نرضى لأنفسنا مالا يرضاه لنا، وهو جعل ما يكون من الشر محنة لنا وابتلاءً كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏، وقال تعالى بعد أمره بالقتال‏:‏ ‏{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له‏"‏‏.‏
فالمؤمن إذا كان صبورًا شكورًا، يكون ما يقضي عليه من المصائب خيرًا

 

ص -549-

له، وإذا كان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في سبيله، كان ما قدر له من كفر الكفار سبب للخير في حقه، وكذلك إذا دعاه الشيطان والهوى كان ذلك سببًا لما حصل له من الخير، فيكون ما يقدر من الشر إذا نازعه ودافعه، كما أمره الله ورسوله سببًا لما يحصل له من البر والتقوى وحصول الخير والثواب وارتفاع الدرجات‏.‏
فهذا وأمثاله مما يبين معنى هذا الكلام‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -550-

وسئل عن قول الخطيب بن نباتة‏:‏ أبرأ من الحول والقوة إلا إليه، فأنكر بعض الناس عليه وقال‏:‏ ما يصح ذلك إلا بحذف الاستثناء بأن تقول أبرأ من الحول والقوة إليه، فاستدل من نصر قول الخطيب بقوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏.‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26، 27‏]‏ فهل أصاب المنكر أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
ما ذكر الخطيب صحيح باعتبار المعنى الذي قصده، وما ذكره الآخر من حذف الاستثناء له معنى آخر صحيح، فإنه إذا قال‏:‏ برئت من الحول والقوة إليه كان المعنى برئت إليه من حولي وقوتي‏:‏ أي من دعوى حولي وقوتي، كما يقال‏:‏ برئت إلى فلان من الدين، ذكره ثعلب في فصيحه، والمعنى برئت إليه من هذا ومنه قوله تعالى‏:‏
‏{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ‏.‏ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62، 63‏]‏، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد‏"‏ وقول الأنصاري يوم أحد‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين‏.‏

 

ص -551-

وهذا الصنيع يتضمن نفي الدين، المعنى أوصلته إليه، وفي غيره اعتذرت إليه، أو ألقيت إليه وضمن معنى ألقيت إليه‏:‏ البراءة، كما يقال‏:‏ ألقى إليه القول، ‏{فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏.‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86، 87‏]‏، و منه قوله تعالى‏:‏ ‏{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ فالتبري قول يلقي إلى المخاطب، فعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقًا بالبراءة‏.‏
والخطيب لم يرد هذا المعنى، بل أراد أنه برىء من أن يلجئ ظهره إلا إلى الله، ويفوض أمره إلا إلى الله، ويتوجه في أمره إلا إلى الله، ويرغب في أمره إلا إلى الله‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب‏:‏
‏"‏إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل‏:‏ اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك‏"‏ فمعنى قوله‏:‏ وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه‏:‏ أبرأ من أن أثبت لغيره حولاً وقوة ألتجئ إليه لأجل ذلك‏.‏ والمعنى لا أتوكل إلا عليه ولا أعتمد إلا عليه‏.‏
وهنا معنى ثالث‏:‏ وهو أن يقال‏:‏ أبرأ من الحول والقوة إلا به، أي أبرأ من أن أتبرأ وأعتقد وأدعى حولا أو قوة إلا به، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وهذا معنى صحيح، لكن الخطيب قصد المعنى الأوسط الذي يدل لفظه عليه، فإنه من له حول وقوة يلجأ إليه ويستند إليه، فضمن معنى الحول والقوة معنى الالتجاء، فصار التقدير أبرأ من الالتجاء إلا إليه، وعلى

 

ص -552-

هذا الحال فالجار والمجرور متعلق بمعنى الالتجاء الذي دل عليه لفظ الحول والقوة، لا معنى أبرأ، ولما ظن المنكر على الخطيب أن الجار والمجرور متعلق بلفظ أبرأ، أنكر الاستثناء، ولو أراد الخطيب هذا لكان حذف حرف الاستثناء هو الواجب، لكن لم يرده بل أراد مالا يصح إلا مع الاستثناء، والاستثناء مفرغ، فرغ ما قبل الاستثناء لما بعده، والمفرغ يكون من غير الموجب لفظًا أو معنى‏.‏
ولفظ البراءة وإن كان مثبتًا ففيه معنى السلب، فهو كقوله‏:‏ ‏
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏.‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏
فالحفظ لفظ مثبت لكن تضمن معنى ما سوى المذكور، فالتقدير‏:‏ لا يكشفونها إلا على أزواجهم، وكذلك لفظ البراءة، وقول الخليل‏:
‏ ‏{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏.‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26، 27‏]‏، استثناء تام ذكر فيه المستثنى منه، لكنه يدل على أنه تبرأ من شيء لا من لا شيء، والمطابق له أن يقال‏:‏ برئت من الحول والقوة إلى كل شيء إلا إليه‏.‏
لكن المستدل بالآية أخذ قدرًا مشتركًا، وهو التبري مما سوى الله، وهذا المعنى الذي قصده المستدل بالآية معنى صحيح باعتبار دلالته على التوحيد، وهو البراءة مما سوى الله، وقد ذكر الله هذا المعنى في مواضع؛كقوله تعالى‏:‏

 

ص -553-

‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ وهذا يناسب مقصود الخطيب‏.‏
فإن مقصوده أن يتبرأ مما سوى الله ليس مقصوده أن يتبرأ إليه، لكن الخطيب قصد البراءة من الالتجاء إلا إليه، والالتجاء إليه داخل في عبادته، فهو بعض ما دل عليه قول إبراهيم‏.‏ فإن الواجب أن يتبرؤوا من أن يعبدوا إلا الله، أو يتوكلوا إلا عليه، وهذا تحقيق التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، لكن الإنسان قد يكون مقصوده إخلاص العبادة في مسألته ودعائه والتوكل عليه والالتجاء إليه، وهذا هو المعنى الذي قصده الخطيب، وهو معنى صحيح يدل عليه لفظه بحقائق دلالات الألفاظ، والمنكر قصد معنى صحيحًا، والمستدل قصد معنى صحيحًا، لكن الإنسان لا ينوي كثيرًا من نفي ما لا يعلم إلا من إثبات ما يعلم، والله سبحانه وتعالى أعلم ‏.‏
                                                                                                           آخر المجلد الثامن‏.

 

ص -554-