عنوان الكتاب:

مجموع فتاوى ابن تيمية – الجزء التاسع عشر

تأليف:

أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

728هـ

دراسة وتحقيق:

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم

الناشر:

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية

1416هـ/1995م

مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد التاسع عشر
"أصول الفقه"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده‏.
فَصل: الكتاب والسنة والإجماع واجبة الاتباع
الكتاب والسنة والإجماع، وبإزائه لقوم آخرين المنامات والإسرائيليات والحكايات؛ وذلك أن الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله، وذلك في حقنا، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع، وأما ما لم تجئ به الرسل عن الله، أو جاءت به ولكن ليس لنا طريق موصلة إلي العلم به، ففيه الحق والباطل؛ فلهذا كانت الحجة الواجبة الاتباع للكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه، واجب الاتباع لا يجوز تركه بحال، عام الوجوب، لا يجوز ترك شيء مما دلت عليه هذه الأصول، وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه، وهي مبنية على أصلين‏:‏

 

ص -5-

* أحدهما‏:‏ أن هذا جاء به الرسول‏.‏
* والثاني‏:‏ أن ما جاء به الرسول وجب اتباعه‏.‏
وهذه الثانية إيمانية ضدها الكفر و النفاق، وقد دخل في بعض ذلك طوائف من المتكلمة والمتفلسفة والمتأمرة والمتصوفة؛ إما بناء على نوع تقصير بالرسالة، وإما بناء على نوع تفضل عليها، وإما على عين إعراض عنها، وإما على أنها لا تقبل إلا في شيء يتغير، كالفروع  مثلاً  دون الأصول العقلية أو السياسية، أو غير ذلك من الأمور القادحة في الإيمان بالرسالة‏.‏
أما الأولي، فهي مقدمة علمية مبناها على العلم بالإسناد والعلم بالمتن، وذلك لأهل العلم بالكتاب والسنة والإجماع لفظًا ومعني، وإسنادًا ومتنًا، وأما ما سوى ذلك، فإما أن يكون مأثورًا عن الأنبياء أو لا‏:‏
أما الأول‏:‏ فيدخل فيه الإسرائيليات مما بأيدي المسلمين وأيدي أهل الكتاب، وذلك قد لَبِسَ حقه بباطله، قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏
‏"‏إذا حَدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه‏"‏، ولكن يسمع ويروي إذا علمنا موافقته لما علمناه؛ لأنه مؤنس مؤكد،

 

ص -6-

وقد علم أنه حق، وأما إثبات حكم بمجرده فلا يجوز اتفاقًا، وشرع من قبلنا إنما هو شرع لنا فيما ثبت أنه شرع لهم، دون ما رووه لنا، وهذا يغلط فيه كثير من المتعبدة والقصاص وبعض أهل التفسير، وبعض أهل الكلام‏.‏
وأما الثاني‏:‏ فما يروي عن الأوائل من المتفلسفة ونحوهم، وما يلقي في قلوب المسلمين يقظة ومنامًا، وما دلت عليه الأقيسة الأصلية أو الفرعية، وما قاله الأكابر من هذه الملة  علمائها وأمرائها  فهذا التقليد والقياس والإلهام فيه الحق والباطل، لا يرد كله، ولا يقبل كله، وأضعفه ما كان منقولاً عمن ليس قوله حجة بإسناد ضعيف، مثل المأثور عن الأوائل، بخلاف المأثور عن بعض أئمتنا مما صح نقله، فإن هذا نقله صحيح، ولكن القائل قد يخطئ وقد يصيب، ومن التقليد تقليد أفعال بعض الناس، وهو الحكايات‏.‏
ثم هذه الأمور لا ترد ردًا مطلقًا لما فيها من حق موافق، ولا تقبل قبولاً مطلقًا لما فيها من الباطل، بل يقبل منها ما وافق الحق، ويرد منها ما كان باطلاً‏.‏
والأقيسة العقلية الأصلية والفرعية الشرعية هي من هذا الباب، فليست العقليات كلها صحيحة، ولا كلها فاسدة، بل فيها حق وباطل،

 

ص -7-

بل ما في الكتاب والسنة والإجماع، فإنه حق ليس فيه باطل بحال، فما علم من العقليات أنه حق فهو حق، لكن كثير من أهلها يجعلون الظن يقينًا بشبهة وشهوة، وهم‏:‏ ‏{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏، ويدلك على ذلك كثرة نزاعهم  مع ذكائهم  في مسائل ودلائل يجعلها أحدهم قطعية الصحة، ويجعلها الآخر قطعية الفساد، بل الشخص الواحد يقطع بصحتها تارة وبفسادها أخري، وليس في المنزل من عند الله شيء‏.‏ أكثر ما في الباب أنه إذا تمني ألقي الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ويحكم الله آياته، والله علىم حكيم، فغاية ذلك غلط في اللسان يتداركه الله فلا يدوم‏.‏
وجميع ما تلقته الأمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا باطل فيه، وهدي لا ضلال فيه، ونور لا ظلمة فيه، وشفاء ونجاة‏.‏
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏

 

ص -8-

فَصل: في عموم رسالة الرسول للثقلين
يجب على الإنسان أن يعلم أن الله  عز وجل  أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إلي جميع الثقلين‏:‏ الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلَّل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله، ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله  تعالى  كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول‏.‏
وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين‏:‏ أهل السنة والجماعة، وغيرهم  رضي

 

ص -9-

الله عنهم أجمعين  لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصاري، فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك‏.‏ وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين؛ كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك‏.‏
وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره، كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترًا عن الأنبياء تواترًا ظاهرًا تعرفه العامة والخاصة؛ لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم، كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة، ولا إنكار معاد الأبدان ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له، ولا إنكار أن يرسل الله رسولاً من الإنس إلي خلقه، ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترًا تعرفه العامة والخاصة، كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسي إلي فرعون وغرق فرعون، ومجيء المسيح إلي اليهود وعداوتهم له، وظهور محمد

 

ص -10-

صلى الله عليه وسلم بمكة وهجرته إلي المدينة، ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة، وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه، كتكثير الطعام والشراب، والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله، وغير ذلك‏.‏
ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقوله‏:
‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 43‏]‏؛ فإن من الكفار من أنكر أن يكون الله رسول بشر، فأخبر الله أن الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرًا، وأمر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم‏.‏
وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء، وكفر به الكافرون، قال تعالى‏:‏
‏{قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏} ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏94‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏} ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي، وقد علموا أن محمدًا لم يتعلم

 

ص -11-

من أهل الكتاب شيئًا‏.‏
وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته في كتبهم، كقوله تعالى‏:
‏ ‏{أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 197‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏
وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم، كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض، فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من أهل الجهل والضلال؛ ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة، كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما، دخول الجن في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك؛ ولهذا ذكر الأشعري في ‏[‏مقالات أهل السنة والجماعة‏]‏ أنهم يقولون‏:‏ إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى‏:‏ ‏
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏:‏ قلت لأبي‏:‏ إن قومًا يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي‏.‏ فقال‏:‏ يابني، يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه‏.‏ وهذا مبسوط في موضعه‏.‏

 

ص -12-

والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن،وكذلك جمهور الكفار، كعامة أهل الكتاب، وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد سام، والهند وغيرهم من أولاد حام، وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث، فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن، بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم، سواء أكان ذلك سائغًا عند أهل الإيمان أو كان شركًا، فإن المشركين يقرؤون من العزائم والطلاسم والرقي ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم، وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقي التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن‏.‏ ولهذا نهي علماء المسلمين عن الرقي التي لا يفقه معناها؛ لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشْجَعي، قال‏:‏ كنا نرقي في الجاهلية فقلنا‏:‏ يارسول الله، كيف تري في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم  أيضًا  عن جابر قال‏:‏ نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي، فجاء آل عمرو بن حزم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يارسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقي، قال‏:‏ فعرضوها عليه، فقال‏:‏ ‏"‏ما أرى بأسًا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه‏"‏‏.‏

 

ص -13-

وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها، وأخبار العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم، ولكن المسلمين أخْبَرُ بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم؛ إذ كان خير القرون كانوا عربًا، وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه في الجاهلية، وكان ذلك من أسباب نزول القرآن، فذكروا في كتب التفسير والحديث والسير والمغازي والفقه، فتواترت أيام جاهلية العرب في المسلمين، وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين في هذا، وبعضهم كان أشد كفرًا وضلالاً من مشركي العرب، وبعضهم أخف‏.‏
والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجودًا في العرب، فليس شيء من الآيات مختصًا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين، وإنما تنازعوا‏:‏ هل يختص بنوع السبب المسؤول عنه‏؟‏ وأما بعين السبب فلم يقل أحد من المسلمين‏:‏ إن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين  وغير ذلك  يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية‏.‏
وهذا الذي يسميه بعض الناس‏:‏ تَنقِيح المناط، وهو أن يكون

 

ص -14-

الرسول صلى الله عليه وسلم حكم في معين، وقد علم أن الحكم لا يختص به، فيريد أن ينقح مناط الحكم، ليعلم النوع الذي حكم فيه، كما أنه لما أمر الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان بالكفارة، وقد علم أن الحكم لا يختص به، وعلم أن كونه أعرابيًا أو عربيًا أو الموطوءة زوجته لا أثر له، فلو وطئ المسلم العجمي سَرِيَّته كان الحكم كذلك‏.‏
ولكن هل المؤثر في الكفارة كونه مجامعًا في رمضان أو كونه مفطرًا‏؟‏ فالأول‏:‏ مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، والثاني‏:‏ مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو رواية منصوصة عن أحمد في الحجامة فغيرها أولي، ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر، وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه، فلا يوجبه في ابتلاع الحصاة والنواة‏.‏
وتنازعوا‏:‏ هل يشترط أن يكون أفسد صومًا صحيحًا‏؟‏ وأحمد لا يشترط ذلك، بل كل إمساك وجب في شهر رمضان أوجب فيه الكفارة، كما يوجب الأربعة مثل ذلك في الإحرام الفاسد، فالصيام الفاسد عنده كالإحرام الفاسد، كلاهما يجب إتمامه والمضي فيه، والشافعي وغيره لا يوجبونها إلا في صوم صحيح، والنزاع فيمن أكل ثم جامع أو لم ينو الصوم ثم جامع، ومن جامع وكفَّر ثم جامع‏.‏
ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة في جُبَّةٍ مُتضَمخًا بالخلوق‏:‏ ‏"‏انزع

 

ص -15-

عنك الجبَّة واغسل عنك أثر الصُّفرة‏"‏، هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك‏؟‏ أو لكونه نهي أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة‏؟‏ وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له في حجة الوداع‏؟‏‏.‏
ومثل قوله لما سئل عن فأرة وقعت في سَمْنٍ‏:‏ ‏"‏ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم‏"‏، هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة، أو بكونه جامدًا، أو كونها فأرة وقعت في سمن، فلا يتعدي إلي سائر المائعات‏؟‏ ومثل هذا كثير، وهذا لابد منه في الشرائع، ولا يسمي قياسًا عند كثير من العلماء كأبي حنيفة ونفاة القياس؛ لاتفاق الناس على العمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو‏:‏ أن يعلق الشارع الحكم بمعني كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان، كأمره باستقبال الكعبة، وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضي من الشهداء، وكتحريمه الخمر والميسر، وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة، وكتفريقه بين الفدية والطلاق، وغير ذلك‏.‏
فيبقي النظر في بعض الأنواع‏:‏ هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق‏؟‏ وفي بعض الأعيان‏:‏ هل هي من هذا النوع‏؟‏ وهل هذا المصلي مستقبل القبلة‏؟‏ وهذا الشخص عدل مرضي‏؟‏ ونحو ذلك؛ فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين، بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم‏.‏

 

ص -16-

وحقيقة ذلك يرجع إلي تمثيل الشيء بنظيره وإدراج الجزئي تحت الكلي، وذاك يسمي قياس التمثيل، وهذا يسمي قياس الشمول، وهما متلازمان، فإن القدر المشترك بين الأفراد في قياس الشمول  الذي يسميه المنطقيون‏:‏ الحد الأوسط  هو القدر المشترك في قياس التمثيل الذي يسميه الأصوليون‏:‏ الجامع، والمناط، والعلة، والأمارة، والداعي، والباعث، والمقتضي، والموجب، والمشترك، وغير ذلك من العبارات‏.‏
وأما تخريج المناط وهو‏:‏ القياس المحض، وهو‏:‏ أن ينص على حكم في أمور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها؛ إما لانتفاء الفارق، أو للاشتراك في الوصف الذي قام الدليل على أن الشارع علق الحكم في الأصل، فهذا هو القياس الذي تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس‏.‏ وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذي علق الشارع الحكم به، وهو الذي يسمي سؤال المطالبة، وهو‏:‏ مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم، أو دليل العلة‏.‏ فأكثر غلط القَائِسِين من ظنهم علة في الأصل ما ليس بعلة؛ ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد‏.‏ فأما إذا قام دليل على إلغاء الفارق، وأنه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين، أو قام

 

ص -17-

الدليل على أن المعني الفلاني هو الذي لأجله حكم الشارع بهذا الحكم في الأصل وهو موجود في صورة أخري، فهذا القياس لا ينازع فيه إلا من لم يعرف هاتين المقدمتين‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة للثقلين‏:‏ الإنس والجن على اختلاف أجناسهم، فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلاً، بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر، ومؤمن ومنافق، وبر وفاجر، ومحسن وظالم، وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث، وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور، كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بألا يسترقوا، وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون، كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة، حيث استرق بني المصطلق وفيهم جويرية بنت الحارث، ثم أعتقها وتزوجها، وأعتق بسببها من استرق من قومها‏.‏
وقال في حديث هوازن‏:‏ ‏"‏اختاروا إحدي الطائفتين‏:‏ إما السَّبْي، وإما المال‏"‏، وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏
‏"‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله وحده

 

ص -18-

لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات؛ كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل‏"‏‏.‏
وفي الصحيحين  أيضًا  عن أبي هريرة، أنه كانت سَبْيةٌ من سبي هوازن عند عائشة فقال‏:‏ ‏
"‏أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل‏"‏، وعامة من استرقه الرسول صلى الله عليه وسلم من النساء والصبيان كانوا عربًا، وذكر هذا يطول‏.‏
ولكن عمر بن الخطاب لما رأي كثرة السبي من العجم، واستغناء الناس عن استرقاق العرب، رأي أن يعتقوا العرب، من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة، لا من باب الحكم الشرعي الذي يلزم الخلق كلهم، فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر، وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين‏.‏
وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم، ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك، ومنهم من لا يأخذها إلا من أهل الكتاب والمجوس؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب‏.‏
فمن قال‏:‏ تؤخذ من كل كافر‏.‏قال‏:‏ إن آية الجزية لما نزلت

 

ص -19-

أسلم مشركو العرب، فإنها نزلت عام تبوك، ولم يبق عربي مشرك محاربًا، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليغزو النصاري عام تبوك بجميع المسلمين  إلا من عذر الله  ويدع الحجاز وفيه من يحاربه، ويبعث أبا بكر عام تسع فنادي في الموسم‏:‏ ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ونبذ العهود المطلقة، وأبقي المؤقتة، مادام أهلها موفين بالعهد، كما أمر الله بذلك في أول سورة التوبة، وَأنْظَر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر، وأمر عند انسلاخها بغزو المشركين كافة، قالوا‏:‏ فدان المشركون كلهم كافة بالإسلام، ولم يرض بذل أداء الجزية؛ لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون؛ إذ كان عامة العرب قد أسلموا، فلم يبق لمشركي العرب عز يعتزون به، فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله في العرب بالحجة والبيان والسيف والسِّنان‏.‏
وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏أُمِرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة‏"‏، مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول ‏[‏براءة‏]‏ يعاهد من عاهده من الكفار

 

ص -20-

من غير أن يعطي الجزية عن يد، فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة؛ لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم، بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال‏:‏‏{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، وكان دين أهل الكتاب خيرًا من دين المشركين، ومع هذا فأمروا بقتالهم حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة، فالمشركون أولي بذلك ألا تجوز معاهدتهم بدون ذلك‏.‏
قالوا‏:‏ فكان في تخصيص أهل الكتاب بالذكر؛ تنبيهًا بطريق الأولي على ترك معاهدة المشركين بدون الصَّغَار والجزية، كما كان يعاهدهم في مثل هدنة الحديبية، وغير ذلك من المعاهدات‏.‏
قالوا‏:‏ وقد ثبت في الصحيح من حديث بُريدَة قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرَّ أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال‏:‏ ‏
"‏اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولاتمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلي ثلاث خصال  أو خلال  فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم

 

ص -21-

وكف عنهم؛ ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلي التحول من دارهم إلي دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تَخْفُروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا‏"‏‏.‏
قالوا‏:‏ ففي الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار إلي الإسلام ثم إلي الهجرة إلي الأمصار، وإلا فإلي أداء الجزية، وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين، والأعراب عامتهم كانوا مشركين، فدل على أنه دعا إلي أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب‏.‏ والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية، وأهل اليمن كان

 

ص -22-

فيهم مشركون وأهل كتاب، وأمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا، ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب، فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب، ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدي الجزية‏.‏
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا، وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعًا، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر، بل حاربهم قبل نزول آية الجزية، وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلي أن أجلاهم عمر؛ لأنهم كانوا مهادنين له، وكانوا فلاحين في الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم، ثم أمر بإجلائهم قبل موته، وأمر بإخراج اليهود والنصاري من جزيرة العرب، فقيل‏:‏ هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب، وقيل‏:‏ بل هو عام في جميع أهل الذمة إذا استغني المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام، وهذا قول ابن جرير وغيره‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال‏:‏ إن آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم‏.‏
والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم، وإن قيل‏:‏ إنه خص جزيرة العرب التي هي حول المسجد الحرام، كما خص المسجد الحرام بقوله‏:
‏‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

 

ص -23-

وكذلك من قال من العلماء‏:‏ إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه‏.‏ فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه، ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول، وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء، وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم، بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله، كالدم والميتة، والمنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة، وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله، وكانوا  بل خيارهم  يكرهون أشياء لم يحرمها الله، حتي لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه، وقال‏:‏ ‏"‏لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه‏"‏، وقال مع هذا‏:‏ ‏[‏إنه ليس بمحرم‏]‏ وأكل على مائدته وهو ينظر، وقال فيه‏:‏ ‏"‏لا آكله ولا أحرمه‏"‏‏.‏
وقال جمهور العلماء‏:‏ الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعًا لآكله في دينه، والخبيث ماكان ضارًا له في دينه‏.‏ وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته، فما أورث الآكل بغيا وظلمًا وحرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع؛ لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي، فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان‏.‏

 

ص -24-

وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب، فإذا اغتذي منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل؛ ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر‏.‏
ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء، لا يعاف شيئًا، والله لم يحرم على أمة محمد شيئًا من الطيبات، وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب، كما قال تعالى‏:‏
{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏160‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏‏.‏
وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث، كالدم المسفوح، فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه، بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفي جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح، وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولي أن يعفي عنه‏.‏
وكذلك ريق الكلب يعفي عنه عند جمهور العلماء في الصيد، كما هو

 

ص -25-

مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر القولين في مذهبه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وإن وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم، إذ كان الريق في الولوغ كثيرًا ساريا في المائع لا يشق الاحتراز منه، بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف في جامد يشق الاحتراز منه‏.‏
وكذلك التقديم في إمامة الصلاة بالنَّسَب لا يقول به أكثر العلماء، وليس فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل الذي ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا‏"‏، فقدمه صلى الله عليه وسلم بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية، وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة، ثم الأسبق إلى الدين باختياره، ثم الأسبق إلى الدين بسنه، ولم يذكر النَّسب‏.‏
وبهذا أخذ أحمد وغيره، فرتب الأئمة كما رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر النسب، وكذلك أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة لم يرجحوا بالنسب، ولكن رجح به الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، كالخرقي وابن حامد والقاضي وغيرهم، واحتجوا بقول سلمان

 

ص -26-

الفارسي‏:‏ إن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم‏.‏
والأولون يقولون‏:‏ إنما قال سلمان هذا تقديمًا منه للعرب على الفرس، كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه‏:‏ حقك علي كذا، وليس قول سلمان حكمًا شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله، ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة؛ فإن سلمان سابق الفرس‏.‏
وكذلك اعتبار النسب في أهل الكتاب، ليس هو قول أحد من الصحابة، ولا يقول به جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتين، واختار بعضهم اعتبار النسب موافقة للشافعي، والشافعي أخذ ذلك عن عطاء، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض، فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان، ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان، لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية، لكن نزل القرآن بلسانهم، بل نزل بلسان قريش، كما ثبت

 

ص -27-

عن عمر بن الخطاب أنه قال لابن مسعود‏:‏ أقرئ الناس بلغة قريش فإن القرآن نزل بلسانهم‏.‏ وكما قال عثمان للذين يكتبون المصحف من قريش والأنصار‏:‏ إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة هذا الحي من قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم‏.‏ وهذا لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولًا ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولًا، ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه، كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب‏.‏
وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب ليسوا أكفاء للعرب في النكاح، فهذه مسألة نزاع بين العلماء، فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا في الدين، ومن رآها في النسب  أيضًا  فإنه يحتج بقول عمر‏:‏ لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء؛ لأن النكاح مقصوده حسن الألفة، فإذا كانت المرأة أعلى منصبًا اشتغلت عن الرجل فلا يتم به المقصود‏.‏ وهذه حجة من جعل ذلك حقًا لله، حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها في الدين أو المنصب، ومن جعلها حقًا لآدمي قال‏:‏ إن في ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها، والأمر إليهم في ذلك‏.‏
ثم هؤلاء لا يخصون الكفاءة بالنسب، بل يقولون‏:‏ هي من الصفات التي تتفاضل بها النفوس، كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك، وهذه مسائل اجتهادية ترد إلى الله والرسول؛ فإن جاء عن الله ورسوله

 

ص -28-

ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف، وإلا فلا يكون قول أحد حجة على الله ورسوله‏.‏وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح صريح في هذه الأمور، بل قد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله أذهب عنكم عُبْيَة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان‏:‏ مؤمن تقي، وفاجر شقي‏"‏، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏‏"‏أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن‏:‏ الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم‏"‏، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله اصطفي كنانة من بني إسماعيل، واصطفي قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسًا وخيركم نسبًا‏"‏‏.‏
وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏
"‏الناس معادن كمعادن الذهب والفضة،خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا‏"‏‏.‏
لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب،

 

ص -29-

وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن خير القرون القرن الذين بُعْثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏"‏، وفي القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثاني والثالث، ومع هذا فلم يخص النبي صلى الله عليه وسلم القرن الثاني والثالث بحكم شرعي، كذلك لم يخص العرب بحكم شرعي، بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته، ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم، وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم، ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما اختصوا به من العمل، وذلك لا يتعلق بالنسب‏.‏
والمقصود هنا أنه أُرسل إلى جميع الثقلين‏:‏ الإنس والجن،فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية، ولكن خص قريشًا بأن الإمامة فيهم، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم؛ وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان، وليست الإمامة أمرًا شاملًا لكل أحد منهم، وإنما يتولاها واحد من الناس‏.‏ وأما تحريم الصدقة، فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلًا لتطهيرهم ودفعًا للتهمة عنه، كما لم يورث، فلا يأخذ ورثته درهمًا ولا دينارًا،

 

ص -30-

بل لا يكون له ولمن يُمونه من مال الله إلا نفقتهم، وسائر مال الله يصرف فيما يحبه الله ورسوله، وذوو قرباه يعطون بمعروف من مال الخمس، والفيء الذي يعطي منه في سائر مصالح المسلمين لا يختص بأصناف معينة كالصدقات، ثم ما جعل لذوي القربي قد قيل‏:‏ إنه سقط بموته كما يقوله أبو حنيفة، وقيل‏:‏ هو لقربي من يلي الأمر بعده، كما روي عنه‏:‏ ‏"‏ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر بعده‏"‏، وهذا قول أبي ثور وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا كان مأخذ عثمان في إعطاء بني أمية، وقيل‏:‏ هو لذوي قربى الرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا‏.‏
ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ هو مقدر بالشرع وهو خمس الخمس، كما يقوله الشافعي وأحمد في المشهور عنه‏.‏ وقيل‏:‏ بل الخمس والفيء يصرف في مصالح المسلمين باجتهاد الإمام، ولا يقسم على أجزاء مقدرة متساوية، وهذا قول مالك وغيره‏.‏ وعن أحمد أنه جعل خمس الزكاة فيئًا، وعلى هذا القول يدل الكتاب وسيرة الخلفاء الراشدين، وبسط هذه الأمور له موضع آخر‏.‏ والمقصود هنا أن بعض آيات القرآن، وإن كان سببه أمورًا كانت في العرب، فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظًا

 

ص -31-

ومعني في أي نوع كان، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن‏.‏
وجماهير الأمم يقر بالجن ولهم معهم وقائع يطول وصفها، ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال المتفلسفة والأطباء ونحوهم، وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم؛ إما الإقرار بها، وإما ألا يحكي عنهم في ذلك قول‏.‏ ومن المعروف عن بُقْراط أنه قال في بعض المياه‏:‏ إنه ينفع من الصرع، لست أعني الذي يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعني الصرع الذي يعالجه الأطباء‏.‏ وأنه قال‏:‏ طِبُّنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا‏.‏
وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي، وإنما معه عدم العلم؛ إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه، وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن، وإن كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرًا عظيمًا في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية، وكذلك للجن تأثير في ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏[‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم‏]‏، وفي الدم الذي هو البخار الذي تسميه الأطباء‏:‏ الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن، كما

 

ص -32-

قد بسط هذا في موضع آخر‏.‏
والمراد هنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الثقلين‏:‏ الإنس والجن، وقد أخبر الله في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏29 - 32‏]‏، ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏ إلخ، فأمره أن يقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن، وأنه مبعوث إلى الإنس والجن؛ لما في ذلك من هدى الإنس والجن ما يجب عليهم من الإيمان بالله ورسله وإلىوم الآخر، وما يجب من طاعة رسله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم، كما قال في السورة‏:‏ ‏{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏‏.‏
كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي  والأودية مَظَانُّ الجن، فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعإلى الأرض  فكان الإنسي يقول‏:‏ أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيرهم، وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم، فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه،

 

ص -33-

فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سُؤْلِهِمْ، لاسيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرًا، فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضي له حاجته‏.‏
ثم الشياطين منهم من يختار الكفر والشرك ومعاصي الرب، وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر، ويلتذون به ويطلبونه، ويحرصون عليه بمقتضي خبث أنفسهم، وإن كان موجبًا لعذابهم وعذاب من يغوونه، كما قال إبليس‏:‏ ‏
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 20‏]‏‏.‏
والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقًا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله، والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك؛ صار ذلك كالرشوة والبِرْطِيل ‏[‏البِرطِيل  بالكسر‏:‏ حجر، أو حديد طويل صُلب خِلْقة، ينقر به الرحى، والمعول، والرِّشوة‏]‏ لهم‏.‏ فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالًا

 

ص -34-

ليقتل له من يرىد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة‏.‏
ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة  وقد يقلبون حروف كلام الله  عز وجل  إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما غيرهما  إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة‏.‏ أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك‏.‏ فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم؛ إما تَغْوِير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك‏.‏
وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته؛ فإنهم كثيرون جدًا‏.‏
والمقصود أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الثقلين، واستمع الجن لقراءته وولوا إلى قومهم منذرين كما أخبر الله  عز وجل  وهذا متفق عليه بين المسلمين‏.‏ ثم أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون‏:‏ إنهم جاؤوه بعد هذا، وأنه قرأ عليهم القرآن وبايعوه، وسألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال لهم‏:‏
‏"‏لكم كل عظم

 

ص -35-

ذكر اسم الله عليه يعود أوفر مايكون لحمًا، ولكم كل بَعْرة علف لدوابكم‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن‏"‏، وهذا ثابت في صحيح مسلم، وغيره من حديث ابن مسعود‏.‏
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، من حديث أبي هريرة نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والروث في أحاديث متعددة‏.‏
وفي صحيح مسلم وغيره، عن سلمان قال‏:‏ قيل له‏:‏ قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِرَاءة، قال‏:‏ فقال‏:‏ أجل‏!‏ لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي بِرَجِيعٍ أو عظم‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره  أيضًا  عن جابر قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسح بعظم أو ببعر، وكذلك النهى عن ذلك في حديث خزيمة بن ثابت وغيره‏.‏
وقد بَيَّنَ علة ذلك في حديث ابن مسعود، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن مسعود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"
‏أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن‏"‏، قال‏:‏ فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال‏:‏ ‏"‏لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع

 

ص -36-

في أيديكم لحمًا، وكل بَعْرة علف لدوابكم‏"‏، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم‏"‏‏.‏ وفي صحيح البخاري وغيره، عن أبي هريرة؛ أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إدَاوَة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها قال‏:‏ ‏"‏من هذا‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ أبا هريرة، قال‏:‏ ‏"‏ابغني أحجارًا أسْتَنْفضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة‏"‏ فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت‏:‏ ما بال العظم والروثة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نَصِيبين  ونعم الجن  فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا‏"‏‏.‏
ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بما يفسد طعام الجن وطعام دوابهم؛ كان هذا تنبيهًا على النهي عما يفسد طعام الإنس وطعام دوابهم بطريق الأولى، لكن كراهة هذا والنفور عنه ظاهر في فطر الناس، بخلاف العظم والروثة فإنه لا يعرف نجاسة طعام الجن؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة المتعددة بالنهي عنه‏.‏ وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه خاطب الجن وخاطبوه، وقرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد‏.‏
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس؛ أنه كان يقول‏:‏ إن النبي

 

ص -37-

صلى الله عليه وسلم لم ير الجن ولا خاطبهم، ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن‏.‏ وابن عباس قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجن إليه ومخاطبته إياهم، وأنه أخبره بذلك في القرآن وأمره أن يخبر به، وكان ذلك في أول الأمر لما حُرِسَتِ السماء، وحِيلَ بينهم وبين خبر السماء، وملئت حرسًا شديدًا، وكان في ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة، كما قد بسط في موضع آخر، وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن، وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال‏:‏ ‏{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 13‏]‏ قالوا‏:‏ ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد‏.‏
وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل، كقوله تعالى‏:‏
‏{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا‏:‏ ‏{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ مذاهب شَتَّي؛ مسلمون وكفار، وأهل سنة وأهل بدعة، وقالوا‏:‏ ‏{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}
‏[‏الجن‏:‏ 14، 15‏]‏، والقاسط‏:‏ الجائر،يقال‏:‏ قسط إذا جار وأقسط إذا عدل‏.‏
وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء، وأما مؤمنهم فجمهور

 

ص -38-

العلماء على أنه في الجنة، وقد روي‏:‏ ‏"‏أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة، تراهم الإنس من حيث لا يرونهم‏]‏ وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد‏.‏ وقيل‏:‏ إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة‏.‏ وقد احتج الجمهور بقوله‏:‏ ‏{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 56‏]‏، قالوا‏:‏ فدل ذلك على تأتي الطَّمْثُ منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة‏.
فَصْل
وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله في الإنس من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله، وكما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويعاملهم إذا اعتدوا بما يعامل به المعتدون، فيدفع صَوْلهم بما يدفع صَوْل الإنس‏.‏
وصَرْعُهُم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس، وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد‏!‏ وهذا كثير معروف، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه، وكره أكثر

 

ص -39-

العلماء على أنه في الجنة، وقد روي‏:‏ ‏"‏أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة، تراهم الإنس من حيث لا يرونهم‏]‏ وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد‏.‏ وقيل‏:‏ إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة‏.‏ وقد احتج الجمهور بقوله‏:‏ ‏{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 56‏]‏، قالوا‏:‏ فدل ذلك على تأتي الطَّمْثُ منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة‏.
فَصْل
وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله في الإنس من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله، وكما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويعاملهم إذا اعتدوا بما يعامل به المعتدون، فيدفع صَوْلهم بما يدفع صَوْل الإنس‏.‏
وصَرْعُهُم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس، وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد‏!‏ وهذا كثير معروف، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه، وكره أكثر

 

ص -40-

والفلوات، ويوجدون في مواضع النجاسات؛ كالحمامات والحُشُوش والمزابل والقمامين والمقابر‏.‏ والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية، يأوون كثيرًا إلى هذه الأماكن التي هي مأوي الشياطين‏.‏
وقد جاءت الآثار بالنهي عن الصلاة فيها؛ لأنها مأوي الشياطين، والفقهاء منهم من علل النهى بكونها مظنة النجاسات‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنه تَعَبُّدٌ لا يعقل معناه‏.‏ والصحيح أن العلة في الحمام وأعْطَان الإبل، ونحو ذلك أنها مأوي الشياطين، وفي المقبرة أن ذلك ذريعة إلى الشرك، مع أن المقابر تكون  أيضًا  مأوي للشياطين‏.‏
والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعي، ولهم أحيانًا مكاشفات ولهم تأثيرات يأوون كثيرًا إلى مواضع الشياطين التي نهى عن الصلاة فيها؛ لأن الشياطين تتنزل عليهم بها وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام، وتكلم عابدي الأصنام، وتعينهم في بعض المطالب، كما تعين السحرة، وكما تعين عباد الأصنام وعباد الشمس والقمر والكواكب إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها؛ من تسبيح لها، ولباس، وبخور، وغير ذلك؛ فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها‏:‏ روحانية الكواكب، وقد تقضي بعض حوائجهم؛ إما قتل بعض أعدائهم، أو

 

ص -41-

إمراضه، وإما جلب بعض من يهوونه، وإما إحضار بعض المال، ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع، بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع‏.‏
والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجن بها، فإنه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه، وقالوا‏:‏ كان سليمان يستخدم الجن بهذه، فطعن طائفة من أهل الكتاب في سليمان بهذا‏.‏ وآخرون قالوا‏:‏ لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان، فَضَلَّ الفريقان، هؤلاء بقدحهم في سليمان، وهؤلاء باتباعهم السحر، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏
{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏
إلى قوله تعالى‏:‏
‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101103‏]‏، بين  سبحانه  أن هذا لا يضر ولا ينفع؛ إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح، والضرر هو الشر الخالص أو الراجح، وشر هذا إما خالص، وإما راجح‏.‏
والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، كما يفعل

 

ص -42-

بالإنس؛ لأن الله يقول‏:‏‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثًا، كما في صحيح مسلم، وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا، فمن رأي شيئًا من هذه العَوَامِر فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان‏"‏‏.‏
وفي صحيح مسلم  أيضًا  عن أبي السائب مولي هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال‏:‏ فوجدته يصلى فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عَرَاجِين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها، فأشار إلى أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال‏:‏ أتري هذا البيت‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ كان فيه فتي منا حديث عهد بعرس، قال‏:‏ فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتي يستأذن رسول لله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏خذ عليك سلاحك فإني أخشي عليك قريظة‏"‏ فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأَهْوَى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غِيَرة‏.‏ فقالت‏:‏

 

ص -43-

اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة مُنْطَوِيةً على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فَرَكَّزَه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتًا الحية أم الفتي‏؟‏ قال‏:‏ فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك، وقلنا‏:‏ ادع الله يحييه لنا، قال‏:‏ ‏[‏استغفروا لصاحبكم‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان‏"‏، وفي لفظ آخر لمسلم  أيضًا ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن لهذه البيوت عَوَامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فَحَرِّجوا ‏[‏وقوله‏:‏ ‏[‏حَرِّجوا‏]‏ أي‏:‏ ضيقوا عليه ثلاثًا‏]‏ عليه ثلاثًا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر‏"‏ وقال لهم‏:‏ ‏"‏اذهبوا فادفنوا صاحبكم‏"‏‏.‏
وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز، كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق، والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدًا ولو كان كافرًا، بل قال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتي الشيطان قريشًا في صورة سُرَاقَة بن مالك بن جُعْشُم لما أرادوا الخروج إلى بدر، قال تعالى‏:‏

 

ص -44-

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وكما رُوِي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة‏:‏ هل يقتلوا الرسول، أو يحبسوه، أو يخرجوه‏؟‏ كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏، فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنًا فتؤذن ثلاثًا فإن ذهبت وإلا قتلت، فإنها إن كانت حية قتلت، وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك، والعادي‏:‏ هو الصَّائِل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلًا، وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز‏.‏
وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض، تارة يبرون قسمه، وكثيرًا لا يفعلون ذلك، بأن يكون ذلك الجني معظمًا عندهم، وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضي إعانتهم على ذلك؛ إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه، وهذا تختلف أحواله، فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه، وقد يكون ذاك منيعًا، فأحوالهم شبيهة بأحوال

 

ص -45-

الإنس، لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفي بالعهد، والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر‏.‏
والمقصود أن أرباب العزائم، مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر، لا تجوز العزيمة والقسم به، فهم كثيرًا ما يعجزون عن دفع الجني، وكثيرًا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه، فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه، ويكون ذلك تخييلًا وكذبًا، هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقًا في الرؤية، فإن عامة ما يعرفونه لمن يرى دون تعريفه؛ إما بالمكاشفة والمخاطبة، إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين، وإما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يرىدون تعريفه، فإذا رأي المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال، وقد يوهمونه أنه نفس المرئي، وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضإلىن من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين، إذا استغاث به بعض محبيه فقال‏:‏ يا سيدي فلان، فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي، فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت، وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة‏.

 

ص -46-

فصل
وكثيرًا ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادى المستغاث به إذا كان ميتًا‏.‏ وكذلك قد يكون حيًا ولا يشعر بالذي ناداه، بل يتصور الشيطان بصورته، فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه وإنما هو الشيطان، وهذا يقع للكفار المستغيثين بمن يحسنون به الظن من الأموات والأحياء؛ كالنصارى المستغيثين بجرجس وغيره من قداديسهم، ويقع لأهل الشرك والضلال من المنتسبين إلى الإسلام الذين يستغيثون بالموتى والغائبين، يصور لهم الشيطان في صورة ذلك المستغاث به وهو لا يشعر‏.‏
وأعرف عددًا كثيرًا وقع لهم في عدة أشخاص يقول لي كل من الأشخاص‏:‏ أني لم أعرف أن هذا استغاث بي، والمستغيث قد رأى ذلك الذي هو على صورة هذا، وما اعتقد أنه إلا هذا‏.‏ وذكر لي غير واحد أنهم استغاثوا بي، كل يذكر قصة غير قصة صاحبه، فأخبرت كلا منهم أني لم أجب أحدًا منهم ولا علمت باستغاثته، فقيل‏:‏

 

ص -47-

هذا يكون ملكًا، فقلت‏:‏ الملك لا يغيث المشرك، إنما هو شيطان أراد أن يضله‏.‏
وكذلك يتصور بصورته ويقف بعرفات، فيظن من يحسن به الظن أنه وقف بعرفات، وكثير منهم حمله الشيطان إلى عرفات أو غيرها من الحرم، فيتجاوز الميقات بلا إحرام ولا تلبية، ولا يطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة، وفيهم من لا يعبر مكة، وفيهم من يقف بعرفات ويرجع ولا يرمي الجمار، إلى أمثال ذلك من الأمور التي يضلهم بها الشيطان حيث فعلوا ما هو منهي عنه في الشرع، إما محرم وإما مكروه ليس بواجب ولا مستحب، وقد زين لهم الشيطان أن هذا من كرامات الصالحين، وهو من تلبيس الشيطان، فإن اللّه لا يُعبَد إلا بما هو واجب أو مستحب، وكل من عبد عبادة ليست واجبة ولا مستحبة  وظنها واجبة أو مستحبة  فإنما زين ذلك له الشيطان، وإن قدر أنه عفي عنه لحسن قصده واجتهاده، لكن ليس هذا مما يكرم اللّه به أولياءه المتقين، إذ ليس في فعل المحرمات والمكروهات إكرام، بل الإكرام حفظه من ذلك ومنعه منه؛ فإن ذلك ينقصه لا يزيده، وإن لم يعاقب عليه بالعذاب فلابد أن يَخْفِضَه عما كان ويخفض أتباعه الذين يمدحون هذه الحال ويعظمون صاحبها، فإن مدح المحرمات والمكروهات وتعظيم صاحبها هو من الضلال عن سبيل اللّه، وكلما ازداد العبد في

 

ص -48-

البدع اجتهادًا ازداد من اللّه بعدًا؛ لأنها تخرجه عن سبيل اللّه  سبيل الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين  إلى بعض سبيل المغضوب عليهم والضالين‏.‏
فَصل
إذا عرف الأصل في هذا الباب فنقول‏:‏ يجوز  بل يستحب، وقد يجب  أن يُذَبَّ عن المظلوم وأن يُنْصَرَ؛ فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان، وفي الصحيحين حديث البراء بن عازب قال‏:‏ أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسبعٍ، ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب، وعن شُرْب بالفضة، وعن المَيَاثِر، وعن القِسِيِّ، ولبس الحرير، والإستبرق، والديباج‏.‏ وفي الصحيح عن أنس قال‏:‏ قال رسول صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما‏"‏ قلت‏:‏ يارسول اللّه، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه‏"‏‏.‏
وأيضًا، ففيه تفريج كربة هذا المظلوم‏.‏ وفي صحيح مسلم، عن أبي

 

ص -49-

هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏من نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبَة من كُرَبِ الدنيا نفس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر اللّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره اللّه في الدنيا والآخرة، واللّه في عَوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم  أيضًا  عن جابر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم  لما سئل عن الرقى  قال‏:‏ ‏"‏من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل‏"‏‏.‏
لكن ينصر بالعدل كما أمر اللّه ورسوله، مثل‏:‏ الأدعية والأذكار الشرعية، ومثل‏:‏ أمر الجنى ونهيه، كما يؤمر الإنسى وينهى، ويجوز من ذلك ما يجوز مثله في حق الإنسى، مثل‏:‏ أن يحتاج إلى انتهار الجنى وتهديده ولعنه وسبه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول‏:
‏ ‏"‏أعوذ باللّه منك ثم قال‏:‏ ألعنك بلعنة اللّه ثلاثًا‏"‏ وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا‏:‏ يارسول اللّه، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏إن عدو اللّه إبليس جاء بِشِهَاب من نار ليجعله في وجهى فقلت‏:‏ أعوذ باللّه منك ثلاث مرات، ثم قلت‏:‏ ألعنك بلعنة اللّه التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، وواللّه لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة‏"‏ ففي هذا الحديث الاستعاذة منه

 

ص -50-

ولعنته بلعنة اللّه، ولم يستأخر بذلك فمد يده إليه‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الشيطان عَرَضَ لي فَشَدَّ على ليقطع الصلاة على، فأمكننى اللّه منه فَذَعَتُّه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول أخى سليمان‏:‏‏{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ فرده اللّه خاسئًا‏"‏‏.
فهذا الحديث يوافق الأول ويفسره، وقوله‏:‏ ‏[‏ذَعَتُّه‏]‏ أى‏:‏ خنقته، فبين أن مد اليد كان لخنقه، وهذا دفع لعدوانه بالفعل وهو الخنق، وبه اندفع عدوانه فرده اللّه خاسئًا‏.‏
وأما الزيادة  وهو ربطه إلى السارية  فهو من باب التصرف الملكى الذي تركه لسليمان، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتصرف في الجن كتصرفه في الإنس تصرف عَبْد رسول، يأمرهم بعبادة اللّه وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع إليه وهو التصرف الملكي؛ فإنه كان عبدًا رسولا وسليمان نبي ملك، والعبد الرسول أفضل من النبي الملك، كما أن السابقين المقربين أفضل من عموم الأبرار أصحاب إلىمين، وقد روى النسائي  على شرط البخاري  عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان، فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدى، ولولا

 

ص -51-

دعوة سليمان لأصبح موثقًا حتى يراه الناس‏"‏‏.‏ ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد، وفيه‏:‏‏"‏فأهويت بيدى، فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين‏:‏ الإبهام والتي تليها‏"‏، وهذا فعله في الصلاة، وهذا مما احتج به العلماء على جواز مثل هذا في الصلاة، وهو كدفع المارّ، وقتل الأسودين، والصلاة حال المُسَايَفَة‏.‏
وقد تنازع العلماء في شيطان الجن إذا مر بين يدي المصلي، هل يقطع‏؟‏ على قولين هما قولان في مذهب أحمد، كما ذكرهما ابن حامد وغيره‏:‏
أحدهما‏:‏ يقطع لهذا الحديث؛ ولقوله لما أخبر أن مرور الكلب الأسود يقطع للصلاة‏:‏ ‏"‏الكلب الأسود شيطان‏"‏، فعلل بأنه شيطان‏.‏ وهو كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرًا، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة‏.‏
ومما يتقرب به إلى الجن الذبائح، فإن من الناس من يذبح للجن وهو من الشرك الذي حرمه اللّه ورسوله، ورُوى أنه نهى عن ذبائح الجن، وإذا برئ المصاب بالدعاء والذكر وأمر الجن ونهيهم وانتهارهم

 

ص -52-

وسبهم ولعنهم، ونحو ذلك من الكلام حصل المقصود، وإن كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن أو موتهم فهم الظالمون لأنفسهم، إذا كان الراقى الداعى المعالج لم يتعد عليهم كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم، فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله، وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبسه؛ ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك، ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه، وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه‏.‏
وأما من سلك في دفع عداوتهم مسلك العدل الذي أمر اللّه به ورسوله فإنه لم يظلمهم، بل هو مطيع للّه ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعى التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق، ومثل هذا لا تؤذيه الجن؛ إما لمعرفتهم بأنه عادل، وإما لعجزهم عنه‏.‏ وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه، فينبغى لمثل هذا أن يحترز لقراءة العوذ، مثل آية الكرسي والمعوذات، والصلاة، والدعاء، ونحو ذلك مما يقوى الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه، فإنه مجاهد في سبيل اللّه، وهذا من أعظم الجهاد، فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه، وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها، فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق‏.‏
ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي، فقد ثبت في صحيح

 

ص -53-

البخاري حديث أبي هريرة قال‏:‏ وَكَّلَنى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتأني آتٍ فجعل يَحْثُو من الطعام، فأخذته وقلت‏:‏ لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ أني محتاج وعلى عيال ولي حاجة شديدة، قال‏:‏ فخليت عنه، فأصبحت فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبا هريرة، مافعل أسيرك البارحة‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ يارسول اللّه، شكى حاجة شديدة وعيالًا فرحمته وخليت سبيله، قال‏:‏ ‏"‏أما إنه قد كذبك وسيعود‏"‏ فعرفت أنه سيعود لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت‏:‏ لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ دعنى فأني محتاج وعلى عيال لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ يارسول اللّه، شكى حاجة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله قال‏:‏ ‏"‏أما إنه قد كذبك وسيعود‏"‏ فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت‏:‏ لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات، تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال‏:‏ دعنى أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها، قلت‏:‏ ماهن‏؟‏ قال‏:‏ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي‏:‏ ‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال علىك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى

 

ص -54-

تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مافعل أسيرك البارحة‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه، زعم أنه يعلمنى كلمات ينفعنى اللّه بها فخليت سبيله، قال‏:‏ ما هى‏؟‏ قلت‏:‏ قال لي‏:‏ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية‏:‏‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقال لي‏:‏ لن يزال علىك من اللّه حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح‏.‏ وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏لا‏.‏ قال‏:‏‏"‏ذاك شيطان‏"‏‏.‏
ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته، فإن لها تأثيرًا عظيمًا في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين، مثل‏:‏ أهل الظلم والغضب، وأهل الشهوة والطرب، وأرباب السماع المُكَاء والتَّصْدِية، إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين، وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان، ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطأني، إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء اللّه

 

ص -55-

المتقين، وإنما هى من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين‏.‏والصَّائِل المعتدى يستحق دفعه سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد‏"‏، فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادى، فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته‏؟‏‏!‏ فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشة إنسى بإنسى، وإن لم يندفع إلا بالقتل جاز قتله‏.‏
وأما إسلام صاحبه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين، وهذا فرض على الكفاية مع القدرة، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه‏"‏، فإن كان عاجزًا عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب، وإن كان قادرًا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه‏.‏
وأما قول السائل‏:‏ هل هذا مشروع‏؟‏ فهذا من أفضل الأعمال، وهو من أعمال الأنبياء والصالحين؛ فإنه ما زال الأنبياء والصالحون

 

ص -56-

يدفعون الشياطين عن بنى آدم بما أمر اللّه به ورسوله، كما كان المسيح يفعل ذلك، وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقد روى أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال‏:‏ حدثتني أم أَبَان بنت الوازع بن زارع بن عامر العبدي، عن أبيها؛ أن جدها الزارع انطلق إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه بابن له مجنون  أو ابن أخت له  قال جدى‏:‏ فلما قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ إن معي ابنًا لي  أو ابن أخت لي  مجنون، أتيتك به تدعو اللّه له‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ائتني به‏"‏ قال‏:‏ فانطلقت به إليه وهو في الركاب، فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ادْنُهُ مني، اجعل ظهره مما يليني‏"‏ قال‏:‏ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله، فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه، ويقول‏:‏ ‏"‏اخرج عدو اللّه‏!‏ اخرج عدو اللّه ‏!‏‏"‏ فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول، ثم أقعده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين يديه، فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفضل عليه‏.‏
وقال أحمد في المسند‏:‏ ثنا عبد اللّه بن نُمَيْرٍ، عن عثمان بن حكيم، أنا عبد الرحمن ابن عبد العزيز، عن يعلى بن مرة قال‏:‏ لقد رأيت من

 

ص -57-

رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ما رآها أحد قبلي، ولا يراها أحد بعدي، لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه، هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال‏:‏ ‏"‏ناولينيه‏"‏، فرفعته إليه، فجعله بينه وبين واسطة الرَّحْل، ثم فَغَرَ فَاهُ فنفث فيه ثلاثًا، وقال‏:‏ ‏"‏بسم اللّه أنا عبد اللّه اخْسَأ عدو اللّه‏"‏ ثم ناولها إياه، فقال‏:‏ القينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل، قال‏:‏ فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، فقال‏:‏ ‏"‏ما فعل صبيك‏؟‏‏"‏ فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئًا حتى الساعة فاجْتَرِر هذه الغنم، قال‏:‏ ‏"‏انزل خذ منها واحدة ورد البقية‏"‏‏.‏ وذكر الحديث بتمامه‏"‏‏.‏
ثنا وكيع قال‏:‏ ثنا الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن أبيه قال وَكِيع‏:‏ مرة يعنى الثقفي، ولم يقل‏:‏ مرة عن أبيه؛ أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معها صبي لها به لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏اخرج عدو اللّه أنا رسول اللّه‏"‏ قال‏:‏ فبرأ، قال‏:‏ فأهدت إليه كبشين، وشيئًا من أقط، وشيئًا من سمن‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خذ الأقْطَ والسمن، وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر‏"‏‏.‏

 

ص -58-

ثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن عطاء بن السائب، عن عبد اللّه بن حفص، عن يعلى بن مرة الثقفي قال‏:‏ ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث، وفيه قال‏:‏ ثم سرنا فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جِنَّةٌ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخره فقال‏:‏ ‏"‏اخرج إني محمد رسول اللّه‏"‏ قال‏:‏ ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن، فأمرها أن ترد الجزر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن، فسألها عن الصبي فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبًا بعدك‏.‏ ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء؛ لكون الشياطين لم تكن تقدر تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا، فقد أمرنا اللّه ورسوله من نصر المظلوم والتنفيس عن المكروب ونفع المسلم بما يتناول ذلك‏.‏
وقد ثبت في الصحيحين حديث الذين رَقَوا بالفاتحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏وما أدراك أنها رقية‏"‏، وأذن لهم في أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان الذي أراد قطع صلاته‏:‏‏"‏أعوذ باللّه منك، ألعنك بلعنة اللّه التامة ثلاث مرات‏"‏‏.‏ وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن كانوا لم يروا الترك ولم يكونوا يرمون بالقِسِيِّ الفارسية ونحوها مما يحتاج إليه في قتال، فقد

 

ص -59-

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم، وأخبر أن أمته ستقاتلهم‏"‏، ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسي الفارسية، ولو قوتلوا بالقسي العربية التي تشبه قوس القطن لم تغن شيئًا، بل استطالوا على المسلمين بقوة رميهم، فلابد من قتالهم بما يقهرهم‏.‏
وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب‏:‏ إن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا في قلوبنا روعة، فقال‏:‏ وأنتم فالبسوا كما لبسوا‏.‏ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عمرة القضية بالرَّمَل والاضْطِبَاع؛ لِيُرِىَ المشركين قوتهم، وإن لم يكن هذا مشروعا قبل هذا، ففعل لأجل الجهاد مالم يكن مشروعا بدون ذلك‏.‏
ولهذا قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضربا كثيرًا جدًا، والضرب إنما يقع على الجنى ولا يحس به المصروع، حتى يفيق المصروع ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل، بحيث لو كان على الإنسى لقتله، وإنما هو على الجنى، والجنى يصيح ويصرخ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة، كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين‏.‏

 

ص -60-

وأما الاستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع، لا سيما إن كان فيه شرك؛ فإن ذلك محرم‏.‏ وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك، وقد يقرؤون مع ذلك شيئًا من القرآن ويظهرونه، ويكتمون ما يقولونه من الشرك، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله‏.‏
والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه؛ فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر‏.‏ والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده  وأيضًا  فإن المكره مضطر إلى التكلم به ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم، فلا يؤثر بل يزيده شرًا‏.‏
والثأني‏:‏ أن في الحق ما يغني عن الباطل‏.‏

 

ص -61-

والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف‏:‏ قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس، وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة، فهؤلاء يكذبون بالموجود، وهؤلاء يعصون، بل يكفرون بالمعبود‏.‏ والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود، وتؤمن بالإله الواحد المعبود، وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه، فتدفع شياطين الإنس والجن‏.‏
وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم، فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسؤول فهو حرام، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن معاوية ابن الحكم السلمى قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه، أمورًا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، قال‏:‏ ‏
"‏فلا تأتوا الكهان‏"‏، وفي صحيح مسلم  أيضًا  عن عبيد اللّه، عن نافع، عن صفية، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا‏"‏‏.‏
وأما إن كان يسأل المسؤول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صَيَّاد فقال‏:‏ ‏"‏ما يأتيك‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ يأتيني صادق وكاذب، قال‏:‏ ‏"‏ما ترى‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ أرى عرشا على الماء، قال‏:‏ ‏"‏فأني قد خبأت لك خبيئًا‏"‏، قال‏:‏ الدُّخُّ الدُّخُّ ‏[‏والدُّخُّ  بضم الدال وفتحها ‏:‏ الدُّخان‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏اخسأ فلن

 

ص -62-

تعدو قدرك، فإنما أنت من إخوان الكهان‏"‏‏.‏
وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن، كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به، وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏، وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة‏:‏ أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة ويفسرونها بالعربية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا‏:‏ ‏{وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ ، فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه‏.‏
وقد روى عن أبي موسى الأشعرى أنه أبطأ عليه خبر عمر، وكان هناك امرأة لها قرين من الجن، فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يَسِمُ إبل الصدقة‏.‏ وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشًا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم، وشاع الخبر، فسأل عمر عن ذلك فذكر له، فقال‏:‏ هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن، وسيأتى بريد الإنس بعد ذلك، فجاء بعد ذلك بعدة أيام‏.‏

 

ص -63-

فَصْل
ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئًا من كتاب اللّه وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى، كما نص على ذلك أحمد وغيره، قال عبد اللّه بن أحمد‏:‏ قرأت على أبي، ثنا يَعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن محمد بن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال‏:‏ إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب‏:‏ بسم اللّه لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه رب العرش العظيم، الحمد للّه رب العالمين
‏{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏، ‏{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏
‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏ قال أبي‏:‏ ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه، وقال‏:‏ يكتب في إناء نظيف فيسقى، قال أبي‏:‏ وزاد فيه وكيع‏:‏ فتسقى وينضح ما دون سرتها، قال عبد الله‏:‏ رأيت أبي يكتب للمرأة في جَامٍ أو شيء نظيف‏.‏
وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحِيرى‏:‏ أنا الحسن بن سفيان النَّسَويّ، حدثني عبد اللّه بن أحمد بن شبويه، ثنا علي بن

 

ص -64-

الحسن بن شَقِيق، ثنا عبد اللّه بن المبارك، عن سفيان، عن ابن أبي ليلي، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب‏:‏ بسم اللّه لا إله إلا اللّه العلى العظيم لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه وتعالى رب العرش العظيم والحمد للّه رب العالمين ‏{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏ ‏{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ‏}
‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏ قال على‏:‏ يكتب في كاغَدَة ‏[‏كاغدة‏:‏ الكاغَدُ‏:‏ القرطاس، مُعَرَّب‏]‏ فيعلق على عضد المرأة، قال على‏:‏ وقد جربناه فلم نر شيئًا أعجب منه، فإذا وضعت تحله سريعًا، ثم تجعله في خرقة أو تحرقه‏.‏ آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية  قدس اللّه روحه، ونَوَّر ضريحه‏.‏

 

ص -65-

قال شيخ الإِسلام  رَحِمهُ اللَّه‏:‏
فَصل

في الاكتفاء بالرسالة، والاستغناء بالنبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع ما سواه اتباعًا عامًا، وأقام اللّه الحجة على خلقه برسله فقال تعالى‏:‏ ‏{
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163  165‏]‏‏.‏
فدلت هذه الآية على أنه لا حجة لهم بعد الرسل بحال، وأنه قد يكون لهم حجة قبل الرسل‏.‏
فالأول يبطل قول من أَحْوَج الخلق إلى غير الرسل حاجة عامة كالأئمة‏.‏
والثأني يبطل قول من أقام الحجة عليهم قبل الرسل من المتفلسفة والمتكلمة‏.‏

 

ص -66-

وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، فأمر بطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء إذا لم يتنازعوا، وهو يقتضى أن اتفاقهم حجة، وأمرهم بالرد عند التنازع إلى اللّه والرسول، فأبطل الرد إلى إمام مقلد أو قياس عقلي فاضل‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، فبين أنه بالكتاب يحكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}
‏[‏الأعراف‏:‏ 2، 3‏]‏، ففرض اتباع ما أنزله من الكتاب والحكمة، وحظر اتباع أحد من دونه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏، فزجر من لم يكتف بالكتاب المنزل‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي‏}‏ الآيات ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا‏}‏ الآيات ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا‏}‏ الآيتين ‏[‏الملك‏:‏ 8‏]‏‏.‏ فدلت هذه

 

ص -67-

الآيات على أن من أتاه الرسول فخالفه فقد وجب عليه العذاب، وإن لم يأته إمام ولا قياس‏.‏ وأنه لا يعذب أحد حتى يأتيه الرسول وإن أتاه إمام أو قياس‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، ‏{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏
الآية ‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ وقد ذكر  سبحانه  هذا المعنى في غير موضع، فبين أن طاعة الله ورسوله موجبة للسعادة، وأن معصية الله موجبة للشقاوة، وهذا يبين أن مع طاعة الله ورسوله لا يحتاج إلى طاعة إمام أو قياس، ومع معصية الله ورسوله لا ينفع طاعة إمام أو قياس‏.‏
ودليل هذا الأصل كثير في الكتاب والسنة،وهو أصل الإسلام ‏[‏شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا رسول اللّه‏]‏ وهو متفق عليه بين الذين أوتوا العلم والإيمان قولًا واعتقادًا؛ وإن خالفه بعضهم عملًا وحالًا‏.‏ فليس عالم من المسلمين يشك في أن الواجب على الخلق طاعة اللّه ورسوله، وأن ماسواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها اللّه ورسوله‏.‏

 

ص -68-

وفي الحقيقة، فالواجب في الأصل إنما هو طاعة اللّه، لكن لا سبيل إلى العلم بمأموره وبخبره كله إلا من جهة الرسل، والمبلغ عنه إما مبلغ أمره وكلماته فتجب طاعته وتصديقه في جميع ما أمر وأخبر، وأما ما سوى ذلك فإنما يطاع في حال دون حال، كالأمراء الذين تجب طاعتهم في محل ولايتهم ما لم يأمروا بمعصية اللّه، والعلماء الذين تجب طاعتهم على المستفتى والمأمور فيما أوجبوه عليه مبلغين عن اللّه، أو مجتهدين اجتهادًا تجب طاعتهم فيه على المقلد، ويدخل في ذلك مشائخ الدين ورؤساء الدنيا حيث أمر بطاعتهم، كاتباع أئمة الصلاة فيها، واتباع أئمة الحج فيه، واتباع أمراء الغزو فيه، واتباع الحكام في أحكامهم، واتباع المشايخ المهتدين في هديهم، ونحو ذلك‏.‏
والمقصود بهذا الأصل أن من نَصَّبَ إمامًا، فأوجب طاعته مطلقًا اعتقادًا أو حالًا فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية؛ حيث جعلوا في كل وقت إمامًا معصومًا تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت منهم من كان خليفة راشدًا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو على‏.‏ ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين؛ كعلى بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، ومنهم دون ذلك‏.‏

 

ص -69-

وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء، وأفرده عن نظرائه؛ كالشيخ عدى، والشيخ أحمد، والشيخ عبد القادر، والشيخ حَيْوَة، ونحوهم‏.‏
وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقًا، كالأئمة الأربعة‏.‏
وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة والولاة في كل ما يأمرون وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء، لكن هؤلاء لا يدعون العصمة لمتبوعيهم إلا غإلىة أتباع المشايخ؛ كالشيخ عَدِىّ وسعد المَدِينى بن حَمَوَيْه، ونحوهما؛ فإنهم يدعون فيهم نحوًا مما تدعيه الغإلىة في أئمة بنى هاشم من العصمة، ثم من الترجيح على النبوة، ثم من دعوى الإلهية‏.‏
وأما كثير من أتباع أئمة العلم ومشايخ الدين فحالهم وهواهم يضاهي حال من يوجب اتباع متبوعه، لكنه لا يقول ذلك بلسانه ولا يعتقده علمًا، فحاله يخالف اعتقاده، بمنزلة العصاة أهل الشهوات، وهؤلاء أصلح ممن يرى وجوب ذلك ويعتقده‏.‏ وكذلك أتباع الملوك والرؤساء هم كما أخبر اللّه عنهم بقوله‏:‏ ‏
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏ فهم مطيعون حالًا وعملًا وانقيادًا، وأكثرهم من غير عقيدة دينية، وفيهم

 

ص -70-

من يقرن بذلك عقيدة دينية‏.‏ ولكن طاعة الرسول إنما تمكن مع العلم بما جاء به والقدرة على العمل به، فإذا ضعف العلم والقدرة صار الوقت وقت فترة في ذلك الأمر، فكان وقت دعوة ونبوة في غيره، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع جدًا‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وكذا من نصَّب القياس أو العقل أو الذوق مطلقا من أهل الفلسفة والكلام والتصوف، أو قدمه بين يدى الرسول من أهل الكلام والرأى والفلسفة والتصوف؛ فإنه بمنزلة من نَصَّبَ شخصًا، فالاتباع المطلق دائر مع الرسول وجودًا وعدمًا‏.‏
فَصل
أول البدع ظهورًا في الإسلام، وأظهرها ذَما في السنة والآثار‏:‏ بدعة الحرورية المارقة؛ فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه‏:‏ اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب‏.‏
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضة بوصفهم وذمهم

 

ص -71-

والأمر بقتالهم‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ صَحَّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يَحْقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة‏"‏‏.‏ ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم‏:‏
أحدهما‏:‏ خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخُوَيْصِرَة التميمي‏:‏ اعدل فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏ويلك‏!‏ ومن يعدل إذا لم أعدل‏؟‏ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل‏"‏‏.‏ فقوله‏:‏ فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سفهًا وترك عدل، وقوله‏:‏ ‏[‏اعدل‏]‏ أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة‏.‏

 

ص -72-

والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف  بزعمهم  ظاهر القرآن‏.‏
وغالب أهل البدع  غير الخوارج  يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد في حديث
الصادق المصدوق، وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة؛ إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن‏.‏
الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع‏:‏ أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات‏.‏ ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان‏.‏ وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم‏.‏فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرًا‏.‏

 

ص -73-

فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم‏.‏
وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة، ومن كَفّر المسلمين بما رآه ذنبًا سواء كان دينًا أو لم يكن دينًا وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة‏.‏ وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين‏.‏ أما الأول فشبه التأويل الفاسد أو القياس الفاسد؛ إما حديث بلغه عن الرسول لا يكون صحيحًا، أو أثر عن غير الرسول قلده فيه ولم يكن ذلك القائل مصيبًا، أو تأويل تأوله من آية من كتاب الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح أو ضعيف، أو أثر مقبول أو مردود ولم يكن التأويل صحيحًا، وإما قياس فاسد، أو رَأْي رآه اعتقده صوابًا وهو خطأ‏.‏
فالقياس والرأي والذوق هو عامة خطأ المتكلمة والمتصوفة وطائفة من المتفقهة‏.‏
وتأويل النصوص الصحيحة أو الضعيفة عامة خطأ طوائف المتكلمة والمحدثة والمقلدة والمتصوفة والمتفقهة‏.‏

 

ص -74-

وأما التكفير بذنب، أو اعتقاد سني فهو مذهب الخوارج‏.‏
والتكفير باعتقاد سني مذهب الرافضة والمعتزلة وكثير من غيرهم‏.‏
وأما التكفير باعتقاد بدعي فقد بينته في غير هذا الموضع، ودون التكفير قد يقع من البغض والذم والعقوبة  وهو العدوان  أو من ترك المحبة والدعاء والإحسان وهو التفريط ببعض هذه التأويلات ما لا يسوغ، وجماع ذلك ظلم في حق الله  تعالى  أو حق المخلوق، كما بينته في غير هذا الموضع؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه‏:‏ أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس‏.‏

 

ص -75-

وقال شيخ الإسلام إمام الأئمة والمسلمين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية  قدس الله روحه‏:‏
الحمد الله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏
أصل جامع
في الاعتصام بكتاب الله، ووجوب اتباعه، وبيان الاهتداء به في كل ما يحتاج إليه الناس من دينهم، وأن النجاة والسعادة في اتباعه والشقاء في مخالفته، وما دل عليه من اتباع السنة والجماعة، قال الله تعالى‏:‏
‏{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هدي فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليومَ تُنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 123  126‏]‏،

 

ص -76-

قال ابن عباس‏:‏ تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقي في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية‏.‏
وفي السورة الأخرى‏:‏
‏{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 38، 39‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{المص كِتَابٌ أُنزِلَ إلىكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إلىكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1  3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ علىنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهدي مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهدي وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155  157‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ علىكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَي وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 35، 36‏]‏‏.‏

 

ص -77-

وقال تعالى‏:‏ ‏{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَي قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حتي إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ علىكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَي وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ على الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الهدى‏}‏ ‏{وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هدي وَذِكْرَي لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4  56‏]‏‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏
{يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ‏}‏، بيان أنه لا يجوز أن يعارض كتاب الله بغير كتاب الله، لا بفعل أحد ولا أمره ، لا دولة ولا سياسة ، فإنه حال الذين يجادلون في آيات الله بغير

 

ص -78-

سلطان أتاهم؛ ولكن يجوز أن يكون في آيات الله ناسخ ومنسوخ، فيعارض منسوخه بناسخه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عليها قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهدي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏، ونظائره متعددة‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهدي اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهدي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلىكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏9‏]‏ ،وقال تعالى‏:‏‏{قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهدي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهديهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَي علىكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران‏:‏ 100  103‏]‏

 

ص -79-

فأمر بالاعتصام بحبل الله وهو كتابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏إن هذا القرآن حبل ممدود، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به،فإنكم لن تضلوا ما تمسكتم به‏"‏‏.‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏وهو حبل الله المتين‏"‏‏.‏ثم قال تعالى‏:‏‏{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ علىكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا‏}‏ الآيات ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عليهم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا علىكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏1، 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 138‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إلى مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201  203‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏،

 

ص -80-

وقال تعالى‏: ‏{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏} ‏[‏التوبة‏:‏124، 125‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏15، 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 52، 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{اتْلُ مَا أُوحِيَ إلىكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 121‏]‏، وقال تعالى‏:‏{وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 170‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلىكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 109‏]‏‏.

 

ص -81-

فَصْل
قد أمرنا الله  تعالى  باتباع ما أنزل إلىنا من ربنا، وباتباع ما يأتي منه من الهدى، وقد أنزل علىنا الكتاب والحكمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ علىكُمْ وَمَا أَنزَلَ علىكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏، والحكمة من الهدى، قال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏، والأمر باتباع الكتاب والقرآن يوجب الأمر باتباع الحكمة التي بعث بها الرسول، وباتباعه وطاعته مطلقًا‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏129‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو علىكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 151‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏164‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏

 

ص -82-

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ [‏الجمعة‏:‏2، 3‏]‏‏.‏
وقد أمر بطاعة الرسول في نحو أربعين موضعًا، كقوله تعالى‏:‏
‏{قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏32‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 92‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عليه مَا حُمِّلَ وَعلىكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏، إلى قوله تعالى‏:‏‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ إلىمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54  63‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏
‏[‏النساء‏:‏64، 65‏]‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏} ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، وقوله

 

ص -83-

تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 23‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏
‏[‏الأحزاب‏:‏ 66  68‏]‏، وقوله تعالى‏:‏
‏{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا‏}‏
‏[‏الفرقان‏:‏ 27  29‏]‏‏.‏ فهذه النصوص توجب اتباع الرسول، وإن لم نجد ما قاله منصوصًا بعينه في الكتاب، كما أن تلك الآيات توجب اتباع الكتاب، وإن لم نجد ما في الكتاب منصوصًا بعينه في حديث عن الرسول غير الكتاب‏.‏ فعلىنا أن نتبع الكتاب، وعلىنا أن نتبع الرسول، واتباع أحدهما هو اتباع الآخر؛ فإن الرسول بلغ الكتاب، والكتاب أَمَرَ بطاعة الرسول‏.‏ ولا يختلف الكتاب والرسول البتة، كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضًا، قال تعالى‏:‏ ‏{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

 

ص -84-

والأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباع الكتاب، وفي وجوب اتباع سنته صلى الله عليه وسلم؛ كقوله‏:‏ ‏"‏لا ألفينَّ أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول‏:‏ بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا وإنه مثل القرآن أو أعظم‏"‏، هذا الحديث في السنن والمسانيد، مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة جهات، من حديث أبي ثعلبة، وأبي رافع، وأبي هريرة، وغيرهم‏.‏
وفي صحيح مسلم عنه من حديث جابر؛ أنه قال في خطبة الوداع‏:‏
‏"‏وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده‏:‏ كتاب الله تعالى‏"‏، وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفي أنه قيل له‏:‏ هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قيل‏:‏ فكيف كتبه على الناس الوصية‏؟‏ قال‏:‏ أوصي بكتاب الله‏.‏ وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسر القرآن، كما فسرت أعداد الصلوات، وقَدْر القراءة فيها، والجهر والمخافتة، وكما فسرت فرائض الزكاة ونُصُبها، وكما فسرت المناسك وقدر الطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، ونحو ذلك‏.‏
وهذه السنة إذا ثبتت، فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب

 

ص -85-

اتباعها، وقد يكون من سنته ما يظن أنه مخالف لظاهر القرآن وزيادة عليه؛ كالسنة المفسرة لنصاب السرقة، والموجبة لرجم الزاني المحصن، فهذه السنة  أيضًا  مما يجب اتباعه عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين، إلا من نازع في ذلك من الخوارج المارقين، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قاتلهم يوم القيامة‏"‏‏.
وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة في وصفهم وذمهم والأمر بقتالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه،وقد روي مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه، كأنها هي التي أشار إليها أحمد بن حنبل، فإن مسلمًا أخذ عن أحمد‏.‏
وقد روي البخاري حديثهم من عدة أوجه، وهؤلاء أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا محمد، اعدل فإنك لم تعدل‏.‏ فمن جوز عليه أن يظلمه فلا يعدل كمن يوجب طاعته فيما ظلم فيه، لكنهم يوجبون اتباع ما بلغه عن الله، وهذا من جهلهم وتناقضهم؛ ولهذا قال النبي

 

ص -86-

صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ويحك‏!‏ ومن يعدل إذا لم أعدل‏؟‏‏!‏‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏لقد خبت وخسرت إن لم أعدل‏"‏، أي‏:‏ إن اتبعت من هو غير عادل فأنت خائب خاسر‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏أَيَأْمَنُنِي من في السماء ولا تَأْمَنُونِي‏؟‏‏!‏‏"‏، يقول‏:‏ ‏"‏إذا كان الله قد ائتمنني على تبليغ كلامه أفلا تأمنوني على أن أؤدي الأمانة إلى الله‏؟‏‏"‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏‏.‏
وفي الجملة، فالقرآن يوجب طاعته في حكمه وفي قسمه، ويذم من يعدل عنه في هذا أو هذا، كما قال تعالى في حكمه‏:‏ ‏
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إلىكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا‏}‏ [‏النساء‏:‏60  64‏]‏،

 

ص -87-

وقال تعالى‏:‏‏{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إليه مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عليهمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 47  52‏]‏‏.‏
وقال في قسمه للصدقات والفيء، قال في الصدقات‏:‏
‏{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58، 59‏]‏، وقال في الفيء‏:‏ ‏{مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَإلىتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إليهمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ الآيات الثلاث ‏[‏الحشر‏:‏ 7- 9‏]‏‏.‏
فالطاعن في شيء من حكمه أو قسمه  كالخوارج  طاعن في

 

ص -88-

كتاب الله مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مفارق لجماعة المسلمين، وكان شيطان الخوارج مَقْمُوعًا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة على  رضي الله عنه  وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفروا علىا ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أولي الطائفتين بالحق على بن أبي طالب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏تَمْرق مارقة على حين فرقة من الناس تقتلهم أولي الطائفتين بالحق‏"‏‏.‏
ولهذا لما ناظرهم من ناظرهم؛ كابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهما، بينوا لهم بطلان قولهم بالكتاب والميزان، كما بين لهم ابن عباس، حيث أنكروا على على بن أبي طالب قتاله لأهل الجمل، ونهيه عن اتباع مدبرهم، والإجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم، وكانت حجة الخوارج أنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر، فإن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم، وإن كانوا كفارًا أبيحت دماؤهم وأموالهم وذراريهم، فأجابهم ابن عباس بأن القرآن يدل على أن عائشة أم المؤمنين، وبين أن أمهات المؤمنين حرام، فمن أنكر أمومتها فقد خالف كتاب الله، ومن استحل فرج أمه فقد خالف كتاب الله‏.‏
وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمنًا لم يبح قتاله بحال، وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة، حيث ظنوا أن من قاتل علىا كافر؛

 

ص -89-

فإن هذا خلاف القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏
‏[‏الحجرات‏:‏ 9، 10‏]‏، فأخبر  سبحانه  أنهم مؤمنون مقتتلون، وأمر إن بغت إحداهما على الأخرى أن تقاتل التي تبغي، فإنه لم يكن أمر بقتال أحدهما ابتداء، ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالإصلاح بينهما بالعدل، وقال‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏، فدل القرآن على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي، وأنه يأمر بقتال الباغية حيث أمر الله به‏.‏
وكذلك عمر بن عبد العزيز لما ناظرهم وأقروا بوجوب الرجوع إلى ما نقله الصحابة عن الرسول من فرائض الصلاة، بين لهم عمر أنه كذلك يجب الرجوع إلى ما نقلوه عنه صلى الله عليه وسلم من فريضة الرجم ونصاب الزكاة، وأن الفرق بينهما فرق بين المتماثلين، فرجعوا إلى ذلك‏.‏
وكذلك ابن عباس ناظرهم لما أنكروا تحكيم الرجال بأن الله قال في الزوجين‏:‏ إذا خيف شقاق بينهما أن يبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، وقال‏:‏
‏{إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏، وأمر  أيضًا  أن يحكم في الصيد بجزاء مثل ما قتل من النَّعَم يحكم به ذوا عدل منكم، فمن أنكر التحكيم مطلقًا فقد خالف كتاب الله  تعالى  وذكر ابن عباس أن

 

ص -90-

التحكيم في أمر أميرين لأجل دماء الأمة أولي من التحكيم في أمر الزوجين، والتحكيم لأجل دم الصيد‏.‏ وهذا استدلال من ابن عباس بالاعتبار وقياس الأولي، وهو من الميزان، فاستدل عليهم بالكتاب والميزان، قال الله تعالى‏:‏‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏
أمر  سبحانه  بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منا، وأمر  إن تنازعنا في شيء  أن نرده إلى الله والرسول، فدل هذا على أن كل ما تنازع المؤمنون فيه من شيء فعليهم أن يردوه إلى الله والرسول، والمعلق بالشرط يعدم عند عدم الشرط، فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يكن هذا الأمر ثابتًا؛ وكذلك إنما يكون لأنهم إذا لم يتنازعوا كانوا على هدي وطاعة الله ورسوله فلا يحتاجوا حينئذ أن يأمروا بما هم فاعلون من طاعة الله والرسول‏.‏
ودل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا بل اجتمعوا، فإنهم لا يجتمعون على ضلالة، ولو كانوا قد يجتمعون على ضلالة لكانوا حينئذ أولي بوجوب الرد إلى الله والرسول منهم إذا تنازعوا، فقد يكون أحد الفريقين مطيعًا الله والرسول‏.‏ فإذا كانوا مأمورين في هذا الحال بالرد إلى الله والرسول ليرجع إلى ذلك فريق منهم  خرج عن ذلك  فلأن يؤمروا بذلك

 

ص -91-

إذا قدر خروجهم كلهم عنه بطريق الأولي والأحري  أيضًا  فقد قال لهم‏:‏ ‏{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ علىكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏
فلما نهاهم عن التفرق مطلقًا دل ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم، وبين أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، كما قال‏:‏
‏{و هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏
‏[‏الأنفال‏:‏ 62، 63‏]‏، فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم، ومما مَنَّ به عليهم، فلم يكن ذلك اجتماعًا على باطل؛ لأن الله  تعالى  أعلم بجميع الأمور‏.‏ انتهى والحمد الله رب العالمين‏.‏

 

ص -92-

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني  رضي الله عنه ونور ضريحه‏:‏
الحمد لله رب العالمين‏.‏
قاعدة نافعة
في وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الضلال والشقاء في مخالفته، وأن كل خير في الوجود؛ إما عام، وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول، وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول، أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة‏.‏
والرسالة ضرورية للعباد، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور‏؟‏ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله

 

ص -93-

تعالى‏:‏ ‏{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏122‏]‏،فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس‏.‏ وأما الكافر فميت القلب في الظلمات‏.‏ وسمي الله  تعالى  رسالته روحًا، والروح إذا عُدِم فقد فقدت الحياة، قال الله  تعالى ‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلىكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏52‏]‏، فذكر هنا الأصلين، وهما‏:‏ الروح، والنور‏.‏ فالروح الحياة، والنور النور‏.‏
وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورًا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏
{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏‏.‏
فشبه العلم بالماء المنزل من السماء؛ لأن به حياة القلوب، كما أن

 

ص -94-

بالماء حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية؛ لأنها محل العلم، كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا، ووادٍ يسع ماء كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلاً وواد يسع ماء قليلاً، وأخبر  تعالى  أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنه يذهب جُفَاءً، أي‏:‏ يرمي به ويخفي، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، فإذا تَرَابَي فيها الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاء ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال‏:‏ ‏{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏، فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء‏.‏ ونظير هذين المثالين‏:‏ المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 17  19‏]‏‏.‏ وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حي، وإن كانت حياته حياة بَهِيمِيَّة، فهو عادم الحياة الروحانية العُلْوِية التي سببها سبب الإيمان، وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة؛ فإن الله  سبحانه  جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه‏.‏

 

ص -95-

فالأصل الأول‏:‏ يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم‏.‏
والأصل الثاني‏:‏ يتضمن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه‏.‏
والأصل الثالث‏:‏ يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب‏.‏
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومَنْ يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه‏.‏
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب؛ فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتًا لا تُرْجي الحياة معه أبدًا، أو شَقِي

 

ص -96-

شقاوة لا سعادة معها أبدًا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ أي‏:‏ لا مفلح إلا هم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏، فخص هؤلاء بالفلاح، كما خص المتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم، ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودًا وعدمًا‏.‏
وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل؛ ولهذا قص الله علىنا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقي آثارهم وديارهم عِبْرَةً لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به، وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاؤوا به، واتخاذهم أولياء من دونه‏.‏ وهذه سنته  سبحانه  فيمن خالف رسله، وأعرض عما جاؤوا به

 

ص -97-

واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقي الله  سبحانه  آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 34، 35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 136-138‏]‏ أي‏:‏ تمرون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال‏:‏ ‏{أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏، وقال  تعالى  في مدائن قوم لوط‏:‏ ‏{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 74  76‏]‏ يعني‏:‏ مدائنهم بطريق مقيم يراها المارُّ بها، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وهذا كثير في الكتاب العزيز؛ يخبر الله  سبحانه  عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أَتْبَاع المرسلين؛ ولهذا يذكر  سبحانه  في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب‏.‏ ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله‏:‏
‏{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 158، 159‏]‏، فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة، وهو‏:‏ ‏{الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله وأتباعهم برحمته‏.

 

ص -98-

فصل
والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين‏:‏ حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره‏.‏ والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده، وحِصْنه الذي من دخله كان آمنًا‏.‏
وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس؛ فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد، والعدل والبر، والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، والشجاعة والحلم، والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل صلى الله عليه وسلم والتوكل عليه، والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه،

 

ص -99-

وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته‏.‏
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مِنَّةٍ عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبَين لهم الصراط المستقيم‏.‏ ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالاً منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأَسْوَأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم‏.‏
وفي الصحيح من حديث أبي موسى  رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏ ‏"‏مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غَيْثٍ أصاب أرضا، فكانت منها طائفة قَبِلَت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجَادِب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخري إنما هي قِيعَان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله  تعالى  ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به‏"‏ متفق على صحته‏.

 

ص -100-

 

فالحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا، يتلو علىنا آيات الله ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين‏.‏ وقال أهل الجنة‏:‏ ‏{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏‏.‏ والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا دَرَسَتْ آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خَرَّبَ الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة‏.‏
وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر، والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهىه، وهم السفراء بينه وبين عباده‏.‏
وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏
‏"‏يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مُهْدَاة‏"‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، وقال صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏"‏إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب‏"‏ وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل،

 

ص -101-

فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه رحمة للعالمين ومَحَجَّة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره وتوقيره، والقيام بأداء حقوقه، وسد إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين، وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين‏.‏
أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعَلَّم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عُمْيًا، وآذانًا صُما، وقلوبًا غُلْفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء، وأوضح بها المحجة البيضاء، وشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ورفع ذِكْره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله على حين فَتْرة من الرسل، ودروس من الكتب حين حُرِّف الكلم، وبُدِّلت الشرائع، واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وجعله قسيم الجنة والنار، وفرق ما بين الأبرار والفجار، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته،

 

ص -102-

والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته‏.‏
وامتحن به الخلائق في قبورهم، فهم في القبور عنه مسؤولون، وبه ممتحنون، يؤتي العبد في قبره فيقال‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏
فأما المؤمن فيقول‏:‏ أشهد أنه عبد الله، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه، فيقال له‏:‏ صدقت، على هذا حَيِيت وعليه مِتَّ، وعليه تبعث إن شاء الله، نَمْ نومة العروس، لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، ثم يفسح له في قبره وينور له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة، فيزداد غبطة وسرورًا‏.‏
وأما الكافر والمنافق فيقول‏:‏ لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيقال له‏:‏ قد كنا نعلم ذلك، وعلى ذلك حييت وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يضرب بِمِرْزَبَّةٍ من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان‏.‏
وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعًا من القرآن، وقَرَن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا ذكر معه، قال ابن عباس

 

ص -103-

رضي الله عنه  في قوله تعالى‏:‏ ‏{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏، قال‏:‏ لا أُذْكَر إلا ذُكِرْتَ معي‏.‏ وهذا كالتشهد والخطب والأذان‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلا يصح الإسلام إلا بذكره والشهادة له بالرسالة‏.‏
وكذلك لا يصح الأذان إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الصلاة إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الخطبة إلا بذكره والشهادة له‏.‏
وحَذَّر الله  سبحانه وتعالى  من العذاب والكفر لمن خالفه، قال تعالى‏:‏ ‏
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، قال الإمام أحمد  رحمه الله تعالى ‏:‏ أي فتنة هي‏؟‏ إنما هي الكفر‏.‏
وكذلك ألبس الله  سبحانه  الذلة والصَّغَار لمن خالف أمره، كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
"‏بعثت بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تَشَبَّه بقوم فهو منهم‏"‏‏.‏

 

ص -104-

وكما أن من خالفه وشاقه وعاداه هو الشقي الهالك، فكذلك من أعرض عنه وعما جاء به واطمأن إلى غيره ورَضِي به بدلاً منه هو هالك أيضًا‏.‏ فالشقاء والضلال في الإعراض عنه، وفي تكذيبه، والهدى والفلاح في الإقبال على ما جاء به، وتقديمه على كل ما سواه، فالأقسام ثلاثة‏:‏ المؤمن به، وهو المتبع له، المحب له، المقدم له على غيره‏.‏ والمعادي له والمنابذ له‏.‏ والمعرض عما جاء به‏.‏ فالأول هو السعيد، والآخران هما الهالكان‏.‏
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من المتبعين له، المؤمنين به، وأن يحيينا على سنته ويتوفانا عليها، لا يفرق بيننا وبينها، إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم والوكيل، والحمد صلى الله عليه وسلم رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين‏.‏

 

ص -105-

وقال شيخ الإسلام  رَحِمهُ الله‏:‏
فَصْل

في تَوَحُّد الملة وتعدد الشرائع وتنوعها، وتوحد الدين المِلِّي دون الشرعي، وما في ذلك من إقرار ونسخ، وجريان ذلك في أهل الشريعة الواحدة بنوع من الاعتبار، قال الله تعالى‏:‏ ‏
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏، فهذا نص في أنه إمام الناس كلهم، وقال‏:‏ ‏{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وهو القدوة الذي يؤتم به، وهو معلم الخير، وقال‏:‏ ‏{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130  134‏]‏‏.‏

 

ص -106-

فقد بين أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَنْ هو سفيه، وأنه أُمِرَ بالإسلام فقال‏:‏ ‏{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وأن هذه وصية إلى بنيه، ووصية إسرائيل إلى بنيه، وقد اصطفي آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏.‏ثم قال‏:‏ ‏{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏، فأمر باتباع ملة إبراهيم ونهى عن التهود والتنصر، وأمر بالإيمان الجامع كما أنزل على النبيين وما أوتوه والإسلام له، وأن نصبغ بصبغة الله، وأن نكون له عابدين، ورد على من زعم أن إبراهيم وبنيه وإسرائيل وبنيه كانوا هودًا أو نصاري، وقد قال قبل هذا‏:‏ ‏{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 120‏]‏، والمعنى‏:‏ ولن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتهم، ولا النصارى حتى تتبع ملتهم‏.‏
وقد يستدل بهذا على أن لكل طائفة ملة؛ لقوله تعالى‏:‏

 

ص -107-

‏{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 113‏]‏، وقال تعالى في آخر السورة‏:‏ ‏{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ‏}‏ إلى آخر السورة ‏[‏البقرة‏:‏ 285، 286‏]‏، كما قال في أولها‏:‏ ‏{والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏، ففتحها بالإيمان الجامع، وختمها بالإيمان الجامع، ووسَّطَها بالإيمان الجامع‏.‏ ونبينا صلى الله عليه وسلم أعطي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه‏.‏
وقال  تعالى  في آل عمران  بعد أن قص أمر المسيح ويحيي ‏:‏ ‏
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، وهي التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى هِرَقْل عظيم الروم لما دعاهم إلى الإسلام، وقال‏:‏ ‏{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏،

 

ص -108-

إلى قوله‏:‏ ‏{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏56  83‏]‏ ، فأنكر على من يبغي غير دين الله‏.‏ كما قال في أول السورة‏:‏ ‏{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18، 19‏]‏، فأخبر أن الدين عند الله الإسلام، وأن الذين اختلفوا من أهل الكتاب، وصاروا على ملل شَتَّي ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، وفيه بيان أن الدين واحد لا اختلاف فيه‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161، 162‏]‏، هذا بعد أن ذكر الأنبياء فقال‏:‏ ‏{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏
وذكر في النحل دعوة المرسلين جميعهم، واتفاقهم على عبادة الله وحده لا شريك له، فقال‏:‏
‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120  123‏]‏،

 

ص -109-

وقال‏:‏ ‏{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 34  37‏]
وقال في سورة الأنبياء‏:‏
‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال بعد أن قص قصصهم‏:‏ ‏{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 29‏]‏، وقال في آخرها‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 108‏]‏، وقال في سورة المؤمنين‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51  53‏]‏‏.‏
وقال في آخر سورة الحج  التي ذكر فيها الملل الست، وذكر ما جعل لهم من المناسك والمعابد، وذكر ملة إبراهيم خصوصًا ‏:‏
جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، وقال ‏{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏ ‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏[‏البينة‏:‏ 1  5‏]‏‏.‏

 

ص -110-

وهذا في القرآن مذكور في مواضع كثيرة‏.‏
وكذلك في الأحاديث الصحيحة، مثل ما ترجم عليه البخاري فقال‏:‏ ‏[‏باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد‏]‏ وذكر الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏إنا معاشر الأنبياء إخوة لِعَلاَّت‏"‏ ، ومثل صفته في التوراة‏:‏ ‏"‏لن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا‏"‏؛ ولهذا وَحَّد الصراط والسبيل في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏، ‏{وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏، وقوله‏:‏ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏‏.‏
والإسلام دين جميع المرسلين، قال نوح  عليه السلام ‏:‏ ‏
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏، وقال الله عن إبراهيم وبنيه ما تقدم، وقال الله عن السحرة‏:‏ ‏{رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 126‏]‏،

 

ص -111-

وعن فرعون‏:‏ ‏{قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏، وقال الحواريون‏:‏ ‏{آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 25‏]‏، وفي السورة الأخري‏:‏ ‏{وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏، وقال يوسف الصديق‏:‏ ‏{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، وقال موسي‏:‏ ‏{إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏، وقالت بلقيس‏:‏ ‏{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏، وقال في التوراة‏:‏ ‏{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏
قال شيخ الإسلام‏:‏ وقد قررت في غير هذا الموضع الإسلام العام والخاص، والإيمان العام والخاص، كقوله‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏
وأما تنوع الشرائع وتعددها فقال  تعالى  لما ذكر القِبلة بعد الملة بقوله‏:‏ ‏
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144  148‏]‏، فأخبر أن لكل أمة وِجْهَة، ولم يقل‏:‏ جعلنا لكل أمة وجهة، بل قد يكون هم ابتدعوها كما ابتدعت النصارى وجهة المشرق، بخلاف ما ذكره في الشرع والمناهج؛ فإنه قال‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ‏}‏ إلى قوله‏:‏

 

ص -112-

‏{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41  50‏]‏، وهذه الآيات نزلت بسبب الحكم في الحدود والقصاص والديات، أخبر أن التورة ‏{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، وهذا عام في النبيين جميعهم والربانيين والأحبار‏.‏
ثم لما ذكر الإنجيل قال‏:‏
لْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 47‏]‏، فأمر هؤلاء بالحكم؛ لأن الإنجيل بعض ما في التوراة وأقر الأكثر، والحكم بما أنزل الله فيه حكم بما في التوراة  أيضا  ثم قال‏:‏ ‏{فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، فأمره أن يحكم بما أنزل الله على مَنْ قبله، لكلٍّ جعلنا من الرسولين والكتابين شِرْعَة ومنهاجًا، أي‏:‏ سنة وسبيلاً، فالشِّرْعة الشريعة وهي السنة، والمنهاج الطريق والسبيل‏.‏ وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له، ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه، فالأول نهى له أن يأخذ بمنهاج غيره وشرعته، والثاني  وإن كان حكمًا غير الحكم الذي أنزل  نهي له أن يترك شيئًا مما أنزل فيها اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله، وإن لم يكن من أهل الكتاب، الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه‏.‏

 

ص -113-

وقال تعالى في الحج‏:‏ ‏{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏، ‏{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏، وذكر في أثناء السورة‏:‏ ‏{بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏، فبين أنه هو جعل المناسك، وذكر مواضع العبادات، كما ذكر في البقرة الوجهة التي يتوجهون إليها، وقال في سورة الجاثية  بعد أن ذكر بني إسرائيل ‏:‏ ‏{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏} الآية ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏، وقال في النسخ ووجوب اتباعهم للرسول‏:‏ ‏{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ الآية والتي بعدها ‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏، وقد تقدم ما في البقرة وآل عمران من أمرهم بالإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك في سورة النساء، وهو كثير في القرآن‏.‏
فَصْل
قال الله تعالى لنا‏:‏
‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا‏}‏،

 

ص -114-

إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102  110‏]‏‏.‏
فأمرنا بملازمة الإسلام إلى الممات، كما أمر الأنبياء جميعهم بالإسلام، وأن نعتصم بحبله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وذكر أنه تَبْيَضُّ وجوه وتَسْوَدُّ وجوه، قال ابن عباس‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرق، وذكر أنه يقال لهم‏:‏ ‏
{أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏، وهذا عائد إلى قوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ فأمر بملازمة الإسلام، وبين أن المسودة وجوههم أهل التفرق والاختلاف، يقال لهم‏:‏ أكفرتم بعد إيمانكم‏؟‏ وهذا دليل على كفرهم وارتدادهم، وقد تأولها الصحابة في الخوارج‏.‏
وهذا نظير قوله للرسل‏:‏ ‏
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 31‏]‏، وقد قال في البقرة‏:‏ ‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، وقال  أيضًا ‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 53‏]‏،

 

ص -115-

وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 105‏]‏، ‏{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ الآية ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، ونظيرها في الجاثية‏.‏
وقال الله تعالى‏:‏ ‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏} ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏‏.‏
فَصْل
إذا كان الله  تعالى  قد أمرنا بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منا، وأمرنا عند التنازع في شيء أن نرده إلى الله وإلى رسوله، وأمرنا بالاجتماع والائتلاف، ونهانا عن التفرق والاختلاف، وأمرنا

 

ص -116-

أن نستغفر لمن سبقنا بالإيمان، وسمانا المسلمين، وأمرنا أن ندوم عليه إلى الممات‏.‏ فهذه النصوص وما كان في معناها توجب علىنا الاجتماع في الدين؛ كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين، وولاة الأمور فينا هم خلفاء الرسول، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء، كلما هلك نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون‏"‏، قالوا‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أوفوا بيعة الأول فالأول، وأدوا لهم الذي لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم‏"‏، وقال  أيضًا ‏:‏ ‏"‏العلماء ورثة الأنبياء‏"‏، ورُوِي عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏وَدِدْت أني قد رأيت خلفائي‏"‏ قالوا‏:‏ ومن خلفاؤك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الذين يحيون سنتي يعلّمونها الناس‏"‏، فهؤلاء هم ولاة الأمر بعده وهم الأمراء والعلماء، وبذلك فسرها السلف ومن تبعهم من الأئمة؛ كالإمام أحمد وغيره، وهو ظاهر قد قررناه في غير هذا الموضع‏.‏ فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء، قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏69‏]‏، وقال تعالى‏:‏

 

ص -117-

{قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 208‏]‏، والتنوع قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخري‏.‏
فالأول مثل ما يجب على قَوْمٍ الجهاد، وعلى قوم الزكاة، وعلى قوم تعلىم العلم، وهذا يقع في فروض الأعيان، وفي فروض الكفايات‏.‏ ففروض الأعيان مثل ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة والجمعة في مكانه مع أهل بقعته، ويجب عليه زكاة نوع ماله بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله، ويجب عليه استقبال الكعبة من ناحيته، والحج إلى بيت الله من طريقه، ويجب عليه بر والديه وصلته ذوي رحمه، والإحسان إلى جيرانه وأصحابه ومماليكه ورعيته، ونحو ذلك من الأمور التي تتنوع فيها أعيان الوجوب وإن اشتركت الأمة في جنس الوجوب، وتارة تتنوع بالقدرة والعجز، كتنوع صلاة المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والآمن والخائف‏.‏
وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها؛ وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، فقد تتعين في وقت ومكان، وعلى شخص أو طائفة، وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخري، كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفُتْيَا والقضاء، وغير ذلك‏.‏

 

ص -118-

وأما في الاستحباب فهو أبلغ؛ فإن كل تنوع يقع في الوجوب فإنه يقع مثله في المستحب، ويزداد المستحب بأن كل شخص إنما يستحب له من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله  تعالى  التي يقول الله فيها‏:‏ ‏"‏وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‏"‏ ما يقدر عليه ويفعله وينتفع به، والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له، وهذا يتنوع تنوعًا عظيمًا، فأكثر الخلق يكون المستحب له ما ليس هو الأفضل مطلقًا؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك، فإنه قد يفسد عقله ودينه، أو من لا يمكنه الصبر على مرارة الفقر ولا يمكنه الصبر على حلاوة الغني، أو لا يقدر على دفع فتنة الولاية عن نفسه والصبر على حقوقها‏.‏
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه  عز وجل ‏:‏
‏"‏إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك‏"‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر  لما سأله الإمارة ‏:‏ ‏"‏يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأَمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّينَّ مال يتيم‏"‏‏.‏ وروي عنه أنه قال للعباس  عمه ‏:‏ ‏"‏نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها‏"‏؛ ولهذا إذا قلنا‏:‏ هذا العمل أفضل، فهذا قول مطلق‏.‏

 

ص -119-

ثم المفضول يكون أفضل في مكانه ويكون أفضل لمن لا يصلح له الأفضل، مثال ذلك‏:‏ أن قراءة القرآن أفضل من الذكر بالنص والإجماع والاعتبار‏.‏
أما النص، فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"
‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع  وهن من القرآن ‏:‏ سبحان الله، والحمد صلى الله عليه وسلم، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه‏"‏، وقوله عن الله‏:‏ ‏"‏من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه‏"‏، وقول الأعرابي له‏:‏ إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ سبحان الله والحمد صلى الله عليه وسلم ولا إله إلا الله والله أكبر‏"‏‏.‏
وأما الإجماع على ذلك فقد حكاه طائفة، ولا عبرة بخلاف جهال المتعبدة‏.‏
وأما الاعتبار، فإن الصلاة تجب فيها القراءة، فإن عجز عنها انتقل إلى الذكر ولا يجزيه الذكر مع القدرة على القراءة، والمبدل منه أفضل من البدل الذي لا يجوز إلا عند العجز عن المبدل‏.‏

 

ص -120-

وأيضًا، فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبري كما تشترط للصلاة الطهارتان، والذكر لا يشترط له الكبري ولا الصغري، فعلم أن أعلى أنواع ذكر الله هو الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر المطلق، ثم الذكر في الركوع والسجود أفضل بالنص والإجماع من قراءة القرآن، وكذلك كثير من العباد قد ينتفع بالذكر في الابتداء ما لا ينتفع بالقراءة؛ إذ الذكر يعطيه إيمانًا والقرآن يعطيه العلم، وقد لا يفهمه، ويكون إلى الإيمان أحوج منه لكونه في الابتداء، والقرآن مع الفهم لأهل الإيمان أفضل بالاتفاق‏.‏
فهذا وأمثاله يشبه تنوع شرائع الأنبياء؛ فإنهم متفقون على أن الله أمر كلاً منهم بالدين الجامع، وأن نعبده بتلك الشرعة والمنهاج، كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كل مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به؛ إما إيجابًا، وإما استحبابًا، وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم، ولا أخطأ أحد منهم، بل كلهم متفقون على ذلك يصدق بعضهم بعضًا‏.‏

 

ص -121-

فَصْل
وأما ما يشبه ذلك من وجه دون وجه، فهو ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه، وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك؛ كاجتهاد الصحابة في قطع اللِّينَة وتركها، واجتهادهم في صلاة العصر، لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى قوم في الطريق في الوقت، وقالوا‏:‏ إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة‏.‏ وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكًا بظاهر لفظ العموم، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏"‏‏.‏
وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم؛ كمسائل في العبادات والمناكح، والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولي، ولما سئل عن ذلك قال‏:‏ تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي‏.‏

 

ص -122-

وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم‏.‏
وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة‏.‏
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور اتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه، وهل يقال له‏:‏ مصيب أو مخطئ‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين، ولا حكم في نفس الأمر‏.‏
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد، وإن أخطأ، فهذا النوع يشبه النوع الأول من وجه دون وجه، أما وجه المخالفة؛ فلأن الأنبياء  عليهم السلام  معصومون عن الإقرار على الخطأ، بخلاف الواحد من العلماء والأمراء؛ فإنه ليس معصومًا من ذلك؛ ولهذا يسوغ، بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتباعه، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء، وأما الأنبياء فلا يبين أحدهما ما يظهر به خطأ الآخر، وأما المشابهة فلأن كلا مأمور باتباع ما بَانَ له من الحق بالدليل الشرعي؛ كأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ما أوحي إليه،

 

ص -123-

وليس لأحدهما أن يوجب على الآخر طاعته، كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر‏.‏ وقد يظهر له من الدليل ما كان خافيًا عليه فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد، ويشبه النسخ في حق النبي، لكن هذا رَفْعٌ للاعتقاد، وذاك رفع للحكم حقيقة، وعلى الأَتْبَاع اتِّبَاع من وَلِي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده، كما على الأمة اتباع أي نبي بعث إليهم وإن خالف شرعه شرع الأول، لكن تنوع الشرع لهؤلاء وانتقاله لم يكن لتنوع نفس الأمر النازل على الرسول، ولكن تنوع أحوالهم، وهو إدراك هذا لما بلغه من الوحي سمعًا وعقلاً،وعجز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ؛ إما سمعًا لعدم تمكنه من سماع ذلك النص، وإما عقلاً لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص، وإذا كان عاجزًا سقط عنه الإثم فيما عجز عنه، وقد يتبين لأحدهما عجز الآخر وخطؤه وتعذره في ذلك، وقد لا يتبين له عجزه، وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذي أدرك الحق وأصابه‏.‏
ولهذا امتنع من امتنع من تسمية مثل هذا خطأ، قال‏:‏ لأن التكليف مشروط بالقدرة، فما عجز عنه من العلم لم يكن حكم الله في حقه، فلا يقال‏:‏ أخطأه‏.‏
وأما الجمهور فيقولون‏:‏ أخطأه، كما دلت عليه السنة والإجماع، لَكِنْ خطؤه معذور فيه، وهو معني قوله‏:‏ عجز عن إدراكه وعلمه، لكن

 

ص -124-

هذا لا يمنع أن يكون ذاك هو مراد الله ومأموره‏.‏ فإن عجز الإنسان عن فهم كلام العالم لا يمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى، وأن يكون الذي فهمه هو المصيب الذي له أجران‏.‏
ولهذا تنازع أصحابنا فيمن لم يُصِبِ الحكم الباطن، هل يقال‏:‏ إنه مصيب في الظاهر؛ لكونه أدي الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاره‏؟‏ أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال، وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد؛ وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق، وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به‏؟‏ التحقيق أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه، فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيبًا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق‏.‏
يوضح ذلك أن السلطان نوعان‏:‏ سلطان الحجة والعلم، وهو أكثر ما سمي في القرآن سلطانًا، حتى روي عن ابن عباس أن كل سلطان في القرآن فهو الحجة‏.‏ والثاني‏:‏ سلطان القدرة‏.‏ والعمل الصالح لا يقوم إلا بالسلطانين؛ فإذا ضعف سلطان الحجة كان الأمر بقدره، وإذا ضعف سلطان القدرة كان الأمر بحسبه،والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين، فالإثم ينتفي عن الأمر بالعجز عن كل منهما‏.‏وسلطان الله في العلم هو الرسالة، وهو حجة الله على خلقه، كما قال تعالى‏:‏

 

ص -125-

‏{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنْ هِيَ  ‏{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏، وقال‏:‏ ‏[‏الروم‏:‏ 35‏]‏، ونظائره متعددة‏.‏
فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء؛ ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة  بحسب الإمكان  بعد الاجتهاد التام  هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشِّرَع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له، وهو الدين الأصلى الجامع، كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له، ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لا من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه‏.‏
ويتنوع شرعهم ومناهجهم، مثل أن يبلغ أحدهم الأحاديث بألفاظ غير الألفاظ التي بلغت الآخر، وتفسر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظه لفظ التفسير الآخر، ويتصرف في الجمع بين النصوص واستخراج الأحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق، ليس هو النوع

 

ص -126-

الذي سلكه غيره، وكذلك في عباداته وتوجهاته، وقد يتمسك هذا بآية أو حديث وهذا بحديث أو آية أخرى‏.‏
وكذلك في العلم، من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالم، فتكون هي شرعهم حتى يسمعوا كلام غيره، ويروا طريقته، فيرجح الراجح منهما، فتتنوع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه، وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أمرت الرسل بذلك، ومأمورون بألا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة، كما أمرت الرسل بذلك، وهؤلاء آكد، فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد‏.‏
وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال‏:‏ إن الله أمر كلاًّ منهم باطنًا وظاهرًا بالتمسك بما هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء، وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام، فإنما يقال‏:‏ إن الله أمر كلاًّ منهم أن يطلب الحق بقدر وُسْعِه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال المؤمنون‏:‏
‏{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقال الله‏:‏ قد فعلت‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدي، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله، وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدي، واتبع هواه بغير هدى

 

ص -127-

من الله، ومن فعل ما أمر به بحسب حاله؛ من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل، فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة ‏{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه صلى الله عليه وسلم وهو محسن، ويدوم على هذا الإسلام، فإسلام وجهه إخلاصه صلى الله عليه وسلم وإحسان فعله الحسن‏.‏ فتدبر هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم‏.‏

 

ص -128-

وقال شيخ الإسلام‏:‏
هذه قاعدة عظيمة جامعة متشعبة‏.‏ وللناس في تفاصيلها اضطراب عظيم، حتى منهم من صار في طرفي نقيض في كلا نوعي الأحكام العلمية، والأحكام العينية النظرية، وذلك أن كل واحد من العلوم والاعتقادات والأحكام والكلمات، بل والمحبة والإرادات؛ إما أن يكون تابعًا لمتعلقه مطابقًا له، وإما أن يكون متبوعه تابعًا له مطابقًا له‏.‏
ولهذا انقسمت الحق والحقائق والكلمات إلى‏:‏ موجود ومقصود، إلى كوني وديني، إلى قدري وشرعي، كما قد بينته في غير هذا الموضع، وقد تنازع النظار في العلم‏:‏ هل هو تابع للمعلوم غير مؤثر فيه‏؟‏ بل هو انفعإلى كما يقوله كثير من أهل الكلام‏؟‏ أو المعلوم تابع له والعلم مؤثر فيه وهو فعلى كما يقوله كثير من أهل الفلسفة‏؟‏
والصواب أن العلم نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ تابع، والثاني‏:‏ متبوع‏.‏ والوصفان يجتمعان في العلم غالبًا أو دائمًا، فعلمنا بما لا يفتقر إلى علمنا كعلمنا بوجود السموات والأرض، وكذلك علمنا بالله وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والنبيين، وغير ذلك

 

ص -129-

علم تابع انفعإلى‏.‏ وعلمنا بما يقف على علمنا مثل ما نريده من أفعالنا علم فعلى متبوع، وهو سبب لوجود المعلوم‏.‏ وكذلك علم الله بنفسه المقدسة تابع غير مؤثر فيها، وأما علمه بمخلوقاته فهو متبوع وبه خلق الله الخلق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، فإن الإرادة مستلزمة للعلم في كل مريد، كما أن هذه الصفات مستلزمة للحياة، فلا إرادة إلا بعلم، ولا إرادة وعلم إلا بحياة، وقد يجوز أن يقال‏:‏ كله علم، فهو تابع للمعلوم مطابق؛ سواء كان سببًا في وجود المعلوم، أو لم يكن، فيكون إطلاق المتكلمين أحسن وأصوب من إطلاق المتفلسفة‏:‏ أن كل علم فهو فعلى متبوع‏.‏
وما أظن العقلاء من الفريقين إلا يقصدون معني صحيحًا، وهو أن يشيروا إلى ما تصوروه، فينظر هؤلاء في أن العلم تابع لمعلومه مطابق له، ويشير هؤلاء إلى ما في حسن العلم في الجملة، من أنه قد يؤثر في المعلوم وغيره ويكون سببًا له، وأن وجود الكائنات كان بعلم الله وعلم الإنسان بما هو حق أو باطل، وهدى أو ضلال، ورشاد أو غَي، وصدق أو كذب، وصلاح أو فساد من اعتقاداته وإراداته، وأقواله وأعماله، ونحو ذلك يجتمع فيه الوصفان، بل غالب العلم أو كله يجتمع فيه الأمران‏.‏
ولهذا كان الإيمان قولاً وعملاً قول القلب وعمله، وقول الجسد

 

ص -130-

وعمله، فإنه من عرف الله أحبه، فعمله بالله تابع للمعلوم ومتبوع لحبه صلى الله عليه وسلم، ومن عرف الشيطان أبغضه، فمعرفته به تابعة للمعلوم ومتبوعة لبغضه، وكذلك عامة العلم لابد أن يتبعه أثر ما في العالم من حب أو غيره، حتى علم الرب  سبحانه  بنفسه المقدسة يتبعه صفات وكلمات وأفعال متعلقة بنفسه المقدسة، فما من علم إلا ويتبعه حال ما،وعمل ما،فيكون متبوعًا مؤثرًا فاعلاً بهذا الاعتبار، وما من علم إلا وهو مطابق لمعلومه موافق له؛ سواء كان المعلوم مستغنيًا عنه، أو كان وجود المعلوم بوجوده، فيكون تابعًا منفعلاً مطابقًا بهذا الاعتبار، لكن كل علم، وإن كان له تأثير، فلا يجب أن يكون تأثيره في معلومه، فإن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأحب الله وملائكته وأنبياءه والجنة، وأبغض النار لم يكن علمه بذلك مؤثرًا في المعلوم، وإنما أثر في محبة المعلوم وإرادته، أو في بغضه وكراهته لذلك‏.‏
وإن كان كل علم فإنه مطابق للمعلوم، لكن قد يكون ثبوت المعلوم في ذهن العالم وتصوره قبل وجوده في الخارج،كتصور الإنسان لأقواله وأعماله، وقد يكون وجوده في الخارج قبل تصور الإنسان له وعلمه،أو بدون تصور الإنسان له،فلهذا التفريق حصل التقسيم الذي قدمناه،من أنه ينقسم إلى‏:‏ مؤثر في المعلوم، وغير مؤثر فيه، وإلى‏:‏تابع للمعلوم، وغير تابع له، وإن كان كل علم فإن له أثرًا في نفس العالم، وإن كان

 

ص -131-

كل علم فإنه تابع تبع المطابقة والموافقة، وإن لم يكن بعضه تابعًا تبع التأخر والتأثر والافتقار والتعلل‏.‏
فهذه مقدمة جامعة نافعة جدًا في أمور كثيرة‏.‏ إذا تبين هذا في جنس العلم ظهر ذلك في الاعتقاد والرأي والظن، ونحو ذلك الذي قد يكون علمًا، وقد لا يكون علمًا، بل يكون اعتقادًا صحيحًا، أو غير صحيح، أو ظنًا صحيحًا، أو غير صحيح، أو غير ذلك من أنواع الشعور والإحساس والإدراك؛ فإن هذا الجنس هو الأصل في الحركات والأفعال الروحانية والجسمانية ما كان من جنس الحب والبغض، وغير ذلك، وما كان من جنس القيام والقعود وغير ذلك، فإن جميع ذلك تابع للشعور مفتقر إليه مسبوق به، والعلم أصل العمل مطلقًا وإن كان قد يكون فرعًا لعلوم غير العمل  كما تقدم‏.‏
فالاعتقاد؛ تارة يكون فرعًا للمعتقد تابعًا له، كاعتقاد الأمور الخارجة عن كسب العبد، كاعتقاد المؤمنين والكفار في الله  تعالى  وفي اليوم الآخر، وقد يكون أصلاً للمعتقد متبوعًا له؛ كاعتقاد المعتقد وظنه أن هذا العمل يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة؛ إما في الدنيا، وإما في الآخرة، مثل اعتقاده أن أكل هذا الطعام يشبعه، وأن تناول هذا السم يقتله، وأن هذه الرَّمْيَة تصيب هذا الغرض، وهذه الضربة تقطع هذا العُنُق، وهذا البيع والتجارة يورثه ربحًا أو خسارة، وأن

 

ص -132-

صلاته وزكاته وحجه وبره وصدقه، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة يورثه السعادة في الدنيا والآخرة، وأن كفره وفسوقه وعصيانه يورثه الشقاوة في الدنيا والآخرة‏.‏
وهذا باب واسع تدخل فيه الديانات والسياسات وسائر الأعمال الدينية والدنيوية، ويشترك فيه الدين الصحيح والفاسد‏.‏ لكن هذا الاعتقاد العملي لابد أن يتعلق  أيضًا  بأمور غير العمل، فإن اعتقاده أن هذا العمل ينفعه في الدنيا والآخرة، أو يضره يتعلق  أيضًا  بصفات ثابتة الأعيان لا يتعلق باعتقاده، كما أن الاعتقاد النظري، وإن كان معتقده غير العمل، فإنه يتبعه عمل، كما تقدم أن كلاًّ من الاعتقادين تابع متبوع‏.‏
والأحكام  أيضًا  من جنس الاعتقادات، فإنه  أيضًا  ينقسم قسمين‏:‏ أحكام عينية تابعة للمحكوم فيه؛ كالحكم بما يستحقه الله  تعالى  من الحمد والثناء، وما يتقدس عنه من الفقر والشركاء‏.‏ وأحكام عملية يتبعها المحكوم فيه؛ كالحكم بأن هذا العمل حسن أو قبيح، صالح أو فاسد، خير أو شر، نافع أو ضار، واجب أو محرم، مأمور به أو منهى عنه، رشاد أو غَي، عدل أو ظلم‏.‏
وكذلك الكلمات فإنها تنقسم إلى‏:‏ خبرية وإنشائية، فالكلمات الخبرية

 

ص -133-

تطابق المخبر عنه وتتبعه، وهي موافقة للعلم التابع والاعتقاد التابع والحكم التابع‏.‏ والكلمات الإنشائية مثل الأمر والنهي والإباحة، تستتبع المتكلم فيه المأمور به والمنهى عنه والمباح، وتكون سببًا في وجوده أو عدمه؛ كالعلم المتبوع والاعتقاد المتبوع، وهو الحكم العملي‏.‏
إذا عرف هذان النوعان، فمن الناس من يسمي العلم والاعتقاد والحكم والقول الخبري التابع‏:‏ علم الأصول، وأصول الدين، أو علم الكلام، أو الفقه الأكبر، ونحو ذلك من الأسماء المتقاربة، وإن اختلفت فيها المقاصد والاصطلاحات‏.‏ ويسمي النوع الآخر‏:‏ علم الفروع، وفروع الدين، وعلم الفقه والشريعة، ونحو ذلك من الأسماء‏.‏ وهذا اصطلاح كثير من المتفقهة والمتكلمة المتأخرين‏.‏
ومن الناس من يجعل أصول الدين اسمًا لكل ما اتفقت فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير؛ سواء كان علميًا أو عمليًا، سواء كان من القسم الأول أو الآخر، حتى يجعل عبادة الله وحده ومحبته وخشيته، ونحو ذلك من أصول الدين، وقد يجعل بعض الأمور الاعتقادية الخبرية من فروعه، ويجعل اسم الشريعة ينتظم العقائد والأعمال، ونحو ذلك، وهذا اصطلاح غلب على أهل الحديث والتصوف، وعليه أئمة الفقهاء وطائفة من أهل الكلام‏.

 

ص -134-

فَصْل
إذا تبين هذا، فمن الناس من صار في طَرَفي نقيض، فحكى عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها، يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد، وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل، وإنما هو من جنس ما يحكى أن السوفسطائية أنكروا الحقائق ولم يثبتوا حقيقة ولا علمًا بحقيقة، وأن لهم مقدمًا يقال له‏:‏ سوفسطا كما يذكره فريق من أهل الكلام‏.‏
وزعم آخرون أن هذا القول لا يعرف أن عاقلًا قاله، ولا طائفة تسمى بهذا الاسم، وإنما هي كلمة معربة من اللغة اليونانية ومعناها‏:‏ الحكمة المموهة، يعنون الكلام الباطل الذي قد يشبه الحق، كما قد يتخيله الإنسان لفساد عقله أو مزاجه أو اشتباه الأمر عليه، وجعلوا

 

ص -135-

هذا نوعًا من الكلام والرأى يعرض للنفوس، لا أنه صنف من الآدميين‏.‏
وبكل حال، فمعلوم أن التخيلات الفاسدة كثيرًا ما تعرض لبنى آدم، بل هي كثيرة عليهم، وهم يجحدون الحق؛ إما عنادًا، وإما خطأ في أمور كثيرة وفي أحوال كثيرة، وإن كان الجاحد قد يقر بحق آخر، أو يقر بذلك الحق في وقت آخر، فالجهل والعناد الذي هو السفسطة هو فيهم خاص مقيد، لا أنه عام مطلق، قد يبتلى به بعضهم مطلقًا وإن لم يستمر به الأمر، وقد يبتلى به في شيء بعينه على سبيل الدوام، وأما ابتلاء الشخص المعين به، فقد يكون؛ إما مع فساد العقل المسقط للتكليف وهو الجنون،وإما مع صحة العقل المشروط في التكليف، فما أعلم شخصًا جاهلًا بكل شيء معاندًا لكل شيء حتى يكون سوفسطائيًا‏.‏
ومما يبين أن هذا لم يقع عند المتكلمة  أيضًا  أن كثيرًا من متكلمة أهل الحديث والسنة وغيرهم يقولون‏:‏ إن العقل المشروط في التكليف نوع من العلوم الضرورية؛ كالعلم بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، وامتناع الممتنعات‏.‏ واستدلوا على ذلك بأن العاقل لا يخلو من علم شيء من ذلك، وهذا قول القاضي أبي بكر، وابن البَاقِلانى، وأبي الطيب الطبري، والقاضي أبي يَعْلى، وابن عقيل، وغيرهم، فمن كان هذا

 

ص -136-

قوله لم يصح أن يحكى عن عاقل أنه أنكر العلوم جميعها إلا على سبيل العناد‏.‏ ومعلوم أن العناد لا يكون إلا لغرض، وليس لأحدٍ غرضٌ أن يعاند في كل شيء، ويجحده على سبيل الدوام‏.‏
ومن الناس بإزاء هؤلاء مَنْ قد يتوهم أنه لا تأثير للعقائد في المعتقدات، ولا تختلف الأحكام باختلاف العقائد، بل يتخيل أنه إذا اعتقد وجوب فعل، أو تحريمه كان من خرج عن اعتقاده مبطلًا مرتكبًا للمحرم، أو تاركًا للواجب، وأنه يستحق من الذم والعقاب ما يستحقه جنس من ترك الواجب، أو فعل المحرم، وإذا عورض بأنه متأول، أو مجتهد لم يلتفت إلى هذا، وقال‏:‏ هو ضال مخطئ مستحق للعقاب، وهذا  أيضًا  على إطلاقه وعمومه لا يعتقده صحيح العقل والدين، ما أعلم قائلًا به على الإطلاق والعموم كالطرف الأول، وإنما أعلم أقوامًا وطوائف يُبْتَلون ببعض ذلك ولوازمه في بعض الأشياء، فإن من غالب من يقول بعصمة الأنبياء والأئمة الاثنى عشر عن الخطأ في الأقوال والأعمال مَنْ قد يرى أنه لو أخطأ الإمام في فعلٍ لكان ذلك عيبًا وذمًا، وبين هذين الطرفين المتباعدين أطراف  أيضًا  نشأ عنها اختلاف الناس في تصويب المجتهدين وتخطئتهم في الأصول والفروع، كما سننبه عليه  إن شاء اللّه‏.‏

 

ص -137-

فصل
والمتحقق أن الأحكام والأقوال والاعتقادات كما تقدم نوعان‏:‏ عَيْنيٌّ، وعملي، تابع للمعتقد، ومتبوع للمعتقد، فرع للمعتقد، وأصل له‏.‏
فأما الأول  وهو العينى التابع للمعتقد المتفرع عليه  فهذا لا تؤثر فيه الاعتقادات ولا يختلف باختلافها، فإن حقائق الموجودات ثابتة في نفسها؛ سواء اعتقدها الناس، أو لم يعتقدوها، وسواء اتفقت عقائدهم فيها، أو اختلفت، وإذا اختلف الناس فيها على قولين متناقضين لم يكن كل مجتهد مصيبًا، بمعنى أن قوله مطابق للمعتقد موافق له، لا يقول ذلك عاقل كما تقدم‏.‏ ومن حكى عن أحد من علماء المسلمين  سواء كان عبيد اللّه بن الحسن العَنْبَرِى، أو غيره  أنه قال‏:‏ كل مجتهد في الأصول مصيب، بمعنى أن القولين المتناقضين صادقان مطابقان فقد حكى عنه الباطل بحسب توهمه، وإذا رد هذا القول وأبطله فقد أحسن في رده وإبطاله، وإن كان هذا القول المردود لا قائل به‏.‏
ولكن المنازعات والمخالفات في هذا الجنس تشتمل على أقسام، وذلك أن التنازع؛ إما أن يكون في اللفظ فقط، أو في المعنى فقط، أو في كل منهما، أو في مجموعهما‏.‏

 

ص -138-

فإن كان في المعنى مع اللفظ أو بدونه، فلا يخلو؛ إما أن يتناقض المعنيان، أو يمكن الجمع بينهما، فإن كان النزاع في المعنيين المتناقضين فأحد القولين صواب والآخر خطأ، وأما بقية الأقسام فيمكن فيها أن يكون القولان صوابًا، ويمكن أن يكون الجميع خطأ، ويمكن أن يكون كل منهما  أو أحدهما  صوابًا من وجه، خطأ من وجه، وحيث كان القولان خطأ وقد لا يكون، وإذا لم يكن كفرًا فقد يكون فسوقًا وقد لا يكون‏.‏ فمن قال‏:‏ إن المتنازعين كل منهما صواب بمعنى الإصابة في بعض الأقسام المتقدمة، أو بمعنى أنه لا يعاقب على ذلك فهذا ممكن، وأما تصويب المتناقضين فمحال، فإنه كثيرًا ما يكون النزاع في المعنى نزاع تنوع، لا نزاع تضاد وتناقض، فيثبت أحدهما شيئًا، وينفي الآخر شيئًا آخر، ثم قد لا يشتركان في لفظ ما نفاه أحدهما وأثبته الآخر، وقد يشتركان في اللفظ، فيكون التناقض والاختلاف في اللفظ، وأما المعنى فلا يختلفان فيه ولا يتناقضان‏.‏
ثم قد يكونان متفقين عليه يقوله كل منهما، وقد يكون أحدهما قاله  أو يقوله  والآخر لا يتعرض له بإثبات ولا نفي، وقد يكون النزاع اللفظي مع اتحاد المعنى لا تنوعه، وكثير من تنازع الأمة في دينهم هو من هذا الباب في الأصول والفروع والقرآن والحديث، وغير ذلك‏.‏
مثال التنوع الذي ليس فيه نزاع لفظى أن يقول أحدهما‏: ‏الصراط

 

ص -139-

المستقيم هو الإسلام‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ هو السنة والجماعة‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ هو القرآن‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ هو طريق العبودية‏.‏ فإن هذا تنوع في الأسماء والصفات التي يبين بها الصراط المستقيم بمنزلة أسماء اللّه وأسماء رسوله وكتابه، وليس بينها تضاد، لا في اللفظ ولا في المعنى‏.‏
وكذلك إذا قال بعضهم في السابق والمقتصد والظالم أقوالًا، يذكر فيها كل قوم نوعًا من المسميين، ويكون الاسم متناولًا للجميع من غير منافاة‏.‏
ومثال التنوع الذي فيه نزاع لفظي لأجل اشتراك اللفظ  كما قيل‏:‏ أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء  تنازع قوم في أن محمدًا رأى ربه في الدنيا أو في الآخرة‏؟‏ فقال قوم‏:‏رآه في الدنيا؛ لأنه رآه قبل الموت‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل في الآخرة؛ لأنه رآه وهو فوق السموات ولم يره وهو في الأرض‏.‏ والتحقيق أن لفظ الآخرة يراد به الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ويراد به الدار الدنيا والدار الآخرة، ومحمد رأى ربه في الحياة الدنيا في الدار الآخرة‏.‏
وكذلك كثير ممن يتنازعون في أن اللّه في السماء، أو ليس في السماء‏.‏ فالمثبتة تطلق القول بأن اللّه في السماء، كما جاءت به النصوص، ودلت عليه‏.‏ بمعنى أنه فوق السموات على عرشه بائن من خلقه‏.‏ وآخرون ينفون

 

ص -140-

القول بأن اللّه في السماء، ومقصودهم أن السماء لا تحويه ولا تحصره ولا تحمله ولا تقله، ولا ريب أن هذا المعنى صحيح  أيضًا‏.‏ فإن اللّه لا تحصره مخلوقاته، بل وسع كرسيه السموات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، وكذلك ليس هو مفتقرًا إلى غيره، محتاجًا إليه، بل هو الغنى عن خلقه، الحي القيوم الصمد، فليس بين المعنيين تضاد، ولكن هؤلاء أخطؤوا في نفي اللفظ الذي جاء به الكتاب والسنة، وفي توهم أن إطلاقه دَالٌّ على معنى فاسد‏.‏
وقد يعذر بعضهم إذا رأى من أطلق هذا اللفظ، وأراد به أن السماء تقله أو تظله، وإذا أخطأ من عنى هذا المعنى فقد أصاب، وأما الأول فقد أصاب في اللفظ لإطلاقه ما جاء به النص، وفي المعنى الذي تقدم؛ لأنه المعنى الحق الذي دل عليه النص، لكن قد يخطئ بعضهم في تكفير من يطلق اللفظ الثاني إذا كان مقصوده المعنى الصحيح، فإن من عنى المعنى الصحيح لم يكفر بإطلاق لفظ، وإن كان مسيئًا، أو فاعلًا أمرًا محرمًا‏.‏ وأما من فسر قوله‏:‏ إنه ليس في السماء، بمعنى أنه ليس فوق العرش، وإنما فوق السموات عدم محض، فهؤلاء هم الجهمية الضلال، المخالفون لإجماع الأنبياء، ولفطرة العقلاء‏.‏

 

ص -141-

فصل
ونحن نذكر من ذلك أصولًا‏:‏
أحدها‏:‏ تأثير الاعتقادات في رفع العذاب والحدود، فنقول‏:‏ إن الأحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة، مثل الكتاب والسنة المتواترة والإجماع الظاهر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصيام وتحريم الزنا والخمر والربا‏.‏ إذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغًا يمكنه من اتباعها فخالفها تفريطًا في جنب اللّه وتعديًا لحدود اللّه فلا ريب أنه مخطئ آثم، وأن هذا الفعل سبب لعقوبة اللّه في الدنيا والآخرة، فإن اللّه أقام حجته على خلقه بالرسل الذين بعثهم إليهم مبشرين ومنذرين ‏{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، قال  تعالى  عن أهل النار‏:‏‏{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏‏.‏

 

ص -142-

وأما إذا كان في الفعل والحادثة والمسألة العملية نص لا يتمكن المكلف من معرفته ومعرفة دلالته، مثل أن يكون الحديث النبوي الوارد فيها عند شخص لم يعلم به المجتهد ولم يشعر بما يدله عليه، أو تكون دلالته خفية لا يقدر المجتهد على فهمها، أو لم يكن فيها نص بحال، فهذا مَوْرِد نزاع؛ فذهب فريق من أهل الكلام، مثل أبي على وأبي هاشم والقاضي أبي بكر والغزالي إلى قول مُبْتَدَع يشبه في المجتهدات قول الزنادقة الإباحية في المنصوصات، وهو أنه ليس لهذه الحادثة حكم عند اللّه في نفس الأمر، وإنما حكمه في حق كل مكلف يتبع اجتهاده واعتقاده، فمن اعتقد وجوب الفعل فهو واجب عليه، ومن اعتقد تحريمه فهو حرام عليه، وبنوا ذلك على مقدمتين‏:‏
إحداهما‏:‏ أن الحكم إنما يكون بالخطاب، فما لا خطاب فيه لا حكم للّه فيه، فإذا لم يكن للعقل فيه حكم؛ إما لعدم الحكم العقلى مطلقًا، أو في هذه الصورة علم أنه لا حكم فيه يكون من أصابه مصيبًا ومن أخطأه مخطئًا‏.‏
الثاني‏:‏ أنه قد علم أن من اعتقد وجوب شيء فعليه فعله، ومن

 

ص -143-

اعتقد تحريمه فعليه اجتنابه، فالحكم فيه يتبع الاعتقاد‏.‏ قالوا‏:‏ والأحكام الشرعية تختلف باختلاف أحوال المكلفين في اجتهاداتهم وغير اجتهاداتهم، بدليل اتفاق الفقهاء وأهل السنة على أن الاجتهاد والاعتقاد يؤثر في رفع الإثم والعقاب كما جاءت به النصوص، وأن الوجوب والتحريم يختلف بالإقامة والسفر والطهارة والحيض والعجز والقدرة وغير ذلك، فيجوز أن تختلف الأحكام باختلاف الاعتقادات، ويكون الحكم في حق المجتهد عند عدم النص ما اعتقده‏.‏ هذا ملخص قولهم‏.‏ وأما السلف والفقهاء والصوفية والعامة وجمهور المتكلمين فعلى إنكار هذا القول، وأنه مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، بل هو مخالف للعقل الصريح، حتى قال أبو إسحاق الإسْفِرَائيني وغيره‏:‏ هذا المذهب أوله سَفْسَطة وآخره زندقة، يعني‏:‏ أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه‏.‏ فمن قال‏:‏ إن الإيجاب والتحريم يتبع الاعتقادات فقد سفسط في الأحكام العملية، وإن لم يكن مسفسطًا في الأحكام العينية، وقد قدمنا أنه لم تَجْرِ العادة بأن عاقلا يسفسط في كل شيء؛ لا خطأ ولا عمدًا، لا ضلالًا ولا عنادًا، لا جهلًا ولا تجاهلًا، وأما كون آخره زندقة؛ فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب، وإن شاء

 

ص -144-

أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال، وهذا كفر وزندقة‏.‏
وجماع الكلام على هؤلاء في مقامين‏:‏
أحدهما‏:‏ امتناع هذا القول في نفسه واستحالته، وذلك معلوم بالعقل‏.‏
والثاني‏:‏ أنه لو كان جائزًا في العقل، لكن لم يرد به الشرع، بل هو مخالف له، وتعرف مخالفته للنص والإجماع‏.‏
أما الأول فمن وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه قد تقدم أن كل علم واعتقاد وحكم لابد له من معلوم معتقد، محكوم به، يكون الاعتقاد مطابقًا له موافقًا؛ سواء كان للاعتقاد تأثير في وجوده، أو لم يكن؛ فإن الاعتقادات العملية المؤثرة في المعتقد مثل‏:‏ اعتقاد أن أكل هذا الخبز يشبع، واعتقاد أن أكل هذا السم يقتل، وإن كان هذا الاعتقاد يؤثر في وجود الأكل مثلًا فلابد له من معتقد ثابت بدونه، وهو كون أكل ذلك الخبز موصوفًا بتلك الصفة والأكل، فإن كان معدومًا قبل وجوده فإن محله وهو الخبز والأكل موجودان، فإن لم يكن الخبز متصفًا بالإشباع إذا أكل، والأكل متصفًا بأنه يشبع إذا أكله لم يكن الاعتقاد صحيحًا، بل

 

ص -145-

فاسدًا‏.‏ كما لو اعتقد في شيء أنه رغيف فأكله إذا هو جَصٌّ أو جبصين، فإن اعتقاده، وإن أقدم به على الأكل، فإنه لا يشبعه لفساد الاعتقاد، وهكذا من اعتقد في شيء أنه ينفعه أو يضره فإن الاعتقاد يدعوه إلى الفعل أو الترك، ويبعثه على ذلك، فإن كان مطابقًا حصلت المنفعة، واندفعت المضرة إذا انتفت الموانع، وإلا فمجرد الانتفاع بالفعل أو الضرر به لا يوجب حصول المنفعة والمضرة، وإنما هذا قول بعض جهال الكفار‏:‏ لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه، فيجعلون الانتفاع بالشيء تبعًا لظن المنفعة فيه‏.‏
وقد اعتقد المشركون الانتفاع بالأصنام التي قال اللّه فيها‏:‏
‏{يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 13‏]‏، فإذا اعتقد المعتقد أن هذا الفعل مأمور به أمر استحباب يثيب اللّه عليه ثواب الفعل المستحب، أو أمر إيجاب يعاقب من تركه عقوبة العاصي، أو اعتقد أن اللّه نهي عنه كذلك، فهو معتقد؛ إما صفة في ربه فقط من الأمر والنهي وهي صفة إضافية للفعل، كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما صفة في الفعل فقط من الحسن والقبح والأمر والنهي كاشفة لذلك؛ كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإما ثبوت الصفتين جميعًا للأمر والمأمور به؛ كما عليه جمهور الفقهاء‏.‏ وهو إنما يعتقد وجود تلك الصفة التي هي الحكم الشرعي لاعتقاده أنها ثابتة في

 

ص -146-

نفسها موجودة بدون اعتقاده، لا أنه يطلب باعتقاده أن يثبت للأمر والفعل صفة لم تكن له قبل ذلك؛ إذ ليس لأحد من المجتهدين غرض في أن يثبت للأفعال أحكامًا باعتقاده، ولا أن يشرع دينًا لم يأذن به اللّه‏.‏ وإنما مطلوبه أن يعتقد حكم اللّه ودينه، ولا له مقصود أن يجيء إلى الأفعال المتساوية في ذواتها وفي أمر اللّه، فيعتقد في أحدها الوجوب على نفسه، وفي الآخر التحريم من غير سبب تختص به الأفعال‏.‏
فهذا موضع ينبغي تدبره‏.‏ فإن المؤمن الطالب لحكم اللّه إذا علم أن تلك الأفعال عند اللّه سواء، لم يميز بعضها عن بعض بأمر ولا نهي، وهي في أنفسها سواء، لم يميز بعضها عن بعض بحسن ولا سوء ولا مصلحة ولا مفسدة‏.‏ فإن هذا الاعتقاد منه موجب لاستوائها وتماثلها، فاعتقاده بعد هذا أن هذا واجب يذم تاركه، وهذا حرام يعاقب فاعله تناقض في العقل وسفسطة، وكفر في الدين وزندقة‏.‏
أما الأول‏:‏ فلأن اعتقاد التساوي والتماثل ينافي اعتقاد الرجحان والتفضيل، فضلًا عن وجوب هذا وتحريم هذا، فكيف يجمع العاقل بين الاعتقادين المتناقضين‏؟‏ إلا أن يكون أَخْرَق كافرًا، فيقول‏:‏ أنا أوجب هذا وأحرم هذا، بلا أمر من اللّه، ولا مرجح لأحدهما من جهة العقل، فإذا فعل هذا كان شارعًًا من الدين لما لم يأذن به اللّه، وهو مع هذا دين معلوم الفساد بالعقل، حيث جعل الأفعال المستوية

 

ص -147-

بعضها واجب وبعضها محرم، بلا سبب يوجب التخصيص، إلا محض التحكم الذي لا يفعله حيوان أصلًا، لا عاقل ولا مجنون، إذ لو فرض اختصاص أحد الفعلين لشهوة أو لذة أمكن أن يقال‏:‏ تلك جهة توجب الترجيح، وهي جهة حُسْن عند من يقول بالتحسين العقلى فيجب لذلك، والغرض انتفاء ذلك جميعه، وإذا انتفي ذلك كله علم أن اعتقاد حسن الفعل وقبحه ووجوبه وتحريمه يتبع أمرًا ثابتًا في نفسه، يكون مطابقًا له أو غير مطابق‏.‏ وإذا كان كذلك، فالاعتقاد المطابق صواب، والاعتقاد المخالف ليس بصواب، لا أن الحكم يتبع الاعتقاد من كل وجه‏.‏
الثاني‏:‏ أن الطالب المستدل بالدليل ليستبين له الأحكام هو يطلب العلم بمدلول الدليل، فإن لم يكن للدليل مدلول وإنما مدلول الدليل يحصل عقب التأمل لم يكن مطلوبه العلم بالمدلول، وإنما مطلوبه وجود المدلول، وليس هذا شأن الأدلة التي تبين المدلولات، وإنما هو شأن الأسباب والعلل توجد المسببات، وفرق كثير بين الدليل المقتضي للعلم القائم بالقلب، وبين العلم المقتضي للوجود القائم في الخارج، فإن مقتضى الأول الاعتقاد الذهني، ومقتضى الثاني الوجود الخارجي، وأحد النوعين مباين للآخر‏.‏

 

ص -148-

فصل
وأما الأحكام والاعتقادات والأقوال العملية التي يتبعها المحكوم، فهي الأمر والنهي والتحسين والتقبيح واعتقاد الوجوب والتحريم، ويسميها كثير من المتفقهة والمتكلمة‏:‏ الأحكام الشرعية، وتسمى الفروع والفقه، ونحو ذلك‏.‏ وهذه تكون في جميع الملل والأديان، وتكون في الأمور الدنيوية من السياسات والصناعات والمعاملات، وغير ذلك، وهي التي قصدنا الكلام عليها في هذه القاعدة، حيث قلنا‏:‏ إن الاعتقادات قد تؤثر في الأحكام الشرعية، فهذه  أيضًا  الناس فيها طرفان ووسط‏:‏
الطرف الأول‏:‏ طرف الزنادقة الإباحية الكافرة بالشرائع والوعيد والعقاب في الدار الآخرة، الذين يرون أن هذه الأحكام تتبع الاعتقاد مطلقًا والاعتقاد هو المؤثر فيها، فلا يكون الشيء واجبًا إلا عند من اعتقد تحريمه، ويرون أن الوعيد الذي يلحق هؤلاء هو عذاب نفوسهم بما اعتقدوه من الأمر والنهي والإيجاب والتحريم، وما اعتقدوه من أنهم إذا فعلوا المحرمات، وتركوا الواجبات عذبوا وعوقبوا، فيبقى في

 

ص -149-

نفوسهم خوف وتألم وتوهم للعذاب وتخيل له، فيزعمون أن هذا الألم الناشئ عن هذا الاعتقاد والتخيل هو عقابهم وعذابهم وذاك ناشئ عما اعتقدوه؛ كمن اعتقد أن هنا أسدًا أو لصًا أو قاطع طريق من غير أن يكون له وجود، فيتألم ويتضرر بخوفه من هذا المحذور الذي اعتقده‏.‏ فاجتمع اعتقاد غير مطابق، ومعتقد يؤلم وجوده، فتألمت النفس بهذا الاعتقاد والتخيل‏.‏ وقد يقول حُذَّاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة وقوم يتصوفون أو يتكلمون  وهم غالية المرجئة ‏:‏ إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة، بمنزلة ما يخوف العقلاء الصبيان والبُلْهَ بما لا حقيقة له لتأديبهم، وبمنزلة مخادعة المحارب لعدوه إذا أوهمه أمرًا يخافه لينزجر عنه، أو ليتمكن هو من عدوه، وغير ذلك‏.‏
وهؤلاء هم الكفار برسل اللّه وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وما ضربه اللّه في القرآن من الأمثال وقصه من أخبار الأمم المكذبة للرسل، فهو متناول لهؤلاء، ويكفي ما عاقب اللّه به أهل الكفر والفسوق والعصيان في الدنيا من أنواع المثُلات؛ فإنه أمر محسوس مشاهد لا يمكن دفعه، وما من أحد إلا قد سمع من ذلك أنواعا، أو رأى بعضه‏.‏ وأهل الأرض متفقون على أن الصادق البار العادل ليس حاله كحال

 

ص -150-

الكاذب الفاجر الظالم، بل يرون من ثواب الحسنات وعقوبة السيئات ما فيه عِبْرة ومُزْدَجَر، كما كانوا عليه في الجاهلية قبل الرسل، فلما جاءت الرسالة بوعيد الآخرة بين ذلك ما كان الناس عنه غافلين‏.‏
الطرف الثاني‏:‏ طرف الغالية المتشددين، الذين لا يرون للاعتقاد أثرًا في الأفعال، بل يقول غاليتهم  كقوم من متكلمة المعتزلة ‏:‏ إن للّه حكمًا في كل فعل، مَنْ أخطأه كان آثمًا معاقبًا، فيرون المسلم العالم المجتهد متى خفي عليه دليل شرعي  وقد اجتهد واستفرغ وسعه في طلب حكم اللّه  أنه آثم معاقب على خطئه، فهذا قولهم في الاجتهاد والاعتقاد، ثم إذا ترك واجبًا، أو فعل محرمًا قالوا بنفوذ الوعيد فيه، فيوجبون تخليد فساق أهل الملة في النار، وهذا قول جمهور المعتزلة والخوارج، ولكن الخوارج يكفِّرون بالذنب الكبير أو الصغير عند بعضهم‏.‏ وأما المعتزلة فيقولون‏:‏ هو في منزلة بين منزلتين، لا مؤمن ولا كافر‏.‏
وأما الأمة الوسط، فعلى أن الاعتقاد قد يؤثر في الأحكام، وقد لا يؤثر بحسب الأدلة والأسباب، كما أن ذلك هو الواقع في الأمور الطبيعية، فالأغذية والأدوية قد يختلف حكمها بحسب اعتقاد الطبيب والمتداوى وقد لا يختلف، وقد يعتقد الإنسان في الشيء صفة نافعة أو ضارة فينتفع به أو يتضرر، وإن لم يكن كذلك، وقد يعتقد ذلك

 

ص -151-

فلا يؤثر، فلو اعتقد في الخبز واللحم أنه غير مشبع لم يؤثر ذلك، بل هو مشبع ولو اعتقد ضد ذلك‏.‏
فصل
مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم‏.‏ وأما أفعالهم فقد اختلف أصحابنا في فعل الإمام أحمد، هل يؤخذ منه مذهبه‏؟‏ على وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ لا؛ لجواز الذنب عليه، أو أن يعمل بخلاف معتقده، أو يكون عمله سهوًا أو عادة أو تقليدًا، أو لسبب ما غير الاعتقاد الذي يفتى به، فإن عمل المرء بعلمه في كل حادثة، وألا يعمل إلا بعلم يفتى به في كل حادثة يفتقر إلى أن يكون له في ذلك رأى، وأن يذكره، وأن يكون مريدًا له من غير صارف؛ إذ الفعل مع القدرة يقف على الداعى، والداعى هو الشعور وميل القلب‏.‏
والثاني‏:‏ بل يؤخذ منه مذهبه؛ لما عرف من تقوى أبي عبد الله وورعه وزهده، فإنه كان من أبعد الناس عن تعمد الذنب، وإن لم نَدَّعِ فيه العصمة، لكن الظاهر والغالب أن عمله موافق لعلمه، فيكون الظاهر فيما عمله أنه مذهبه‏.‏ وهكذا القول فيمن يغلب عليه التقوى

 

ص -152-

والورع، وبعضهم أشد من بعض، فكل ما كان الرجل أتقى لله وأخشى له كان ذلك أقوى فيه‏.‏ وأبو عبد الله من أتقى الأمة وأعظمهم زهدًا وورعًا، بل هو في ذلك سابق ومقدم، كما تشهد به سيرته، وسيرة غيره المعروفة عند الخاص والعام‏.‏
وكذلك أصحاب الشافعي لما رأوا نصه أنه لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، ثم إنه اشتراه في مرضه، فاختلف أصحابه، هل يخرج له في ذلك مذهب‏؟‏ على وجهين، وقد ذكروا مثل هذا في إقامة جمعتين في مكان واحد لما دخل بغداد، فإذا قلنا‏:‏ هو مذهب الإمام أحمد، فهل يقال فيما فعله‏:‏ إنه كان أفضل عنده من غيره‏؟‏ هذا أضعف من الأول، فإن فعله يدل على جوازه فيما ليس من تعبداته، وإذا كان متعبدًا به دل على أنه مستحب عنده أو واجب‏.‏ أما كونه أفضل من غيره عنده فيفتقر إلى دليل منفصل، وكثيرًا ما يعدل الرجل عن الأفضل إلى الفاضل؛ لما في الأفضل من الموانع، وما يفتقر إليه من الشروط، أو لعدم الباعث، وإذا كان فعله جائزًا، أو مستحبًا، أو أفضل فإنه لا عموم له في جميع الصور، بل لا يتعدى حكمه إلا إلى ما هو مثله، فإن هذا شأن جميع الأفعال لا عموم لها، حتى فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا عموم له‏.‏
ثم يقال‏:‏ فعل الأئمة وتركهم ينقسم كما تنقسم أفعال النبي

 

ص -153-

صلى الله عليه وسلم؛ تارة يفعله على وجه العبادة والتدين، فيدل على استحبابه عنده، وأما رجحانه ففيه نظر‏.‏ وأما على غير وجه التعبد ففي دلالته الوجهان، فعلى هذا ما يذكر عن الأئمة من أنواع التعبدات والتزهدات والتورعات يقف على مقدمات‏:‏
إحداها‏:‏ هل يعتقد حسنها بحيث يقوله ويفتى به، أو فعله بلا اعتقاد لذلك، بل تأسيًا بغيره أو ناسيًا‏؟‏ على الوجهين، كالوجهين في المباح‏.‏
والثانية‏:‏ هل فيه إرادة لها توافق اعتقاده‏؟‏ فكثيرًا ما يكون طبع الرجل يخالف اعتقاده‏.‏
والثالثة‏:‏ هل يرى ذلك أفضل من غيره، أو يفعل المفضول لأغراض أخرى مباحة‏؟‏ والأول أرجح‏.‏
والرابعة‏:‏ أن ذلك الرجحان هل هو مطلق، أو في بعض الأحوال‏؟‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -154-

بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ الشيخ الإمام العَالم تقي الدين أوحد المجتهدين أحمد بن تيمية  قدس الله روحه ونور ضريحه‏:‏
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا‏.‏
فَصْل
في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ جميع الدين؛ أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصل هو أصل

 

ص -155-

أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصامًا بهذا الأصل كان أولى بالحق علمًا وعملًا، ومن كان أبعد عن الحق علمًا وعملًا‏:‏ كالقرامطة والمتفلسفة الذين يظنون أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائق العلوم الإلهية والكلية، وإنما يعرف ذلك بزعمهم من يعرفه من المتفلسفة، ويقولون‏:‏ خاصة النبوة هي التخييل، ويجعلون النبوة أفضل من غيرها عند الجمهور لا عند أهل المعرفة، كما يقول هذا ونحوه الفارأبي وأمثاله، مثل مُبَشِّر بن فَاتِك وأمثاله من الإسماعيلية‏.‏
وآخرون يعترفون بأن الرسول علم الحقائق، لكن يقولون‏:‏ لم يبينها، بل خاطب الجمهور بالتخييل، فيجعلون التخييل في خطابه لا في علمه، كما يقول ذلك ابن سينا وأمثاله‏.‏
وآخرون يعترفون بأن الرسل علموا الحق وبينوه، لكن يقولون‏:‏ لا يمكن معرفته من كلامهم، بل يعرف بطريق آخر؛ إما المعقول عند طائفة، وإما المكاشفة عند طائفة، إما قياس فلسفي، وإما خيال صوفي‏.‏ ثم بعد ذلك ينظر في كلام الرسول فما وافق ذلك قبل، وما خالفه؛ إما أن يفوض، وإما أن يؤول‏.‏ وهذه طريقة كثير من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة، وهي طريقة خيار الباطنية والفلاسفة الذين يعظمون الرسول وينزهونه عن الجهل والكذب، لكن يدخلون في التأويل‏.‏

 

ص -156-

وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل، وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا، وأن الحق بين جمود الحنابلة، وبين انحلال الفلاسفة، وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع، بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك، ثم ينظر في السمع، فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا‏.‏ وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق‏.‏
وابن سينا وأمثاله، لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب  سلك مسلك التخييل، وقال‏:‏ إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم، ومع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك‏.‏ فهؤلاء يقولون‏:‏ إن الرسل كذبوا للمصلحة‏.‏
وهذا طريق ابن رشد الحفيد ‏[‏هو محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، ولد سنة عشرين وخمسمائة‏.‏ أخذ العلم عن أبي مروان بن مسرة وجماعة، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن أبي مروان بن حزبول، أثنى عليه علماء عصره، ومن أشهر تصانيفه‏:‏ ‏[‏بداية المجتهد‏]‏‏.‏ مات محبوسًا بمراكش سنة خمس وتسعين وخمسمائة‏]‏ وأمثاله من الباطنية، فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا‏:‏ إنهم كذبوا للمصلحة‏.‏
وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا

 

ص -157-

الحق، وأنهم بينوه، مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه، فمن قال‏:‏ إنهم كذبوا للمصلحة فهو من إخوان المكذبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول‏:‏ كذبوا لطلب العلو والفساد، بل قال‏:‏ كذبوا لمصلحة الخلق‏.‏ كما يحكى عن ابن التَّومَرْت وأمثاله‏.‏
ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حُسْنِ القصد، فإن النبي يقصد الخير والساحر يقصد الشر، وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد والنبي عندهم يكذب للمصلحة؛ إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب‏.‏
والذين علموا أن النبوة تناقض الكذب على الله، وأن النبي لا يكون إلا صادقًا من هؤلاء قالوا‏:‏ إنهم لم يبينوا الحق، ولو أنهم قالوا‏:‏ سكتوا عن بيانه لكان أقل إلحادًا، لكن قالوا‏:‏ إنهم أخبروا بما يظهر منه للناس الباطل، ولم يبينوا لهم الحق، فعندهم أنهم جمعوا بين شيئين‏:‏ بين كتمان حق لم يبينوه، وبين إظهار ما يدل على الباطل، وإن كانوا لم يقصدوا الباطل، فجعلوا كلامهم من جنس المعاريض التي يعني بها المتكلم معنى صحيحًا، لكن لا يفهم المستمع منها إلا الباطل‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ قصدوا التعريض كان أقل إلحادًا ممن قال‏:‏ إنهم قصدوا الكذب‏.‏

 

ص -158-

والتعريض نوع من الكذب؛ إذ كان كذبًا في الإفهام؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله‏"‏، وهي معاريض، كقوله عن سارة‏:‏ إنها أختي؛ إذ كان ليس هناك مؤمن إلا هو وهي‏.‏
وهؤلاء يقولون‏:‏ إن كلام إبراهيم وعامة الأنبياء مما أخبروا به عن الغيب كذب من المعاريض‏!‏‏!‏
وأما جمهور المتكلمين فلا يقولون بهذا، بل يقولون‏:‏ قصدوا البيان دون التعريض، لكن مع هذا يقول الجهمية ونحوهم‏:‏ إن بيان الحق ليس في خطابهم، بل إنما في خطابهم ما يدل على الباطل‏.‏ والمتكلمون من الجهمية والمعتزلة والأشعرية، ونحوهم  ممن سلك في إثبات الصانع طريق الإعراض  يقولون‏:‏ إن الصحابة لم يبينوا أصول الدين، بل ولا الرسول؛ إما لشغلهم بالجهاد، أو لغير ذلك‏.‏
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبينا أن أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه، وأرسل به رسوله، وهي الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك  قد بينها الرسول أحسن بيان، وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته

 

ص -159-

وصفاته وصدق رسوله والمعاد، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية، بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية، وإن كان لا يحتاج إليها؛ فإن كثيرًا من الأمور تعرف بالخبر الصادق، ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطرفين‏:‏ السمعي والعقلي‏.‏
وبينا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر، كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا الخلق وَهدَياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزابًا‏:‏
حزب‏:‏ يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم، وأن النظر يوجب العلم، وأنه واجب، ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل للذين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وهو دليل مبتدع في الشرع وباطل في العقل‏.‏
والحزب الثاني‏:‏ عرفوا أن هذا الكلام مبتدع، وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة، وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق، وأن

 

ص -160-

الله لا يرَي في الآخرة وليس فوق العرش، ونحو ذلك من بدع الجهمية، فصنفوا كتبًا قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف، وذكروا أشياء صحيحة لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها، وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب‏.‏
وأيضًا، فهم إنما يستدلون بالقرآن من جهة أخباره لا من جهة دلالته، فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد، وأنه قد بين الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة، ونحو ذلك، وجعلوا الإيمان بالرسول قد استقر، فلا يحتاج أن يبين الأدلة الدالة عليه، فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل؛ إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول، وهؤلاء ينسبون أولئك إلى البدعة، بل إلى الكفر؛ لكونهم أصلوا أصولاً تخالف ما قاله الرسول‏.‏
والطائفتان يلحقهما الملام؛ لكونهما أعرضتا عن الأصول التي بينها الله بكتابه، فإنها أصول الدين وأدلته وآياته، فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينها العداوة؛ كما قال الله تعالى‏:‏
‏{فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏‏.‏

 

ص -161-

وحزب ثالث‏:‏ قد عرف تفريط هؤلاء، وتعدِّي أولئك وبدعتهم، فذمهم وذم طالب العلم الذكي الذي اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة، والخروج عن التقليد إذا سلك طريقهم، وقال‏:‏ إن طريقهم ضارة، وإن السلف لم يسلكوها، ونحو ذلك مما يقتضي ذمها، وهو كلام صحيح، لكنه إنما يدل على أمر مجمل لا تتبين دلالته على المطلوب، بل قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله‏:‏ إنه بدعة، ولا يفتح أبواب الأدلة التي ذكرها الله في القرآن التي تبين أن ما جاء به الرسول حق، ويخرج الذكي بمعرفتها عن التقليد وعن الضلال والبدعة والجهل‏.‏
فهؤلاء أضل بفرقهم؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن، وأعرضوا عن آيات الله التي بينها بكتابه، كما يعرض من يعرض عن آيات الله المخلوقة، قال الله تعالى‏:
‏‏{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 105‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7، 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 58‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4‏]‏،

 

ص -162-

وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 25‏]‏، ومثل هذا كثير، لبسطه مواضع أُخر‏.‏
والمقصود أن هؤلاء الغالطين الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية لا يذكرون النظر والدليل والعلم الذي جاء به الرسول، والقرآن مملوء من ذلك‏.‏ والمتكلمون يعترفون بأن في القرآن من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه، لكنهم يسلكون طرقًا أخر كطريق الأعراض‏.‏
ومنهم من يظن أن هذه طريق إبراهيم الخليل، وهو غالط‏.‏
والمتفلسفة يقولون‏:‏ القرآن جاء بالطريق الخطابية والمقدمات الإقناعية التي تقنع الجمهور، ويقولون‏:‏ إن المتكلمين جاؤوا بالطرق الجدلية، ويدعون أنهم هم أهل البرهان إلىقيني‏.‏ وهم أبعد عن البرهان في الإلهيات من المتكلمين، والمتكلمون أعلم منهم بالعلميات البرهانية في الإلهيات والكليات، ولكن للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به، بخلاف الإلهيات فإنهم من أجهل الناس بها، وأبعدهم عن معرفة الحق فيها، وكلام أرسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ، فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقي‏.‏ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -163-

والقرآن جاء بالبينات والهدي؛ بالآيات البينات وهي الدلائل إلىقينيات، وقد قال الله تعالى لرسوله‏:‏ ‏{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏125‏]‏، والمتفلسفة يفسرون ذلك بطرقهم المنطقية في البرهان والخطابة والجدل، وهو ضلال من وجوه قد بسطت في غير هذا الموضع، بل الحكمة هي معرفة الحق والعمل به، فالقلوب التي لها فهم وقصد تدعي بالحكمة، فيبين لها الحق علمًا وعملاً فتقبله وتعمل به‏.‏
وآخرون يعترفون بالحق لكن لهم أهواء تصدهم عن اتباعه، فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل‏.‏ والوعظ أمر ونهي بترغيب وترهيب، كما قال تعالى‏:‏‏
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 17‏]‏، فالدعوة بهذين الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله فإنه يجادل بالتي هي أحسن‏.‏
والقرآن مشتمل على هذا وهذا؛ ولهذا إذا جادل يسأل ويستفهم عن المقدمات البينة البرهانية التي لا يمكن أحد أن يجحدها؛ لتقرير المخاطب بالحق ولاعترافه بإنكار الباطل، كما في مثل قوله‏:‏
‏{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏،

 

ص -164-

وقوله‏:‏ ‏{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36  40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 58، 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 133‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 197‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 8 10‏]‏، إلى أمثال ذلك مما يخاطبهم باستفهام التقرير، المتضمن إقرارهم واعترافهم بالمقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب، فهو من أحسن جدل بالبرهان؛ فإن الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وإن لم تكن بَيِّنَةٌ معروفة، فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية‏.‏
والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها، كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم، بل بالقضايا والمقدمات التي تسلمها الناس، وهي برهانية، وإن كان بعضهم يسلمها، وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها، كقوله‏:‏ ‏
{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏،

 

ص -165-

فإن الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب، ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله‏:‏‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى‏}‏، وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى في غير موضع‏.‏
وعلى قراءة من قرأ‏:‏ ‏[‏يبدونها‏]‏؛ كابن كثير وأبي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله‏:
‏‏{وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ احتجاجًا على المشركين بما جاء به محمد؛ فالحجة على أولئك نبوة موسى، وعلى هؤلاء نبوة محمد، ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه في غير موضع‏.‏
وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب، وقوله‏:‏
‏{وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ بيان لما جاءت به الأنبياء مما أنكروه، فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه، فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء، وما لم يعرفوه‏.‏
وقد قص  سبحانه  قصة موسى، وأظهر براهين موسى وآياته التي هي من أظهر البراهين والأدلة، حتي اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون، وناهيك بذلك، فلما أظهر الله حق موسى، وأتي بالآيات التي علم بالاضطرار أنها من الله، وابتلعت عصاه الحبال والعصي التي أتى

 

ص -166-

بها السحرة بعد أن جاؤوا بسحر عظيم، وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس، ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا‏:‏‏{قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 121، 122‏]‏، فقال لهم فرعون‏:‏ ‏{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏‏[‏طه‏:‏ 71، 72]‏، من الدلائل البينات اليقينية القطعية، وعلى الذي فطرنا؛ وهو خالقنا وربنا الذي لابد لنا منه، لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية، وعلى خالق البرية ‏{قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏‏[‏طه‏:‏ 72، 73‏]‏‏.‏ وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن، يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعًا غير النوع الآخر، كما يسمي الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة، كل اسم يدل على معني لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار، بل فيه تنويع الآيات، مثل‏:‏ أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل‏:‏ محمد، وأحمد، والحاشِرُ، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، في كل اسم دلالة على معني ليس في الاسم الآخر، وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة‏.‏

 

ص -167-

وكذلك القرآن إذا قيل فيه‏:‏ قرآن، وفرقان، وبيان؛ وهدي، وبصائر، وشفاء، ونور، ورحمة، وروح، فكل اسم يدل على معني ليس هو المعني الآخر‏.‏
وكذلك أسماء الرب  تعالى  إذا قيل‏:‏ الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، فكل اسم يدل على معني ليس هو المعني الذي في الاسم الآخر، فالذات واحدة والصفات متعددة، فهذا في الأسماء المفردة‏.‏
وكذلك في الجمل التامة، يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها، ثم يعبر عنها بجمل أخري تدل على معان أخر، وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة، ففي كل جملة من الجمل معني ليس في الجمل الأخر‏.‏
وليس في القرآن تكرار أصلاً، وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع إمكان الاكتفاء بالواحدة، وكان الحكمة فيه‏:‏ أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرئهم المسلمون شيئًا من القرآن، فيكون ذلك كافيا، وكان يبعث إلى القبائل

 

ص -168-

المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسي إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، وأن يلقيها إلى كل سمع‏.‏ فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره‏.‏ وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب في قوله‏:‏ ‏{مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ لما قيل‏:‏ لم ثنيت‏؟‏ وبسط هذا له موضع آخر، فإن التثنية هي التنويع والتجنيس، وهي استيفاء الأقسام؛ ولهذا يقول من يقول من السلف‏:‏ الأقسام والأمثال‏.‏
والمقصود هنا التنبيه على أن القرآن اشتمل على أصول الدين التي تستحق هذا الاسم، وعلى البراهين والآيات والأدلة اليقينية، بخلاف ما أحدثه المبتدعون والملحدون، كما قال الرازي  مع خبرته بطرق هؤلاء ‏:‏ لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات‏:
‏‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، واقرأ في النفي‏:‏‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏،‏{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، قال‏:‏ ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‏.‏
والخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر في نوعين‏:‏ في العلم النافع، والعمل الصالح‏.‏ وقد بعث الله محمدًا بأفضل ذلك وهو الهدى

 

ص -169-

ودين الحق، كما قال‏:‏‏{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، فذكر النوعين‏.‏ قال الوَالِبي عن ابن عباس يقول‏:‏ أولو القوة في العبادة، قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن سعيد بن جبير وعطاء الخراساني والحسن والضحاك والسدي وقتادة وأبي سنان ومبشر بن عبيد نحو ذلك‏.‏ و‏{وَالْأَبْصَارِ‏}‏ قال‏:‏ الأبصار‏:‏ الفقه في الدين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏‏{وَالْأَبْصَارِ‏}‏ الصواب في الحكم‏.‏ وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ البصيرة بدين الله وكتابه‏.‏ وعن عطاء الخراساني‏:‏‏{أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ قال‏:‏ أولو القوة في العبادة والبصر والعلم بأمر الله‏.‏ وعن مجاهد، وروي عن قتادة قال‏:‏ أعطوا قوة في العبادة وبصرًا في الدين‏.‏
وجميع حكماء الأمم يفضلون هذين النوعين، مثل حكماء إلىونان والهند والعرب، قال ابن قُتَيبة‏:‏ الحكمة عند العرب العلم والعمل، فالعمل الصالح هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الدين دين الإسلام، والعلم والهدي هو تصديق الرسول فيما أخبر به عن الله وملائكته وكتبه ورسله وإلىوم الآخر، وغير ذلك، فالعلم النافع هو الإيمان، والعمل الصالح هو الإسلام، العلم النافع من علم الله، والعمل الصالح هو العمل بأمر الله، هذا تصديق الرسول فيما أخبر، وهذا

 

ص -170-

طاعته فيما أمر‏.‏ وضد الأول أن يقول على الله ما لا يعلم، وضد الثاني أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، والأول أشرف، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا‏{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، وجميع الطوائف تفضل هذين النوعين، لكن الذي جاء به الرسول هو أفضل ما فيهما، كما قال‏:‏‏{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر تارة ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ و ‏[‏قل يا أيها الكفرون‏]‏ ، ففي ‏[‏قل يا أيها الكافرون‏]‏ عبادة الله وحده وهو دين الإسلام، وفي ‏[‏قل هو الله أحد‏]‏ صفة الرحمن، وأن يقال فيه ويخبر عنه بما يستحقه وهو الإيمان، هذا هو التوحيد القولي، وذلك هو التوحيد العملي‏.‏
وكان تارة يقرأ فيهما في الأولي بقوله في البقرة‏:‏‏
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏، وفي الثانية‏:‏ ‏{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏

 

ص -171-

قال أبو العالية في قوله‏:‏ ‏{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92، 93‏]‏، قال‏:‏ خلتان يسئل عنهما كل أحد‏:‏ ماذا كنت تعبد‏؟‏ وماذا أجبت المرسلين‏؟‏ فالأولي تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثانية تحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله‏.‏
والصوفية بنوا أمرهم على الإرادة ولابد منها، لكن بشرط أن تكون إرادة عبادة الله وحده بما أمر‏.‏
والمتكلمون بنوا أمرهم على النظر المقتضي للعلم ولابد منه، لكن بشرط أن يكون علمًا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والنظر في الأدلة التي دل بها الرسول وهي آيات الله، ولابد من هذا وهذا‏.‏
ومن طلب علمًا بلا إرادة، أو إرادة بلا علم فهو ضال، ومن طلب هذا وهذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو ضال، بل كما قال من قال من السلف‏:‏ الدين والإيمان قول وعمل واتباع السنة‏.‏ وأهل الفقه في الأعمال الظاهرة يتكلمون في العبادات الظاهرة، وأهل التصوف والزهد يتكلمون في قصد الإنسان وإرادته، وأهل النظر والكلام وأهل العقائد من أهل الحديث وغيرهم يتكلمون في العلم والمعرفة والتصديق الذي هو أصل الإرادة، ويقولون‏:‏ العبادة لابد فيها من القصد، والقصد لا يصح إلا بعد العلم بالمقصود المعبود، وهذا صحيح،

 

ص -172-

فلابد من معرفة المعبود وما يعبد به، فالضالون من المشركين والنصارى وأشباههم لهم عبادات وزهادات لكن لغير الله أو بغير أمر الله، وإنما القصد والإرادة النافعة هو إرادة عبادة الله وحده، وهو إنما يعبد بما شرع لا بالبدع‏.‏
وعلى هذين الأصلين يدور دين الإسلام‏:‏ على أن يعبد الله وحده، وأن يعبد بما شرع، ولا يعبد بالبدع، وأما العلم والمعرفة والتصوف فمدارها على أن يعرف ما أخبر به الرسول، ويعرف أن ما أخبر به حق؛ إما لعلمنا بأنه لا يقول إلا حقًا، وهذا تصديق عام، وإما لعلمنا بأن ذلك الخبر حق بما أظهر الله من آيات صدقه، فإنه أنزل الكتاب والميزان، وأري الناس آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أن القرآن حق‏.
فصل
وأما ‏[‏العمليات‏]‏ وما يسميه ناس‏:‏ الفروع، والشرع، والفقه، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان، فما شيء مما أمر الله به أو نهي عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك، وقد قال تعالى‏:‏
‏{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏،

 

ص -173-

وقال تعالى‏:‏‏{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 63، 64‏]‏، فقد بين  سبحانه  أنه ما أنزل عليه الكتاب إلا ليبين لهم الذي اختلفوا فيه، كما بين أنه أنزل جنس الكتاب مع النبيين ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏]‏، فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه، كما قال‏:‏‏{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، وهو الرد إلى كتاب الله، أو إلى سنة الرسول بعد موته وقوله‏:‏‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ‏}‏ شرط، والفعل نكرة في سياق الشرط، فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلاً للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه‏.‏

 

ص -174-

والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علم أمته الكتاب والحكمة كما قال‏:‏‏{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك فقال‏:‏‏{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏، فآيات الله هي القرآن؛ إذ كان نفس القرآن يدل على أنه منزل من الله، فهو علامة ودلالة على منزله، و‏{‏وَالْحِكْمَةِ‏}‏ قال غير واحد من السلف‏:‏ هي السنة‏.‏ وقال  أيضًا  طائفة كمالك وغيره‏:‏ هي معرفة الدين والعمل به‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏ وكل ذلك حق، فهي تتضمن التمييز بين المأمور والمحظور، والحق والباطل، وتعلىم الحق دون الباطل، وهذه السنة التي فرق بها بين الحق والباطل، وبين الأعمال الحسنة من القبيحة، والخير من الشر، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك‏"‏‏.‏
وعن عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  كلام نحو هذا، وهذا كثير في الحديث والآثار، يذكرونه في الكتب التي تذكر فيها هذه الآثار، كما يذكر مثل ذلك غير واحد فيما يصنفونه في السنة، مثل ابن بَطَّة واللاَّلكائي والطلَّمنِكي، وقبلهم المصنفون في السنة كأصحاب

 

ص -175-

أحمد، مثل عبد الله والأثرم ‏[‏هو أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الأثرم الطائي، الإمام الحافظ، مصنف السنن، وتلميذ الإمام أحمد، له مصنف في علم الحديث، مات بمدينة إسكاف في حدود الستين ومائتين‏]‏ وحرب الكرماني، وغيرهم، ومثل الخلال وغيره‏.‏
والمقصود هنا تحقيق ذلك، وأن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين‏.‏
وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق، لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق؛ فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين، وهذا هو القياس الصحيح‏.‏ وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل، وبين القياس الصحيح، وهي الأمثال المضروبة ما بينه من الحق، لكن القياس الصحيح يطابق النص، فإن الميزان يطابق الكتاب، والله أمر نبيه أن يحكم بما أنزل وأمره أن يحكم بالعدل، فهو أنزل الكتاب، وإنما أنزل الكتاب بالعدل، قال تعالى‏:‏ ‏
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏، ‏{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة  ولله الحمد  على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة، فقال تعالى‏:‏ ‏{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏،

 

ص -176-

وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، كما وصف نبيهم بذلك في قوله‏:‏ ‏{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، وبذلك وصف المؤمنين في قوله‏:‏ ‏{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17‏]‏، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال؛ لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ولم تنه عن المنكر فيه، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، والوسط‏:‏ العدل الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال‏:‏
‏"‏وَجَبَتْ وَجَبَتْ‏"‏، ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا فقال‏:‏ ‏"‏وجبت وجبت‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما قولك‏:‏ وجبت وجبت‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت‏:‏ وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت‏:‏ وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض‏"‏‏.‏
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهي عن شيء فقد نهي عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ؛ لم يكونوا شهداء الله

 

ص -177-

في الأرض، بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكي الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا بحق، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 15‏]‏، والأمة منيبة إلى الله، فيجب اتباع سبيلها، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة، فدل على أن متابعهم عامل بما يرضي الله، والله لا يرضي إلا بالحق لا بالباطل، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏‏.‏
وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرًا قال‏:‏ سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ومعونة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله  تعالى  ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرًا‏.‏
والشافعي  رضي الله عنه  لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع، كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر بن عبد العزيز، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق

 

ص -178-

للوعيد، كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدي مستحق للوعيد، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره‏.‏
وهنا للناس ثلاثة أقوال‏:‏
قيل‏:‏ اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية‏.‏
وقيل‏:‏ بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم‏.‏
وقيل‏:‏ بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم، كما دلت عليه الآية، لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول، بل قد يكون مستلزمًا له، فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول، وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين، وهذا كما في طاعة الله والرسول، فإن طاعة الله واجبة، وطاعة الرسول واجبة، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم، وهما متلازمان؛ فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله‏.‏
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
"‏من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصي الله، ومن عصي أميري فقد عصاني‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إنما الطاعة في المعروف‏"‏ ، يعني‏:‏ إذا أمر أميري بالمعروف فطاعته من طاعتي، وكل من عصي الله فقد عصي الرسول؛ فإن الرسول يأمر بما أمر الله

 

ص -179-

به، بل من أطاع رسولاً واحدًا فقد أطاع جميع الرسل، ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع، ومن عصي واحدًا منهم فقد عصي الجميع، ومن كذب واحدًا منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر، ويقول‏:‏ إنه رسول صادق ويأمر بطاعته، فمن كذب رسولاً فقد كذب الذي صدقه، ومن عصاه فقد عصي من أمر بطاعته‏.‏
ولهذا كان دين الأنبياء واحدًا، كما في الصحيحين عن أبي هريرة  رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد‏"‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51 - 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30 - 32‏]‏‏.‏
ودين الأنبياء كلهم الإسلام، كما أخبر الله بذلك في غير موضع،

 

ص -180-

وهو الاستسلام لله وحده‏.‏ وذلك إنما يكون بطاعته فيما أمر به في ذلك الوقت، فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك، واستقبال بيت المقدس كان من دين الإسلام قبل النسخ، ثم لما أمر باستقبال الكعبة صار استقبالها من دين الإسلام، ولم يبق استقبال الصَّخْرة من دين الإسلام؛ ولهذا خرج اليهود والنصارى عن دين الإسلام؛ فإنهم تركوا طاعة الله وتصديق رسوله واعْتَاضُوا عن ذلك بمبدل أو منسوخ‏.‏
وهكذا كل مبتدع دينًا خالف به سنة الرسول لا يتبع إلا دينًا مبدلاً أو منسوخًا، فكل من خالف ما جاء به الرسول؛ إما أن يكون ذلك قد كان مشروعًا لنبي ثم نسخ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإما ألا يكون شرع قط‏.‏ فهذا كالأديان التي شرعها الشياطين على ألسنة أوليائهم، قال تعالى‏:‏‏{
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏‏{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏، وقال‏:‏‏{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏
ولهذا كان الصحابة إذا قال أحدهم برأيه شيئًا يقول‏:‏ إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان

 

ص -181-

منه، كما قال ذلك ابن مسعود، وروي عن أبي بكر وعمر‏.‏ فالأقسام ثلاثة؛ فإنه إما أن يكون هذا القول موافقاً لقول الرسول أو لا يكون وإما أن يكون موافقًا لشرع غيره، وإما ألا يكون، فهذا الثالث المبدل كأديان المشركين والمجوس، وما كان شرعًا لغيره  وهو لا يوافق شرعه  فقد نسخ كالسبت، وتحريم كل ذي ظفر، وشحم الثَّرْب ‏[‏شحم الثَّرْب‏:‏ شحم رقيق يُغَشِّي الكرش والأمعاء، جمعها ثروب وأثراب‏]‏ والكليتين؛ فإن اتخاذ السبت عيدًا، وتحريم هذه الطيبات قد كان شرعًا لموسى ثم نسخ؛ بل قد قال المسيح‏:‏‏{وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏، فقد نسخ الله على لسان المسيح بعض ما كان حرامًا في شرع موسى‏.‏
وأما محمد فقال الله فيه
‏{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، والشرك كله من المبدل، لم يشرع الله الشرك قط، كما قال‏:‏‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏
وكذلك ما كان يحرمه أهل الجاهلية مما ذكره الله في القرآن،

 

ص -182-

كالسَّائِبَة والوَصيلة والحام، وغير ذلك، هو من الدين المبدل؛ ولهذا لما ذكر الله ذلك عنهم في سورة المائدة بَيَّنَ أن من حَرَّم ذلك فقد كذب على الله، وذكر  تعالى  ما حرمه على لسان محمد وعلى لسان موسى في الأنعام فقال‏:‏‏{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145، 146‏]‏، وكذلك قال بعد هذا‏:‏ ‏{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏‏.‏
فبين أن ما حرمه المشركون لم يحرمه على لسان موسى ولا لسان محمد، وهذان هما اللذان جاءا بكتاب فيه الحلال والحرام، كما قال تعالى‏:‏
‏{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 49‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91، 92‏]‏، وقالت الجن لما سمعت القرآن‏:‏ ‏{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏، وقال ورقة بن نوفل‏:‏

 

ص -183-

إن هذا والذي جاء به موسى ليخرجان من مِشْكَاةٍ واحدة، وكذلك قال النجاشي‏.‏
فالقرآن والتوراة هما كتابان جاءا من عند الله لم يأت من عنده كتاب أهدي منهما،كل منهما أصل مستقل والذي فيهما دين واحد،وكل منهما يتضمن إثبات صفات الله تعالى  والأمر بعبادته وحده لا شريك له، ففيه التوحيد قولاً وعملاً كما في سورتي الإخلاص‏:‏ ‏
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة الكافرون‏]‏ و ‏{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏‏.‏
وأما الزبور، فإن داود لم يأت بغير شريعة التوراة، وإنما في الزبور ثناء على الله، ودعاء وأمر ونهي بدينه وطاعته وعبادته مطلقًا‏.‏
وأما المسيح، فإنه قال‏:‏
‏{وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏50‏]‏، فأحل لهم بعض المحرمات، وهو في الأكثر متبع لشريعة التوراة؛ ولهذا لم يكن بُدَُّ لمن اتبع المسيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها؛ إذ كان الإنجيل تبعًا لها‏.‏
وأما القرآن، فإنه مستقل بنفسه لم يُحْوِج أصحابه إلى كتاب آخر، بل اشتمل على جميع ما في الكتب من المحاسن، وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب؛ فلهذا كان مصدقًا لما بين يديه من الكتاب

 

ص -184-

ومهيمناً عليه، يقرر ما فيها من الحق ويبطل ما حرف منها، وينسخ ما نسخه الله، فيقرر الدين الحق وهو جمهور ما فيها، ويبطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها، والقليل الذي نسخ فيها؛ فإن المنسوخ قليل جدًا بالنسبة إلى المحكم المقرر‏.‏
والأنبياء كلهم دينهم واحد، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم، وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم، وكذلك التكذيب والمعصية، لا يجوز أن يكذب نبي نبيًا، بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقًا، وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته؛ ولهذا كان من صَدَّق محمدًا فقد صدق كل نبي، ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي، ومن كذبه فقد كذب كل نبي، ومن عصاه فقد عصي كل نبي، قال تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150، 151‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏‏.‏ ومن كذب هؤلاء تكذيبًا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى‏:‏ ‏{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏، ولم

 

ص -185-

يرسل إليهم قبل نوح أحدًا، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 37‏]‏‏.‏
وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنًا في جنس الرسل كما قدمنا، بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه، فهو مكذب لجميع الرسل، كالذين قال فيهم‏:‏
‏{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏70  72‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83 - 85‏]‏، وقال تعالى عن الوليد‏:‏ ‏{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏‏[‏المدثر‏:‏ 18  25‏]‏‏.‏
وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة، لكن يكذب بعض الرسل؛ كالمسيح ومحمد، فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقًا، وكثير من الفلاسفة والباطنية، وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبًا صريحًا، ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة، بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول‏:‏إن غيرهم أعلم

 

ص -186-

منهم، أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه، أو أن النبوة هي فَيْضٌ يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم، ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن، ونحو ذلك، فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض، وبما أوتوه دون بعض، ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء، وهؤلاء قد يكون أحدهم شرًا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ويقرون بقيام القيامة، ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له، ويقرون بالشرائع المتفق عليها، وأولئك يكذبون بهذا، وإنما يقرون ببعض شرع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرًا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة، ونحوهم، لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نَوْعَي الكفر؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم، وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرًا، كما يوجد  أيضًا  في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء؛ إذ كانوا في دولة المسلمين‏.‏
وأهل الكتاب كانوا منافقين، فيهم من النفاق بحسب ما فيهم

 

ص -187-

من الكفر، والنفاق يتبعض، والكفر يتبعض، ويزيد وينقص، كما أن الإيمان يتبعض، ويزيد وينقص، قال الله تعالى‏:‏‏{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏، وقال‏:‏‏{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124، 125‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 76‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏137‏]‏
وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون أنه يعلم بالعقل، مثل تثليث النصارى، ومثل تكذيب محمد، ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين، وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك، والقرآن مملوء من ذلك؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة، فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم‏.‏

 

ص -188-

وأولئك المتكلمون لما أَصَّلُوا لهم دينًا بما أحدثوه من الكلام، كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين، ولو كان ما قالوه حقًا لكان ذلك جزء من الدين، فكيف إذا كان باطلاً‏؟‏‏!‏
وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر؛ ولهذا قيل فيه‏:‏ ‏[‏الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح‏]‏ وخطابهم في مقامين‏:‏
أحدهما‏:‏ تبديلهم لدين المسيح‏.‏
والثاني‏:‏ تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم،واليهود خطابهم في تكذيب من بعد موسى إلى المسيح، ثم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم،كما ذكر الله ذلك في سورة البقرة في
قوله‏:‏‏{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏87، 88‏]‏، ثم قال‏:‏‏{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏، إلى أن ذكر أنهم أعرضوا عن كتاب الله مطلقًا واتبعوا السحر،

 

ص -189-

فقال‏:‏‏{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏101 103‏]‏‏.‏
والنصارى نَذُمُّهُم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه، وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها، ولا نحمدهم عليها؛ إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة، لكن إذا كان صاحبها قاصدًا للحق فقد يعفي عنه، فيبقي عمله ضائعًا لا فائدة فيه، وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه، فلا يعاقب ولا يثاب؛ ولهذا قال‏:‏‏
{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏؛ فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب، والضال فَاتَهُ المقصود وهو الرحمة والثواب، ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك، بل يكون ملعونًا مطرودًا؛ ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نُفَيْل‏:‏ أن اليهود قالوا له‏:‏ لن تدخل في ديننا حتي تأخذ نصيبك من غضب الله‏.‏ وقال له النصارى‏:‏ حتي تأخذ نصيبك من لعنة الله‏.‏
وقال الضَّحَّاك وطائفة‏:‏ إن جهنم طبقات، فالعليا لعصاة هذه الأمة، والتي تليها للنصارى، والتي تليها لليهود‏.‏ فجعلوا اليهود تحت النصارى،

 

ص -190-

والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا‏:‏ إنا نصارى، وشدة العداوة زيادة في الكفر‏.‏ فاليهود أقوى كفرًا من النصارى، وإن كان النصارى أجهل وأضل، لكن أولئك يعاقبون على عملهم؛ إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادًا، فكانوا مغضوبًا عليهم، وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين، ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون، ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب؛ إذ كان اسم الضلال عامًا‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح في خطبة يوم الجمعة‏:‏ ‏"‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏"‏، ولم يقل‏:‏ وكل ضلالة في النار، بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده، وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له‏.‏
وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم‏.‏

 

ص -191-

وإذا اتقي الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله‏:‏‏{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وفي الصحيح أن الله قال‏:‏ ‏"‏قد فعلت‏"‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الإجماع  إجماع الأمة  حق؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة‏.‏
والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله‏:‏
‏{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏، ومن الناس من يقول‏:‏ إنها لا تدل على مورد النزاع؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين، وهذا لا نزاع فيه، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول، وهذا لا نزاع فيه، أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة، وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول‏:‏ لا تدل على محل النزاع‏.‏
وآخرون يقولون‏:‏ بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقًا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم، ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية‏.‏

 

ص -192-

والقول الثالث الوسط‏:‏ أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدي، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا  كما تقدم، لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول‏.‏ وحينئذ نقول‏:‏ الذم إما أن يكون لاحقًا لمشاقة الرسول فقط، أو باتباع غير سبيلهم فقط، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر، أو بكل منهما لكونه مستلزمًا للآخر‏.‏ والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعًا لا فائدة فيه، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعًا، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه، ولحوق الذم بكل منهما  وإن انفرد عن الآخر  لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع‏.‏
بَقِي القسم الآخر، وهو أن كلاًّ من الوصفين يقتضي الوعيد؛ لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام، فيقال‏:‏ من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار، ومثله قوله‏:‏ ‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏136‏]‏، فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر

 

ص -193-

بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرًا بالله؛ إذ كذب رسله وكتبه، وكذلك إذا كفر بإلىوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرًا‏.‏
وكذلك قوله‏:‏
‏{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 71‏]‏، ذمهم على الوصفين، وكل منهما مُقْتَضٍ للذم، وهما متلازمان؛ ولهذا نهي عنهما جميعًا في قوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 42‏]‏، فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به؛ لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق‏.‏
فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه  أيضًا  فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعًا، والآية توجب ذم ذلك‏.‏ وإذا قيل‏:‏ هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول‏.‏ قلنا‏:‏ لأنهما متلازمان؛ وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول‏.‏ وهذا هو الصواب‏.‏

 

ص -194-

فلا يوجد  قط  مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفي ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال‏:‏ قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص‏.‏
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص، كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعِيرُ التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم يَنْهَ عن ذلك، والسنة‏:‏ قوله وفعله وإقراره‏.‏ فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة‏.‏

 

ص -195-

والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا،وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين؛ لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما‏:‏ لو خسر المال كان علىنا، فكيف يكون لك الربح وعلىنا الضمان‏؟‏ فقال له بعض الصحابة‏:‏ اجعله مضاربًا فجعله مضاربة، وإنما قال ذلك؛ لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات؛ كالخياطة والجزارة‏.‏
وعلى هذا، فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصًا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم‏.‏ وابن جرير وطائفة يقولون‏:‏ لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس‏.‏
ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص، فنقلوه بالمعني، كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع، وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعضهم بعموم، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله‏:‏ ‏
{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، وقال ابن مسعود‏:‏

 

ص -196-

سورة النساء القُصْرَي نزلت بعد الطُّولَي، أي‏:‏ بعد البقرة، وقوله‏:‏‏{أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏، يقتضي انحصار الأجل في ذلك، فلو أوجب عليها أن تَعْتَدَّ بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها، وعلى وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين، وجاء النص الخاص في قصة سُبَيْعَة الأسْلَمِية بما يوافق قول ابن مسعود‏.‏
وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها‏:‏ هل لها مهر المثل‏؟‏ أفتي ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل، ثم حديث بِرْوَع بنت وَاشِقٍ بما يوافق ذلك، وقد خالفه على وزيد وغيرهما فقالوا‏:‏ لا مهر لها‏.‏ فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه، ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص؛ أولئك احتجوا بنص كالمتوفي عنها الحامل، وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها، والآخرين قالوا‏:‏ إنما يدخل في آية الحمل فقط، وإن آية الشهور في غير الحامل، كما أن آية القروء في غير الحامل‏.‏
وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يميناً بقوله‏:

 

ص -197-

{أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏1، 2‏]‏‏.‏
وكذلك لما تنازعوا في المَبْتُوتَة‏:‏ هل لها نفقة أو سكني‏؟‏ احتج هؤلاء بحديث فاطمة، وبأن السكني التي في القرآن للرجعية، وأولئك قالوا‏:‏ بل هي لهما‏.‏
ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمهن بعض الناس، كما قال على‏:‏ إلا فهماً يؤتيه الله عبدًا في كتابه‏.‏
وقد يكون النص بيناً، ويذهل المجتهد عنه، كتيمم الجنب فإنه بين في القرآن في آيتين‏.‏ ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال‏:‏ الحاضر‏:‏ ما دري عبد الله ما يقول إلا أنه قال‏:‏ لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم، وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر‏:‏ إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله‏:‏ ‏
{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة‏؟‏
وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله‏:‏ ‏
{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، واحتج بهذه الآية من منع الفسخ،وآخرون يقولون‏:‏ إنما أمر

 

ص -198-

بالإتمام فقط، وكذلك أمر الشارع أن يتم، وكذلك في الفسخ قالوا‏:‏ من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها‏.‏ أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتي بما تم مما شرع فيه؛ فإنه شرع في حج مجرد فأتي بعمرة في الحج، ولو لم يكن هذا إتمامًا لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عام حجة الوداع‏.‏
وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله‏:‏ ‏
{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه‏.‏
وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جَلِي ولا خفي فهذا ما لا أعرفه‏.‏
والجد لما قال أكثرهم‏:‏ إنه أب، استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله‏:‏ ‏
{كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏27‏]‏، وقال ابن عباس‏:‏ لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدًا لما قالت‏:‏ ‏{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏3‏]‏، ويقول‏:‏ إنما هو أب لكن أب أبعد من أب‏.‏
وقد روي عن على وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعي إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقًا فقد غلط، ومن ادعي أن من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل

 

ص -199-

كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأي دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأي دلالة الميزان ذكرها، والدلائل الصحيحة لا تتناقض لكن قد يخفي وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على بعض العلماء‏.‏
وللصحابة فهم في القرآن يخفي على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس‏.‏
ومن قال من المتأخرين‏:‏ إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم‏:‏ إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام، وقد قال الإمام أحمد  رضي الله عنه‏:‏ إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة، أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يَحْتَجُّ به عامتهم، ولا يحتاجون إليه؛ إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شُرَيْح‏:‏ اقْضِ بما في كتاب

 

ص -200-

 

الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما به قضي الصالحون قبلك‏.‏ وفي رواية‏:‏ فبما أجمع عليه الناس‏.‏
وعمر قدم الكتاب ثم السنة وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر، قدم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع‏.‏ وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر؛ لقوله‏:‏ ‏
"‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏"‏، وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب‏.‏
ولكن طائفة من المتأخرين قالوا‏:‏ يبدأ المجتهد بأن ينظر أولاً في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصًا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم‏:‏ الإجماع نسخه والصواب طريقة السلف‏.‏
وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلابد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك، ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرًا أو غالبًا،فمن ذا الذي

 

ص -201-

يحيط بأقوال المجتهدين‏؟‏ بخلاف النصوص فإن معرفتها ممكنة متيسرة‏.‏
وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولاً؛ لأن السنة لا تنسخ الكتاب فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه، فلا يقدم غير القرآن عليه، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره، ولا تُعَارض السنة بإجماع وأكثر ألفاظ الآثار، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة، مع أنه فيها، وكذلك في القرآن، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة، وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضًا لما في القرآن، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابًا ولا سنة‏.‏
تم بحمد الله وعونه وصلواته على خير بريته محمد وآله وسلم‏.

 

ص -202-

وقال  رَحِمهُ الله  بَعد كلام له‏:‏
ونحن نذكر ‏[‏قاعدة جامعة‏]‏ في هذا الباب لسائر الأمة فنقول‏:‏
لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت‏؟‏ وإلا فيبقي في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم‏.‏
فنقول‏:‏ إن الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول، ونحن نذكر أصولاً جامعة نافعة‏:‏
الأصل الأول‏:‏ أنه هل يمكن كل واحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع‏؟‏ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وُسْعَه فلم يصل إلى الحق، بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر، هل

 

ص -203-

يستحق أن يعاقب أم لا‏؟‏ هذا أصل هذه المسألة‏.‏
وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال، كل قول عليه طائفة من النظار‏:‏
الأول‏:‏ قول من يقول‏:‏ إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلاً يعرف به، يتمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق، وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه، لا لعجزه‏.‏ وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة، وهو قول طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء، ثم قال هؤلاء‏:‏ أما المسائل العلمية فعليها أدلة قطعية تعرف بها، فكل من لم يعرفها فإنه لم يستفرغ وسعه في طلب الحق فيأثم‏.‏ وأما المسائل العملية الشرعية فلهم مذهبان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنها كالعملية، وأنه على كل مسألة دليل قطعي من خالفه فهو آثم، وهؤلاء الذين يقولون‏:‏ المصيب واحد في كل مسألة أصلية وفرعية، وكل من سوي المصيب فهو آثم؛ لأنه مخطئ والخطأ والإثم عندهم متلازمان، وهذا قول بِشْر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين‏.‏
الثاني‏:‏ أن المسائل العملية إن كان عليها دليل قطعي فإن من خالفه

 

ص -204-

آثم مخطئ كالعلمية، وإن لم يكن عليها دليل قطعي فليس لله فيها حكم في الباطن، وحكم الله في حق كل مجتهد ما أداه اجتهاده إليه‏.‏
وهؤلاء وافقوا الأولين في أن الخطأ والإثم متلازمان، وإن كان مخطئ آثم، لكن خالفوهم في المسائل الاجتهادية، فقالوا‏:‏ ليس فيها قاطع، والظن ليس عليه دليل عند هؤلاء، وإنما هو من جنس ميل النفوس إلى شيء دون شيء، فجعلوا الاعتقادات الظنية من جنس الإرادات، وادعوا أنه ليس في نفس الأمر حكم مطلوب بالاجتهاد، والإثم في نفس الأمر أمارة أرجح من أمارة، وهذا القول قول أبي الهُذَيْل العَلاَّف ومن اتبعه كالجِبَائي وابنه، وهو أحد قولي الأشعري وأشهرهما، وهو اختيار القاضي الباقلاني وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر بن العربي؛ ومن اتبعهم‏.‏ وقد بسطنا القول في ذلك بسطًا كثيرًا في غير هذا الموضع‏.‏
والمخالفون لهم كأبي إسحاق الإسفرائيني وغيره من الأشعرية، وغيرهم يقولون‏:‏ هذا القول أوله سفسطة وآخره زندقة، وهذا قول من يقول‏:‏ إن كل مجتهد في المسائل الاجتهادية العملية فهو مصيب باطنًا وظاهرًا؛ إذ لا يتصور عندهم أن يكون مجتهدًا مخطئًا إلا بمعنى أنه خفي عليه بعض الأمور، وذلك الذي خفي عليه ليس هو حكم الله، لا

 

ص -205-

 

في حقه ولا في حق أمثاله، وأما من كان مخطئًا وهو المخطئ في المسائل القطعية فهو آثم عندهم‏.‏
والقول الثاني في أصل المسألة‏:‏ أن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق، وقد يعجز عن ذلك، لكن إذا عجز من ذلك فقد يعاقبه الله  تعالى  وقد لا يعاقبه؛ فإن له أن يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، بلا سبب أصلاً، بل لمحض المشيئة‏.‏ وهذا قول الجهمية والأشعرية وكثير من الفقهاء وأتباع الأئمة الأربعة، وغيرهم‏.‏
ثم قال هؤلاء‏:‏ قد علم بالسمع أن كل كافر فهو في النار، فنحن نعلم أن كل كافر فإن الله سيعذبه، سواء كان قد اجتهد وعجز عن معرفة دين الإسلام، أو لم يجتهد، وأما المسلمون المختلفون فإن كان اختلافهم في الفروعيات فأكثرهم يقول‏:‏ لا عذاب فيها، وبعضهم يقول‏:‏ لأن الشارع عفا عن الخطأ فيها، وعلم ذلك بإجماع السلف على أنه لا إثم على المخطئ فيها، وبعضهم يقول‏:‏ لأن الخطأ في الظنيات ممتنع، كما تقدم ذكره عن بعض الجهمية والأشعرية‏.‏
وأما القطعيات فأكثرهم يُؤَثِّمُ المخطئ فيها، ويقول‏:‏ إن السمع قد دل على ذلك‏.‏ ومنهم من لا يؤثمه‏.‏ والقول المحكي عن عبيد الله بن الحسن العَنْبَرِي هذا معناه‏:‏ أنه كان لا يؤثم المخطئ من المجتهدين من

 

ص -206-

هذه الأمة، لا في الأصول ولا في الفروع، وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول، وأما غير هؤلاء فيقول‏:‏ هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي، والثوري وداود بن علي، وغيرهم، لا يؤثمون مجتهدًا مخطئًا في المسائل الأصولية، ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره؛ ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم‏.‏
والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلى خلفه، وقالوا‏:‏ هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين‏:‏ أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤَثِّمُون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا‏:‏ والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره‏.‏
قالوا‏:‏ والفرق بين ذلك في مسائل الأصول والفروع، كما أنها محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة، فهي باطلة عقلاً‏.‏ فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل

 

ص -207-

أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة‏.‏
فمنهم من قال‏:‏ مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا فرق باطل؛ فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل‏:‏ وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش‏.‏ وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه، كتنازع الصحابة‏:‏ هل رأي محمد ربه‏؟‏ وكتنازعهم في بعض النصوص‏:‏ هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم، أم لا‏؟‏ وما أراد بمعناه‏؟‏ وكتنازعهم في بعض الكلمات‏:‏ هل هي من القرآن، أم لا‏؟‏ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة‏:‏ هل أراد الله ورسوله كذا وكذا‏؟‏ وكتنازع الناس في دقيق الكلام، كمسألة الجَوْهَر الفَرْد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض، ونحو ذلك، فليس في هذا تكفير ولا تفسيق‏.‏
قالوا‏:‏ والمسائل العملية فيها عمل وعلم، فإذا كان الخطأ مغفورًا فيها، فالتي فيها علم بلا عمل أولي أن يكون الخطأ فيها مغفورًا‏.‏

 

ص -208-

ومنهم من قال‏:‏ المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي،والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي‏.‏ قال أولئك‏:‏ وهذا الفرق خطأ  أيضًا  فإن كثيرًا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها، وفيها ما هو قطعي بالإجماع، كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتي تقام عليه الحجة، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قُدَامَة، ورأوا أنها حلال لهم، ولم تكفرهم الصحابة حتي بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا‏.‏
وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر، حتي تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولم يؤثمهم النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن تكفيرهم، وخطؤهم قطعي‏.‏ وكذلك أسامة بن زيد قد قتل الرجل المسلم وكان خطؤه قطعيًا، وكذلك الذين وجدوا رجلاً في غَنَمٍ له فقال‏:‏ إني مسلم، فقتلوه وأخذوا ماله، كان خطؤهم قطعيًا‏.‏ وكذلك خالد بن الوليد قتل بني جُذَيْمَة وأخذ أموالهم، كان مخطئًا قطعًا‏.‏
وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط، وعمار الذي تَمَعَّكَ في التراب للجنابة كما تمعك الدابة، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا كانوا مخطئين قطعًا‏.‏ وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ولم

 

ص -209-

يعلموا بوجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يحدوا على ذلك، وكذلك لو نشؤوا بمكان جهل‏.‏
وقد زنت على عهد عمر امرأة، فلما أقرت به قال عثمان‏:‏ إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام‏.‏ فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يَحُدُّوها‏.‏ واستحلال الزنا خطأ قطعًا‏.‏
والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهو مخطئ قطعًا، ولا إثم عليه باتفاق، وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين‏.‏
ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل فهو مخطئ قطعًا إذا تبين له الأكل بعد الفجر، ولا إثم عليه، وفي القضاء نزاع، وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه‏.‏ ومثل هذا كثير‏.‏
وقول الله  تعالى  في القرآن‏:‏
‏{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏[‏قد فعلت‏]‏‏.‏ ولم يفرق بين الخطأ القطعي في مسألة قطعية أو ظنية‏.‏ والظني ما لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعًا، قالوا‏:‏ فمن قال‏:‏ إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية يأثم، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم‏.‏

 

ص -210-

قالوا‏:‏ وأيضًا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفًا للقول في نفسه؛ فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة، أو بالنقل المعلوم صدقه عنده، وغيره لا يعرف ذلك، لا قطعًا ولا ظنًا‏.‏ وقد يكون الإنسان ذكيًا، قوي الذهن، سريع الإدراك، فيعرف من الحق، ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه، لا علمًا ولا ظنًا‏.‏
فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه، حتي يقال‏:‏ كل من خالفه قد خالف القطعي، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد، وهذا مما يختلف فيه الناس، فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس‏.‏
ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال‏:‏ المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل، فكل مسألة علمية استقل العقل بِدَرْكِهَا فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها‏.‏ والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع، قالوا‏:‏ فالأول‏:‏ كمسائل الصفات والقدر، والثاني‏:‏ كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار‏.‏

 

ص -211-

فيقال لهم‏:‏ ما ذكرتموه بالضد أولي، فإن الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل‏.‏
إلى أن قال‏:‏ وحينئذ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال‏:‏ إنها أصول الدين كفرًا، فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل، المبتدعة في الشرع، هم الكفار لا من خالفهم، وإن لم يكن الخطأ فيها كفرًا فلا يكفر من خالفهم فيها، فثبت أنه ليس كافرًا في حكم الله ورسوله على التقديرين، ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لابد منه، ويكفرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه؛ كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة، وغيرهم‏.‏
وأهل السنة لا يبتدعون قولاً، ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ وإن كان مخالفًا لهم مستحلاً لدمائهم، كما لم تكفر الصحابة الخوارج، مع تكفيرهم لعثمان وعلى ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم‏.‏
وكلام هؤلاء المتكلمين في هذه المسائل بالتصويب والتخطئة، والتأثيم ونفيه، والتكفير ونفيه؛ لكونهم بنوا على القولين المتقدمين في قول القدرية، الذين يجعلون كل مستدل قادرًا على معرفة الحق

 

ص -212-

فيعذب كل من لم يعرفه، وقول الجهمية الجبرية الذين يقولون‏:‏ لا قدرة للعبد على شيء أصلاً، بل الله يعذب بمحض المشيئة، فيعذب من لم يعمل ذنبًا قط، ويُنعِّمُ من كفر وفسق، وقد وافقهم على ذلك كثير من المتأخرين‏.‏
وهؤلاء يقولون‏:‏ يجوز أن يعذب الأطفال والمجانين، وإن لم يفعلوا ذنبًا قط، ثم منهم من يجزم بعذاب أطفال الكفار في الآخرة، ومنهم من يجوزه يقول‏:‏ لا أدري ما يقع‏؟‏ وهؤلاء يجوزون أن يغفر لأفسق أهل القبلة بلا سبب أصلاً، ويعذب الرجل الصالح على السيئة الصغيرة، وإن كانت له حسنات أمثال الجبال بلا سبب أصلاً، بل بمحض المشيئة‏.‏
وأصل الطائفتين أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرح، إلى آخر ما نقل  رحمه الله‏.‏
ثم قال‏:‏ وبهذا يظهر القول الثالث في هذا الأصل، وهو أنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورًا أو فعل محظورًا، وهذا هو قول الفقهاء والأئمة، وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين، وهذا القول يجمع الصواب من القولين‏.‏

 

ص -213-

فالصواب من القول الأول قول الجهمية، الذي وافقوا فيه السلف والجمهور، وهو أنه ليس كل من طلب واجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق فيه، بل استطاعة الناس في ذلك متفاوتة‏.‏
والقدرية يقولون‏:‏ إن الله  تعالى  سَوَّى بين المكلفين في القدرة ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتي آمنوا، ولا خَصَّ المطيعين بما فضلهم به على العُصَاة حتي أطاعوا‏.‏ وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم، التي خالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل الصريح، كما بسط في موضعه‏.‏
ولهذا قالوا‏:‏ إن كل مُسْتَدِلٍّ فمعه قدرة تامة يتوصل بها إلى معرفة الحق، ومعلوم أن الناس إذا اشتبهت عليهم القبلة في السفر فكلهم مأمورون بالاجتهاد والاستدلال على جهة القبلة، ثم بعضهم يتمكن من معرفة جهتها، وبعضهم يعجز عن ذلك فيغلط، فيظن في بعض الجهات أنها جهتها ولا يكون مصيبًا في ذلك، لكن هو مطيع لله، ولا إثم عليه في صلاته إليها؛ لأن الله  تعالى  لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فعجزهم عن العلم بها كعجزه عن التوجه إليها، كالمقيد والخائف والمحبوس والمريض الذي لا يمكنه التوجه إليها‏.‏
ولهذ كان الصواب في الأصل الثاني قول من يقول‏:‏ إن الله

 

ص -214-

لا يعذب في الآخرة إلا من عصاه بِتَرْك المأمور، أو فعل المحظور‏.‏ والمعتزلة في هذا وافقوا الجماعة، بخلاف الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم؛ فإنهم قالوا‏:‏ بل يعذب من لا ذنب له، أو نحو ذلك‏.‏
ثم هؤلاء يحتجون على المعتزلة في نفي الإيجاب والتحريم العقلي بقوله تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وهو حجة عليهم  أيضًا  في نفي العذاب مطلقًا إلا بعد إرسال الرسل، وهم يجوزون التعذيب قبل إرسال الرسل‏.‏ فأولئك يقولون‏:‏ يعذب من لم يبعث إليه رسولاً؛ لأنه فعل القبائح العقلية‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ بل يعذب من لم يفعل قبيحًا  قط  كالأطفال‏.‏ وهذا مخالف للكتاب والسنة والعقل  أيضًا  قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏، وقال تعالى عن أهل النار‏:‏ ‏{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، فقد أخبر  سبحانه وتعالى  بصيغة العموم أنه كلما ألقي فيها فوج سألهم الخزنة‏:‏ هل جاءهم نذير‏؟‏ فيعترفون بأنهم قد جاءهم نذير، فلم يَبْقَ فَوْجٌ يدخل النار إلا وقد جاءهم نذير، فمن لم يأته نذير لم يدخل النار‏.‏
وقال‏:‏
‏{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 131‏]‏ أي‏:‏ هذا بهذا السبب، فعلم أنه لا يعذب من كان غافلاً ما لم يأته

 

ص -215-

نذير، وذل  أيضًا  على أن ذلك ظلم تنزه  سبحانه  عنه‏.‏
وأيضًا، فإن الله  تعالى  قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، كقوله‏:‏
‏{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال‏:‏ ‏
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقد دعاه المؤمنون بقولهم‏:‏ ‏{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، فقال‏:‏ ‏[‏قد فعلت‏]‏‏.‏
فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه، خلافًا للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي خلافًا للقدرية والمعتزلة‏.‏
وهذا فصل الخطاب في هذا الباب‏.‏ فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومُفْتٍ، وغير ذلك، إذا اجتهد واستدل فاتقي الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق

 

ص -216-

للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة  خلافًا للجهمية المجبرة  وهو مصيب، بمعني‏:‏ أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم‏:‏ كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب‏.‏
وكذلك الكفار، من بلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقي الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام؛ لكونه ممنوعًا من الهجرة وممنوعًا من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام، فهذا مؤمن من أهل الجنة‏.‏ كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق  عليه السلام  مع أهل مصر؛ فإنهم كانوا كفارًا، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام؛ فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون‏:‏ ‏
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏‏.‏
وكذلك النجاشي، هو وإن كان ملك النصاري، فلم يطعه قومه في

 

ص -217-

الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه، فصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلي فصفهم صفوفًا، وصلي عليه، وأخبرهم بموته يوم مات وقال‏:‏ ‏"‏إن أخًا لكم صالحًا من أهل الحبشة مات‏"‏‏.‏ وكثير من شرائع الإسلام  أو أكثرها  لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم‏.‏ ونحن نعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحَذَّرَه أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه‏.‏
وهذا مثل الحكم في الزنا للمُحْصِن بِحَدِّ الرجم، وفي الديات بالعدل، والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع، النفس بالنفس والعين بالعين، وغير ذلك‏.‏
والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يُقِرُّونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولي الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا  بل وإمامًا  وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها‏.‏

 

ص -218-

وعمر ابن عبد العزيز عُودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل‏:‏ إنه سُمَّ على ذلك‏.‏ فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها‏.‏
ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب، قال الله تعالى‏:‏
‏{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏199‏]‏، وهذه الآية قد قال طائفة من السلف‏:‏ إنها نزلت في النجاشي، ويروي هذا عن جابر وابن عباس وأنس‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ فيه وفي أصحابه، كما قال الحسن وقتادة‏.‏ وهذا مراد الصحابة ولكن هو المطاع، فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد‏.‏
وعن عطاء قال‏:‏ نزلت في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، وكانوا على دين عيسي فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، مثل‏:‏ عبد الله بن سَلاَم، وغيره ممن كان يهوديا، وسلمان الفارسي، وغيره ممن كان نصرانيًا، إلا هؤلاء صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم‏:‏
‏{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 199‏]‏،

 

ص -219-

ولا يقول أحد‏:‏ إن اليهود والنصارى بعد إسلامهم وهجرتهم ودخولهم في جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين يقال‏:‏ إنهم من أهل الكتاب، أي‏:‏ من جملتهم وقد آمنوا بالرسول، كما قال تعالى في المقتول خطأ‏:‏ ‏{عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، فهو من العدو ولكن هو كان قد آمن، وما أمكنه الهجرة، وإظهار الإيمان، والتزام شرائعه، فسماه مؤمنًا؛ لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه‏.‏
وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون بإيمانهم، وهم عاجزون عن الهجرة، قال تعالى‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97  99‏]‏، فعذر  سبحانه  المستضعف العاجز عن الهجرة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 75‏]‏، فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم، فقد سقط عنهم ما عجزوا

 

ص -220-

عنه؛ فإذا كان هذا فيمن كان مشركًا وآمن، فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن‏؟‏
وقوله‏:‏ ‏
{فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، قيل‏:‏ هو الذي يكون عليه لباس أهل الحرب، مثل أن يكون في صفهم، فَيُعْذَر القاتل؛ لأنه مأمور بقتاله، فتسقط عنه الدِّية، وتجب الكفارة، وهو قول الشافعي وأحمد في أحد القولين، وقيل‏:‏ بل هو من أسلم ولم يهاجر، كما يقوله أبو حنيفة، لكن هذا قد أوجب فيه الكفارة‏.‏ وقيل‏:‏ إذا كان من أهل الحرب لم يكن له وارث، فلا يعطي أهل الحرب ديته، بل تجب الكفارة فقط، وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ أو ظن أنه كافر، وهذا ظاهر الآية‏.‏
وقد قال بعض المفسرين‏:‏ إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، كما نُقِلَ عن ابن جُرَيْج ومقاتل وابن زيد، يعني‏:‏ قوله‏:‏
‏{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 199‏]‏، وبعضهم قال‏:‏ إنها في مُؤْمِني أهل الكتاب‏.‏ فهو كالقول الأول، وإن أراد العموم فهو كالثاني‏.‏ وهذا قول مجاهد، ورواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏
وقول من أدخل فيها ابن سلام وأمثاله ضعيف؛ فإن هؤلاء من المؤمنين ظاهرًا وباطنًا من كل وجه، لا يجوز أن يقال فيهم‏:‏

 

ص -221-

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 199‏]‏‏.‏
أما أولاً‏:‏ فإن ابن سلام أسلم في أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقال‏:‏ فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب‏.‏ وسورة آل عمرن إنما نزل ذكر أهل الكتاب فيها لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر‏.‏
وثانيًا‏:‏ أن ابن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين، وهو من أفضلهم، وكذلك سلمان الفارسي، فلا يقال فيه‏:‏ إنه من أهل الكتاب‏.‏ وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين بل يُؤْتَوْنَ أجرهم مرتين، وهم ملتزمون جميع شرائع الإسلام، فأجرهم أعظم من أن يقال فيه‏:‏
‏{أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏
وأيضًا، فإن أمر هؤلاء كان ظاهرًا معروفًا ولم يكن أحد يشك فيهم، فأي فائدة في الإخبار بهم‏؟‏ وما هذا إلا كما يقال‏:‏ الإسلام دخل فيه من كان مشركًا، أو كان كتابيًا، وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يعرف قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فكل من دخل فيه كان قبل ذلك؛ إما مشركًا، وإما من أهل الكتاب؛ إما كتابيا، وإما

 

ص -222-

أميا‏.‏ فأي فائدة في الإخبار بهذا‏؟‏ بخلاف أمر النجاشي وأصحابه ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النصاري؛ فإن أمرهم قد يشتبه‏.‏
ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية‏:‏ أنه لما مات النجاشي صَلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل‏:‏ تصلي على هذا العِلْجِ ‏[‏والعِلْج‏:‏ الرجل من كفار العَجَم‏]‏‏.‏ النصراني وهو في أرضه‏؟‏ فنزلت هذه الآية، هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك وابن عباس، وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشي، وهذا بخلاف ابن سلام وسلمان الفارسي؛ فإنه إذا صلي على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد‏.‏
وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه، كما نزل في حق ابن أُبَي وأمثاله‏.‏ وأن مَنْ هو في أرض الكفر يكون مؤمنًا يصلى عليه كالنجاشي‏.‏
ويشبه هذه الآية أنه لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال‏:‏‏
{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏110 - 114‏]‏،

 

ص -223-

وهذه الآية قيل‏:‏ إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏ هو عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏
وهذا  والله أعلم  من نمط الذي قبله؛ فإن هؤلاء ما بقوا من أهل الكتاب، وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر وهو مؤمن، لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون، كمؤمن آل فرعون؛ وهو من آل فرعون وهو مؤمن؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏، فهو من آل فرعون وهو مؤمن‏.‏
وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون؛ ولهذا قال‏:‏ ‏
{وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ وقد قال قبل هذا‏:‏ ‏{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى‏}‏، وهذا عائد إليهم جميعهم، لا إلى أكثرهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏، وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه، يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال، ويبعث

 

ص -224-

يوم القيامة على نيته، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يغزو جيش هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم‏"‏، فقيل‏:‏ يا رسول الله، وفيهم المُكْرَه، قال‏:‏ ‏"‏يبعثون على نياتهم‏"‏‏.‏ وهذا في ظاهر الأمر، وإن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته، كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويبعثون على نياتهم‏.‏
والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر؛ ولهذا روي أن العباس قال‏:‏ يا رسول الله، كنت مكرهًا‏.‏ قال‏:‏ ‏[‏أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله‏]‏‏.‏
وبالجملة، لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن  وهو عاجز عن الهجرة  لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها، بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، وبقي مدة لم يصل، لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد‏.‏
وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان، وأداء الزكاة، وغير ذلك‏.‏ ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يُحَدّ باتفاق المسلمين، وإنما

 

ص -225-

اختلفوا في قضاء الصلوات‏.‏وكذلك لو عامل بما يستحله من ربا، أو مَيْسِر، ثم تبين له تحريم ذلك بعد القبض، هل يفسخ العقد، أم لا‏؟‏ كما لا نفسخه لو فعل ذلك قبل الإسلام‏.‏ وكذلك لو تزوج نكاحًا يعتقد صحته على عادتهم، ثم لما بلغته شرائع الإسلام رأي أنه قد أخل ببعض شروطه، كما لو تزوج في عِدَّةٍ وقد انقضت، فهل يكون هذا فاسدًا، أو يقر عليه‏؟‏ كما لو عقده قبل الإسلام ثم أسلم‏.‏
وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلمها، أم لا تلزم أحدًا إلا بعد العلم‏؟‏ أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة‏؟‏ هذا فيه ثلاثة أقوال، هي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد، ذكر القاضي أبو يَعلى الوجهين المطلقين في كتاب له، وذكر هو وغيره الوجه المفرق في أصول الفقه، وهو أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتي يبلغه الناسخ‏.‏ وأخرج أبو الخطاب وجهًا في ثبوته‏.‏
ومن هذا الباب من ترك الطهارة الواجبة، ولم يكن علم بوجوبها، أو صلي في الموضع المنهي عنه قبل علمه بالنهي، هل يعيد الصلاة‏؟‏ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد‏.‏
والصواب في هذا الباب كله‏:‏ أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه، فقد ثبت في الصحيح أن

 

ص -226-

من الصحابة من أكل بعد طلوع الفجر في رمضان، حتي تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ومنهم من كان يمكث جُنُبًا مدة لا يصلي، ولم يكن يعلم جواز الصلاة بالتيمم كأبي ذر وعمر بن الخطاب وعمار لما أجنب، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا منهم بالقضاء، ولا شك أن خَلْقًا من المسلمين بمكة والبوادي صاروا يصلون إلى بيت المقدس، حتي بلغهم النسخ، ولم يؤمروا بالإعادة‏.‏ ومثل هذا كثير‏.‏
وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور‏:‏ أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالوجوب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور، أو فعل محظور بعد قيام الحجة‏.‏ وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

 

ص -227-

وقال شيخ الإسلام  قدسَ الله روحه‏:‏
فَصْل

قول الناس‏:‏ العلوم الشرعية والعقلية قد يكون بينهما عموم وخصوص، وقد يكون أحدهما قسيم الآخر‏.‏ ويكون الصواب في مواضع أن يقال‏:‏ السمعية والعقلية؛ وذلك أن قولنا‏:‏ العلوم الشرعية قد يراد به ما أمر به الشارع، وقد يراد به ما أخبر به الشارع، وقد يراد به ما شرع أن يعلم، وقد يراد به ما علمه الشارع‏.‏
فالأول‏:‏ هو العلم المشروع  كما يقال‏:‏ العمل المشروع  وهو الواجب أو المستحب، وربما دخل فيه المباح بالشرع‏.‏
والثاني‏:‏ هو العلم المستفاد من الشارع، وهو ما علمه الرسول لأمته بما بعث به من الإيمان والقرآن والكتاب والحكمة، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، أو الإجماع، أو توابع ذلك‏.‏
فالأول‏:‏ إضافة له بحسب حكمه في الشرع،والثاني‏:‏ إضافة إلى

 

ص -228-

طريقه ودليله، فقولنا في الأول‏:‏ علم شرعي كما يقال‏:‏ عمل شرعي، والثاني‏:‏ كما يقال‏:‏ علم عقلي وسمعي، الأول نظر فيه من جهة المدح والذم، والثواب والعقاب، والأمر والنهي، وهو خطاب التكليف‏.‏ والثاني نظر فيه من جهة طريقه ودليله، وصحته وفساده، ومطابقته ومخالفته، وهو من جهة خطاب الأخبار‏.‏
ثم كل من القسمين على قسمين‏:‏ فإنه إذا عرف أن الشرعي؛ إما أن يكون ما أخبر به، وإما أن يكون ما أمر به‏.‏ فما أخبر به؛ إما أن يبين له دليلاً عقليًا، أو لا يذكر‏.‏ وما أمر به؛ إما أن يكون مقصودًا للشارع، أو لازمًا لمقصود الشارع، وهو ما لا يتم مقصوده الواجب أو المستحب إلا به‏.‏ فهذه أربعة أقسام‏.‏
وإن شئت أن تقسم المأمور به إلى ما يعرف بالعقل فقط، وإلى ما يعرف بالشرع أيضًا، فيكون شرعيًا خبرًا وأمرًا؛ فإن ما علم بالشرع لا يخلو؛ إما أن يراد به إخبار الشارع، أو دلالة الشارع، فإذا عني به ما دل عليه الشارع مثل دلالته على آيات الربوبية ودلالة الرسالة، ونحو ذلك  فإنه يجتمع في هذا أن يكون شرعيًا عقليًا؛ فإن الشارع لما نَبّهَ العقول على الآيات والبراهين والعِبَر اهتدت العقول، فعلمت ما هداها إليه الشارع‏.‏

 

ص -229-

هذا في الشريعة، فإنه إذا عرف صدق المبلغ جاز أن يعلم بخبره كل ما يحتاج إليه، ولا ريب أن كثيرًا من الناس لا ينالون علم ذلك إلا من جهة خبر الشارع، وقد أحسنوا في ذلك حيث آمنوا به، لكن هل ذلك واقع مطلقًا‏؟‏ وقد ذهب خلائق من المتفلسفة والمتكلمة والمتفقهة والمتصوفة والعامة، وغير ذلك إلى وقوع ذلك، وهو أن فيما أخبر به الشارع أمور قد تعلم بالعقل  أيضًا  وإن كان الشارع لم يذكر دلالته العقلية‏.‏
وهذا فيه نظر؛ فإن من تأمل وجوه دلالة الكتاب والسنة وما فيها من جَلِي وخفي وظاهر وباطن قد يقول‏:‏ إن الشارع نَبَّهَ في كل ما يمكن علمه بالعقل على دلالة عقلية، كما قد حصل الاتفاق على أن ذلك واقع في مسائل أصول الدين الكبار، وفي هذا نظر‏.‏
فصارت العلوم بهذا الاعتبار؛ إما أن تعلم بالشرع فقط، وهو ما يعلم بمجرد إخبار الشرع مما لا يهتدي العقل إليه بحال، لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإما أن تعلم بالعقل فقط؛ كمرويات الطب والحساب والصناعات‏.‏ وإما أن تعلم بهما، فإما أن يكون الشارع قد هدي إلى دلالتها كما أخبر بها أم لا، فإن كان الأول فهي عقليات الشرعيات، أو عقلي

 

ص -230-

هذا في الشريعة، فإنه إذا عرف صدق المبلغ جاز أن يعلم بخبره كل ما يحتاج إليه، ولا ريب أن كثيرًا من الناس لا ينالون علم ذلك إلا من جهة خبر الشارع، وقد أحسنوا في ذلك حيث آمنوا به، لكن هل ذلك واقع مطلقًا‏؟‏ وقد ذهب خلائق من المتفلسفة والمتكلمة والمتفقهة والمتصوفة والعامة، وغير ذلك إلى وقوع ذلك، وهو أن فيما أخبر به الشارع أمور قد تعلم بالعقل أيضًا وإن كان الشارع لم يذكر دلالته العقلية‏.‏
وهذا فيه نظر؛ فإن من تأمل وجوه دلالة الكتاب والسنة وما فيها من جَلِي وخفي وظاهر وباطن قد يقول‏:‏ إن الشارع نَبَّهَ في كل ما يمكن علمه بالعقل على دلالة عقلية، كما قد حصل الاتفاق على أن ذلك واقع في مسائل أصول الدين الكبار، وفي هذا نظر‏.‏
فصارت العلوم بهذا الاعتبار؛ إما أن تعلم بالشرع فقط، وهو ما يعلم بمجرد إخبار الشرع مما لا يهتدي العقل إليه بحال، لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإما أن تعلم بالعقل فقط؛ كمرويات الطب والحساب والصناعات‏.‏ وإما أن تعلم بهما، فإما أن يكون الشارع قد هدي إلى دلالتها كما أخبر بها أم لا، فإن كان الأول فهي عقليات الشرعيات، أو عقلي

 

ص -231-

الشارع، أو ما شرع عقله، أو العقل المشروع‏.‏ وإما أن يكون قد أخبر بها فقط، فهذه عقلية من غير الشارع‏.‏ فيجب التفطن‏.‏
لكن العقلي قد يعقل من الشارع، وهو عامة أصول الدين، وقد يعقل من غيره ولم يعقل منه، فهذا في وجوده نظر‏.‏
وبهذا التحرير يتبين لك أن عامة المتفلسفة وجمهور المتكلمة جاهلة بمقدار العلوم الشرعية ودلالة الشارع عليها، ويُوهِمُهُم عُلُوُّ العقلية عليها، فإن جهلهم ابتني على مقدمتين جاهليتين‏:‏
إحداهما‏:‏ أن الشرعية ما أخبر الشارع بها‏.‏
والثانية‏:‏ أن ما يستفاد بخبره فرع للعقليات التي هي الأصول، فلزم من ذلك تشريف العقلية على الشرعية‏.‏
وكلا المقدمتين باطلة؛ فإن الشرعيات‏:‏ ما أخبر الشارع بها، وما دل الشارع عليها‏.‏ وما دل الشارع عليه ينتظم جميع ما يحتاج إلى علمه بالعقل وجميع الأدلة والبراهين وأصول الدين ومسائل العقائد، بل قد تدبرتُ عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدتُ دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكَدَرِ، وتأتي بأشياء

 

ص -232-

لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها، وقد بينت تفصيل هذه الجملة في مواضع‏.‏
وأما إذا أريد بالشرعية ما شرع علمه، فهذا يدخل فيه كل علم مستحب أو واجب، وقد يدخل فيه المباح، وأصول الدين على هذا من العلوم الشرعية  أيضًا، وما علم بالعقل وحده فهو من الشرعية  أيضًا؛ إذا كان علمه مأمورًا به في الشرع‏.‏
وعلى هذا، فتكون الشرعية قسمين‏:‏ عقلية وسمعية‏.‏ وتجعل السمعية هنا بدل الشرعية في الطريقة الأولي، وقد تبين بهذا أن كل علم عقلي أمر الشرع به، أو دل الشرع عليه فهو شرعي  أيضًا، إما باعتبار الأمر، أو الدلالة، أو باعتبارهما جميعًا‏.‏
ويتبين بهذا التحرير أن ما خرج من العلوم العقلية عن مسمي الشرعية  وهو ما لم يأمر به الشارع ولم يدل عليه  فهو يجري مجري الصناعات، كالفلاحة والبناية والنِّساجَة، وهذا لا يكون إلا في العلوم المفضولة المرجوحة، ويتبين أن مسمي الشرعية أشرف وأوسع، وأن بين العقلية والشرعية عمومًا وخصوصًا، ليس أحدهما قَسِيم الآخر، وإنما السمعي قسيم العقلي، وأنه يجتمع في العلم أن يكون عقليًا وهو شرعي بالاعتبارات الثلاثة‏:‏ إخباره به، أمره به، دلالة عليه‏.‏ فتدبر أن النسبة

 

ص -233-

إلى الشرع بهذه الوجوه الثلاثة‏.‏
ثم ما أمر به الشارع من العلم؛ إما أن يكون أمره به يعود أو لزومًا من جهة ما لا يتأتي المشروع إلا به‏.‏
وكذلك الحكم الشرعي يريد به المعتزلة ما أخبر به الشارع فقط‏.‏ ويريد به الأشعرية ما أثبته الشارع‏.‏ وقد وافق كُلَّ فريقٍ قومٌ من أصحابنا وغيرهم، والصواب أن الحكم الشرعي يكون تارة ما أخبر به، ويكون تارة ما أثبته، وتارة يجتمع الأمران‏.‏ والله أعلم‏.

 

ص -234-

وقال شيخ الإسلام‏:‏
فَصْل جامع نافع

الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة؛ منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله؛ كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق‏.‏ومنه ما يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر،والسماء والأرض،والبر والبحر‏.‏ ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم فيتنوع بحسب عادتهم؛ كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يَحُدُّها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس‏.‏
فما كان من النوع الأول فقد بينه الله ورسوله، وما كان من النوع الثاني والثالث فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به؛ لمعرفتهم بمسماه المحدود في اللغة، أو المطلق في عرف الناس

 

ص -235-

وعادتهم من غير حد شرعي ولا لغوي، وبهذا يحصل التفقه في الكتاب والسنة‏.‏
والاسم إذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حَدَّ مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه، بل المقصود أنه عرف مراده بتعريفه هو صلى الله عليه وسلم كيف ماكان الأمر؛ فإن هذا هو المقصود، وهذا كاسم الخمر؛ فإنه قد بين أن كل مُسْكر خمر، فعرف المراد بالقرآن‏.‏ وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر أو تخص به عصير العنب  لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم، وهذا قد عرف ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن الخمر في لغة المخاطبين بالقرآن كانت تتناول نَبِيذ التمر وغيره، ولم يكن عندهم بالمدينة خمر غيرها‏.‏ وإذا كان الأمر كذلك، فما أطلقه الله من الأسماء وعَلَّق به الأحكام من الأمر والنهي والتحليل والتحريم لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله‏.‏
فمن ذلك اسم الماء مطلق في الكتاب والسنة، ولم يقسمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين‏:‏ طهور، وغير طهور، فهذا التقسيم، مخالف للكتاب والسنة، وإنما قال الله‏:‏
{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء‏} ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما وقع عليه اسم الماء فهو طاهر طهور، سواء كان مستعملاً في طهر واجب، أو مستحب،

 

ص -236-

أو غير مستحب؛ وسواء وقعت فيه نجاسة، أو لم تقع إذا عرف أنها قد اسْتَجَالت فيه واستهلكت، وأما إن ظهر أثرها فيه فإنه يحرم استعماله؛ لأنه استعمال للمحرم‏.‏
فَصْل
ومن ذلك اسم الحَيض، علق الله به أحكامًا متعددة في الكتاب والسنة، ولم يُقَدِّر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوي الأمة بذلك، واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حدًا فقد خالف الكتاب والسنة، والعلماء منهم من يحد أكثره وأقله، ثم يختلفون في التحديد‏.‏ ومنهم من يحد أكثره دون أقله، والقول الثالث أصح‏:‏ أنه لا حد له لأقله ولا لأكثره، بل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض، وإن قدر أنه أقل من يوم استمر بها على ذلك فهو حيض، وإن قدر أن أكثره سبعة عشر استمر بها على ذلك فهو حيض‏.‏ وأما إذا استمر الدم بها دائمًا فهذا قد علم أنه ليس بحيض؛ لأنه قد علم من الشرع واللغة أن المرأة تارة تكون طاهرًا، وتارة تكون حائضًا، ولطهرها أحكام، ولحيضها أحكام‏.‏

 

ص -237-

والعادة الغالبة أنها تحيض ربع الزمان ستة أو سبعة، وإلى ذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة التي ليس لها عادة ولا تمييز، والطهر بين الحيضتين لا حد لأكثره باتفاقهم؛ إذ من النسوة من لا تحيض بحال، وهذه إذا تباعد ما بين أَقْرَائِها فهل يعتد بثلث حيض أو تكون كالمرتابة تحيض سنة‏؟‏ فيه قولان للفقهاء‏.‏ وكذلك أقله على الصحيح لا حد له، بل قد تحيض المرأة في الشهر ثلاث حِيَضٍ، وإن قدر أنها حاضت ثلاث حيض في أقل من ذلك أمكن، لكن إذا ادعت انقضاء عدتها فيما يخالف العادة المعروفة، فلابد أن يشهد لها بطانة من أهلها، كما روي عن على  رضي الله عنه  فيمن ادعت ثلاث حيض في شهر‏.‏
والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض، حتي يقوم دليل على أنه استحاضة؛ لأن ذلك هو الدم الأصلي الجِبِلِّي، وهو دم تَرْخِيه الرحم، ودم الفساد دم عرق ينفجر، وذلك كالمرض، والأصل الصحة لا المرض‏.‏ فمتي رأت المرأة الدم جارٍ من رحمها فهو حيض تترك لأجله الصلاة‏.‏ ومن قال‏:‏ إنها تغتسل عقيب يوم وليلة فهو قول مخالف للمعلوم من السنة وإجماع السلف؛ فإنا نعلم أن النساء كن يحضن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكل امرأة تكون في أول أمرها مبتدأة قد ابتدأها الحيض، ومع هذا فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم

 

ص -238-

واحدة منهن بالاغتسال عقب يوم وليلة‏.‏ ولو كان ذلك منقولاً لكان ذلك حدًا لأقل الحيض، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحد أقل الحيض باتفاق أهل الحديث‏.‏ والمروي في ذلك ثلاث‏.‏ وهي أحاديث مكذوبة عليه باتفاق أهل العلم بحديثه، وهذا قول جماهير العلماء، وهو أحد القولين في مذهب أحمد‏.‏
وكذلك المرأة المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض، حتي يعلم أنه استحاضة باستمرار الدم؛ فإنها كالمبتدأة‏.‏
والمستحاضة ترد إلى عادتها ثم إلى تمييزها، ثم إلى غالب عادات النساء، كما جاء في كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث‏.‏ ومن العلماء من أخذ بحديثين، ومنهم من لم يأخذ إلا بحديث، بحسب ما بلغه، وما أدي إليه اجتهاده  رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
والحامل إذا رأت الدم على الوجه المعروف لها فهو دم حيض بناء على الأصل‏.‏
والنفاس لا حد لأقله ولا لأكثره، فلو قدر أن امرأة رأت

 

ص -239-

الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس، لكن إن اتصل فهو دم فساد‏.‏ وحينئذ فالحد أربعون؛ فإنه منتهي الغالب جاءت به الآثار‏.‏
ولا حد لسِنٍّ تحيض فيه المرأة، بل لو قدر أنها بعد ستين أو سبعين رأت الدم المعروف من الرحم لكان حيضًا‏.‏ واليأس المذكور في قوله‏:‏
‏{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، ليس هو بلوغ سن، لو كان بلوغ سن لبينه الله ورسوله، وإنما هو أن تَيْأس المرأة نفسها من أن تحيض، فإذا انقطع دمها ويئست من أن يعود فقد يئست من المحيض ولو كانت بنت أربعين، ثم إذا تَرَبَّصَتْ وعاد الدم تبين أنها لم تكن آيسة، وإن عاودها بعد الأشهر الثلاثة فهو كما لو عاود غيرها من الآيسات والمستريبات‏.‏ ومن لم يجعل هذا هو اليأس فقوله مضطرب إن جعله سنًا، وقوله مضطرب إن لم يحد اليأس لا بسن ولا بانقطاع طمع المرأة في المحيض، وبنفس الإنسان لا يعرف، وإذا لم يكن للنفاس قدر؛ فسواء ولدت المرأة تَوْأَمَين أو أكثر ما زالت تري الدم فهي نَفْسَاء، وما تراه من حين تشرع في الطَّلْقِ فهو نِفَاس، وحكم دم النفاس حكم دم الحيض‏.‏
ومن لم يأخذ بهذا، بل قَدَّر أقل الحيض بيوم، أو يوم وليلة، أو ثلاثة أيام، فليس معه في ذلك ما يعتمد عليه، فإن النقل في ذلك عن

 

ص -240-

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه باطل عند أهل العلم بالحديث‏.‏ والواقع لا ضابط له، فمن لم يعلم حيضًا إلا ثلاثًا قال غيره‏:‏ قد علم يومًا وليلة، ومن لم يعلم إلا يومًا وليلة قد علم غيره يومًا، ونحن لا يمكننا أن ننفي ما لا نعلم، وإذا جعلنا حد الشرع ما علمناه فقلنا‏:‏ لا حيض دون ثلاث أو يوم وليلة أو يوم؛ لأنا لم نعلم إلا ذلك، كان هذا وضع شرع من جهتنا بعد العلم؛ فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، ولو كان هذا حدًا شرعيًا في نفس الأمر لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أولي بمعرفته وبيانه منا، كما حَدَّ للأمة ما حده الله لهم من أوقات الصلوات والحج والصيام، ومن أماكن الحج، ومن نُصُبِ الزكاة وفرائضها، وعدد الصلوات وركوعها وسجودها‏.‏ فلو كان للحيض  وغيره مما لم يقدره النبي صلى الله عليه وسلم  حد عند الله ورسوله لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما لم يحده دل على أنه رد ذلك إلى ما يعرفه النساء ويسمي في اللغة حيضًا؛ ولهذا كان كثير من السلف إذا سئلوا عن الحيض قالوا‏:‏ سلوا النساء فإنهن أعلم بذلك، يعني‏:‏ هن يعلمن ما يقع من الحيض وما لا يقع‏.‏
والحكم الشرعي تعلق بالاسم الدال على الواقع، فما وقع من دم فهو حيض إذا لم يعلم أنه دم عِرْق أو جرح؛ فإن الدم الخارج؛ إما أن ترخيه الرحم، أو ينفجر من عرق من العروق، أو من جلد المرأة، أو

 

ص -241-

لحمها، فيخرج منه‏.‏ وذلك يخرج من عروق صِغَار، لكن دم الجرح الصغير لا يسيل سَيْلاً مستمرًا كدم العرق الكبير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة‏:‏ ‏"‏إن هذا دم عرق وليست بالحيضة‏"‏‏.‏ وإنما يسيل الجرح إذا انفجر عرق كما ذكرنا فَصْدَ الإنسان؛ فإن الدم في العروق الصغار والكبار‏.‏
فَصْل
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أمته بالمسح على الخفين، فقال صَفْوان بن عَسَّال‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرًا أو مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم‏.‏ ولم يقيد ذلك بكون الخف يثبت بنفسه أو لا يثبت بنفسه، وسليمًا من الخرق والفتق أو غير سليم، فما كان يسمي خفًا، ولبسه الناس ومشوا فيه مسحوا عليه المسح الذي أذن الله فيه ورسوله، وكلما كان بمعناه مسح عليه، فليس لكونه يسمي خفًا معني مؤثر بل الحكم يتعلق بما يلبس ويمشي فيه؛ ولهذا جاء في الحديث المسح على الجَوْرَبَين‏.

 

ص -242-

فَصْل
واللّه ورسوله عَلَّق القصر والفِطْرَ بمسمي السفر ولم يحده بمسافة، ولا فَرَّق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدودة لبينه اللّه ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكل ما يسميه أهل اللغة سفرًا، فإنه يجوز فيه القصر والفطر كما دل عليه الكتاب والسنة، وقد قصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات، وهي من مكة بَرِيد، فعلم أن التحديد بيوم أو يومين أو ثلاثة ليس حدًا شرعيًا عامًا‏.‏ وما نقل في ذلك عن الصحابة قد يكون خاصًا، كان في بعض الأمور لا يكون السفر إلا كذلك؛ ولهذا اختلفت الرواية عن كل منهم كابن عمر وابن عباس، وغيرهما، فعلم أنهم لم يجعلوا للمسافر ولا الزمان حدًا شرعيًا عامًا، كمواقيت الصوم والصلاة، بل حدوه لبعض الناس بحسب ما رأوه سفرًا لمثله في تلك الحال، وكما يحد الحادُّ الغني والفقير في بعض الصور بحسب ما يراه، لا لأن الشرع جعل للغني والفقير مقدارًا من المال يستوي فيه الناس كلهم، بل قد يستغني الرجل بالقليل وغيره لا يغنيه أضعافه؛ لكثرة عياله وحاجاته، وبالعكس‏.‏
وبعض الناس قد يقطع المسافة العظيمة ولا يكون مسافرًا، كالبريد

 

ص -243-

إذا ذهب من البلد لتبليغ رسالة أو أخذ حاجة ثم كَرَّ راجعًا من غير نزول‏.‏ فإن هذا لا يسمي مسافرًا، بخلاف ما إذا تزود زاد المسافر، وبات هناك، فإنه يسمي مسافرًا، وتلك المسافة يقطعها غيره، فيكون مسافرًا يحتاج أن يتزود لها، ويبيت بتلك القرية ولا يرجع إلا بعد يوم أو يومين، فهذا يسميه الناس مسافرًا، وذلك الذي ذهب إليها طَرْدًا وكر راجعًا على عَقِبِه لا يسمونه مسافرًا، والمسافة واحدة‏.‏
فالسفر حال من أحوال السير لا يحد بمسافة ولا زمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا ولم يكن مسافرًا، وكان الناس يأتون الجمعة من العَوَالى والعَقيقِ ثم يدركهم الليل في أهلهم ولا يكونون مسافرين، وأهل مكة لما خرجوا إلى منى وعرفة كانوا مسافرين، يتزودون لذلك، ويبيتون خارج البلد، ويَتَأَهَّبُون أُهْبَةَ السفر، بخلاف من خرج لصلاة الجمعة أو غيرها من الحاجات، ثم رجع من يومه ولو قطع بريدًا، فقد لا يسمى مسافرًا‏.‏
وما زال الناس يخرجون من مساكنهم إلى البساتين التي حول مدينتهم، ويعمل الواحد في بستانه أشغالًا من غَرْسٍ وسَقْىٍ، وغير ذلك، كما كانت الأنصار تعمل في حيطانهم ولا يسمون مسافرين، ولو أقام أحدهم طول النهار، ولو بات في بستانه وأقام فيه أيامًا، ولو كان البستان أبعد من بريد، فإن البستان من توابع البلد عندهم، والخروج

 

ص -244-

إليه كالخروج إلى بعض نواحى البلد، والبلد الكبير الذي يكون أكثر من بريد متى سار من أحد طرفيه إلى الآخر لم يكن مسافرًا؛ فالناس يفرقون بين المتنقل في المساكن وما يتبعها، وبين المسافر الراحل عن ذلك كله، كما كان أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم يذهبون إلى حوائطهم ولا يكونون مسافرين، والمدينة لم يكن لها سور بل كانت قبائل قبائل، ودورًا دورًا، وبين جانبيها مسافة كبيرة، فلم يكن الراحل من قبيلة إلى قبيلة مسافرًا، ولو كان كل قبيلة حولهم حيطانهم ومزارعهم فإن اسم المدينة كان يتناول هذا كله‏.‏
ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏، فجعل الناس قسمين‏:‏ أهل بادية‏:‏هم الأعراب، وأهل المدينة، فكان الساكنون كلهم في المَدَرِ أهل المدينة، وهذا يتناول قباء وغيرها، ويدل على أن اسم المدينة كان يتناول ذلك كله، فإنه لم يكن لها سور كما هي اليوم‏.‏ والأبواب تفتح وتغلق، وإنما كان لها أَنْقَاب، وتلك الأنقاب وإن كانت داخل قباء وغيرها، لكن لفظ المدينة قد يعم حاضر البلد، وهذا معروف في جميع المدائن‏.‏ يقول القائل‏:‏ ذهبت إلى دمشق أو مصر أو بغداد، أو غير ذلك، وسكنت فيها، وأقمت فيها مدة، ونحو ذلك، وهو إنما كان ساكنًا خارج السور‏.‏ فاسم المدينة يعم تلك المساكن كلها، وإن كان الداخل

 

ص -245-

المُسَوَّر أخص بالاسم من الخارج‏.‏
وكذلك مدينة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان لها داخل وخارج، تفصل بينهما الأنقاب، واسم المدينة يتناول ذلك كله في كتاب اللّه  تعالى؛ ولهذا كان هؤلاء كلهم يصلون الجمعة والعيدين خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، لم تكن تقام جمعة ولا عيدان لا بقباء ولا غيرها، كما كانوا يصلون الصلوات الخمس في كل قبيلة من القبائل‏.‏
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏إن بالمدينة لرجالا‏"‏ هو يعم جميع المساكن‏.‏
وكذلك لفظ القرى الشامل للمدائن، كقوله‏:‏ ‏
{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100‏]‏، فإن هذا يتناول المساكن الداخلية والخارجية وإن فصل بينها سور، ونحوه؛ فإن البعث والإهلاك، وغير ذلك لم يخص بعضهم دون بعض، وعامة المدائن لها داخل وخارج‏.‏

 

ص -246-

ولفظ الكعبة هو في الأصل اسم لنفس البنْيَة، ثم في القرآن قد استعمل فيما حولها، كقوله‏:‏ ‏{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وكذلك لفظ المسجد الحرام، يعبر به عن المسجد، وعما حوله من الحرم‏.‏ وكذلك لفظ بَدْر، هو اسم للبئر، ويسمى به ما حولها‏.‏ وكذلك أحد، اسم للجبل، ويتناول ما حوله، فيقال‏:‏ كانت الوقعة بأحد؛ وإنما كانت تحت الجبل، وكذلك يقال لمكان العقبة ولمكان القصر، والعُقَيْبَة تصغير العقبة، والقُصَيْر تصغير قصر، ويكون قد كان هناك قصر صغير أو عقبة صغيرة، ثم صار الاسم شاملًا لما حول ذلك مع كِبَرِه، فهذا كثير غالب في أسماء البقاع‏.‏
والمقصود أن المتردد في المساكن لا يسمى مسافرًا، وإذا كان الناس يعتادون المبيت في بساتينهم  ولهم فيها مساكن  كان خروجهم إليها كخروجهم إلى بعض نواحي مساكنهم، فلا يكون المسافر مسافرًا، حتى يسفر فيكشف ويظهر للبرية الخارجة عن المساكن التي لا يسير السائر فيها، بل يظهر فيها وينكشف في العادة‏.‏ والمقصود أن السفر يرجع فيه إلى مسماه لغة وعرفًا‏.‏

 

ص -247-

فصل
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏ليس فيما دون خمسة أَوْسُق صدقة، وليس فيما‏"‏ دون خمس أَوَاق صدقة؛ وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لا شيء في الرِّقَةِ حتى تبلغ مائتي درهم‏"‏، وقال في السارق‏:‏ ‏"‏يقطع إذا سرق ما يبلغ ثمن المجَنّ‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏تقطع اليد في ربع دينار‏"‏، والأوقية في لغته أربعون درهمًا، ولم يذكر للدرهم ولا للدينار حدًا، ولا ضرب هو درهمًا، ولا كانت الدراهم تُضْرَب في أرضه، بل تجلب مضروبة من ضرب الكفار، وفيها كبار وصغار، وكانوا يتعاملون بها تارة عددًا، وتارة وزنًا، كما قال‏:‏ ‏"‏زِنْ وأرجح، فإن خير الناس أحسنهم قضاء‏"‏، وكان هناك وَزَّان يزن بالأجر، ومعلوم أنهم إذا وزنوها فلابد لهم من صَنْجَةٍ يعرفون بها مقدار الدراهم، لكن هذا لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدره، وقد ذكروا أن الدراهم كانت ثلاثة أصناف‏:‏ ثمانية دَوَانِقٍ، وستة، وأربعة، فلعل البائع قد يسمي أحد تلك الأصناف فيعطيه المشتري من وزنها، ثم هو مع هذا أطلق لفظ الدينار والدرهم ولم يحده، فدل على أنه يتناول هذا كله، وأن مَنْ ملك مِنَ

 

ص -248-

الدراهم الصغار خمس أواق  مائتي درهم  فعليه الزكاة، وكذلك من الوسطى وكذلك من الكبرى‏.‏
وعلى هذا، فالناس في مقادير الدراهم والدنانير على عاداتهم، فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهمًا فهو درهم، وما جعلوه دينارًا فهو دينار، وخطاب الشارع يتناول ما اعتادوه سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، فإذا كانت الدراهم المعتادة بينهم كبارًا لا يعرفون غيرها لم تجب عليه الزكاة حتى يملك منها مائتي درهم، وإن كانت صغارًا لا يعرفون غيرها وجبت عليه إذا ملك منها مائتي درهم، وإن كانت مختلطة فملك من المجموع ذلك وجبت عليه، وسواء كانت بِضَرْب واحد، أو ضروب مختلفة، وسواء كانت خالصة أو مغشوشة، ما دام يسمى درهما مطلقًا‏.‏ وهذا قول غير واحد من أهل العلم‏.‏
فأما إذا لم يسم إلا مقيدًا مثل‏:‏ أن يكون أكثره نحاسًا، فيقال له‏:‏ درهم أسود، لا يدخل في مطلق الدرهم، فهذا فيه نظر‏.‏ وعلى هذا، فالصحيح قول من أوجب الزكاة في مائتي درهم مغشوشة، كما هو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وإذا سرق السارق ثلاثة دراهم من الكبار أو الصغار أو المختلطة قطعت يده‏.‏
وأما الوَسَق فكان معروفًا عندهم أنه ستون صَاعًا، والصاع

 

ص -249-

معروف عندهم‏.‏ وهو صاع واحد غير مختلف المقدار، وهم صنعوه، لم يُجْلَب إليهم‏.‏ فلما علق الشارع الوجود بمقدار خمسة أوسق كان هذا تعليقًا بمقدار محدود يتساوى فيه الناس، بخلاف الأواقي الخمسة فإنه لم يكن مقدارًا محدودًا يتساوي فيه الناس، بل حده في عادة بعضهم أكثر من حده في عادة بعضهم، كلفظ المسجد، والبيت، والدار، والمدينة، والقرية، هو مما تختلف فيه عادات الناس في كِبَرِها وصغرها، ولفظ الشارع يتناولها كلها‏.‏
ولو قال قائل‏:‏ إن الصَّاع والمُدَّ يرجع فيه إلى عادات الناس، واحتج بأن صاع عُمَرَ كان أكبر، وبه كان يأخذ الخَرَاج، وهو ثمانية أرطال كما يقوله أهل العراق؛ لكان هذا يمكن فيما يكون لأهل البلد فيه مِكْيَالان‏:‏ كبير وصغير‏.‏ وتكون صدقة الفطر مقدرة بالكبير، والوسق ستون مكيالًا من الكبير؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر نِصَاب الموسَقَات، ومقدار صدقة الفطر بصاع، ولم يقدر بالمد شيئًا من النُّصُب والواجبات، لكن لم أعلم بهذا قائلًا، ولا يمكن أن يقال إلا ما قاله السلف قبلنا؛ لأنهم علموا مراد الرسول قطعًا، فإن كان من الصحابة أو التابعين من جعل الصاع غير مقدر بالشرع صارت مسألة اجتهاد‏.‏
وأما الدرهم والدينار فقد عرفت تنازع الناس فيه، واضطراب

 

ص -250-

أكثرهم، حيث لم يعتمدوا على دليل شرعي، بل جعلوا مقدار ما أراده الرسول هو مقدار الدراهم التي ضربها عبدالملك؛ لكونه جمَع الدراهم الكبار والصغار والمتوسطة وجعل معدلها ستة دَوَانِيق، فيقال لهم‏:‏ هَبْ أن الأمر كذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خاطب أصحابه وأمته بلفظ الدرهم والدينار  وعندهم أوزان مختلفة المقادير كما ذكرتم  لم يحد لهم الدرهم بالقدر الوسط، كما فعل عبد الملك، بل أطلق لفظ الدرهم والدينار، كما أطلق لفظ القميص والسَّرَاوِيل، والإزار والرداء، والدار والقرية، والمدينة والبيت، وغير ذلك من مصنوعات الآدميين، فلو كان للمسمى عنده حد لحده مع علمه باختلاف المقادير، فاصطلاح الناس على مقدار درهم ودينار أمر عادى‏.‏
ولفظ الذراع أقرب إلى الأمور الخِلْقية منه؛ فإن الذراع هو في الأصل ذراع الإنسان، والإنسان مخلوق، فلا يفضل ذراع على ذراع إلا بقدر مخلوق لا اختيار فيه للناس، بخلاف ما يفعله الناس باختيارهم من درهم ومدينة ودار؛ فإن هذا لا حد له، بل الثياب تتبع مقاديرهم والدور والمدن بحسب حاجتهم، وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طَبْعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل

 

ص -251-

بها؛ ولهذا كانت أثمانًا؛ بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها؛ فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت‏.‏
وأيضًا، فالتقدير إنما كان لخمسة أوسق وهي خمسة أَحْمَال، فلو لم يعتبر في ذلك حدًا مستويًا لوجب أن تعتبر خمسة أحمال من حمال كل قوم‏.‏
وأيضًا، فسائر الناس لا يسمون كلهم صاعًا، فلا يتناوله لفظ الشارع كما يتناول الدرهم والدينار، اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن الصاع اسم لكل ما يكال به، بدليل قوله‏:‏
‏{صُوَاعَ الْمَلِكِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 72‏]‏ فيكون كلفظ الدرهم‏.‏
فَصْل
وكذلك لفظ الإطعام لعشرة مساكين لم يقدره الشرع، بل كما قال اللّه‏:‏
‏{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وكل بلد يطعمون من أوسط ما يأكلون كفاية غيره، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -252-

وكذلك لفظ ‏[‏الجِزْيَة‏]‏ و ‏[‏الدِّيَة‏]‏ فإنها فِعْلَة من جَزَى يَجْزِى إذا قضى وأدى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك‏"‏، وهي في الأصل جَزَا جِزْيَة كما يقال‏:‏ وَعَدَ عِدَةً ووزن زِنَةً‏.‏ وكذلك لفظ ‏[‏الدية‏]‏ هو من وَدَىَ يَدي دِيَةً، كما يقال‏:‏ وعد يَعِدُ عِدَةً، والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرًا، فيسمى المودِى دِيَة والمجزي المقضي جزية، كما يسمى الموعود وعدًا في قوله‏:‏ ‏{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25 - 27‏]‏‏.‏ وإنما رأوا ما وعدوه من العذاب، وكما يسمى مثل ذلك الإتاوة؛ لأنه تؤتى، أي‏:‏ تعطى‏.‏ وكذلك لفظ الضَّرِيبة لما يضرب على الناس‏.‏ فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد في اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس، فإن كان الشرع قد حد لبعض حدًا كان اتباعه واجبًا‏.‏
ولهذا اختلف الفقهاء في الجزية‏:‏ هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة‏؟‏
وكذلك الخَرَاج، والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع‏.‏ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ أن يأخذ من كل حَاِلمٍ دينارًا، أو عدله مَعَافِريا ‏[‏والمَعافِرىّ‏:‏ هي برود يمنية منسوبة إلى قبيلة مَعافِر ببلاد اليمن‏]‏‏.‏ قضية في عين، لم يجعل ذلك شرعًا عاما لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة، بدليل أنه صَالَحَ لأهل البحرين على

 

ص -253-

حالم ولم يقدره هذا التقدير، وكان ذلك جزية، وكذلك صَالَحَ أهل نجران على أموال غير ذلك ولا مقدرة بذلك، فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة وما يرضى به المعاهدون، فيصير ذلك عليهم حقا يجزونه، أي‏:‏ يقصدونه ويؤدونه‏.‏
وأما الدية، ففي العَمْد يرجع فيها إلى رِضَا الخصمين، وأما في الخطأ فوجبت عَيْنًا بالشرع، فلا يمكن الرجوع فيها إلى تراضيهم، بل قد يقال‏:‏ هي مقدرة بالشرع تقديرًا عامًا للأمة، كتقدير الصلاة والزكاة، وقد تختلف باختلاف أقوال الناس في جنسها وقدرها، وهذا أقرب القولين وعليه تدل الآثار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعلها مائة لأقوام كانت أموالهم الإبل؛ ولهذا جعلها على أهل الذهب ذهبًا، وعلى أهل الفضة فضة، وعلى أهل الشاء شاءً، وعلى أهل الثياب ثيابًا، وبذلك مضت سيرة عمر بن الخطاب، وغيره‏.‏
فَصْل
وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5، 6‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك‏"‏، وقد دل القرآن على أن ما حَرُمَ وطؤه بالنكاح

 

ص -254-

حرم بملك اليمين، فلا يحل التَّسَرِّى بذوات محارمه ولا وَطْءِ السَّرِيَّة في الإحرام والصيام والحيض، وغير ذلك مما يحرم وطء الزوجة فيه بطريق الأولى‏.‏
وأما الاسْتِبْرَاء فلم تأتِ به السنة مطلقًا في كل مملوكة، بل قد نَهي صلى الله عليه وسلم أن يسقى الرجل ماءَه زَرْعَ غيره‏.‏ وقال في سبايا أَوْطَاس ‏[‏أوطاس‏:‏ واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين‏]‏‏:‏
‏"‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏"‏، وهذا كان في رقيق سبىٍ، ولم يقل مثل ذلك فيما ملك بإرْثٍ أو شراء أو غيره‏.‏ فالواجب أنه إن كانت توطأ المملوكة لا يحل وطؤها حتى تستبرأ؛ لئلا يسقى الرجل ماءه زرع غيره‏.‏ وأما إذا علم أنها لم يكن سيدها يطؤها؛ إما لكونها بكرًا، أو لكون السيد امرأة أو صغيرًا، أو قال وهو صادق‏:‏ إنى لم أكن أطأها، لم يكن لتحريم هذه حتى تستبرأ وجه، لا من نص ولا من قياس‏.‏
فصل
النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العَاقِلة ‏[‏العاقلة‏:‏ هي العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة‏:‏ عاقلة، وأصلها اسم، فاعلة من العقل، وهي من الصفات الغالبة‏]‏، وهم‏:‏ الذين ينصرون الرجل ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عَصَبته‏.‏ فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان؛ ولهذا اختلف فيها الفقهاء،

 

ص -255-

فيقال‏:‏ أصل ذلك أن العاقلة هم محدودون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين‏.‏ فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب؛ فإنهم العاقلة على عهده‏.‏ومن قال بالثانى جعل العاقلة في كل زمان ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان‏.‏ فلما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينصره ويعينه أقاربه كانوا هم العاقلة؛ إذ لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ديوان ولا عطاء، فلما وضع عمر الديوان كان معلومًا أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضًا، ويعين بعضه بعضًا، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة، وهذا أصح القولين‏.‏ وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته مَنْ بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنهم‏؟‏ والميراث يمكن حفظه للغائب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة القاتلة أن عَقْلَها على عصبتها؛ وأن ميراثها لزوجها وبنيها، فالوارث غير العاقلة‏.‏
وكذلك تأجيلها ثلاث سنين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤجلها، بل قضى بها حَالَّةً، وعمر أجلها ثلاث سنين‏.‏ فكثير من الفقهاء يقولون‏:‏ لا تكون إلا مؤجلة، كما قضى به عمر، ويجعل ذلك بعضهم إجماعًا، وبعضهم قال‏:‏ لا تكون إلا حالة‏.‏ والصحيح أن تعجيلها وتأجيلها بحسب الحال والمصلحة، فإن كانوا مَيَاسِير ولا ضرر عليهم في التعجيل أخذت

 

ص -256-

حالة، وإن كان في ذلك مشقة جعلت مؤجلة‏.‏ وهذا هو المنصوص عن أحمد‏:‏ أن التأجيل ليس بواجب، كما ذكر كثير من أصحابه أنه واجب، موافقة لمن ذكر ذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك، وغيرهم؛ فإن هذا القول في غاية الضعف، وهو يشبه قول من يجعل الأمة يجوز لها نسخ شريعة نبيها، كما يقوله بعض الناس من أن الإجماع ينسخ، وهذا من أنكر الأقوال عند أحمد‏.‏ فلا تترك سنة ثابتة إلا بسنة ثابتة، ويمتنع انعقاد الإجماع على خلاف سنة إلا ومع الإجماع سنة معلومة نعلم أنها ناسخة للأولى‏.‏
فصل
وقد قال اللّه  تعالى  في آية الخمس‏:‏ ‏
{فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏؛ ومثل ذلك في آية الفيء‏.‏ وقال في آية الصدقات‏:‏ ‏{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏، فأطلق اللّه ذكر الأصناف، وليس في اللفظ ما يدل على التسوية، بل على خلافها، فمن أوجب باللفظ التسوية فقد قال ما يخالف الكتاب والسنة، ألا ترى أن اللّه لما قال‏:‏ ‏{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقال تعالى‏:‏ آتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 26‏]‏،

 

ص -257-

وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 24، 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏، وأمثال ذلك، لم تكن التسوية في شيء من هذه المواضع واجبة، بل ولا مستحبة في أكثر هذه المواضع‏.‏ سواء كان الإعطاء واجبًا أو مستحبًا، بل بحسب المصلحة‏.‏
ونحن إذا قلنا في الهَدْي والأُضْحية‏:‏ يستحب أن يأكل ثلثًا ويتصدق بثلث، فإنما ذلك إذا لم يكن هناك سبب يوجب التفضيل، وإلا فلو قدر كثرة الفقراء لاستحببنا الصدقة بأكثر من الثلث، وكذلك إذا قدر كثرة من يهدى إليه على الفقراء، وكذلك الأكل، فحيث كان الأخذ بالحاجة أو المنفعة كان الاعتبار بالحاجة والمنفعة بحسب ما يقع، بخلاف المواريث فإنها قسمت بالأنساب التي لا يختلف فيها أهلها، فإن اسم الابن يتناول الكبير والصغير والقوى والضعيف، ولم يكن الأخذ لا لحاجته ولا لمنفعته، بل لمجرد نَسَبه؛ فلهذا سوى فيها بين الجنس الواحد‏.‏
وأما هذه المواضع، فالأخذ فيها بالحاجة والمنفعة، فلا يجوز أن تكون التسوية بين الأصناف لا واجبة ولا مستحبة، بل العطاء بحسب الحاجة والمنفعة، كما كان أصل الاستحقاق معلقًا بذلك، والواو تقتضى

 

ص -258-

التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم المذكور، والمذكور أنه لا يستحق الصدقة إلا هؤلاء، فيشتركون في أنها حلال لهم، وليس إذا اشتركوا في الحكم المذكور  وهو مطلق الْحِل  يشتركون في التسوية، فإن اللفظ لا يدل على هذا بحال‏.‏
ومثله يقال في كلام الوَاقِفِ والموصِي، وكان بعض الواقفين قد وقف على المدرس والمعيد والقَيِّم والفقهاء والمتفقهة، وجرى الكلام في ذلك فقلنا‏:‏ يعطى بحسب المصلحة، فطلب المدرس الخمس بناء على هذا الظن؛ فقيل له‏:‏ فأعطى القيم أيضًا الخمس؛ لأنه نظير المدرس، فظهر بطلان حجته‏.‏
آخره والحمد للّه رب العالمين‏.‏

 

ص -259-

وقال شيخ الإسلام  رَحِمهُ اللّه‏:‏
فَصْل

قد ذم اللّه  تعالى  في القرآن من عَدَل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه اللّه ورسوله، وهو‏:‏ أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان؛ في سره وعلانيته، وفي جميع أحواله‏.‏
وهذا من الإيمان، قال اللّه تعالى‏:‏‏
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال‏:‏ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏ وقال‏:‏ ‏{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏63‏]‏،

 

ص -260-

وقال‏:‏‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وقد أوجب اللّه طاعة الرسول على جميع الناس في قريب من أربعين موضعًا من القرآن، وطاعته طاعة اللّه، وهي‏:‏ عبادة اللّه وحده لا شريك له، وذلك هو دين اللّه وهو الإسلام، وكل من أمر اللّه بطاعته من عالم وأمير ووالد وزوج؛ فلأن طاعته طاعة للّه‏.‏ وإلا فإذا أمر بخلاف طاعة اللّه فإنه لا طاعة له، وقد يأمر الوالد والزوج بمباح فيطاع، وكذلك الأمير إذا أمر عالمًا يعلم أنه معصية للّه، والعالم إذا أفتى المستفتى بما لم يعلم المستفتى أنه مخالف لأمر اللّه، فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصيًا، وأما إذا علم أنه مخالف لأمر اللّه فطاعته في ذلك معصية للّه؛ ولهذا نقل غير واحد الإجماع على أنه لا يجوز للعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد واستدل وتبين له الحق الذي جاء به الرسول، فهنا لا يجوز له تقليد من قال خلاف ذلك بلا نزاع، ولكن هل يجوز مع قدرته على الاستدلال أنه يقلد‏؟‏ هذا فيه قولان‏:‏
فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لا يجوز‏.‏ وحكى عن محمد بن الحسن جوازه‏.‏ والمسألة معروفة‏.‏ وحكى بعض الناس ذلك عن أحمد،

 

ص -261-

ولم يعرف هذا الناقل قول أحمد، كما هو مذكور في غير هذا الموضع‏.‏
وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور، وفي صفة من يجوز له التقليد تفصيل ونزاع ليس هذا موضعه‏.‏
والمقصود هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع‏:‏ أن يعارض قول اللّه ورسوله بما يخالف ذلك كائنًا من كان المخالف لذلك‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27  30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66  68‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166 - 171‏]‏، فذكر براءة المتبوعين من أتباعهم في خلاف طاعة اللّه، ذكر هذا بعد قوله‏:‏ ‏{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏، فالإله الواحد هو المعبود والمطاع، فمن أطاع

 

ص -262-

متبوعًا في خلاف ذلك فله نصيب من هذا الذم، قال تعالى‏:‏ ‏{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏
ثم خاطب الناس بِأَكْل مافي الأرض حلالًا طيبًا، وألا يتبعوا خطوات الشيطان في خلاف ذلك، فإنه إنما يأمر بالسوء والفحشاء، وأن يقولوا على اللّه ما لا يعلمون، فيقولوا‏:‏ هذا حرام وهذا حلال، أو غير ذلك مما يقولونه على اللّه في الأمور الخبرية والعملية بلا علم، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 116‏]‏‏.‏
ثم إن هؤلاء الذين يقولون على اللّه بغير علم إذا قيل لهم‏:‏
‏{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 170‏]‏، فليس عندهم علم، بل عندهم اتباع سلفهم، وهو الذي اعتادوه وتربوا عليه‏.‏
ثم خاطب المؤمنين خصوصًا فقال‏:‏
‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172، 173‏]‏، فأمرهم بأكل الطيبات مما رزقهم؛ لأنهم هم المقصودون بالرزق، ولم يشترط الحل هنا

 

ص -263-

لأنه إنما حرم ما ذكر، فما سواه حلال لهم، والناس إنما أمرهم بأكل ما في الأرض حلالًا طيبًا وهو إنما أحل للمؤمنين، والكفار لم يحل لهم شيئًا، فالحل مشروط بالإيمان، ومن لم يستعن برزقه على عبادته لم يحل له شيئًا، وإن كان  أيضا  لم يحرمه، فلا يقال‏:‏ إن اللّه أحله لهم ولا حرمه، وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره في سورة الأنعام‏.‏
ولهذا أنكر في سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه، كقوله‏:‏
‏{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ الآيات ‏[‏الأنعام‏:‏ 151 - 153‏]‏‏.‏ وقال في سورة النحل‏:‏ ‏{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏، وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال‏:‏ ‏{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، وقال‏:‏ ‏{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏‏.‏
وهذا كله يدل على أصح قولى العلماء، وهو‏:‏ أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته؛ لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم، وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ، فكانوا أحق بالعقوبة‏.‏
وأيضًا، فإن اللّه  تعالى  أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا، فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه‏.‏

 

ص -264-

وأيضًا، فإن التحريم لا يزول إلا بتحليل منه، وهو إنما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله‏:‏ ‏{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏93‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏4، 5‏]‏ وهذا خطاب للمؤمنين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ‏}‏، فلو كان ما أحل لنا حِلًا لهم لم يحتج إلى هذا، وقوله‏:‏ ‏{وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ‏}‏ لا يدخل فيه ما حرم عليهم، كما أن قوله‏:‏ ‏{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏ لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم؛ كصيد الحرم وما أهل به لغير اللّه‏.‏
وهل يدخل في طعامهم الذي أحل لنا ما حرم عليهم ولم يحرم علينا، مثل ما إذا ذكوا الإبل‏؟‏ هذا فيه نزاع معروف، فالمشهور من مذهب مالك  وهو أحد القولين في مذهب أحمد  تحريمه‏.‏ ومذهب أبي حنيفة والشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد‏:‏ حله‏.‏
وهل العلة أنهم لم يقصدوا ذكاته، أو العلة أنه ليس من طعامهم‏؟‏ فيه نزاع‏.‏

 

ص -265-

وإذا ذبحوا للمسلم، فهل هو كما إذا ذبحوا لأنفسهم‏؟‏ فيه نزاع‏.‏
وفي جواز ذبحهم النسك إذا كانوا ممن يحل ذبحهم قولان، هما روايتان عن أحمد، فالمنع مذهب مالك، والجواز مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإذا كان الذابح يهوديًا صار في الذبح علتان، وليس هذا موضع هذه المسائل‏.‏
ثم إنه  سبحانه  لما ذكر حال من يقول على اللّه بلا علم، بل تقليدًا لسلفه ذكر حال من يكتم ما أنزل اللّه من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، فقال‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174‏]‏، فهذا حال من كتم علم الرسول، وذاك حال من عدل عنها إلى خلافها، والعادل عنها إلى خلافها يدخل فيه من قَلَّد أحدًا من الأولين والآخرين فيما يعلم أنه خلاف قول الرسول، سواء كان صاحبا أو تابعًا أو أحد الفقهاء المشهورين الأربعة، أو غيرهم‏.‏
وأما من ظن أن الذين قلدهم موافقون للرسول فيما قالوه، فإن كان قد سلك في ذلك طريقًا علميًا فهو مجتهد له حكم أمثاله، وإن كان متكلمًا بلا علم فهو من المذمومين‏.‏

 

ص -266-

ومن ادعى إجماعًا يخالف نص الرسول من غير نص يكون موافقًا لما يدعيه، واعتقد جواز مخالفة أهل الإجماع للرسول برأيهم، وأن الإجماع ينسخ النص كما تقوله طائفة من أهل الكلام والرأي، فهذا من جنس هؤلاء‏.‏
وأما إن كان يعتقد أن الإجماع يدل على نص لم يبلغنا يكون ناسخًا للأول‏.‏ فهذا وإن كان لم يقل قولًا سديدًا، فهو مجتهد في ذلك، يبين له فساد ما قاله، كمن عارض حديثًا صحيحًا بحديث ضعيف اعتقد صحته، فإن قوله، وإن لم يكن حقًا، لكن يبين له ضعفه، وذلك بأن يبين له عدم الإجماع المخالف للنص، أو يبين له أنه لم تجتمع الأمة على مخالفة نص إلا ومعها نص معلوم يعلمون أنه الناسخ للأول، فدعوى تعارض النص والإجماع باطلة، ويبين له أن مثل هذا لا يجوز؛ فإن النصوص معلومة محفوظة، والأمة مأمورة بتتبعها واتباعها، وأما ثبوت الإجماع على خلافها بغير نص، فهذا لا يمكن العلم بأن كل واحد من علماء المسلمين خالف ذلك النص‏.‏
والإجماع نوعان‏:‏
قطعى‏:‏ فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعى على خلاف النص‏.‏
وأما الظنى‏:‏ فهو الإجماع الإقرارى والاستقرائى؛ بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافًا، أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدًا أنكره، فهذا الإجماع  وإن جاز الاحتجاج به

 

ص -267-

فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به؛ لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها، فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعى‏.‏ وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية، والظنى لا يدفع به النص المعلوم، لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن، ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا، والمصيب في نفس الأمر واحد‏.‏
وإن كان قد نقل له في المسألة فروع ولم يتعين صحته، فهذا يوجب له ألا يظن الإجماع إن لم يظن بطلان ذلك النقل، وإلا فمتى جوز أن يكون ناقل النزاع صادقًا، وجوز أن يكون كاذبًا يبقى شاكا في ثبوت الإجماع، ومع الشك لا يكون معه علم ولا ظن بالإجماع، ولا تدفع الأدلة الشرعية بهذا المشتبه، مع أن هذا لا يكون، فلا يكون  قط  إجماع يجب اتباعه مع معارضته لنص آخر لا مخالف له، ولا يكون  قط  نص يجب اتباعه وليس في الأمة قائل به، بل قد يخفي القائل به على كثير من الناس‏.‏ قال الترمذى‏:‏ كل حديث في كتأبي قد عمل به بعض أهل العلم إلا حديثين‏:‏ حديث الجمع، وقتل الشارب‏.‏ ومع هذا فكلا الحديثين قد عمل به طائفة، وحديث الجمع قد عمل به أحمد وغيره‏.‏

 

ص -268-

ولكن من ثبت عنده نص ولم يعلم قائلًا به،وهو لا يدرى أجمع على نقيضه، أم لا‏؟‏ فهو بمنزلة من رأي دليلًا عارضه آخر وهو بعد لم يعلم رجحان أحدهما، فهذا يقف إلى أن يتبين له رجحان هذا أو هذا، فلا يقول قولًا بلا علم، ولا يتبع نصا مع‏.‏‏.‏‏.‏ ظن نسخه وعدم نسخه عنده سواء، لما عارضه عنده من نص آخر أو ظن إجماع، ولا عامًا ظن تخصيصه وعدم تخصيصه عنده سواء، فلابد أن يكون الدليل سالمًا عن المعارض المقاوم فيغلب على ظنه نفي المعارض المقاوم وإلا وقف‏.‏
وأيضًا، فمن ظن أن مثل هذا الإجماع يحتج به في خلاف النص إن لم يترجح عنده ثبوت الإجماع، أو يكون معه نص آخر ينسخ الأول وما يظنه من الإجماع معه‏.‏ وأكثر مسائل أهل المدينة التي يحتجون فيها بالعمل يكون معهم فيها نص، فالنص الذي معه العمل مقدم على الآخر، وهذا هو الصحيح في مذهب أحمد وغيره، كتقديم حديث عثمان‏:‏ ‏[‏لا ينكح المحرم‏]‏ على حديث ابن عباس، وأمثال ذلك‏.‏
وأما رد النص بمجرد العمل فهذا باطل عند جماهير العلماء، وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع‏:‏ هل يكفر‏؟‏ على قولين‏.‏

 

ص -269-

والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به‏.‏ وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره‏.‏
وحينئذ فالإجماع مع النص دليلان كالكتاب والسنة‏.‏
وتنازعوا في الإجماع‏:‏ هل هو حجة قطعية أو ظنية‏؟‏ والتحقيق أن قطعيه قطعى وظنيه ظنى‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وقد ذكر نظير هذه الآية في سورة المائدة، وذكر في سورة الزخرف قوله‏:‏
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 24‏]‏، وهذا يتناول من بين له أن القول الآخر هو أهدى من القول الذي نشأ عليه، فعليه أن يتبعه، كما قال‏:‏ ‏{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏، وقال‏:‏ ‏{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏، والواجب في الاعتقاد أن يتبع أحسن القولين، ليس لأحد أن يعتقد قولًا، وهو يعتقد أن القول المخالف له أحسن منه، وما خير فيه بين فعلين وأحدهما أفضل فهو أفضل، وإن جاز له فعل المفضول فعليه أن يعتقد أن ذلك أفضل، ويكون ذاك أحب إليه من هذا، وهذا اتباع للأحسن‏.‏

 

ص -270-

وإذا نقل عالم الإجماع ونقل آخر النزاع؛إما نقلا سمى قائله،وإما نقلًا بخلاف مطلقًا ولم يسم قائله، فليس لقائل أن يقول‏:‏ نقلًا لخلاف لم يثبت، فإنه مُقَابَل بأن يقال‏:‏ ولا يثبت نقل الإجماع، بل ناقل الإجماع نافٍ للخلاف وهذا مثبت له، والمثبت مقدم على النافي‏.‏
وإذا قيل‏:‏ يجوز في ناقل النزاع أن يكون قد غلط فيما أثبته من الخلاف؛ إما لضعف الإسناد، أو لعدم الدلالة، قيل له‏:‏ ونافي النزاع غلطه أَجْوَز؛ فإنه قد يكون في المسألة أقوال لم تبلغه، أو بلغته وظن ضعف إسنادها، وكانت صحيحة عند غيره، أو ظن عدم الدلالة وكانت دالة، فكل ما يجوز على المثبت من الغلط يجوز على النافي مع زيادة عدم العلم بالخلاف‏.‏
وهذا يشترك فيه عامة الخلاف، فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم لا سيما في أقوال علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يحصيها إلا رب العالمين؛ ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء‏:‏ من ادعى الإجماع فقد كذب‏.‏ هذه دعوى المرِيسِى والأَصَم، ولكن يقول‏:‏ لا أعلم نزاعًا‏.‏ والذين كانوا يذكرون الإجماع كالشافعي وأبي ثور وغيرهما يفسرون مرادهم بأنا لا نعلم نزاعًا، ويقولون‏:‏ هذا هو الإجماع الذي ندعيه‏.‏
فتبين أن مثل هذا الإجماع الذي قوبل بنقل نزاع، ولم يثبت واحد

 

ص -271-

منهما لا يجوز أن يحتج به،ومن لم يترجح عنده نقل مثبت النزاع على نافيه، ولا نافيه على مثبته فليس له  أيضًا  أن يقدمه على النص ولا يقدم النص عليه،بل يقف لعدم رجحان أحدهما عنده، فإن ترجح عنده المثبت غلب على ظنه أن النص لم يعارضه إجماع يعمل به، وينظر في ذلك إلى مثبت الإجماع والنزاع، فمن عرف منه كثرة ما يدعيه من الإجماع والأمر بخلافه ليس بمنزلة من لم يعلم منه إثبات إجماع علم انتفاؤه، وكذلك من علم منه في نقل النزاع أنه لا يغلط إلا نادرًا ليس بمنزلة من علم منه كثرة الغلط‏.‏
وإذا تَظَافَرَ على نقل النزاع اثنان لم يأخذ أحدهما عن صاحبه فهذا يثبت به النزاع، بخلاف دعوى الإجماع، فإنه لو تظافر عليه عدد لم يستفد بذلك إلا عدم علمهم بالنزاع، وهذا لمن أثبت النزاع في جمع الثلاث ومن نفي النزاع، مع أن عامة من أثبت النزاع يذكر نقلًا صحيحًا لا يمكن دفعه وليس مع النافي ما يبطله‏.‏
وكثير من الفقهاء المتأخرين أو أكثرهم يقولون‏:‏ إنهم عاجزون عن تَلَقِّى جميع الأحكام الشرعية من جهة الرسول، فيجعلون نصوص أئمتهم بمنزلة نص الرسول ويقلدونهم‏.‏ ولا ريب أن كثيرًا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء في الأمور العارضة التي لا يستقل هو بمعرفتها، ومن سالكى طريق الإرادة والعبادة والفقر والتصوف من يجعل شيخه

 

ص -272-

كذلك، بل قد يجعله كالمعصوم؛ ولا يتلقى سلوكه إلا عنه، ولا يتلقى عن الرسول سلوكه، مع أن تلقى السلوك عن الرسول أسهل من تلقى الفروع المتنازع فيها؛ فإن السلوك هو بالطريق التي أمر اللّه بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق، وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لابد للمؤمن منه‏.‏
ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة، ولم يحصل بين الصحابة نزاع في ذلك، كما تنازعوا في بعض مسائل الفقه التي خفيت معرفتها على أكثر الصحابة، وكانوا يتكلمون في الفتيا والأحكام؛ طائفة منهم يستفتون في ذلك‏.‏
وأما ما يفعله من يريد التقرب إلى اللّه من واجب ومستحب فكلهم يأخذه عن الكتاب والسنة؛ فإن القرآن والحديث مملوء من هذا، وإن تكلم أحدهم في ذلك بكلام لم يسنده هو يكون هو أو معناه مسندًا عن اللّه ورسوله، وقد ينطق أحدهم بالكلمة من الحكمة فتجدها مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قيل في تفسير قوله‏:‏
‏{نُّورٌ عَلَى نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وَلَكِنْ كثير من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوى الذي يعرف به طريق اللّه ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ‏.‏

 

ص -273-

وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة، وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف، وهكذا طريق العبادة، عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع، فيقعون في البدع فيقع فيهم الخلاف‏.‏
وهكذا الفقه إنما وقع فيه الاختلاف لما خفي عليهم بيان صاحب الشرع، ولكن هذا إنما يقع النزاع في الدقيق منه، وأما الجليل فلا يتنازعون فيه‏.‏ والصحابة أنفسهم تنازعوا في بعض ذلك ولم يتنازعوا في العقائد، ولا في الطريق إلى اللّه التي يصير بها الرجل من أولياء اللّه الأبرار المقربين، ولهذا كان عامة المشايخ إذا احتاجوا في مسائل الشرع مثل مسائل النكاح والفرائض والطهارة وسجود السهو ونحو ذلك قلدوا الفقهاء؛ لصعوبة أخذ ذلك عليهم من النصوص‏.‏ وأما مسائل التوكل والإخلاص والزهد، ونحو ذلك فهم يجتهدون فيها، فمن كان منهم متبعًا للرسول أصاب، ومن خالفه أخطأ‏.‏
ولا ريب أن البدع كثرت في باب العبادة والإرادة أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول؛ لأن الإرادة يشترك الناس فيها أكثر مما

 

ص -274-

يشتركون في القول؛ فإن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان‏.‏وأما جنس الإرادة فهو مما يتصف به كل الحيوان، فما من حيوان إلا وله إرادة، وهؤلاء اشتركوا في إرادة التأله؛ لكن افترقوا في المعبود وفي عبادته؛ ولهذا وصف اللّه في القرآن رهبانية النصارى بأنهم ابتدعوها، وذم المشركين في القرآن على ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات، وذلك أكثر مما ابتدعوه من الاعتقادات؛ فإن الاعتقادات كانوا فيها جهالًا في الغالب فكانت بدعهم فيها أقل؛ ولهذا كلما قرب الناس من الرسول كانت بدعهم أخف فكانت في الأقوال، ولم يكن في التابعين وتابعيهم من تَعَبَّدَ بالرقص والسماع، كما كان فيهم خوارج ومعتزلة وشيعة، وكان فيهم من يكذب بالقدر ولم يكن فيهم من يحتج بالقدر‏.‏
فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف أقوال أهل البدع القولية، فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين، فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل، وهم أبعد عن متابعة الرسول‏.‏
ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعى الإلهية والحلول والاتحاد، ومن يدعى أنه أفضل من الرسول، وأنه مُسْتَغْنٍ عن الرسول، وأن

 

ص -275-

لهم إلى اللّه طريقًا غير طريق الرسول‏.‏ وهذا ليس من جنس بدع المسلمين، بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة، ونحوهم، وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين، وهؤلاء يدعون أنهم أولياء اللّه مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكَفْرُ من اليهود والنصارى، وكثير منهم  أو أكثرهم  لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول، بل عند طائفة منهم أن أهل الصفَّة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك‏.‏ وعند آخرين أن الرسول أُمِرَ أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم، وأنهم لم يأذنوا له، وقالوا‏:‏ اذهب إلى من أرسلت إليهم، وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول‏:‏ خُوَيْدِمُكم جاء ليسلم عليكم‏.‏ فجبروا قلبه، وأذنوا له بالدخول‏.‏
فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودى ولا نصرانى يقر بأنه رسول لله إلى الأميين، يقولون‏:‏ إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به، واعترف أنهم خواص لله، وأن لله يخاطبهم بدون الرسول، لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه، ويحتجون بقصة الخضر مع موسى، وهي حجة عليهم  لا لهم  من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر‏.‏
والضلال والجهل في جنس العباد والمبتدعة أكثر منه في جنس أهل الأقوال، لكن فيهم من الزهد والعبادة والأخلاق ما لا يوجد في

 

ص -276-

أولئك، وفي أولئك من الكِبْر والبخل والقسوة ما ليس فيهم، فهؤلاء فيهم شَبَهٌ من النصارى وهؤلاء فيهم شبه من اليهود، واللّه  تعالى  أمرنا أن نقول‏:‏ ‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏؛ ولهذا آل الأمر بكثير من أكابر مشايخهم إلى أنهم شهدوا توحيد الربوبية والإيمان بالقدر، وذلك شامل لجميع الكائنات، فعدوا الفناء في هذا بزوال الفرق بين الحسنات والسيئات غاية المقامات، وليس بعده إلا ما سموه توحيدًا، وهو من جنس الحلول والاتحاد الذي تقوله النصارى، ولكنهم يهابون الإفصاح عن ذلك، ويجعلونه من الأسرار المكتومة‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ إن الحلاج هذا كان مشهده، وإنما قتل لأنه باح بالسر الذي ما ينبغى البَوْحُ به‏.‏ وإذا انضم إلى ذلك أن يكون أحدهم قد أخذ عمن يتكلم في إثبات القدر من أهل الكلام، أو غيرهم، ويجعل الجميع صادرًا عن إرادة واحدة، وليس هنا حب ولا بغض ولا رضًا ولا سخط ولا فرح، ولكن المرادات متنوعة، فما كان ثوابًا سمى تعلق الإرادة به رضًا، وما كان عقابًا سمى سخطًا، فحينئذ مع هذا المشهد لا يبقى عنده تمييز، ويسمون هذا‏:‏ الجمع والاصْطِلام‏.‏
وكان الجُنَيْد  قدس اللّه روحه  لما وصل أصحابه  كالثورى

 

ص -277-

وأمثاله  إلى هذا المقام أمرهم بالفرق الثانى، وهو‏:‏ أن يفرقوا بين المأمور والمحظور، ومحبوب اللّه ومُرْضِيه، ومَسْخُوطه ومكروهه، وهو مشهد الإلهية الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وهو حقيقة قول‏:‏ لا إله إلا اللّه‏.‏ فمنهم من أنكر على الجنيد، ومنهم من توقف، ومنهم من وافق‏.‏ والصواب ما قاله الجنيد من ذكر هذه الكلمة في الفرق بين المأمور والمحظور، والكلمة الأخرى في الفرق بين الرب والعبد، وهو قوله‏:‏ التوحيد إفراد الحدوث عن القدم‏.‏ فهذا رد على الاتحادية والحُلُولية منهم، وتلك رد على من يقف عند الحقيقة الكونية منهم، وما أكثر من ابتلى بهذين منهم‏.‏
ثم من الناس من يقوم بهذا الفرق، لكن لنفسه وهواه، لا عبادة وطاعة للّه، فهذا مثل من يجاهد ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لهواه، كالمقاتل شجاعة وحَمِيَّة ورياء، وذاك بمنزلة من لا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر ولا يجاهد، هذا شبيه بالراهب، وذاك شبيه بمن لم يطلب إلا الدنيا، ذاك مبتدع وهذا فاجر‏.‏
وقد كَثُرَ في المتَزَهِّدة والمتَفَقِّرة البدع، وفي المعرضين عن ذلك طلب الدنيا،وطلاب الدنيا لا يعارضون تاركها إلا لأغراضهم، وإن كانوا مبتدعة، وأولئك لا يعارضون أبناء الدنيا إلا لأغراضهم، فتبقى المنازعات للدنيا،

 

ص -278-

لا لتكون كلمة اللّه هي العليا، ولا ليكون الدين للّه، بخلاف طريقة السلف  رضى اللّه عنهم  أجمعين، وكلاهما خارج عن الصراط المستقيم‏.‏
نسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‏.‏ آخره والحمد للّه رب العالمين‏.

 

ص -279-

وَسُئِلَ  رحمهُ اللّه  عمن يقول‏:‏ إن النصوص لا تفي بعشر مِعْشار الشريعة، هل قوله صواب‏؟‏ وهل أراد النص الذي لا يحتمل التأويل أو الألفاظ الواردة المحتملة‏؟‏ ومن نفي القياس، وأبطله من الظاهرية‏:‏ هل قوله صواب‏؟‏ وما حجته على ذلك‏؟‏ وما معنى قولهم‏:‏ النص‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه رب العالمين، هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي؛ كأبي المعالي، وغيره، وهو خطأ، بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره؛ لأنه لم يفهم معانى النصوص العامة التي هي أقوال اللّه ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أن اللّه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد‏.‏

 

ص -280-

مثال ذلك‏:‏ أن لله حرم الخمر، فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة، ثم من هؤلاء من لم يحرم إلا ذلك أو حرم معه بعض الأنبذة المُسْكرة، كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة، فإن أبا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزَّبَد، وهذا الخمر عنده، ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه لم يحرمه‏.‏ ويحرم النيئ من نبيذ التمر، فإن طبخ أدنى طبخ حل عنده‏.‏ وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرًا عنده مع أنها حرام، وما سوى ذلك من الأنبذة فإنما يحرم منه ما يسكر‏.‏
وأما محمد بن الحسن فوافق الجمهور في تحريم كل مسكر قليله وكثيره، وبه أفتى المحققون من أصحاب أبي حنيفة، وهو اختيار أبي الليث السَّمَرْقَنْدي‏.‏
ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس؛ إما في الاسم، وإما في الحكم، وهذه الطريقة التي سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء، أو القياس في الحكم‏.‏
والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر بالنص العام

 

ص -281-

والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلًا آخر يوافق النص، وثبتت  أيضًا  نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل مسكر، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏"‏، وفي الصحيحين عن عائشة  رضي الله عنها  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏كل شراب أسكر فهو حرام‏"‏، وفي الصحيحين عن أبي موسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له‏:‏ عندنا شراب من العسل يقال له‏:‏ البِتْع ‏[‏البِتْعُ  بسكون التاء‏:‏ نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن‏.‏ وقد تحرك التاء كقِمْع وقِمعٍ‏]‏ ، وشراب من الذرة يقال له‏:‏ المِزْر ‏[‏المِزْرُ  بكسر الميم وسكون الزاي وضم الراء ‏:‏ نبيذ يتخذ من الذرة، وقيل‏:‏ من الشعير أو الحنطة‏]‏ ‏؟‏ قال‏:‏ وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ إلى أحاديث أخر يطول وصفها‏.‏
وعلى هذا، فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص، وكان هذا النص متناولًا لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت؛ من الحبوب أو الثمار، أو من لبن الخيل، أو من غير ذلك‏.‏
ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال‏:‏ إنه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب، بل كان ذلك ثابتًا بالقياس، وهؤلاء غلطوا في فهم النص‏.‏ ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حُرِّمت لم يكن بالمدينة

 

ص -282-

من خمر العنب شيء؛ فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب وإنما كان عندهم النخل، فكان خمرهم من التمر، ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر، وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم، فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصًا بعصير العنب، وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول، أو كانوا عرفوا التعميم ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه المبين عن الله مراده، فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف، يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة، وتارة فيما هو أخص‏.‏
وكذلك لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنِّرْد والشطرنج، ويتناول بيوع الغَرَر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيها معني القمار الذي هو مَيْسِر؛ إذ القمار معناه‏:‏ أن يوخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه، أو لا يحصل‏؟‏ كالذي يشتري العبد الآبِق، والبعير الشارد، وحَبَلَ الحِبْلَة، ونحو ذلك مما قد يحصل له وقد لا يحصل له، وعلى هذا فلفظ الميسر في كتاب الله  تعالى  يتناول هذا كله، وما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر يتناول كل ما فيه مخاطرة، كبيع الثمار قبل بَدْوِ صلاحها وبيع الأجنة في البطون، وغير ذلك‏.‏
ومن هذا الباب‏:‏ لفظ الربا، فإنه يتناول كل ما نهى عنه من ربا

 

ص -283-

النَّسَأ وربا الفضل؛ والقرض الذي يَجُرُّ منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله، لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك، وهذا الذي يسمي‏:‏ تحقيق المناط‏.‏
وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ونحو ذلك، يعم بلفظه كل مُطَلَّقة، ويدل على أن كل طلاق فهو رَجْعي؛ ولهذا قال أكثر العلماء بذلك، وقالوا‏:‏ لا يجوز للرجل أن يطلق المرأة ثلاثًا، ويدل  أيضًا  على أن الطلاق لا يقع إلا رجعيًا، وأن ما كان بائنًا فليس من الطلقات الثلاث، فلا يكون الخلع من الطلقات الثلاث كقول ابن عباس والشافعي في قول، وأحمد في المشهور عنه، لكن بينهم نزاع، هل ذلك مشروط بأن يخلو الخلع عن لفظ الطلاق ونيته، أو بالخلو عن لفظه فقط، أو لا يشترط شيء من ذلك‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏
وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، و‏{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، هو متناول لكل يمين من أيمان المسلمين، فمن العلماء من قال‏:‏ كل يمين من أيمان المسلمين ففيها كفارة، كما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لا يتناول النص إلا الحلف باسم الله، وغير ذلك لا تنعقد ولا شيء فيها‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل

 

ص -284-

هي أيمان يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تدخل في النص، ولا ريب أن النص يدل على القول الأول، فمن قال‏:‏ إن النص لم يبين حكم جميع أيمان المسلمين كان هذا رأيًا منه، لم يكن هذا مدلول النص‏.‏
وكذلك الكلام في عامة مسائل النزاع بين المسلمين إذا طلب ما يفصل النزاع من نصوص الكتاب والسنة وجد ذلك، وتبين أن النصوص شاملة لعامة أحكام الأفعال‏.‏ وكان الإمام أحمد يقول‏:‏ إنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها، والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص، كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ويحتجون بالقياس الصحيح  أيضًا‏.‏
والقياس الصحيح نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرق غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فَأْرة وقعت في سَمْن فقال‏:‏ ‏[‏ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم‏]‏ ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصًا بتلك الفأرة وذلك السمن؛ فلهذا قال جماهير العلماء‏:‏ إنه أي نجاسة وقعت في دهن من الأَدْهَان، كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهِرِّ الذي يقع في السمن فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن‏.‏ ومن قال من

 

ص -285-

أهل الظاهر‏:‏ إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن فقد أخطأ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة لكن لما استفتي عنها أفتي فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو نوع فأجاب المفتي عن ذلك خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم‏.‏
ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبَّةٌ مُضَمَّخة بخَلُوق فقال‏:‏ ‏[‏انزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك‏]‏ ، فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه كان الحكم كذلك بالإجماع‏.‏
والنوع الثاني من القياس‏:‏ أن ينص على حكم لمعني من المعاني، ويكون ذلك المعني موجودًا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعني المشترك بين الأصل والفرع سوي بينهما، وكان هذا قياسًا صحيحًا‏.‏
فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما، وهما من باب فَهْم مراد الشارع؛ فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده، فإن علمنا أنه حكم للمعني المشترك لا لمعنى يخص

 

ص -286-

الأصل أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره‏.‏
وإذا عَيَّنَ الشارع مكانًا أو زمانًا للعبادة كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل إلىمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم، وقالوا‏:‏ المقصود أربعة أشهر من السنة فقال تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص من جنس قياس الذين قالوا‏:‏‏{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ ، وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمُذَكَّي، وقالوا‏:‏ أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله‏؟‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عليه وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏، فهذه الأقيسة الفاسدة‏.‏
وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل مَنْ الحق

 

ص -287-

منصوصًا بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد، وكل من سوي بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد، لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره‏.‏ فمن أبطل القياس مطلقًا فقوله باطل، ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل، ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته‏.‏
فالحجج الأَثَرِية والنظرية تنقسم إلى‏:‏ ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتي يقوم الدليل على أحدهما‏.‏ ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال‏:‏ النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين‏.‏ ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله‏:‏ ‏
{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، و ‏{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 17‏]‏، فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل‏.‏
والقياس الصحيح من باب العدل؛ فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسًا صحيحًا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح‏.‏

 

ص -288-

ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة‏.‏ فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم، كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر؛ لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعني، وهذا المعني موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب‏.‏ فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص، وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون‏:‏ معنا آثار توافقه اتبعناها، ويقولون‏:‏ إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر‏.‏ وغلطوا في فهم النص  وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم - ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ وَاللّهُ علىمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏‏.‏
والكلام في ترجيح نُفَاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه، لا تحتمل هذه الورقة بسطه أكثر من هذا ‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -289-

وقال‏:‏
فصل
العبادات المأمور بها؛ كالإيمان الجامع، وكشعبه مثل‏:‏ الصلاة والوضوء والاغتسال والحج والصيام والجهاد والقراءة والذكر، وغير ذلك، لها ثلاثة أحوال، وربما لم يشرع لها إلا حالان؛ لأن العبد إما أن يقتصر على الواجب فقط، وإما أن يأتي بالمستحب فيها، وإما أن ينقص عن الواجب فيها‏.‏ فالأول‏:‏ حال المقتصدين فيها وإن كان سابقًا في غيرها‏.‏ والثاني‏:‏ حال السابق فيها‏.‏ والثالث‏:‏ حال الظالم فيها‏.‏
والعبادة الكاملة تارة تكون ما أدي فيها الواجب، وتارة ما أتي فيها بالمستحب‏.‏ وبإزاء الكاملة الناقصة، قد يعني بالنقص نقص بعض واجباتها، وقد يعني به ترك بعض مستحباتها‏.‏ فأما تفسير الكامل بما كمل بالمستحبات فهو غالب استعمال الفقهاء في الطهارة والصلاة، وغير ذلك؛ فإنهم يقولون‏:‏ الوضوء ينقسم إلى‏:‏ كامل، ومجزي‏.‏ والغسل ينقسم إلى‏:‏ كامل، ومجزي‏.‏ ويرى دون بالمجزي‏:‏ الاقتصار

 

ص -290-

على الواجب، وبالكامل‏:‏ ما أتي فيه بالمستحب في العدد والقدر والصفة، وغير ذلك‏.‏
ولذلك استعملوا ما جاء في حديث ابن مسعود مرفوعًا‏:‏ ‏[‏إذا قال في ركوعه‏:‏ سبحان ربي العظيم ثلاثًا فقد تم ركوعه، وذلك أدناه‏.‏ وإذا قال في سجوده‏:‏ سبحان ربي الأعلى ثلاثًا فقد تم سجوده، وذلك أدناه‏]‏، فقالوا‏:‏ أدنى الكمال ثلاث تسبيحات، يعنون‏:‏ أدني الكمال المسنون‏.‏ وقالوا‏:‏ أقل الوتر ركعة وأدنى الكمال ثلاث، فجعلوا للكمال أدنى وأعلى، وكلاهما في الكمال المسنون لا المفروض‏.‏
ثم يختلفون في حرف النفي الداخل على المسميات الشرعية، كقوله‏:‏ ‏
"‏لا قراءة إلا بأم الكتاب‏"‏، ‏"‏ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل‏"‏، ‏"‏ولا صلاة لمن لا وضوء له‏"‏، ‏"‏ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه‏"‏، فأكثرهم يقولون‏:‏ هو لنفي الفعل، فلا يحزى مع هذا النفي‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ هو لنفي الكمال‏.‏ يرى دون نفي الكمال المسنون‏.‏
وأما تفسيره بما كمل بالواجب فهو في عرف الشارع، لكن الموجود فيه كثيرًا لفظ التمام، كقوله‏:‏
‏{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، والمراد بالإتمام الواجب‏:‏ الإتمام بالواجبات، وكذلك قوله‏:‏ ‏{ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إلى الَّليْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏،

 

ص -291-

وقوله‏:‏ ‏"‏لا تتم صلاة عبد حتي يضع الطهور مواضعه‏]‏ الحديث‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏فما انتقصت من هذا فقد انتقصت من صلاتك‏"‏، ويمكن أن يقال في إتمام الحج والصيام، ونحو ذلك‏:‏ هو أمر مطلق بالإتمام واجبه ومستحبه، فما كان واجبًا فالأمر به إيجاب، وما كان مستحبًا فالأمر به استحباب، وجاء لفظ التمام في قوله‏:‏ ‏"‏فقد تم ركوعه، وذلك أدناه‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏أقيموا صفوفكم، فإن إقامة الصف من تمام الصلاة‏"‏، وروي‏:‏ ‏"‏من إقامة الصلاة‏"‏‏.‏
والنقص بإزاء التمام والكمال كقوله‏:‏
‏"‏من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاجُ‏"‏، فالجمهور يقولون‏:‏ هو نقص الواجبات؛ لأن الخداج هو الناقص في أعضائه وأركانه‏.‏ وآخرون يقولون‏:‏ هو الناقص عن كماله المستحب؛ فإن النقص يستعمل في نقص الاستحباب كثيرًا، كما تقدم في تقسيم الفقهاء الطهارة إلى‏:‏ كامل، ومجزي ليس بكامل، وما ليس بكامل فهو ناقص‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏فقد تم ركوعه وسجوده وذلك أدناه‏"‏، ما لم يتم فهو ناقص، وإن كان مجزئًا‏.‏ ثم النقص عن الواجب نوعان‏:‏ يُبْطِلُ العبادة؛ كنقص أركان الطهارة والصلاة والحج‏.‏ ونقص لا يبطلها، كنقص واجبات الحج التي ليست بأركان، ونقص واجبات الصلاة إذا تركها سهوًا على المشهور عند أحمد، ونقص الواجبات التي يسميه أبو حنيفة فيها مُسِيئًا، ولا تبطل

 

ص -292-

صلاته، كقراءة الفاتحة، ونحوها‏.‏
وبهذا تزول الشبهة في ‏[‏مسائل الأسماء والأحكام‏]‏ وهي مسألة الإيمان وخلاف المرجئة والخوارج؛ فإن الإيمان، وإن كان اسمًا لدين الله الذي أكمله بقوله‏:‏ ‏
{اليوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهو اسم لطاعة الله وللبر وللعمل الصالح، وهو جميع ما أمر الله به، فهذا هو الإيمان الكامل التام، وكماله نوعان‏:‏ كمال المقربين وهو الكمال بالمستحب، وكمال المقتصدين وهو الكمال بالواجب فقط‏.‏
وإذا قلنا في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن‏"‏، و‏:‏ ‏"‏لا إيمان لمن لا أمانة له‏"‏، وقوله‏:‏‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏}‏ الآية إلى قوله‏:‏‏{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ -إذا قال القائل في مثل هذا‏:‏ ليس بمؤمن كامل الإيمان، أو نَفي عنه كمال الإيمان لا أصله، فالمراد به كمال الإيمان الواجب، ليس بكمال الإيمان المستحب، كمن ترك رَمْي الجمار، أو ارتكب محظورات الإحرام غير الوطء، ليس هذا مثل قولنا‏:‏ غُسْلٌ كامل، ووضوء كامل، وأن المجزي منه ليس

 

ص -293-

بكامل ذاك نفي الكمال المستحب‏.‏
وكذا المؤمن المطلق هو المؤدي للإيمان الواجب، ولا يلزم من كون إيمانه ناقصًا عن الواجب أن يكون باطلًا حابطًا، كما في الحج، ولا أن يكون معه الإيمان الكامل كما تقوله المرجئة، ولا أن يقال‏:‏ ولو أدي الواجب لم يكن إيمانه كاملًا، فإن الكمال المنفي هنا الكمال المستحب‏.‏
فهذا فرقان يزيل الشبهة في هذا المقام، ويقرر النصوص كما جاءت، وكذلك قوله‏:‏
‏"‏من غشنا فليس منا‏"‏، ونحو ذلك، لا يجوز أن يقال فيه‏:‏ ليس من خِيَارنا كما تقوله المرجئة، ولا أن يقال‏:‏ صار من غير المسلمين فيكون كافرًا كما تقوله الخوارج، بل الصواب أن هذا الاسم المضمر ينصرف إطلاقه إلى المؤمنين الإيمان الواجب الذي به يستحقون الثواب بلا عقاب، ولهم الموالاة المطلقة والمحبة المطلقة، وإن كان لبعضهم درجات في ذلك بما فعله من المستحب، فإذا غشهم لم يكن منهم حقيقة؛ لنقص إيمانه الواجب الذي به يستحقون الثواب المطلق بلا عقاب، ولا يجب أن يكون من غيرهم مطلقًا، بل معه من الإيمان ما يستحق به مشاركتهم في بعض الثواب، ومعه من الكبيرة ما يستحق به العقاب، كما يقول من استأجر قومًا ليعملوا عملًا، فعمل بعضهم بعض الوقت، فعند التَّوْفِيَة يصلح أن يقال‏:‏ هذا ليس منا، فلا يستحق

 

ص -294-

الأجر الكامل، وإن استحق بعضه‏.‏
وقد بسطتُ القول في هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينت ارتباطها بقاعدة كبيرة في أن الشخص الواحد، أو العمل الواحد يكون مأمورًا به من وجه، منهيًا عنه من وجه، وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافًا للخوارج والمعتزلة، د وافقهم طائفة من أهل الإثبات؛ متكلميهم وفقهائهم من أصحابنا وغيرهم في مسألة العمل الواحد في أصول الفقه، فقالوا‏:‏ لا يجوز أن يكون مأمورًا به، منهيًا عنه‏.‏ وإن كانوا مخالفين لهم في مسألة الشخص الواحد في أصول الدين، ولا ريب أن إحدي الروايتين عن أحمد أن هذا العمل لا يجزئ، وهي مسألة الصلاة في الدار المغْصُوبَة، وفي الرواية الأخري يجزي، كقول أكثر الفقهاء‏.‏ لكن من أصحابنا من جعلها عقلية ورأي أنه لا يمتنع ذلك عقلًا، وهو قول أكثر المعتزلة، وكثير من الأشعرية؛ كابن الباقلاني، وابن الخطيب‏.‏
فالكلام في مقامين‏:‏ في الإمكان العقلي، وفي الإجْزَاء الشرعي‏.‏
والناس فيها على أربعة أقوال‏:‏
منهم‏:‏ من يقول‏:‏ يمتنع عقلًا ويبطل شرعًا‏.‏ وهو قول طائفة من

 

ص -295-

متكلمي أصحابنا وفقهائهم‏.‏
ومنهم‏:‏ من يقول‏:‏ يجوز عقلًا، لكن المانع سمعي‏.‏ وهذا قد يقوله  أيضًا  من لا يرى الإجزاء من أصحابنا ومن وافقهم، وهو أشبه عندي بقول أحمد؛ فإن أصوله تقتضي أنه يجوز ورود التعبد بذلك كله، وهذا هو الذي يشبه أصول أهل السنة وأئمة الفقه‏.‏
ومنهم‏:‏ من يجوزه عقلًا وسمعًا كأكثر الفقهاء‏.‏
ومنهم‏:‏ من يمنعه عقلًا لكن يقول‏:‏ ورد سمعًا، وهذا قول ابن البَاقِلاَّني وأبي الحسن وابن الخطيب؛ زعموا أن العقل يمنع كون الفعل الواحد مأمورًا به، منهيًا عنه، ولكن لما دل السمع؛ إما الإجماع، أو غيره على عدم وجوب القضاء قالوا‏:‏ حصل الإجزاء عنده لا به‏.‏ وهذا القول عندي أفسد الأقوال‏.‏
والصواب أن ذلك ممكن في العقل، فأما الوقوع السمعي فيرجع فيه إلى دليله، وذلك أن كون الفعل الواحد محبوبًا مكروهًا، مرضيًا مسخوطًا، مأمورًا به، منهيًا عنه، مقتضيًا للحمد والثواب والذم والعقاب، ليس هو من الصفات اللازمة كالأسود والأبيض، والمتحرك والساكن، والحي والميت، وإن كان في هذه الصفات كلام  أيضًا‏.‏ وإنما هو من

 

ص -296-

الصفات التي فيها إضافة متعدية إلى الغير، مثل كون الفعل نافعًا وضارًا ومحبوبًا ومكروهًا، والنافع هو الجالب للذة، والضار هو الجالب للألم، وكذلك المحبوب هو الذي فيه فرح ولذة للمحب مثلًا، والمكروه هو الذي فيه ألم للكاره؛ ولهذا كان الحُسْنُ والقُبْح العقلي معناه المنفعة والمَضَرَّة، والأمر والنهى يعودان إلى المطلوب والمكروه، فهذه صفة في الفعل متعلقة بالفاعل أو غيره، وهذه صفة في الفعل متعلقة بالآمر الناهي‏.‏
ولهذا قلت غير مرة‏:‏ إن حُسْنَ الفعل يحصل من نفسه تارة، ومن الآمر تارة، ومن مجموعهما تارة‏.‏ والمعتزلة  ومن وافقهم من الفقهاء أصحابنا وغيرهم الذين يمنعون النسخ قبل التمكن من الفعل  لا يثبتون إلا الأول، والأشعرية  ومن وافقهم من الفقهاء أصحابنا وغيرهم الذين لا يثبتون للفعل صفة إلا إضافة لتعلق الخطاب به  لا يثبتون إلا الثاني‏.‏ والصواب إثبات الأمرين‏.‏ وقَدْرٌ زائد يحصل للفعل من جنس تعلق الخطاب غير تعلق الخطاب، ويحصل للفعل بعد الحكم، فالخطاب مظهر تارة، ومؤثر تارة، وجامع بين الأمرين تارة‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
وإذا كان كذلك فنحن نعقل، ونجد أن الفعل الواحد من الشخص أو من غيره يجلب له منفعة ومضرة معًا، والرجل يكون له عَدُوَّان

 

ص -297-

يقتل أحدهما صاحبه، فيَسُرُّ من حيث عدم عدو، ويساء من حيث غلب عدو‏.‏ ويكون له صديقان يعزل أحدهما صاحبه، فيساء من حيث انعزال الصديق، ويسر من حيث تولي صديق‏.‏ وأكثر أمور الدنيا من هذا؛ فإن المصلحة المحضة نادرة، فأكثر الحوادث فيها ما يسوء ويسر، فيشتمل الفعل على ما ينفع ويحب ويراد ويطلب، وعلى ما يضر ويبغض ويكره ويدفع‏.‏ وكذلك الآمر يأمر بتحصيل النافع، وينهى عن تحصيل الضار، فيأمر بالصلاة المشتملة على المنفعة، وينهى عن الغضب المشتمل على المضرة‏.‏
فإذا قالوا‏:‏ الممتنع أن يأمره بفعل واحد من وجه واحد، فيقول‏:‏ صَلِّ هنا ولا تصل هنا، فإن هذا جمع بين النقيضين، والجمع بين النقيضين ممتنع؛ لأنه جمع بين النفي والإثبات، فقد يقال لهم‏:‏ الجمع بين النقيضين ممتنع في الخبر، فإذا قلت‏:‏ صلى زيد هنا، لم يصل هنا امتنع ذلك؛ لأن الصلاة هنا إما أن تكون، وإما ألا تكون، وكونها هو عينها وما يتبعه من الصفات اللازمة التي ليس فيها نسبة وإضافة وتعلق، فأما الجمع بينهما في الإرادة والكراهة والطلب والدفع والمحبة والبغضة والمنفعة والمضرة فهذا لا يمتنع؛ فإن وجود الشيء قد يكون مرادًا ويكون عدمه مرادًا  أيضًا، إذا كان في كل منهما منفعة للمريد، ويكون  أيضًا  وجوده أو عدمه مرادًا مكروهًا، بحيث يلتذ العبد ويتألم بوجوده وبعدمه، كما قيل‏:‏

 

ص -298-

 الشَّيب كُرْهٌ وكُرْهٌ أن نفارقه

 فأعجب لشيء على البغضاء محبوب

فهو يكره الشيب ويبغضه لما فيه من زوال الشباب النافع ووجود المشيب الضار، وهو يحبه  أيضًا  ويكره عدمه لما فيه من وجود الحياة، وفي عدمه من الفناء‏.‏
وهذه حال ما اجتمع فيه مصلحة ومفسدة من جميع الأمور، لكن التحقيق أن الفعل المعين كالصلاة في الدار المعينة لا يؤمر بعينها، وينهى عن عينها؛ لأنه تكليف ما لا يطاق، فإنه تكليف للفاعل أن يجمع بين وجود الفعل المعين وعدمه، وإنما يؤمر بها من حيث هي مطلقة، وينهى عن الكون في البقعة، فيكون مورد الأمر غير مورد النهى ولكن تلازما في المعين، والعبد هو الذي جمع بين المأمور به والمنهى عنه، لا أن الشارع أمره بالجمع بينهما، فأمره بصلاة مطلقة، ونهاه عن كون مطلق‏.‏ وأما المعين فالشارع لا يأمر به ولا ينهى عنه، كما في سائر المعينات، وهذا أصل مطرد في جميع ما أمر الله به من المطلقات بل في كل أمر؛ فإنه إذا أمر بعتق رقبة مطلقة، كقوله‏:‏
‏{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، أو بإطعام ستين مسكينًا، أو صيام شهرين متتابعين، أو بصلاة في مكان، أو غير ذلك، فإن العبد لا يمكنه الامتثال إلا بإعتاق رقبة معينة، وإطعام طعام معين لمساكين معينين، وصيام أيام معينة، وصلاة

ص -299-

معينة في مكان معين، فالمعين في جميع المأمورات المطلقة ليس مأمورًا بعينه، وإنما المأمور به مطلق والمطلق يحصل بالمعين‏.‏
فالمعين فيه شيئان‏:‏ خصوصُ عَيْنه، والحقيقة المطلقة، فالحقيقة المطلقة هي الواجبة، وأما خصوص العين فليس واجبًا، ولا مأمورًا به، وإنما هو أحد الأعيان التي يحصل بها المطلق، بمنزلة الطريق إلى مكة، ولا قصد للآمر في خصوص التعيين‏.‏
وهذا الكلام مذكور في مسألة الواجب على التخيير، والواجب المطلق، والواجب المعين‏.‏ والفرق بينها أن الواجب المخير قد أمر فيه بأحد أشياء محصورة، والمطلق لم يؤمر فيه بأحد أشياء محصورة، وإنما أمر بالمطلق؛ ولهذا اختلف في الواجب المخير فيه‏:‏ هل الواجب هو القدر المشترك كالواجب المطلق‏؟‏ أو الواجب هو المشترك والمميز  أيضًا  على التخيير‏؟‏ فيه وجهان، والمشترك هو كونه أحدها، فعلى هذا ما تميز به أحدها عن الآخر لا يثاب عليه ثواب الواجب، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ المتميز واجب  أيضًا  على البدل، وأما المطلق فلم يتعرض فيه للأعيان المتميزة بقصد، لكنه من ضرورة الواقع، فهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وهو وإن قيل‏:‏ هو واجب فهو واجب في الفعل، وهو مخير فيه، فاختياره لإحدي العينين لا يجعله واجبًا عينًا، فتبين بذلك أن تعيين عين الفعل وعين المكان ليس مأمورًا به، فإذا نهى

 

ص -300-

 

عن الكون فيه لم يكن هذا المنهي عنه قد أمر به؛ إذ المأمور به مطلق، وهذا المعين ليس من لوازم المأمور به، وإنما يحصل به الامتثال كما يحصل بغيره‏.‏
فإن قيل‏:‏ إن لم يكن مأمورًا به فلابد أن يباح الامتثال به والجمع بين النهى والإباحة جمع بين النقيضين، قيل‏:‏ ولا يجب أن يباح الامتثال به، بل يكفي ألا ينهى عن الامتثال به، فما به يؤدي الواجب لا يفتقر إلى إيجاب ولا إلى إباحة، بل يكفي ألا يكون منهيًا عن الامتثال به، فإذا نهاه عن الامتثال به امتنع أن يكون المأمور به داخلًا فيه من غير معصية‏.‏ فهنا أربعة أقسام‏:‏
أن يكون ما به يمتثل واجبًا؛ كإيجاب صيام شهر رمضان بالإمساك فيه عن الواجب‏.‏
وأن يكون مباحًا؛ كخصال الكفارة؛ فإنه قد أبيح له نوع كل منها، وكما لو قال‏:‏ أطعم زيدًا أو عمرًا‏.‏
وألا يكون منهيًا عنه؛ كالصيام المطلق، والعتق المطلق، فالمعين ليس منهيًا عنه، ولا مباحًا بخطاب بعينه؛ إذ لا يحتاج إلى ذلك‏.‏
والرابع‏:‏ أن يكون منهيًا عنه؛ كالنهى عن الأضاحي المعيبة، وإعتاق

 

ص -301-

الكافر، فإذا صلى في مكان مباح كان ممتثلًا لإتيانه بالواجب بمعين ليس منهيًا عنه، وإذا صلى في المغصوب فقد يقال‏:‏ إنما نهى عن جنس الكون فيه لا عن خصوص الصلاة فيه، فقد أدى الواجب بما لم ينه عن الامتثال به، لكن نهى عن جنس فعله، فبه اجتمع في الفعل المعين ما أمر به من الصلاة المطلقة وما نهى عنه من الكون المطلق، فهو مطيع عاص‏.‏ ولا نقول‏:‏ إن الفعل المعين مأمور به منهى عنه لكن اجتمع فيه المأمور به والمنهى عنه، كما لو صلى ملابسًا لمعصية من حمل مغصوب‏.‏
وقد يقال‏:‏ بل هو منهى عن الامتثال به، كما هو منهى عن الامتثال بالصلاة في المكان النجس والثوب النجس؛ لأن المكان شرط في الصلاة، والنهى عن الجِنْس نهى عن أنواعه، فيكون منهيًا عن بعض هذه الصلاة، بخلاف المنهى عنه إذا كان منفصلًا عن أبعاضها، كالثوب المحمول، فالحمل ليس من الصلاة‏.‏ فهذا محل نظر الفقهاء، وهو محل للاجتهاد، لا أن عين هذه الأكوان هي مأمور بها، ومنهى عنها، فإن هذا باطل قطعًا، بل عينها، وإن كانت منهيًا عنها، فهي مشتملة على المأمور به، وليس ما اشتمل على المأمور به المطلق يكون مأمورًا به‏.‏
ثم يقال‏:‏ولو نهى عن الامتثال على وجه معين، مثل أن يقال‏:‏

 

ص -302-

صَلِّ ولا تصل في هذه البقعة، وخِطْ هذا الثوب ولا تَخِطْه في هذا البيت، فإذا صلى فيه وخاط فيه فلا ريب أنه لم يأت بالمأمور به كما أمر، لكن هل يقال‏:‏ أتي ببعض المأمور به أو بأصله دون وصفه‏؟‏ وهو مطلق الصلاة والخياطة دون وصفه، أو مع منهى عنه بحيث يثاب على ذلك الفعل وإن لم يسقط الواجب، أو عوقب على المعصية‏؟‏ قد تقدم القول في ذلك، وبينت أن الأمر كذلك، وهي تشبه مسألة صوم يوم العيد، ونحوه مما يقول أبو حنيفة فيه بعدم الفساد‏.‏
وأن الإجزاء والإثابة يجتمعان ويفترقان، فالإجزاء براءة الذمة من عهدة الأمر، وهو السلامة من ذَمِّ الرب أو عقابه‏.‏ والثواب‏:‏ الجزاء على الطاعة‏.‏ وليس الثواب من مقتضيات مجرد الامتثال بخلاف الإجزاء؛ فإن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به، لكن هما مجتمعان في الشرع؛ إذ قد استقر فيه أن المطيع مُثَاب، والعاصي معاقب‏.‏ وقد يفترقان، فيكون الفعل مجزئًا لا ثواب فيه إذا قارنه من المعصية ما يقابل الثواب، كما قيل‏:‏ ‏[‏رُبَّ صائم حظه من صيامه العطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر‏]‏، فإن قول الزور، والعمل به في الصيام أوجب إثمًا يقابل ثواب الصوم، وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به، والعمل المنهى عنه فَبَرِئَتْ الذمة للامتثال، ووقع الحرمان للمعصية‏.‏ وقد يكون مثابًا عليه غير مجزئ إذا فعله ناقصًا عن الشرائط والأركان، فيثاب على ما فعل، ولا تبرأ الذمة إلا بفعله كاملًا‏.‏

 

ص -303-

وهذا تحرير جيد، أن فعل المأمور به يوجب البراءة، فإن قارنه معصية بقدره تخل بالمقصود قابل الثواب‏.‏ وإن نقص المأمور به أثيب، ولم تحصل البراءة التامة؛ فإما أن يعاد، وإما أن يُجْبَر، وإما أن يأثم‏.‏
فتدبر هذا الأصل، فإن المأمور به مثل المحبوب المطلوب، إذا لم يحصل تامًا لم يكن المأمور بريئًا من العهدة، فنقصه إما أن يجبر بجنسه، أو ببدل، أو بإعادة الفعل كاملًا إذا كان مرتبطًا، وإما أن يبقى في العهدة كركوب المنهي عنه‏.‏
فالأول‏:‏ مثل‏:‏ من أخرج الزكاة ناقصًا؛ فإنه يخرج التمام‏.‏
والثاني‏:‏ مثل‏:‏ من ترك واجبات الحج؛ فإنه يجبر بالدم، ومن ترك واجبات الصلاة المجبورة بالسجود‏.‏
والثالث‏:‏ مثل‏:‏ من ضَحَّى بمعيبة، أو أعتق معيبًا، أو صلى بلا طهارة‏.‏
والرابع‏:‏ مثل من فَوَّت الجمعة والجهاد المتعين‏.‏
وإذا حصل مقارنًا لمحظور يضاد بعض أجزائه لم يكن قد حصل كالوطء في الإحرام فإنه يفسده ، وإن لم يضاد بعض الأجزاء يكون

 

ص -304-

قد اجتمع المأمور والمحظور، كفعل محظورات الإحرام فيه، أو فعل قول الزور والعمل به في الصيام، فهذه ثلاثة أقسام في المحظور كالمأمور؛ إذ المأمور به إذا تركه يستدرك تارة بالجبران والتكميل، وتارة بالإعادة، وتارة لا يستدرك بحال‏.‏
والمحظور كالمأمور؛ إما أن يوجب فساده، فيكون فيه الإعادة، أو لا يستدرك، وإما أن يوجب نقصه مع الإجزاء فيجبر، أو لا يجبر، وإما أن يوجب إثمًا فيه يقابل ثوابه‏.‏ فالأول كإفساد الحج، والثاني كإفساد الجمعة، والثالث كالحج مع محظوراته، والرابع كالصلاة مع مرور المصلى أمامه، والخامس كالصوم مع قول الزور والعمل به‏.‏
فهذه المسائل  مسألة الفعل الواحد ، والفاعل الواحد، والعين الواحدة  هل يجتمع فيه أن يكون محمودًا مذمومًا ، مرضيًا مسخوطًا ، محبوبًا مبغضًا ، مثابًا معاقبًا ، متلذذًا متألمًا، يشبه بعضها بعضًا ‏؟‏ والاجتماع ممكن من وجهين ، لكن من وجه واحد متعذر ، وقد قال تعالى‏:‏
‏{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏‏.‏

 

ص -305-

فصل
قد كتبت فيما قبل هذا مسمى العلم الشرعي وأنه ينقسم إلى‏:‏ ما أخبر به الشارع، أو عرف بخبره، وإلى‏:‏ ما أمر به الشارع‏.‏
والذي أخبر به ينقسم إلى‏:‏ ما دل على علمه بالعقل، وإلى‏:‏ ما ليس كذلك‏.‏
والذي أمر به؛ إما أن يكون مستفادًا بالعقل، أو مستفادًا بالشرع، وإما أن يكون مقصودًا للشارع، أو لازمًا للمقصود‏.‏
وكذلك اسم الشريعة والشرع والشِّرْعَة فإنه ينتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال، وقد صنف الشيخ أبو بكر الآجُرِي كتاب ‏[‏الشريعة‏]‏، وصنف الشيخ أبو عبد الله ابن بَطَّة كتاب ‏[‏الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية‏]‏ وغير ذلك‏.‏ وإنما مقصود هؤلاء الأئمة في السنة باسم الشريعة‏:‏ العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله خالق

 

ص -306-

كل شيء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، ويؤمنون بالشفاعة لأهل الكبائر، ونحو ذلك من عُقُود أهل السنة، فسموا أصول اعتقادهم شريعتهم، وفرقوا بين شريعتهم وشريعة غيرهم‏.‏
وهذه العقائد التي يسميها هؤلاء الشريعة هي التي يسمي غيرهم عامتها ‏[‏العَقْليات‏]‏ و‏[‏علم الكلام‏]‏، أو يسميها الجميع ‏[‏أصول الدين‏]‏، ويسميها بعضهم ‏[‏الفقه الأكبر‏]‏ وهذا نظير تسمية سائر المصنفين في هذا الباب ‏[‏كتاب السنة‏]‏ كالسنة لعبد الله بن أحمد، والخَلاَّل، والطبراني، والسنة للجُعْفي، وللأَثْرَم، ولخلق كثير صنفوا في هذه الأبواب، وسموا ذلك كتب السنة ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة‏.‏
فالسنة كالشريعة هي‏:‏ ما سَنَّه الرسول وما شرعه، فقد يراد به ما سنه وشرعه من العقائد، وقد يراد به ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد به كلاهما‏.‏ فلفظ السنة يقع على معان كلفظ الشرعة؛ ولهذا قال ابن عباس  وغيره  في قوله‏:
‏‏{شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏:‏ سنة وسبيلًا‏.‏ ففسروا الشِّرْعةَ بالسنة، والمنهاج بالسبيل‏.‏
واسم ‏[‏السُّنَّة‏]‏ و ‏[‏الشِّرْعة‏]‏ قد يكون في العقائد والأقوال، وقد يكون في المقاصد والأفعال ‏.‏ فالأولي في طريقة العلم والكلام،

 

ص -307-

والثانية في طريقة الحال والسماع ، وقد تكون في طريقة العبادات الظاهرة والسياسات السلطانية‏.‏ فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة‏.‏ وأما الفقهاء والعامة فيخرجون عما هو عندهم الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة، أو المذهب، أو الرأي‏.‏
والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حق‏.‏ لكن قد يُغَيَّر  أيضًا  لفظ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات‏.‏
ثم هي مستعملة في كلام الناس على ثلاثة أنحاء‏:‏ شرع مُنَزَّل، وهو‏:‏ ما شرعه الله ورسوله‏.‏ وشرع مُتَأَوَّل، وهو‏:‏ ما ساغ فيه الاجتهاد‏.‏ وشرع مُبَدَّل، وهو‏:‏ ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع، أو البدع، أو الضلال الذي يضيفه

 

ص -308-

الضالون إلى الشرع‏.‏ والله  سبحانه وتعالى  أعلم‏.‏
وبما ذكرته في مسمي الشريعة، والحكم الشرعي، والعلم الشرعي يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح له فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك، والحمد لله رب العالمين‏.‏
وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ قد أوجب طاعته وطاعة رسوله في آي كثيرٍ من القرآن، وحرم معصيته ومعصية رسوله، ووعد برضوانه ومغفرته ورحمته وجنته على طاعته وطاعة رسوله، وأَوْعَدَ بضد ذلك على معصيته ومعصية رسوله‏.‏ فعلى كل أحد من عالم، أو أمير، أو عابد، أو معامل أن يطيع الله ورسوله فيما هو قائم به من علم، أو حكم، أو أمر، أو نهى، أو عمل، أو عبادة، أو غير ذلك‏.‏
وحقيقة الشريعة اتباع الرسل، والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرسل، وطاعة الرسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه، فقال‏:‏ ‏
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏

 

ص -309-

فإنه قد قال‏:‏ ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ والطاعة له دين له‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميرى فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن عصي أميرى فقد عصاني‏"‏‏.‏ والأمراء والعلماء لهم مواضع تجب طاعتهم فيها، وعليهم هم  أيضًا  أن يطيعوا الله والرسول فيما يأمرون‏.‏ فعلى كل من الرعاة والرعية، والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كل منهم الله ورسوله في حاله، ويلتزم شريعة الله التي شرعها له‏.‏
وهذه جملة تفصيلها يطول، غَلَطَ فيها صنفان من الناس‏:‏
صِنْفٌ سَوَّغُوا لنفوسهم الخروج عن شريعة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله؛ لظنهم قصور الشريعة عن تمام مصالحهم؛ جهلًا منهم، أو جهلًا وهوي، أو هوي مَحْضًا‏.‏
وصِنْفٌ قَصَّروا في معرفة قَدْر الشريعة، فضيقوها حتي توهموا  هم والناس  أنه لا يمكن العمل بها، وأصل ذلك الجهل بمسمى الشريعة ومعرفة قدرها وسعتها‏.‏ والله أعلم‏.‏
ومن العلماء والعامة من يرى أن اسم الشريعة والشرع لا يقال إلا للأعمال التي يسمى علمها علم الفقه، ويفرقون بين العقائد والشرائع أو الحقائق والشرائع، فهذا الاصطلاح مخالف لذلك‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏

 

ص -310-

ما أن يحمل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
وكذلك الأحكام الشرعية قد يراد بها ما أخبر بها الشارع بناء على أن الأحكام صفات للفعل، وأن الشارع بَيَّنها وكشفها‏.‏ ومنها ما يعلم بالعقل ضرورة أو نظرًا، ومنها ما يعلم بهما، ويسمي الجميع أحكامًا شرعية، أو تخص الأحكام الشرعية بما لم يَسْتَفِد إلا من الشارع، وهذا اصطلاح المعتزلة وغيرهم من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم‏.‏ وقد يراد بها ما أثبتها الشارع، وأتي بها، ولم تكن ثابتة بدونه، بناء على أن الفعل حكم له في نفسها، وإنما الحكم ما أتي به الشارع، وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم‏.‏ ثم قد يقال‏:‏ الحكم هو خطاب الشارع، وهو الإيجاب والتحريم منه، وقد يقال‏:‏ هو مقتضي الخطاب وموجبه، وهو الوجوب والحرمة مثلًا‏.‏ وقد يقال‏:‏ المتعلق الذي بين الخطاب والفعل‏.‏
والصحيح أن اسم الحكم الشرعي يَنْطَبق على هذه الثلاثة، وقد يقال‏:‏ بل الحكم الشرعي يقال على ما أخبر به، وعلى ما جاء به من الخطاب ومقتضاه، وهذا  كما قلناه  في العلم الشرعي، فتدبر هذه الأصول الثلاثة‏:‏ العلم الشرعي، والحكم الشرعي، والشريعة‏.‏ والله أعلم‏.

 

ص -311-