عنوان الكتاب:

مجموع فتاوى ابن تيمية – الجزء السادس عشر

تأليف:

أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

728هـ

دراسة وتحقيق:

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم

الناشر:

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية

1416هـ/1995م

"التفسير"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
بسم الله الرحمن الرحيم
 سُورَة الزُّمَر
قَال شَيْخ الإسْلام أحْمَد بن تيمية قدَّسَ الله رُوحه‏:‏
فَصْل
قد قال تعالى‏:‏
‏{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏، والمراد بالقول‏:‏ القرآن، كما فسره بذلك سلف الأمة وأئمتها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏، واللام لتعريف القول المعهود؛ فإن السورة كلها إنما تضمنت مدح القرآن واستماعه، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، وبينَّا فساد قول من استدل بهذه على سماع الغناء وغيره، وجعلها عامة‏.‏ وبينا أن تعميمها في كل قول باطل بإجماع المسلمين‏.‏
وهنا سؤال مشهور، وهو أنه قال‏:‏
‏{يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏18‏]‏،

 

ص -5-

فقد قسم القول إلى حسن وأحسن، والقرآن كله متبع، وهذا حجتهم‏.‏
فيقال‏:‏ الجواب من ثلاثة أوجه‏:‏ إلزام، وحل‏:‏
الأول‏
:‏ أن هذا مثل قوله‏:‏
‏{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏، فقد أمر المؤمنين باتباع أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، وأمر بنى إسرائيل أن يأخذوا بأحسن التوراة، وهذا أبلغ من تلك الآية؛ فإن تلك إنما فيها مدح باتباع الأحسن، ولا ريب أن القرآن فيه الخبر والأمر بالحسن والأحسن، واتباع القول إنما هو العمل بمقتضاه، ومقتضاه فيه حسن وأحسن، ليس كله أحسن، وإن كان القرآن في نفسه أحسن الحديث؛ فَفَرْقٌ بين حُسْن الكلام بالنسبة إلى غيره من الكلام، وبين حُسْنه بالنسبة إلى مقتضاه المأمور والمخبر عنه‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ إنه قال‏:‏ ‏{
فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 17، 18‏]‏، والقرآن تضمَّن خبرًا وأمرًا، فالخبر عن الأبرار والمقربين، وعن الكفار والفجار؛ فلا ريب أن اتباع الصنفين حسن،

 

ص -6-

 واتباع المقربين أحسن، والأمر يتضمن الأمر بالواجبات والمستحبات‏.‏ ولا ريب أن الاقتصار على فعل الواجبات حسن، وفعل المستحبات معها أحسن‏.‏ ومن اتبع الأحسن فاقتدى بالمقربين، وتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، كان أحق بالبشرى‏.‏
وعلى هذا، فقوله‏:‏
‏{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏، ‏{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏، هو أيضًا أمر بذلك، لكن الأمر يَعُمُّ أمر الإيجاب والاستحباب، فهم مأمورون بما في ذلك من واجب أمر إيجاب، وبما فيه من مستحب أمر استحباب، كما هم مأمورون مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏‏.‏ وقوله ‏:‏ ‏{يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، والمعروف يتناول القسمين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏، وهو يعم القسمين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏

 

ص -7-

وقَال رَحِمهُ الله‏:‏
فَصْل في السماع
أصل السماع الذى أمر الله به‏:‏ هو سماع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ سماع فقهٍ وقَبُول؛ ولهذا انقسم الناس فيه أربعة أصناف‏:‏صنف معرض ممتنع عن سماعه،وصنف سمع الصوت ولم يفقه المعنى، وصنف فقهه ولكنه لم يقبلْه، والرابع الذى سمعه سماع فقه وقبول‏.‏
فالأول‏:‏ كالذين قال فيهم‏:‏
‏{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والصنف الثاني‏:‏ من سمع الصوت بذلك لكن لم يفقه المعنى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏، وقال تعالى‏:‏

 

ص -8-

‏{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42 44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏45 47‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 57‏]‏‏.‏
وقوله‏:
‏ ‏{أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ يتناول من لم يفهم منه تفسير اللفظ كما يفهم بمجرد العربية، ومن فهم ذلك لكن لم يعْلَم نفس المراد في الخارج وهو‏:‏ ‏[‏الأعيان‏]‏، و‏[‏الأفعال‏]‏، و‏[‏الصفات‏]‏ المقصودة بالأمر والخبر؛ بحيث يراها ولا يعلم أنها مدلول الخطاب‏:‏ مثل من يعلم وصفًا مذمومًا ويكون هو متصفًا به، أو بعضًا من جنسه ولا يعلم أنه داخل فيه، وقال تعالى‏:‏

 

ص -9-

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22، 23‏]‏، قال ذلك بعد قوله‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 20، 21‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏}‏ لم يرد به مجرد إسماع الصوت لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن هذا السماع لابد منه ولا تقوم الحجة على المدعوين إلا به، كما قال‏
:‏ ‏{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏
والثاني‏:‏أنه وحده لا ينفع؛ فإنه قد حصل لجميع الكفار الذين استمعوا القرآن وكفروا به كما تقدم، بخلاف إسماع الفقه، فإن ذلك هو الذى يعطيه الله لمن فيه خير، وهذا نظير ما في الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
"‏من يُرِدِ الله به خيرًا يُفَقِّهْه في الدين‏"‏ وهذه الآية والحديث يدلان على أن من لم يحصل له السماع الذى يفقه معه القول، فإن الله لم يعلم فيه خيرًا ولم يرد به خيرًا، وأن من علم الله فيه خيرًا أو أراد به خيرًا فلا بد أن يسمعه ويفقهه؛ إذ الحديث قد بيَّن أن كل من يرد الله به خيرًا يفقهه؛ فالأول مستلزم للثانى، والصيغة عامة، فمن لم يفقهه لم يكن داخلًا في العموم، فلا يكون الله

 

ص -10-

أراد به خيرًا، وقد انتفي في حقه اللازم فينتفي الملزوم‏.‏
وكذلك قوله‏:‏‏
{وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏}‏، بيَّن أن الأول شرط للثانى؛شرطًا نحْويًا، وهو ملزوم وسبب،فيقتضى أن كل من علم الله فيه خيرًا أسمعه هذا الإسماع، فمن لم يسمعه إياه لم يكن قد علم فيه خيرًا، فتدبر كيف وجب هذا السماع،وهذا الفقه،وهذا حال المؤمنين،بخلاف الذين يقولون بسماع لا فقه معه،أو فقه لا سماع معه أعنى هذا السماع‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏، فقد يشكل على كثير من الناس؛ لظنهم أن هذا السماع المشروط هو السماع المنفي في الجملة الأولى، الذي كان يكون لو علم فيهم خيرًا، وليس في الآية ما يقتضى ذلك، بل ظاهرها وباطنها ينافي ذلك؛فإن الضمير في قوله‏:‏ ‏{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏ عائد إلى الضميرين في قوله‏:‏‏{وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏}‏، وهؤلاء قد دل الكلام على أن الله لم يعلم فيهم خيرًا، فلم يسمعهم؛ إذ ‏[‏لو‏]‏ يدل على عدم الشرط دائمًا، وإذا كان الله ما علم فيهم خيرًا، فلو أسمعهم لتولوا وهم معرضون، بمنزلة اليهود الذين قالوا سمعنا وعصينا، وهم الصنف الثالث‏.‏
ودلت الآية على أنه ليس لكل من سمع وفقه يكون فيه خير، بل

 

ص -11-

قد يفقه ولا يعمل بعلمه فلا ينتفع به، فلا يكون فيه خيرًا‏.‏ ودلَّتْ أيضًا على أن إسماع التفهيم إنما يطلب لمن فيه خير، فإنه هو الذى ينتفع به، فأما من ليس ينتفع به فلا يطلب تفهيمه‏.‏
والصنف الثالث‏:‏ من سمع الكلام وفقهه، لكنه لم يقبله ولم يطع أمره؛ كاليهود الذين قال الله فيهم‏:‏
‏{مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏75-78‏]‏ أي تلاوة‏.‏
فهؤلاء من الصنف الأول الذين يسمعون ويقرؤون ولا يفقهون، أو يعقلون إلى قوله‏:‏ ‏
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83 - 88‏]‏،

 

ص -12-

كما قال في تلك الآية‏:‏ ‏{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏، وقال في النساء‏:‏ ‏{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155، 156‏]‏، إلى آخر القصة، فأخبر بذنوبهم التى استحقوا بها ما استحقوه، ومنها قولهم‏:‏‏{قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ ‏.‏
فَعُلِم أنهم كاذبون في هذا القول، قاصدون به الامتناع من الواجب؛ ولهذا قال‏:
‏‏{بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه‏}‏، و ‏{طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ‏}‏،فهى وإن سمعت الخطاب وفقهته لا تقبله ولا تؤمن به، لا تصديقًا له ولا طاعة، وإن عرفوه كما قال‏:‏ ‏{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏، ف ‏{غُلْفٌ‏}‏ جمع أغلف‏.‏ وأما ‏"‏غُلُف‏"‏ بالتحريك فجمع غلاف، والقلب الأغلف بمنزلة الأقلف‏.‏ فهم ادعوا ذلك وهم كاذبون في ذلك، واللعنة‏:‏ الإبعاد عن الرحمة، فلو عملوا به لرحموا؛ ولكن لم يعملوا به، فكانوا مغضوبًا عليهم ملعونين، وهذا جزاء من عرف الحق ولم يتبعه، وَفقِه كلام الرسل ولم يكن موافقًا له بالإقرار تصديقًا وعملًا‏.‏
والصنف الرابع‏:‏ الذين سمعوا سماع فِقْه وقبول، فهذا هو السماع المأمور به، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏، وقال تعالى‏:‏

 

ص -13-

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1، 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ‏}‏ الآيات ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29 - 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا‏}‏الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 107، 108‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124، 125‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، ومثله قوله‏:‏ ‏{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 138‏]‏، فالبيان يعم كل من فقهه، والهدى والموعظة للمتقين،وقوله‏:‏ ‏{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏20‏]‏،

 

ص -14-

وقوله‏:‏ ‏{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
وهنا لطيفة تُزيل إشكالًا يفهم هنا‏:‏ وهو أنه ليس من شرط هذا المتقى المؤمن أن يكون كان من المتقين المؤمنين قبل سماع القرآن، فإن هذا أوَّلًا ممتنع؛ إذ لا يكون مؤمنًا متقيًا من لم يسمع شيئا من القرآن‏.‏ وثانيًا‏:‏ أن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدمه تقدمًا زمانيًا، كاستقبال القبلة في الصلاة‏.‏ وثالثًا‏:‏ أن المقصود أن يُبَيِّن شيئان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن الانتفاع به بالاهتداء والاتعاظ والرحمة هو وإن كان موجبًا له لكن لابد مع الفاعل من القابل؛ إذ الكلام لا يؤثر فيمن لا يكون قابلا له، وإن كان من شأنه أن يهدى ويعظ ويرحم، وهذا حال كل كلام‏.‏
الثاني‏:‏ أن يُبيِّن أن المهتدين بهذا هم المؤمنون المتقون، ويستدل بعدم الاهتداء به على عدم الإيمان والتقوى، كما يقال‏:‏ المتعلمون لكتاب بُقراط هم الأطباء، وإن لم يكونوا أطباء قبل تعلمه؛ بل بتعلمه وكما يقال‏:‏ كتاب سيبويه كتاب عظيم المنفعة للنحاة، وإن كانوا إنما صاروا نحاة بتعلمه، وكما يقال‏:‏ هذا مكان موافق للرُّماة والرِّكاب ‏[‏الرِّكاب‏:‏ الإبل التى يسار عليها‏]‏

 

ص -15-

قَال شَيْخ الإسْلام رَحِمهُ الله‏:‏
فَصْل
قال الله تعالى‏:‏ ‏{
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏‏.‏
فأخبر سبحانه أنه يسلك الماء النازل من السماء ينابيع، والينابيع‏:‏ جمع ينْبوع، وهو منبع الماء، كالعين والبئر‏.‏ فدل القرآن على أن ماء السماء تنبع منه الأرض، والاعتبار يدل على ذلك، فإنه إذا كثر ماء السماء كثرت الينابيع، وإذا قلَّ قَلَّتْ‏.‏
وماء السماء ينزل من السحاب، والله ينشئه من الهواء الذى في الجو، وما يتصاعد من الأبخرة‏.‏
وليس في القرآن أن جميع ما ينبع يكون من ماء السماء، ولا هذا أيضًا معلومًا بالاعتبار، فإن الماء قد ينبع من بطون الجبال،

 

ص -16-

ويكون فيها أبخرة يخلق منها الماء، والأبخرة وغيرها من الأهْوية قد تستحيل، كما إذا أخذ إناء فوضع فيه ثلج، فإنه يبقى ما أحاط به ماء، وهو هواء استحال ماء، وليس ذلك من ماء السماء، فَعُلِم أنه ممكن أن يكون في الأرض ماء ليس من السماء، فلا يُجْزَم بأن جميع المياه من ماء السماء، وإن كان غالبها من ماء السماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -17-

وقَال شَيْخ الإسْلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تيمية الحرانى قدس الله روحه‏:‏
فَصْل
في قوله تعالى‏:‏ ‏{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53، 54‏]‏‏.‏ وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آيتا النساء، قوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48، 116‏]‏، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كا يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضًا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين‏.‏ وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خَصَّ فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علَّقه بالمشيئة فقال‏:‏ ‏{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏.‏

 

ص -18-

وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه كما تَرُدُّ على الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، فهى تَرُدُّ أيضًا على المرجئة الواقفية، الذين يقولون‏:‏ يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع، فإنه قد قال‏:‏ ‏{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ فأثبت أن ما دون ذلك هو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله‏:‏ ‏{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ‏}‏، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله‏:‏ ‏{لِمَن يَشَاء‏}‏، فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هى لمن يشاء، دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس‏.‏
وحينئذ، فمن غُفِر له لم يُعذَّب، ومن لم يُغْفَر له عُذِّب، وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضهم يغفر له، لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة، أو لا اعتبار بالموازنة‏؟‏ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم، بناء على أصل الأفعال الإلهية، هل يعتبر فيها الحكمة والعدل‏؟‏ وأيضًا، فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن قوله‏:‏‏
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏، فيه نهى عن القنوط من رحمة الله تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِل لأحد أن يقنط من

 

ص -19-

رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمة الله‏.‏ قال بعض السلف‏:‏ إنَّ الفقيه كل الفقيه الذى لا يُؤْيِس الناس من رحمة الله، ولا يُجَرِّيهم على معاصى الله‏.‏
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له، إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول‏:‏ نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييأس من توبة نفسه، وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعترى كثيرًا من الناس‏.‏ والقنوط يحصل بهذا تارة، وبهذا تارة، فالأول‏:‏ كالراهب الذى أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له، فقتله وكَمَّلَ به مائة، ثم دُلَّ على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته‏.‏ والحديث في الصحيحين ‏.‏ والثاني‏:‏ كالذى يرى للتوبة شروطًا كثيرة، ويقال له‏:‏ لها شروط كثيرة، يتعذر عليه فعلها، فييأس من أن يتوب‏.‏
وقد تنازع الناس في العبد‏:‏ هل يصير في حال تمتنع منه التوبة إذا أرادها‏؟‏ والصواب الذى عليه أهل السنة والجمهور‏:‏ أن التوبة ممكنة من كل ذنب، وممكن أن الله يغفره، وقد فرضوا في ذلك من توسط أرضًا مغصوبة، ومن توسط جَرْحَى، فكيف ما تحرك قتل بعضهم‏؟‏‏!‏ فقيل‏:‏ هذا لا طريق له إلى التوبة‏.‏ والصحيح‏:‏ أن هذا إذا تاب، قبل الله توبته‏.‏

 

ص -20-

أما من توسط الأرض المغصوبة، فهذا خروجه بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحِقِّه ليس منهيًا عنه ولا محرَّمًا، بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارًا وترك فيها قماشه وماله، إذا أمر بتسليمها إلى مستحقها فإنه يؤمر بالخروج منها، وبإخراج أهله وماله منها، وإن كان ذلك نوع تَصَرُّف فيها، لكنه لأَجْلِ إخلائها‏.‏
والمشرك إذا دخل الحرم أمر بالخروج منه، وإن كان فيه مرور فيه، ومثل هذا حديث الأعرابى المتَّفَق على صحته لمَّا بال في المسجد فقام الناس إليه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏لا تُزْرِموه‏"‏، أى لا تقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله دلوًا من ماء، فهو لما بدأ بالبول كان إتمامه خيرًا من أن يقطعوه، فيلوث ثيابه وبدنه، ولو زنا رجل بامرأة ثم تاب لنزع، ولم يكن مذنبًا بالنزع، وهل هو وطء‏؟‏ فيه قولان‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ فلو حلف ألاَّ يطأ امرأته بالطلاق الثلاث، فالذين يقولون‏:‏ إنه يقع به الطلاق الثلاث إذا وطئها تنازعوا‏:‏ هل يجوز له وطؤها‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ أحدهما‏:‏ يجوز كقول الشافعى‏.‏ والثاني‏:‏ لا يجوز كقول مالك، فإنه يقول‏:‏ إذا أَجزْتَ الوطء لزم أن يباشرها في حال النزع وهى محرمة، وهذا إنما يُجَوَّزه للضرورة، لا يجوزه ابتداء، وذلك يقول‏:‏ النزع ليس بمحرم‏.‏

 

ص -21-

وكذلك الذين يقولون‏:‏ إذا طلع عليه الفجر وهو مولج فقد جامع، لهم في النزع قولان‏:‏ في مذهب أحمد وغيره‏.‏ وأما على ما نصرناه فلا يحتاج إلى شىء من هذه المسائل، فإن الحالف إذا حنث يكفر يمينه ولا يلزمه الطلاق الثلاث، وما فعله الناس حال التبيُّن من أَكْل وجَمَاع فلا بأس به، لقوله‏:‏‏{حتى‏}‏
والمقصود أنه لا يجوز أن يقنط أحد، ولا يُقَنِّط أحدًا من رحمة الله، فإن الله نهى عن ذلك، وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعًا‏.‏
فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏
‏{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، معه عموم على وجه الإخبار، فدل أن الله يغفر كل ذنب؛ ومعلوم أنه لم يُرِدْ أن من أذنب من كافر وغيره فإنه يغفر له، ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع، إذ كان الله أهلك أممًا كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمة من عُذِّبَ بذنوبه، إما قدرًا، وإما شرعًا في الدنيا قبل الآخرة‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏
‏{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏‏{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏، فهذا يقتضى أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعًا‏.‏ أى‏:‏ ذلك مما قد يفعله أو أنه يغفره لكل تائب، لكن يقال‏:‏ فَلِمَ أتى بصيغة الجزم والإطلاق في موضع التردد والتقْييد‏؟‏ قيل‏:‏ بل

 

ص -22-

الآية على مقتضاها، فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، ولم يذكر أنه يغفر لكل مذنب، بل قد ذكر في غير موضع أنه لا يغفر لمن مات كافرًا، فقال‏:‏‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 34‏]‏‏.‏
وقال في حق المنافقين‏:‏ ‏
{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏،لكن هذا اللفظ العام في الذنوب هو مطلق في المذنبين، فالمذنب لم يتعرض له بنفي ولا إثبات، لكن يجوز أن يكون مغفورًا له، ويجوز ألا يكون مغفورًا له؛ إنْ أتى بما يوجب المغفرة غُفِر له، وإن أَصَرَّ على ما يناقضها، لم يُغْفَر له‏.‏
وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة؛ الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى، بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة‏.‏
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف؛ رد على من يقول‏:‏ إن الداعى إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائىلى، فيه‏:‏‏"‏أنه قيل لذلك الداعية‏:‏ فكيف بمن أضللتَ‏؟‏‏"‏، وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك،كأبى على الأهوازى وأمثاله،ممن لا يميزون بين

 

ص -23-

الأحاديث الصحيحة والموضوعة،وما يحتج به وما لا يحتج به، بل يَرْوون كل ما في الباب محتجين به
وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعى إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم‏.‏
وقد تاب قادة الأحزاب مثل‏:‏ أبى سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبى جهل، وغيرهم بعد أن قُتِل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم‏.‏ قال تعالى‏
:‏ ‏{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبى صلى الله عليه وسلم لما أسلم‏:‏ ‏"‏يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله‏؟‏‏"‏ ‏.‏
وفي صحيح البخارى عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏، قال‏:‏ كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم أولئك الجن، والإنس يعبدونهم ‏.‏ ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا عبادة غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولًا‏.‏

 

ص -24-

وأيضًا، فالداعى إلى الكفر والبدعة، وإن كان أضل غيره، فذلك الغير يُعَاقَب على ذنبه؛ لكونه قَبِل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجْل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب، حالهم واحد، ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة‏.‏ وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير‏.‏
ومن ذلك توبة قاتل النفس‏.‏ والجمهور على أنها مقبولة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا تقبل‏.‏ وعن أحمد روايتان‏.‏ وحديث قاتل التسعة والتسعين في الصحيحين دليل على قبول توبته، وهذه الآية تدل على ذلك‏.‏ وآية النساء إنما فيها وعيد في القرآن كقوله‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، ومع هذا فهذا إذا لم يتب ‏.‏ وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس، فبأى وجه يكون وعيد القاتل لاحقًا به وإن تاب‏؟‏ هذا في غاية الضعف، ولكن قد يقال‏:‏ لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل، بل التوبة تسقط حق الله، والمقتول مُطَالِبُه بحقه، وهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الديْن، فإن في الصحيحين عن النبى

 

ص -25-

صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏الشهيد يغفر له كل شىء إلا الديْن‏"‏ لكن حق الآدمى يُعْطَاه من حسنات القاتل‏.‏
فمن تمام التوبة، أن يستكثر من الحسنات حتى يكون له ما يقابل حق المقتول، ولعل ابن عباس رأى أن القتل أعظم الذنوب بعد الكفر، فلا يكون لصاحبه حسنات تُقَابِل حق المقتول، فلابد أن يبقى له سيئات يعذب بها، وهذا الذى قاله قد يقع من بعض الناس، فيبقى الكلام فيمن تاب وأخلص،وعجز عن حسنات تعادل حق المظلوم، هل يجعل عليه من سىئات المقتول ما يعذب به‏؟‏ وهذا موضع دقيق، على مثله يُحْمَلُ حديث ابن عباس، لكن هذا كله لا ينافي مُوجِب الآية، وهو أن الله تعالى يغفر كل ذنب؛ الشرك، والقتل، والزنا، وغير ذلك من حيث الجملة، فهى عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص‏.‏
ومثل هذا قوله ‏
:‏ ‏{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏،عام في الأشخاص مطلق في أحوال‏.‏‏.‏‏.‏ الأرْجُل؛ إذ قد تكون مستورة بالخف واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال‏.‏
وكذلك قوله تعالى‏:‏
‏{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏، عام في الأولاد، عام في الأحوال؛ إذ قد يكون الولد موافِقًا في الدين ومخالفًا، وحرًا وعبدًا‏.‏ واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال‏.‏

 

ص -26-

وكذلك قوله‏:‏‏{يَغْفِرُ الذُّنُوبَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، عام في الذنوب مطلق في أحوالها، فإن الذنب قد يكون صاحبه تائبًا منه،وقد يكون مصرًا، واللفظ لم يتعرض لذلك، بل الكلام يبين أن الذنب يغفر في حال دون حال،فإن الله أمر بفعل ما تُغْفَر به الذنوب،ونهى عما به يحصل العذاب يوم القيامة بلا مغفرة،فقال‏:‏ ‏{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54 - 59‏]‏
فهذا إخبار أنه يوم القيامة يُعذِّب نفوسًا لم يغفر لها، كالتى كذبت بآياته واستكبرت وكانت من الكافرين، ومثل هذه الذنوب غفرها الله لآخرين لأنهم تابوا منها‏.‏
فإن قيل‏:‏ فقد قال تعالى‏:
‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏‏؟‏ قيل‏:‏ إن القرآن قد بيَّن توبة الكافر، وإن كان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏

 

ص -27-

‏{كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 86 - 89‏]‏، وقوله ‏:‏ ‏{كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ‏}‏ أى‏:‏ إنه لا يهديهم مع كونهم مرتدين ظالمين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏، فمن ارتد عن دين الإسلام لم يكن إلا ضالًا، لا يحصل له الهدى إلى أى دين ارتد‏.‏
والمقصود أن هؤلاء لا يهديهم الله ولا يغفر لهم إلا أن يتوبوا‏.‏
وكذلك قال في قوله‏:‏ ‏
{مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏، ومن كفر بالله من بعد إيمانه من غير إكراه فهو مرتد، قال‏:‏ ‏{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏‏.‏
وهو سبحانه في آل عمران ذكر المرتدين، ثم ذكر التائبين منهم، ثم ذكر من لا تقبل توبته،ومن مات كافرًا، فقال‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏90، 91‏]‏‏.‏ وهؤلاء الذين لا تقبل توبتهم قد ذكروا فيهم أقوالًا؛ قيل‏:‏ لنفاقهم،وقيل‏:‏

 

ص -28-

لأنهم تابوا مما دون الشرك ولم يتوبوا منه، وقيل‏:‏ لن تقبل توبتهم بعد الموت، وقال الأكثرون، كالحسن وقتادة وعطاء الخراسانى والسدى‏:‏ لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، فيكون هذا كقوله‏:‏ ‏{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وكذلك قوله‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏، قال مجاهد وغيره من المفسرين‏:‏ ازدادوا كفرًا ثبتوا عليه حتى ماتوا‏.‏
قلت‏:‏ وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفرًا بعد كفر، فقوله‏:‏
‏{ثُمَّ ازْدَادُواْ‏}‏ بمنزلة قول القائل‏:‏ ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لاتقبل توبتهم، وهى التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب ورجع عن كفره، فلم يزدد، بل نقص؛ بخلاف المُصِر إلى حين المعاينة، فما بقى له زمان يقع لنقص كفره فضلًا عن هدمه‏.‏
وفي الآية الأخرى قال‏:‏
‏{لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏، وذكر أنهم

 

ص -29-

آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرًا، قيل‏:‏ لأن المرتد إذا تاب غُفِرَ له كفره، فإذا كفر بعد ذلك ومات كافرًا حبط إيمانه، فعوقب بالكفر الأول والثاني، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، أنؤاخذ بما عَمِلْنا في الجاهلية‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر‏"‏، فلو قال‏:‏ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم، كان هؤلاء الذين ذكرهم في آل عمران فقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏، بل ذكر أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا بعد ذلك، وهو المرتد التائب، فهذا إذا كفر وازداد كفرًا لم يُغْفَرْ له كفره السابق أيضًا، فلو آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا فلا يدخلون في الآية‏.‏
والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت ردته، أو قبول توبة الزنديق، فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قُدِّر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله‏:‏
‏{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏
ونحن حقيقة قولنا أن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة،

 

ص -30-

لا شرعًا ولا قدرًا، والعقوبات التى تقام من حدٍّ، أو تعزير، إما أن يثبت سببها بالبينة، مثل قيام البينة بأنه زنا أو سرق أو شرب، فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها، ولو دُرِئ الحد بإظهار هذا لم يقم حد، فإنه كل من تقام عليه البينة يقول‏:‏ قد تُبت، وإن كان تائبًا في الباطن، كان الحد مكفرًا، وكان مأجورًا على صبره، وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائبًا، فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، وهى من مسائل التعليق، واحتج عليها القاضى بعدة أحاديث‏.‏ وحديث الذى قال‏:‏ ‏"‏أصبت حدًا فأقمه علىَّ، فأْقيمت الصلاة‏"‏ يدخل في هذا؛ لأنه جاء تائبًا، وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز والغامدية واختار إقامة الحد أقيم عليه، وإلاَّ فلا، كما في حديث ماعز‏:‏ ‏"‏فهلاَّ تركتموه‏؟‏‏"‏ ‏.‏ والغامدية ردها مرة بعد مرة‏.‏
فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا، ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه، كالذى يذنب سرًا، وليس على أحد أن يقيم عليه حدًا، لكن إذا اختار هو أن يعترف ويقام عليه الحد، أقيم، وإن لم يكن تائبًا، وهذا كقتل الذى ينغمس في العدو هو مما يرفع الله به درجته كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏
:‏ ‏"‏لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله‏؟‏‏"‏ ‏
وقد قيل في ماعز‏:‏ إنه رجع عن الإقرار، وهذا هو أحد القولين

 

ص -31-

فيه في مذهب أحمد وغيره، وهو ضعيف، والأول أجود‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار‏.‏ويقولون‏:‏ رجوعه عن الإقرار مقبول‏.‏ وهو ضعيف، بل فَرْقٌ بين من أقرَّ تائبًا، ومن أقرَّ غير تائب، فإسقاط العقوبة بالتوبة كما دلت عليه النصوص أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقًا، فالرجوع الذى هو فيه كاذب أَوْلَى‏.‏
آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين‏.

 

ص -32-

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى‏:‏ ‏{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، قال المفسرون‏:‏ مات من الفزع وشدة الصوت ‏{مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏ أخبرنا أبو الفتح محمد بن على الكوفي الصوفي، أنا أبو الحسن على بن الحسن التميمي، ثنا محمد بن إسحاق الرملي، ثنا هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن عَياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سأل جبريل عن هذه الآية‏:‏ ‏{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏، من الذي لم يشأ الله أن يصْعَقَهم‏؟‏ قال‏:‏ هم الشهداء متقلدين سيوفهم حول العرش‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء وابن عباس‏.‏ وقال مقاتل والسدي والكلبي‏:‏ هو جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت‏.‏ ‏{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ يعني‏:‏ الخلق كلهم قيام على أرجلهم ‏{يَنظُرُونَ‏}‏ ما يقال لهم، وما يؤمرون به‏.‏ هذا كلام الواحدي في كتاب ‏[‏الوسيط‏]‏ بَينُوا لنا

 

ص -33-

حقيقة الصُّعُوق، هل يطلق على الموت في حق المذكورين‏؟‏ وحقيقة الاستثناء‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتي الملائكة، وحتي عِزْرائِيل ملك الموت‏.‏ وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك، وقدرة الله عليه، وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم، ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب هذا العالم‏.‏
والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه‏:‏
‏{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26 - 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏‏.‏
والله سبحانه وتعالى قادر على أن يميتهم ثم يحييهم، كما هو قادر

 

ص -34-

علي إماتة البشر والجن، ثم إحيائهم، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن غير واحد من أصحابه أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة غشي‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏سمعت الملائكة كجر السلسلة على صفوان، فيصعقون،فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا‏:‏ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏الحق،فينادون‏:‏الحق، الحق‏"‏‏.‏
فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يصعقون صُعُوق الغشي، فإذا جاز عليهم صُعُوق الغشي جاز عليهم صعوق الموت، وهؤلاء المتفلسفة لا يجَوزون لا هذا ولا هذا، وصُعُوق الغشي هو مثل صعوق موسي عليه السلام قال تعالى‏:‏ ‏
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏
والقرآن قد أخبر بثلاث نَفْخات‏:‏
نفخة الفَزَع‏
:‏ ذكرها في سورة النمل في قوله‏:‏ ‏
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏
ونفخة الصعق والقيام‏:‏ ذكرهما في قوله‏:‏

 

ص -35-

‏{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏‏.‏
وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
‏"‏إن الناس يصْعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسي آخذًا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله‏؟‏‏"‏، وهذه الصعقة قد قيل‏:‏ إنها رابعة، وقيل‏:‏ إنها من المذكورات في القرآن، وبكل حال النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسي هل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا‏؟‏
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجزم بكل من استثناه الله لم يمكنا أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بقرب الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر‏.‏ والله أعلم‏.‏
وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليم

 

ص -36-

سورة الشورى
وقال الشيخ رحمه الله‏:‏
قد كتبْتُ بعض ما يتعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ إلي قوله‏:‏ ‏{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 36 - 43‏]‏، فمدَحَهم على الانتصار تارة وعلى الصبر أخرى‏.‏
والمقصود هنا أن الله لما حَمَدَهم على هذه الصفات؛ من الإيمان والتوكل، ومجانبة الكبائر، والاستجابة لربهم، وإقام الصلاة، والاشتوار في أمرهم، وانتصارهم إذا أصابهم البغي، والعفو والصبر، ونحو ذلك كان هذا دليلًا على أن ضد هذه الصفات ليس محمودًا، بل مذمومًا، فإن هذه الصفات مستلزمة لعدم ضدها؛ فلو كان ضدها محمودًا لكان عدم المحمود محمودًا، وعدم المحمود لا يكون محمودًا إلا أن يخلفه ما هو محمود؛ ولأن حمدها والثناء عليها طلب لها وأمر بها، ولو أنه أمر استحباب، والأمر بالشيء نهي عن ضده قصدًا أو لزوما، وضد الانتصار العجز، وضد الصبر الجَزَع؛ فلا خير في العجز ولا في الجَزَع كما نجده في حال كثير من الناس، حتي بعض المتدينين إذا ظلموا أو

 

ص -37-

أرادوا منكرًا فلا هم ينتصرون ولا يصبرون؛ بل يعجزون ويجزعون‏.‏
وفي سنن أبي داود، من رواية عوف بن مالك‏:‏ أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال المقضي عليه‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كُلٍّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن غلبك أمر فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏‏.‏ لا تعجز عن مأمور ولا تجزع من مقدور‏.‏
ومن الناس من يجمع كلا الشرين؛ فَأَمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب‏.‏ ونَهَي عن العجز، وقال‏:‏
‏"‏إن الله يلوم على العجز‏"‏، والعاجز ضد الذين هم ينتصرون، والأمر بالصبر والنهي عن الجزع معلوم في مواضع كثيرة‏.‏
وذلك لأن الإنسان بين أمرين‏:‏ أمر أُمِرَ بفعله، فعليه أن يفعله

 

ص -38-

ويحرص عليه، ويستعين الله ولا يعجز، وأمر أصيب به من غير فعله، فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه؛ ولهذا قال بعض العقلاء ابن المقفع أو غيره الأمر أمران‏:‏ أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه‏.‏ وأمر لا حيلة فيه لا تجزع منه‏.‏ وهذا في جميع الأمور، لكن عند المؤمن الذي فيه حيلة هو ما أمر الله به وأحبه له، فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له؛ إذ لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد أمره بكل خير فيه له حيلة، وما لا حيلة فيه هو ما أصيب به من غير فعله‏.‏
واسم الحسنات والسيئات يتناول القسمين، فالأفعال مثل قوله تعالى‏:‏ ‏
{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، ومثل قوله تعالى‏:‏‏{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏ الشورى‏:‏ 40‏]‏، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 81‏]‏، والمصائب المقدرة خيرها وشرها مثل قوله‏:‏ ‏{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏‏.‏ إلى آيات كثيرة من هذا الجنس‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -39-

سورة الزخرف
وقال‏:‏
فَصل
قوله‏:‏
‏{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 17‏]‏، يشبه قوله‏:‏ ‏{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏[‏الزخرف‏:‏ 57، 58‏]‏، فيشبه والله أعلم أن يكون ضَرب المثل أنهم جعلوا المسيح ابنه، والملائكة بناته، والولد يشبه أباه، فجعلوه لله شبيهًا ونظيرًا، أو يكون المعني في المسيح‏:‏ أنه مَثَلٌ لآلهتهم؛ لأنه عُبِدَ من دون الله‏.‏
فعلي الأول‏:‏ يكون ضاربه كضارب المثل للرحمن وهم النصارى والمشركون، وعلى الثاني‏:‏ يكون ضاربه هو الذي عارض به قوله
‏:‏ ‏{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏، فلما قال ابن الزِّبَعرَي‏:‏ لأخصمن محمدًا‏.‏ فعارضه بالمسيح وناقضه به، كان قد ضربه مثلا قاس الآلهة عليه، ويترجح هذا بقوله‏:‏ ‏{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا‏}‏، فَعُلِم أنهم هم الذين

 

ص -40-

ضربوه لا النصارى‏.‏
فإن ‏[‏المَثَلَ‏]‏ يقال على الأصل وعلى الفرع، و‏[‏المثل‏]‏ يقال على المفرد ويقال على الجملة التي هي القياس، كما قد ذكرت فيما تقدم أن ضرب المثل هو القياس؛ إما قياس التمثيل فيكون المثل هو المفرد، وإما قياس الشمول فيكون تسميته ضرب مثلٍ كتسميته قياسًا، كما بينته في غير هذا الموضع، من جهة مطابقة المعاني الذهنية للأعيان الخارجية ومماثلتها لها، ومن جهة مطابقة ذلك المفرد المعين للمعني العام الشامل للأفراد، ولسائر الأفراد؛ فإن الذهن يرتسم فيه معني عام يماثل الفرد المعين، وكل فرد يماثل الآخر، فصار هذا المعني يماثل هذا، وكل منهما يماثل المعني العام الشامل لهما‏.‏
وبهذا والله أعلم سمي ضرب مثل وسمي قياسًا، فإن الضرب‏:‏ الجمع، والجمع في القلب واللسان، وهو العموم والشمول، فالجمع والضرب والعموم والشمول في النفس معني ولفظًا، فإذا ضرب مثلا فقد صيغ عمومًا مطابقًا، أو صيغ مفردًا مشابهًا، فتدبر هذا فإنه حسن إن شاء الله‏.‏
ولك أن تقول‏:‏ كل إخبار بمَثَلٍ صوره المخبر في النفس، فهو ضرب

 

ص -41-

مَثَلٍ؛ لأن المتكلم جمع مثلا في نفسه ونفس المستمع بالخبر المطابق للمُخبِر، فيكون المثل هو الخبر وهو الوصف، كقوله‏:‏ ‏{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73‏]‏‏.‏
وبَسْطُ هذا اللفظ واشتماله على محاسن الأحكام والأدلة قد ذكرته في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -42-

سورة الأحقَاف
سأل رجل آخر عن قوله تعالى‏:‏ ‏{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12‏]‏، فقال‏:‏ ما سمعنا بنص القرآن والحديث أن ما قبل كتابنا إلا الإنجيل، فقال الآخر‏:‏ عيسي إنما كان تبعًا لموسي، والإنجيل إنما فيه توسع في الأحكام، وتيسير مما في التوراة، فأنكر عليه رجل وقال‏:‏ كان لعيسي شرع غير شرع موسي، واحتج بقوله‏:‏ ‏{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، قال‏:‏ فما الحكم في قوله‏:‏ ‏{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 6‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ ليست هذه حُجَّة‏.‏
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
قد أخبر الله في القرآن أن عيسي قال لهم‏:‏ ‏
{وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏، فَعُلِمَ أنه أحل البعض دون الجميع، وأخبر عن المسيح أنه عَلَّمَه التوراة والإنجيل بقوله‏:‏ ‏{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 48‏]‏‏.‏
ومن المعلوم أنه لولا أنه مُتَّبِعٌ لبعض ما في التوراة لم يكن تَعَلُّمُها

 

ص -43-

له منة، ألا تري أنا نحن لم نؤمر بحفظ التوراة والإنجيل، وإن كان كثيرا من شرائع الكتابين يوافق شريعة القرآن، فهذا وغيره يبين ما ذكره علماء المسلمين من أن الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلة، وأكثر الأحكام يتَّبِعُ فيها ما في التوراة؛وبهذا يحصل التغاير بين الشرعتين‏.‏
ولهذا كان النصارى متفقين على حفظ التوراة وتلاوتها، كما يحفظون الإنجيل؛ ولهذا لما سمع النجاشي القرآن، قال‏:‏ إن هذا والذي جاء به موسي ليخرج من مشكاة واحدة، وكذلك ورقة بن نوفل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه قال ‏:‏ هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسي‏.‏
وكذلك قالت الجن‏:‏ ‏
{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ أي‏:‏ موسي ومحمد، وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏{سِحْرَانِ تَظَاهَرَا‏}‏ أي‏:‏ التوراة والقرآن‏.‏
وكذلك قال‏:‏ ‏
{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ‏}‏

 

ص -44-

إلى قوله‏:‏ ‏{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91، 92‏]‏، فهذا وما أشبهه مما فيه اقتران التوراة بالقرآن وتخصيصها بالذكر يبين ما ذكروه من أن التوراة هي الأصل، والإنجيل تَبَعٌ لها في كثير من الأحكام، وإن كان مغايرًا لبعضها‏.‏
فلهذا يذْكَرُ الإنجيل مع التوراة والقرآن في مثل قوله‏:‏
‏{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 2، 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، فيذكر الثلاثة تارة، ويذكر القرآن مع التوراة وحدها تارة؛ لسر، وهو‏:‏ أن الإنجيل من وجه‏:‏ أصل، ومن وجه‏:‏ تبع؛ بخلاف القرآن مع التوراة؛ فإنه أصل من كل وجه، بل هو مهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وإن كان موافقًا للتوراة في أصول الدين، وكتبه من الشرائع‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -45-

سورة ق
سُئل رحمه الله عن قوله‏:
‏ ‏{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏، ما المزيد ‏؟‏
فأجاب‏:‏
قد قيل‏:‏ إنها تقول‏:‏
‏{هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ ليس في مُحْتَمَلٌ للزيادة‏.‏ والصحيح‏:‏ أنها تقول‏:‏ ‏{هّلً مٌن مَّزٌيد ‏}‏ على سبيل الطلب، أي‏:‏ هل من زيادة تزاد في‏؟‏ والمزيد ما يزيده الله فيها من الجن والإنس، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تزال جهنم يلقْي فيها وتقول‏:‏ هل من مزيد‏؟‏ حتي يضع رب العزة فيها قدمه‏"‏‏.‏ ويروي‏:‏ ‏"‏عليها قدمه فَينزوِي بعضها إلى بعض وتقول‏:‏ قط قط‏"‏‏.‏
فإذا قالت‏:‏ حسبي حسبي، كانت قد اكتفت بما أُلْقِي فيها، ولم تقل بعد ذلك‏:‏ هل من مزيد، بل تمتلئ بما فيها لانزواء بعضها إلى بعض، فإن الله يضَيقُها على من فيها لسعتها، فإنه قد وعدها ليملأنها

 

ص -46-

 من الجِنَّة والناس أجمعين، وهي واسعة فلا تمتلئ حتي يضيقها على من فيها‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏وأما الجنة‏:‏ فإن الله ينشئ لها خلقًا فيدخلهم الجنة‏"‏‏.‏ فبين أن الجنة لا يضيقها سبحانه بل ينشئ لها خلقًا فيدخلهم الجنة؛ لأن الله يدخل الجنة من لم يعمل خيرًا؛ لأن ذلك من باب الإحسان‏.‏ وأما العذاب بالنار‏:‏ فلا يكون إلا لمن عصي، فلا يعذب أحدًا بغير ذنب‏.‏ والله أعلم ‏.‏

 

ص -47-

 سورة المجادلة
وقال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
فصل

قوله تعالى‏:‏
‏{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏، خص سبحانه رَفْعَه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، وهم الذين استشهد بهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وأخبر أنهم هم الذين يرَون ما أنزل إلى الرسول، هو الحق بقوله تعالى‏:
‏ ‏{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 6‏]‏، فدلَّ على أن تَعَلُّم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏
قال زيد بن أسلم‏:‏ بالعلم‏.‏ فَرَفعُ الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان، فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة

 

ص -48-

 منهم، وأرفع قدرًا في قلوب الأمة، فهذا كُرْز بن وَبرَة ‏[‏هو كرز بن وبرة الحارثي، أبو عبد الله، تابعي، من أهل الكوفة، يضرب به المثل في التعبد، دخل جرجان غازيا مع يزيد بن المهلب سنة 98ه‏.‏ ثم سكنها، وتوفي بها سنة 728م‏]‏، وكَهْمَس، وابن طارق، يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع‏.‏
وكذلك ترى كثيرًا ممن لبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره ممن لا يدانيه في ذلك من أهل العلم والإيمان أعظم في القلوب، وأحلي عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعاملة الباطنة وصفائها، وخُلُوصَها من شهوات النفوس، وأكدار البشرية، وطهارتها من القلوب التي تكدر معاملة أولئك، وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول،وكمال تصديقه في قلوبهم، ووده ومحبته، وأن يكون الدين كله لله، فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏‏.‏ ففضل الله ورحمته‏:‏ القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مَفرُوح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه‏.‏
فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل مُحِب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا

 

ص -49-

 في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف‏.‏
هذا في باب معرفة الأسماء والصفات‏.‏ وأما في باب فهم القرآن فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قَبِلَه، وإلا رده، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه‏.‏
ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك‏.‏ فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق ب
‏{أأنذرتهم‏}‏، وضم الميم من ‏{عليهم‏}‏ ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك‏.‏ وكذلك مراعاة النغم، وتحسين الصوت‏.‏
وكذلك تتبع وجوه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان‏.‏

 

ص -50-

 وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم‏.‏
وكذلك تأويل القرآن على قول من قَلَّدَ دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق، حتي يجعل القرآن تبعًا لمذهبه، وتقوية لقول إمامه، وكلٌّ محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك أو أكثره‏.‏
وكذلك يظن من لم يقدر القرآن حق قدره، أنه غير كاف في معرفة التوحيد، والأسماء والصفات، وما يجب لله وينزه عنه، بل الكافي في ذلك‏:‏ عقول الحيارى والمُتَهَوِّكين ‏[‏المتهوكون‏:‏ المتحيرون‏]‏ الذين كل منهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة‏.‏ وهؤلاء أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله تعالى‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

ص -51-

سورة الطلاق
وقال‏:‏
فصل
وأما قوله‏:‏ ‏
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، فقد بين فيها‏:‏ أن المتقي يدفع الله عنه المضرة، بما يجعله له من المخرج، ويجلب له من المنفعة، بما ييسره له من الرزق، والرزق اسم لكل ما يغتَذي به الإنسان، وذلك يعم رزق الدنيا ورزق الآخرة‏.‏ وقد قال بعضهم‏:‏ ما افتقر تقي قط، قالوا‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله يقول‏:‏ ‏{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏.‏
وقول القائل‏:‏ قد نري من يتقي وهو محروم‏.‏ ومن هو بخلاف ذلك وهو مرزوق‏.‏
فجوابه‏:‏أن الآية اقتضت أن المتقي يرزق من حيث لا يحتسب،ولم تدل على أن غير المتقي لا يرزق، بل لابد لكل مخلوق من الرزق، قال الله تعالى‏
:‏‏{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏6‏]‏ حتى

 

ص -52-

 إن ما يتناوله العبد من الحرام هو داخل في هذا الرزق، فالكفار قد يرزقون بأسباب محرمة، ويرزقون رزقا حسنًا، وقد لا يرزقون إلا بتكلف، وأهل التقوي يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون،ولا يكون رزقهم بأسباب محرمة،ولا يكون خبيثًا، والتَّقِي لا يحرم ما يحتاج إليه من الرزق، وإنما يحمَى من فضول الدنيا، رحمة به وإحسانًا إليه،فإن توسيع الرزق قد يكون مضرة على صاحبه، وتقديره يكون رحمة لصاحبه‏.‏
قال تعالى‏:‏
‏{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 15 - 17‏]‏ أي‏:‏ ليس الأمر كذلك، فليس كل من وسع عليه رزقه يكون مكرمًا، ولا كل من قُدِرَ عليه رزقه يكون مهانًا، بل قد يوسع عليه رزقه إملاء واستدراجا، وقد يقدر عليه رزقه حماية وصيانة له، وضيق الرزق على عبد من أهل الدين قد يكون لما له من ذنوب وخطايا، كما قال بعض السلف‏:‏ إن العبد لَيحرَم الرزق بالذنب يصيبه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏"‏‏.‏
وقد أخبر الله تعالى أن الحسنات يذهِبن السيئات، والاستغفار سبب للرزق والنعمة، وأن المعاصي سبب للمصائب والشدة، فقال تعالى‏:‏

 

ص -53-

 ‏{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16، 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ‏}‏‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏42، 43‏]‏‏.‏
وقد أخبر الله تعالى في كتابه‏:‏ أنه يبتلي عباده بالحسنات والسيئات؛ فالحسنات هي النعم، والسيئات هي المصائب؛ ليكون العبد صَبَّارًا شكورًا‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده‏!‏ لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له‏"‏‏.‏

 

ص -54-

وقال أيضًا‏:‏
فصل
قال الله تعالى‏:‏
‏{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏ قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{مَخْرَجًا‏}‏ عن بعض السلف‏:‏ أي من كل ما ضاق علي الناس، وهذه الآية مطابقة لقوله‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها؛ وذلك أن التقوي هي العبادة المأمور بها، فإن تقوي الله وعبادته وطاعته أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقي الله مثال‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، ومن يتوكل علي الله مثال‏:‏ ‏{وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقال‏:‏‏{عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏‏.‏
ثم جعل للتقوي فائدتين‏:‏ أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من

 

ص -55-

حيث لا يحتسب‏.‏ والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق، كما قال‏:‏ ‏{أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏ بدعائهم، وصلاتهم، واستغفارهم‏"‏ هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة‏.‏
وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي‏:‏ كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال‏:‏
‏{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ خلافا لمن قال‏:‏ ليس في التوكل إلا التفويض والرضا‏.‏ ثم إن الله بالغ أمره، ليس هو كالعاجز، ‏{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏ وقد فسروا الآية بالمخرج من ضيق الشبهات بالشاهد الصحيح، والعلم الصريح، والذوق، كما قالوا‏:‏ يعلمه من غير تعليم بَشَرٍ، ويفطنه من غير تجربة، ذكره أبو طالب المكي، كما قالوا في قوله‏:‏‏{إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏29‏]‏ أنه نور يفرق به بين الحق والباطل، كما قالوا‏:‏ بصرًا، والآية تعم المخرج من الضيق الظاهر والضيق الباطن، قال تعالى‏:‏ ‏{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وتعم ذوق الأجساد وذوق القلوب، من العلم والإيمان، كما قيل مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏، وهو القرآن والإيمان‏.‏

 

ص -56-

سُورَة التحْريم
وَسُئِلَ رحمَهُ الله عن قوله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ هل هذا اسم رجل كان علي عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا‏؟‏ وإيش معنى قوله‏:‏ ‏{نَّصُوحًا‏}‏‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ‏:‏ التوبة النصوح‏:‏ أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه، و‏"‏نصوح‏"‏ هي صفة للتوبة، وهي مشتقة من النصح والنصيحة‏.‏
وأصل ذلك هو الخُلُوص‏.‏ يقال‏:‏ فلان ينصح لفلان، إذا كان يريد له الخير إرادة خالصة لا غش فيها، وفلان يغشه، إذا كان باطنه يريد السوء، وهو يظهر إرادة الخير كالدرهم المغشوش، ومنه قوله تعالى‏:‏
‏{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ أي‏:‏ أخلصوا لله ورسوله قَصْدَهم وحبَّهم‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ‏:‏

 

ص -57-

 ‏"‏الدين النصيحة، ثلاثا‏"‏ قالوا‏:‏ لمن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم‏"‏‏.‏
فإن أصل الدين هو حُسْن النية، وإخلاص القصد؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثلاث لايغِلُّ عليهن قلبُ مسلم‏:‏ إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم، تحيط من ورائهم‏"‏ أي‏:‏ هذه الخصال الثلاث لايحقد عليها قلب مسلم بل يحبها ويرضاها‏.‏
فالتوبة النصوح‏:‏ هي الخالصة من كل غش، وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب، فهذه التوبة النصوح، وهي واجبة بما أمر الله تعالى، ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب، قَبِلَ الله توبته الأولي، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب، تاب الله عليه أيضًا‏.‏ ولايجوز للمسلم إذا تاب، ثم عاد أن يصِرَّ، بل يتوب، ولو عاد في اليوم مائة مرة، فقد روي الإمام أحمد في مسنده، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"
‏إن الله يحب العبد المفتَّن التواب‏"‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار‏"‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة‏"‏‏.‏

 

ص -58-

ومن قال من الجهال‏:‏ إن ‏[‏نصوح‏]‏ اسم رجل كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أُمِر الناس أن يتوبوا كتوبته، فهذا رجل مفتر كذاب، جاهل بالحديث والتفسير، جاهل باللغة ومعاني القرآن، فإن هذا امرؤ لم يخلقه الله تعالى، ولا كان في المتقدمين أحد اسمه نصوح، ولا ذكر هذه القصة أحد من أهل العلم، ولو كان كما زعم الجاهل، لقيل‏:‏ توبوا إلى الله تَوْبةَ نصوح، وإنما قال‏:‏ ‏{تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ والنصوح‏:‏ هو التائب‏.‏ ومن قال‏:‏ إن المراد بهذه الآية رجل، أو امرأة اسمه نصوح، وإن كان علي عهد عيسي أو غيره، فإنه كاذب، يجب أن يتوب من هذه، فإن لم يتب وجبت عقوبته بإجماع المسلمين‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -59-

 سورة الملك
وقال رَحِمهُ الله تعالى ‏:‏
قوله تعالى‏:‏
‏{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، دلت علي علمه بالأشياء من وجوه تضمنت البراهين المذكورة لأهل النظر العقلي‏:‏
أحدها‏:‏ أنه خالق لها، والخلق هو الإبداع بتقدير، فتضمن تقديرها في العلم قبل تكوينها‏.‏
الثاني‏:‏ أنه مستلزم للإرادة والمشيئة؛ فيلزم تصور المراد‏.‏ وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام‏.‏
الثالث‏:‏ أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بالأصل يوجب العلم بالفرع، فعلمه بنفسه، يستلزم علم كل ما يصدر عنه‏.‏
الرابع‏:‏ أنه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو المقتضي للعلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضي لوجود السبب التام‏.‏

 

ص -60-

سُورَة القَلم
وقال شيخ الإِسلاَم رَحِمهُ الله ‏:‏
فصل

سورة ‏[‏ن‏]‏‏:‏ هي سورة ‏[‏الخُلُقِ‏]‏، الذي هو جماع الدين الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى فيها‏:‏ ‏{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 4‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ علي دين عظيم‏.‏ وقاله ابن عُيينَةَ، وأخذه أحمد عن ابن عيينة‏.‏ فإن الدين والعادة والخُلُقَ ألفاظ متقاربة المعني في الذات، وإن تنوعت في الصفات، كما قيل في لفظ الدين‏:‏ فهذا دينه أبدًا وديني‏.‏
وجمع بعض الزنادقة بينهما في قوله‏:‏

 ما الأَمْرُ إلا نَسْقٌ واحد

 ما فيه من مدحٍ ولا ذمِّ

 وإنما العادة قد خُصِّصَت

 والطبع والشارع بالحكمِ

ص -61-

[‏ن‏]‏‏:‏ أقسم سبحانه بالقلم وما يسطرون؛فإن القلم به يكون الكتاب الساطر للكلام، المتضمن للأمر والنهي والإرادة، والعلم المحيط بكل شيء، فالإقسام وقع بقلم التقدير ومسطوره، فتضمن أمرين عظيمين تُنَاسِب المقْسَم عليه‏:‏
أحدهما‏
:‏ الإحاطة بالحوادث قبل كونها، وأن من علم بالشيء قبل كونه أبلغ ممن علمه بعد كونه، فإخباره عنه أحكم وأصدق‏.‏
الثاني‏:‏ أن حصوله في الكتابة والتقدير يتضمن حصوله في الكلام والقول والعلم من غير عكس؛ فإقسامه بآخر المراتب العلمية يتضمن أولها من غير عكس، وذلك غاية المعرفة واستقرار العلم إذا صار مكتوبا‏.‏ فليس كل معلوم مقولا، ولا كل مقول مكتوبا، وهذا يبين لك حكمة الإخبار عن القدر السابق بالكتاب دون الكلام فقط، أو دون العلم فقط‏.‏
والمقْسَم عليه ثلاث جمل‏:‏
‏{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏، ‏{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 3‏]‏، ‏{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ سلب عنه النقص الذي يقدح فيه، وأثبت له الكمال المطلوب في الدنيا والآخرة، وذلك أن الذي أتي به إما أن يكون حقًا أو باطلًا، وإذا كان باطلا فإما أن يكون مع العقل أو عدمه، فهذه الأقسام الممكنة في نظائر هذا‏.‏

 

ص -62-

لأول‏:‏ أن يكون باطلا ولا عقل له، فهذا مجنون لا ذم عليه ولا يتبع‏.‏
الثاني‏:‏ أن يكون باطلا وله عقل، فهذا يستحق الذم والعقاب‏.‏
الثالث‏:‏ أن يكون حقًا مع العقل، فنفي عنه الجنون أوَّلا، ثم أثبت له الأجر الدائم الذي هو ضد العقاب، ثم بين أنه علي خلق عظيم، وذلك يبين عِظَمَ الحق الذي هو عليه بعد أن نفي عنه البطلان‏.‏
وأيضًا، فالناس نوعان‏:‏ إما معذب، وإما سليم منه‏.‏ والسليم ثلاثة أقسام‏:‏ إما غير مكلف، وإما مكلف قد عمل صالحا‏:‏ مقتصدًا، وإما سابق بالخيرات‏.‏ فجعل القسم مرتبًا علي الأحوال الثلاثة ليبين أنه أفضل قِسْم السعداء، وهذا غاية كمال السابقين بالخيرات، وهذا تركيب بديع في غاية الإحكام‏.‏
ثم قال‏:‏
‏{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ‏}‏ الآيات ‏[‏القلم‏:‏ 8‏]‏ ؛ فتضمن أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه نهاه عن طاعة هذين الضربين، فكان فيه فوائد‏:‏
منها‏:‏ أن النهي عن طاعة المرء، نهي عن التشبه به بالأولى، فلا

 

ص -63-

 يطاع المكذب والحلاف، ولا يعمل بمثل عملهما، كقوله‏:‏ ‏{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ وأمثاله، فإن النهي عن قبول قول من يأمر بالخُلُقِ الناقص أبلغ في الزجر من النهي عن التخلق به‏.‏
ومنها‏:‏ أن ذلك أبلغ في الإكرام والاحترام، فإن قوله‏:‏ لاتكذب، ولا تحلف، ولا تشتم، ولا تهمز، ليس هو مثل قوله‏:‏ لا تطع من يكون متلبسًا بهذه الأخلاق؛ لما فيه من تشريفه وبراءته‏.‏
ومنها‏:‏ أن الأخلاق مكتسبة بالمعاشرة؛ ففيه تحذير عن اكتساب شيء من أخلاقهم بالمخالطة لهم، فليأخذ حذره، فإنه محتاج إلى مخالطتهم لأجل دعوتهم إلى الله تعالى‏.‏
ومنها‏:‏ أنهم يبْدُون مصالح فيما يأمرون به، فلا تطع من كان هكذا ولو أبداها، فإن الباعث لهم علي ما يأمرون به هو ما في نفوسهم من الجهل والظلم، وإذا كان الأصل المقْتَضِي للأمر فاسدًا، لم يقبل من الآمر، فإن الأمر مداره علي العلم بالمصلحة وإرادتها، فإذا كان جاهلا لم يعلم المصلحة، وإذا كان الخلق فاسدًا لم يردها؛ وهذا معني بليغ‏.‏

 

ص -64-

 الأصل الثاني‏:‏ أنه ذكر قسمين‏:‏ المكذبين، وذوي الأخلاق الفاسدة، وذلك لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن المأمور به هو الإيمان والعمل الصالح، فضده التكذيب والعمل الفاسد‏.‏
والثاني‏:‏ أن المؤمنين مأمورون بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فكما أنا مأمورون بقبول هذه الوصية والإيصاء بها، فقد نهينا عن قبول ضدها، وهو التكذيب بالحق والترك للصبر، فإن هذه الأخلاق إنما تحصل لعدم الصبر، والصبر ضابط الأخلاق المأمور بها؛ ولهذا ختم السورة به، وقال‏:
‏‏{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 35‏]‏ فكان في سورة العصر ما بَين هنا، فنهاه عن طاعة الذي في خسر، ضد الذي للمؤمنين الآمرين بالحق والصبر، والذي في خسر هو الكذاب المهين، فهو تارك للحق والصبر‏.‏
الأصل الثالث‏:‏ أن صلاح الإنسان في العلم النافع والعمل الصالح، وهو الكَلِم الطيب الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح جماع العدل، وجماع ما نهي الله عنه الناس هو الظلم، كما قرر في غير هذا، قال تعالى‏:‏
‏{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏72‏]‏‏.‏والتكذيب بالحق صادر إما عن جهل،وإما عن ظلم وهو الجاحد

 

ص -65-

 المعاند، وصاحب الأخلاق الفاسدة إنما يوقعه فيها أحد أمرين‏:‏ إما الجهل بما فيها وما في ضدها فهذا جاهل، وإما الميل والعدوان وهو الظلم، فلا يفعل السيئات إلا جاهل بها، أو محتاج إليها متلذذ بها وهو الظالم، فنهاه عن طاعة الجاهلين والظالمين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ‏}‏ الآية ‏[‏القلم‏:‏ 9‏]‏ أخبر أنهم يحبون إدْهَانَه ليدهنوا، فهم لا يأمرونه نصحًا، بل يريدون منه الإدهان، ويتوسلون بإدهانِه إلى إدهانهم، ويستعملونه لأغراضهم في صورة الناصح؛ وذلك لما نشأ من تكذيبهم بالحق، فإنه لم يبق في قلوبهم غاية ينتهون إليها من الحق؛ لا في الحق المقصود، ولا الحق الموجود، لا خبرًا عنه، ولا أمرًا به، ولا اعتقادًا، ولا اقتصادًا‏.‏
ثم قال‏:‏
‏{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏10‏]‏ إلخ، ذكر أربع آيات كل آيتين جمعت نوعًا من الأخلاق الفاسدة المذمومة، وجمع في كل آية بين النوع المتشابه خبرًا وطلبًا، فالحلاف مقرون بالمهين؛ لأن الحلاف هو كثير الحلف، وإنما يكون علي الخبر أو الطلب، فهو إما تصديق أو تكذيب، أو حض أو منع، وإنما يكثر الرجل ذلك في خبره إذا احتاج أن يصدق ويوثق بخبره‏.‏ ومن كان كثير الحلف كان كثير الكذب في العهد، محتاجًا إلى الناس، فهو من أذل الناس ‏{حَلَّافٍ مَّهِينٍ ‏}‏‏:‏ حلاف في أقواله، مهين في أفعاله‏.‏

 

ص -66-

 وأما الهماز المشاء بنميم‏:‏ فالهمز أقوي من اللمز وأشد سواء كان همز الصوت أو همز حركة ومنه‏:‏ ‏[‏الهَمْزةُ‏]‏‏:‏ وهي نبرة من الحلق مثل التهوع، ومنه الهمز بالعقب، كما في حديث زمزم‏:‏ ‏"‏أنه هَمَزَ جبريل بعقبه‏"‏ والفعال‏:‏ مبالغة في الفاعل، فالهماز‏:‏ المبالغ في العيب نوعا وقدرًا‏.‏ القدرة من صورة اللفظ، وهو الفعال، والنوع من مادة اللفظ وهو الهمزة، والمشاء بنميم هو من العيب، ولكنه عيب في القفا، فهو عيب الضعيف العاجز، فذكر العياب بالقوة، والعياب بالضعفِ، والعياب في مشهد، والعياب في مغيب‏.‏
وأما ‏
{مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 12‏]‏ فإن الظلم نوعان‏:‏ ترك الواجب وهو منع الخير، وتَعَدٍ علي الغير وهو المعتدي‏.‏ وأما الأثيم مع المعتدي فكقوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وأما العُتُلّ الزَّنيم‏:‏ فهو الجبار، الفظ الغليظ، الذي قد صار من شدة تجبره وغلظه معروفا بالشر، مشهورًا به، له زَنَمة كزَنَمَة الشاة‏.‏
ويشبه والله أعلم أن يكون الحلاف المهين الهماز المشاء بنميم من جنس واحد، وهو في الأقوال وما يتبعها من الأفعال، والمنَّاع المعتدي الأثيم العتل الزنيم من جنس، وهو في الأفعال وما يتبعها من الأقوال‏.‏ فالأول‏:‏ الغالب على جانب الأعراض، والثاني‏:‏ الغالب على

 

ص -67-

 جانب الحقوق في الأحوال والمنافع ونحو ذلك‏.‏ووصفه بالظلم والبخل والكبر، كما في قوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 16‏]‏، فيه إطلاق يتضمن الوَسْمَ في الآخرة وفي الدنيا أيضًا، فإن الله جعل للصالحين سِيمًا، وجعل للفاجرين سيما، قال تعالى‏:‏ ‏{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وقال يظهر‏:‏ ‏{وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏محمد‏:‏ 30‏]‏‏.‏ فجعل الإرادة والتعريف بالسيما الذي يدرك بالبصر معلقًا علي المشيئة، وأقسم علي التعريف في لحن القول، وهو الصوت الذي يدرك بالسمع، فدل علي أن المنافقين لابد أن يعرفوا في أصواتهم وكلامهم الذي يظهر فيه لحن قولهم،وهذا ظاهر بَين لمن تأمله في الناس، من أهل الفراسة في الأقوال وغيرها مما يظهر فيها من النواقض والفحش وغير ذلك‏.‏
وأما ظهور ما في قلوبهم علي وجوههم فقد يكون وقد لا يكون، ودل علي أن ظهور ما في باطن الإنسان علي فلتات لسانه أقوي من ظهوره علي صَفْحَات وجهه؛ لأن اللسان ترجمان القلب، فإظهاره لما أَكَنَّه أَوكَد؛ ولأن دلالة اللسان قالية، ودلالة الوجه حالية، والقول أجمع وأوسع للمعاني التي في القلب من الحال؛ ولهذا فَضَّلَ من فَضَّل كابن قتيبة وغيره السمعَ علي البصر‏.‏

 

ص -68-

 والتحقيق أن السمع أوسع،والبصر أخص وأرفع، وإن كان إدراك السمع أكثر، فإدراك البصر أكمل؛ ولهذا أقسم أنه لابد أن يدركهم بسمعه، وأما إدراكه إياهم بالبصر بسيماهم فقد يكون وقد لا يكون‏.‏ فأخبر سبحانه أنه لابد أن يسِمَ صاحب هذه الأخلاق الخبيثة علي خرطومه، وهو أنفه الذي هو عضوه البارز، الذي يسبق البصر إليه عند مشاهدته؛ لتكون السيما ظاهرة من أول ما يري، وهذا ظاهر في الفَجَرَة الظَّلَمَة، الذين وَدَعَهم الناس اتقاء شرهم وفحشهم؛ فإن لهم سيما من شر يعرفون بها‏.‏ وكذلك الفسقة وأهل الريب‏.‏
وقوله‏:‏
‏{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ‏}‏ إلخ ‏[‏القلم‏:‏ 17‏]‏، فيه بيان حال البخلاء، وما يعاقبون به في الدنيا قبل الآخرة من تلف الأموال، إما إغراقا، وإما إحراقا، وإما نهبًا، وإما مصادرة، وإما في شهوات الغي، وإما في غير ذلك مما يعاقب به البخلاء، الذين يمنعون الحق‏.‏ وليس إقدام في صنايع المعروف، وهو قوله‏:‏ ‏{مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ‏} ‏[‏القلم‏:‏ 12‏]‏، وهو أحد نوعي الظلم، كما أخبروا به عن نفوسهم في قولهم‏:‏ ‏{يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 31‏]‏، وكما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَطْلُ الغَني ظلم‏"‏‏.‏
وتضمن عقوبة الظالم المانع للحق،أو متعدي الحق،كما يعاقب الله مانع الزكاة وهو مناع الخير، وآكل الربا والميسِر‏:‏الذي هو أكل المال بالباطل، وكل منهما أخبر الله في كتابه أنه يعاقبه بنقيض

 

ص -69-

 قصده،فهنا‏:‏أخبر بعقوبة تارك الحقوق،وفي البقرة‏:‏ بعقوبة المرابي، وهذه العقوبة تتناول من يترك هذا الواجب، وفعل هذا المحرم من المحتالين،كما أخبر في هذه السورة،وكما هو المشَاهَد في أهل منع الحقوق المالية،والحِيل الربوية،من العقوبات والمثلات‏.‏
فإنه سبحانه إذا أنعم علي عبد بباب من الخير، وأمره بالإنفاق فيه فبخل، عاقبه بباب من الشر، يذهب فيه أضعاف ما بخل به، وعقوبته في الآخرة مدَّخَرة، ثم أتْبَعَ ذلك بعقوبة المتكبر الذي هو من نوع العتل الزنيم، الذي يدعَي إلى السجود والطاعة فيأبي، ففيها عقوبة تارك الصلاة، وتارك الزكاة؛ فتارك الصلاة‏:‏ هو المعتدي الأثيم، العتل الزنيم‏.‏ وتارك الزكاة‏:‏ الظالم البخيل‏.‏
وختمها بالأمر بالصبر، الذي هو جماع الخلق العظيم في قوله‏:‏
‏{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏48‏]‏، وذلك نص في الصبر علي ما يناله من أذي الخلق، وعلي المصائب السماوية‏.‏ والصبر علي الأول أشد، وصاحب الحوت ذهب مغاضبا لربه لأجل الأمر السماوي؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ‏} إلخ ‏[‏القلم‏:‏ 51‏]‏ فآخرها منعطف علي أول ما في قوله‏:‏ ‏{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 51‏]‏، والإزلاق بالبصر‏:‏هو الغاية في البغض، والغضب، والأذي‏.‏ فالصبر

 

ص -70-

 علي ذلك نوع من الحلم،وهو احتمال أذي الخلق، وفي ذلك ما يدفع كيدهم وشرهم‏.‏
وما ذكره في قصة أهل الجنة من أمر السخاء والجود، وما ذكره هنا من الحلم والصبر‏:‏ هو جماع الخلق الحسن، كما جمع بينهما في قوله‏:‏ ‏
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏، كما قيل‏:‏

 بحلمٍ وَبَذْلٍ سَادَ في قومه الفتى

 وَكَونُك إياه عَلَيكَ يسِيرُ

فالإحسان إلى الناس بالمال والمنفعة واحتمال أذاهم، كالسخاء المحمود، كما جمع بينهما في قوله‏:‏ ‏{الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏، ففي أخذه العفو من أخلاقهم احتمال أذاهم، وهو نوعان‏:‏ ترك ما لك من الحق عليهم، فأخذ العفو‏:‏ ألا تطلب ما تركوه من حقك، وألا تنهاهم فيما تعدوا فيه الحد فيك، وإذا لم تأْمُرْهم ولم تَنْهَهم فيما يتعلق‏.‏

ص -71-

 وقال‏:‏
هذه تفسير آيات أشكلت حتي لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها‏.‏
منها‏:‏ قوله‏:‏ ‏
{بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 6‏]‏، حَارَ فيها كثير، والصواب المأثور عن السلف؛ قال مجاهد‏:‏ الشيطان‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هم أولي بالشيطان من نبي الله‏.‏ فَبَين المراد، فإنه يتكلم علي اللفظ كعادة السلف في الاختصار مع البلاغة وفهم المعني‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ المجنون، فإن من كان به الشيطان ففيه الجنون‏.‏ وعن الحسن‏:‏ الضال‏.‏ وذلك أنهم لم يريدوا بالمجنون الذي يخرق ثيابه ويهذي، بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم خالف أهل العقل في نظرهم، كما يقال‏:‏ ما لفلان عَقْلٌ‏.‏
ومثل هذا رموا به أتباع الأنبياء كقوله‏:‏ ‏
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 32‏]‏، ومثله في هذه الأمة كثير يسخرون من المؤمنين، ويرمونهم بالجنون والعظائم التي هم أولي بها منهم‏.‏ قال الحسن‏:‏ لقد رأيت رجالا لو رأيتموهم لقلتم‏:‏ مجانين، ولو رأوكم لقالوا‏:‏ هؤلاء شياطين، ولو رأوا خياركم لقالوا‏:‏ هؤلاء لا خلاق لهم، ولو رأوا شراركم‏:‏ لقالوا‏:‏ هؤلاء قوم لا يؤمنون

 

ص -72-

 بيوم الحساب‏.‏ وهذا كثير في كلام السلف، يصفون أهل زمانهم وما هم عليه من مخالفة من تقدم، فما الظن بأهل زماننا‏؟‏‏!‏
والذين لم يفهموا هذا قالوا‏:‏ الباء‏:‏ زائدة، قاله ابن قتيبة وغيره‏.‏وهذا كثير كقوله‏:‏
‏{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 26‏]‏، ‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ‏}‏ الآيات ‏[‏الشعراء‏:‏ 221‏]‏‏.‏ ‏{إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ‏}‏ الآية ‏[‏هود‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

 

ص -73-

وقال‏:‏
فصل تفسير سورة عبس
ولجماعة من الفضلاء كلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34، 35‏]‏، لِمَ ابتدأ بالأخ ومن عادة العرب أن يبْدَأ بالأهم‏؟‏ فلما سُئلِت عن هذا قلت‏:‏ إن الابتداء يكون في كل مقام بما يناسبه، فتارة‏:‏ يقتضي الابتداء بالأعلي، وتارة‏:‏ بالأدني، وهنا‏:‏ المناسبة تقتضي بالابتداء بالأدني؛ لأن المقصود بيان فراره عن أقاربه‏.‏ مفصلا، شيئًا بعد شيء، فلو ذكر الأقرب أولًا، لم يكن في ذكر الأبعد فائدة طائلة، فإنه يعلم أنه إذا فر من الأقرب، فر من الأبعد، ولما حصل للمستمع استشعار الشدة مفصلة، فابتدئ بنفي الأبعد متنقلًا منه إلى الأقرب، فقيل أولا‏:‏ ‏{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34‏]‏، فعلم أن ثَمَّ شدة توجب ذلك، وقد يجوز أن يفر من غيره، ويجوز ألا يفر، فقيل‏:‏ ‏{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏35‏]‏، فعُلُِم أن الشدة أكبر من ذلك،بحيث توجب الفرار من الأبوين‏.‏
ثم قيل‏:‏ ‏
{وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 36‏]‏، فَعُلِم أنها طامة بحيث توجب الفرار

 

ص -74-

 مما لايفر منهم إلا في غاية الشدة، وهي الزوجة والبنون، ولفظ صاحبته أحسن من زوجته‏.‏
قلت‏:‏ فهذا في الخبر، نظيره في الأمر قوله‏:‏‏{
فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، فإن الواجبات نوعان علي الترتيب، فيقدم فيه الأعلي فالأعلي، كما في كفارة الظهار والقتل واليمين، وعلي التخيير فابتدأ فيها بأخفها؛ ليبين أنه كان مجزيا لا نقص فيه، وإن ذكر الأعلي بعده للترغيب فيه‏:‏ لا للإيجاب، فانتقال القلب من العمل الأدني إلى الأعلي أولي من أن يؤمَرَ بالأعلي ثم يذكر له الأدني فيزدريه القلب‏.‏
ولهذا لما ذكر في جزاء الصيد الأعلي ابتداء كان لنا في ترتيبه روايتان، وإذا نصرنا المشهور قلنا‏:‏ قدم فيه الأعلي؛ لأن الأدني بقدرته في قوله‏:‏ ‏
{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏
ولهذا لما ابتدأ بالأثقل في حدود المحاربين لم يكن عندنا علي التخيير، ولا علي الترتيب، بل بحسب الجرائم، وليس في لفظ الآية ما يقتضي التخيير كما يتوهمه طائفة من الناس، فإنه لم يقل الواجب أو الجزاء هذا

 

ص -75-

 أو هذا أو هذا، كما قال‏:‏ فكفارته هذا أو هذا أو هذا، وكما قال‏:‏ ‏{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وإنما قال‏:‏ إنما جزاؤهم هذا أو هذا أو هذا، فالكلام فيه نفي وإثبات؛ تقديره‏:‏ ما جزاؤهم إلا أحد الثلاثة، كما قال في آية الصدقات‏:‏ ‏{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏، أي‏:‏ ما هي إلا لهؤلاء‏.‏
وقد تقرر أن مثل هذا الخطاب يثبت للمذكور ما نفاه عن غيره، فلما نفي الجواز لغير الأصناف، أثبت الجواز لا الوجوب ولا الاستحقاق، كما فهمه من اعتقد وجوب الاستيعاب من ظاهر الخطاب، وهنا‏:‏ نفي أن يكون ما سوي أحد هذه جزاء، فأثبت أن يكون جزاء المحارب أحد هذه العقوبات‏.‏ والمحاربون جملة ليسوا واحدًا، فظهر الفرق بين هذه الآية وبين الآيتين من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن المحاربين ذكروا باسم الجمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الأفراد علي الأفراد، فلو قيل‏:‏ جزاء المعتدين إما القتل وإما القطع، وإما الجلد، وإما الصلب، وإما الحبس، لم يقتض هذا التخيير في كل معتد بين هذه العقوبات، بل توزيع العقوبات علي أنواعهم، كذلك إذا قيل‏:‏ جزاء المحاربين كذا، أو كذا، أو كذا، أو كذا، بخلاف قوله‏:‏ ‏{فكفارته‏}‏، وقوله‏:‏
‏{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

 

ص -76-

 الثاني‏:‏ أن المقصود نفي جواز ما سوي، وإثبات ضده، وهي جواز المذكور في الجملة، وذلك أعم من أن يكون مخيرًا أو معينًا، بخلاف ما إذا لم يكن المقصود إلا مجرد الإثبات، فإن إثباته بصيغة التخيير يدل عليه‏.‏ وهذا معروف في مواد الإثبات المحض، أو مواد الحصر، كما قال صلى الله عليه وسلم للخَصْم المدعي‏:‏ ‏"‏شاهداك أو يمينه‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ليس لك منه إلا ذلك‏"‏، فحصر طريق الحق، وليس الغرض التخيير‏.‏
وكذلك يقال‏:‏ الواجب في القتل القصاص أو الدية، ولا تصح الصلاة إلا بوضوء أو تيمم، ولا بد يوم الجمعة من الظهر أو الجمعة، ولا يترك في دار الإسلام إلا مسلم أو معاهد، وسبب ذلك‏:‏ أنه إذا كان بعض المقصود الذي دل عليه اللفظ نفس ما سوي الأمور المذكورة، كان مدلوله إثباتا يقتضي النفي، وهو الوجود المشترك من هذه الأمور، والقدر المشترك بينهما أعم من أن يكون معينا أو مخيرًا‏.‏ وأما إذا أثبتت ابتداء فلو لم تكن مخيرة بل معينة، ولم يدل اللفظ عليه كان تلبيسًا‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ وهو لطيف أن يقال‏:‏ مفهوم ‏[‏أو‏]‏ إثبات التقسيم المطلق، كما قلنا‏:‏ إن الواو مفهومها التشريك المطلق بين المعطوف والمعطوف عليه، فأما الترتيب‏:‏ فلا ينفيه ولا يثبته؛ إذ الدال

 

ص -77-

 علي مجرد المشترك لايدل علي المميز‏.‏ فكذلك ‏[‏أو‏]‏‏:‏ هي للتقسيم المطلق، وهو ثبوت أحد الأمرين مطلقا، وذلك أعم من أن يثبت علي سبيل التخيير بينه وبين الآخر، أو علي سبيل الترتيب، أو علي سبيل التوزيع، وهو ثبوت هذا في حال، وهذا في حال، كما أنهم قالوا‏:‏ هي في الطلب يراد بها الإباحة تارة، كقولهم‏:‏ تَعَلَّم النحو أو الفقه، والتخيير أخري، كقولهم‏:‏ كل السمك أو اللبن، وأرادوا بالإباحة جواز الجمع، وهي في نفسها تثبت القدر المشترك، وهو أحد الاثنين‏.‏ إما مع إباحة الآخر أو حظره، فلا تدل عليه بنفسها، بل من جهة المادة الخاصة؛ ولهذا جمعنا بين القتل والصلب، وبينه وبين القطع علي رواية، فإن ‏[‏أو‏]‏ لا تنفي ذلك، فإذا كان حرف أو يدل علي مجرد إثبات أحد المذكورات، فهنا مسلكان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يقال‏:‏ إذا كانت في مادة الإيجاب أفادت التخيير، وإذا كانت في مادة الجواز أفادت القدر المشترك، كما هو مشهور عن النحاة المتكلمين في معاني الحروف أنهم يقولون‏:‏ يراد بها؛ تارة‏:‏ الإذن في أحد الشيئين مع حظر الآخر، وتارة‏:‏ الإذن في أحدهما وإن ضم إليه الآخر، كما ذكروه من الأمثلة‏.‏
وحينئذٍ، فهذه الآية في مادة الجواز؛ لأن المنفي هو الجواز، فيكون

 

ص -78-

 المُثْبَت هو الجواز كما ذكرناه في آية الصدقات، بخلاف آية الكفارة، فإنها في مادة الوجوب‏.‏
المسلك الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ لا فرق بين المادتين، الجواز والوجوب، بل وفي الوجوب قد يباح الجمع، كما لو كفر بالجميع مع الغني، لكن يقال‏:‏ دلالتها في الجميع علي التفريق المطلق ضد دلالة ‏[‏الواو‏]‏‏.‏
ثم إن لم يدل دليل علي ترتيب ولا تعيين، جاز فعل كل واحد من الخصال، لعدم ما يدل علي التعيين والترتيب، لا للدليل المنافي لذلك، كما في قوله‏:‏
‏{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، فإن الرقبة المعينة يجزي عتقها، كثبوت القدر المشترك فيها، وعدم ما يوجب المعين، لا لدليل دَلَّ علي نفس المعين، وإن دَلَّ دليل علي التعيين، والترتيب، قلنا به، كما نقول بتقييد المطلق، وليس تقييد المطلق رفعًا لظاهر اللفظ، بل ضم حكم آخر إليه، وهذا مسلك حسن في هذا الموضع ونظائره، فإنه يجب الفرق بين ما يثبته اللفظ وبين ما ينفيه، فإذا قلنا في المحاربين بالتعيين لدليل خبري أو قياسي، كان كالقول بالترتيب في الوضوء، والأيمان في الرقبة ونحوهما‏.‏

 

ص -79-

 سُورَة التكْوير
وقال شيخ الإسلاَم رَحِمهُ الله‏:‏
فَصْل
قوله‏:‏
‏{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 8، 9‏]‏، دليل علي أنه لا يجوز قتل النفس إلا بذنب منها، فلا يجوز قتل الصبي والمجنون؛ لأن القلم مرفوع عنهما، فلا ذنب لهما، وهذه العلة لا ينبغي أن يشك فيها في النهي عن قتل صبيان أهل الحرب، وأما العلة المشتركة بينهم وبين النساء فكونهم ليسوا من أهل القتال علي الصحيح الذي هو قول الجمهور، أو كونهم يصيرون للمسلمين‏.‏
فأما التعليل بهذا وحده في الصبي فلا، والآية تقتضي ذم قتل كل من لا ذنب له من صغير وكبير، وسؤالها توبيخ قاتلها، وقوله في السورة‏:‏
‏{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19 - 25‏]‏، هو جبريل وهو نظير ما في سورة الشعراء، أنه تنزلت به الملائكة لا الشياطين؛ بخلاف الإفك ونحوه، فإنه تنزل به الشياطين، فوقع الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم والأفَّاك والشاعر والكاهن، وبين الملك والشيطان، والعلماء ورثة الأنبياء ‏.‏

 

ص -80-

وقال شيخ الإسلام‏:‏
في قوله تعالى‏:‏‏{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏29‏]‏، أخبر أن مشيئتهم موقوفة علي مشيئته، ومع هذا، فلا يوجب ذلك وجود الفعل منهم ؛ إذ أكثر ما فيه أنه جعلهم شائين، ولا يقع الفعل منهم حتي يشاؤه منهم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{فَمَن شَاء ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 55، 56‏]‏، ومع هذا، فلابد من إرادة الفعل منهم حتي يريد من نفسه إعانتهم وتوفيقهم‏.‏
فهنا أربع إرادات‏:‏ إرادة البيان، وإرادة المشيئة، وإرادة الفعل، وإرادة الإعانة‏.‏ والله أعلم‏.

 

ص -81-

سُورَة الأعلى
وقال الشيخ رحمه الله ‏:‏
فصل
قال ابن فُورَك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له قال‏:‏ وجرى في كلام السلطان‏:‏ أليس تقول إنه يري لا في جهة‏؟‏ فقلت‏:‏ ‏"‏نعم، يرى لا في جهة، كما أنه لم يزل يرى نفسه لا في جهة، ولا من جهة، ويراه غيره على ما يرى ورأى نفسه‏.‏ والجهة ليست بشرط في الرؤية‏"‏‏.‏ وقلت أيضًا‏:‏ ‏"‏المرئيات المعقولة فيما بيننا هكذا نراها في جهة ومحل‏.‏ والقضاء بمجرد المعهود لا يمكن دون السير والبحث؛ لأنا كما لا نري إلا في جهة ومحل، كذلك لم نر إلا متلونًا ذا قدر وحجم يحتمل المساحة، والثقل، ولا يخلو من

 

ص -82-

 حرارة ورطوبة أو يبوسة، إذا لم يكن عرضًا لا يقبل التثنية والتأليف وغير ذلك، ومع هذا فلا عبرة بشيء من هذا‏"‏‏.‏
قال‏:‏ ثم بلغني أن السلطان ذلك اليوم والليلة وثاني يوم، يكرر على نفسه في مجلسه‏:‏ كيف يعقل شيء لا في جهة‏؟‏ وما شغل القلب في أول الأمر وتربي عليه فإن قلعه صعب، والله المعين‏.‏ غير أنه فَرِحت الكرامية بما كان منه في ذلك‏.‏ فلما رجعت إلى البيت فإذا أنا برقعة فيها مكتوب‏:‏ ‏[‏الأستاذ أدام الله سلامته على مذهبه أن الباري ليس في جهة، فكيف يري لا في جهة‏؟‏‏]‏‏.‏
فكتبت‏:‏خبر الرؤية صحيح‏.‏ وهي واجبة كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة على أن الله يري لا في جهة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏ ‏"‏لا تضامون في رؤيته‏"‏، ومعناه‏:‏لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته،فإنه لا في جهة‏.‏وكلامًا طويلا من كل وجه ملأت ظهر الرقعة وبطنها منه‏.‏
فلما رُدَّت إليه، أنفذها إلى حاكم البلد، وهو أبو محمد الناصحي، واستفتاه فيما قلته، فجمع قومًا من الحنفية، والكرامية، فكتب هو أعزك الله‏:‏ بأن من قال بأن الله لا يري في جهة مبتدع ضال، وكتب أبو حامد المعتزلي مثله، وكتب إنسان بسطامي مؤدب في دار

 

ص -83-

 صاحب الجيش مثله، فردوا عليه، فأنفذ إلى ما في ذلك المحضر الذي فيه خطوطهم، وكتب إلى رقعة وقال فيها‏:‏ إنهم كتبوا هكذا‏.‏ فما تقول في هذه الفتاوى‏؟‏
فقلت‏:‏ إن هؤلاء القوم يجب أن يسألوا عن مسائل الفقه التي يقال فيها بتقليد العامي للعالم؛فأما معرفة الأصول والفتاوى فيها فليس من شأنهم،وهم يقولون‏:‏إنا لا نحسن ذلك‏.‏
قلت‏:‏ قول هؤلاء‏:‏ إن اللّه يري من غير معاينة ومواجهة‏.‏ قول انفردوا به دون سائر طوائف الأمة، وجمهور العقلاء على أن فساد هذا معلوم بالضرورة‏.‏
والأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترد عليهم، كقوله في الأحاديث الصحيحة‏:‏ ‏
"‏إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضارون في رؤيته‏"‏ ، وقوله لما سأله الناس ‏:‏ هل نري ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هل ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ ‏"‏وهل ترون القمر صحوًا ليس دونه سحاب‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏"‏ ‏.‏
فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي؛ فإن الكاف حرف

 

ص -84-

 التشبيه دخل على الرؤية‏.‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏"‏يرونه عيانًا‏"‏‏.‏ ومعلوم أنا نري الشمس والقمر عيانًا مواجهة، فيجب أن نراه كذلك، وأما رؤية ما لا نعاين ولا نواجهه فهذه غير متصورة في العقل، فضلا عن أن تكون كرؤية الشمس والقمر‏.‏
ولهذا، صار حُذَّاقُهم إلى إنكار الرؤية، وقالوا‏:‏ قولنا هو قول المعتزلة في الباطن؛ فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك مما لا ننازع فيه المعتزلة‏.‏
وأما قوله‏:‏ إن الخبر يدل على أنهم يرونه لا في جهة، وقوله‏:‏ ‏"‏لا تضامون‏"‏؛ معناه‏:‏ لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته، فإنه لا في جهة، فهذا تفسير للحديث بما لا يدل عليه، ولا قاله أحد من أئمة العلم، بل هو تفسير منكر عقلا وشرعا ولغة‏.‏
فإن قوله‏:‏ ‏"‏لا تضامون‏"‏، يروي بالتخفيف، أي‏:‏ لا يلحقكم ضيم في رؤيته، كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال، فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يري، وهو سبحانه يتجلي تجليًا ظاهرًا، فيرونه كما تري الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته، وهذه الرواية المشهورة‏.‏
وقيل‏:‏ ‏"‏لا تضامُّون‏"‏، بالتشديد، أي‏:‏ لا ينضم بعضكم إلى بعض،

 

ص -85-

  كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال‏.‏ وكذلك‏:‏ ‏"‏تضارون‏"‏، و ‏"‏تضارُّون‏"‏‏.‏
فإما أن يروي بالتشديد ويقال‏:‏ ‏"‏لا تضامَّون‏"‏، أي لا تضمكم جهة واحدة، فهذا باطل؛ لأن التضام انضمام بعضهم إلى بعض، فهو ‏[‏تفاعل‏]‏، كالتماس، والتراد، ونحو ذلك‏.‏ وقد يروي‏:‏ ‏"‏لا تضامُّون‏"‏ بالضم والتشديد، أي‏:‏ لا يضام بعضكم بعضًا‏.‏
وبكل حال، فهو من ‏[‏التضام‏]‏ الذي هو مضامة بعضهم بعضًا، ليس هو أن شيئًا آخر لا يضمكم، فإن هذا المعني لا يقال فيه‏:‏ ‏"‏لا تضامون‏"‏، فإنه لم يقل‏:‏ لا يضمكم شيء‏.‏
ثم يقال‏:‏ الراؤون كلهم في جهة واحدة على الأرض،وإن قدر أن المرئي ليس في جهة، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ لا تضمكم جهة واحدة،وهم كلهم على الأرض أرض القيامة أو في الجنة، وكل ذلك جهة، ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حسا وعقلا‏.‏
وأما قوله‏:‏ هو يري لا في جهة فكذلك يراه غيره‏.‏ فهذا تمثيل باطل، فإن الإنسان يمكن أن يري بدنه، ولا يمكن أن يري غيره، إلا أن يكون بجهة منه، وهو أن يكون أمامه، سواء كان عاليًا أو سافلًا‏.‏

 

ص -86-

  وقد تُخْرَق له العادة فيرى من خلفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لأراكم من بعدي‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏من بعد ظهري‏"‏، وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏"‏إني لأراكم من ورائي‏"‏، وفي لفظ في الصحيحين‏:‏‏"‏إني واللّه لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي‏"‏، لكن هم بجهة منه، وهم خلفه، فكيف تقاس رؤية الرائي لغيره على رؤيته لنفسه‏؟‏
ثم تشبيه رؤيته هو برؤيتنا نحن تشبيه باطل، فإن بصره يحيط بما رآه بخلاف أبصارنا‏.‏
وهؤلاء القوم، أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، وأحبوا نصر مذهب أهل السنة والجماعة والحديث، فجمعوا بين أمرين متناقضين، فإن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه يمتنع أن يري بالعين لو كان وجوده في الخارج ممكنًا، فكيف وهو ممتنع‏؟‏ وإنما يقدر في الأذهان من غير أن يكون له وجود في الأعيان، فهو من باب الوهم والخيال الباطل‏.‏
ولهذا فسروا ‏[‏الإدراك‏]‏ بالرؤية في قوله‏:‏
‏{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، كما فَسَّرَتْها المعتزلة، لكن عند المعتزلة‏:‏ هذا خرج مخرج المدح فلا يري بحال، وهؤلاء قالوا‏:‏ لا يرَي في الدنيا دون الآخرة‏.‏
والآية تنفي الإدراك مطلقًا دون الرؤية كما قال ابن كلاب،

 

ص -87-

 وهذا أصح‏.‏وحينئذ، فتكون الآية دالة على إثبات الرؤية، وهو أنه يرَي ولا يدْرَك، فيري من غير إحاطة ولا حصر، وبهذا يحصل المدح، فإنه وصف لعظمته أنه لا تدركه أبصار العباد وإن رأته، وهو يدرك أبصارهم‏.‏ قال ابن عباس وعكرمة بحضرته لمن عارض بهذه الآية‏:‏‏"‏ألست تري السماء‏؟‏‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏بلي‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏أفكلها تري‏؟‏‏"‏‏.‏
وكذلك قال‏:‏
‏{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وهؤلاء يقولون‏:‏ علمه شيء واحد لا يمكن أن يحاط بشيء منه دون شيء، فقالوا‏:‏ ولا يحيطون بشيء من معلومه‏.‏ وليس الأمر كذلك، بل نفس العلم جنس يحيطون منه بما شاء، وسائره لا يحيطون به‏.‏
وقال‏:‏
‏{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، والراجح من القولين أن الضمير عائد إلى‏:‏ ‏{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏، وإذا لم يحيطوا بهذا علمًا، وهو بعض مخلوقات الرب، فإن لا يحيطوا علما بالخالق أولي وأحري‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏إبراهيم‏:‏ 9‏] فإذا قيل‏:‏ ‏{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، أي‏:‏ لا تحيط به، دل على أنه

 

ص -88-

 يوصف بنفي الإحاطة به مع إثبات الرؤية‏.‏ وهذا ممتنع على قول هؤلاء، فإن هذا إنما يكون بزعمهم فيما ينقسم، فيري بعضه من بعض، فتكون هناك رؤية بلا إدراك وإحاطة، وعندهم‏:‏ لا يتصور أن يري إلا رؤية واحدة متماثلة، كما يقولونه في كلامه‏:‏ إنه شيء واحد لا يتبعض ولا يتعدد‏.‏ وفي الإيمان به‏:‏ إنه شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان‏.‏
وأما الإدراك والإحاطة الزائد على مطلق الرؤية، فليس انتفاؤه لعظمة الرب عندهم، بل لأن ذاته لا تقبل ذاك كما قالت المعتزلة‏:‏ إنها لا تقبل الرؤية‏.‏
وأيضًا، فهم والمعتزلة لا يريدون أن يجعلوا للإبصار إدراكًا غير الرؤية، سواء أثبتت الرؤية أو نفيت، فإن هذا يبطل قول المعتزلة بنفي الرؤية، ويبطل قول هؤلاء بإثبات رؤية بلا معاينة ومواجهة‏.‏
فَصْل
هذا، مع أن ابن فُورَك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين، وكذلك المجيء والإتيان، موافقةً لأبي الحسن، فإن هذا قوله، وقول متقدمي أصحابه‏.‏

 

ص -89-

 فقال ابن فُوَرك فيما صنف في أصول الدين‏:‏ فإن سألت الجهمية عن الدلالة على أن القديم سميع بصير، قيل لهم‏:‏ قد اتفقنا على أنه حي تستحيل عليه الآفات، والحي إذا لم يكن مأووفًا بآفات تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات كان سميعًا بصيرًا‏.‏
وإن سألت فقلت‏:‏ أين هو‏؟‏، فجوابنا‏:‏ إنه في السماء، كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك، فقال عز من قائل‏
:‏ ‏{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه‏.‏ وأنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت‏:‏ أين اللّه‏؟‏ لقالوا‏:‏ إنه في السماء، ولم ينكروا لفظ السؤال ب ‏[‏أين‏]‏؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال‏:‏ ‏"‏أين الله‏؟‏‏"‏، فقالت‏:‏ في السماء مشيرة بها‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اعتقها، فإنها مؤمنة‏"‏‏.‏ ولو كان ذلك قولا منكرًا لم يحكم بإيمانها، ولأنكره عليها‏.‏ ومعني ذلك أنه فوق السماء؛ لأن ‏[‏في‏]‏‏:‏ بمعني فوق، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏، أي‏:‏ فوقها‏.‏
قال‏:‏ وإن سألت‏:‏ ‏[‏كيف هو‏؟‏‏]‏، قلنا له‏:‏ ‏[‏كيف‏]‏ سؤال عن صفته وهو ذو الصفات العلى هو العالِم الذي له العلم، والقادر

 

ص -90-

 الذي له القدرة، والحي الذي له الحياة، الذي لم يزل منفردًا بهذه الصفات لا يشْبه شيئًا، ولا يشبهه شيء‏.‏
قلت‏:‏ فهذا الكلام هو موافق لما ذكره الأشعري ‏[‏هو أبو الحسن على بن إسماعيل بن إسحاق، من نسل الصحابي أبو موسي الأشعري توفي عام 423ه، وكان مولده سنة 072ه‏]‏ في كتاب ‏[‏الإبانة‏]‏، ولما ذكره ابن كلاب كما حكاه عنه ابن فورك، لكن ابن كلاب يقول‏:‏ إن العلو والمباينة من الصفات العقلية، وأما هؤلاء فيقولون‏:‏ كونه في السماء صفة خبرية كالمجيء والإتيان، ويطلقون القول بأنه بذاته فوق العرش، وذلك صفة ذاتية عندهم‏.‏
والأشعري يبطل تأويل من تأول الاستواء بمعني الاستيلاء والقهر، بأنه لم يزل مستوليًا على العرش وعلى كل شيء، والاستواء مختص بالعرش، فلو كان بمعني الاستيلاء لجاز أن يقال‏:‏ هو مستو على كل شيء وعلى الأرض وغيرها‏.‏ كما يقال‏:‏ إنه مستولٍ عليها‏.‏ ولما اتفق المسلمون على أن الاستواء مختص بالعرش، فهذا الاستواء الخاص ليس بمعني الاستيلاء العام، وأين للسلطان جعل الاستواء بمعني القهر والغلبة، وهو الاستيلاء‏؟‏
فيشبه واللّه أعلم أن يكون اجتهاده مختلفًا في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل، ثم حرمه، وحكي إجماع السلف على تحريمه، وابن عقيل له أقوال مختلفة، وكذلك

 

ص -91-

 لأبي حامد، والرازي، وغيرهم‏.‏
ومما يبين اختلاف كلام ابن فورك أنه في مصنف آخر قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ أين هو‏؟‏ قيل‏:‏ ليس بذي كيفية فنخبر عنها إلا أن يقول‏:‏ ‏[‏كيف صنعه‏؟‏‏]‏، فمن صنعه أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو الصانع للأشياء كلها‏.‏
فهنا أبطل السؤال عن الكيفية، وهناك‏:‏ جوزه، وقال‏:‏ الكيفية هي الصفة، وهو ذو الصفات، وكذلك السؤال عن الماهية، قال في ذلك المصنف‏:‏ وإن سألت الجهمية فقالت‏:‏ ما هو‏؟‏، يقال لهم‏:‏ ‏[‏ما‏]‏ يكون استفهامًا عن جنس أو صفة في ذات المستفهم‏.‏ فإن أردت بذلك سؤالًا عن صفته فهو العلم، والقدرة، والكلام والعزة، والعظمة‏.‏
وقال في الآخر‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ حدثونا عن الواحد الذي تعبدونه ما هو‏؟‏ قيل‏:‏ إن أردت بقولك‏:‏ ما جنسه‏؟‏ فليس بذي جنس، وإن أردت بقولك‏:‏ ماهو‏؟‏ أي‏:‏ أشيروا إليه حتي أدركه بحواسي، فليس بحاضر للحواس، وإن أردت بقولك‏:‏ ماهو‏؟‏ أي‏:‏ دلوني عليه بعجائب صنعته وآثار حكمته، فالدلالة عليه قائمة‏.‏ وإن أردت بقولك‏:‏ ما اسمه‏؟‏ فنقول‏:‏ هو اللّّه، الرحمن، الرحيم، القادر، السميع، البصير‏.‏

 

ص -92-

 وهو في هذا المصنف أثبت أنه على العرش بخلاف ما كان عليه قبل العرش، فقال‏:‏ فإن قال‏:‏ فحدثونا عنه أين كان قبل أن يخلق‏؟‏ قيل‏:‏ ‏[‏أين‏؟‏‏]‏ تقتضي مكانًا، والأمكنة مخلوقات، وهو سبحانه لم يزل قبل الخلق والأماكن، لا في مكان ولا يجرى عليه وقت ولا زمان‏.‏
فإن قال‏:‏ فعلى ما هو اليوم‏؟‏ قيل له‏:‏ مستوٍ على العرش كما قال سبحانه‏:‏ ‏{
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وقال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ لم يزل الباري قادرًا عالمًا حيًا سميعًا بصيرًا‏؟‏ قيل‏:‏نعم، فإن قال‏:‏ فلم أنكرتم أن يكون لم يزل خالقًا‏؟‏ قيل له‏:‏ إن أردت بقولك‏:‏لم يزل خالقا‏.‏ أي‏:‏ لم يزل الخلق معه في قدمه، فهذا خطأ، لأن معني الخلق أنه لم يكن ثم كان‏.‏ فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا، وإن أردت بقولك أن الخالق لم يزل وكان قادرًا على أن يخلق الخلق، فكذلك نقول‏:‏ لأن الخالق لم يزل والخلق لم يكن ثم كان، وقد كان لم يزل قادرًا على أن يخلق الخلق، فهذا الجواب‏.‏
قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ إذا قلتم إنه الآن خالق فما أنكرتم أن يكون لم يزل خالقًا‏؟‏ قيل له‏:‏ لا يلزم ذلك، وذلك أنه الآن مستوٍ على

 

ص -93-

 عرشه، فلا يجب أن يكون لم يزل مستويًا على عرشه، فكذلك ما قلناه يناسبه‏.‏
فإن قيل‏:‏ الاستواء منه فعل، ويستحيل أن يكون الفعل لم يزل، قال‏:‏ قيل‏:‏ والخلق منه فعل، ويستحيل أن يكون الخلق لم يزل‏.‏
فهذا الكلام ليس إلا ببيان الذين يقولون‏:‏ إنه استوي على العرش بعد أن لم يكن، ويقولون بقدم صفة التكوين والخلق، وأنه لم يزل خالقًا، فألزمهم‏:‏ أنا نقول في الخلق ما نقوله نحن وأنتم في الاستواء‏.‏ وهذا جواب ضعيف من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه في الحقيقة ليس عنده أنه استوي بعد أن لم يكن، كما قد بحثه مع السلطان، بل هو الآن كما كان، فلا يصح القياس عليه‏.‏
الثاني‏:‏ أنه قد سلم أنه لم يزل قادرًا على أن يخلق الخلق، وهذا يقتضي إمكان وجود المقدور في الأزل، فإنه إذا كان المقدور ممتنعًا لم تكن هناك قدرة، فكيف يجعله لم يزل قادرًا مع امتناع أن يكون المقدور لم يزل ممكنًا‏؟‏ بل المقدور عنده كان ممتنعًا ثم صار ممكنًا بلا سبب حادث اقتضي ذلك‏.‏

 

ص -94-

 الثالث‏:‏ أن قوله‏:‏ لأن معني الخلق أنه لم يكن ثم كان، فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا‏؟‏ فيقال‏:‏ بل كل مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه، وما ثم قديم أزلي إلا اللّه وحده‏.‏وإذا قيل‏:‏لم يزل خالقًا، فإنما يقتضي قدم نوع الخلق، و‏[‏دوام خالقيته‏]‏ لا يقتضي قدم شيء من المخلوقات، فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل إن منها شيئًا أزليًا، ومن قال بقدم شيء من العالم كالفلك أو مادته فإنه يجعله مخلوقا بمعني أنه كان بعد أن لم يكن، ولكن إذ أوجده القديم‏.‏
ولكن لم يزل فعالًا خالقًا، ودوام خالقيته من لوازم وجوده‏.‏ فهذا ليس قولا بقدم شيء من المخلوقات، بل هذا متضمن لحدوث كل ما سواه‏.‏ وهذا مقتضي سؤال السائل له‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ العرش حادث، كائن بعد أن لم يكن، لم يزل مستويًا عليه بعد وجوده، وأما الخلق‏:‏ فالكلام في نوعه، ودليله على امتناع حوادث لا أول لها، قد عرف ضعفه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وكان ابن فُورَك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكَرَّامية، كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كَفَّرَهم عند

 

ص -95-

 السلطان، ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادي من خالفه فيها أو كَفَّره، فإنه هو ظلم نفسه‏.‏
وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق؛ يتبعون الرسول فلا يبتدعون‏.‏ ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع، فيرد بدعة ببدعة، وباطلاً بباطل‏.‏
وكذلك ما حكاه من مناظراتهم له عند الوزير، مجلسًا بعد مجلس هو من هذا الباب‏.‏ فإن المعتزلة والكَرَّامِية يقولون حقًا وباطلا، وسنة وبدعة، كما أنه هو أيضًا كذلك يقول حقًا وباطلا موافقة لأبي الحسن، وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء، والأحكام، والقدر، مسلك الجهم بن صفوان، مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة، فهؤلاء قدرية مجبرة، والمعتزلة قدرية نافية، فوقع بينهم غاية التضاد في مسائل التعديل والتجويز ونحوها‏.‏
واللّه يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار وقاض

 

ص -96-

 في الجنة؛ رجل قضي للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار‏.‏ ورجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة‏"‏‏.‏
وقد حرم سبحانه الكلام بلا علم مطلقًا، وخص القول عليه بلا علم بالنهي، فقال تعالى‏:‏ ‏
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏‏.‏
وأمر بالعدل على أعداء المسلمين، فقال‏:‏
‏{كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏
فَصْل
وهو سبحانه وصف نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم؛ لأنه من صفات الكمال،كما مدح نفسه بأنه العظيم،والعليم،والقدير، والعزيز، والحليم، ونحو ذلك‏.‏ وأنه الحي

 

ص -97-

 القيوم، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسني،فلا يجوز أن يتصف بأضداد هذه‏.‏
فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة، مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللُّغُوب‏.‏ ولا بضد العزة وهو الذل، ولا بضد الحكمة وهو السفه‏.‏
فكذلك، لا يوصف بضد العلو وهو السفول، ولا بضد العظيم وهو الحقير، بل هو سبحانه منزه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له، فثبوت صفات الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها، وهي النقائص‏.‏
وهو سبحانه ليس كمثله شيء فيما يوصف به من صفات الكمال‏.‏
فهو منزه عن النقص المضاد لكماله، ومنزه عن أن يكون له مثل في شيء من صفاته، ومعاني التنزيه ترجع إلى هذين الأصلين، وقد دل عليهما سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن بقوله‏:‏‏
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1، 2‏]‏، فاسمه ‏[‏الصمد‏]‏‏:‏ يجمع معاني صفات الكمال، كما قد بسط ذلك في تفسير هذه السورة وفي غير موضع، وهو كما في تفسير ابن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ أنه المستوجب لصفات السؤدد، العليم

 

ص -98-

 الذي قد كمل في علمه، الحكيم الذي قد كمل في حكمته، إلى غير ذلك مما قد بين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏[‏الأحد‏]‏ يقتضي أنه لا مثل له ولا نظير
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏
وقد ذكرنا في غير موضع أن ما وصف اللّه تعالى به نفسه من الصفات السلبية، فلا بد أن يتضمن معني ثبوتيا، فالكمال هو في الوجود والثبوت،والنفي مقصوده نفي ما يناقض ذلك، فإذا نفي النقيض الذي هو العدم والسلب لزم ثبوت النقيض الآخر الذي هو الوجود والثبوت‏.‏
وبينا هذا في آية الكرسي وغيرها مما في القرآن، كقوله‏:‏‏
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏، فإنه يتضمن كمال الحياة والقيومية‏.‏وقوله‏:‏‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، يتضمن كمال الملك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، يقتضي اختصاصه بالتعليم دون ما سواه‏.‏
والوحدانية‏:‏ تقتضي الكمال، والشركة‏:‏ تقتضي النقص‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏
{وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، ‏{وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏، ‏{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، ‏{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك مما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -99-

 والمقصود هنا أن علوه من صفات المدح اللازمة له‏.‏ فلا يجوز اتصافه بضد العلو البتة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء‏"‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏تحتك‏]‏، وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير هذا الموضع‏.‏
وإذا كان كذلك، فالمخالفون للكتاب والسنة وما كان عليه السلف لا يجعلونه متصفا بالعلو دون السفول، بل إما أن يصفوه بالعلو والسفول أو بما يستلزم ذلك، وإما أن ينفوا عنه العلو والسفول‏.‏ وهم نوعان‏.‏
فالجهمية القائلون بأنه بذاته في كل مكان، أو بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يصفونه بالعلو دون السفول‏.‏ فإنه إذا كان في مكان فالأمكنة منها عال وسافل، فهو في العالي عال، وفي السافل سافل‏.‏ بل إذا قالوا‏:‏ إنه في كل مكان‏.‏ فجعلوا الأمكنة كلها محال له، ظروفا وأوعية، جعلوها في الحقيقة أعلى منه‏.‏ فإن المحل يحوي الحال، والظرف والوعاء يحوي المظروف الذي فيه، والحاوي فوق المحوي‏.‏
والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا‏:‏ إنه فوق العرش،

 

ص -100-

 

 وإنه في السماء فوق كل شيء، لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره، أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاءً سبحانه وتعالى عن ذلك بل هو فوق كل شيء، وهو مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه‏.‏ وهو عال على كل شيء، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته‏.‏ وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق‏.‏
وما في الكتاب والسنة من قوله‏:‏
‏{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، ونحو ذلك قد يفهم منه بعضهم أن ‏[‏السماء‏]‏ هي نفس المخلوق العالي؛ العرش فما دونه، فيقولون‏:‏ قوله ‏{فٌي بسَّمّاء ‏}‏، بمعنى‏:‏ ‏[‏على السماء‏]‏، كما قال‏:‏ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏} ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏، أي‏:‏ ‏[‏على جذوع النخل‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، أي‏:‏ ‏[‏على الأرض‏]‏‏.‏ ولا حاجة إلى هذا، بل، ‏[‏السماء‏]‏ اسم جنس للعالي لا يخص شيئا‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{فٌي بسَّمّاء ‏}‏، أي‏:‏ ‏"‏في العلو دون السفل‏"‏‏.‏ وهو العلى الأعلى، فله أعلى العلو، وهو ما فوق العرش وليس هناك غيره العلى الأعلى سبحانه وتعالى‏.‏
والقائلون بأنه في كل مكان هو عندهم في المخلوقات السفلية القذرة الخبيثة، كما هو في المخلوقات العالية‏.‏ وغلاة هؤلاء الاتحادية الذين يقولون‏:‏ ‏[‏الوجود واحد‏]‏، كابن عربي الطائي صاحب ‏[‏فصوص

 

ص -101-

 الحكم‏]‏، و‏[‏الفتوحات المكية‏]‏، يقولون‏:‏ الموجود الواجب القديم هو الموجود المحدث الممكن‏.‏
ولهذا قال ابن عربي في ‏[‏فصوص الحكم‏]‏‏:‏
‏[‏ومن أسمائه الحسني ‏[‏العلي‏]‏‏.‏ على من، وما ثم إلا هو‏؟‏ وعن ماذا، وما هو إلا هو‏؟‏ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمُسَمَّي ‏[‏محدثات‏]‏‏:‏ هي العلية لذاتها وليست إلا هو‏]‏‏.‏
إلي أن قال‏:‏
‏[‏فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الأوصاف الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا، أو مذمومة عرفا وعقلًا وشرعا‏.‏ وليس ذلك إلا المسمي اللّه‏]‏‏.‏
فهو عنده الموصوف بكل ذم، كما هو الموصوف بكل مدح‏.‏
وهؤلاء يفضلون عليه بعض المخلوقات، فإن في المخلوقات ما يوصف بالعلو دون السفول كالسماوات‏.‏ وما كان موصوفا بالعلو دون السفول كان أفضل مما لا يوصف بالعلو، أو يوصف بالعلو والسفول‏.‏
وقد قال فرعون‏:‏
‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏} ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ قال ابن عربي‏:‏

 

ص -102-

 ولما كان فرعون في منصب التحكم والخليفة بالسيف، جاز في العرف الناموسي أن قال‏:‏ ‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏، أي‏:‏ وإن كان أن الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم‏.‏ ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، بل أقروا له بذلك وقالوا له‏:‏ ‏{فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏ فالدولة لك‏.‏ فصح قول فرعون‏:‏ ‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏
فبهذا وأمثاله يصححون قول فرعون‏:‏
‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏، وينكرون أن يكون اللّه عاليا، فضلا عن أن يكون هو الأعلى، ويقولون‏:‏ على من يكون أعلي، أو‏:‏ عما ذا يكون أعلي‏؟‏
وهكذا سائر الجهمية يصفون بالعلو على وجه المدح ما هو عال من المخلوقات، كالسماء، والجنة، والكواكب، ونحو ذلك‏.‏ ويعلمون أن العالي أفضل من السافل، وهم لا يصفون ربهم بأنه الأعلى، ولا العلي، بل يجعلونه في السافلات كما هو في العاليات‏.‏
والجهمية الذين يقولون‏:‏ ليس هو داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه البتة، هم أقرب إلى التعطيل والعدم، كما أن أولئك أقرب إلى الحلول والاتحاد بالمخلوقات‏.‏ فهؤلاء يثبتون موجودًا لكنه في الحقيقة المخلوق لا الخالق، وأولئك ينفون فلا يثبتون وجودًا البتة، لكنهم

 

ص -103-

 يثبتون وجود المخلوقات، ويقولون‏:‏ إنهم يثبتون وجود الخالق‏.‏
وإذا قالوا‏:‏ نحن نقول‏:‏ هو عال بالقدرة أو بالقدر، قيل‏:‏ هذا فرع ثبوت ذاته وأنتم لم تثبتوا موجودًا يعرف وجوده فضلا عن أن يكون قادرًا أو عظيم القدر‏.‏
وإذا قالوا‏:‏ كان اللّه قبل خلق الأمكنة والمخلوقات موجودًا، وهو الآن على ما عليه كان لم يتغير، ولم يكن هناك فوق شيء ولا عاليًا على شيء فذلك هو الآن، قيل‏:‏ هذا غلط، ويظهر فساده بالمعارضة ثم بالحل وبيان فساده‏.‏
أما الأول‏:‏ فيلزمهم ألا يكون الآن عاليًا بالقدرة ولا بالقدر كما كان في الأزل‏.‏ فإنه إذا قدر وجوده وحده فليس هناك موجود يكون قادرًا عليه ولا قاهرًا له ولا مستوليًا عليه، ولا موجودا يكون هو أعظم قدرًا منه‏.‏
فإن كان مع وجود المخلوقات لم يتجدد له علو عليها كما زعموا، فيجب أن يكون بعدها ليس قاهرًا لشيء ولا مستوليًا عليه، ولا قاهرًا لعباده، ولا قدره أعظم من قدرها‏.‏ وإذا كانوا يقولون هم وجميع العقلاء إنه مع وجود المخلوق يوصف بأمور إضافية لا يوصف

 

ص -104-

 بها إذا قدر موجودًا وحده علم أن التسوية بين الحالين خطأ منهم‏.‏
وقد اتفق العقلاء على جواز تجدد النسب والإضافات مثل المعية، وإنما النزاع في تجدد ما يقوم بذاته من الأمور الاختيارية‏.‏ وقد بين في غير هذا الموضع أن النسب والإضافات مستلزمة لأمور ثبوتية، وأن وجودها بدون الأمور الثبوتية ممتنع‏.‏
والإنسان إذا كان جالسًا فتحول المتحول عن يمينه بعد أن كان عن شماله قيل‏:‏ إنه عن شماله‏.‏ فقد تجدد من هذا فعل به تغيرت النسبة والإضافة،‏.‏ وكذلك من كان تحت السطح فصار فوقه، فإن النسبة بالتحتية والفوقية تجدد لما تجدد فعل هذا‏.‏
وإذا قيل‏:‏ نفس السقف لم يتغير قيل‏:‏ قد يمنع هذا، ويقال‏:‏ ليس حكمه إذا لم يكن فوقه شيء كحكمه إذا كان فوقه شيء‏.‏ وإذا قيل عن الجالس‏:‏ إنه لم يتغير، قيل‏:‏ قد يمنع هذا، ويقال‏:‏ ليس حكمه إذا كان الشخص عن يساره كحكمه إذا كان عن يمينه، فإنه يحجب هذا الجانب ويوجب من التفات الشخص وغير ذلك ما لم يكن قبل ذلك‏.‏
وكذلك من تجدد له أخ أو ابن أخ بإيلاد أبيه أو أخيه، قد وجد هنا أمور ثبوتية‏.‏ وهذا الشخص يصير فيه من العطف والحنو على هذا الولد المتجدد ما لم يكن قبل ذلك، وهي الرحم والقرابة‏.‏

 

ص -105-

 وبهذا يظهر الجواب الثاني، وهو أن يقال‏:‏
العلو والسفول ونحو ذلك من الصفات المستلزمة للإضافة، وكذلك الاستواء، والربوبية، والخالقية، ونحو ذلك‏.‏ فإذا كان غيره موجودًا، فإما أن يكون عاليًا عليه وإما ألا يكون، كما يقولون هم‏:‏ إما أن يكون عاليًا عليه بالقهر أو بالقدر أو لا يكون، خلاف ما إذا قدر وحده، فإنهم لا يقولون‏:‏ إنه حينئذ قاهر، أو قادر أو مستول عليه، فلا يقال‏:‏ إنه عال عليه‏.‏ وإن قالوا‏:‏ ‏"‏إنه قادر وقاهر‏"‏ كان ذلك مشروطًا بالغير، وكذلك علو القدر، قيل‏:‏ وكذلك علو ذاته مازال عاليًا بذاته لكن ظهور ذلك مشروط بوجود الغير‏.‏ والإلزامات مفحمة لهم‏.‏
وحقيقة قولهم‏:‏ إنه لم يكن قادرًا في الأزل ثم صار قادرًا‏.‏ يقولون‏:‏ لم يزل قادرًا مع امتناع المقدور، وإنه لم يكن الفعل ممكنًا فصار ممكنا‏.‏ فيجمعون بين النقيضين‏.‏
فَصل
وأما الذين يصفونه بالعلو والسفول، فالذين يقولون‏:‏ هو فوق العرش وهو أيضًا في كل مكان، والذين يقولون‏:‏ إذا نزل كل ليلة فإنه

 

ص -106-

 يخلو منه العرش، أو غيره من المخلوقات أكبر منه، ويقولون‏:‏ لا يمتنع أن يكون الخالق أصغر من المخلوق، كما يقول شيوخهم‏:‏ إنه لا يمتنع أن يكون الخالق أسفل من المخلوق، فهؤلاء لا يصفونه بأنه أكبر من كل شيء، بل ولا هو على قولهم الكبير المتعال، ولا هو العلى العظيم‏.‏
وقد بسط الرد على هؤلاء في ‏"‏مسألة النزول‏"‏ لما ذكر قول أئمة السنة مثل حماد بن زيد ‏[‏هو أبو إسماعيل حماد بن درهم الأزدي الجهضمي، شيخ العراق في عصره، من حفاظ الحديث الموجودين، يعرف بالأزرق، أصله من سبي سجستان، مولده ووفاته في البصرة، يحفظ أربعة آلاف حديث‏.‏ خرج حديثه الأئمة الستة‏]‏، وإسحق بن راهويه، وغيرهما‏:‏ ‏"‏إنه ينزل ولا يخلو منه العرش‏"‏ ذكر قول من أنكر ذلك من المتأخرين المنتسبين إلى الحديث والسنة، وبَين فساد قولهم شرعا وعقلًا‏.‏ وهؤلاء في مقابلة الذين ينفون النزول‏.‏
وإذا قيل‏:‏ حديث النزول ونحوه ظاهره ليس يحتمل التأويل، فهذا صحيح إذا أريد بالظاهر ما يظهر لهؤلاء ونحوهم، من أنه ينزل إلى أسفل فيصير تحت العرش كما ينزل الإنسان من سطح داره إلى أسفل وعلى قول هؤلاء ولا يبقي حينئذ العلى ولا الأعلى، بل يكون تارة أعلى وتارة أسفل تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
وكذلك ما ورد من نزوله يوم القيامة في ظلل من الغمام، ومن نزوله

 

ص -107-

 إلى الأرض لما خلقها، ومن نزوله لتكليم موسي، وغير ذلك، كله من باب واحد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏ والنفاة المعطلة ينفون المجيء والإتيان بالكلية، ويقولون‏:‏ ما ثَمَّ إلا ما يحدث في المخلوقات، والحلولية يقولون‏:‏ إنه يأتي ويجيء بحيث يخلو منه مكان ويشغل آخر، فيخلو منه ما فوق العرش ويصير بعض المخلوقات فوقه‏.‏ فإذا أتي وجاء لم يصر على قولهم العلى الأعلى، ولا كان هو العلى العظيم، لا سيما إذا قالوا‏:‏ إنه يحويه بعض المخلوقات فتكون أكبر منه سبحانه وتعالى عما يقول هؤلاء وهؤلاء علوًا عظيما‏.‏
وكذلك قوله‏:‏
‏{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، إن كان قد قال أحد‏:‏ إنه في جوف السماء فهو شرٌ قولا من هؤلاء، ولكن هذا ما علمت به قائلًا معينًا منسوبا إلى علم حتي أحيكه قولا‏.‏
ومن قال‏:‏ إنه في السماء فمراده أنه في العلو، ليس مراده أنه في جوف الأفلاك، إلا أن بعض الجهال يتوهم ذلك‏.‏ وقد ظن طائفة أن هذا ظاهر اللفظ‏.‏

 

ص -108-

 الظاهر ولا ريب أنه محمول على خلاف هذا الاتفاق؛ لكن هذا هو الذي يظهر لعامة المسلمين الذين يطلقون هذا القول ويسمعونه، أو هو مدلول اللفظ في اللغة، هو مما لا يسلم لهم، كما قد يبسط في مواضع‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏
‏{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 65‏]‏، فاستثني نفسه، والعالم ‏{مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏.‏ ولا يجوز أن يقال‏:‏ هذا استثناء منقطع؛ لأن المستثني مرفوع، ولو كان منقطعًا لكان منصوبا‏.‏ والمرفوع على البدل، والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو بمنزلة المفرغ، كأنه قال‏:‏ ‏"‏لا يعلم الغيب إلا اللّه‏"‏‏.‏ فيلزم أنه داخل في‏:‏ ‏{مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏
وقد قدمنا أن لفظ ‏"‏السماء‏"‏ يتناول كل ما سما، ويدخل فيه السموات، والكرسي، والعرش، وما فوق ذلك؛ لأن هذا في جانب النفي، وهو لم يقل هنا‏:‏ السموات السبع، بل عم بلفظ‏:‏ ‏"‏السموات‏"‏‏.‏ وإذا كان لفظ ‏"‏السماء‏"‏ قد يراد به السحاب، ويراد به الفلك، ويراد به ما فوق العالم، ويراد به العلو مطلقًا، ف ‏"‏السموات‏"‏‏:‏ جمع ‏"‏سماء‏"‏، وكل من فيما يسمي ‏"‏سماء‏"‏، وكل من فيما يسمي ‏"‏أرضًا‏"‏ لا يعلم الغيب إلا اللّه‏.‏

 

ص -109-

 وهو سبحانه قال‏:‏ ‏{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏ما‏]‏، فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه ب ‏[‏من‏]‏ لتكون أبلغ، فإنهم مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا اللّه‏.‏
وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه‏:‏
‏{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه، ليس هو غيبًا عمن شهده‏.‏ والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا، فيكون غيبًا مقيدًا، أي‏:‏ غيبًا عمن غاب عنه من المخلوقين، لا عمن شهده، ليس غيبًا مطلقًا غاب عن المخلوقين قاطبة‏.‏
وقوله‏:‏
‏{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 46‏]‏، أي عالم ما غاب عن العباد مطلقًا ومعينًا وما شهدوه، فهو سبحانه يعلم ذلك كله‏.‏
والنفاة للعلو ونحوه من الصفات معترفون بأنه ليس مستندهم خبر الأنبياء، لا الكتاب، ولا السنة، ولا أقوال السلف، ولا مستندهم فطرة العقل وضرورته، ولكن يقولون‏:‏ معنا النظر العقلي‏.‏ وأما أهل السنة المثبتون للعلو فيقولون‏:‏ إن ذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، مع فطرة اللّه التي فطر العباد عليها وضرورة العقل، ومع نظر العقل واستدلاله‏.‏

 

ص -110-

 لكن، الذين يقولون بأنه ينزل ولا يبقي فوق العرش، وأنه يكون في جوف المخلوقات، ونحو هؤلاء، قد يقولون‏:‏ إن مستندهم في ذلك السمع، وهو ما فهموه من القرآن، أو من الأحاديث الصحيحة أو غير الصحيحة، أو من أقوال السلف وهم أخطؤوا من حيث نظروا اقتصروا على فهمه من نص واحد،كفهمهم من حديث النزول ولم يتدبروا مافي الكتاب والسنة مما يصفه بالعلو والعظمة ونحو ذلك مما ينافي أن يكون شيء أعلى منه أو أكبر منه‏.‏
ويتدبروا أيضًا دلالة النص، مثل نزوله إلى سماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر بأن الليل يختلف، فيكون ليل أهل المشرق ونصفه وثلثه الآخر قبل ذلك في المغرب بقريب من يوم، فيلزم على قولهم أنه لا يزال تحت العرش، وهو قد أخبر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض‏.‏ وما ذكروه ينافي استواءه على العرش، وأنه ليس فوق العرش، كما قد بسط في مواضع‏.
فَصل
‏[‏الأعلى‏]‏‏:‏ على وزن أفعل التفضيل، مثل الأكرم، والأكبر، والأجمل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلملما قال أبو سفيان‏:‏

 

ص -111-

 اعل هبل‏!‏ اعل هبل‏!‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا تجيبونه‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ وما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا ‏:‏ اللّه أعلى وأجل‏!‏‏"‏‏.‏ وهو مذكور بأداة التعريف ‏[‏الأعلى‏]‏ مثل‏:‏ ‏{وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3‏]‏، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ ‏"‏اللّه أكبر‏"‏ فإنه منكر‏.‏
ولهذا معنى يخصه يتميز به؛ ولهذا معنى يخصه يتميز به، كما بين العلو، والكبرياء، والعظمة، فإن هذه الصفات وإن كانت متقاربة، بل متلازمة، فبينها فروق لطيفة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى‏:‏
‏"‏العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته‏"‏، فجعل الكبرياء بمنزلة الرداء، وهو أعلى من الإزار‏.‏
ولهذا كان شعائر الصلاة، والأذان، والأعياد والأماكن العالية، هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن؛ سبحان الله، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏  ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول‏:‏ ‏"‏الله أكبر‏"‏، ‏"‏اللّه أعظم‏"‏‏.‏ ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقد إلا بلفظ التكبير‏.‏ فلو قال‏:‏ ‏"‏اللّه أعظم‏"‏ لم تنعقد به الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏مفتاح الصلاة الطُّهُور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏"‏‏.‏ وهذا

 

ص -112-

 قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، وداود، وغيرهم‏.‏ ولو أتى بغير ذلك من الأذكار، مثل سبحان اللّه، والحمد للّه، لم تنعقد به الصلاة‏.‏
ولأن التكبير مختص بالذكر في حال الارتفاع، كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض، كما في السنن عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلمإذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك‏.‏
ولما نزل قوله‏:
‏ ‏{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 74 ، 96‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏اجعلوها في ركوعكم‏"‏، ولما نزل‏: ‏{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏اجعلوها في سجودكم‏"‏‏.‏ وثبت عنه أنه كان يقول في ركوعه‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏، وفي سجوده‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏‏.‏ ولم يكن يكبر في الركوع والسجود‏.‏
لكن قد كان يقرن بالتسبيح التحميد والتهليل، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلمكان يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لى‏"‏ ، يتأول القرآن، أى‏:‏ يتأول قوله‏:‏ ‏
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فكان يجمع بين التسبيح والتحميد‏.‏

 

ص -113-

 وكذلك قد كان يقرن بالتسبيح في الركوع والسجود التهليل، كما في صحيح مسلم عن عائشة قالت‏:‏ افتقدت النبي صلى الله عليه وسلمذات ليلة‏.‏ فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست، ثم رجعت، فإذا هو راكع أو ساجد يقول‏:‏ ‏"‏سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ بأبي أنت وأمى‏!‏ إنى لفي شأن وإنك لفي شأن‏.‏
ففي هذه الأحاديث كلها أنه كان يسبح في الركوع والسجود، لكن قد يقرن بالتسبيح التحميد والتهليل، وقد يقرن به الدعاء‏.‏ ولم ينقل أنه كبر في الركوع والسجود‏.‏
وأما قراءة القرآن فيهما فقد ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إنى نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا‏"‏، رواه مسلم من حديث على، ومن حديث ابن عباس‏.‏ وذلك أن القرآن كلام اللّه فلا يتلى إلا في حال الارتفاع، والتكبير أيضًا محله حال الارتفاع‏.‏
وجمهور العلماء على أنه يشرع التسبيح في الركوع والسجود، وروى عن مالك‏:‏ أنه كره المداومة على ذلك لئلا يظن وجوبه‏.‏ ثم اختلفوا في وجوبه‏.‏ فالمشهور عن أحمد، وإسحق، وداود، وغيرهم‏:‏ وجوبه‏.‏ وعن أبي حنيفة، والشافعي‏:‏ استحبابه‏.‏
والقائلون بالوجوب، منهم من يقول‏:‏ يتعين‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏

 

ص -114-

 و‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏، للأمر بهما، وهو قول كثير من أصحاب أحمد، ومنهم من يقول‏:‏ بل يذكر بعض الأذكار المأثورة‏.‏
والأقوى‏:‏ أنه يتعين التسبيح، إما بلفظ ‏"‏سبحان‏"‏، وإما بلفظ ‏"‏سبحانك‏"‏، ونحو ذلك‏.‏ وذلك أن القرآن سماها‏:‏ ‏"‏تسبيحًا‏"‏، فدل على وجوب التسبيح فيها، وقد بينت السنة أن محل ذلك الركوع والسجود، كما سماها اللّه‏:‏ ‏"‏قرآنًا‏"‏‏.‏ وقد بينت السنة أن محل ذلك القيام‏.‏ وسماها‏:‏ ‏[‏قيامًا‏]‏ و‏[‏سجودًا‏]‏ و‏[‏ركوعًا‏]‏، وبينت السنة علة ذلك ومحله‏.‏
وكذلك التسبيح يسبح في الركوع والسجود‏.‏ وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه كان يقول‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏ و‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏، وأنه كان يقول‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي‏"‏، و ‏"‏سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت‏"‏‏.‏ وفي بعض روايات أبي داود‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم وبحمده‏"‏، وفي استحباب هذه الزيادة عن أحمد روايتان‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلمكان يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏"‏سبوح قدوس، رب الملائكة والروح‏"‏‏.‏ وفي السنن أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏سبحان ذى الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة‏"‏‏.‏ فهذه كلها تسبيحات‏.‏

 

ص -115-

 والمنقول عن مالك أنه كان يكره المداومة على ذلك‏.‏ فإن كان كراهة المداومة على ‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى والعظيم‏"‏، فله وجه، وإن كان كراهة المداومة على جنس التسبيح، فلا وجه له، وأظنه الأول‏.‏ وكذلك المنقول عنه إنما هو كراهة المداومة على ‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏؛ لئلا يظن أنها فرض؛وهذا يقتضي‏:‏ أن مالكًا أنكر أن تكون فرضًا واجبًا‏.‏
وهذا قوى ظاهر، بخلاف جنس التسبيح، فإن أدلة وجوبه في الكتاب والسنة كثيرة جدًا‏.‏ وقد علم أنه صلى الله عليه وسلمكان يداوم على التسبيح بألفاظ متنوعة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏اجعلوها في ركوعكم وفي سجودكم‏"‏ يقتضي أن هذا محل لامتثال هذا الأمر، لا يقتضي أنه لا يقال إلا هي مع ما قد ثبت أنه كان يقول غيرها‏.‏
والجمع بين صيغتي تسبيح بعيد، بخلاف الجمع بين التسبيح، والتحميد، والتهليل والدعاء‏.‏ فإن هذه أنواع، والتسبيح نوع واحد فلا يجمع فيه بين صيغتين‏.‏
وأيضًا، قد ثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏أفضل الكلام بعد القرآن

 

ص -116-

 أربع وهن من القرآن‏:‏ سبحان اللّه، والحمد للّه،ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ‏"‏‏.‏ فهذا يقتضي أن هذه الكلمات أفضل من غيرها‏.‏فإن جعل التسبيح نوعا واحدًا، ف ‏"‏سبحان اللّه‏"‏ و‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏ سواء، وإن جعل متفاضلا ف ‏"‏سبحان اللّه‏"‏ أفضل بهذا الحديث‏.‏
وأيضًا، فقوله ‏:‏ ‏
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى ‏:‏1‏]‏ و ‏{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 74،96‏]‏، أمر بتسبيح ربه، ليس أمرًا بصيغة معينة‏.‏ فإذا قال سبحان اللّه وبحمده سبحانك اللهم وبحمدك‏.‏ فقد سبح ربه الأعلى والعظيم‏.‏ فإن اللّه هو الأعلى، وهو العظيم، واسمه ‏[‏اللّه‏]‏، يتناول معانى سائر الأسماء بطريق التضمن، وإن كان التصريح بالعلو والعظمة ليس هو فيه‏.‏ ففي اسمه ‏[‏الله‏]‏ التصريح بالإلهية، واسمه ‏[‏اللّه‏]‏ أعظم من اسمه ‏[‏الرب‏]‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلمسئل‏:‏ أى الكلام أفضل‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏"‏ما اصطفي اللّه لملائكته أو لعباده؛ سبحان اللّه وبحمده‏"‏‏.‏
فالقيام فيه التحميد‏.‏و في الاعتدال من الركوع،وفي الركوع والسجود‏:‏ التسبيح، وفي الانتقال‏:‏ التكبير، وفي القعود‏:‏التشهد، وفيه التوحيد‏.‏ فصارت الأنواع الأربعة في الصلاة‏.‏

 

ص -117-

 والفاتحة أيضًا فيها التحميد والتوحيد‏.‏ فالتحميد والتوحيد ركن يجب في القراءة‏.‏ والتكبير ركن في الافتتاح‏.‏ والتشهد الآخر ركن في القعود كما هو المشهور عن أحمد‏.‏ وهو مذهب الشافعي، وفيه التشهد المتضمن للتوحيد‏.‏
يبقى التسبيح‏.‏ وأحمد يوجبه في الركوع والسجود‏.‏ وروى عنه أنه ركن‏.‏ وهو قوى لثبوت الأمر به في القرآن والسنة‏.‏ فكيف يوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلمولم يجئ أمر بها في الصلاة خصوصًا ولا يوجب التسبيح مع الأمر به في الصلاة، ومع كون الصلاة تسمى ‏[‏تسبيحًا‏]‏‏؟‏ وكل ما سميت به الصلاة من أبعاضها فهو ركن فيها، كما سميت ‏[‏قيامًا‏]‏، و‏[‏ركوعًا‏]‏، و‏[‏سجودًا‏]‏، و‏[‏قراءة‏]‏، وسميت أيضًا ‏[‏تسبيحًا‏]‏‏.‏
ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلمما ينفي وجوبه في حال السهو كما ورد في التشهد الأول أنه لما تركه سجد للسهو، لكن قد يقال‏:‏ لما لم يأمر به المسىء في صلاته دل على أنه واجب ليس بركن‏.‏ وبسط هذه المسألة له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن التسبيح قد خص به حال الانخفاض، كما خص حال الارتفاع بالتكبير‏.‏ فذكر العبد في حال انخفاضه وذله ما يتصف به

 

ص -118-

 الرب مقابل ذلك‏.‏ فيقول في السجود‏:‏ سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع‏:‏ سبحان ربي العظيم‏.‏
و‏[‏الأعلى‏]‏ يجمع معانى العلو جميعها، وأنه الأعلى بجميع معانى العلو‏.‏ وقد اتفق الناس على أنه علىّ على كل شيء بمعنى أنه قاهر له، قادر عليه، متصرف فيه، كما قال‏:‏
‏{إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وعلى أنه عال عن كل عيب ونقص ، فهو عال عن ذلك ، منزه عنه،كما قال تعالى ‏:‏
‏{وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 39 43‏]‏، فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91، 92‏]‏ ، وقالت الجن‏:‏ ‏{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 3‏]‏‏.‏

 

ص -119-

 وفي دعاء الاستفتاح‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين أنه كان يقول في آخر استفتاحه‏:‏ ‏"‏تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك‏"‏‏.‏
فقد بين سبحانه أنه تعالى عما يقول المبطلون وعما يشركون‏.‏ فهو متعال عن الشركاء والأولاد، كما أنه مسبح عن ذلك‏.‏
وتعاليه سبحانه عن الشريك هو تعاليه عن السمى ، والند ، والمثل فلا يكون شيء مثله‏.‏
وقد ذكروا من معانى العلو الفضيلة، كما يقال‏:‏ الذهب أعلى من الفضة‏.‏ ونفي المثل عنه يقتضي أنه أعلى من كل شيء فلا شيء مثله‏.‏ وهو يتضمن أنه أفضل وخير من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء‏.‏ وفي القرآن‏
:‏‏{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفي آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 59‏]‏، ويقول‏:‏ ‏{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ ، ويقول ‏{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35‏]‏، وقالت السحرة‏:‏ ‏{وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 73‏]‏‏.‏
وهو سبحانه يبين أن المعبودين دونه ليسوا مثله في مواضع، كقوله‏:‏‏

 

ص -120-

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31 - 36‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17 - 21‏]‏، وكذلك قوله في أثناء السورة‏:‏ ‏{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75، 76‏]‏‏.‏
فهو سبحانه يبين أنه هو المستحق للعبادة دون ما يعبد من دونه ،

 

ص -121-

وأنه لا مثل له‏.‏ ويبين ما اختص به من صفات الكمال وانتفائها عما يعبد من دونه‏.‏ ويبين أنه يتعالى عما يشركون وعما يقولون من إثبات الأولاد والشركاء له‏.‏
وقال‏:‏
‏{قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، وهم كانوا يقولون إنهم يشفعون لهم، ويتقربون بهم‏.‏
لكن كانوا يثبتون الشفاعة بدون إذنه، فيجعلون المخلوق يملك الشفاعة، وهذا نوع من الشرك‏.‏ فلهذا قال تعالى‏:‏
‏{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، فالشفاعة لا يملكها أحد غير الله‏.‏
كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله‏:
‏ ‏{إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، يقول لابُتغَت الحوائج من الله‏.‏ وعن معمر، عن قتادة‏:‏ ‏{لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏ ‏:‏ لابتغوا التقرب إليه مع أنه ليس كما يقولون‏.‏ وعن سعيد، عن قتادة‏:‏ ‏{لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، يقول‏:‏ لو كان معه آلهة إذًا لعرفوا له فضله ومزيته عليهم ولابتغوا إليه ما يقربهم إليه‏.‏ وروى عن سفيان الثورى‏:‏ لتعاطوا سلطانه‏.‏
وعن أبي بكر الهذلى،عن سعيد بن جبير‏:‏ سبيلاً إلى أن يزيلوا ملكه، والهذلي ضعيف‏.‏

 

ص -122-

فقد تضمن العلو الذى ينعت به نفسه في كتابه أنه متعال عما لا يليق به من الشركاء والأولاد، فليس كمثله شيء‏.‏ وهذا يقتضي ثبوت صفات الكمال له دون ما سواه‏.‏
وأنه لا يماثله غيره في شيء من صفات الكمال، بل هو متعال عن أن يماثله شيء‏.‏ وتضمن أنه عال على كل ما سواه، قاهر له، قادر عليه، نافذة مشىئته فيه، وأنه عال على الجميع فوق عرشه‏.‏ فهذه ثلاثة أمور في اسمه ‏[‏العلي‏]‏‏.‏
وإثبات علوه علوه على ما سواه، وقدرته عليه وقهره يقتضي ربوبيته له، وخَلْقَه له، وذلك يستلزم ثبوت الكمال‏.‏ وعلوه عن الأمثال يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال‏.‏
وهذا وهذا يقتضي جميع ما يوصف به في الإثبات والنفي‏.‏ ففي الإثبات يوصف بصفات الكمال، وفي النفي ينزه عن النقص المناقض للكمال، وينزه عن أن يكون له مثل في صفات الكمال‏.‏ كما قد دلت على هذا وهذا سورة الإخلاص‏:‏ ‏
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
وتعاليه عن الشركاء يقتضي اختصاصه بالإلهية، وأنه لا يستحق

 

ص -123-

 العبادة إلا هو وحده، كما قال‏:‏ ‏{قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، أي‏:‏ وإن كانوا كما يقولون يشفعون عنده بغير إذنه ويقربونكم إليه بغير إذنه فهو الرب والإله دونهم، وكانوا يبتغون إليه سبيلا بالعبادة له والتقرب إليه‏.‏ هذا أصح القولين‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 54، 55‏]‏، وقال‏:‏‏{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏
ثم قال‏:‏
‏{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 43‏]‏، فتعالى عن أن يكون معه إله غيره، أو أحد يشفع عنده إلا بإذنه، أو يتقرب إليه أحد إلا بإذنه‏.‏ فهذا هو الذى كانوا يقولون‏.‏
ولم يكونوا يقولون‏:‏ إن آلهتهم تقدر أن تمانعه أو تغالبه‏.‏ بل هذا يلزم من فرض إله آخر يخلق كما يخلق، وإن كانوا هم لم يقولوا ذلك، كما قال‏:‏ ‏
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏
فقد تبين أن اسمه ‏[‏الأعلى‏]‏ يتضمن اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص، وعن أن يكون له مثل، وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه‏.

 

ص -124-

فصل
والأمر بتسبيحه يقتضي أيضًا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له، فإن التسبيح يقتضي التنزيه والتعظيم، والتعظيم يستلزم إثبات المحامد التي يحمد عليها‏.‏ فيقتضي ذلك تنزيهه، وتحميده، وتكبيره، وتوحيده‏.‏
قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، ثنا ابن نفيل الحرانى، ثنا النضر بن عربي، قال‏:‏ سأل رجل ميمون بن مهران ‏[‏هو أبو أيوب ميمون بن مهران الرقى، فقيه من القضاة، كان مولى لامرأة بالكوفة وأعتقته، فنشأ فيها ثم استوطن الرقة من بلاد الجزيرة الفراتية، فكان عالم الجزيرة وسيدها، واستعمله عمر بن عبد العزيز على خراجها وقضائها، وكان ثقة في الحديث كثير العبادة، توفي عام 711ه‏]‏ عن ‏"‏سبحان الله‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏اسم يعظم الله به ويحاشى به من السوء‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأَشَجّ، ثنا حفص بن غِياث، عن حجاج عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏[‏سبحان‏]‏، قال‏:‏ تنزيه الله نفسه من السوء‏.‏ وعن الضحاك عن ابن عباس في قوله‏:‏
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، قال‏:‏ عجب‏.‏ وعن أبي الأشهب، عن الحسن قال‏:‏ ‏[‏سبحان‏]‏‏:‏ اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه‏.‏
وقد جاء عن غير واحد من السلف مثل قول ابن عباس‏:‏ أنه

 

ص -125-

 تنزيه نفسه من السوء‏.‏ وروي في ذلك حديث مرسل‏.‏ وهو يقتضي تنزيه نفسه من فعل السيئات، كما يقتضي تنزيهه عن الصفات المذمومة‏.‏
ونفي النقائص يقتضي ثبوت صفات الكمال، وفيها التعظيم كما قال ميمون بن مِهْران‏:‏ ‏"‏اسم يعظم الله به ويحاشى به من السوء‏"‏‏.‏ وروى عبد بن حميد‏:‏ حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَب، عن موسى بن طلحة قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التسبيح، فقال‏:‏
‏"‏إنزاهه عن السوء‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا الضحاك بن مَخْلدَ، عن شبيب عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ سبحان الله، قال‏:‏ تنزيهه‏.‏
حدثنا كثير بن هشام، ثنا جعفر بن بُرْقان، ثنا يزيد بن الأصم قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ لا إله إلا الله، نعرفها أنه لا إله غيره، والحمد لله، نعرفها أن النعم كلها منه وهو المحمود عليها، والله أكبر، نعرفها أنه لا شيء أكبر منه، فما سبحان الله‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ وما ينكر منها‏؟‏ هي كلمة رضيها الله لنفسه، وأمر بها ملائكته، وفزع إليها الأخيار من خلقه‏.‏

 

ص -126-

 فصل
قوله‏:‏ ‏{
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ العطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما ذكر وأن بينهما مغايرة إما في الذات وإما في الصفات‏.‏
وهو في الذات كثير، كقوله‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وأما في الصفات فمثل هذه الآية‏.‏فإن الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى، لكن هذا الاسم والصفة ليس هو ذاك الاسم والصفة،ومثله قوله‏:‏‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏3‏]‏،ومثله قوله‏:‏‏{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏3، 4‏]‏،وقوله‏:‏‏{لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏162‏]‏، وقوله‏:‏‏{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏1 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ‏}‏ الآيات ‏[‏المعارج‏:‏22 24‏]‏‏.‏

 

ص -127-

وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ الآيات ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏، فإنه من صدق وصبر ولم يسلم ولم يؤمن لم يكن ممن أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا‏.‏
وكثيرًا ما تأتى الصفات بلا عطف، كقوله‏:‏ ‏
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 23‏]‏، وقوله‏:‏‏{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 1 3‏]‏‏.‏
وقد تجيء خبرًا بعد خبر، كقوله‏
:‏ ‏{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 14 16‏]‏‏.‏ ولو كان ‏[‏فعال‏]‏ صفة، لكان معرفًا، بل هو خبر بعد خبر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏، خبر بعد خبر، لكن بالعطف بكل من الصفات‏.‏
وأخبار المبتدأ قد تجيء بعطف وبغير عطف‏.‏ وإذا ذكر بالعطف كان كل اسم مستقلا بالذكر، وبلا عطف يكون الثاني من تمام الأول بمعنى‏.‏ ومع العطف لا تكون الصفات إلا للمدح والثناء، أو للمدح، وأما بلا عطف فهو في النكرات للتمييز، وفي المعارف قد يكون للتوضيح‏.‏

 

ص -128-

 و‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2 - 4‏]‏، وُصِفَ بكل صفة من هذه الصفات، ومُدِح بها، وأُثْنِىَ عليه بها‏.‏ وكانت كل صفة من هذه الصفات مستوجبة لذلك‏.‏
فصل
قال تعالى‏:‏ ‏
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏، فأطلق الخلق والتسوية ولم يخص بذلك الإنسان، كما أطلق قوله بعد ‏{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏ لم يقيده‏.‏ فكان هذا المطلق لا يمنع شموله لشيء من المخلوقات‏.‏ وقد بين موسى عليه السلام شموله في قوله‏:‏ ‏{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏
وقد ذكر المقيد بالإنسان في قوله‏:‏
‏{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
وقد ذكر المطلق والمقيد في أول ما نزل من القرآن، وهو قوله‏:‏
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏} ‏[‏العلق‏:‏ 1 - 5‏]‏‏.‏
وفي جميع هذه الآيات مطلقها ومقيدها والجامع بين المطلق والمقيد قد ذكر خلقه، وذكر هدايته وتعليمه بعد الخلق، كما قال في هذه السورة‏:‏
‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏ ‏.‏

 

ص -129-

 لأن جميع المخلوقات خلقت لغاية مقصودة بها، فلابد أن تهدى إلى تلك الغاية التي خلقت لها‏.‏ فلا تتم مصلحتها وما أريدت له إلا بهدايتها لغاياتها‏.‏
وهذا مما يبين أن الله خلق الأشياء لحكمة وغاية تصل إليها، كما قال ذلك السلف وجمهور المسلمين وجمهور العقلاء‏.‏  وقالت طائفة كجهم وأتباعه‏:‏ إنه لم يخلق شيئًا لشيء، ووافقه أبو الحسن الأشعرى ومن اتبعه من الفقهاء أتباع الأئمة‏.‏ وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها‏.‏
وطائفة من المتفلسفة يثبتون عنايته وحكمته، وينكرون إرادته‏.‏ وكلاهما تناقض‏.‏ وقد بُسِطَ الكلام على فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع، وأن منتهاهم جحد الحقائق‏.‏
فإن هذا يقول‏:‏ لو كان له حكمة يفعل لأجلها لكان يجب أن يريد الحكمة وينتفع بها، وهو منزه عن ذلك‏.‏ وذاك يقول‏:‏ لو كان له إرادة لكان يفعل لجر منفعة؛ فإن الإرادة لا تعقل إلا كذلك‏.‏ وأرسطو وأتباعه يقولون‏:‏ لو فعل شيئًا لكان الفعل لغرض، وهو منزه عن ذلك‏.‏

 

ص -130-

 فيقال لهؤلاء‏:‏ هذه الحوادث المشهودة، ألها محدث أم لا‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ لا، فهو غاية المكابرة‏.‏ وإذا جوزوا حدوث الحوادث بلا محدث فتجويزها بمحدث لا إرادة له أولى‏.‏
وإن قالوا‏:‏ لها محدث، ثبت الفاعل‏.‏ وإذا ثبت الخالق المحدث فإما أن يفعل بإرادة أو بغير إرادة‏.‏ فإن قالوا‏:‏ يفعل بغير إرادة كان ذلك أيضًا مكابرة‏.‏ فإن كل حركة في العالم إنما صدرت عن إرادة‏.‏
فإن الحركات إما طبعية، وإما قَسْريَّة،وإما إرادية؛ لأن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك، أو من سبب خارج‏.‏ وما كان منها فإما أن يكون مع الشعور، أو بدون الشعور‏.‏ فما كان سببه من خارج فهو القسرى، وما كان سببه منها بلا شعور فهو الطبعي، وما كان مع الشعور فهو الإرادى‏.‏ فالقسري تابع للقاسر، والذي يتحرك بطبعه، كالماء والهواء والأرض، هو ساكن في مركزه، لكن إذا خرج عن مركزه قسرًا طلب العودة إلى مركزه، فأصل حركته القسر‏.‏ولم تبق حركة أصلية إلا الإرادية‏.‏ فكل حركة في العالم فهي عن إرادة‏.‏
فكيف تكون جميع الحوادث والحركات بلا إرادة‏؟‏
وأيضًا، فإذا جوزوا أن تحدث الحوادث العظيمة عن فاعل غير مريد فجواز ذلك عن فاعل مريد أولى‏.‏

 

ص -131-

 وإذا ثبت أنه مريد قيل‏:‏ إما أن يكون أرادها لحكمة،وإما أن يكون أرادها لغير حكمة‏.‏ فإن قالوا لغير حكمة، كان مكابرة‏.‏ فإن الإرادة لا تعقل إلا إذا كان المريد قد فعل لحكمة يقصدها بالفعل‏.‏
وأيضًا، فإذا جوزوا أن يكون فاعلًا مريدًا بلا حكمة فَكَوْنُه فاعلًا مريدًا لحكمة أولى بالجواز‏.‏
وأما قولهم‏:‏ هذا لا يعقل إلا في حق من ينتفع، وذلك يوجب الحاجة، والله منزه عن ذلك‏.‏ فإن أرادوا أنه يوجب احتياجه إلى غيره أو شيء من مخلوقاته فهو ممنوع وباطل، فإن كل ما سواه محتاج إليه من كل وجه‏.‏وهو الصمد الغنى عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه،وهو القيوم القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه‏.‏ فكيف يكون محتاجًا إلى غيره‏؟‏
وإن أرادوا أنه تحصل له بالخلق حكمة هي أيضًا حاصلة بمشيئته فهذا لا محذور فيه، بل هو الحق‏.‏
وإذا قالوا‏:‏ الحكمة هي اللذة، قيل‏:‏ لفظ ‏[‏اللذة‏]‏ لم يرد به الشرع، وهو موهم ومجمل‏.‏ لكن جاء الشرع بأنه ‏[‏يحب‏]‏ ، و ‏[‏يرضى‏]‏

 

ص -132-

 ، و‏[‏يفرح بتوبة التائبين‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ فإذا أريد ما دل عليه الشرع والعقل فهو حق‏.‏
وإن قالوا‏:‏ الحكمة إما أن تراد لنفسها أو لحكمة، قيل‏:‏ المرادات نوعان ما يراد لنفسه، وما يراد لغيره‏.‏ وقد يكون الشيء غاية وحكمة بالنسبة إلى مخلوق وهو مخلوق لحكمة أخرى‏.‏ فلابد أن ينتهي الأمر إلى حكمة يريدها الفاعل لذاتها‏.‏
والمعتزلة ومن وافقهم، كابن عقيل وغيره تثبت حكمة لا تعود إلى ذاته‏.‏ وأما السلف؛ فإنهم يثبتون حكمة تعود إلىه، كما قد بين في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا ذكر قوله تعالى‏:‏
‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏2، 3‏]‏ والتسوية‏:‏ جعل الشيئين سواء، كما قال‏:‏ ‏{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، و ‏{سَوَاء‏}‏ وسط؛ لأنه معتدل بين الجوانب‏.‏
وذلك أنه لابد في الخلق والأمر من العدل‏.‏ فلابد من التسوية بين المتماثلين، فإذا فضل أحدهما فسد المصنوع، كما في مصنوعات العباد إذا بنوا بنيانًا فلابد من التسوية بين الحيطان، إذ لو رفع حائط على

 

ص -133-

 حائط رفعًا كثيرًا فسد‏.‏ ولابد من التسوية بين جذوع السقف، فلو كان بعض الجذوع قصيرًا عن الغاية وبعضها فوق الغاية فسد‏.‏ وكذلك إذا بنى صف فوق صف لابد من التسوية بين الصفوف، وكذلك الدرج المبنية‏.‏ وكذلك إذا صنع لسقي الماء جداول ومساكب فلابد من العدل والتسوية فيها‏.‏ وكذلك إذا صنعت ملابس للآدميين فلابد من أن تكون مقدرة على أبدانهم لا تزيد ولا تنقص‏.‏ وكذلك ما يصنع من الطعام لابد أن تكون أخلاطه على وجه الاعتدال، والنار التي تطبخه كذلك‏.‏ وكذلك السفن المصنوعة‏.‏
ولهذا قال الله لداود‏:‏ ‏{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 11‏]‏، أي‏:‏ لا تدق المسمار فيقلق، ولا تغلظه فيفصم، واجعله بقدر‏.‏
فإذا كان هذا في مصنوعات العباد وهي جزء من مصنوعات الرب فكيف بمخلوقاته العظيمة التي لا صنع فيها للعباد، كخلق الإنسان وسائر البهائم، وخلق النبات، وخلق السموات والأرض والملائكة‏.‏
فالفلك الذي خَلَقه وجعله مستديرًا ما له من فروج، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسًِا وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏

 

ص -134-

 ‏{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏‏.‏
فهو سبحانه سواها كما سوى الشمس والقمر وغير ذلك من المخلوقات، فعدل بين أجزائها‏.‏ ولو كان أحد جانبى السماء داخلًا أو خارجًا لكان فيها فروج، وهي الفتوق والشقوق، ولم يكن سواها، كمن بنى قبة ولم يسوها‏.‏ وكذلك لو جعل أحد جانبيها أطول أو أنقص، ونحو ذلك‏.‏
فالعدل والتسوية لازم لجميع المخلوقات والمصنوعات‏.‏ فمتى لم تصنع بالعدل والتسوية بين المتماثلين وقع فيها الفساد‏.‏
وهو سبحانه
‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قال أبو العالية في قوله‏:‏ ‏{خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ قال‏:‏ سوى خلقهن وهذا كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏
فصل
ثم إذا خلق المخلوق فسوى، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد‏.‏ فلابد أن يهدى بعد ذلك إلى ما خلق له‏.‏

 

ص -135-

 وتلك الغاية لابد أن تكون معلومة للخالق‏.‏ فإن العلة الغائية هي أول في العلم والإرادة، وهي آخر في الوجود والحصول‏.‏ ولهذا كان الخالق لابد أن يعلم ما خلق‏.‏ فإنه قد أراده، وأراد الغاية التي خلقه لها، والإرادة مستلزمة للعلم‏.‏ فيمتنع أن يريد الحى ما لا شعور له به‏.‏
والصانع إذا أراد أن يصنع شيئًا فقد عَلِمه وأراده، وقدر في نفسه ما يصنعه، والغاية التي ينتهي إليها، وما الذي يوصله إلى تلك الغاية‏.‏
والله سبحانه قدر وكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
:‏ ‏"‏قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏"‏‏.‏
وفي البخارى عن عمران بن حُصَيْن، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏ثم خلق السموات والأرض‏"‏‏.‏

 

ص -136-

 فقد قدر سبحانه ما يريد أن يخلقه من هذا العالم حين كان عرشه على الماء إلى يوم القيامة، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أول ما خلق الله القلم، فقال‏:‏ اكتب‏.‏ فقال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ فقال‏:‏ اكتب ما يكون إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
وأحاديث تقديره سبحانه وكتابته لما يريد أن يخلقه كثيرة جدًا‏.‏
روى ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه سئل عن قوله‏:‏
‏{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏، فقال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله قدر المقادير بقدرته ودبر الأمور بحكمته، وعلم ما العباد صائرون إليه، وما هو خالق وكائن من خلقه، فخلق الله لذلك جنة ونارًا، فجعل الجنة لأوليائه وعرفهم وأحبهم وتولاهم ووفقهم وعصمهم، وترك أهل النار استحوذ عليهم إبليس وأضلهم وأزلهم‏.‏
فخلق لكل شيء ما يشاكله في خلقه ما يصلحه من رزقه في بر أو في بحر فجعل للبعير خلقًا لا يصلح شيء من خلقه على غيره من الدواب‏.‏ وكذلك كل دابة خلق الله له منها ما يشاكلها في خلقها، فخلقه مؤتلف لما خلقه له غير مختلف‏.‏
قال ابن أبي حاتم‏:‏ ثنا أبي، ثنا يحيى بن زكريا بن مِهْرَان القزاز ،

 

ص -137-

 نا حبان بن عبيد الله قال‏:‏ سألت الضحاك عن هذه الآية ‏{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏، قال الضحاك‏:‏ قال ابن عباس، فذكره‏.‏
وقال‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، ثنا طلحة بن سِنان، عن عاصم عن الحسن قال‏:‏ من كذب بالقدر فقد كذب بالحق‏.‏ خلق الله خلقًا، وأجل أجلًا، وقدر رزقًا، وقدر مصيبة، وقدر بلاء، وقدر عافية‏.‏ فمن كفر بالقدر فقد كفر بالقرآن‏.‏
وقال‏:‏ حدثنا الحسن بن عرفة، ثنا مروان بن شُجاع الجزرى، عن عبد الملك بن جُرَيْح، عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له‏:‏ قد تكلم في القدر‏.‏ فقال‏:‏ أو قد فعلوها‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم‏:‏
‏{ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 48، 49‏]‏ أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم‏.‏ إن رأيت أحدًا منهم فقأت عينيه بأصبعى هاتين‏.‏
وقال أيضًا‏:‏ حدثنا على بن الحسين بن الجنيد، حدثنا سهل الخياط، ثنا أبو صالح الحُدَّانى، نا حبان بن عبيد الله قال‏:‏ سألت

 

ص -138-

 الضحاك عن قوله‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله خلق العرش فاستوى عليه، ثم خلق القلم فأمره ليجرى بإذنه وعظم القلم كقدر ما بين السماء والأرض فقال القلم‏:‏ بما يارب أجرى‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏بما أنا خالق وكائن في خلقى ‏.‏ من قَطْر أو نبات أو نفس أو أثر يعنى به العمل أو رزق أو أجل‏"‏‏.‏ فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ فأثبته الله في الكتاب المكنون عنده تحت العرش‏.‏
فصل
فقوله سبحانه ‏:‏ ‏
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏، يتضمن أنه قَدَّر ما سيكون للمخلوقات، وهداها إليه‏.‏ علم ما يحتاج إليه الناس والدواب من الرزق، فخلق ذلك الرزق وسواه، وخلق الحيوان وسواه وهداه إلى ذلك الرزق‏.‏ وهدى غيره من الأحياء أن يسوق إليه ذلك الرزق‏.‏
وخلق الأرض، وقَدَّر حاجتها إلى المطر، وقَدَّر السحاب وما يحمله من المطر‏.‏ وخلق ملائكة هداهم ليسوقوا ذلك السحاب إلى تلك الأرض

 

ص -139-

 فيمطر المطر الذي قدره‏.‏ وقَدَّر ما نبت بها من الرزق، وقَدَّر حاجة العباد إلى ذلك الرزق‏.‏ وهداهم إلى ذلك الرزق، وهدى من يسوق ذلك الرزق إليهم‏.‏
وقد ذكر المفسرون أنواعًا من تقديره وهدايته‏:‏ فروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما، بالإسناد الثابت عن مجاهد في قوله‏:
‏ ‏{قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ، قال‏:‏ الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها‏.‏
وكذلك رواه عبد بن حميد في تفسيره، قال‏:‏ هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراتعها‏.‏
وقال‏:‏ حدثنا يونس، عن شيبان عن قتادة‏:
‏ ‏{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ، قال‏:‏ لا والله‏!‏ ما أكره الله عبدًا على معصية قط ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره، ولكن رضى لكم الطاعة فأمركم بها، ونهاكم عن معصيته‏.‏
قلت‏:‏ قتادة ذكر هذا عند هذه الآية ليبين أن الله قدر ما قدره من السعادة والشقاوة، كما قال الحسن وقتادة، وغيرهما من أئمة المسلمين، فإنهم لم يكونوا متنازعين‏.‏ فما سبق من سبق تقدير الله، وإنما كان نزاع بعضهم في الإرادة وخلق الأفعال ‏.‏

 

ص -140-

 وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر، وابن عباس، وغيرهما‏.‏
وذكر قتادة أن الله لم يكره أحدًا على معصية‏.‏ وهذا صحيح، فإن أهل السنة المثبتين للقدر متفقون على أن الله لا يكره أحدًا على معصية كما يكره الوالى والقاضى وغيرهما للمخلوق على خلاف مراده يكرهونه بالعقوبة والوعيد‏.‏ بل هو سبحانه يخلق إرادة العبد للعمل وقدرته وعمله، وهو خالق كل شيء‏.‏
وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القَدَريَّة، وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر، حتى قيل‏:‏ إن مالكا كره لمعمر أن يروى عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر‏.‏
وهذا القول حق، ولم يعرف أحد من السلف قال‏:‏ إن الله أكره أحدًا على معصية‏.‏
بل أبلغ من ذلك أن لفظ ‏[‏الجبر‏]‏ منعوا من إطلاقه، كالأوزاعى ‏.‏ والثورى، والزبيدى، وعبد الرحمن بن مهدى، وأحمد بن حنبل، وغيرهم‏.‏ نهوا عن أن يقال‏:‏ إن الله جبر العباد، وقالوا‏:‏ إن هذا بدعة في الشرع، وهو مفهم للمعنى الفاسد‏.‏

 

ص -141-

 قال الأوزاعى وغيره‏:‏ إن السُّنَّة جاءت ب‏[‏جبل‏]‏، ولم تأت ب‏[‏جبر‏]‏، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس‏:‏ ‏"‏إن فيك لخُلقُين يحبهما الله، الحلم والأناة‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ أخلقين تَخَلَّقتُ بهما أم خلقين جُبِلْتُ عليهما‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بل خلقين جبلت عليهما‏"‏‏.‏ قال‏:‏ الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله‏.‏
وقال الزُبَيْدي وغيره‏:‏ إنما يجبر العاجز يعنى الجبر الذي هو بمعنى الإكراه كما تجبر المرأة على النكاح، والله أجل وأعظم من أن يجبر أحدًا يعنى أنه يخلق إرادة العبد فلا يحتاج إلى إجباره‏.‏
فالزُبَيدي وطائفة نفوا ‏[‏الجبر‏]‏ وكان مفهومه عندهم هذا‏.‏
وأما الأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، فكرهوا أن يقال‏:‏ ‏[‏جبر‏]‏، وأن يقال‏:‏ ‏[‏لم يجبر‏]‏؛ لأن ‏[‏الجبر‏]‏ قد يراد به الإكراه، والله لا يكره أحدًا‏.‏
وقد يراد به أنه خالق الإرادة، كما قال محمد بن كعب‏:‏ الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراد‏.‏ و‏[‏الجبر‏]‏ بهذا المعنى صحيح‏.‏
وقول مجاهد في قوله‏:‏
‏{قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، يبين أن هذا عنده مما دخل في قوله‏:‏ ‏{قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏،

 

ص -142-

 أي‏:‏ هدى السعداء إلى السعادة التي قدرها، وهدى الأشقياء إلى الشقاء الذي قدره‏.‏
وهكذا قال مجاهد في قوله‏:
‏‏{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏، قال‏:‏ السعادة والشقاوة‏.‏
وقال عكرمة‏:‏ سبيل الهدى‏.‏ رواهما عبد بن حميد‏.‏
وكذلك روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏، قال‏:‏ الشقاوة والسعادة‏.‏
وقد قال هو وجماهير السلف‏:‏
‏{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ، أي‏:‏ الخير والشر‏.‏ رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود‏.‏ ثم قال‏:‏ وروى عن على بن أبي طالب، وابن عباس في إحدى‏.‏‏.‏‏.‏ وشقيق بن سلمة، وأبي صالح، ومجاهد، والحسن، ومحمد بن كعب، وعكرمة، وشُرَحْبيل بن سعيد، وابن سِنَان الرازى، والضحاك، وعَطَاء الخُرَاسَانى، وعمرو ابن قيس الملاُئى، نحو ذلك‏.‏
وروى عن محمد بن كعب القُرَظى قال‏:‏ الحق والباطل‏.‏

 

ص -143-

 وهذا كلام مجمل فيه ما هو متفق عليه، وهو أنه يبين للناس ما أرسله من الرسل، ونصبه من الدلائل والآيات، وأعطاهم من العقول طريق الخير والشر كما في قوله‏:‏ ‏{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وأما إدخال الهدى الذي هو الإلهام في ذلك، بمعنى أنه هدى المؤمن إلى أن يؤمن ويعمل صالحًا إلى أن يسعد بذلك،وهدى الكافر إلى ما يعمله إلى أن يشقى بذلك، فهذا منهم من يدخله في الآية، كمجاهد وغيره ويدخله في قوله‏:‏ ‏
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ ‏.‏وعكرمة وغيره يخرجون ذلك عن معنى هذه الآية وإن كانوا مقرين بالقدر‏.‏
ومن قال‏:‏ ‏"‏هَدَى‏"‏، بمعنى بَيَّن فقط، فقد هدى كل عبد إلى نُجُد الخير والشر جميعًا، أي بَيَّن له طريق الخير والشر‏.‏
ومن أدخل في ذلك السعادة والشقاوة يقول‏:‏ في هذا تقسيم، أى‏:‏ هذه الهداية عامة مشتركة، وخص المؤمن بهداية إلى نَجْد الخير، وخص الكافر بهداية إلى نَجْد الشر‏.‏
ومن لم يدخل ذلك في الآية قد يحتجون بحديث من مراسيل الحسن قال‏:‏ ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:
‏ ‏"‏يأيها الناس، إنما هما النّجْدان؛ نجد الخير، ونجد الشر‏.‏ فما يجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير‏؟‏‏"‏‏.‏

 

ص -144-

 ويحتجون بأن إلهام الفاجر طريق الفجور لم يسمه هدىً، بل سماه ضلالا، والله امتن بأنه هُدًى‏.‏
وقد يجيب الآخر بأن يقول‏:‏ هو لا يدخل في الهدى المطلق، لكن يدخل في الهدى المقيد، كقوله‏:
‏ ‏{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 23‏]‏، وكما في لفظ البشارة، قال‏:‏ ‏{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏، ولفظ الإيمان فقال‏:‏ ‏{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏
وهذان القولان في قوله‏:‏
‏{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ قيل‏:‏ هو البيان العام، وقيل‏:‏ بل ألهم الفاجر الفجور والتقى التقوى‏.‏
وهذا في تلك الآية أظهر، لأن الإلهام استعماله مشهور في إلهام القلوب، لا في التبين الظاهر الذي تقوم به الحجة‏.‏
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم حصينًا الخُزَاعى ‏[‏هو حصين بن عبيد، والد عمران بن حصين الخزاعى، روى عنه ابنه عمران بن حصين حديثًا مرفوعًا في إسلامه، وفي الدعاء‏]‏ لما أسلم أن يقول‏:‏ ‏"‏اللهم، ألهمني رشدي، وقني شر نفسي‏"‏‏.‏ ولو كان الإلهام بمعنى البيان الظاهرلكان هذا حاصلا للمسلم والكافر‏.‏
قال ابن عطية‏:‏ و‏{سوّى‏}‏ معناه عدل وأتقن حتى صارت الأمور مستوية، دالة على قدرته ووحدانيته‏.‏
وقرأ جمهور القراء ‏{قدَّر‏}‏ بتشديد الدال، فيحتمل أن يكون

 

ص -145-

 من القَدَر والقضاء، ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء‏.‏
قلت‏:‏ هما متلازمان؛ لأن التقدير الأول يسمى تقديرًا؛ لأن ما يجرى بعد ذلك يجرى على قدره، فهو موازن له ومعادل له‏.‏ قال‏:‏ وقرأ الكِسَائي وحده بتخفيف الدال، فيحتمل أن يكون بمعنى القدرة‏.‏ ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة‏.‏
قلت‏:‏ وهذا قول الأكثرين؛ أنهما بمعنى واحد‏.‏
قال ابن عطية‏:‏ وقوله ‏{فهدى‏}‏ ، عام لوجوه الهدايات في الإنسان والحيوان‏.‏ وقد خصص بعض المفسرين أشياء من الهدايات، فقال الفرَّاء‏:‏ معناه هدى وأضل، واكتفي بالواحد لدلالتها على الأخرى‏.‏ قال، وقال مقاتل، والكلبي‏:‏ هدى إلى وطء الذكور للإناث‏.‏ وقيل‏:‏ هدى المولود عند وضعه إلى مَصِّ الثدي‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هدى الناس للخير والشر، والبهائم للمراتع‏.‏
قال ابن عطية ‏:‏ وهذه الأقوال مثالات ، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كلهداية‏.‏
وقد ذكر أبو الفَرَجِ بن الجوزي هذه الأقوال وغيرها، فذكر

 

ص -146-

 سبعة أقوال‏:‏ قَدَّر السعادة والشقاوة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء‏.‏ وقيل‏:‏ قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدى‏.‏ وقيل‏:‏ قدرهم ذكرانًا وإناثًا، وهدى الذكور لإتيان الإناث، قاله مقاتل وقيل‏:‏ قدر فهدى وأضل، فحذف ‏[‏وأضل‏]‏؛ لأن في الكلام ما يدل عليه، حكاه الزَّجْاج‏.‏ وقيل‏:‏ قدر الأرزاق وهدى إلى طلبها؛ وقيل، قدر الذنوب فهدى إلى التوبة، حكاهما الثعلبي‏.‏
قلت‏:‏ القول الذي حكاه الزجاج هو قول الفَرَّاء، وهو من جنس قوله‏:‏ إن نفعت وإن لم تنفع، ومن جنس قوله‏:‏ سرابيل تقيكم الحر والبرد‏.‏ وقد تقدم ضعف مثل هذا؛ ولهذا لم يقله أحد من المفسرين‏.‏
والأقوال الصحيحة هي من باب المثالات، كما قال ابن عطية‏.‏
وهكذا كثير من تفسير السلف؛ يذكرون من النوع مثالا لينبهوا به على غيره، أو لحاجة المستمع إلى معرفته، أو لكونه هو الذي يعرفه، كما يذكرون مثل ذلك في مواضع كثيرة، كقوله‏:‏ ‏
{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏‏{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

 

ص -147-

 وكذلك تفسير‏:‏ ‏{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 3‏]‏، و ‏{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 3‏]‏، وغير ذلك‏.‏ وقوله‏:‏‏{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏، وأمثال ذلك كثير من تفسيرهم هو من باب المثال‏.‏
ومن ذلك قولهم‏:‏ إن هذه الآية نزلت في فلان وفلان، فبهذا يمثل بمن نزلت فيه نزلت فيه أولًا وكان سبب نزولها لا يريدون به أنها آية مختصة به، كآية اللعان، وآية القذف، وآية المحاربة، ونحو ذلك‏.‏ لا يقول مسلم إنها مختصة بمن كان نزولها بسببه‏.‏
واللفظ العام وإن قال طائفة‏:‏ إنه يقصر على سببه فمرادهم على النوع الذي هو سببه لم يريدوا بذلك أنه يقتصر على شخص واحد من ذلك النوع‏.‏
فلا يقول مسلم‏:‏ إن آية الظهار لم يدخل فيها إلا أوس بن الصامت، وآية اللعان لم يدخل فيها إلا عاصم بن عدى، أو هلال بن أمية‏:‏ وأن ذم الكفار لم يدخل فيه إلا كفار قريش؛ ونحو ذلك، مما لا يقوله مسلم ولا عاقل‏.‏
فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد عرف بالاضطرار من دينه أنه مبعوث إلى جميع الإنس والجن، والله تعالى خاطب بالقرآن جميع

 

ص -148-

 الثقلين، كما قال‏:‏‏{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏19‏]‏‏.‏ فكل من بلغه القرآن من إنسى وجنى فقد أنذره الرسول به‏.‏ والإنذار هو‏:‏ الإعلام بالمخَوف، والمخوف‏:‏ هو العذاب ينزل بمن عصى أمره ونهيه‏.‏
فقد أعلم كل من وصل إليه القرآن أنه إن لم يطعه وإلا عذبه الله تعالى، وأنه إن أطاعه أكرمه الله تعالى‏.‏
وهو قد مات، فإنما طاعته باتباع ما في القرآن مما أوجبه الله وحرمه، وكذلك ما أوجبه الرسول وحرمه بسنته‏.‏ فإن القرآن قد بين وجوب طاعته، وبيَّن أن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة، وقال لأزواج نبيه‏:‏ ‏
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏‏.‏
فصل
ثم قال‏:‏
‏{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏
هو سبحانه لما ذكر قوله‏:‏ ‏{
قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏، دخل في ذلك ما قدره من أرزاق العباد والبهائم وهداهم إليها، فهدى من يأتى بها إليهم‏.‏ وذلك من تمام إنعامه على عباده، كما جاء في الأثر؛ إن الله يقول ‏:‏

 

ص -149-

 ‏"‏ إني والجن والإنس لفي نبأ عظيم؛ أخلق ويعبدون غيري، وأرزق ويشكرون سواي‏"‏‏.‏
وهذا المعنى قد روى في قوله‏:‏ ‏
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏82‏]‏، أي‏:‏ تجعلون شكركم وشكر ربكم التكذيب بإنعام الله، وإضافة الرزق إلى غيره كالأنواء، كما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ مُطِرَ الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر قالوا‏:‏ هذه رحمة الله، وقال بعضهم‏:‏ لقد صدق نوء كذا وكذا‏"‏، قال‏:‏ فنزلت هذه الآية ‏{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏}‏ حتى بلغ ‏{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75 - 82‏]‏‏.‏
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏ ‏"‏ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين؛ ينزل الله الغيث فيقولون‏:‏ الكوكب كذا وكذا ‏"‏ ‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏بكوكب كذا وكذا‏"‏‏.‏
وروى ابن المنذر في تفسيره‏:‏ ثنا محمد بن على يعني الصائغ ثنا سعيد هو ابن منصور ثنا هُشَيْم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ ‏"‏وتجعلون شكركم أنكم تكذبون‏"‏ ،

 

ص -150-

 يعني‏:‏ الأنواء‏.‏ وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم كافرًا، وكانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله‏:‏ ‏{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏28‏]‏‏.‏
وروى ابن أبي حاتم، عن عطاء الخُرَاسَانى، عن عِكْرمة، في قول الله‏:‏
‏{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ، قال‏:‏ تجعلون رزقكم من عند غير الله تكذيبًا، وشكرًا لغيره‏.‏
لكن قوله‏:‏
‏{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏4‏]‏، خص به إخراج المرعى، وهو ما ترعاه الدواب، وذكر أنه جعله غثاء أحوى، وهذا فيه ذكر أقوات البهائم، لكن أقوات الآدميين أجل من ذلك، وقد دخلت هي وأقوات البهائم في قوله‏:‏ ‏{قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وأيضًا، فالذي يصير غثاء أحوى لم تقتت به البهائم، وإنما تقتات به قبل ذلك‏.‏ فهو والله أعلم خص هذا بالذكر لأنه مثل الحياة الدنيا‏.‏
إذ كانت هذه السورة تضمنت أصول الإيمان؛ الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالرسل والكتب التي جاؤوا بها، وذلك يتضمن الإيمان بالملائكة‏.‏ وفيها العمل الصالح الذي ينفع في الآخرة، والفاسد الذي يضر فيها‏.‏

 

ص -151-

 فذكر سبحانه المرعى ما ذكره من الخلق والهدى ليبين مآل بعض المخلوقات، وأن الدنيا، هذا مثلها‏.‏
وقد ذكر الله ذلك في الكهف، ويونس، والحديد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24، 25‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وقد جعل إهلاك المهلكين حصادًا لهم، فقال‏:‏

 

ص -152-

{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100‏]‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏{
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4 - 6‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 4، 5‏]‏، هو مثل للحياة الدنيا، وعاقبة الكفار، ومن اغتر بالدنيا، فإنهم يكونون في نعيم وزينة وسعادة، ثم يصيرون إلى شقاء في الدنيا والآخرة، كالمرعى الذي جعله غثاء أحوى‏.
فصل
قوله‏:‏ ‏{
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9 - 12‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏
{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ ، كقوله‏:‏‏{فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏55‏]‏‏. ‏
وقوله‏:‏‏
{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏، و‏[‏إن‏]‏ هي الشرطية‏.‏

 

ص -153-

وحكى الماوردي ‏[‏هو أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردى أقضى قضاة عصره، ولد بالبصرة عام 463ه، وانتقل إلى بغداد، وولى القضاء في أيام القائم بأمر الله العباسى، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال، ووفاته ببغداد عام 054ه، من كتبه‏:‏ ‏[‏أدب الدنيا والدين‏]‏ و ‏[‏الأحكام السلطانية‏]‏ وغيرها‏]‏ أنها بمعنى ‏[‏ما‏]‏‏.‏ وهذه تكون ‏[‏ما‏]‏ المصدرية، وهي بمعنى الظرف، أي‏:‏ ذكر ما نفعت، ما دامت تنفع‏.‏ ومعناها قريب من معنى الشرطية‏.‏
وأما إن ظن ظان أنها نافية فهذا غلط بَيِّن‏.‏ فإن الله لا ينفي نفع الذكرى مطلقًا وهو القائل‏:‏
‏{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54، 55‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
وعن‏.‏‏.‏‏.‏ ‏
{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ ‏:‏ إن قبلت الذكرى‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ فذكر وقد نفعت الذكرى‏.‏
وقيل‏:‏ ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع‏.‏ قاله طائفة، أَوْلهُم الفراء، واتبعه جماعة، منهم النحاس، والزهراوى، والواحِدى، والبَغَوى ولم يذكر غيره‏.‏ قالوا‏:‏ وإنما لم يذكر الحال الثانية كقوله‏:‏‏
{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ ، وأراد الحر والبرد‏.‏
وإنما قالوا هذا؛ لأنهم قد علموا أنه يجب عليه تبليغ جميع الخلق وتذكيرهم سواء آمنوا أو كفروا‏.‏ فلم يكن وجوب التذكير مختصًا بمن

 

ص -154-

تنفعه الذكرى، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 21، 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏،وقال‏:‏ ‏{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 51، 52‏]‏، وقال‏:‏ ‏{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وهذا الذي قالوه له معنى صحيح، وهو قول الفَرّاء وأمثاله، لكن لم يقله أحد من مفسرى السلف؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل ينكر على الفراء وأمثاله ما ينكره، ويقول‏:‏ كنت أحْسَب الفرَّاء رجلا صالحًا حتى رأيت كتابه في معاني القرآن‏.‏
وهذا المعنى الذي قالوه، مدلول عليه بآيات أُخر‏.‏ وهو معلوم بالاضطرار من أمر الرسول، فإن الله بعثه مُبَلِّغا ومُذَكِّرا لجميع الثقلين؛ الإنس والجن‏.‏لكن ليس هو معنى هذه الآية‏.‏
بل معنى هذه يشبه قوله‏:‏
‏{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إنَّمّا أّنتّ مٍنذٌرٍ مّن يّخًشّاهّا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27، 28‏]‏‏.‏
فالقرآن جاء بالعام والخاص‏.‏ وهذا كقوله‏:‏
‏{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

 

ص -155-

وسبب ذلك أن التعليم والتذكير والإنذار والهدى ونحو ذلك له فاعل، وله قابل‏.‏ فالمعلم المذكر يُعَلِّم غيره، ثم ذلك الغير قد يتعلم ويتذكر، وقد لا يتعلم ولا يتذكر‏.‏ فإن تَعلَّم وتذكر فقد تم التعليم والتذكير، وإن لم يتعلم ولم يتذكر فقد وجد أحد طرفيه، وهو الفاعل، دون المحل القابل‏.‏ فيقال في مثل هذا‏:‏ عَلَّمّتُه فما تعلم، وَذَكَّرته فما تذكر، وأمرته فما أطاع‏.‏
وقد يقال‏:‏ ‏[‏ما علمته وما ذكرته‏]‏؛ لأنه لم يحصل تامًا ولم يحصل مقصوده، فينفي لانتفاء كماله وتمامه‏.‏ وانتفاء فائدته بالنسبة إلى المخاطب السامع وإن كانت الفائدة حاصلة للمتكلم القائل المخاطب‏.‏
فحيث خُصَّ بالتذكير والإنذار ونحوه المؤمنون؛ فهم مخصوصون بالتام النافع الذي سعدوا به‏.‏ وحيث عمم؛ فالجميع مشتركون في الإنذار الذي قامت به الحجة على الخلق سواء قبلوا أو لم يقبلوا‏.‏
وهذا هو الهدى المذكور في قوله‏:
‏‏{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏، فالهدى هنا هو البيان والدلالة والإرشاد العام المشترك‏.‏ وهو كالإنذار العام والتذكير العام‏.‏ وهنا قد هدى المتقين وغيرهم، كما قال‏:‏ ‏{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وأما قوله‏:‏‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، فالمطلوب الهدى الخاص

 

ص -156-

التام الذي يحصل معه الاهتداء، كقوله‏:‏ ‏{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏، وهذا كثير في القرآن‏.‏
وكذلك الإنذار، قد قال‏:‏ ‏
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وقال في الخاص‏:‏
‏{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏، ‏{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏ فهذا الإنذار الخاص، وهو التام النافع الذي انتفع به المنذر‏.‏ والإنذار هو الإعلام بالمخوف، فَعَلِمَ المخوِّف فخاف، فآمن وأطاع‏.‏
وكذلك التذكير عام وخاص‏.‏فالعام‏:‏هو تبليغ الرسالة إلى كل أحد،وهذا يحصل بإبلاغهم ما أرسل به من الرسالة‏.‏ قال تعالى‏:
‏‏{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 86، 87‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏27‏]‏‏.‏ثم قال‏:‏ ‏{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28‏]‏، فذكر العام والخاص‏.‏

 

ص -157-

والتذكر هو الذكر التام الذي يذكره المذكَّر به وينتفع به‏.‏
وغير هؤلاء قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{
مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2، 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5‏]‏، فقد أتاهم وقامت به الحجة، ولكن لم يصغوا إليه بقلوبهم فلم يفهموه، أو فهموه فلم يعملوا به، كما قال‏:‏ ‏{وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏‏.‏
والخاص هو التام النافع، وهو الذي حصل معه تذكر لمدكر، فإن هذا ذكرى كما قال‏:‏
‏{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9 - 11‏]‏، أي يجنب الذكرى، وهو إنما جنب الذكرى الخاصة‏.‏
وأما المشترك الذي تقوم به الحجة فقد ذكر هو وغيره بذلك وقامت الحجة عليهم‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال عن أهل النار‏:‏ ‏{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏‏.‏

 

ص -158-

وأما تمثيلهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، أي‏:‏ وتقيكم البرد فعنه جوابان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه ليس هناك حرف شرط عُلِّقَ به الحكم بخلاف هذا الموضع‏.‏ فإنه إذا علق الأمر بشرط وكان مأمورًا به في حال وجود الشرط كما هو مأمور به في حال عدمه، كان ذكر الشرط تطويلًا للكلام تقليلًا للفائدة وإضلالًا للسامع‏.‏
وجمهور الناس على أن مفهوم الشرط حجة، ومن نازع فيه يقول‏:‏ سكت عن غير المعلق، لا يقول‏:‏ إن اللفظ دل على المسكوت كما دل على المنطوق‏.‏ فهذا لا يقوله أحد‏.‏
الثاني‏:‏ أن قوله‏:‏
‏{تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏}‏ على بابه، وليس في الآية ذكر البرد‏.‏ وإنما يقول‏:‏ ‏[‏إن المعطوف محذوف‏]‏ هو الفرَّاء وأمثاله ممن أنكر عليهم الأئمة حيث يفسرون القرآن بمجرد ظنهم وفهمهم لنوع من علم العربية عندهم، وكثيرًا لا يكون ما فسروا به مطابقًا‏.‏
وليس في الكلام ما يدل على ذكر البرد، ولكن الله ذكر في

 

ص -159-

هذه السورة إنعامه على عباده، وتسمى ‏[‏سورة النعم‏]‏، فذكر في أولها أصول النعم التي لابد منها ولا تقوم الحياة إلا بها، وذكر في أثنائها تمام النعم‏.‏
وكان ما يقي البرد من أصول النعم، فذكر في أول السورة في قوله‏:‏ ‏
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فالدفء ما يدفئ ويدفع البرد‏.‏
والبرد الشديد يوجب الموت بخلاف الحر‏.‏ فقد مات خلق من البرد بخلاف الحر، فإن الموت منه غير معتاد؛ ولهذا قال بعض العرب‏:‏ البرد بؤس، والحر أذى‏.‏
فلما ذكر في أثنائها تمام النعم ذكر الظلال وما يقى الحر، وذكر الأسلحة وما يقى القتل، فقال‏:‏
‏{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، فذكر أنه يتم نعمته كما بَىَّن ذلك في هذه الآيات، فقال‏:‏ ‏{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ ‏.‏
وفرق بين الظلال والأكنان؛ فإن الظلال يكون بالشجر

 

ص -160-

ونحوه مما يظل ولا يكن، بخلاف ما في الجبال من الغيران، فإنه يظل ويكن‏.‏
فهذا في الأمكنة، ثم قال في اللباس‏:‏ ‏{
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، فهذا في اللباس‏.‏ واللباس والمساكن كلاهما تقى الناس ما يؤذيهم من حر وبرد وعدو، وكلاهما تسترهم عن أعين الناظرين‏.‏
وفي البيوت خاصة يسكنون، كما قال‏:‏
‏{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 80‏]‏ فلما ذكر البيوت المسكونة امتن بكونه جعلها سكنًا يسكنون فيها من تعب الحركات‏.‏ وذكر أنه جعل لهم بيوتًا أخرى يحملونها معهم ويَستَخفُّونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، فذكر البيوت الثقيلة التي لا تحمل والخفيفة التي تحمل‏.‏
فتبين أن ما مثلوا به حجة عليهم‏.‏
فقوله‏:‏ ‏
{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9‏]‏، كما قال مفسرو السلف والجمهور على بابها، قال الحسن البصرى‏:‏ تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر‏.‏

 

ص -161-

وعلى هذا فقوله تعالى‏:‏ ‏{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ ، لا يمنع كون الكافر يبلغ القرآن لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه لم يخص قومًا دون قوم، لكن قال‏:‏ ‏
{فَذَكِّرْ‏}‏ ، وهذا مطلق بتذكير كل أحد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ لم يقل‏:‏ ‏[‏إن نفعت كل أحد‏]‏ بل أطلق النفع‏.‏ فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع‏.‏
والتذكير المطلق العام ينفع‏.‏ فإن من الناس من يتذكر فينتفع به، والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك، فيكون عبرة لغيره، فيحصل بتذكيره نفع أيضًا؛ ولأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة، فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره، فتحصل بالذكرى منفعة‏.‏
فكل تذكير ذكر به النبى صلى الله عليه وسلم للمشركين حصل به نفع في الجملة، وإن كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة‏.‏
فإن قيل‏:‏ فعلى هذا كل تذكير قد حصل به نفع، فأي فائدة في التقييد‏؟‏

 

ص -162-

قيل‏:‏ بل منه ما لم ينفع أصلًا،وهو ما لم يُؤمر به‏.‏وذلك كمن أخبر الله أنه لا يؤمن، كأبى لهب، فإنه بعد أن أنزل الله قوله‏:‏ ‏{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏، فإنه لا يخص بتذكير بل يعرض عنه‏.‏
وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله، فإنه يعرض عنه، كما قال‏:‏
‏{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54‏]‏، ثم قال‏:‏‏{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏ ، فهو إذا بلغ قومًا الرسالة فقامت الحجة عليهم، ثم امتنعوا من سماع كلامه أعرض عنهم‏.‏ فإن الذكرى حينئذ لا تنفع أحدًا‏.‏
وكذلك من أظهر أن الحجة قامت عليه وأنه لا يهتدى فإنه لا يكرر التبليغ عليه‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن الأمر بالتذكير أمر بالتذكير التام النافع، كما هو أمر بالتذكير المشترك‏.‏
وهذا التام النافع يخص به المؤمنين المنتفعين‏.‏ فهم إذا آمنوا ذكرهم بما أنزل، وكلما أنزل شىءٌ من القرآن ذكرهم به، ويذكرهم بمعانيه، ويذكرهم بما نزل قبل ذلك‏.‏
بخلاف الذين قال فيهم‏:‏
‏{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49 51‏]‏‏.‏

 

ص -163-

فإن هؤلاء لا يذكرهم كما يذكر المؤمنين إذا كانت الحجة قد قامت عليهم وهم معرضون عن التذكرة لا يسمعون‏.‏
ولهذا قال‏:‏ ‏{
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهي‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 1 10‏]‏، فأمره أن يُقبل على من جاءه يطلب أن يتزكى وأن يتذكر‏.‏ وقال‏:‏ ‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10 14‏]‏، فذكر التذكر والتزكى، كما ذكرهما هناك‏.‏ وأمره أن يقبل على من أقبل عليه دون من أعرض عنه، فإن هذا ينتفع بالذكرى دون ذاك‏.‏
فيكون مأمورًا أن يذكر المنتفعين بالذكرى تذكيرًا يخصهم به غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة، كما قال‏
:‏ ‏{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏.‏
وقال‏:‏
‏{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏، وفي الصحيحين عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن سمعه المشركون، فسبُّوا القرآن ومن أنزل عليه ومن جاء به، فقال الله له‏:‏ ولا تجهر به فيسمعه المشركون، ولا تخافت

 

ص -164-

به عن أصحابك‏.‏ فنهي عن أن يسمعهم إسماعًا يكون ضرره أعظم من نفعه‏.‏
وهكذا كل ما يأمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته‏.‏ والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة‏.‏ فهو إنما يؤمر بالتذكير إذا كانت المصلحة راجحة، وهو أن تحصل به منفعة راجحة على المضرة‏.‏ وهذا يدل على الوجه الأول والثاني‏.‏ فحيث كان الضرر راجحًا فهو منهي عما يجلب ضررًا راجحًا‏.‏
والنفع أعم في قبول جميعهم، فقبول بعضهم نفع، وقيام الحجة على من لم يقبل نفع، وظهور كلامه حتى يبلغ البعيد نفع، وبقاؤه عند من سمعه حتى بلغه إلى من لم يسمعه نفع‏.‏ فهو صلى الله عليه وسلم ما ذكَّرَ قط إلا ذكرى نافعة، لم يذكر ذكرى قط يكون ضررها راجحًا‏.‏
وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف؛ أن ما أمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة ومنفعته راجحة‏.‏ وأما ما كانت مضرته راجحة، فإن الله لا يأمر به‏.‏
وأما جَهْم ومن وافقه من الجبرية فيقولون‏:‏ إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة البتة، بل يكون ضررًا محضًا إذا فعله

 

ص -165-

المأمور به، وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخرى أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين أبى الحسن الأشعري وغيره في مسائل القَدَر، فنصر مذهب جهم والجبرية‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{
الذِّكْرَى‏}‏ يتناول التذكر والتذكير‏.‏ فإنه قال‏:‏ ‏{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فلابد أن يتناول ذلك تذكيره‏.‏
ثم قال‏:‏
‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏ والذي يتجنبه الأشقى هو الذي فعله من يخشى، وهو التذكر‏.‏ فضمير الذكرى هنا يتناول التذكر، وإلا فمجرد التذكير الذي قامت به الحجة لم يتجنبه أحد‏.‏
لكن قد يراد بتجنبها أنه لم يستمع إليها ولم يصغ، كما قال‏:‏
‏{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والحجة قامت بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من الاستماع والتدبر، لا بنفس الاستماع‏.‏ ففي الكفار من تجنب سماع القرآن واختار غيره، كما يتجنب كثير من المسلمين سماع أقوال أهل الكتاب وغيرهم، وإنما ينتفعون إذا ذكروا فتذكروا، كما قال‏:‏ ‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ ‏.‏
فلما قال‏:‏ ‏{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ ، فقد يراد بالذكرى نفس

 

ص -166-

تذكيره تذكر أو لم يتذكر وتذكيره نافع لا محالة كما تقدم، وهذا يناسب الوجه الأول‏.‏
وقد ذكر بعضهم أن هذا يراد به توبيخ من لم يتذكر من قريش، قال ابن عطية‏:‏ اختلف الناس في معنى قوله‏:‏ ‏
{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏‏:‏ فقال الفَرَّاء، والنحَّاس، والزَّهْرَاوى‏:‏ معناه‏:‏ وإن لم تنفع‏.‏ فاقتصر على الاسم الواحد لدلالته على الثاني‏.‏  قال‏:‏ وقال بعض الحُذَّاق‏:‏ قوله ‏{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏، اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش‏.‏ أي‏:‏ إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة‏.‏ وهذا كنحو قول الشاعر‏:‏

 لقد أسمعت لو ناديت حيا

 ولكن لا حياة لمن تنادى‏

وهذا كله كما تقول لرجل‏:‏ ‏[‏قل لفلان واعذله إن سمعك‏]‏، إنما هو توبيخ للمشار إليه‏.‏
قلت‏:‏ هذا القائل هو الزمخشري، وهذا القول فيه بعض الحق‏.‏ لكنه أضعف من ذاك القول من وجه آخر‏.‏ فإن مضمون هذا القول أنه مأمور بتذكير من لا يقبل ولا ينتفع بالذكرى دون من يقبل، كما قال‏:‏ ‏[‏إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة‏]‏، وكما أنشده في البيت‏.‏

 

ص -167-

ثم البيت الذي أنشده خبر عن شخص خاطب آخر‏.‏ فيقول‏:‏ لقد أسمعت لو كان من تناديه حيا وهذا كقوله‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فهذا يناسب معنى البيت، وهو خبر خاص‏.‏
وأما الأمر بالإنذار فهو مطلق عام، وإن كان مخصوصًا، فالمؤمنون أحق بالتخصيص، كما قال‏:‏ ‏
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ليس الأمر مختصًا بمن لا يسمع‏.‏
كيف وقد قال بعد ذلك‏
:‏ ‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏ ، فهذا الذي يخشى هو ممن أمره بتذكيره ، وهو ينتفع بالذكرى‏.‏ فكيف لا يكون لهذا الشرط فائدة إلا ذم من لم يسمع‏؟‏
وأما قول القائل‏:‏ ‏[‏قل لفلان واعذله إن سمعك‏]‏، فهذا وأمثاله يقوله الناس لمن يظنون أنه لا يقبل ولكن يرجون قبوله‏.‏ فهم يقصدون توبيخه على تقدير الرد، لا على تقدير القبول‏.‏ فيقولون‏:‏‏[‏قل له إن كان يسمع منك‏]‏، و‏[‏قل له إن كان يقبل‏]‏، و‏[‏انصحه إن

 

ص -168-

 كان يقبل النصيحة‏]‏، وهو كله من هذا الباب‏.‏ فهو أمر بالنصيحة التامة المقبولة إن كان يقبلها، وأمر بأصل النصح وإن رده، وذم له على هذا التقدير‏.‏
وكذلك قوله‏:‏‏
{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏، أمر بتذكير كل أحد، فإن انتفع كان تذكره تامًا نافعًا، وإلا حصل أصل التذكير الذي قامت به الحجة ، ودل ذلك على ذمه واستحقاقه التوبيخ‏.‏
مع أنه سبحانه إنما قال‏:‏ ‏{إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏ذكر من تنفعه الذكرى فقط‏]‏، كما في قوله‏:
‏‏{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، فهناك الأمر بالتذكير خاص‏.‏
وقد جاء عامًا وخاصًا كخطاب القرآن ب‏[‏يا أيها الناس‏]‏، وهو عام، وب‏[‏يا أيها الذين آمنوا‏]‏، خاص لمن آمن بالقرآن‏.‏
فهناك قال‏:‏‏
{فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏، وهنا قال‏:‏ ‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏ ‏.‏ ولم يقل ‏[‏سينتفع من يخشى‏]‏‏.‏ فإن النفع الحاصل بالتذكير أعم من تذكر من يخشى‏.‏
فإنه إذا ذكر قامت الحجة على الجميع‏.‏ والأشقى الذي تجنبها حصل بتذكيره قيام الحجة عليه واستحقاقه لعذاب الدنيا والآخرة‏.‏

 

ص -169-

وفي ذلك لله حِكَم ومنافع هي نعم على عباده‏.‏ فكل ما يقضيه الله تعالى هو من نعمته على عباده؛ ولهذا يقول عقب تعديد ما يذكره ‏:‏ {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 13‏]‏‏.‏
ولما ذكر ما ذكره في سورة ‏[‏النجم‏]‏ وذكر إهلاك مكذبى الرسل قال‏:‏
‏{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 55‏]‏، فإهلاكهم من آلاء ربنا‏.‏ وآلاؤه نعمه التي تدل على رحمته، وعلى حكمته، وعلى مشيئته، وقدرته، وربوبيته سبحانه وتعالى‏.‏
ومن نفع تذكير الذي يتجنبها أنه لما قامت عليه الحجة واستحق العذاب خف بذلك شر عن المؤمنين، فإن الله يهلكهم بعذاب من عنده أو بأيديهم‏.‏وبهلاكه ينتصر الإيمان وينتشر، ويعتبر به غيره، وذلك نفع عظيم‏.‏
وهو أيضًا يتعجل موته فيكون أقل لكفره‏.‏ فإن الله أرسل محمدًا رحمة للعالمين، فبه تصل الرحمة إلى كل أحد بحسب الإمكان‏.‏
وأيضًا، فإن الذي يتجنبها بتجنبه استحق هذا الوعيد المذكور، فصار ذلك تحذيرًا لغيره من أن يفعل مثل فعله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 66‏]‏، وقال تعالى عن فرعون‏:‏

 

ص -170-

‏{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 56‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏
فصل
وقوله‏:‏
‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏، يقتضى أن كل من يخشى يتذكر‏.‏ والخشية قد تحصل عقب الذكر، وقد تحصل قبل الذكر، وقوله‏:‏ ‏{مَن يَخْشَى‏}‏ مطلق‏.‏
ومن الناس من يظن أن ذلك يقتضى أنه لابد أن يكون قد خشى أولًا حتى يذكر، وليس كذلك‏.‏ بل هذا كقوله‏:‏
‏{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏‏{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وهو إنما خاف الوعيد بعد أن سمعه، لم يكن وعيد قبل سماع القرآن ، وكذلك قوله‏:‏ ‏
{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ، وهو إنما اتبع الذكر وخشى الرحمن بعد أن أنذره الرسول‏.‏
وقد لا يكونون خافوها قبل الإنذار، ولا كانوا متقين قبل سماع

 

ص -171-

القرآن، بل به صاروا متقين‏.‏
وهذا كما يقول القائل‏:‏ ما يسمع هذا إلا سعيد، وإلا مفلح، وإلا من رضى الله عنه‏.‏ وما يدخل في الإسلام إلا من هداه الله، ونحو ذلك‏.‏ وإن كانت هذه الحسنات والنعم تحصل بعد الإسلام وسماع القرآن‏.‏
ومثل هذا قوله‏:‏ ‏
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وقد قال في نظيره‏:‏
‏{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11‏]‏، وإنما يشقى بتجنبها‏.‏
وهذا كما يقال‏:‏ إنما يحذر من يقبل، وإنما ينتفع بالعلم من عمل به‏.‏
فمن استمع القرآن فآمن به وعمل به صار من المتقين الذين هو هدى لهم‏.‏ ومن لم يؤمن به ولم يعمل به لم يكن من المتقين، ولم يكن ممن اهتدى به‏.‏
بل هو كما قال الله تعالى‏:‏ ‏
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، ولم يرد أنهم كانوا مؤمنين، فلما سمعوه صار هدى وشفاء، بل إذا سمعه الكافر فآمن به صار في حقه هدى وشفاء، وكان من المؤمنين به بعد سماعه‏.‏

 

ص -172-

وهذا كقوله في النوع المذموم‏:‏‏{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26، 27‏]‏، ولا يجب أن يكونوا فاسقين قبل ضلالهم، بل من سمعه فكذب به صار فاسقًا وضل‏.‏
وسعد بن أبى وقاص وغيره أدْخلوا في هذه الآية أهل الأهواء كالخوارج‏.‏ وكان سعد يقول‏:‏ هم من
‏{الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ ولم يكن على، وسعد، وغيرهما من الصحابة يكفرونهم‏.‏
وسعد أدخلهم في هذه الآية لقوله‏:‏ ‏
{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏
وهم ضلوا به بسبب تحريفهم الكلم عن مواضعه وتأويله على غير ما أراد الله‏.‏ فتمسكوا بمتشابهه، وأعرضوا عن محكمه، وعن السنة الثابتة التي تبين مراد الله بكتابه‏.‏ فخالفوا السنة وإجماع الصحابة مع ما خالفوه من محكم كتاب الله تعالى‏.‏
ولهذا أدخلهم كثير من السلف في الذين ‏
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود الآية‏.‏ وقد دلت على أن كل من يخشى فلابد أن

 

ص -173-

يتذكر‏.‏ فقد يتذكر فتحصل له بالتذكر خشية، وقد يخشى فتدعوه الخشية إلى التذكر‏.‏
وهذا المعنى ذكره قتادة؛ فقال‏:‏ والله‏!‏ ما خشى الله عبدٌ قط إلا ذكره‏.‏
‏{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏، قال قتادة‏:‏ فلا والله‏!‏ لا يتنكب عبد هذا الذكر زهدًا فيه وبغضًا له ولأهله إلا شقيا بَين الشقاء‏.‏
والخشية في القرآن مطلقة تتناول خشية الله وخشية عذابه في الدنيا والآخرة‏.‏
قال الله تعالى‏
:‏ ‏{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 42 - 45‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
وقال‏
:‏ ‏{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 26، 27‏]‏‏.

 

ص -174-

فصل
الكلام على قوله‏:‏
‏{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وفي هذه الآية قال‏:‏
‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وقال في قصة فرعون‏:‏ ‏{
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، فعطف الخشية على التذكر‏.‏
وقال‏:‏
‏{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏‏.‏
وفي قصة الرجل الصالح المؤمن الأعمى قال‏:‏
‏{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏
وقال في ‏[‏حم‏]‏ المؤمن‏:‏ ‏{
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12، 13‏]‏، فقال‏:‏ ‏{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ‏}‏‏.‏

 

ص -175-

والإنابة جعلها مع الخشية في قوله‏:‏ ‏{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 3234‏]‏‏.‏
وذلك لأن الذي يخشى اللّه لابد أن يرجوه ويطمع في رحمته، فينيب إليه ويحبه، ويحب عبادته وطاعته‏.‏ فإن ذلك هو الذي ينجيه مما يخشاه، ويحصل به ما يحبه‏.‏
والخشية لا تكون ممن قطع بأنه معذب؛ فإن هذا قطع بالعذاب، يكون معه القنوط، واليأس، والإبلاس‏.‏ ليس هذا خشية وخوفا‏.‏
وإنما يكون الخشية والخوف مع رجاء السلامة؛ ولهذا قال‏:
‏ ‏{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏‏.‏
فصاحب الخشية للّه ينيب إلى اللّه، كما قال‏:‏‏{
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 31 - 34‏]‏‏.‏ وهذا يكون مع تمام الخشية والخوف‏.‏
فأما في مباديها، فقد يحصل للإنسان خوف من العذاب والذنب

 

ص -176-

الذي يقتضيه، فيشتغل بطلب النجاة والسلام، ويعرض عن طلب الرحمة والجنة‏.‏
وقد يفعل مع سيئاته حسنات توازيها وتقابلها، فينجو بذلك من النار ولا يستحق الجنة، بل يكون من أصحاب الأعراف‏.‏ وإن كان مآلهم إلى الجنة فليسوا ممن أُزْلفت لهم الجنة أي‏:‏ قربت لهم إذ كانوا لم يأتوا بخشية اللّه والإنابة إليه‏.‏ واستجمل بعد ذلك‏.‏
فَصل
وأما قوله في قصة فرعون ‏:‏
‏{لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3، 4‏]‏، فلا يناقض هذه الآية؛ لأنه لم يقل في هذه الآية ‏[‏سيخشى من يذكر‏]‏، بل ذَكَرَ أن كل من خشى فإنه يتذكر؛ إما أن يتذكر فيخشى وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى، وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر‏.‏ فالخشية مستلزمة للتذكر‏.‏ فكل خاش متذكر‏.‏
كما قال تعالى‏:
‏‏{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏28‏]‏، فلا يخشاه إلا

 

ص -177-

عالم‏.‏ فكل خاش للّه فهو عالم‏.‏ هذا منطوق الآية‏.‏
وقال السلف وأكثر العلماء‏:‏ إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى اللّه، كما دل غيرها على أن كل من عصى اللّه فهو جاهل‏.‏
كما قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد عن قوله‏:‏ ‏
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏، فقالوا لي‏:‏ ‏[‏كل من عصى اللّه فهو جاهل‏]‏‏.‏ وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم‏.‏
وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء‏.‏ فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وأثبتها للعلماء‏.‏ فكل عالم يخشاه‏.‏ فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ‏[‏كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي

 

ص -178-

بالاغترار باللّه جهلًا‏]‏‏.‏ وقال رجل للشَّعبي‏:‏ ‏[‏أيها العالم‏!‏‏]‏ فقال‏:‏ ‏[‏إنما العالم من يخشى اللّه‏!‏‏]‏‏.‏
فكذلك قوله‏:‏ ‏
{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر‏.‏ وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى‏.‏ فلذلك يقال‏:‏ ‏"‏كل من تذكر خشى‏"‏‏.‏
والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية‏.‏
وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون‏:
‏ ‏{لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد‏:‏  أحدها‏:‏ أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه‏.‏ فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه‏.‏ فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه‏.‏
فإن مجرد كون الشيء حقًا ونافعًا يقتضى طلبه وإن لم يخف ضررًا

 

ص -179-

بعدمه‏.‏ كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع وإن كان لا عقوبة في تركها كما يحب الإنسان علوما نافعة وإن لم يتضرر بتركها وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالى الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة وإن لم يخف ضررًا بتركها‏.‏
فهو إذا تذكر آلاء اللّه وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق اللّه وتوحيده وإحسانه إليه، ويقتضى شكره للّه وتسليم قوم موسى إليه وإن لم يخف عذابًا فهذا قد حصل بمجرد التذكر‏.‏
قال‏:‏
‏{أَوْ يَخْشَى‏}‏‏.‏ ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده اللّه به من عذاب الدنيا والآخرة، فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر‏.‏
وقد يحصل تذكر بلا خشية، وقد يحصل خشية بلا تذكر، وقد يحصلان جميعا وهو الأغلب قال تعالى‏:‏
‏{لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏‏.‏
وأيضًا، فَذِكْر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد‏.‏ فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها‏.‏

 

ص -180-

وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏
الفائدة الثانية‏:‏ أن التذكر سبب الخشية، والخشية حاصلة عن التذكر‏.‏ فَذَكَرَ التذكر الذي هو السبب، وذَكَرَ الخشية التي هى النتيجة وإن كان أحدهما مستلزما للآخر كما قال‏:‏
‏{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏، وكما قال أهل النار‏:‏ ‏{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر‏.‏
فالذي يسمع ما جاءت به الرسل سمعًا يعقل به ما قالوه ينجو‏.‏ وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال‏:
‏ ‏{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

 

ص -181-

وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع‏.‏ وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا‏:‏ ‏{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وكذلك المْعَتبِرين بآثار المعَذَّبين الذين قال فيهم‏:‏ ‏
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏ إنما ينتفعون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرسل والناجين الذين صدقوهم، فسمعوا قول الرسل وصدقوهم‏.‏
الفائدة الثالثة‏:‏ أن الخشية أيضًا سبب للتذكر كما تقدم‏.‏ فكل منهما قد يكون سببًا للآخر‏.‏ فقد يخاف الإنسان فيتذكر، وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها، ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله‏.‏
فإن قيل‏:‏ مجرد ظن المخوف قد يوجب الخوف، فكيف قال‏:
‏‏{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ ‏؟‏
قيل‏:‏ النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن، وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة‏.‏ وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه؛ ولهذا قال‏:‏
‏{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏‏.‏

 

ص -182-

وقال تعالى في ذم الكفار‏:‏ ‏{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏، ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون‏.‏
ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة، وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق، فقال‏:‏ ‏
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏‏.‏
فصل
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 13‏]‏، فهو حق كما قال‏.‏ فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعو إلى الرحمة والنعمة والثواب كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضى الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف‏.‏
ولهذا قيل في فرعون‏:‏
‏{لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ‏}‏ فينيب، ‏{أَوْ يَخْشَى‏}‏‏.‏

 

ص -183-

وكذلك قال له موسى ‏{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18، 19‏]‏، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما‏.‏
وقال في حق الأعمى‏:
‏‏{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏3، 4‏]‏‏.‏ فذكر الانتفاع بالذكرى، كما قال‏:‏‏{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏‏.‏
والنفع نوعان‏:‏ حصول النعمة، واندفاع النقمة‏.‏ ونفس اندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع‏.‏ فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى ‏
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏‏.‏
وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر‏.‏ وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة‏:‏ ‏{
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏، وقال‏:‏‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏، وقال

 

ص -184-

 ‏‏‏{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏،وقال موسى لفرعون‏:‏{هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏} ‏[‏النازعات‏:‏18، 19‏]‏‏.‏
وعطف عليه‏:‏
‏{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏، لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول وإن كان صاحبه لا يتذكر علومًا عنه كما قال‏
:‏ ‏{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏‏.‏ فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم‏.‏ وكذلك التزكي عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها، فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن قوله‏:
‏ ‏{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 4‏]‏ يدخل فيه النفع، قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك‏.‏
الثالث‏:‏ أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا، فتزكى‏.‏ فذكر الحكم وذكر سببه‏.‏ ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر‏.‏

 

ص -185-

 فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمعه من الرسول، كما قال‏:‏ ‏{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏‏.‏ فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر‏.‏
وهو إذا تذكر فإنه ينتفع، وقد تتم المنفعة، فيتزكى‏.‏
وقوله‏:
‏ ‏{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، فيه أيضًا نحو هذه الوجوه‏.‏
فإن الشاكر قد يشكر اللّه على نعمه وإن لم يخف، والتذكر قد يقتضى الخشية‏.‏
وأيضًا، فإن التذكر يقتضي الخوف من العقاب وطلب الثواب فيعمل للمستقبل، والشكر على النعم الماضية‏.‏
وأيضًا، فالتذكر تذكر علوم سابقة، ومنها تذكر نعم اللّه عليه، فهو سبب للشكر‏.‏ تذكر السبب والمسبب‏.‏
وأيضًا، فإن الشكر يقتضى المزيد من النعم، والتذكر قد يكون لهذا، وقد يكون خوفا من العذاب‏.‏
وقد يكون الأمر بالعكس، فالشاكر قد يشكر الشكر الواجب لئلا يكون كفورًا فيعاقب على ترك الشكر بسلب النعمة وعقوبات أخر،

 

ص -186-

 والمتذكر قد يتذكر ما أعده اللّه لمن أطاعه فيطيعه طلبًا لرحمته‏.‏
وأيضًا، فالتذكر قد يكون لفعل الواجبات التي يدفع بها العقاب، والشكور يكون للمزيد من فضله، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه‏.‏ فقيل له‏:‏ أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏
"‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏؟‏‏"‏‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم
لا يتمنين أحدُكُم الموت‏:‏ إما محسن فيزداد إحسانا، وإما مسيئًا فلعله أن يُسْتَعْتَب‏"‏‏.‏ فالمؤمن دائمًا في نعمة من ربه تقتضى شكرًا، وفي ذنب يحتاج إلى استغفار‏.‏
وهو في سيد الاستغفار يقول‏:‏ ‏"‏أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏‏.‏
وقد علم تحقيق قوله‏:‏
‏{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، فما أصابه من الحسنات هى نعم اللّه فتقتضى شكرًا، وما أصابه من المصائب فبذنوبه تقتضى تذكرًا لذنوبه يوجب توبة واستغفارًا‏.‏
وقد جعل اللّه ‏
{اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، فيتوب

 

ص -187-

ويستغفر من ذنوبه، ‏{أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، لربه على نعمه‏.‏ وكل ما يفعله الله بالعبد من نعمة، وكل ما يخلفه اللّه، فهو نعمة اللّه عليه‏.‏ فكلما نظر إلى ما فعله ربه شكر، وإذا نظر إلى نفسه استغفر‏.‏
والتذكر قد يكون تذكر ذنوبه وعقاب ربه‏.‏ وقد يدخل فيه تذكر آلائه ونعمه، فإن ذلك يدعو إلى الشكر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، في غير موضع، فقد أمر بذكر نعمه‏.‏ فالمتذكر يتذكر نعم ربه، ويتذكر ذنوبه‏.‏
وأيضًا، فهو ذكر الشكور؛ لأنه مقصود لنفسه، فإن الشكر ثابت في الدنيا والآخرة‏.‏ وذكر التذكر؛ لأنه أصل للاستغفار، والشكر، وغير ذلك‏.‏ فذكر المبدأ وذكر النهاية‏.‏ وهذا المعنى يجمع ما قيل‏.‏ واللّه سبحانه أعلم‏.‏
فصل
والتذكر اسم جامع لكل ما أمر اللّه بتذكره، كما قال‏:‏
‏{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏، أى قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم، وبتعميركم عمرًا يتسع للتذكر‏.‏

 

ص -188-

وقد أمر سبحانه بذكر نعمه في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏
والمطلوب بذكرها شكرها، كما قال‏:‏
‏{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150 - 152‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ‏}‏ يتناول كل من خوطب بالقرآن‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ فالرسول من أنفس من خوطب بهذا الكلام، إذ هى كاف الخطاب‏.‏
ولما خوطب به أولا قريش، ثم العرب، ثم سائر الأمم، صار يخص ويعم بحسب ذلك‏.‏
وفيه ما يخص قريشًا كقوله‏:‏
‏{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

 

ص -189-

وقوله‏:‏ ‏{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.‏
وفيه ما يعم العرب ويخصهم، كقوله‏:‏
‏{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، والأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب‏.‏
ثم قال‏:
‏ ‏{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فهذا يتناول كل من دخل في الإسلام بعد دخول العرب فيه إلى يوم القيامة، كما قال ذلك مقاتل بن حيان ‏[‏هو أبو بسطام مقاتل بن حيان النبطى البلخى الخراز، مولى بكر بن وائل، وثقه ابن معين وأبو داود، وقال النسائى‏:‏ ليس به بأس، مات قبل الخمسين ومائة تقريبًا‏]‏، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهما‏.‏
فإن قوله‏:‏
‏{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ ؛ أى‏:‏ في الدين دون النسب، إذ لو كانوا منهم في النسب لكانوا من الأميين‏.‏
وهذا كقوله تعالى‏:‏
‏{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس‏"‏‏.‏ فهذا يدل على دخول هؤلاء لا يمنع دخول غيرهم من الأمم‏.‏
وإذا كانوا هم منهم فقد دخلوا في قوله‏:‏

 

ص -190-

{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، فالمنة على جميع المؤمنين عربهم وعجمهم، سابقهم ولاحقهم والرسول منهم؛ لأنه إنسى مؤمن‏.‏ وهو من العرب أخص؛ لكونه عربيا جاء بلسانهم، وهو من قريش أخص‏.‏
والخصوص يوجب قيام الحجة، لا يوجب الفضل، إلا بالإيمان والتقوى لقوله‏:‏‏
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏
ولهذا كان الأنصار أفضل من الطلقاء من قريش، وهم ليسوا من ربيعة ولا مضر، بل من قحطان‏.‏
وأكثر الناس على أنهم من ولد هود، ليسوا من ولد إبراهيم‏.‏
وقيل‏:‏ إنهم من ولد إسماعيل؛ لحديث أسلم لما قال‏:‏ ‏"‏ارموا، فإن أباكم كان راميًا‏"‏، وأسلم من خزاعة، وخزاعة من ولد إبراهيم‏.‏
وفي هذا كلام ليس هذا موضعه؛ إذ المقصود أن الأنصار أبعد نسبا من كل ربيعة ومضر مع كثرة هذه القبائل‏.‏ ومع هذا هم أفضل من جمهور قريش، إلا من السابقين الأولين من المهاجرين وفيهم قرشي وغير قرشي‏.‏
ومجموع السابقين ألف وأربعمائة غير مهاجرى الحبشة‏.‏

 

ص -191-

فقوله‏:‏ ‏{لَقَدْ جَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ يخص قريشًا، والعرب، ثم يعم سائر البشر؛ لأن القرآن خطاب لهم‏.‏ والرسول من أنفسهم، والمعنى ليس بملك لا يطيقون الأخذ منه، ولا جني‏.‏
ثم يعم الجن؛ لأن الرسول أرسل إلى الإنس والجن، والقرآن خطاب للثقلين، والرسول منهم جميعًا، كما قال‏:‏
‏{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، فجعل الرسل التي أرسلها من النوعين مع أنهم من الإنس‏.‏
فإن الإنس والجن مشتركون مع كونهم أحياء ناطقين مأمورين منهيين فإنهم يأكلون ويشربون، وينكحون وينسلون، ويغتذون وينمون بالأكل والشرب‏.‏ وهذه الأمور مشتركة بينهم‏.‏ وهم يتميزون بها عن الملائكة، فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولا تنكح ولا تنسل‏.‏
فصار الرسول مع أنفس الثقلين، باعتبار القدر المشترك بينهم الذي تميزوا به عن الملائكة، حتى كان الرسول مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة‏.‏
وكذلك قوله‏:‏
‏{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏،

 

ص -192-

هو كقوله‏:‏ ‏{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 231‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 151‏]‏‏.‏
ثم قال‏:‏
‏{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏، والمقصود أنه أمر بذكر النعم وشكرها‏.‏
وقال‏:‏‏
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏40‏]‏ في غير موضع وقال للمؤمنين‏:‏ ‏{وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏، فذكر النعم من الذكر الذي أمروا به‏.‏
ومما أمروا به تذكرة قصص الأنبياء المتقدمين، كما قال‏:‏ ‏
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 41‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ موسى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 51‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 56‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 48‏]‏‏.‏
ومما أمروا به تذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 46‏]‏‏.‏

 

ص -193-

ومما أمروا بتذكره آيات اللّه التي يستدلون بها على قدرته وعلى المعاد، كقوله‏:‏ ‏{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66، 67‏]‏‏.‏
وقد قال لموسى‏:‏
‏{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏، وهى تتناول أيام نعمه وأيام نقمه ليشكروا ويعتبروا‏.‏
ولهذا قال‏:‏ ‏{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فإن ذكر النعم يدعو إلى الشكر، وذكر النقم يقتضى الصبر على فعل المأمور وإن كرهته النفس، وعن المحظور وإن أحبته النفس؛ لئلا يصيبه ما أصاب غيره من النقمة‏.‏
فصل
وقوله‏:‏ ‏
{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11 - 13‏]‏، وقد ذكر في سورة الليل قوله‏:‏ ‏{فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14 - 16‏]‏‏.‏
وهذا الصلي قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح

 

ص -194-

الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدرى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكنْ ناسٌ أصابتهم النار بذنوبهم أو قال‏:‏ بخطاياهم فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أُذِنَ بالشفاعة، فجىء بهم ضَبَائرَ ضَبَائرَ فَبُثُّوا على أنهار الجنة، ثم قيل‏:‏ يا أهل الجنة أفيضوا عليهم‏.‏ فينبتون نبات الحبة تكون في حَمِيل السَّيْل‏"‏‏.‏ فقال رجل من القوم‏:‏ كأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية‏.‏
وفي رواية ذكرها ابن أبي حاتم فقال‏:‏ ذكر عن عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا أبي، ثنا سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب، فأتى على هذه‏:‏
‏{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى‏}‏، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما أهلها الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون‏.‏ وأما الذين ليسوا من أهل النار، فإن النار تميتهم، ثم يقوم الشفعاءُ فَيَشْفَعُون فيهم فَيُشَفَّعُون، فيؤتى بهم إلى نهر يقال له‏:‏ الحياة، أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغُثَاء في حَمِيل السَّيْل‏"‏‏.‏
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الصلي لأهل النار الذين هم أهلها، وأن الذين ليسوا من أهلها فإنها تصيبهم بذنوبهم، وأن اللّه يميتهم فيها حتى يصيروا فحمًا، ثم يشفع فيهم فيخرجون ويؤتى

 

ص -195-

بهم إلى نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل‏.‏
وهذا المعنى مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم بل متواتر في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهما‏.‏
وفيها الرد على طائفتين‏:‏ على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون‏:‏ ‏"‏إن أهل التوحيد يخلدون فيها‏"‏، وهذه الآية حجة عليهم، وعلى من حكى عنه من غلاة المرجئة‏:‏ ‏"‏أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد‏"‏‏.‏
فإن إخباره بأن أهل التوحيد يخرجون منها بعد دخولها تكذيب لهؤلاء وأولئك‏.‏
وفيه رد على من يقول‏:‏ ‏[‏يجوز ألا يُدْخِل اللّه من أهل التوحيد أحدًا النار‏]‏ كما يقوله طائفة من المرجئة الشيعة، ومرجئة أهل الكلام المنتسبين إلى السنة وهم الواقفة من أصحاب أبي الحسن وغيرهم كالقاضي أبي بكر وغيره‏.‏ فإن النصوص المتواترة تقتضي دخول بعض أهل التوحيد وخروجهم‏.‏
والقول ب ‏[‏أن أحدًا لا يدخلها من أهل التوحيد‏]‏، ما أعلمه ثابتًا عن شخص معين فأحكيه عنه، لكنْ حكى عن مقاتل بن سليمان،

 

ص -196-

وقال‏:‏ احتج من قال ذلك بهذه الآية‏.‏
وقد أُجِيبُوا بجوابين‏:‏
أحدهما‏:‏ جواب طائفة، منهم الزجاج، قالوا‏:‏ هذه نار مخصوصة‏.‏
لكن قوله بعدها‏:‏ ‏
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 17‏]‏، لا يبقى فيه كبير وعد، فإنه إذا جُنِّبَ تلك النار جاز أن يدخل غيرها‏.‏
وجواب آخرين قالوا‏:‏ لا يصلونها صلى خلود‏.‏ وهذا أقرب‏.‏
وتحقيقه أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها، والخلود على وجه يصل العذاب إليهم دائمًا‏.‏
فأما من دخل وخرج فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق لا سيما إذا كان قد مات فيها والنار لم تأكله كله، فإنه قد ثبت أنها لا تأكل مواضع السجود‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
فصل
جمع اللّه سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى اللّه عليهما وعلى سائر المرسلين في أمور، مثل قوله‏:‏
‏{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏

 

ص -197-

وفي حديث أبي ذر الطويل، قلت‏:‏ يارسول اللّه، كم كتابًا أنزل اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏مائة كتاب وأربعة كتب؛ ثلاثين صحيفة على شيث، وخمسين على إدريس، وعشر على إبراهيم، وعشر على موسى قبل التوراة‏.‏ وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان‏"‏‏.‏ وقال في الحديث‏:‏ فهل عندنا شيء مما في صحف إبراهيم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏نعم‏]‏ وقرأ قوله‏:‏ ‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14 - 19‏]‏‏.‏
فإن التزكي هو التطهر والتبرك بترك السيئات الموجب زكاة النفس، كما قال‏:‏
‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏، ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء والزيادة وتارة بالنظافة والإماطة‏.‏ والتحقيق أن الزكاة تجمع بين الأمرين‏:‏ إزالة الشر، وزيادة الخير‏.‏ وهذا هو العمل الصالح، وهو الإحسان‏.‏
وذلك لا ينفع إلا بالإخلاص للّه، وعبادته وحده لا شريك له، الذي هو أصل الإيمان‏.‏ وهو قوله‏:‏
‏{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏
فهذه الثلاث، قد يقال‏:‏ تشبه الثلاث التي يجمع اللّه بينها في القرآن في مواضع، مثل قوله في أول البقرة‏:‏{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ ومثل قوله‏:‏

 

ص -198-

‏{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ‏{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وقد يقال‏:‏ تشبه الثنتين المذكورتين في قوله‏:‏
‏{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏
لكن هنا التزكي في الآية أعم من الإنفاق، فإنه ترك السيئات الذي أصله بترك الشرك‏.‏
فأول التزكي التزكي من الشرك، كما قال‏:‏
‏{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏
والتزكي من الكبائر، الذي هو تمام التقوى، كما قال‏:‏
‏{فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 49‏]‏، فعلم أن التزكية هو الإخبار بالتقوى‏.‏
ومنه التزكي بالطهارة، وبالصدقة والإحسان، كما قال‏
:‏ ‏{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏
و‏{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 15‏]‏، قد يعنى به الإيمان باللّه، و‏[‏الصلاة‏]‏‏:‏

 

ص -199-

العمل، فقد يذكر اسم ربه من لا يصلي‏.‏
ومن الفقهاء من يقول‏:‏ هو ذكر اسمه في أول الصلاة؛ ولهذا واللّه أعلم قدم التزكي في هذه الآية‏.‏
وكان طائفة من السلف إذا أدوا صدقة الفطر قبل صلاة العيد يتأولون بهذه الآية‏.‏ وكان بعض السلف أظنه يزيد بن أبي حبيب ‏[‏هو أبو رجاء يزيد بن سويد الأزدي بالولاء المصري، مفتي أهل مصر في صدر الإسلام، وأول من أظهر علوم الدين والفقه بها، قال الليث‏:‏ يزيد عالمنا وسيدنا، كان نوبيًا أسود، أصله من دنقلة، وفي ولادته للأزد ونسبته إليهم أقوال، وكان حجة حافظًا للحديث، توفي سنة 821 ه‏]‏ يستحب أن يتصدق أمام كل صلاة؛ لهذا المعنى‏.‏
ولما قدم الله الصلاة على النحر في قوله‏:‏ ‏
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، وقدم التزكي على الصلاة في قوله‏:‏‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏ كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر، وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر‏.‏
ويشبه واللّه أعلم أن يكون الصوم من التزكي المذكور في الآية‏.‏ فإن اللّه يقول ‏
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏‏.‏ فمقصود الصوم التقوى، وهو من معنى التزكي‏.‏
وفي حديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ‏"‏‏.‏

 

ص -200-

 

فالصدقة من تمام طهرة الصوم‏.‏ وكلاهما تزكٍ متقدم على صلاة العيد‏.‏
فجمعت هاتان الكلمتان الترغيب فيما أمر اللّه به من الإيمان والعمل الصالح‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏، الإيمان باليوم الآخر‏.‏
وهذه الأصول المذكورة في قوله‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏
وقال‏:‏
‏{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏، وقال أيضًا ‏:‏ ‏{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفي أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفي ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 33 41‏]‏‏.‏
وأيضًا، فإن إبراهيم صاحب الملة وإمام الأمة‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏

 

ص -201-

وقال‏:‏ ‏{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏
وموسى صاحب الكتاب والكلام والشريعة، الذي لم يُنَزَّل من السماء كتاب أهدى منه ومن القرآن‏.‏
ولهذا قرن بينهما في مواضع، كقوله‏:
‏‏{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91، 92‏]‏، وقوله‏:‏‏{قَالُوا سِحْرَانِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48، 49‏]‏، وقول الجن‏:‏ ‏{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏10‏]‏، وقول النجاشي‏:‏ ‏[‏إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة‏]‏‏.‏
وقيل في موسى‏:‏‏
{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، وفي إبراهيم‏:‏ ‏{وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، وأصل الخلة عبادة اللّه وحده، والعبادة غاية الحب والذل‏.‏ وموسى صاحب الكتاب والكلام‏.‏
ولهذا كان الكفار بالرسل ينكرون حقيقة خُلَّة إبراهيم وتكليم موسى‏.‏
ولما نبغت البدع الشركية في هذه الأمة أنكر ذلك الجعد بن درهم

 

ص -202-

فقتله المسلمون لما ضحى به أمير العراق خالد بن عبد اللّه وقال‏:‏ ‏"‏ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم فإنى مضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليمًا‏"‏‏.‏ ثم نزل فذبحه‏.‏
ولما بعث اللّه نبيه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى أهل الأرض، وهم في الأصل صنفان‏:‏ أميون وكتابيون، والأميون كانوا ينتسبون إلى إبراهيم، فإنهم ذريته، وخُزَّان بيته، وعلى بقايا من شعائره‏.‏ والكتابيون أصلهم كتاب موسى، وكلا الطائفتين قد بدلت وغيرت، فأقام ملة إبراهيم بعد اعوجاجها، وجاء بالكتاب المهيمن، المصدق لما بين يديه، المبين لما اختلف فيه وما حرف وكتم من الكتاب الأول‏.
فصل
وإبراهيم وموسى قاما بأصل الدين، الذي هو الإقرار باللّه، وعبادته وحده لا شريك له، ومخاصمة من كفر باللّه‏.‏
فأما إبراهيم فقال اللّه فيه‏:‏

 

ص -203-

‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏
وذكر اللّه عنه أنه طلب منه إرادة إحياء الموتى، فأمره اللّه بأخذ أربعة من الطير‏.‏
فقرر أمر الخلق والبعث، المبدأ والمعاد، الإيمان باللّه واليوم الآخر‏.‏
وهما اللذان يكفر بهما أو بأحدهما كفار الصابئة والمشركين من الفلاسفة ونحوهم الذين بعث الخليل إلى نوعهم‏.‏
فإن منهم من ينكر وجود الصانع؛ وفيهم من ينكر صفاته، وفيهم من ينكر خلقه ويقول‏:‏ إنه عِلَّة، وأكثرهم ينكرون إحياء الموتى‏.‏ وهم مشركون يعبدون الكواكب العلوية والأصنام السفلية‏.‏
والخليل صلوات اللّه عليه رد هذا جميعه‏.‏ فقرر ربوبية ربه كما في هذه الآية‏.‏ وقرر الإخلاص له ونفي الشرك كما في سورة الأنعام وغيرها‏.‏ وقرر البعث بعد الموت‏.‏
واستقر في ملته محبته للّه، ومحبة اللّه له، باتخاذ اللّه له خليلًا‏.‏

 

ص -204-

ثم إنه ناظر المشركين بعبادة من لا يوصف بصفات الكمال‏.‏ فقال لأبيه‏:‏ ‏{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال لأبيه وقومه‏:‏ ‏{مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 70 - 81‏]‏، إلى آخر الكلام‏.‏
وقال‏:
‏‏{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 - 28‏]‏‏.‏
فإبراهيم دعا إلى الفطرة‏.‏وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له‏.‏وهو الإسلام العام، والإقرار بصفات الكمال للّه، والرد على من عبد من سلبها‏.‏
فلما عابهم بعبادة من لا علم له ولا يسمع ولا يبصر قال‏:‏
‏{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفي عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

 

ص -205-

ولما عابهم بعبادة من لا يغنى شيئًا فلا ينفع ولا يضر قال‏:‏ ‏{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78 - 82‏]‏‏.‏
فإن الإنسان يحتاج إلى جلب المنفعة لقلبه وجسمه، ودفع المضرة عن ذلك‏.‏ وهو أمر الدين والدنيا‏.‏
فمنفعة الدين الهدى، ومضرته الذنوب، ودفع المضرة المغفرة؛ ولهذا جمع بين التوحيد والاستغفار في مواضع متعددة‏.‏
ومنفعة الجسد الطعام والشراب، ومضرته المرض، ودفع المضرة الشفاء‏.‏
وأخبر أن ربه يحيى ويميت، وأنه فطر السموات والأرض، وإحياؤه فوق كماله بأنه حى‏.‏
وأنه فطر السموات والأرض، يقتضي إمساكها وقيامها الذي هو فوق كماله بأنه قائم بنفسه، حيث قال عن النجوم‏:‏
‏{لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏
فإن الآفل هو الذي يغيب تارة ويظهر تارة، فليس هو قائمًا على

 

ص -206-

عبده في كل وقت‏.‏ والذين يعبدون ما سوى اللّه من الكواكب ونحوها ويتخذونها أوثانًا يكونون في وقت البزوغ طالبين سائلين، وفي وقت الأفول لا يحصل مقصودهم ولا مرادهم، فلا يجتلبون منفعة ولا يدفعون مضرة، ولا ينتفعون إذ ذاك بعبادة‏.‏
فَبَيَّن ما في الآلهة التي تعبد من دون اللّه من النقص، وبَيَّن ما لربه فاطر السموات والأرض من الكمال بأنه الخالق، الفاطر، العليم، السميع، البصير، الهادى، الرازق، المحيى، المميت‏.‏
وسمى ربه بالأسماء الحسنى الدالة على نعوت كماله، فقال‏:‏ ‏
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏وقال‏:‏ ‏{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏، فوصف ربه بالحكمة والرحمة المناسب لمعنى الخلة، كما قال‏:‏ ‏{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏‏.‏
وموسى عليه السلام خاصم فرعون الذي جحد الربوبية والرسالة وقال‏:‏ ‏{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، و ‏{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، وقصته في القرآن مثناة مبسوطة لا يحتاج هذا الموضع إلى بسطها‏.‏
وقرر أيضًا أمر الربوبية وصفات الكمال للّه ونفي الشرك‏.‏

 

ص -207-

ولما اتخذ قومه العجل بَيَّن اللّه لهم صفات النقص التي تنافي الألوهية فقال‏:‏ ‏{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏، وقال‏:‏‏{فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88 - 90‏]‏‏.‏
فوصفه بأنه وإن كان قد صوت صوتا هو خوار فإنه لا يكلمهم، ولا يرجع إليهم قولا، وأنه لا يهديهم سبيلا، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
وكذلك ذكر اللّه سبحانه على لسان محمد في الشرك عمومًا وخصوصًا فقال‏:‏
‏{أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 191 - 195‏]‏‏.‏

 

ص -208-

 واستفهم استفهام إنكار وجحود لطرق الإدراك التام وهو السمع والبصر‏.‏ والعمل التام وهو اليد والرجل، كما أنه سبحانه لما أخبر فيما روى عنه رسوله عن أحبابه المتقربين إليه بالنوافل فقال‏:‏ ‏"‏ولا يزال عبدى يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه‏.‏ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها‏"‏‏.‏
فصل
وأهل السنة والجماعة المتبعون لإبراهيم وموسى ومحمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين يثبتون ما أثبتوه من تكليم اللّه، ومحبته، ورحمته، وسائر ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى‏.‏
وينزهونه عن مشابهة الأجساد التي لا حياة فيها، فإن اللّه قال‏:‏
‏{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏، فوصف الجسد بعدم الحياة، فإن الموتان لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينطق، ولا يغني شيئًا‏.‏
وأما أهل البدع والضلالة من الجهمية ونحوهم فإنهم سلكوا

 

ص -209-

سبيل أعداء إبراهيم وموسى ومحمد، الذين أنكروا أن يكون اللّه كلم موسى تكليما واتخذ إبراهيم خليلا‏.‏ وقد كلم اللّه محمدًا، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ورفعه فوق ذلك درجات‏.‏
وتابعوا فرعون الذي قال‏:‏ ‏
{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36، 37‏]‏، وتابعوا المشركين الذين ‏{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏، واتبعوا الذين ألحدوا في أسماء اللّه‏.‏
فهم يجحدون حقيقة كونه الرحمن، أو أنه يرحم، أو يكلم، أو يود عباده أو يودونه، أو أنه فوق السموات‏.‏ ويزعمون أن من أثبت له هذه الصفات فقد شبهه بالأجسام الحسية، وهى الحيوان كالإنسان وأن هذا تشبيه للّه بخلقه‏.‏
فهم قد شبهوه بالأجساد الميتة فيما هو نقص وعيب، وتشبيه دلت الكتب الإلهية والفطرة العقلية أنه عيب ونقص، بل يقتضي عدمه‏.‏
وأما أهل الإثبات،فلو فرض أن فيما قالوه تشبيها ما،فليس هو تشبيها بمنقوص معيب، ولا هو في صفة نقص أو عيب،بل في غاية ما يعلم أنه الكمال،وإن لصاحبه الجلال والإكرام‏.‏

 

ص -210-

فصار أهل السنة يصفونه بالوجود وكمال الوجود، وأولئك يصفونه بعدم كمال الوجود، أو بعدم الوجود بالكلية‏.‏ فهم ممثلة معطلة؛ ممثلة في العقل والشرع، معطلة في العقل والشرع‏.‏
أما في العقل؛ فلأنهم مثلوه بالعدم والأجساد الموتان‏.‏
وأما في الشرع، فإنهم مثلوا ما جاءت به الرسل من صفاته بنفس صفات المخلوقات وإن كان هذا التمثيل الذي ادعوا أنه معنى النصوص أقل تمثيلًا من تمثيلهم الذي ادعوه‏.‏
وأما تعطيلهم في العقل، فإنه تعطيل للصفات؛ تعطيل مستلزم لعدم الذات؛ ولهذا ألجئ كثير منهم إلى نفي الذات بالكلية، وصاروا على طريقة فرعون؛ لا يقرون إلا بوجود المخلوقات، وإن كانوا قد ينافقون فيقرون بألفاظ لا معنى لها، أو بعبادات لا معبود لها‏.‏
وأما تعطيلهم للشرع، فإنهم جحدوا ما في كتب اللّه من المعانى وحرفوا الكلم عن مواضعه، أو قالوا‏:‏ نحن كالأميين لا نعلم الكتاب إلا أمانى، أو‏:‏ قلوبنا غلف‏.‏
وقالوا لِما جاء به الرسول من الكتاب والسنة نظير ما قالته الكفار‏:‏

 

ص -211-

{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ و‏{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وهكذا قال هؤلاء‏:‏ لا نفقه كثيرًا مما يقول الرسول، وقالوا كما قال الذين يستمعون للرسول، فإذا خرجوا من عنده
‏{قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏‏.‏
وصاروا كالذين قيل فيهم‏:‏
‏{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45، 46‏]‏‏.‏
فتدبر ما ذكره اللّه عن أعداء الرسل، من نفي فقههم وتكذيبهم، تجد بعض ذلك فيمن أعرض عن ذكر اللّه وعن تدبر كتابه، واتبع ما تتلوه الشياطين وما توحيه إلى أوليائها، واللّه يهدينا صراطًا مستقيمًا‏.‏
ولهذا كانت هذه الجهمية المعطلة المشابهون للكفار والمشركين من الصابئة وغيرهم، الجاحدة لوجود الصانع أو صفاته، ترمى أهل العلم والإيمان والكتاب والسنة، تارة بأنهم يشبهون اليهود؛ لما في التوراة

 

ص -212-

وكتب الأنبياء من الصفات، ولما ابتدعه بعض اليهود من التشبيه المنفي عن اللّه، وتارة بأنهم يشبهون النصارى لما أثبتته النصارى من صفة الحياة والعلم، ولما ابتدعته من أن الأقانيم جواهر، وأن أقنوم الكلمة اتحد بالناسوت‏.‏
وهذا الرمي موجود في كلامهم قبل الإمام أحمد بن حنبل وفي زمنه، وهو موجود في كلامه وكلام أصحابه، حكاية ذلك ذكره في كتاب‏:‏ ‏[‏الرد على الجهمية والزنادقة‏]‏، وأنهم قالوا‏:‏ ‏[‏إذا أثبتم الصفات فقد قلتم بقول النصارى‏]‏، وَرَدَّ ذلك‏.‏ وفي مسائله‏:‏ أن طائفة قالوا له‏:‏ من قال‏:‏ ‏[‏القرآن غير مخلوق، أو هو في الصدور‏]‏ فقد قال بقول النصاري‏.‏
وهكذا الجهمية ترمي الصفاتية بأنهم يهود هذه الأمة‏.‏ وهذا موجود في كلام متقدمى الجهمية ومتأخريهم، مثل ما ذكره أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي الجهمي الجبري، وإن كان قد يخرج إلى حقيقة الشرك وعبادة الكواكب والأوثان في بعض الأوقات، وصنف في ذلك كتابه المعروف في السحر وعبادة الكواكب والأوثان‏.‏ مع أنه كثيرًا ما يحرم ذلك وينهى عنه متبعًا للمسلمين وأهل الكتب والرسالة‏.‏
وينصر الإسلام وأهله في مواضع كثيرة، كما يشكك أهله ويشكك غير

 

ص -213-

أهله في أكثر المواضع‏.‏ وقد ينصر غير أهله في بعض المواضع‏.‏ فإن الغالب عليه التشكيك والحيرة، أكثر من الجزم والبيان‏.‏
وهؤلاء لهم أجوبة‏:‏
أحدها‏:‏ أن مشابهة اليهود والنصارى ليست محذورًا إلا فيما خالف دين الإسلام، ونصوص الكتاب والسنة، والإجماع‏.‏ وإلا فمعلوم أن دين المرسلين واحد، وأن التوراة والقرآن خرجًا من مشكاة واحدة‏.‏
وقد استشهد اللّه بأهل الكتاب في غير موضع، حتى قال‏:‏ ‏
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏
فإذا أشهد أهل الكتاب على مثل قول المسلمين كان هذا حجة ودليلًا،وهو من حكمة إقرارهم بالجزية‏.‏ فيفرح بموافقة المقالة المأخوذة من الكتاب والسنة لما يأثره أهل الكتاب عن المرسلين قبلهم‏.‏ ويكون هذا من أعلام النبوة، ومن حجج الرسالة، ومن الدليل على اتفاق الرسل‏.‏
الثاني‏:‏ أن المشابهة التي يدعونها ليست صحيحة‏.‏ فإن أهل السنة

 

ص -214-

لا يوافقون اليهود والنصارى فيما ابتدعوه من الدين والاعتقاد؛ ولهذا قلت في بيان فساد قول ابن الخطيب‏:‏ إنه لم يفهم مقالة أهل الحديث والسنة من الحنبلية وغيرهم، ولم يفهم مقالة النصارى، وأوضحت ذلك في موضعه، كما بين الإمام أحمد الفرق بين مقالة أهل السنة وبين مقالة النصارى المبتدعة، وكما يبين الفرق بين مقالة أهل السنة ومقالة اليهود المبتدعة‏.‏
الثالث‏:‏ أنه إذا فرض مشابهة أهل الإثبات لليهود أو النصارى، فأهل النفي والتعطيل مشابهون للكفار والمشركين من النصارى وغيرهم‏.‏ ومعلوم قطعًا أن مشابهة أهل الكتابين خير من مشابهة من ليس من أهل الكتاب، من الكفار بالربوبية والنبوات ونحوهم؛ ولهذا قيل‏:‏ المشبه أعشى، والمعطل أعمى‏.‏
ولهذا فرح المؤمنون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بانتصار النصارى على المجوس، كما فرح المشركون بانتصار المجوس على النصارى‏.‏ فتدبر هذا، فإنه نافع في مواضع، واللّه أعلم‏.‏
ولهذا كان المعتزلة ونحوهم من القدرية مجوس هذه الأمة‏.‏
وهم يجعلون الصفاتية نصارى الأمة ويميلون إلى اليهود لموافقتهم

 

ص -215-

لهم في أمور كثيرة أكثر من النصارى، كما يميل طائفة من المتصوفة والمتفقرة إلى النصارى أكثر من اليهود‏.‏
فإذا كان الصفاتية إلى النصارى أقرب وضدهم إلى المجوس والمشركين أقرب تبين أن الصفاتية أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين فرحوا بانتصار الروم النصارى على فارس المجوس، وأن المعطلة هم إلى المشركين أقرب، الذين فرحوا بانتصار المجوس على النصارى‏.

 

ص -216-

سُورَة الغَاشية
وقَال شَيْخ الإسْلام‏:‏
فَصْل
قوله‏:‏ ‏{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 1 - 5‏]‏، فيها قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن المعنى وجوه في الدنيا خاشعة، عاملة ناصبة، تصلى يوم القيامة نارًا حامية،ويعنى بها عُبَّاد الكفار كالرهبان،وعُبَّاد البدود ‏[‏البُدود‏:‏ جمع بُدّ، والبُدُّ‏:‏ الصنم الذي يعبد‏]‏، وربما تُؤولت في أهل البدع كالخوارج‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع، أى‏:‏ تذل وتعمل وتنصب، قلت‏:‏ هذا هو الحق لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه، أى‏:‏ وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية‏.‏ وعلى الأول‏:‏ لا يتعلق إلا

 

ص -217-

بقوله‏:‏ ‏{تصلى‏}‏‏.‏ ويكون قوله‏:‏‏{خاشعة‏}‏ صفة للوجوه قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبى متعلق بصفة أخرى متأخرة، والتقدير‏:‏ وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارًا حامية‏.‏ والتقديم والتأخير على خلاف الأصل، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه لا تغيير ترتيبه‏.‏
ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة، أما مع اللبس فلا يجوز؛ لأنه يلتبس على المخاطب، ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدل على التقديم والتأخير، بل القرينة تدل على خلاف ذلك، فإرادة التقديم والتأخير بمثل هذا الخطاب خلاف البيان، وأَمْر المخاطَب بفهمه تكليف لما لا يطاق‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن الله قد ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة، فقال بعد ذلك‏:‏
‏{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 8 - 10‏]‏، ومعلوم أنه إنما وصفها بالنعمة يوم القيامة لا في الدنيا؛ إذ هذا ليس بمدح، فالواجب تشابه الكلام وتناظر القسمين لا اختلافهما، وحينئذ، فيكون الأشقياء وصفت وجوههم بحالها في الآخرة‏.‏
الثالث‏:‏ أن نظير هذا التقسيم قوله‏:‏

 

ص -218-

‏{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22 - 25‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 38 - 42‏]‏، وهذا كله وصف للوجوه لحالها في الآخرة لا في الدنيا‏.‏
الرابع‏:‏ أن وصف الوجوه بالأعمال ليس في القرآن، وإنما في القرآن ذكر العلامة، كقوله‏:‏ ‏
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 92‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 72‏]‏، وذلك لأن العمل والنصب ليس قائمًا بالوجوه فقط، بخلاف السيما والعلامة‏.‏
الخامس‏:‏ أن قوله‏:‏
‏{خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2، 3‏]‏، لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم، فإن هذا إلى المدح أقرب، وغايته أنه وصف مشترك بين عبَّاد المؤمنين وعبَّاد الكفار، والذم لا يكون بالوصف المشترك، ولو أريد المختص، لقيل‏:‏ خاشعة للأوثان مثلا عاملة لغير الله، ناصبة في طاعة الشيطان، وليس في الكلام ما يقتضى كون هذا الوصف مختصًا بالكفار، ولا كونه مذمومًا‏.‏ وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقًا،ولا وعيد عليه،فَحَمْلُه على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن‏.‏

 

ص -219-

السادس‏:‏ أن هذا الوصف مختص ببعض الكفار ولا موجب للتخصيص، فإن الذين لا يتعبدون من الكفار أكثر، وعقوبة فساقهم في دينهم أشد في الدنيا والآخرة، فإن من كف منهم عن المحرمات المتفق عليها وأدى الواجبات المتفق عليها لم تكن عقوبته كعقوبة الذين يدعون مع الله إلهًا آخر، ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويزنون‏.‏ فإذا كان الكفر والعذاب على هذا التقدير في القسم المتروك أكثر وأكبر كان هذا التخصيص عكس الواجب‏.‏
السابع‏:‏ أن هذا الخطاب فيه تنفير عن العبادة والنسك ابتداء، ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة وليس في الخطاب تقييد كان هذا سعيًا في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه‏.‏

 

ص -220-

سُورَة البَلد
قَال شَيْخ الإسْلام رَحمه الله‏:‏
قوله تعالى‏:‏ ‏{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 8 - 10‏]‏، الهداية محلها القلب، وهذه الأعضاء الثلاثة التي هى دائمة الحركة والكسب، إما للإنسان، وإما عليه، بخلاف ما يتحرك من داخل فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب، وبخلاف بقية الأعضاء الظاهرة، فإن السكون أغلب، وحركتها قليلة بالنسبة إلى هذه، وهذه الثلاثة التي يروى عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه قال‏:‏ من كان صمته فكرًا، ونطقه ذكرًا، ونظره عبرة‏.‏ وفي حديث عند ابن أبي حاتم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كثير الصمت، دائم الفكر، متواصل الأحزان، فالصمت والفكر للسان والقلب، وأما الحزن فليس المراد به الحزن الذي هو الألم على فوت مطلوب أو حصول مكروه فإن ذلك منهي عنه، ولم يكن من حاله، وإنما أراد به الاهتمام والتيقظ لما يستقبله من الأمور، وهذا مشترك بين القلب والعين‏.‏

 

ص -221-

وفيه أيضًا في الصحيحين حديث ابن عباس أنه كان إذا قام من الليل يصلى ينظر إلى السماء، ويقرأ الآيات العشر من أواخر سورة آل عمران، فيجمع بين الذكر والنظر والفكر، فالنظر، أى‏:‏ نظر القلب ونظر العين، والذكر أيضًا لابد مع ذكر اللسان من ذكر القلب‏.‏
ولما كان النظر مبدأ، والذكر منتهى؛ لأن النظر يتقدم الإدراك، والعلم والذكر يتأخر عن الإدراك والعلم؛ ولهذا كان المتكلمة في النظر المقتضى للعلم، وكان المتصوفة في الذكر المقرر للعلم قدم آلة النظر على آلة الذكر،وختم بهداية الملك الجامع الذي هو الناظر الذاكر‏.‏
وذكر سبحانه اللسان والشفتين؛ لأنهما العضوان الناطقان‏.‏ فأما الهواء والحلق والنطع واللهوات والأسنان فمتصلة حركة بعضها مرتبطة بحركة البعض بمنزلة غيرها من أجزاء الحنك، فأما اللسان والشفتان فمنفصلة‏.‏ ثم الشفتان لما كانا النهاية حملا الحروف الجوامع‏:‏ الباء، والفاء، والميم، والواو‏.‏
فأما الباء والفاء فهما الحرفان السببيان، فإن الباء أبدًا تفيد الإلصاق والسبب، وكذلك الفاء تفيد التعقيب والسبب؛ وبالأسباب تجتمع الأمور بعضها ببعض‏.‏

 

ص -222-

وأما الميم والواو فلهما الجمع والإحاطة، ألا ترى أن الميم ضمير لجمع المخاطبين في الأنواع الخمسة‏:‏ ضميرى الرفع والنصب المتصلين والمنفصلين، وضمير الخفض في مثل قوله‏:‏ ‏[‏أنتم‏]‏ و‏[‏علمتم‏]‏ و‏[‏إياكم‏]‏ و‏[‏علمكم‏]‏ و‏[‏بكم‏]‏ وضمير لجمع الغائبين في الأنواع الخمسة أيضًا‏.‏ والمضمر أيا كان، إما متكلم، أو مخاطَب، أو غائب، واحد أو اثنان أو جمع، مرفوع أو منصوب أو مجرور‏.‏ فقد أحاطت بالجميع مطلقًا‏.‏ أما الجمع المطلق فبنفسها، وأما الجمع المقدر باثنين فبزيادة علم التثنية، وهو الألف في مثل أنتما وعلمتما، وكذلك الباقى‏.‏
ولهذا زيدت الواو في الجمع المطلق فقيل‏:‏ عليهموا، وأنتموا، كما زيدت الألف في التثنية، ومن حذفها حذفها تخفيفًا؛ ولأن ترك العلامة علامة، فصارت الميم مشتركة، ثم الفارق الألف أو عدمها مع الواو‏.‏
وأما الواو فلها جموع الضمائر الغائبة في مثل قالوا ونحوها، وأما المتصلة مثل إياكم وهم، فعلى اللغتين، فلما صارت الواو تمام المضمر المرفوع المنفصل، والياء تمام المؤنث، صارت للمؤنث مطلقًا في جميع أحواله؛ لأنه تلو المذكر، والمفرد مذكره ومؤنثه قبل المثنى والمجموع، فإن المفرد قبل المركب، ثم الألف صارت علم التثنية مطلقًا في المظهر والمضمر كما أن الواو علم لجمع المذكر، وجعل الياء علمى النصب والجر

 

ص -223-

في المظهر من المثنى والمجموع؛ لأن المظهر قبل المضمر وأقوى منه، فكانت أحق أن تكون فيه من الألف، فحين ما كان أقوى كانت الواو، وحين ما كان أوسط كان الياء‏.‏
وأما الجموع الظاهرة، فالواو هى علم الجمع المذكر الصحيح، كما أن الألف علم التثنية؛ ولهذا ينطق بها حيث لا إعراب، لكن في حال النصب والخفض قلبتا يائين لأجل الفرق، وذلك لأن الأسماء الظاهرة لها الغيبة دون الخطاب في جميع العربية؛ وذلك لأن الواو أقوى حروف العلة، والضمة بعضها، وهى أقوى الحركات، لما فيها من الجمع، وكونها آخرًا، فجعلت للجمع والألف أخف حروف العلة، فجعلت للاثنين؛ لأن الياء كانت قد صارت للمؤنث في المفرد المرفوع الذي هو الأصل في قولك‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏، وجاءت الميم في مثل‏:‏ اللهم إشعار بجميع الأسماء؛ وذلك لأن حرف الشفة لما كان جامعًا للقوة من مبدأ مخارج الحروف إلى منتهاها بمنزلة الخاتم الآخر، الذي حوى ما في المتقدم وزيادة كان جامعًا لقوى الحروف، فجعل جامعًا للأسماء مظهرها ومضمرها وجامعًا بين المفردات والجمل، فالواو والفاء عاطفان، والفاء رابطة جملة بجملة‏.‏
ولما كانت النون قريبة من الفيهة فهى أنفية، جعلت لجمع المؤنث ؛

 

ص -224-

لأنه دون جمع المذكر، وثنى العينين والشفتين؛ لأن العينين هما ربيئة القلب، وليس من الأعضاء أشد ارتباطًا بالقلب من العينين؛ ولهذا جمع بينهما في قوله‏:‏ ‏{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏، ‏{تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 37‏]‏، ‏{وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏10‏]‏، ‏{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏8، 9‏]‏، ولأن كليهما له النظر، فنظر القلب الظاهر بالعينين والباطن به وحده، وكذلك اللسان هو الذكر والشفتان أنثاه‏.‏

 

ص -225-

سُورَة الشمْس
قَال شَيْخ الإسْلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه‏:‏
فَصْل
في قوله تعالى‏:‏ ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1 4‏]‏‏.‏ وضمير التأنيث في {جَلَّاهَا‏}‏ و‏{يَغْشَاهَا‏}‏، لم يتقدم ما يعود عليه إلا الشمس، فيقتضى أن النهار يجلى الشمس، وأن الليل يغشاها، و‏"‏التجلية‏"‏‏:‏ الكشف والإظهار، و‏"‏الغشيان‏"‏‏:‏ التغطية واللبس‏.‏ ومعلوم أن الليل والنهار ظرفا الزمان، والفعل إذا أضيف إلى الزمان فقيل‏:‏ هذا الزمان أو هذا اليوم يبرد، أو يبرد أو ينبت الأرض، ونحو ذلك، فالمقصود أن ذلك يكون فيه، كما يوصف الزمان بأنه عصيب، وشديد، ونحس، وبارد، وحار، وطيب، ومكروه‏.‏ والمراد وصف ما فيه‏.‏ فكون الشيء فاعلًا وموصوفًا هو بحسب ما يليق به، كل شيء بحسبه‏.‏

 

ص -226-

فالنهار يجلى الشمس،والليل يغشاها، وإن كان ظهور الشمس هو سبب النهار، ومغيبها سبب الليل‏.‏ وقد ذكر ذلك بقوله‏:‏ ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏، فأضاف الضحى إليها‏.‏ والضحى يعم النهار كله، كما قال‏:‏ ‏{أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27:29‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 5 8‏]‏‏.‏
فقد قيل‏:‏ إن ‏[‏ما‏]‏ مصدرية، والتقدير‏:‏ والسماء وبناء الله إياها، والأرض وطحو الله إياها، ونفسٍ وتسوية الله إياها‏.‏ لابد من ذكر الفاعل في الجملة، لا يصلح أن يقدر المصدر هنا مضافًا إلى الفعل فقط، فيقال‏:‏ ‏[‏وبنائها‏]‏؛ لأن الفاعل مذكور في الجملة في قوله‏:‏
‏{وَمَا بَنَاهَا‏}‏،‏{وَمَا طَحَاهَا‏}‏ فإن الفعل لابد له من فاعل في الجملة،ومفعول أيضًا‏.‏ فلابد أن يكون في التقدير الفاعل والمفعول‏.‏لكن إذا كانت مصدرية،كانت ‏[‏ما‏]‏ حرفًا ليس فيها ضمير، فيكون ضمير الفاعل في ‏[‏بناها‏]‏ عائدًا على غير مذكور، بل إلى معلوم، والتقدير‏:‏ والسماء وما بناها الله، وهذا خلاف الأصل، وخلاف الظاهر‏.‏

 

ص -227-

والقول الثاني‏:‏ أنها موصولة،والتقدير‏:‏ الذي بناها، والذي طحاها، و‏[‏ما‏]‏، فيها عموم وإجمال، يصلح لما لا يعلم،ولصفات من يعلم كقوله تعالى‏:‏‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏2، 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فّانكٌحٍوا مّا طّابّ لّكٍم مٌَنّ النٌَسّاء ٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وهذا المعنى يجيء في قوله‏:‏
‏{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وهذا المعنى كما أنه ظاهر الكلام وأصله هو أكمل في المعنى أيضًا‏.‏ فإن القَسَمَ بالفاعل، يتضمن الإقسام بفعله، بخلاف الإقسام بمجرد الفعل‏.‏
وأيضًا، فالأقسام التي في القرآن عامتها بالذوات الفاعلة وغير الفاعلة‏.‏ يقسم بنفس الفعل،كقوله‏:‏
‏{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1 3‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{وَالنَّازِعَات‏}‏ِ ‏[‏النازعات‏:‏ 1‏]‏، ‏{وَالْمُرْسَلَاتِ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 1‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
وهو - سبحانه - تارة يقسم بنفس المخلوقات، وتارة بربها وخالقها، كقوله‏:‏
‏{فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 23‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏، وتارة يقسم بها وبربها‏.‏
وفي هذه السورة أقسم بمخلوق وبفعله، وأقسم بمخلوق دون فعله، فأقسم بفاعله‏.‏

 

ص -228-

فإنه قال‏:‏ ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1 4‏]‏، فأقسم بالشمس والقمر والليل والنهار، وآثارها وأفعالها، كما فرق بينهما في قوله‏:‏ ‏{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏، فإنه بأفعال هذه الأمور وآثارها تقوم مصالح بنى آدم وسائر الحيوان‏.‏
وقال‏:‏
‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏ونهارها‏]‏ ولا ‏[‏ضيائها‏]‏ لأن ‏[‏الضحى‏]‏ يدل على النور والحرارة جميعًا، وبالأنوار والحرارة تقوم مصالح العباد‏.‏
ثم أقسم بالسماء والأرض، وبالنفس، ولم يذكر معها فعلًا، فذكر فاعلها، فقال‏:‏
‏{وَمَا بَنَاهَا‏}‏، ‏{وَمَا طَحَاهَا‏}‏، ‏{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏‏.‏
فلم يصلح أن يقسم بفعل النفس، لأنها تفعل البر والفجور وهو سبحانه لا يقسم إلا بما هو معظم من مخلوقاته‏.‏ لكن ذكر في ضمير القسم أنه خالق أفعالها بقوله‏:‏ ‏{وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏ فإذا كان قد بين أنه خالق فعل العبد الذي هو أظهر الأشياء فعلا واختيارًا وقدرة فلأن يكون خالق فعل الشمس، والقمر والليل، والنهار، بطريق الأولى والأحرى‏.‏

 

ص -229-

وأما السماء والأرض، فليس لهما فعل ظاهر يعظم في النفوس حتى يقسم بها إلا ما يظهر من الشمس، والقمر، والليل، والنهار‏.‏
والسماء والأرض أعظم من الشمس والقمر والليل والنهار، والنفس أشرف الحيوان المخلوق، فكان القسم بصانع هذه الأمور العظيمة مناسبًا، وكان إقسامه بصانعها تنبيهًا على أنه صانع ما فيها من الشمس والقمر والليل والنهار‏.‏
فتضمن الكلام الإقسام بصانع هذه المخلوقات، وبأعيانها، وما فيها من الآثار والمنافع لبنى آدم‏.‏
وختم القَسَم بالنفس، التي هى آخر المخلوقات، فإن الله خلق آدم يوم الجمعة آخر المخلوقات، وبين أنه خالق جميع أفعالها، ودل على أنه خالق جميع أفعال ما سواها‏.‏
وهو سبحانه مع ما ذكر من عموم خلقه لجميع الموجودات على مراتبها حتى أفعال العبد المنقسمة إلى التقوى والفجور وبين انقسام الأفعال إلى الخير والشر، وانقسام الفاعلين إلى مفلح وخائب، سعيد وشقى‏.‏ وهذا يتضمن الأمر والنهي، والوعد والوعيد‏.‏ فكان في ذلك رد على القدرية المجوسية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه وإلهامه، وعلى القدرية المشركية، الذين يبطلون أمره ونهيه، ووعده ووعيده احتجاجًا بقضائه وقدره‏.‏

 

ص -230-

وقد قيل في قوله‏:‏‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏‏:‏ إن الضمير عائد إلى ‏[‏الله‏]‏، أي‏:‏ ‏"‏قد أفلح من زكاها الله، وقد خاب من دساها الله، وهذا مخالف للظاهر، بعيد عن نهج البيان الذي ألف عليه القرآن، إذ كان الأحسن‏:‏ ‏[‏قد أفلحت من زكاها الله، وقد خابت من دساها‏]‏، وهذا ضعيف‏.‏
وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏، بيان للقدر، فلا حاجة إلى ذكره مرة ثانية عقب ذلك في مثل هذه السورة القصيرة‏.‏
ولهذا لم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر إلا هذه الآية دون الثانية، كما في صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلى ‏[‏هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلى الكنانى، واضع علم النحو، كان معدودًَا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان من التابعين، رسم له على بن أبي طالب شيئًا من أصول النحو فكتب فيه أبو الأسود، وأخذه عنه جماعة، سكن البصرة في خلافة عمر، وولى إمارتها في أيام على، وكان قد شهد صفين، مات بالبصرة عام 69ه‏]‏ قال‏:‏ قال لى عمران بن حصين‏:‏ أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قُضِىَ عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم‏؟‏ فقلت‏:‏ بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم‏.‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ أفلا يكون ذلك ظلمًا‏؟‏ قال‏:‏ ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا وقلت‏:‏ كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏ فقال لى‏:‏ يرحمك الله‏:‏ إنى لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك‏.‏ فإن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏:‏ يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر=

 

ص -231-

قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا، بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم‏"‏، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ‏:‏ ‏{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏.‏ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تصديق ما أخبر به من القضاء قوله‏:‏ ‏{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏‏.‏
والذي في الحديث هو القدر السابق من علم الله وكتابه وكلامه، وهذا إنما تنكره غالية القدرية‏.‏ وأما الذي في القرآن فهو خلق الله أفعال العباد وهذا أبلغ‏.‏ فإن القدرية المجوسية تنكره‏.‏
فالذي في القرآن يدل على ما في الحديث وزيادة، ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا له‏.‏ وذلك من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه إذا علم أن الله هو الملهم للفجور والتقوى ولم يكن في ذلك ظلم كما تقوله القدرية الإبليسية، ولا مخالفة للأمر والنهي والوعد والوعيد كما تقوله القدرية المشركية فالإقرار بأن الله كتب ذلك وقدره قبل وجوده مما لا نزاع فيه عند الإنسان من جهة القدر‏.‏ ولهذا قد أقر بالقدر السابق جمهور القدرية الذين ينكرون خلق الأفعال‏.‏ ولم يثبت أحد من القدرية أن الله خالق أفعال العباد، وينكره من جهة القدر أن الله خالق ذلك‏.‏

 

ص -232-

الوجه الثاني‏:‏ أنه إذا ثبت أن الله خالق فعل العبد، وأنه الملهم الفجور والتقوى، كان ذلك من جملة مصنوعاته، والشبهة التي عرضت للقدرية التي سأل المزنيان للنبى صلى الله عليه وسلم إنما هى في أعمال العباد التي عليها الثواب والعقاب خاصة، ولم ينكروا من جهة القدر أن الله قدر ما يخلقه هو قبل وجوده‏.‏ وإنما أنكر من أنكر منهم إذا اشتبه أمر أفعال العباد‏.‏
وهؤلاء يقولون‏:‏إن الله يقدر الأمور قبل وجودها إلا أفعال العباد والسعادة والشقاوة فإن ذلك لا ينبغى أن يعلمه حتى يكون؛لأن أمر الأمير بما يعلم أن المكلف لا يطيعه فيه،بل يكون ضررًا عليه، مستقبح عندهم‏.‏ وقد حكى طوائف من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم الخلاف في ذلك عن المعتزلة‏.‏ وقالوا‏:‏ يجوز أن الله يأمر العبد بما يعلم أنه لا يفعله، خلافًا للمعتزلة؛ لأن في جنس المعتزلة من يخالف في ذلك وأكثرهم لا يخالف في ذلك؛ وإنما يخالف فيه طائفة منهم‏.‏
فإذا كان القرآن قد أثبت أنه الملهم للنفس فجورها وتقواها كان ذلك من جملة مفعولاته‏.‏ فلا تبقى شبهة القدرية أنه قدر ذلك قبل وجوده، كما لا شبهة عندهم في تقديره لما يخلقه من الأعيان والصفات‏.‏
وأما من أنكر تقديره العلم من منكرة الصفات أو بعضها فأولئك

 

ص -233-

لهم مأخذ آخر، ليس مأخذهم أمر الصفات‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أنه قد كان ألهم الفجور والتقوى، وهو خالق فعل العبد‏.‏ فلابد أن يعلم ما خلقه قبل أن يخلقه، كما قال‏:‏
‏{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، لأن الفاعل المختار يريد ما يفعله، والإرادة مستلزمة لتصور المراد‏.‏ وذلك هو العلم بالمراد المفعول‏.‏
وإذا كان خلقه للشيء مستلزمًا لعلمه به، فذلك أصل القدر السابق وما علمه الله سبحانه بقوله وبكتبه فلا نزاع فيه‏.‏ وهذا بَيِّن في جميع الأشياء في هذا وغيره‏.‏
فإنه سبحانه إذا ألهم الفجور والتقوى فالملهم إن لم يميز بين الفجور والتقوى، ويعلم أن هذا الفعل الذي يريد أن يفعله هذا فجور، والذي يريد أن يفعله هذا تقوى، لم يصح منه إلهام الفجور والتقوى‏.‏
فظهر بهذا حسن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق الآية لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من القدر السابق‏.‏
وقوله سبحانه‏:‏
‏{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏، كما يدل على القدر يدل على الشرع‏.‏ فإنه لو قال‏:‏ ‏[‏فألهمها أفعالها‏]‏، كما يقول الناس‏:‏

 

ص -234-

‏[‏خالق أفعال العباد‏]‏، لم يكن في ذلك تمييز بين الخير والشر، والمحبوب والمكروه، والمأمور به والمنهي عنه، بل كان فيه حجة للمشركين من المباحية والجبرية الذين يدفعون الأمر والنهي، والحسن والقبح؛ فإنه خلق أفعال العباد‏.‏ فلما قال‏:‏ {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏، كان الكلام تفريقًا بين الحسن المأمور به والقبيح المنهي عنه، وأن الأفعال منقسمة إلى حسن وسيئ، مع كونه تعالى خالق الصنفين‏.‏
وهذه طريقة القرآن في غير موضع يذكر المؤمن والكافر وأفعالهما الحسنة والسيئة، ووعده ووعيده، ويذكر أنه خالق الصنفين، كقوله‏:‏
‏{يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
وهذا الأصل ضلت فيه الجبرية والقدرية‏:‏
فإن القدرية المجوسية قالوا‏:‏ إن الأفعال تنقسم إلى حسن وقبيح لصفات قائمة بها، والعبد هو المحدث لها بدون قدرة الله وبدون خلقه‏.‏
فقالت الجبرية‏:‏ بل العبد مجبور على فعله، والجبر حق يوجب وجود أفعاله عند وجود الأسباب التي يخلقها الله، وامتناع وجودها عند عدم شيء من الأسباب‏.‏ وإذا كان مجبورًا يمتنع أن يكون الفعل حسنًا أو قبيحًا لمعنى يقوم به‏.‏

 

ص -235-

وهذه طريقة أبي عبد الله الرازي ونحوه من الجبرية النافين لانقسام الفعل في نفسه إلى حسن وقبيح‏.‏ والأولى طريقة أبي الحسين البَصْرى ونحوه من القدرية القائلين بأن فعل العبد لم يحدثه إلا هو، والعلم بذلك ضرورى أو نظرى، وأن الفعل ينقسم في نفسه إلى حسن وقبيح، والعلم بذلك ضرورى‏.‏
وأبو الحسين هو إمام المتأخرين من المعتزلة، وله من العقل والفضل ما ليس لأكثر نظرائه، لكن هو قليل المعرفة بالسنن، ومعانى القرآن، وطريقة السلف‏.‏
وهو وأبو عبد الله الرازي في هذا الباب في طرفي نقيض، ومع كل منهما من الحق ما ليس مع الآخر‏.‏ فأبو الحسين يدعى أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضرورى، والرازي يدعى أن العلم بأن افتقار الفعل المحْدَث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عند عدمه ضرورى كذلك، بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضرورى‏.‏
ثم يعتقد كل فريق أن هذا العلم الضرورى يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة، وليس الأمر كذلك‏.‏ بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضرورى ومصيب في ذلك، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد مُحْدِثًا لفعله، وكون

 

ص -236-

هذا الإحْدَاث ممكن الوجود بمشيئة الله تعالى‏.‏
ولهذا كان مذهب أهل السنة المحضة أن العبد فاعل لفعله حقيقة، كما ادعاه أبو الحسين من الضرورة، لا يقولون‏:‏ ليس بفاعل حقيقة، أو ليس بفاعل، كما يقوله المائلون إلى الجبر مثل طائفة أبي عبد الله الرازي‏.‏ يقولون مع ذلك‏:‏ إن الله هو الخالق لهذا الفاعل ولفعله، وهو الذي جعله فاعلًا حقيقة، وهو خالق أفعال العباد، كما يقوله أهل الإثبات من الأشعرية طائفة الرازي وغيرهم لا كما يقوله القدرية مثل أبي الحسين وطائفته إن الله لم يخلق أفعال العباد‏.‏
ولهذا نص الأئمة كالإمام أحمد، ومن قبله من الأئمة كالأوزاعى وغيره على إنكار إطلاق القول بالجبر نفيًا وإثباتًا، فلا يقال‏:‏ ‏[‏إن الله جبر العباد‏]‏، ولا يقال‏:‏ ‏[‏لم يجبرهم‏]‏‏.‏ فإنَّ لفظ ‏[‏الجبر‏]‏ فيه اشتراك وإجمال‏.‏ فإذا قيل‏:‏ ‏[‏جبرهم‏]‏، أشعر بأن الله يجبرهم على فعل الخير والشر بغير اختيارهم، وإذا قيل‏:‏ ‏[‏لم يجبرهم‏]‏، أشعر بأنهم يفعلون ما يشاؤون بغير اختياره، وكلاهما خطأ‏.‏ وقد بسطنا القول في هذا في غيرهذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أن هذين الفريقين اعتقدوا تنافي القدر والشرع، كما اعتقد ذلك المجوس والمشركون، فقالوا‏:‏ إذا كان خالقًا للفعل امتنع

 

ص -237-

 أن يكون الفعل في نفسه حسنًا له ثواب، أو قبيحًا عليه عقاب‏.‏ ثم قالت القدرية‏:‏ لكن الفعل منقسم، فليس خالقًا للفعل‏.‏ وقالت الجبرية‏:‏ لكنه خالق، فليس الفعل منقسمًا‏.‏
ولكن الجبرية المقِرُّون بالرسل يُقِرُّون بالانقسام من جهة أمر الشارع ونهيه فقط، ويقولون‏:‏ له أن يأمر بما شاء لا لمعنى فيه، وينهى عما يشاء لا لأَجْل معنى فيه، ويقولون في خلقه وفي أمره جميعًا‏:‏ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏
وأما من غلب عليه رأى أو هوى، فإنه ينحل عن ربقة الشارع إذا عاين الجبر، ويقولون ما يقوله المشركون‏:‏
‏{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏
ومن أقر بالشرع، والأمر والنهي، والحسن والقبح، دون القدر وخلق الأفعال كما عليه المعتزلة فهو من القدرية المجوسية الذين شابهوا المجوس‏.‏ وللمعتزلة من مشابهة المجوس واليهود نصيب وافر‏.‏
ومن أقر بالقضاء والقدر، وخلق الأفعال وعموم الربوبية، وأنكر المعروف والمنكر، والهدى والضلال، والحسنات والسيئات، ففيه شبه من المشركين والصابئة‏.‏

 

ص -238-

 وكان الجهم بن صفوان ومن اتبعه كذلك لما ناظر أهل الهند، كما كان المعتزلة - كذلك لما ناظروا المجوس الفرس والمجوس أرجح من المشركين‏.‏
فإن من أنكر الأمر والنهي، أو لم يقر بذلك، فهو مشرك صريح كافر أكفر من اليهود والنصارى والمجوس- كما يوجد ذلك في كثير من المتكلمة والمتصوفة أهل الإباحة ونحوهم‏.‏
ولهذا لم يظهر هؤلاء ونحوهم في عصر الصحابة والتابعين لقرب عهدهم بالنبوة، وإنما ظهر أولئك القدرية المجوسية؛ لأن مذهبهم فيه تعظيم للأمر والنهي والثواب والعقاب‏.‏ فهم أقرب إلى الكتاب والسنة والرسول والدين من هؤلاء المعطلة للأمر والنهي فإن هؤلاء من شر الخلق‏.‏
وأما القدرية الإبْلِيسية، فهم الذين يقرون بوجود الأمر والنهي من الله، ويقرون مع ذلك بوجود القضاء والقدر منه، لكن يقولون‏:‏ هذا فيه جهل وظلم‏.‏ فإنه بتناقضه يكون جهلا وسفهًا، وبما فيه من عقوبة العبد بما خلق فيه يكون ظلمًا‏.‏
وهذا حال إبليس، فإنه قال‏:‏
‏{بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39‏]‏،

 

ص -239-

فأقر بأن الله أغواه، ثم جعل ذلك عنده داعيًا يقتضى أن يغوى هو ذرية آدم‏.‏
وإبليس هو أول من عادى الله، وطغى في خَلْقِه وأمره، وعارض النص بالقياس‏.‏ ولهذا يقول بعض السلف‏:‏ أول من قاس إبليس‏.‏ فإن الله أمره بالسجود لآدم، فاعترض على هذا الأمر بأنى خير منه، وامتنع من السجود‏.‏ فهو أول من عادى الله، وهو الجاهل الظالم؛ الجاهل بما في أمر الله من الحكمة، الظالم باستكباره الذي جمع فيه بين بطر الحق وغمط الناس‏.‏
ثم قوله لربه‏:‏ ‏[‏فبما أغويتني لأفعلن‏]‏، جعل فعل الله الذي هو إغواؤه له حجة له، وداعيًا إلى أن يغوى ابن آدم‏.‏ وهذا طَعْنٌ منه في فعل الله وأمره، وَزْعم منه أنه قبيح، فأنا أفعل القبيح أيضًا‏.‏ فقاس نفسه على ربه، ومَثَّلَ نفسه بربه‏.‏
ولهذا كان مضاهيًا للربوبية، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ثم يبعث سراياه، فأعظمهم فتنة أقربهم إليه منزلة‏.‏ فيجىء الرجل فيقول‏:‏ مازلت به حتى فعل كذا‏.‏ ثم يجيء الآخر فيقول‏:‏ مازلت به حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيلتزمه ويدنيه منه، ويقول‏:‏ أنت أنت‏"‏‏.‏

 

ص -240-

 والقدرية قصدوا تنزيه الله عن السفه، وأحسنوا في هذا القصد‏.‏ فإنه سبحانه مُقَدَّسٌ عما يقول الظالمون من إبليس وجنوده علوًا كبيرًا، حَكَمٌ، عَدْلٌ‏.‏ لكن ضاق ذرعهم، وحصل عندهم نوع جهل اعتقدوا معه أن هذا التنزيه لا يتم إلا بأن يسلبوه قدرته على أفعال العباد، وخلقه لها، وشمول إرادته لكل شيء‏.‏ فناظروا إبليس وحزبه في شيء، واستحوذ عليهم إبليس من ناحية أخرى‏.‏
وهذا من أعظم آفات الجدال في الدين بغير علم أو بغير الحق وهو الكلام الذي ذمه السلف، فإن صاحبه يرد باطلًا بباطل وبدعة ببدعة‏.‏
فجاء طوائف ممن ناظرهم من أهل الإثبات؛ ليقرروا أن الله خالق كل شيء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، فضاق ذرعهم وعلمهم، واعتقدوا أن هذا لا يتم إن لم ننكر محبة الله ورضاه، وما خص به بعض الأفعال دون بعض من الصفات الحسنة والسيئة وننكر حكمته ورحمته، فيجوز عليه كل فعل، لا ينزه عن ظلم ولا غيره من الأفعال‏.‏
وزاد قوم في ذلك، حتى عطلوا الأمر والنهي، والوعد والوعيد رأسًا ومال هؤلاء إلى الإرجاء، كما مال الأولون إلى الوعيد‏.‏ فقالت الوعيدية‏:‏

 

ص -241-

 كل فاسق خالد في النار لا يخرج منها أبدًا، وقالت الخوارج‏:‏ هو كافر‏.‏ وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة‏.‏ ومن صرح بالكفر أنكر الوعيد في الآخرة رأسًا كما يفعله طوائف من الاتحادية، والمتفلسفة، والقرامطة، والباطنية‏.‏ وكان هؤلاء الجبرية المرجئة أكفر بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، من المعتزلة الوعيدية القدرية‏.‏
وأما مقتصدة المرجئة الجبرية، الذين يقرون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من أهل القبلة من يدخل النار، فهؤلاء أقرب الناس إلى أهل السنة‏.‏
وقد روى الترمذى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏لُعِنَتْ القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيًا أنا آخرهم‏"‏‏.‏
لكن المعتزلة من القدرية، أصلح من الجبرية والمرجئة ونحوهم في الشريعة علمها وعملها‏.‏ فكلامهم في أصول الفقه وفي اتباع الأمر والنهي، خير من كلام المرجئة من الأشعرية وغيرهم‏.‏ فإن كلام هؤلاء في أصول الفقه قاصر جدًا، وكذلك هم مقصرون في تعظيم الطاعات والمعاصى‏.‏ ولكن هم في أصول الدين أصلح من أولئك، فإنهم يؤمنون من صفات الله وقدرته وخلقه بما لا يؤمن به أولئك‏.‏ وهذا الصنف أعلى‏.‏

 

ص -242-

  فلهذا كانت المرجئة في الجملة خيرًا من القدرية، حتى إن الإرجاء دخل فيه الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، بخلاف الاعتزال‏.‏ فإنه ليس فيه أحد من فقهاء السلف وأئمتهم‏.‏
فَصْل
فإذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق، وتارة بالتكذيب بالشرع والوعيد، وتارة بتظليم الرب، كان في هذه السورة ردًا على هذه الطوائف كلها‏.‏
فقوله تعالى‏:‏
‏{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏، إثبات للقدر بقوله‏:‏ ‏{أَلْهَمَهَا‏}‏، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه ليعلم أنها هى الفاجرة والمتقية، وإثبات للتفريق بين الحسن والقبيح، والأمر والنهي، بقوله‏:‏ ‏{فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏‏.‏
وقوله بعد ذلك‏
:‏ ‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏، إثبات لفعل العبد، والوعد والوعيد بِفَلاَحِ مَنْ زَكَّى نفسه وخيبة من دساها‏.‏ وهذا صريح في الرد على القدرية والمجوسية، وعلى الجبرية للشرع أو لفعل العبد، وهم المكذبون بالحق‏.‏

 

ص -243-

 وأما المظلمون للخالق فإنه قد دل على عدله بقوله‏:‏‏{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7‏]‏، والتسوية‏:‏ التعديل‏.‏ فبين أنه عادل في تسوية النفس التي ألهمها فجورها وتقواها‏.‏
وذكر بعد ذلك عقوبة من كذب رسله وطغى، وأنه لا يخاف عاقبة انتقامه ممن خالف رسله، ليبين أن من كذب بهذا أو بهذا،فإن الله ينتقم منه ولا يخاف عاقبة انتقامه، كما انتقم من إبليس وجنوده،وأن تظلمه من ربه وتسفيهه له إنما يهلك به نفسه ولن يضر الله شيئًا‏.‏
‏"‏فإن العباد لن يبلغوا ضر الله فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، ولو أن أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أن أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أفجر قلب رجل منهم، ما نقص ذلك من ملكه شيئًا‏"‏‏.‏
ولهذا لما سأل عمران بن حصين أبا الأسود الدؤلى عن ذلك ليَحْزُرَ عقله‏:‏ ‏"‏هل يكون ذلك ظلمًا‏؟‏‏"‏، فذكر أن ذلك ليس منه ظلمًا، وخاف من قوله‏:‏
‏{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 43‏]‏، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، واستشهاده بهذه الآية‏.‏
وقد تبين أن القدرية الخائضين بالباطل، إما أن يكونوا مُكَذِّبين لما

 

ص -244-

 أخبر به الرب من خلقه أو أمره، وإما أن يكونوا مظلمين له في حكمه‏.‏ وهو سبحانه الصادق العدل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏‏.‏ فإن الكلام إما إنشاء وإما إخبار‏.‏ فالإخبار صدق، لا كذب، والإنشاء أمر التكوين وأمر التشريع عدل، لا ظلم‏.‏ والقدرية المجوسية كذبوا بما أخبر به عن خلقه وشرعه من أمر الدين، والإبليسية جعلوه ظالمًا في مجموعهما، أو في كل منهما‏.‏
وقد ظهر بذلك أن المفترقين المختلفين من الأمة إنما ذلك بتركهم بعض الحق الذي بعث الله به نبيه وأخذهم باطلًا يخالفه، واشتراكهم في باطل يخالف ما جاء به الرسول‏.‏ وهو من جنس مخالفة الكفار للمؤمنين كما قال تعالى‏:‏
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏
فإذا اشتركوا في باطل خالفوا به المؤمنين المتبعين للرسل نسوا حظًا مما ذكروا به فألقى بينهم العداوة والبغضاء، واختلفوا فيما بينهم في حق آخر جاء به الرسول، فآمن هؤلاء ببعضه وكفروا ببعضه، والآخرون يؤمنون بما كفر به هؤلاء ويكفرون بما يؤمن به هؤلاء‏.‏
وهنا كلا الطائفتين المختلفتين المفترقتين مذمومة‏.‏ وهذا شأن عامة

 

ص -245-

  الافتراق والاختلاف في هذه الأمة وغيرها‏.‏ وهذا من ذلك‏.‏ فإنهم اشتركوا في أن كون الرب خالقًا لفعل العبد ينافي كون فعله منقسمًا إلى حسن وقبيح‏.‏ وهذه المقدمة اشتركوا فيها جدلا من غير أن تكون حقًا في نفسها أو عليها حجة مستقيمة‏.‏
وهى إحدى المقدمتين التي يعتمدها الرازي في مسألة التحسين والتقبيح‏.‏ فإنه اعتقد في ‏[‏محصوله‏]‏ وغيره على أن العبد مجبور على فعله، والمجبور لا يكون فعله قبيحًا، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحًا‏.‏
وهذه الحجة بنفي ذلك أصلها حجة المشركين المكذبين للرسل، الذين قالوا‏:‏ ‏
{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، فإنهم نفوا قبح الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر‏.‏
لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام، إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه‏.‏ ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين، وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين‏.‏
لكن يوجد في المتكلمين والمتصوفة طوائف يغلب عليهم الجبر حتى

 

ص -246-

 يكفروا حينئذ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولا، وإما حالا وعملا‏.‏ وأكثر ما يقع ذلك في الأفعال التي توافق أهواءهم، يطلبون بذلك إسقاط اللوم والعقاب عنهم، ولا يزيدهم ذلك إلا ذمًا وعقابًا كالمستجير من الرمضاء بالنار‏.‏
فإن هذا القول لا يطرد العمل به لأحد، إذ لا غنى لبنى آدم بعضهم من بعض من إرادة شيء والأمر به، وبغض شيء والنهي عنه‏.‏ فمن طلب أن يسوى بين المحبوب والمكروه، والمرضى والمسخوط، والعدل والظلم، والعلم والجهل، والضلال والهدى، والرشد والغى، فإنه لا يستمر على ذلك أبدًا‏.‏ بل إذا حصل له ما يكرهه ويؤذيه فر إلى دفع ذلك، وعقوبة فاعله بما قدر عليه حتى يعتدي في ذلك‏.‏
فهم من أظلم الخلق في تفريقهم بين القبيح من الظلم والفواحش منهم ومن غيرهم، وممن يهوونه ومن لا يهوونه، واحتجاجهم بالقدر لأنفسهم دون خصومهم‏.‏
وتجد أحدهم عند فعل ما يحمد عليه يغلب على قلبه حال أهل القدر، فيجعل نفسه هو المحدِث لذلك دون الله، وينسى نعمة الله عليه

 

ص -247-

 في إلهامه إياه تقواه‏.‏ وهذا من أظلم الخلق، كما قال أبو الفرج ابن الجوزى‏:‏ أنت عند الطاعة قدرى، وعند المعصية جبرى، أى مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏
وأهل العدل ضد ذلك‏.‏ إذا فعلوا حسنة شكروا الله عليها؛ لعلمهم بأن الله هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وأنه هو الذي كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ‏
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏‏.‏
فاتبعوا أباهم حيث أذنب‏:‏ ‏
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.‏
ويقول أحدهم‏:‏ ‏"‏أبوء لك بنعمتك علىَّ وأبوء بذنبي‏"‏، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏سيد الاستغفار أن يقول‏:‏ العبد اللهم، أنت ربي، لا إله إلا أنت‏.‏ خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت‏.‏ أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى‏.‏ فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏‏.‏ وكان في الحديث الصحيح أيضًا‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يقول‏:‏ يا عبادى، إنما هى أعمالكم ترد

 

ص -248-

 عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد شرًا فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏ ويقولون بموجب قوله تعالى‏:‏ ‏{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏
قال ابن القيم رحمه الله ‏:‏
ذكر سبحانه في هذه السورة ثمود دون غيرهم من الأمم المكذبة فقال شيخ الإسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية‏:‏
هذا والله أعلم من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى‏.‏ فإنه لم يكن في الأمم المكذبة أخف ذنبًا وعذابًا منهم، إذ لم يذكر عنهم من الذنوب ما ذكر عن عاد، ومدين، وقوم لوط، وغيرهم‏.‏
ولهذا لما ذكرهم وعادًا قال‏:‏ ‏
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏، ‏{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وكذلك إذا ذكرهم مع الأمم المكذبة لم يذكر عنهم ما يذكر عن أولئك من التجبر والتكبر والأعمال السيئة، كاللواط، وبخس المكيال والميزان، والفساد في الأرض، كما في سورة هود، والشعراء وغيرهما‏.‏ فكان في قوم لوط مع الشرك إتيان الفواحش التي

 

ص -249-

 لم يسبقوا إليها؛ وفي عاد مع الشرك التجبر، والتكبر، والتوسع في الدنيا، وشدة البطش، وقولهم‏:‏‏{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏، وفي أصحاب مدين مع الشرك الظلم في الأموال‏.‏ وفي قوم فرعون الفساد في الأرض، والعلو‏.‏
وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم‏.‏ فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم‏.‏ فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين‏.‏ وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم، وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان‏.‏
وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة، فماتوا في الحال‏.‏ فإذا كان هذا عذابه لهؤلاء وذنبهم مع الشرك عقر الناقة التي جعلها الله آية لهم، فمن انتهك محارم الله، واستخف بأوامره ونواهيه، وعقر عباده وسفك دماءهم، كان أشد عذابًا‏.‏
ومن اعتبر أحوال العالم قديمًا وحديثًا، وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله، علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون‏.

 

ص -250-

سُورَة العَلَق
وقَال الشيخ رحمه الله ‏:‏
فَصْل
في بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين وهي الأدلة العقلية الدالة على ثبوت الصانع وتوحيده، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى المعاد إمكانًا ووقوعًا‏.‏
وقد ذكرنا فيما تقدم هذا الأصل غير مرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأدلة العقلية والسمعية التي يهتدى بها الناس إلى دينهم، وما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأن الذين ابتدعوا أصولًا تخالف بعض ما جاء به هي أصول دينهم، لا أصول دينه‏.‏ وهي باطلة عقلًا وسمعًا، كما قد بسط في غير موضع‏.‏ وبين أن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم والدين قاصرون أو مقصرون في معرفة ما جاء به من

 

ص -251-

الدلائل السمعية والعقلية‏.‏
فطائفة قد ابتدعت أصولًا تخالف ما جاء به من هذا وهذا‏.‏
وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه،وصاروا ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك‏.‏ولكن هم مع ذلك لم يتبعوا السنة على وجهها، ولا قاموا بما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية‏.‏بل الذي يخبر به من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر، غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من غير تصور لما أخبر به‏.‏ بل قد يقولون مع هذا إنه نفسه لم يكن يعلم معنى ما أخبر به؛ لأن ذلك عندهم هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏
وأما الأدلة العقلية فقد لا يتصورون أنه أتى بالأصول العقلية الدالة على ما يخبر به، كالأدلة الدالة على التوحيد والصفات‏.‏ ومنهم من يقر بأنه جاء بهذا مجملًا، ولا يعرف أدلته‏.‏ بل قد يظن أن ما يستدل به كالاستدلال بخلق الإنسان على حدوث جواهره هو دليل الرسول‏.‏
وكثير من هؤلاء يعتقدون‏:‏ أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل كالمعاد،وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم

 

ص -252-

والكذب‏.‏ والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك‏.‏ وينكر على من لم يستدل بها‏.‏ ويبين أنه بالعقل يعرف المعاد، وحسن عبادته وحده وحسن شكره‏.‏ وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع‏.‏
وكثير من الناس يكون هذا في فطرته وهو ينكر تحسين العقل وتقبيحه إذا صنف في أصول الدين على طريقة النفاة الجبرية أتباع جهم‏.‏ وهذا موجود في عامة ما يقوله المبطلون يقولون بفطرتهم ما يناقض ما يقولونه في اعتقادهم البِدْعِى‏.‏
وقد ذكر أبو عبد الله ابن الجد الأعلى أنه سمع أبا الفرج ابن الجوزي ينشد في مجلس وعظه البيتين المعروفين‏:‏

 هب البعثُ لم تأتنا رُسْله

 وجاحمة النار لم تُضرم

 أليس من الواجب المستَحَقِ

 حياءُ العباد من المنْعِم‏؟‏

فقد صرح في هذا بأنه من الواجب المستحق حياء الخلق من الخالق المنعم‏.‏
وهذا تصريح بأن شكره واجب مستحق ولو لم يكن وعيد، ولا

 

ص -253-

رسالة أخبرت بجزاء‏.‏ وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب‏.‏
وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح‏.‏ ونتيجة فعل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر‏.‏
ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة‏.‏ فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه‏.‏ وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها أن يسلبها‏.‏ فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد‏.‏ والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد‏.‏
مع أنه لابد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار‏.‏قال تعالى‏:
‏‏{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏4 - 6‏]‏،وهذا مبسوط في مواضع‏.‏
والمقصود هنا أن بيان هذه الأصول وقع في أول ما أنزل من القرآن‏.‏ فإن أول ما أنزل من القرآن‏:‏ ‏
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، عند جماهير

 

ص -254-

رسالة أخبرت بجزاء‏.‏ وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب‏.‏
وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح‏.‏ ونتيجة فعل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر‏.‏
ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة‏.‏ فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه‏.‏ وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها أن يسلبها‏.‏ فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد‏.‏ والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد‏.‏
مع أنه لابد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار‏.‏قال تعالى‏:
‏‏{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏4 - 6‏]‏،وهذا مبسوط في مواضع‏.‏
والمقصود هنا أن بيان هذه الأصول وقع في أول ما أنزل من القرآن‏.‏ فإن أول ما أنزل من القرآن‏:‏ ‏
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، عند جماهير

 

ص -255-

فقلت‏:‏ ‏"‏ما أنا بقارئ‏"‏
‏"‏فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال‏:‏ ‏
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏‏"‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1 - 5‏]‏‏.‏
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده‏.‏ فدخل على خديجة بنت خويلد فقال‏:‏
‏"‏زملوني‏.‏ زملوني‏"‏ فزملوه حتى ذهب عنه الروع‏.‏
فقال لخديجة وأخبرها الخبر‏:‏ ‏"‏لقد خشيت على نفسي‏"‏
فقالت له خديجة‏:‏ كلا، والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق‏.‏
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد

 

ص -256-

 العزى ابن عم خديجة‏.‏ وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرى، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي‏.‏
فقالت له خديجة‏:‏ يا بن عم، اسمع من ابن أخيك‏.‏
فقال له ورقة‏:‏ يا بن أخى، ماذا ترى‏؟‏
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى‏.‏
فقال له ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي أنزل على موسى‏.‏ يا ليتنى فيها جذعًا‏!‏ ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك‏!‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏أو مخرجي هم‏؟‏‏"‏
قال‏:‏ نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى‏.‏وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا‏.‏
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَر الوحي‏.‏
قال ابن شهاب الزهرى، سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال‏:‏ أخبرنى جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث

 

ص -257-

 عن فَتْرَة الوحي‏:‏ ‏"‏فبينما أنا أمشى سمعت صوتًا فرفعت بصرى قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْت ‏[‏جُئِثْتُ‏:‏ أى ذعرت‏]‏ حتى هويت إلى الأرض‏.‏ فجئت أهلى فقلت‏:‏ زملونى، زملونى، فزملونى‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1 - 5‏]‏‏.‏
فهذا يبين أن ‏[‏المدثر‏]‏ نزلت بعد تلك الفَتْرَة، وأن ذلك كان بعد أن عاين الملك الذي جاءه بحراء أولا فكان قد رأى الملك مرتين‏.‏
وهذا يفسر حديث جابر الذي روى من طريق آخر كما أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثير، قال‏:‏سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن‏.‏قال‏:‏‏
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ قلت‏:‏يقولون‏:‏ ‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فقال أبو سلمة‏:‏سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت،فقال جابر‏:‏ لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏جاورت بحراء، فلما قضيت جوارى هبطت فنوديت، فنظرت عن يمينى فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئًا،ونظرت أمامى فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا‏.‏ فرفعت رأسى فرأيت شيئًا‏.‏ فأتيت خديجة فقلت‏:‏ دثرونى وصبوا علىّ ماءً باردًا، فدثروني وصبوا علي ماءً باردًا‏"‏‏.‏

 

ص -258-

 قال‏:‏ ‏"‏فنزلت‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1 - 3‏]‏‏.‏
فهذا الحديث يوافق المتقدم، وإن ‏[‏المدثر‏]‏ نزلت بعد أن هبط من الجبل وهو يمشى، وبعد أن ناداه الملك حينئذ‏.‏ وقد بين في الرواية الأخرى أن هذا الملك هو الذي جاءه بحراء، وقد بينت عائشة أن ‏{اقْرَأْ‏}‏ نزلت حينئذ في غار حراء‏.‏ لكن كأنه لم يكن علم أن ‏{اقًرأ‏}‏ نزلت حينئذ، بل علم أنه رأى الملك قبل ذلك، وقد يراه ولا يسمع منه‏.‏ لكن في حديث عائشة زيادة علم، وهو أمره بقراءة ‏{اقْرَأْ‏}‏‏.‏
وفي حديث الزهرى أنه سمى هذا ‏[‏فَتْرَة الوحي‏]‏، وكذلك في حديث عائشة ‏[‏فَتْرَة الوحي‏]‏‏.‏ فقد يكون الزهري روى حديث جابر بالمعنى، وسمى ما بين الرؤيتين ‏[‏فترة الوحي‏]‏ كما بينته عائشة، وإلا فإن كان جابر سماه ‏[‏فترة الوحي‏]‏ فكيف يقول‏:‏ إن الوحي لم يكن نزل‏؟‏
وبكل حال، فالزهري عنده حديث عروة، عن عائشة، وحديث أبي سلمة، عن جابر وهو أوسع علمًا وأحفظ من يحيى بن أبي كثير لو اختلفا‏.‏ لكن يحيى ذكر أنه سأل أبا سلمة عن الأولى، فأخبر جابر بعلمه، ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك، وعائشة أثبتت وبينت‏.‏

 

ص -259-

 والآيات آيات ‏[‏اقرأ‏]‏ و‏[‏المدثر‏]‏ تبين ذلك، والحديثان متصادقان مع القرآن ومع دلالة العقل على أن هذا الترتيب هو المناسب‏.‏
وإذا كان أول ما أنزل ‏
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1 5‏]‏، ففي الآية الأولى إثبات الخالق تعالى، وكذلك في الثانية‏.‏
وفيها وفي الثانية الدلالة على إمكان النبوة، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
أما الأولى؛ فإنه قال‏:‏ ‏
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏، ثم قال‏:‏‏{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏‏.‏ فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق‏.‏وهذا أمر معلوم لجميع الناس،كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه،وأنه يكون من علق‏.‏وهؤلاء بنو آدم‏.‏
وقوله‏:‏
‏{الْإِنسَانَ‏}‏ هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين‏.‏ فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات

 

ص -260-

 يعلمها المستدل‏.‏ والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق‏.‏
فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء، أو بدلائل أُخر‏.‏ ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات‏.‏
وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة‏.‏ فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة، وهذه السورة أول ما نزل، وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة، والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق‏.‏
وذكر سبحانه خلق الإنسان من العلق وهو جمع ‏[‏عَلَقَة‏]‏، وهي القطعة الصغيرة من الدم؛ لأن ما قبل ذلك كان نطفة، والنطفة قد تسقط في غير الرحم كما يحتلم الإنسان، وقد تسقط في الرحم ثم يرميها الرحم قبل أن تصير عَلَقَة‏.‏ فقد صار مبدأ لخلق الإنسان، وعُلِم أنها صارت علقة ليخلق منها الإنسان‏.‏
وقد قال في سورة القيامة‏:‏ ‏
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 37 - 40‏]‏،

 

ص -261-

فهنا ذكرهذا على إمكان النشأة الثانية التي تكون من التراب؛ ولهذا قال في موضع آخر‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏، ففي القيامة استدل بخلقه من نطفة، فإنه معلوم لجميع الخلق‏.‏ وفي الحج ذكر خلقه من تراب، فإنه قد علم بالأدلة القطعية‏.‏ وذكر أول الخلق أدل على إمكان الإعادة‏.‏
وأما هنا، فالمقصود ذكر ما يدل على الخالق تعالى ابتداء فذكر أنه خلق الإنسان من علق، وهو من العلقة الدم، يصير مضغة، وهو قطعة لحم كاللحم الذي يمضغ بالفم، ثم تخلق فتصور، كما قال تعالى ‏
{ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏5‏]‏ فإن الرحم قد يقذفها غير مخلقة‏.‏ فبين للناس مبدأ خلقهم، ويرون ذلك بأعينهم‏.‏
وهذا الدليل وهو خلق الإنسان من علق يشترك فيه جميع الناس‏.‏ فإن الناس هم المستدلون، وهم أنفسهم الدليل والبرهان والآية‏.‏ فالإنسان هوالدليل وهو المستدل، كما قال تعالى‏:
‏ ‏{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏، وقال‏:‏ ‏{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وهذا كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏‏.‏

 

ص -262-

 وهو دليل يعلمه الإنسان من نفسه، ويذكره كلما تذكر في نفسه وفيمن يراه من بنى جنسه‏.‏ فيستدل به على المبدأ والمعاد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66، 67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏
وكذلك قال زكريا لما تعجب من حصول ولد على الكبر فقال‏:‏ ‏
{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 8، 9‏]‏، ولم يقل‏:‏ ‏"‏إنه أهون عليه‏"‏ كما قال في المبدأ والمعاد‏:‏ ‏{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏
وقال سبحانه ‏
{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 2‏]‏، بعد أن قال‏:‏ ‏{الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، فأطلق الخلق الذي يتناول كل مخلوق، ثم عين خلق الإنسان فكان كلما يعلم حدوثه داخلًا في قوله‏:‏ ‏{الَّذِي خَلَق‏}‏‏.‏َ
وذكر بعد الخلق التعليم الذي هو التعليم بالقلم، وتعليم الإنسان ما لم يعلم‏.‏ فخص هذا التعليم الذي يستدل به على إمكان النبوة‏.‏
ولم يقل هنا‏:‏ ‏[‏هدى‏]‏، فيذكر الهدى العام المتناول للإنسان

 

ص -263-

 وسائر الحيوان، كما قال في موضع آخر‏:‏ ‏{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1 3‏]‏، وكما قال موسى ‏{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏50‏]‏؛ لأن هذا التعليم الخاص يستلزم الهدى العام، ولا ينعكس‏.‏ وهذا أقرب إلى إثبات النبوة، فإن النبوة نوع من التعليم‏.‏
وليس جعل الإنسان نبيًا بأعظم من جعله العَلَقَة إنسانًا، حيًا، عالمًا، ناطقًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، قد علم أنواع المعارف، كما أنه ليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته‏.‏ والقادر على المبدأ كيف لا يقدر على المعاد‏؟‏ والقادر على هذا التعليم كيف لا يقدر على ذاك التعليم وهو بكل شيء عليم، ولا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء‏؟‏
وقال سبحانه أولا‏:‏
‏{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏،فأطلق التعليم والمعلم، فلم يخص نوعًا من المعلمين‏.‏ فيتناول تعليم الملائكة وغيرهم من الإنس والجن، كما تناول الخلق لهم كلهم‏.‏
وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه يقتضى تعليم الخط،والخط يطابق اللفظ وهو البيان والكلام‏.‏ ثم اللفظ يدل على المعانى المعقولة التي في القلب فيدخل فيه كل علم في القلوب‏.‏
وكل شيء له حقيقة في نفسه ثابتة في الخارج عن الذهن، ثم

 

ص -264-

 يتصوره الذهن والقلب، ثم يعبر عنه اللسان، ثم يخطه القلم‏.‏ فله وجود عينى، وذهنى، ولفظى، ورسمى‏.‏ وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان‏.‏ لكن الأول هو هو، وأما الثلاث، فإنها مثال مطابق له‏.‏ فالأول هو المخلوق، والثلاثة معلمة‏.‏ فذكر الخلق والتعليم ليتناوب المراتب الأربع، فقال‏:‏ ‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1 5‏]‏‏.‏
وقد تنازع الناس في الماهيات هل هي مجعولة أم لا‏؟‏ وهل ماهية كل شيء زائدة على وجوده‏؟‏ كما قد بُسِطَ هذا في غير هذا الموضع وبين الصواب في ذلك، وأنه ليس إلا ما يتصور في الذهن، ويوجد في الخارج‏.‏
فإن أريد الماهية ما يتصور في الذهن‏.‏ وبالوجود ما في الخارج، أو بالعكس، فالماهية غير الوجود إذا كان ما في الأعيان مغايرًا لما في الأذهان‏.‏
وإن أريد بالماهية ما في الذهن، أو الخارج، أو كلاهما، وكذلك بالوجود، فالذي في الخارج من الوجود هو الماهية الموجودة في الخارج وكذلك ما في الذهن من هذا هو هذا، ليس في الخارج شيئان‏:‏

 

ص -265-

وهو سبحانه علم ما في الأذهان وخلق ما في الأعيان، وكلاهما مجعول له‏.‏ لكن الذي في الخارج جعله جعلا خلقيًا‏.‏ والذي في الذهن جعله جعلا تعليميًا‏.‏ فهو الذي ‏{خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏، وهو ‏{الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏‏{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏ يدخل فيه تعليم الملائكة الكاتبين، ويدخل فيه تعليم كتب الكتب المنزلة‏.‏ فعلم بالقلم أن يكتب كلامه الذي أنزله كالتوراة والقرآن،بل هو كتب التوراة لموسى‏.‏
وكون محمد كان نبيًا أميًا هو من تمام كون ما أتى به معجزًا خارقًا للعادة، ومن تمام بيان أن تعليمه أعظم من كل تعليم، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏، فغيره يعلم ما كتبه غيره، وهو علم الناس ما يكتبونه، وعلمه الله ذلك بما أوحاه إليه‏.‏
وهذا الكلام الذي أنزل عليه هو آية وبرهان على نبوته، فإنه لا يقدر عليه الإنس والجن‏.
‏ ‏{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏، ‏{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏، وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏

 

ص -266-

فَصْل
وقد بسطنا في غير هذا الموضع طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة وأن كل طريق تتضمن ما يخالف السنة فإنها باطلة في العقل كما هي مخالفة للشرع‏.‏
والطريق المشهورة عند المتكلمين هو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام‏.‏
وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع،وأنها مخالفة للشرع والعقل‏.‏ وكثير من الناس يعلم أنها بدعة في الشرع، لكن لا يعلم فسادها في العقل‏.‏ وبعضهم يظن أنها صحيحة في العقل والشرع، وأنها طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام وقد بين فساد هذا في غير موضع‏.‏
والمقصود هنا أن طائفة من النُظَّار مثبتة الصفات أرادوا

 

ص -267-

 سلوك سبيل السنة ولم يكن عندهم إلا هذه الطريق‏.‏
فاستدلوا بخلق الإنسان، لكن لم يجعلوا خلقه دليلا كما في الآية، بل جعلوه مستدلا عليه‏.‏ وظنوا أنه يعرف بالبديهة والحس حدوث أعراض النطفة‏.‏ وأما جواهرها فاعتقدوا أن الأجسام كلها مركبة من الجواهر المنفردة، وأن خلق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر بجمعها وتفريقها، ليس هو إحداث عين‏.‏
فصاروا يريدون أن يستدلوا على أن الإنسان مخلوق‏.‏ ثم إذا ثبت أنه مخلوق قالوا‏:‏ إن له خالقًا‏.‏
واستدلوا على أنه مخلوق بدليل الأعراض، وأن النطفة والعلقة والمضغة لا تنفك من أعراض حادثة، إذ كان عندهم جواهر تجمع تارة وتفرق أخرى، فلا تخلو عن اجتماع وافتراق، وهما حادثان‏.‏ فلم يخل الإنسان عن الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها‏.‏
وهذه هي الطريقة التي سلكها الأشعرى في‏:‏ ‏"‏اللمع في الرد على أهل البدع‏"‏، وشرحه أصحابه شروحًا كثيرة‏.‏ وكذلك في‏:‏ ‏[‏رسالته إلى أهل الثغر‏]‏‏.‏ وذكر قوله تعالى‏:
‏ ‏{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 58، 59‏]‏،

 

ص -268-

فاستدل على أن الإنسان مخلوق بأنه مركب من الجواهر التي لا تخلو من اجتماع وافتراق، فلم تخل من الحوادث، فهي حادثة‏.‏
وهذه الطريقة هي مقتضية من كون الأجسام كلها كذلك‏.‏
وتلك هي الطريقة المشهورة التي يسلكها الجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم من المتأخرين المنتسبين إلى المذاهب الأربعة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، كما ذكرها القاضى، وابن عقيل، وغيرهما‏.‏ وذكرها أبو المعالى الجوينى، وصاحب ‏[‏التتمة‏]‏، وغيرهما‏.‏ وذكرها أبو الوليد الباجى ‏[‏هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التُّجىبىُّ لمالكى الأندلسى الباجى، من علماء الأندلس، صنف كتبًا كثيرة منها المنتقى وهو أحد أئمة المسلمين، توفي بالمرية ليلة الخميس بين العشاءين 19 رجب سنة 474ه ودفن بالرِّباط على ضفة البحر‏]‏، وأبو بكر بن العربي، وغيرهما‏.‏ وذكرها أبو منصور الماتريدي، والصابونى ‏[‏هو أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل الصابوني الحافظ الواعظ المفسر، لقبه أهل السنة فيها أى في بلاد خراسان بشيخ الإسلام، ولد عام 373، ومات في نيسابور عام 449ه، يجيد الفارسية إجادته العربية، له كتاب عقيدة السلف‏]‏‏.‏ وغيرهما‏.‏
لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنسان ظنًا أن هذه طريقة القرآن‏.‏ وطولوا في ذلك ودققوا حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة، لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض، لا حدوث جواهر‏.‏ وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب، والمطر، والزرع، والثمر، والإنسان والحيوان، فإنما يحدث فيه أعراضًا، وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها‏.‏

 

ص -269-

 وزعموا أن أحدًا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة، ولا بضرورة العقل، وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا‏.‏ فقالوا‏:‏ هذه أعراض حادثة في جواهر، وتلك الجواهر لم تخل من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض‏.‏
ثم قالوا‏:‏ وما لم يخل من الحوادث فهو حادث‏.‏
وهذا بنوه على أن الأجسام المركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، وقالوا‏:‏ إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض‏.‏
وجمهور العقلاء من السلف، وأنواع العلماء، وأكثر النظار، يخالفون هؤلاء فيما يثبتون من الجوهر الفرد، ويثبتون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، ويقولون بأن الرب لا يزال يحدث الأعيان، كما دل على ذلك القرآن‏.‏
ولهذا كانت هذه الطريق باطلة عقلا وشرعًا، وهي مكابرة للعقل فإن كون الإنسان مخلوقًا محدثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس‏.‏ وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن، وأن عينه حدثت كما قال تعالى‏:
‏ ‏{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 67‏]‏‏.‏

 

ص -270-

ليس هذا مما يستدل عليه، فإنه أبين وأوضح مما يستدل به عليه لو كان صحيحًا‏.‏ فكيف إذا كان باطلًا‏.‏
وقولهم‏:‏ إن الحادث أعراض فقط، وإنه مركب من الجواهر الفردة، قولان باطلان لا يعلم صحتهما‏.‏ بل يعلم بطلانهما‏.‏
ويعلم حدوث جوهر الإنسان وغيره من المادة التي خلق منها، وهي العلق كما قال‏:‏
‏{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وكونه مركبًا من جواهر فردة ليس صحيحًا‏.‏ ولو كان صحيحًا لم يكن معلومًا إلا بأدلة دقيقة لا تكون هي أصل الدين الذي هو مقدمات أولية‏.‏ فإن تلك المقدمات يجب أن تكون بينة أولية، معلومة بالبديهة‏.‏
فطريقهم تضمن جحد المعلوم، وهو حدوث الأعيان الحادثة، وهذا معلوم للخلق؛ وإثبات ما ليس بمعلوم، بل هو باطل، وأن الإحداث لها إنما هو جمع وتفريق للجواهر، وأنه إحداث أعراض فقط‏.‏
ولهذا كان استدلالهم بطريقة الجواهر والأعراض على هذا الوجه مما أنكره عليهم أئمة الدين، وبينوا أنهم مبتدعون في ذلك، بل

 

ص -271-

 بينوا ضلالهم شرعًا وعقلاً، كما بسط كلام السلف والأئمة عليهم في غير هذا الموضع، إذ هو كثير‏.‏
فالقرآن استدل بما هو معلوم للخلق من أنه‏:‏
‏{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وهؤلاء جاؤوا إلى هذا المعلوم فزعموا أنه غير معلوم، بل هو مشكوك فيه‏.‏ ثم زعموا أنهم يذكرون الدليل الذي به يصير معلومًا‏.‏ فذكروا دليلا باطلًا لا يدل على حدوثه، بل يظن أنه دليل وهو شبهة، ولها لوازم فاسدة‏.‏
فأنكروا المعلوم بالعقل، ثم الشرع، وادَّعوا طريقًا معلومة بالعقل وهي باطلة في العقل، والشرع‏.‏ فضاهوا الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏
{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وكذلك في إثبات النبوات وإمكانها، وفي إثبات المعاد وإمكانه، عدلوا عن الطريق الهادية التي توجب العلم اليقينى التي هدى الله بها عباده إلى طريق تورث الشك والشبهة والحيرة‏.‏ ولهذا قيل‏:‏ غاية المتكلمين المبتدعين الشك، وغاية الصوفية المبتدعين الشطح‏.‏
ثم لها لوازم باطلة مخالفة للعقل والشرع، فألزموا لوازمها التي أوجبت لهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات‏.‏ وتكلموا

 

ص -272-

 في دلائل النبوة والمعاد، ودلائل الربوبية بأمور، وزعموا أنها أدلة وهي عند التحقيق ليست بأدلة‏.‏ ولهذا يطعن بعضهم في أدلة بعض‏.‏
وإذا استدلوا بدليل صحيح فهو مطابق لما جاء به الرسول وإن تنوعت العبارات‏.‏
ولهذا قد يستدل بعضهم بدليل إما صحيح وإما غير صحيح فيطعن فيه آخر، ويزعم أنه يذكر ما هو خير منه، ويكون الذي يذكره دون ما ذكره ذاك‏.‏ وهذا يصيبهم كثيرًا في الحدود، يطعن هؤلاء في حد هؤلاء، ويذكرون حدًا مثله أو دونه‏.‏
وتكون الحدود كلها من جنس واحد، وهي صحيحة إذا أريد بها التمييز بين المحدود وغيره‏.‏ وأما من قال‏:‏ إن الحدود تفيد تصوير ماهية المحدود، كما يقوله أهل المنطق، فهؤلاء غالطون ضالون، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏ وإنما الحد مُعرَّف للمحدود، ودليل عليه، بمنزلة الاسم، لكنه يفصل ما دل عليه الاسم بالإجمال، فهو نوع من الأدلة، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
إذ المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الطريق المفيد للعلم واليقين كالتي بينها القرآن وبين ما ليس كذلك من طرق أهل البدع الباطلة شرعًا وعقلًا‏.‏

 

ص -273-

فَصْل
وهؤلاء الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام اضطربوا كثيرًا،كما قد بسط في مواضع‏.‏ولابد لكل منهم مع مخالفته للشرع المنزل من السماء إلى أن يخالف أيضًا صريح العقل ويكابر، فيكون ممن لا يسمع ولا يعقل‏.‏
فإن القول له لوازم، فإذا كان باطلًا فقد يستلزم أمورًا باطلة ظاهرة البطلان‏.‏ وصاحبه يريد إثبات تلك اللوازم، فيظهر مخالفته للحس والعقل‏.‏
كالذين أثبتوا الجواهر المنفردة وقالوا‏:‏ إن الحركات في نفسها لا تنقسم إلى سريع وبطىء، إذ كانت الحركة عندهم منقسمة كانقسام المتحرك، وكذلك الزمان وأجزاء الزمان‏.‏ والحركة والمتحرك عندهم واحد لا ينقسم فإذا كان المتحركان سواء وحركة أحدهما أسرع قالوا‏:‏ إنما ذاك لتخلل السكنات‏.‏ وادعوا أن الرحا والدولاب وكل مستدير إذا تحرك فإن زمان حركة المحيط والطوق الصغير واحد مع كثرة أجزاء المحيط، فيجب أن تكون حركتها أكثر، فيكون زمانها أكثر، وليس هو بأكثر،

 

ص -274-

 فادَّعوا أنها تنفك ثم تتصل‏.‏ وهذه مكابرة من جنس ‏"‏طفرة النَّظَّام‏"‏ ‏[‏هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ البصرى النظام، من أئمة المعتزلة قال الجاحظ‏:‏ الأوائل يقولون‏:‏ في كل سنة رجل لا نظير له، فإن صح ذلك فأبو إسحاق من هؤلاء الضلال وصدق فيما قال رأس الفرقة النظامية قد ألفت كتب في الرد على ضلاله وكفره، وفي لسان الميزان‏:‏ أنه متهم بالزندقة‏]‏‏.‏
وكذلك الذين قالوا‏:‏ بأن العرض لا يبقى زمانين خالفوا الحس وما يعلمه العقلاء بضرورة عقولهم‏.‏ فإن كل أحد يعلم أن لون جسده الذي كان لحظة هو هذا اللون‏.‏ وكذلك لون السماء، والجبال، والخشب، والورق، وغير ذلك‏.‏
ومما ألجأهم إلى هذا، ظنهم أنهما لو كانا باقيين لم يمكن إعدامهما، فإنهم حاروا في إفناء الله الأشياء إذا أراد أن يفنيها، كما حاروا في إحداثها‏.‏ وحيرتهم في الإفناء أظهر‏.‏ هذا يقول‏:‏ يخلق فناء لا في محل، فيكون ضدًا لها، فتفنى بضدها‏.‏ وهذا يقول‏:‏ يقطع عنها الأعراض مطلقًا، أو البقاء الذي لا تبقى إلا به، فيكون فناؤها لفوات شرطها‏.‏
ومن أسباب ذلك ظنهم، أو ظن من ظن منهم، أن الحوادث لا تحتاج إلى الله إلا حال إحداثها، لا حال بقائها، وقد قالوا‏:‏ إنه قادر على إفنائها‏.‏ فتكلفوا هذه الأقوال الباطلة‏.‏
وهؤلاء لا يحتجون على بقاء الرب بافتقار العالم إليه، بل بأنه قديم، وما وجب قدمه امتنع عدمه‏.‏ وإلا فالباقى حال بقائه لا يحتاج إلى الرب عندهم‏.‏

 

ص -275-

 وهؤلاء شر من الذين سألوا موسى‏:‏ هل ينام ربك‏؟‏ فضرب الله لهم المثل بالقارورتين لما أرق موسى ليالى، ثم أمره بإمساك القارورتين فلما أمسكهما غلبه النوم فتكسرتا‏.‏ فبين الله له لو أخذته سنة أو نوم لتدكدك العالم‏.‏
وعلى رأى هؤلاء‏:‏ لو أخذته سنة أو نوم لم يعدم الباقى‏.‏ لكن منهم من يقول‏:‏ هو محتاج إلى إحداث الأعراض متوالية؛ لأن العرض عنده لا يبقى زمانين‏.‏ فمن هذا الوجه يقول‏:‏ إذ لو أخذته سنة أو نوم لم تحدث الأعراض التي تبقى بها الأجسام، لا لأن الأجسام في نفسها مفتقرة إليه في حال بقائها عنده‏.‏
وكذلك يقولون‏:‏ إن الإرادة لا تتعلق بالقديم، ولا بالباقى‏.‏ وكذلك القدرة عندهم لا تتعلق بالباقى، ولا العجز يصح أن يكون عجزًا عن الباقى والقديم عندهم؛ لأن العجز عندهم إنما يكون عجزًا عما تصح القدرة عليه‏.‏
وهؤلاء يقولون‏:‏ علة الافتقار إلى الخالق مجرد الحدوث‏.‏ وآخرون من المتفلسفة يقولون‏:‏ هو مجرد الإمكان، ويدَّعون أن القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال هو مفتقر إلى الصانع‏.‏ فهذا يدعى أن الباقى المحدث لا يفتقر، وهذا يدعى أن الباقى القديم يفقتر وكلا القولين

 

ص -276-

 فاسد، كما قد بسط في مواضع‏.‏
والحق أن كل ما سوى الله حادث، وهو مفتقر إليه دائمًا‏.‏ وهو يبقيه ويعدمه،كما ينشئه ويحدثه، كما يحدث الحوادث من التراب وغيره ثم يفنيها ويحيلها إلى التراب وغيره‏.‏
وهؤلاء ادعى كثير منهم أن كل ما سوى الله يعدم ثم يعاد، وبعضهم قال‏:‏ هذا ممكن، لكنه موقوف على الخبر، والخبر لم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات‏.‏ وهذا هو المعاد عندهم‏.‏
وهذا لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا دل عليه عقل‏.‏ بل الكتاب والسنة يبين أن الله يحيل العالم من حال إلى حال، كما يشق السماء، ويجعل الجبال كالعهن، ويكور الشمس، إلى غير ذلك مما أخبر الله في كتابه لم يخبر أن جميع الأشياء تعدم ثم تعاد‏.‏
ثم منهم من يقول‏:‏ إنها تعدم بعد ذلك لامتناع وجود حوادث لا آخر لها، كما تقوله الجهمية‏.‏ وهذا مما أنكره عليهم السلف والأئمة، كما قد ذكر في غير هذا الموضع‏.‏
وهؤلاء إنما قالوا هذا طردًا لقولهم بامتناع دوام جنس الحوادث، وقالوا‏:‏ ما وجب أن يكون له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء، كما قد بسط هذا وبين فساد هذا الأصل‏.‏

 

ص -277-

 فَصْل
وهو سبحانه تارة يذكر خلق الإنسان مجملًا، وتارة يذكره مفصلا، كقوله‏:‏
‏{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12- 14‏]‏‏.‏ ثم  ومن الناس من يقول‏:‏ لم دخلت لام التوكيد في الموت وهو مشاهد ولم تدخل في البعث وهو غيب فيحتاج إلى التوكيد‏؟‏ وذلك والله أعلم أن المقصود بذكر الموت والبعث هو الإخبار بالجزاء والمعاد، وأول ذلك هو الموت‏.‏ فنبه على الإيمان بالمعاد، والاستعداد لما بعد الموت‏.‏
وهو إنما قال‏:‏ ‏[‏تبعثون‏]‏ فقط ولم يقل‏:‏‏[‏تجازون‏]‏، لكن قد علم أن البعث للجزاء‏.‏
وأيضًا، ففيه تنبيه على قهر الإنسان وإذلاله‏.‏ يقول‏:‏ بعد هذا

 

ص -278-

 كله إنك تموت، فترد إلى أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال‏:‏ ‏{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4 - 6‏]‏‏.‏
وهذا الرد هو بالموت‏.‏ فإنه يصير في أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال‏:‏ ‏
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وفي قوله‏:‏
‏{أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ قولان؛ قيل‏:‏ الهرم‏.‏ وقيل‏:‏ العذاب بعد الموت، وهذا هو الذي دلت عليه الآية قطعًا‏.‏ فإنه جعله في أسفل سافلين إلا المؤمنين‏.‏ والناس نوعان‏:‏ فالكافر بعد الموت يعذب في أسفل سافلين، والمؤمن في عليين‏.‏
وأما القول الأول ففيه نظر‏.‏ فإنه ليس كل من سوى المؤمنين يهرم فيرد إلى أسفل سافلين‏.‏ بل كثير من الكفار يموت قبل الهرم، وكثير من المؤمنين يهرم، وإن كان حال المؤمن في الهرم أحسن حالا من الكافر، فكذلك في الشباب حال المؤمن أحسن من حال الكافر فجعل الرد إلى أسفل سافلين في آخر العمر وتخصيصه بالكفار ضعيف‏.‏
ولهذا قال بعضهم‏:‏ إن الاستثناء منقطع على هذا القول، وهو أيضًا

 

ص -279-

  ضعيف‏.‏ فإن المنقطع لا يكون في الموجب، ولو جاز هذا لجاز لكل أحد أن يدعى في أى استثناء شاء أنه منقطع‏.‏ وأيضًا فالمنقطع لا يكون الثاني منه بعض الأول، والمؤمنون بعض نوع الإنسان‏.‏
وقد فسر ذلك بعضهم على القول الأول بأن المؤمن يكتب له ما كان يعمله إذا عجز‏.‏ قال إبراهيم النخعى‏:‏ إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب الله له ما كان يعمل، وهو قوله‏:‏ ‏
{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏6‏]‏‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏التين‏:‏6‏]‏ في وقت القوة والقدرة فإنهم في حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات‏.‏ فإن الله يعلم لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير فهو يجرى لهم أجر ذلك‏.‏
فيقال‏:‏ وهذا أيضًا ثابت في حال الشباب إذا عجز الشاب لمرض أو سفر، كما في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏
"‏إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏"‏‏.‏
وفسره بعضهم بما روى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ من قرأ القرآن فإنه لا يرد إلى أرذل العمر‏.‏ فيقال‏:‏ هذا مخصوص بقارئ القرآن، والآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء قرؤوا القرآن أو لم

 

ص -280-

 يقرؤوه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها‏"‏‏.‏
وأيضًا، فيقال‏:‏ هرم الحيوان ليس مخصوصًا بالإنسان،بل غيره من الحيوان إذا كبر هرم‏.‏
وأيضًا، فالشيخ وإن ضعف بدنه فعقله أقوى من عقل الشاب‏.‏ ولو قدر أنه ينقص بعض قواه فليس هذا ردًا إلى أسفل سافلين‏.‏ فإنه سبحانه إنما يصف الهرم بالضعف كقوله‏:
‏ ‏{ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 68‏]‏، فهو يعيده إلى حال الضعف‏.‏ ومعلوم أن الطفل ليس هو في أسفل سافلين، فالشيخ كذلك وأولى‏.‏
وإنما في أسفل سافلين من يكون في سجين، لا في عليين،كما قال تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏‏.‏
ومما يبين ذلك قوله‏:‏
‏{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ [‏التين‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فإنه يقتضى ارتباط هذا بما قبله لذكره بحرف الفاء‏.‏ ولو كان المذكور إنما هو رده إلى الهرم دون ما بعد الموت لم يكن هناك تعرض للدين والجزاء، بخلاف

 

ص -281-

 ما إذا كان المذكور أنه بعد الموت يرد إلى أسفل سافلين غير المؤمن المصلح‏.‏ فإن هذا يتضمن الخبر بأن الله يدين العباد بعد الموت فيكرم المؤمنين ويهين الكافرين‏.‏
وأيضًا، فإنه سبحانه أقسم على ذلك بأقسام عظيمة بالتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين‏.‏ وهي المواضع التي جاء منها محمد، والمسيح، وموسى، وأرسل الله بها هؤلاء الرسل مبشرين ومنذرين‏.‏
وهذا الإقْسَام لا يكون على مجرد الهرم الذي يعرفه كل أحد، بل على الأمور الغائبة التي تؤكد بالإقسام‏.‏ فإن إقسام الله هو على أنباء الغيب‏.‏
وفي نفس المقسم به وهو إرسال هؤلاء الرسل تحقيق للمقسم عليه وهو الثواب والعقاب بعد الموت لأن الرسل أخبروا به‏.‏
وهو يتضمن أيضًا الجزاء في الدنيا، كإهلاك من أهلكهم من الكفار‏.‏ فإنه ردهم إلى أسفل سافلين بهلاكهم في الدنيا‏.‏ وهو تنبيه على زوال النعم إذا حصلت المعاصى، كمن رد في الدنيا إلى أسفل جزاء على ذنوبه‏.‏

 

ص -282-

 وقوله‏:‏ ‏{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ أى بالجزاء يتناول جزاءه على الأعمال في الدنيا، والبرزخ، والآخرة‏.‏ إذ كان قد أقسم بأماكن هؤلاء المرسلين الذين أرسلوا بالآيات البينات الدالة على أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده مبشرين لأهل الإيمان، منذرين لأهل الكفر، وقد أقسم بذلك على أن الإنسان بعد أن جعل في أحسن تقويم إن آمن وعمل صالحًا كان له أجر غير ممنون، وإلا كان في أسفل سافلين‏.‏
فتضمنت السورة بيان ما بعث به هؤلاء الرسل الذين أقسم بأماكنهم‏.‏ والإقسام بمواضع محنهم تعظيم لهم‏.‏ فإن موضع الإنسان إذا عظم لأجله كان هو أحق بالتعظيم‏.‏ ولهذا يقال في المكاتبات‏:‏ ‏[‏إلى المجلس، والمقر ونحو ذلك السامي، والعالي‏]‏، ويذكر بخضوع له وتعظيم والمراد صاحبه‏.‏
فلما قال‏:‏ ‏
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 7‏]‏، دل على أن ما تقدم قد بين فيه ما يمنع التكذيب بالدين‏.‏
وفي قوله‏:‏
‏{يُكَذِّبُكَ‏}‏ قولان‏.‏ قيل‏:‏ هو خطاب للإنسان، كما قال مجاهد وعكرمة، ومقاتل، ولم يذكر البغوى غيره‏.‏ قال عكرمة، يقول‏:‏ فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك‏.‏ وعن مقاتل‏:‏

 

ص -283-

 فما الذي يجعلك مكذبًا بالجزاء، وزعم أنها نزلت في عَيَّاش بن أبي ربيعة‏.‏
والثاني أنه خطاب للرسول وهذا أظهر فإن الإنسان إنما ذكر مخبرًا عنه لم يخاطب‏.‏ والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن، والخطاب في هذه السور له، كقوله‏:
‏ ‏{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1‏]‏‏.‏
والإنسان إذا خوطب، قيل له‏:
‏ ‏{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏، ‏{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا‏} ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وأيضًا، فبتقدير أن يكون خطابًا للإنسان يجب أن يكون خطابًا للجنس، كقوله‏:‏ ‏{
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ‏}‏‏.‏ وعلى قول هؤلاء؛إنما هو خطاب للكافر خاصة المكذب بالدين‏.‏
وأيضًا، فإن قوله‏:‏ ‏
{يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏، أى يجعلك كاذبا، هذا هو المعروف من لغة العرب‏.‏ فإن استعمال كَذَّب غيره، أى‏:‏ نسبه إلى الكذب وجعله كاذبًا مشهور، والقرآن مملوء من هذا‏.‏ وحيث ذكر الله تكذيب المكذبين للرسل، أو التكذيب بالحق ونحو ذلك، فهذا مراده‏.‏

 

ص -284-

 لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال‏:‏ ‏{يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏‏.‏ فذكر المكذب بالدين فذكر المكَذِّبَ والمكَذَّبَ به جميعًا‏.‏ وهذا قليل جاء نظيره في قوله‏:‏ ‏{فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 19‏]‏ فأما أكثر المواضع فإنما يذكر أحدهما إما المُكَذِّب، كقوله‏:‏ ‏{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏؛ وإما المُكَذَّب به، كقوله‏:‏ ‏{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل‏.‏
ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للإنسان، وفسر معنى قوله‏
:‏ ‏{فَمَا يُكَذِّبُكَ‏}‏‏:‏ فما يجعلك مكذبًا‏.‏
وعبارة آخرين‏:‏ فما يجعلك كذابًا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقال جمهور من المفسرين‏:‏ المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذابًا بالدين تجعل لله أندادًا، وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل‏؟‏
قلت‏:‏ وكلا القولين غير معروف في لغة العرب، أن يقول‏:‏ ‏[‏كذبك، أي‏:‏ جعلك مكذبًا‏]‏، بل ‏[‏كذبك‏:‏ جعلك كذابًا‏]‏‏.‏
وإذا قيل‏:‏ ‏[‏جعلك كذابًا‏]‏، أى‏:‏ كاذبًا فيما يخبر به، كما جعل الكفار الرسل كاذبين فيما أخبروا به فكذبوهم، وهذا يقول‏:‏

 

ص -285-

 جعلك كاذبًا بالدين، فجعل كذبه أنه أشرك وأنه أنكر المعاد، وهذا ضد الذي ينكر‏.‏
ذاك جعله مكذبًا بالدين، وهذا جعله كاذبًا بالدين‏.‏ والأول فاسد من جهة العربية، والثاني فاسد من جهة المعنى‏.‏ فإن الدين هو الجزاء الذي كذب به الكافر‏.‏ والكافر كذب به، لم يكذب هو به‏.‏
وأيضًا، فلا يعرف في المخبر أن يقال‏:‏ ‏[‏كذبت به‏]‏، بل يقال‏:‏ ‏[‏كذبته‏]‏‏.‏
وأيضًا، فالمعروف في ‏[‏كذبه‏]‏، أي نسبه إلى الكذب، لا أنه جعل الكذب فيه‏.‏ فهذا كله تكلف لا يعرف في اللغة، بل المعروف خلافه‏.‏ وهو لم يقل‏:‏ ‏[‏فما يكذبك‏]‏، ولا قال‏:‏ ‏[‏فما كذبك‏]‏‏.‏
ولهذا كان علماء العربية على القول الأول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ واختلف في المخاطب بقوله‏:‏ ‏{فما يكذبك‏}‏، فقال قتادة، والفراء، والأخفش‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الله له‏:‏ ‏[‏فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت‏]‏‏؟‏
قال‏:‏ ويحتمل أن يكون الدين على هذا التأويل جميع شرعه ودينه‏.‏

 

ص -286-

 قلت‏:‏ وعلى أن المخاطب محمد صلى الله عليه وسلم في المعنى قولان‏:‏ أحدهما قول قتادة، قال‏:‏ ‏{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏، أى‏:‏ استيقن، فقد جاءك البيان من الله‏.‏ وهكذا رواه عنه ابن أبي حاتم بإسناد ثابت‏.‏
وكذلك ذكره المهْدَوى‏:‏ ‏
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏، أى استيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين‏.‏ فالخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ معناه عن قتادة‏.‏ قال‏:‏ وقيل المعنى‏:‏ فما يكذبك أيها الشاك يعنى الكفار في قدرة الله‏؟‏ أى شيء يحملك على ذلك بعد ما تبين لك من قدرته‏؟‏ قال‏:‏ وقال الفراء‏:‏فمن يكذبك بالثواب والعقاب‏؟‏ وهو اختيار الطبرى‏.‏
قلت‏:‏هذا القول المنقول عن قتادة هو الذي أوجب نفور مجاهد عن أن يكون الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم،كما روى الناس ومنهم ابن أبي حاتم عن الثورى، عن منصور قال‏:‏قلت لمجاهد‏:‏‏
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ عنى به النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏معاذ الله‏!‏ عنى به الإنسان‏.‏
وقد أحسن مجاهد في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال له‏:‏ ‏
{فَمَا يُكَذِّبُكَ‏}‏، أى‏:‏ استيقن، ولا تكذب‏.‏ فإنه لو قيل له‏:‏ ‏[‏لا تكذب‏]‏

 

ص -287-

 لكان هذا من جنس أمره بالإيمان والتقوى، ونهيه عما نهي الله عنه‏.‏ وأما إذا قيل‏:‏‏{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏، فهو لم يكذب بالدين، بل هو الذي أخبر بالدين وصدق به، فهو ‏{وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏، فكيف يقال له‏:‏‏{مَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏‏؟‏ فهذا القول فاسد لفظًا ومعنى‏.‏
واللفظ الذي رأيته منقولًا بالإسناد عن قتادة ليس صريحًا فيه، بل يحتمل أن يكون أراد به خطاب الإنسان‏.‏ فإنه قال‏:‏ ‏
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏، قال‏:‏ ‏"‏استيقن، فقد جاءك البيان‏"‏‏.‏ وكل إنسان مخاطب بهذا‏.‏ فإن كان قتادة أراد هذا فالمعنى صحيح‏.‏
لكن هم حكوا عنه أن هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فهذا المعنى باطل‏.‏ فلا يقال للرسول‏:‏ ‏[‏فأى شيء يجعلك مكذبًا بالدين‏؟‏‏]‏ وإن ارتأت به النفس، لأن هذا فيه دلائل تدل على فساده‏.‏ ولهذا استعاذ منه مجاهد‏.‏
والصواب ما قاله الفَرَّاء، والأخْفَش، وغيرهما‏.‏ وهو الذي اختاره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وغيره من العلماء كما تقدم‏.‏
وكذلك ذكره أبو الفرج ابن الجوزي عن الفراء، فقال‏:‏ إنه خطاب

 

ص -288-

 للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، قاله الفراء‏.‏
قال‏:‏ وأما ‏[‏الدين‏]‏ فهو الجزاء‏.‏ قلت‏:‏ وكذلك قال غير واحد، كما روى ابن أبي حاتم عن النضر بن عربي‏:‏ ‏
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏، أي‏:‏ بالحساب‏.‏
ومن تفسير العوفي عن ابن عباس‏:‏ أي بحكم الله‏.‏ قلت‏:‏ قال‏:‏ ‏[‏بحكم الله‏]‏ لقوله‏:‏ ‏
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 8‏]‏، وهو سبحانه يحكم بين المصدق بالدين والمكذب به‏.‏
وعلى هذا، قوله‏:‏ ‏
{فَمَا‏}‏ وصف للأشخاص‏.‏ ولم يقل‏:‏ ‏[‏فمن‏]‏؛ لأن ‏[‏ما‏]‏ يراد به الصفات دون الأعيان، وهو المقصود، كقوله‏:‏ ‏{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7‏]‏‏.‏ كأنه قيل‏:‏ فما المكذب بالدين بعد هذا‏؟‏ أى‏:‏ من هذه صفته ونعته، هو جاهل ظالم لنفسه،والله يحكم بين عباده فيما يختلفون فيه من هذا النبأ العظيم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{بّعًد ‏}‏، قد قيل‏:‏ إنه ‏[‏بعد ما ذكر من دلائل الدين‏]‏‏.‏

 

ص -289-

 وقد يقال‏:‏ لم يذكر إلا الإخبار به، وأن الناس نوعان‏:‏ في أسفل سافلين، ونوع لهم أجر غير ممنون‏؟‏
فقد ذكر البشارة والنذارة، والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين‏.‏
فمن كذبك بعد هذا، فحكمه إلى الله أحكم الحاكمين وأنت قد بلغت ما وجب عليك تبليغه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{فَمَا يُكَذِّبُكَ‏}‏ ليس نفيًا للتكذيب، فقد وقع‏.‏ بل قد يقال‏:‏ إنه تعجب منه، كما قال‏:‏ ‏{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وقد يقال‏:‏ إن هذا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه، كما يقال‏:‏ ‏[‏من فلان‏؟‏‏]‏ و‏[‏من يقول هذا إلا جاهل‏؟‏‏]‏‏.‏ لكنه ذكره بصيغة ‏[‏ما‏]‏ فإنها تدل على صفته، وهي المقصودة، إذ لا غرض في عينه‏.‏ كأنه قيل‏:‏ ‏[‏فأي صنف وأي جاهل يكذبك بعد بالدين‏؟‏ فإنه من الذين يردون إلى أسفل سافلين‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 8‏]‏، يدل على أنه الحاكم بين المكذب بالدين والمؤمن به‏.‏ والأمر في ذلك له سبحانه وتعالى‏.‏

 

ص -290-

 والقرآن لا تنقضي عجائبه‏.‏ والله سبحانه بين مراده بيانًا أحكمه، لكن الاشتباه يقع على من لم يرسخ في علم الدلائل الدالة‏.‏ فإن هذه السورة وغيرها فيها عجائب لا تنقضي‏.‏
منها‏:‏ أن قوله‏:
‏ ‏{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ ‏[‏التين 7‏]‏ ذكر فيه الرسول المكَذَّبَ والدين المكَذَّب به جميعًا‏.‏ فإن السورة تضمنت الأمرين‏.‏ تضمنت الإقسام بأماكن الرسل المبينة لعظمتهم، وما أتوا به من الآيات الدالة على صدقهم الموجبة للإيمان‏.‏ وهم قد أخبروا بالمعاد المذكور في هذه السورة‏.‏
وقد أقسم الله عليه كما يقسم عليه في غير موضع، وكما أمر نبيه أن يقسم عليه في مثل قوله‏:‏
‏{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.‏
فلما تضمنت هذا وهذا ذكر نوعي التكذيب، فقال‏:‏
‏{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏، والله سبحانه أعلم‏.‏
وأيضًا، فإنه لا ذنب له في ذلك، والقرآن مراده أن يبين أن هذا الرد جزاء على ذنوبه؛ ولهذا قال‏:
‏ ‏{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏} ‏[‏التين‏:‏ 6‏]‏،

 

ص -291-

كما قال‏:‏‏{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 2،3‏]‏‏.‏
لكن هنا ذكر الخسر فقط، فوصف المستثنين بأنهم تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع الإيمان والصلاح‏.‏ وهناك ذكر أسفل سافلين، وهو العذاب، والمؤمن المصلح لا يعذب، وإن كان قد ضيع أمورًا خسرها، لو حفظها لكان رابحًا غير خاسر‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أنه سبحانه يذكر خلق الإنسان مجملًا ومفصلًا‏.‏
وتارة يذكر إحياءه، كقوله تعالى‏:‏
‏{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 82‏]‏، وهو كقول الخليل عليه السلام‏:‏ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏
فإن خلق الحياة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على القدرة، والنعمة، والحكمة‏.

 

ص -292-

فَصْل
قوله‏:‏
‏{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3 - 5‏]‏‏.‏ سمى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الأكرم، بعد إخباره أنه خلق؛ ليتبين أنه ينعم على المخلوقين ويوصلهم إلى الغايات المحمودة، كما قال في موضع آخر‏:‏ ‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏، وكما قال موسى عليه السلام ‏:‏ ‏{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏، وكما قال الخليل عليه السلام ‏:‏ ‏{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏
فالخلق يتضمن الابتداء، والكرم تضمن الانتهاء، كما قال في أم القرآن‏:‏ ‏
{رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
ولفظ الكرم لفظ جامع للمحاسن والمحامد‏.‏ لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن‏.‏ والكرم كثرة الخير ويسرته‏.‏
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏
:‏ ‏"‏لا تسموا العنب الكَرْم، فإنما الكَرْم قلب المؤمن‏"‏‏.‏

 

ص -293-

 وهم سموا العنب ‏[‏الكَرْم‏]‏ ؛ لأنه أنفع الفواكه يؤكل رطبًا، ويابسًا، ويعصر فيتخذ منه أنواع‏.‏
وهو أعم وجودًا من النخل؛ يوجد في عامة البلاد، والنخل لا يكون إلا في البلاد الحارة؛ ولهذا قال في رزق الإنسان‏:‏ ‏
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 24 32‏]‏‏.‏
فقدم العنب‏.‏ وقال في صفة الجنة‏:‏
‏{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 31، 32‏]‏‏.‏
ومع هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالكرم وقال‏:‏ ‏"‏الكَرْمُ قلب المؤمن‏"‏‏.‏ فإنه ليس في الدنيا أكثر ولا أعظم خيرًا من قلب المؤمن‏.‏
والشيء الحسن المحمود يوصف بالكرم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 7‏]‏، قال ابن قتيبة‏:‏ من كل جنس حسن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الزوج النوع، والكريم المحمود‏.‏ وقال غيرهما‏:‏ ‏{مِن كُلِّ زَوْجٍ‏}‏ صنف وضرب، ‏{كَرِيمٍ‏}‏ حسن، من النبات مما يأكل الناس والأنعام‏.‏ يقال‏:‏ ‏[‏نخلة كريمة‏]‏، إذا طاب حملها، و‏[‏ناقة كريمة‏]‏، إذا كثر لبنها‏.‏

 

ص -294-

 وعن الشَّعْبي‏:‏ الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم‏.‏
والقرآن قد دل على أن الناس فيهم كريم على الله يكرمه، وفيهم من يهينه‏.‏ قال تعالى‏:
‏{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏} ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل‏:‏ ‏
"‏وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب‏"‏‏.‏ وكرائم الأموال‏:‏ التي تكرم على أصحابها لحاجتهم إليها وانتفاعهم بها من الأنعام وغيرها‏.‏
وهو سبحانه أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها‏.‏ فدل على أنه الأكرم وحده، بخلاف ما لو قال‏:‏ ‏[‏وربك أكرم‏]‏‏.‏ فإنه لا يدل على الحصر، وقوله‏:‏ ‏
{الْأَكْرَمُ‏} يدل على الحصر‏.‏
ولم يقل‏:‏ ‏[‏الأكرم من كذا‏]‏، بل أطلق الاسم ليبين أنه الأكرم مطلقًا غير مقيد‏.‏ فدل على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه‏.‏
قال ابن عطية‏:‏ ثم قال له تعالى‏:‏
‏{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3‏]‏، على

 

ص -295-

 جهة التأنيس، كأنه يقول‏:‏ امض لما أُمِرْتَ به وربك ليس كهذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، فهو ينصرك ويظهرك‏.‏
قلت‏:‏ وقد قال بعض السلف‏:‏ ‏[‏لا يهدين أحدكم لله ما يستحي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء‏]‏‏.‏ أى‏:‏ هو أحق من كل شيء بالإكرام، إذ كان أكرم من كل شيء‏.‏
وهو سبحانه ذو الجلال والإكرام‏.‏ فهو المستحق لأن يُجل، ولأن يُكرم‏.‏ والإجلال يتضمن التعظيم، والإكرام يتضمن الحمد والمحبة‏.‏
وهذا كما قيل في صفة المؤمن‏:‏ إنه رزق حلاوة ومهابة‏.‏
وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه‏"‏‏.‏
وهذا لأنه سبحانه له الملك وله الحمد‏.‏
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبَيَّنَ أن أهل السنة يصفونه بالقدرة الإلهية، والحكمة، والرحمة‏.‏ وهم الذين يعبدونه ويحمدونه، وأنه يجب أن يكون هو المستحق لأن يعبد دون ما سواه والعبادة تتضمن غاية الذل وغاية الحب‏.‏

 

ص -296-

 وأن المنكرين لكونه يحب من الجهمية ومن وافقهم حقيقة قولهم‏:‏ أنه لا يستحق أن يعبد، كما أن قولهم‏:‏ إنه يفعل بلا حكمة ولا رحمة، يقتضي أنه لا ىحمد‏.‏
فهم إنما يصفونه بالقدرة والقهر‏.‏ وهذا إنما يقتضي الإجلال فقط لا يقتضي الإكرام، والمحبة، والحمد‏.‏ وهو سبحانه الأكرم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12، 13‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 14 - 16‏]‏، وقال شعيب‏:‏ ‏{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 90‏]‏‏.‏  وفي أول ما نزل‏:‏ وَصَفَ نفسه بأنه الذي خلق، وبأنه الأكرم‏.‏ والجهمية ليس عندهم إلا كونه خالقًا مع تقصيرهم في إثبات كونه خالقًا لا يصفونه بالكرم،ولا الرحمة، ولا الحكمة‏.‏
وإن أطلقوا ألفاظها فلا يعنون بها معناها، بل يطلقونها لأجل مجيئها في القرآن، ثم يلحدون في أسمائه ويحرفون الكلم عن مواضعه‏.‏ فتارة يقولون‏:‏ الحكمة هي القدرة، وتارة يقولون‏:‏ هي المشيئة، وتارة يقولون‏:‏ هي العلم‏.‏
وأن الحكمة وإن تضمنت ذلك واستلزمته فهي أمر زائد

 

ص -297-

 على ذلك‏.‏ فليس كل من كان قادرًا أو مريدًا كان حكيمًا، ولا كل من كان له علم يكون حكيمًا، حتى يكون عاملا بعلمه‏.‏ قال ابن قُتَيبَة وغيره‏:‏ الحكمة هي العلم والعمل به، وهي أيضًا ‏:‏ القول الصواب‏.‏ فتتناول القول السديد، والعمل المستقيم الصالح‏.‏
والرب تعالى أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء‏.‏
والإحكام الذي في مخلوقاته دليل على علمه‏.‏ وهم مع سائر الطوائف يستدلون بالإحكام على العلم، وإنما يدل إذا كان الفاعل حكيمًا يفعل لحكمة‏.‏
وهم يقولون‏:‏ إنه لا يفعل لحكمة، وإنما يفعل بمشيئة تخص أحد المتماثلين بلا سبب يوجب التخصيص‏.‏ وهذا مناقض للحكمة، بل هذا سفه‏.‏
وهو قد نزه نفسه عنه في قوله‏:‏‏
{لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
وقد أخبر أنه إنما خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأنه

 

ص -298-

 لم يخلقهما باطلًا، وأن ذلك ظن الذين كفروا‏.‏ وقال‏:‏ ‏{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏، أي‏:‏ مهملًا، لا يُؤْمَر ولا يُنْهي‏.‏ وهذا استفهام إنكار على من جوز ذلك على الرب‏.‏
والجهمية المجْبِرة تُجَوِّزُ ذلك عليه، ولا تنزهه عن فعل، وإن كان من منكرات الأفعال‏.‏ ولا تنعته بلوازم كرمه، ورحمته، وحكمته، وعدله؛ فيعلم أنه يفعل ما هو اللائق بذلك، ولا يفعل ما يضاد ذلك‏.‏
بل تجوز كل مقدور أن يكون، وألا يكون، وإنما يجزم بأحدهما لأجل خبر سمعي، أو عادة مطردة، مع تناقضهم في الاستدلال بالخبر أخبار الرسل وعادات الرب كما بسط هذا في مواضع، مثل الكلام على معجزات الأنبياء، وعلى إرسال الرسل، والأمر والنهي، وعلى المعاد، ونحو ذلك، مما يتعلق بأفعاله وأحكامه الصادرة عن مشيئته‏.‏ فإنها صادرة عن حكمته وعن رحمته، ومشيئته مستلزمة لهذا وهذا، لا يشاء إلا مشيئة متضمنة للحكمة، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها‏"‏‏.‏

 

ص -299-

 فهم في الحقيقة لا يقرون بأنه الأكرم‏.‏
والإرادة التي يثبتونها لم يدل عليها سمع ولا عقل، فإنه لا تعرف إرادة ترجح مرادًا على مراد بلا سبب يقتضي الترجيح‏.‏ ومن قال من الجهمية والمعتزلة‏:‏ إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، فهو مكابر‏.‏
وتمثيلهم ذلك بالجائع إذا أخذ أحد الرغيفين، والهارب إذا سلك أحد الطريقين، حجة عليهم، فإن ذلك لا يقع إلا مع رجحان أحدهما، إما لكونه أيسر في القدرة، وإما لأنه الذي خطر بباله وتصوره، أو ظن أنه أنفع، فلابد من رجحان أحدهما بنوع ما؛ إما من جهة القدرة، وإما من جهة التصور والشعور‏.‏ وحينئذ، يرجح إرادته، والآخر لم يرده‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إن إرادته رَجَّحَت أحدهما بلا مُرَجِّح‏؟‏ أو أنه رَجَّحَ إرادة هذا على إرادة ذاك بلا مرجح‏؟‏ وهذا ممتنع يعرف امتناعه من تصوره حق التصور‏.‏
ولكن لما تكلموا في مبدأ الخلق بكلام ابتدعوه خالفوا به الشرع والعقل احتاجوا إلى هذه المكابرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبذلك تسلط عليهم الفلاسفة من جهة أخرى‏.‏ فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا‏.‏

 

ص -300-

 

 ومعلوم بصريح العقل أن القادر إذا لم يكن مريدًا للفعل ولا فاعلا، ثم صار مريدًا فاعلاً، فلابد من حدوث أمر اقتضى ذلك‏.‏ والكلام هنا في مقامين‏:‏ أحدهما‏:‏ في جنس الفعل والقول‏.‏ هل صار فاعلا متكلمًا بمشيئته بعد أن لم يكن، أو ما زال فاعلا متكلمًا بمشيئته‏.‏ وهذا مبسوط في مسائل الكلام والأفعال في مسألة القرآن وحدوث العالم‏.‏
والثانى‏:‏ إرادة الشيء المعين وفعله، كقوله تعالى‏:‏
‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونٍُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏82‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏107‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏
وهو سبحانه إذا أراد شيئًا من ذلك فللناس فيها أقوال‏:‏
قيل‏:‏ الإرادة قديمة أزلية واحدة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد،

 

ص -301-

 ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص‏.‏ فهذا قول ابن كلاب، والأشعرى‏.‏ ومن تابعهما‏.‏
وكثير من العقلاء يقول‏:‏ إن هذا فساده معلوم بالاضطرار، حتى قال أبو البركات‏:‏ ليس في العقلاء من قال بهذا‏.‏
وما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر والكلام، وبطلانه من جهات‏:‏ من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك، ومن جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها، ومن جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئًا حدث حتى تخصص أو لا تخصص‏.‏ بل تجددت نسبة عدمية ليست وجودًا،وهذا ليس بشيء، فلم يتجدد شيء‏.‏ فصارت الحوادث تحدث وتتخصص بلا سبب حادث، ولا مخصص‏.‏
والقول الثانى‏:‏ قول من يقول بإرادة واحدة قديمة مثل هؤلاء، لكن يقول‏:‏ تحدث عند تجدد الأفعال إرادات في ذاته بتلك المشيئة القديمة، كما تقوله الكرَّامية وغيرهم‏.‏
وهؤلاء أقرب من حيث أثبتوا إرادات الأفعال‏.‏ ولكن يلزمهم ما لزم أولئك من حيث أثبتوا حوادث بلا سبب حادث، وتخصيصات بلا مُخَصِّص، وجعلوا تلك الإرادة واحدة تتعلق بجميع الإرادات الحادثة،

 

ص -302-

 وجعلوها أيضًا تخصص لذاتها،ولم يجعلوا عند وجود الإرادات الحادثة شيئًا حدث حتى تخصص تلك الإرادات الحدوث‏.‏
والقول الثالث‏:‏ قول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون قيام الإرادة به‏.‏ ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة، أو يفسرونها بنفس الأمر والفعل، أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين‏.‏
وكل هذه الأقوال قد علم أيضًا فسادها‏.‏
والقول الرابع‏:‏ أنه لم يزل مريدًا بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته‏.‏
وهو سبحانه يقدر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها‏.‏ فهو إذا قدرها علم ما سيفعله، وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله فالأول عزم، والثاني قصد‏.‏
وهل يجوز وصفه بالعزم‏؟‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما المنع، كقول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى‏.‏ والثاني الجواز، وهو أصح‏.‏ فقد قرأ جماعة من السلف‏:‏ ‏"‏فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏"‏، بالضم‏.‏ وفي الحديث

 

ص -303-

 الصحيح من حديث أم سلمة‏:‏ ‏"‏ثم عزم الله لي‏"‏‏.‏ وكذلك في خطبة مسلم‏:‏ ‏"‏فعزم لي‏"‏‏.‏
وسواء سمى ‏[‏عزمًا‏]‏ أو لم يسم، فهو سبحانه إذا قدرها، علم أنه سيفعلها في وقتها، وأراد أن يفعلها في وقتها‏.‏ فإذا جاء الوقت فلابد من إرادة الفعل المعين، ونفس الفعل، ولابد من علمه بما يفعله‏.‏
ثم الكلام في علمه بما يفعله هل هو العلم المتقدم بما سيفعله‏؟‏ وعلمه بأن قد فعله هل هو الأول‏؟‏ فيه قولان معروفان‏.‏ والعقل والقرآن يدل على أنه قدر زائد، كما قال‏:‏ ‏{لنعلم‏}‏ في بضعة عشر موضعًا، وقال ابن عباس‏:‏ إلا لنرى‏.‏
وحينئذ، فإرادة المعين تترجح لعلمه بما في المعين من المعنى المرجح لإرادته‏.‏ فالإرادة تتبع العلم‏.‏
وكون ذلك المعين متصفًا بتلك الصفات المرجحة، إنما هو في العلم والتصور، ليس في الخارج شيء‏.‏
ومن هنا غلط من قال‏:‏ ‏[‏المعدوم شيء‏]‏، حيث أثبتوا ذلك المراد في الخارج‏.‏ ومن لم يثبته شيئًا في العلم، أو كان ليس عنده إلا إرادة

 

ص -304-

 واحدة وعلم واحد، ليس للمعلومات والمرادات صورة علمية عند هؤلاء‏.‏ فهؤلاء نفوا كونه شيئًا في العلم والإرادة، وأولئك أثبتوا كونه شيئًا في الخارج‏.‏
وتلك الصورة العلمية الإرادية حدثت بعد أن لم تكن‏.‏ وهي حادثة بمشيئته وقدرته، كما يُحدث الحوادث المنفصلة بمشيئته وقدرته‏.‏ فيقدر ما يفعله، ثم يفعله‏.‏
فتخصيصها بصفة دون صفة، وقدر دون قدر هو للأمور المقتضية لذلك في نفسه‏.‏ فلا يريد إلا ما تقتضى نفسه إرادته بمعنى يقتضي ذلك، ولا يرجح مرادًا على مراد إلا لذلك‏.‏
ولا يجوز أن يرجح شيئًا لمجرد كونه قادرًا‏.‏ فإنه كان قادرًا قبل إرادته، وهو قادر على غيره‏.‏ فتخصيص هذا بالإرادة لا يكون بالقدرة المشتركة بينه وبين غيره‏.‏
ولا يجوز أيضًا أن تكون الإرادة تُخَصَّص مثلًا على مثل بلا مُخَصِّص، بل إنما يريد المريد أحد الشيئين دون الآخر لمعنى في المريد والمراد، لابد أن يكون المريد إلى ذلك أميل، وأن يكون في المراد ما أوجب رجحان ذلك الميل‏.‏

 

ص -305-

 والقرآن والسنة تثبت القدر، وتقدير الأمور قبل أن يخلقها، وأن ذلك في كتاب، وهذا أصل عظيم يثبت العلم والإرادة لكل ما سيكون ويزيل إشكالات كثيرة ضل بسببها طوائف في هذا المكان في مسائل العلم والإرادة‏.‏
فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، قال‏:‏
‏"‏الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏"‏‏.‏ وقد تبرأ ابن عمر وغيره من الصحابة من المكذبين بالقدر‏.‏
ومع هذا، فطائفة من أهل الكلام وغيرهم لا تثبت القدر إلا علمًا أزليًا وإرادة أزلية فقط‏.‏ وإذا أثبتوا الكتابة قالوا‏:‏ إنها كتابة لبعض ذاك‏.‏
وأما من يقول‏:‏ إنه قدرها حينئذ، كما في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏
"‏قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏"‏، فقد بُسِطَ الكلام على ذلك في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -306-

 وهو كقوله‏:‏ ‏{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 129‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏171 173‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 68‏]‏‏.‏
والكتاب في نفسه لا يكون أزليًا‏.‏ وفي حديث رواه حماد بن سلمة، عن الأشعث ابن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قِلابة، عن أبي الأشعث الصنعانى، عن شداد بن أوس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏
:‏ ‏"‏إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي سنة أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة‏"‏، رواه الترمذي، وقال‏:‏ غريب‏.‏
وهو سبحانه أنزل القرآن ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا‏.‏
وكثير من الكتب المصنفة في أصول الدين والكلام، يوجد فيها الأقوال المبتدعة دون القول الذي جاء به الكتاب والسنة‏.‏
فالشهرستاني ‏[‏هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد، الشهرستاني من فلاسفة الإسلام كان إمامًا في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، يلقب بالأفضل، ولد في شهرستان عام 479، وانتقل إلى بغداد عام 510ه، فأقام ثلاث سنين وعاد إلى بلده فتوفي بها عام 548ه، من كتبه ‏[‏الملل والنحل‏]‏، و‏[‏نهاية الإقدام في علم الكلام‏]‏ وغيرهما‏]‏ مع تصنيفه في الملل والنحل يذكر في مسألة الكلام

 

ص -307-

 والإرادة وغيرهما أقوالًا ليس فيها القول الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان بعضها أقرب‏.‏
وقَبْله أبو الحسن كتابه في اختلاف المصلين من أجمع الكتب، وقد استقصي فيه أقاويل أهل البدع‏.‏ ولما ذكر قول أهل السنة والحديث ذكره مجملًا، غير مفصل‏.‏ وتصرف في بعضه، فذكره بما اعتقده هو أنه قولهم من غير أن يكون ذلك منقولًا عن أحد منهم‏.‏
وأقرب الأقوال إليه قول ابن كُلاَّب‏.‏
فأما ابن كلاب، فقوله مشوب بقول الجهمية، وهو مركب من قول أهل السنة وقول الجهمية،وكذلك مذهب الأشعرى في الصفات وأما في القدر والإيمان فقوله قول جهم‏.‏
وأما ما حكاه عن أهل السنة والحديث وقال‏:‏ وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، فهو أقرب ما ذكره‏.‏
وبعضه ذكره عنهم على وجهه، وبعضه تصرف فيه وخلطه بما هو من أقوال جهم في الصفات والقدر، إذ كان هو نفسه يعتقد صحة تلك الأصول‏.‏
وهو يحب الانتصار لأهل السنة والحديث وموافقتهم فأراد أن

 

ص -308-

 يجمع بين ما رآه من رأى أولئك، وبين ما نقله عن هؤلاء؛ ولهذا يقول فيه طائفة‏:‏ إنه خرج من التصريح إلى التمويه‏.‏ كما يقوله طائفة‏:‏ إنهم الجهمية الإناث، وأولئك الجهمية الذكور‏.‏
وأتباعه الذين عرفوا رأيه في تلك الأصول، ووافقوه أظهروا من مخالفة أهل السنة والحديث ما هو لازم لقولهم، ولم يهابوا أهل السنة والحديث ويعظموا ويعتقدوا صحة مذاهبهم كما كان هو يرى ذلك‏.‏
والطائفتان أهل السنة والجهمية يقولون‏:‏ إنه تناقض، لكن السنى يحمد موافقته لأهل الحديث ويذم موافقته للجهمية، والجهمى يذم موافقته لأهل الحديث ويحمد موافقته للجهمية‏.‏
ولهذا كان متأخرو أصحابه كأبي المعالى ونحوه أظهر تجهمًا وتعطيلًا من متقدميهم‏.‏ وهي مواضع دقيقة، يغفر الله لمن أخطأ فيها بعد اجتهاده‏.‏
لكن الصواب ما أخبر به الرسول، فلا يكون الحق في خلاف ذلك قط والله أعلم‏.‏
ومن أعظم الأصول التي دل عليها القرآن في مواضع كثيرة جدًا، وكذلك الأحاديث، وسائر كتب الله، وكلام السلف، وعليها تدل

 

ص -309-

 المعقولات الصريحة، هو إثبات الصفات الاختيارية، مثل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته، وكذلك يقوم بذاته فِعْلُه الذي يفعله بمشيئته‏.‏
فإثبات هذا الأصل يمنع ضلال الطوائف الذين كذبوا به، والقرآن والحديث مملوء، وكلام السلف والأئمة مملوء من إثباته‏.‏
فالحق المحض؛ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يكون الحق في خلاف ذلك‏.‏ لكن الهدى التام يحصل بمعرفة ذلك وتصوره‏.‏ فإن الاختلاف تارة ينشأ من سوء الفهم ونقص العلم، وتارة من سوء القصد‏.‏
والناس يختلفون في العلم والإرادة في تعدد ذلك وإيجاده‏.‏
ومعلوم أن ما يقوم بالنفس من إرادة الأمور، لا يمكن أن يقال فيه‏.‏ العلم بهذا هو العلم بهذا، ولا إرادة هذا هو إرادة هذا‏.‏ فإن هذا مكابرة وعناد‏.‏
وليس تمييز العلم عن العلم، والإرادة عن الإرادة، تمييزًا مع انفصال أحدهما عن الآخر‏.‏ بل نفس الصفات المتنوعة كالعلم

 

ص -310-

 والقدرة، والإرادة إذا قامت بمحل واحد لم ينفصل بعضها عن بعض، بل محل هذا هو محل هذا، كالطعم واللون والرائحة القائمة بالأَتْرُجَّة الواحدة وأمثالها من الفاكهة وغيرها‏.‏
فإذا قيل‏:‏‏[‏هي علوم وإرادات‏]‏، لم ينفصل هذا عن هذا بفصل حسي، بل هو نوع واحد قائم بالنفس‏.‏ وإذا علم هذا بعد علمه بذلك فقد زاد هذا النوع وكثر وإن شئت قلت‏:‏ عظم‏.‏ فلا يزيد فيه زيادة الكمية عن زيادة الكيفية‏.‏
بل يقال‏:‏ ‏[‏علم كثير، وعلم عظيم‏]‏ بأن تكون العظمة ترجع إلى قوته وشرف معلومه، ونحو ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب‏:‏ ‏[‏أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم‏؟‏‏]‏ قال‏:‏
‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏[‏لِيَهْنِكَ العلم، أبا المنذر‏!‏‏]‏‏.‏
وكتب سلمان إلى أبي الدرداء‏:‏ ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك وَيْعْظُم حلمك‏.‏
وانضمام العلم إلى العلم، والإرادة إلى الإرادة، والقدرة إلى القدرة، هو شبيه بانضمام الأجسام المتصلة، كالماء إذا زيد فيه ماء، فإنه يكثر قدره‏.‏ لكن هو كم متصل لا منفصل، بخلاف الدراهم‏.‏

 

ص -311-

 فإذا قيل‏:‏ ‏[‏تعددت العلوم والإرادات‏]‏ فهو إخبار عن كثرة قدرها وأنها أكثر وأعظم مما كانت، لا أن هناك معدودات منفصلة كما قد يفهم بعض الناس‏.‏
ولهذا كان العلم اسم جنس‏.‏ فلا يكاد يجمع في القرآن، بل يقال‏:‏
‏{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏، فيذكر الجنس، كذلك الماء، ليس في القرآن ذكر مياه، بل إنما يذكر جنس الماء‏:‏ ‏{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
والعلم يشبه بالماء، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏"‏‏.‏ وقد قال‏:‏ ‏{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وماخلقه الرب تعالى فإنه يراه، ويسمع أصوات عباده‏.‏ والمعدوم لا يرى باتفاق العقلاء‏.‏
والسالمية كأبي طالب المكي وغيره لم يقولوا‏:‏ إنه يرى قائمًا بنفسه، وإنما قالوا‏:‏ يراه الرب في نفسه وإن كان هو معدومًا في ذات الشيء المعدوم‏.‏ فهم يجعلون الرؤية لما يقوم بنفس العالم من صورته العلمية

 

ص -312-

 ما هو عدم محض‏.‏ وهم وإن كانوا غلطوا في بعض ما قالوه فلم يقولوا‏:‏ إن العدم المحض الذي ليس بشيء يرى فإن هذا لا يقوله عاقل‏.‏ وفي الحقيقة إذا رؤى شيء فإنما رؤى مثاله العلمى، لا عينه‏.‏
وأبو الشيخ الأصبهانى لما ذكرت هذا المسألة أَمَرَ بالإمساك عنها‏.‏
فقبل أن يوجد لم يكن يرى، وبعد أن يعدم لا يرى، وإنما يرى حال وجوده‏.‏ وهذا هو الكمال في الرؤية‏.‏
وكذلك سمع أصوات العباد هو عند وجودها، لا بعد فنائها، ولا قبل حدوثها‏.‏ قال تعالى‏:‏
‏{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 105‏]‏ وقال‏:‏ ‏{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 14‏]‏‏.‏
فَصْل
الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى هدى ورحمة للعالمين‏.‏ فإنه كما أرسله بالعلم والهدى، والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم

 

ص -313-

 واحتماله‏.‏ فبعثه بالعلم، والكرم، والحلم، عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح‏.‏
قال تعالى‏:‏
‏{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ونظائره كثيرة‏.‏
وقال‏:‏ ‏
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 57‏]‏‏.‏وقال‏:‏‏{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏47‏]‏‏.‏ وقال‏:‏‏{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏ فهو يعلم ويهدى ويصلح القلوب ويدلها على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا عوض‏.‏
وهذا نعت الرسل كلهم، كل يقول‏:‏
‏{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 109‏]‏‏.‏ ولهذا قال أصحاب يس‏:‏ ‏{يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏
وهذه سبيل من اتبعه، كما قال‏:‏ ‏
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏

 

ص -314-

 وأما المخالفون لهم، فقد قال عن المنتسبين إليهم مع بدعة‏:‏ ‏{إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏‏.‏ فهؤلاء أخذوا أموالهم ومنعوهم سبيل الله، ضد الرسل فكيف بمن هو شر من هؤلاء من علماء المشركين، والسحرة، والكهان‏؟‏ فهم أوكل لأموالهم بالباطل، وأصد عن سبيل الله من الأحبار والرهبان‏.‏
وهو سبحانه قال‏:‏ ‏{إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ‏}‏، فليس كلهم كذلك، بل قال في موضع آخر‏:‏
‏{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقد قال في وصف الرسول‏
:‏ ‏{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وفيها قراءتان‏.‏ فمن قرأ‏:‏ ‏[‏بظنين‏]‏، أي‏:‏ ما هو بمتهم على الغيب، بل هو صادق أمين فيما يخبر به‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{بِضَنِينٍ‏}‏، أى‏:‏ ما هو ببخيل، لا يبذله إلا بعوض، كالذين يطلبون العوض على ما ىعلمونه‏.‏
فوصفه بأنه يقول الحق فلا يكذب، ولا يكتم‏.‏ وقد وصف أهل الكتاب بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، وأنهم يشترون به ثمنًا قليلًا‏.‏

 

ص -315-

 ومع هذا وهذا قد أمده بالصبر على أذاهم، وجعله كذلك يعطيهم ما هم محتاجون إليه غاية الحاجة بلا عوض، وهم يكرهونه ويؤذونه عليه‏.‏
وهذا أعظم من الذي يبذل الدواء النافع للمرضي، ويسقيهم إياه بلا عوض وهم يؤذونه كما يصنع الأب الشفيق‏.‏ وهو أب المؤمنين‏.‏
وكذلك نعت أمته بقوله‏:‏
‏{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏، قال أبو هريرة‏:‏ كنتم خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة فيجاهدون، يبذلون أنفسهم وأموالهم لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك لجهلهم، كما قال أحمد في خطبته‏:‏
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى‏.‏ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه‏!‏ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم‏!‏‏.‏ إلى آخر كلامه‏.‏
فهذا هذا، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه‏.‏ وهو سبحانه يجزي الناس بأعمالهم، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه

 

ص -316-

 فهو ينعم على الرسول بإنعامه جزاء على إحسانهم، والجميع منه‏.‏ فهو الرحمن الرحيم، الجواد الكريم، الحنان المنان، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه‏.‏
وهو سبحانه يحب معالى الأخلاق، ويكره سفسافها‏.‏ وهو يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات‏.‏ وقد قيل أيضًا ‏:‏ وقد يحب الشجاعة ولو على قتل الحيات، ويحب السماحة ولو بكف من تمرات‏.‏
والقرآن أخبر أنه يحب المحسنين، ويحب الصابرين‏.‏ وهذا هو الكرم والشجاعة‏.‏ فَصْل
وقوله‏:‏
‏{الْأَكْرَمُ‏}‏، يقتضي اتصافه بالكرم في نفسه، وأنه الأكرم وأنه محسن إلى عباده‏.‏ فهو مستحق للحمد لمحاسنه وإحسانه‏.‏
وقوله‏:
‏ ‏{ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏ فيه ثلاثة أقوال؛ قيل‏:‏ أهْلٌ أن يُجَلَ وأَن يُكْرَم، كما يقال‏:‏ إنه ‏{أَهْلُ التَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 56‏]‏، أي‏:‏ المستحق لأن

 

ص -317-

 يُتَّقَى‏.‏ وقيل‏:‏ أَهْلٌ أن يُجَلَّ في نفسه، وأن يكرم أهل ولايته وطاعته‏.‏ وقيل‏:‏ أهل أن يُجَلَّ في نفسه وأهل أن يكرم‏.‏
ذكر الخَطَّأبي الاحتمالات الثلاثة، ونقل ابن الجوزي كلامه فقال‏:‏ قال أبو سليمان الخطابي‏:‏ الجلال مصدر الجليل، يقال‏:‏ جليل بين الجلالة والجلال‏.‏ والإكرام مصدر أكرم، يكرم، إكرامًا‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يكرم أهل ولايته وطاعته، وأن الله يستحق أن يُجَلَّ ويكرم، ولا يجحد ولا يكفر به، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ يَكْرِم أهل ولايته ويرفع درجاتهم‏.‏
قلت‏:‏ وهذا الذي ذكره البغوى فقال‏:‏‏
{ذُو الْجَلَالِ‏}‏‏:‏ العظمة والكبرياء ‏{وَالْإِكْرَامِ‏}‏‏:‏ يكرم أنبياءه وأولياءه بلطفه مع جلاله وعظمته‏.‏
قال الخطَّابي‏:‏ وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين وهو الجلال مضافًا إلى الله بمعنى الصفة له، والآخر مضافًا إلى العبد بمعنى الفعل، كقوله تعالى‏:‏
‏{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 56‏]‏، فانصرف أحد الأمرين إلى الله وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهي التقوى‏.‏
قلت‏:‏ القول الأول هو أقربها إلى المراد، مع أن الجلال هنا

 

ص -318-

 ليس مصدر جل جلالا، بل هو اسم مصدر أجل إجلالًا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالى فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذى السلطان المقسط‏"‏‏.‏ فجعل إكرام هؤلاء من جلال الله، أى‏:‏ من إجلال الله، كما قال‏:‏ ‏{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وكما يقال‏:‏ كلَّمه كلامًا، وأعطاه عطاء، والكلام والعطاء اسم مصدر التكليم والإعطاء‏.‏
والجلال قُرِن بالإكرام، وهو مصدر المتعدى، فكذلك الإكرام‏.‏
ومن كلام السلف‏:‏ أَجِلُّوا الله أن تقولوا كذا‏.‏ وفي حديث موسى‏:‏ يا رب، إني أكون على الحال التي أجلك أن أذكرك عليها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اذكرني على كل حال‏"‏‏.‏
وإذا كان مستحقًا للإجلال والإكرام لزم أن يكون متصفًا في نفسه بما يوجب ذلك،كما إذا قال‏:‏ الإله هو المستحق لأن يُؤْلَه،أى‏:‏ يعبد، كان هو في نفسه مستحقًا لما يوجب ذلك‏.‏ وإذا قيل‏:
‏ ‏{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى‏}‏، كان هو في نفسه متصفًا بما يوجب أن يكون هو المتقى‏.‏
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع بعد

 

ص -319-

  ما يقول‏:‏ ‏"‏ربنا ولك الحمد‏"‏‏:‏ ‏"‏ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجِد منك الجِد‏"‏‏.‏ أي‏:‏ هو مستحق لأن يثنى عليه وتمجد نفسه‏.‏
والعباد لا يحصون ثناء عليه، وهو كما أثنى على نفسه، كذلك هو أهل أن يجل وأن يكرم‏.‏ وهو سبحانه يجل نفسه ويكرم نفسه، والعباد لا يحصون إجلاله وإكرامه‏.‏
والإجلال من جنس التعظيم، والإكرام من جنس الحب والحمد وهذا كقوله‏:‏
‏{لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فله الإجلال والملك، وله الإكرام والحمد‏.‏
والصلاة مبناها على التسبيح في الركوع والسجود، والتحميد والتوحيد في القيام والقعود، والتكبير في الانتقالات، كما قال جابر‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سَبَّحنَا، فوضعت الصلاة على ذلك‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
وفي الركوع يقول‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏‏.‏ وقال النبي صلى الله

 

ص -320-

عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنى نُهِيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا‏.‏ أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم‏"‏‏.‏
وإذا رفع رأسه حمد فقال‏:‏ ‏"‏سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد‏"‏‏.‏ فيحمده في هذا القيام، كما يحمده في القيام الأول إذا قرأ أم القرآن‏.‏
فالتحميد والتوحيد مقدم على مجرد التعظيم؛ ولهذا اشتملت الفاتحة على هذا؛ أولها تحميد،وأوسطها تمجيد،ثم في الركوع تعظيم الرب،وفي القيام يحمده،ويثنى عليه، ويمجده‏.‏
فدل على أن التعظيم المجرد، تابع لكونه محمودًا وكونه معبودًا‏.‏ فإنه يحب أن يُحْمَد ويُعْبَد، ولابد مع ذلك من التعظيم، فإن التعظيم لازم لذلك‏.‏
وأما التعظيم، فقد يتجرد عن الحمد والعبادة على أصل الجهمية‏.‏ فليس ذلك بمأمور به، ولا يصير العبد به لا مؤمنًا، ولا عابدًا، ولا مطيعًا‏.‏
وأبو عبد الله بن الخطيب الرازى يجعل الجلال للصفات السلبية، والإكرام للصفات الثبوتية، فيسمى هذه ‏[‏صفات الجلال‏]‏، وهذه ‏[‏صفات الإكرام‏]‏‏.‏ وهذا اصطلاح له، وليس المراد هذا في قوله‏:‏

 

ص -321-

 ‏{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 78‏]‏‏.‏
وهو في مصحف أهل الشام‏:‏ ‏[‏تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام‏]‏‏.‏ وهي قراءة ابن عامر، فالاسم نفسه يذوى بالجلال والإكرام‏.‏ وفي سائر المصاحف وفي قراءة الجمهور‏:‏ ‏{ذي الجلال‏}‏، فيكون المسمى نفسه‏.‏
وفي الأولى‏:‏
‏{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏‏.‏ فالمذوى وجهه سبحانه وذلك يستلزم أنه هو ذو الجلال والإكرام‏.‏ فإنه إذا كان وجهه ذا الجلال والإكرام، كان هذا تنبيهًا، كما أن اسمه إذا كان ذا الجلال والإكرام كان تنبيهًا على المسمى‏.‏
وهذا يبين أن المراد‏:‏ أنه يستحق أن يُجل ويُكرم‏.‏
فإن الاسم نفسه يسبح ويذكر ويراد بذلك المسمى‏.‏والاسم نفسه لا يفعل شيئًا، لا إكراما ولا غيره؛ ولهذا ليس في القرآن إضافة شيء من الأفعال والنعم إلى الاسم‏.‏
ولكن يقال‏:‏ ‏
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏، ‏{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ‏}‏، ونحو ذلك‏.‏ فإن اسم الله مبارك تنال معه البركة‏.‏ والعبد يسبح اسم ربه الأعلى فيقول‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏‏.‏ ولما نزل قوله‏:‏

 

ص -322-

‏{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏، قال‏:‏ ‏"‏اجعلوها في سجودكم‏"‏، فقالوا‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏‏.‏
فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول‏:‏ ‏"‏سبحان اسم ربي الأعلى‏"‏‏.‏ لكن قوله‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏، هو تسبيح لاسمه يراد به تسبيح المسمى، لا يراد به تسبيح مجرد الاسم، كقوله‏:‏
‏{قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏110‏]‏‏.‏ فالداعى يقول‏:‏ ‏[‏يا الله‏]‏، ‏[‏يا رحمن‏]‏، ومراده المسمى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{أَيًّا مَّا‏}‏، أى الاسمين تدعوا، ودعاء الاسم هو دعاء مسماه‏.‏
وهذا هو الذي أراده من قال من أهل السنة‏:‏إن الاسم هو المسمى‏.‏ أرادوا به أن الاسم إذا دعي وذكر يراد به المسمى‏.‏فإذا قال المصلى‏:‏‏[‏الله أكبر‏]‏، فقد ذكر اسم ربه،ومراده المسمى‏.‏
لم يريدوا به أن نفس اللفظ هو الذات الموجودة في الخارج‏.‏فإن فساد هذا لا يخفي على من تصوره،ولو كان كذلك كان من قال‏:‏ ‏[‏نارًا‏]‏، احترق لسانه‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود أن الجلال والإكرام مثل الملك والحمد، كالمحبة والتعظيم، وهذا يكون في الصفات الثبوتية والسلبية‏.‏ فإن كل سلب فهو متضمن

 

ص -323-

 للثبوت‏.‏ وأما السلب المحض فلا مدح فيه‏.‏
وهذا مما يظهر به فساد قول من جعل أحدهما للسلب والآخر للإثبات، لا سيما إذا كان من الجهمية الذين ينكرون محبته، ولا يثبتون له صفات توجب المحبة والحمد، بل إنما يثبتون ما يوجب القهر، كالقدرة‏.‏ فهؤلاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وألحدوا في أسمائه وآياته بقدر ما كذبوا به من الحق، كما بسط هذا في غير هذا الموضع‏.
فَصْل
قوله تعالى في أول ما أنزل‏:‏ ‏
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3‏]‏‏.‏
ذكر في الموضعين بالإضافة التي توجب التعريف، وأنه معروف عند المخاطبين، إذ الرب تعالى معروف عند العبد بدون الاستدلال بكونه خلق‏.‏ وأن المخلوق مع أنه دليل وأنه يدل على الخالق، لكن هو معروف في الفطرة قبل هذا الاستدلال؛ ومعرفته فطرية، مغروزة في الفطرة، ضرورية، بديهية، أولية‏.‏
وقوله‏:‏
‏{اقْرَأْ‏}‏ وإن كان خطابًا للنبى صلى الله عليه وسلم أولا، فهو

 

ص -324-

 خطاب لكل أحد، سواء كان قوله‏:‏ ‏{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏}‏ هو خطاب للإنسان مطلقًا، والنبى صلى الله عليه وسلم أول من سمع هذا الخطاب، أو من النوع، أو هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم خصوصًا، كما قد قيل في نظائر ذلك‏.‏
مثل قوله‏:‏ ‏
{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، قيل‏:‏ خطاب له، وقيل‏:‏ خطاب للجنس، وأمثال ذلك‏.‏ فإنه وإن قيل‏:‏ إنه خطاب له، فقد تقرر أن ما خوطب به من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به ما لم يقم دليل التخصيص‏.‏
وبهذا يبين أن قوله تعالى‏:‏
‏{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏، يتناول غيره، حتى قال كثير من المفسرين‏:‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره‏.‏ أي‏:‏ هم الذين أريد منهم أن يسألوا لِمَا عندهم من الشك، وهو لم يرد منه السؤال إذ لم يكن عنده شك‏.‏
ولا شك أن هذا لا يمنع أن يكون هو مخاطبًا ومرادًا بالخطاب، بل هذا صريح اللفظ، فلا يجوز أن يقال‏:‏ إن الخطاب لم يتناوله‏.‏ ولأن ليس في الخطاب أنه أمر بالسؤال مطلقًا، بل أمر به إن كان عنده شك، وهذا لا يوجب أن يكون عنده شك‏.‏ ولا أنه أمر به

 

ص -325-

 مطلقًا، بل أمر به إن كان هذا موجودًا، والحكم المعلق بشرط عدم عند عدمه‏.‏
وكذلك كثير من المفسيرين يقول في قوله‏:‏ ‏
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 147‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏، ونحو ذلك‏:‏ إن الخطاب لرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره‏.‏ أي‏:‏ غيره قد يكون ممتريا ومطيعًا لأولئك فنهي، وهو لا يكون ممتريًا ولا مطيعًا لهم‏.‏
ولكن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فهو أيضًا مخاطب بهذا، وهو منهي عن هذا‏.‏ فالله سبحانه قد نهاه عما حرمه من الشرك، والقول عليه بلا علم، والظلم، والفواحش‏.‏ وينهي الله له عن ذلك وطاعته لله في هذا استحق عظيم الثواب، ولولا النهي والطاعة لما استحق ذلك‏.‏
ولا يجب أن يكون المأمور المنهي ممن يشك في طاعته ويجوز عليه أن يعصى الرب، أو يعصيه مطلقًا ولا يطيعه، بل الله أمر الملائكة مع علمه أنهم يطيعونه، ويأمر الأنبياء مع علمه أنهم يطيعونه، وكذلك المؤمنون كل ما أطاعوه فيه قد أمرهم به مع علمه أنهم يطيعونه‏.‏

 

ص -326-

 ولا يقال‏:‏ لا يحتاج إلى الأمر، بل بالأمر صار مطيعًا مستحقًا لعظيم الثواب‏.‏
ولكن النهي يقتضي قدرته على المنهي عنه، وأنه لو شاء لفعله، ليثاب على ذلك إذا تركه‏.‏ وقد يقتضي قيام السبب الداعى إلى فعله فينهي عنه، فإنه بالنهي وإعانة الله له على الامتثال يمتنع مما نهي عنه إذا قام السبب الداعى له إليه‏.‏
وكذلك قد قيل في قوله‏:‏ ‏
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 211‏]‏‏:‏ إنه أمر للرسول، والمراد به هو والمؤمنون‏.‏ وقيل‏:‏ هو أمر لكل مكلف‏.‏
فقوله في هذه السورة‏:‏ ‏{اقْرَأْ‏}‏ ، كقوله في آخرها‏:‏ ‏
{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 9 11‏]‏، هذا متناول لجميع الأمة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1، 2‏]‏، فإنه كان خطابا للمؤمنين كلهم‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1، 2‏]‏ لما أُمِرَ بتبليغ ما أنزل إليه من الإنذار‏.‏ وهذا فرض على الكفاية‏.‏ فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه وينذروا كما أنذر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏

 

ص -327-

والجن لما سمعوا القرآن، ‏{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏
وإذا كان كذلك، فكل إنسان في قلبه معرفة بربه‏.‏ فإذا قيل له‏:‏
‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏، عرف ربه الذي هو مأمور أن يقرأ باسمه، كما يعرف أنه مخلوق، والمخلوق يستلزم الخالق ويدل عليه‏.‏
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإقرار والاعتراف بالخالق فطرى ضرورى في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة‏.‏ وهذا قول جمهور الناس، وعليه حُذَّاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة، وتارة بالنظر‏.‏ كما اعترف بذلك غير واحد من أئمة المتكلمين‏.‏
وهذه الآية أيضًا تدل على أنه ليس النظر أول واجب، بل أول ما أوجب الله على نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
{ا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏، لم يقل‏:‏ ‏[‏انظر واستدل حتى تعرف الخالق‏]‏‏.‏
وكذلك هو أول ما بلغ هذه السورة، فكان المبلغون مخاطبين بهذه الآية قبل كل شيء ولم يؤمروا فيها بالنظر والاستدلال‏.‏
وقد ذهب كثير من أهل الكلام إلى أن اعتراف النفس بالخالق وإثباتها له، لا يحصل إلا بالنظر‏.‏

 

ص -328-

 ثم كثير منهم جعلوا ذلك نظرًا مخصوصًا، وهو النظر في الأعراض، وأنها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها‏.‏
قالوا‏:‏ وما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث‏.‏
ثم منهم من اعتقد أن هذه المقدمة بينة بنفسها، بل ضرورية، ولم يميز بين الحادث المعين والمحدود وبين الجنس المتصل شيئًا بعد شيء؛ إما لظنه أن هذا ممتنع، أو لعدم خطوره بقلبه‏.‏ لكن، وإن قيل هو ممتنع، فليس العلم بذلك بديهيًا‏.‏
وإنما العلم البديهي أن الحادث الذي له مبدأ محدود كالحادث والحوادث المقدرة من حين محدود فتلك ما لايسبقها فهو حادث‏.‏ وما لا يخلو منها لم يسبقها فهو حادث‏.‏ فإنه إذا لم يسبقها كان معها أو متأخرًا عنها‏.‏ وعلى التقديرين فهو حادث‏.‏
وأما إذا قدر حوادث دائمة شيئًا بعد شيء، فهذا إما أن يقال‏:‏ هو ممكن، وإما أن يقال‏:‏ هو ممتنع‏.‏ لكن العلم بامتناعه يحتاج إلى دليل، ولم تُعْلَم طائفة معروفة من العقلاء قالوا‏:‏ إن العلم بامتناع هذا بديهي ضرورى، ولا يفتقر إلى دليل‏.‏

 

ص -329-

 بل كثير من الناس لا يتصور هذا تصورًا تامًا، بل متى تصور الحادث قدر في ذهنه مبدأ، ثم يتقدم في ذهنه شيء قبل ذلك، ثم شيء قبل ذلك، لكن إلى غايات محدودة بحسب تقدير ذهنه، كما يقدر الذهن عددًا بعد عدد، ولكن كل ما يقدره الذهن فهو منته‏.‏
ومن الناس من إذا قيل له‏:‏ ‏[‏الأزل‏]‏ أو‏:‏ ‏[‏كان هذا موجودًا في الأزل‏]‏، تصور ذلك‏.‏ وهذا غلط، بل ‏[‏الأزل‏]‏ ما ليس له أول، كما أن ‏[‏الأبد‏]‏ ليس له آخر، وكل ما يومئ إليه الذهن من غاية ف ‏[‏الأزل‏]‏ وراءها‏.‏ وهذا لبسطه موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا‏:‏ معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا‏:‏ لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام الجهمية القدرية ومن تبعهم‏.‏ وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه‏.‏ إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة‏.‏
ثم هذا النظر هذا الدليل للناس فيه ثلاثة أقوال‏:‏

 

ص -330-

 قيل‏:‏ إنه واجب، وإن المعرفة موقوفة عليه، كما يقوله هؤلاء‏.‏
وقيل‏:‏ بل يمكن حصول المعرفة بدونه،لكنه طريق آخر إلى المعرفة‏.‏ وهذا يقوله كثير من هؤلاء ممن يقول بصحة هذه الطريقة لكن لا يوجبها؛ كالخطأبي والقاضى أبي يعلى، وأبي جعفر السمنانى قاضى الموصل شيخ أبي الوليد الباجي وكان يقول‏:‏ إيجاب النظر بقية بقيت على الشيخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال‏.‏وهؤلاء الذين لا يوجبون هذا النظر‏.‏
ومنهم من لا يوجب النظر مطلقا كالسِّمْناني، وابن حزم وغيرهما‏.‏
ومنهم من يوجبه في الجملة، كالخطَّأبي، وأبي الفَرَج المقْدِسي‏.‏
والقاضى أبو يعلى يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، بل ويقول تارة بإيجاب النظر المعين، كما يقوله أبو المعالى وغيره‏.‏
ثم من الموجبين للنظر من يقول‏:‏ هو أول الواجبات، ومنهم من يقول‏:‏ بل المعرفة الواجبة به، وهو نزاع لفظى‏.‏ كما أن بعضهم قال‏:‏ أول الواجبات القصد إلى النظر، كعبارة أبي المعالى‏.‏ ومن هؤلاء من قال‏:‏ بل الشك المتقدم كما قاله أبو هاشم‏.‏
وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في موضع آخر،

 

ص -331-

 وبين أنها كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل أيضًا‏.‏
وهذه الآية مما يستدل به على ذلك، فإن أول ما أوجب الله على رسوله وعلى المؤمنين هو ما أُمر به في قوله‏:‏
‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏‏.‏
والذين قالوا‏:‏ المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، قالوا‏:‏ لو حصلت بغيره لسقط التكليف بها، كما ذكر ذلك القاضى أبو بكر، وغيره‏.‏
فيقال لهم‏:‏ وليس فيما قص الله علينا من أخبار الرسل أن منهم أحدًا أوجبها، بل هي حاصلة عند الأمم جميعهم‏.‏ ولكن أكثر الرسل افتتحوا دعوتهم بالأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه كما أخبر الله عن نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وقومهم كانوا مقرين بالخالق لكن كانوا مشركين يعبدون غيره، كما كانت العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن الكفار من أظهر جحود الخالق، كفرعون حيث قال‏:
‏ ‏{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، وقال‏:‏

 

ص -332-

{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، وقال لموسى‏:‏ ‏{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏
ومع هذا، فموسى أمره الله أن يقول ما ذكره الله في القرآن، قال‏:‏
‏{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 10 - 21‏]‏‏.‏ قال فرعون إنكارًا وجحدًا‏:‏ ‏{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏، قال موسى‏:‏‏{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ‏}‏ الآيات ‏[‏الشعراء‏:‏ 24 28‏]‏‏.‏

 

ص -333-

وقد ظن بعض الناس أن سؤال فرعون ‏{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏، هو سؤال عن ماهية الرب، كالذي يسأل عن حدود الأشياء فيقول‏:‏ ما الإنسان‏؟‏ ما الملك‏؟‏ ما الجنى‏؟‏ ونحو ذلك‏.‏ قالوا‏:‏ ولما لم يكن للمسؤول عنه ماهية، عدل موسى عن الجواب إلى بيان ما يعرف به وهو قوله‏:‏ ‏{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏ وهذا قول قاله بعض المتأخرين وهو باطل‏.‏
فإن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجَحْد، لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته، بل كان منكرًا له جاحدًا؛ ولهذا قال في تمام الكلام‏:‏
‏{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏‏.‏ فاستفهامه كان إنكارًا وجحدًا، يقول‏:‏ ليس للعالمين رب يرسلك، فمن هو هذا‏؟‏ إنكارًا له‏.‏
فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين، وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده‏.‏ وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم، كما قال موسى في موضع آخر لفرعون‏:‏
‏{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ ، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

 

ص -334-

لم يقل فرعون‏:‏ ومن رب العالمين‏؟‏ فإن ‏[‏من‏]‏ سؤال عن عينه يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه، كما يقال لرسول عُرف إنه جاء من عند إنسان‏:‏ من أرسلك‏؟‏
وأما ‏[‏ما‏]‏ فهي سؤال عن الوصف‏.‏ يقول‏:‏ أى شيء هو هذا‏؟‏ وما هو هذا الذي سميته رب العالمين‏؟‏ قال ذلك منكرًا له جاحدًا‏.‏
فلما سأل جحدا أجابه موسى بأنه أعرف من أن ينكر، وأظهر من أن يُشك فيه ويرتاب‏.‏ فقال‏:‏
‏{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ‏}‏‏.‏
ولم يقل‏:‏ ‏[‏موقنين بكذا وكذا‏]‏، بل أطلق، فأى يقين كان لكم بشيء من الأشياء، فأول اليقين اليقين بهذا الرب، كما قالت الرسل لقومهم‏:‏‏{أَفِي اللّهِ شَكٌّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏
وإن قلتم‏:‏ لا يقين لنا بشيء من الأشياء، بل سلبنا كل علم، فهذه دعوى السفسطة العامة، ومدعيها كاذب ظاهر الكذب‏.‏ فإن العلوم من لوازم كل إنسان، فكل إنسان عاقل لابد له من علم؛ ولهذا

 

ص -335-

قيل في حد ‏[‏العقل‏]‏‏:‏ إنه علوم ضرورية، وهي التي لا يخلو منها عاقل‏.‏
فلما قال فرعون‏:‏
‏{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏، وهذا من افتراء المكذبين على الرسول لما خرجوا عن عاداتهم التي هي محمودة عندهم نسبوهم إلى الجنون‏.‏ ولما كانوا مظهرين للجحد بالخالق، أو للاسترابة والشك فيه‏.‏ هذه حال عامتهم ودينهم، وهذا عندهم دين حسن، وإنما إلههم الذي يطيعونه فرعون، قال‏:‏ ‏{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏
فبين له موسى أنكم الذين سلبتم العقل النافع، وأنتم أحق بهذا الوصف فقال‏:‏ ‏
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏
فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق‏.‏ فلما ذكر أولًا أن من أيقن بشيء فهو موقن به، واليقين بشيء هو من لوازم العقل، بين ثانيًا أن الإقرار به من لوازم العقل‏.‏
ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه، فإن لم يعمل به صاحبه قيل‏:‏ إنه ليس له عقل‏.‏ ويقال أيضًا لمن لم يتبع ما أيقن به‏:‏

 

ص -336-

إنه ليس له يقين‏.‏ فإن اليقين أيضًا يراد به العلم المستقر في القلب ويراد به العمل بهذا العلم‏.‏ فلا يطلق‏:‏ ‏[‏الموقن‏]‏ إلا على من استقر في قلبه العلم والعمل‏.‏
وقوم فرعون لم يكن عندهم اتباع لما عرفوه،فلم يكن لهم عقل ولا يقين‏.‏ وكلام موسى يقتضي الأمرين‏:‏ إن كان لك يقين فقد عرفته، وإن كان لك عقل فقد عرفته‏.‏ وإن ادعيت أنه لا يقين لك ولا عقل لك، فكذلك قومك، فهذا إقرار منكم بسلبكم خاصية الإنسان‏.‏
ومن يكون هكذا، لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الإلهية‏.‏ مع أن هذا باطل منكم، فإنكم موقنون به، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏
ولكم عقل تعرفونه به، ولكن هواكم يصدكم عن اتباع موجب العقل، وهو إرادة العلو في الأرض والفساد‏.‏ فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار، كما قال أصحاب النار‏:‏ ‏
{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى عن الكفار‏:‏ ‏{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏‏.‏
قال تعالى عن فرعون وقومه‏:‏ ‏
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 54‏]‏

 

ص -337-

والخفيف‏:‏ هو السفيه الذي لا يعمل بعلمه، بل يتبع هواه‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أنه ليس في الرسل من قال أول ما دعا قومه ‏:‏ إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق، فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه‏.‏ فلم يكلفوا أولا بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة، إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقر به، وكل مولود يولد على الفطرة، لكن عرض للفطرة ما غيَّرها، والإنسان إذا ذكر ذكر ما في فطرته‏.‏
ولهذا قال الله في خطابه لموسى‏:‏‏
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏،ما في فطرته من العلم الذي به يعرف ربه،ويعرف إنعامه عليه،وإحسانه إليه،وافتقاره إليه، فذلك يدعوه إلى الإيمان،‏{أَوْ يَخْشَى‏}‏ ما ينذره به من العذاب،فذلك أيضا يدعوه إلى الإيمان‏.‏
كما قال تعالى
‏:‏ ‏{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏، فالحكمة تعريف الحق، فيقبلها من قبل الحق بلا منازعة‏.‏ ومن نازعه هواه وعظ بالترغيب والترهيب‏.‏
فالعلم بالحق يدعو صاحبه إلى اتباعه؛ فإن الحق محبوب في الفطرة، وهو أحب إليها‏.‏ وأجل فيها، وألذ عندها من الباطل الذي لا حقيقة له؛ فإن الفطرة لا تحب ذاك‏.‏

 

ص -338-

 فإن لم يدعه الحق والعلم به خوف عاقبة الجحود والعصيان، وما في ذلك من العذاب فالنفس تخاف العذاب بالضرورة‏.‏ فكل حى يهرب مما يؤذيه بخلاف النافع‏.‏
فمن الناس من يتبع هواه، فيتبع الأدنى دون الأعلى‏.‏ كما أن منهم من يكذب بما خوف به، أو يتغافل عنه، حتى يفعل ما يهواه‏.‏ فإنه إذا صدق به واستحضره لم يبعث نفسه إلى هواها، بل لابد من نوع من الغفلة والجهل حتى يتبعه؛ ولهذا كان كل عاص لله جاهلا، كما قد بسط هذا في مواضع‏.‏
إذ المقصود هنا التنبيه على أن قوله‏:‏
‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏، فيه تنبيه على أن الرب معروف عند المخاطبين، وأن الفطر مقرة به‏.‏
وعلى ذلك، دل قوله‏:‏
‏{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏، كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع‏.‏
وكذلك قول الرسل‏:‏ ‏
{أَفِي اللّهِ شَكٌّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏، هو نفي، أى ليس في الله شك‏.‏ وهو استفهام تقرير يتضمن تقرير الأمم على ما هم مقرون به من أنه ليس في الله شك، فهذا استفهام تقرير‏.‏

 

ص -339-

 فإن حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي كان تقريرًا، كقوله‏:‏ ‏{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏، ‏{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 8‏]‏، ‏{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 70‏]‏، ومثله كثير‏.‏ بخلاف استفهام فرعون، فإنه استفهام إنكار، لا تقرير؛ إذ ليس هناك إلا أداة الاستفهام فقط، ودل سياق الكلام على أنه إنكار‏.‏
فإن قيل‏:‏ إذا كانت معرفته، والإقرار به ثابتًا في كل فطرة فكيف ينكر ذلك كثير من النظار نظار المسلمين وغيرهم وهم يَدَّعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية‏؟‏‏.‏
فيقال أولا‏:‏ أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمه من الجهمية والقدرية‏.‏ وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم‏.‏ ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية‏.‏ فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين‏.‏
الثاني‏:‏ أن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير

 

ص -340-

 شعور صاحبها بأنها قامت به‏.‏ فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به‏.‏
وهذا كصفات بدنه، فإن منها ما لا يراه كوجهه وقفاه‏.‏ ومنها ما يراه إذا تعمد النظر إليه كبطنه وفخذه وعضديه‏.‏ وقد يكون بهما آثار من خيلان وغير خيلان، وغير ذلك من الأحوال، وهو لم يره ولم يعرفه، لكن لو تعمد رؤيته لرآه‏.‏ ومن الناس من لا يستطيع رؤية ذلك لعارض عرض لبصره من العشى أو العمى، أو غير ذلك‏.‏
كذلك صفات نفسه قد يعرف بعضها، وبعضها لا يعرفه‏.‏ لكن لو تعمد تأمل حال نفسه لعرفه‏.‏ ومنها ما لا يعرفه ولو تأمل لفساد بصيرته وما عرض لها‏.‏
والذي يبين ذلك‏:‏ أن الأفعال الاختيارية لا تتصور إلا بإرادة تقوم بنفس الإنسان‏.‏ وكل من فعل فعلا اختياريًا وهو يعرفه فلابد أن يريده، كالذي يأكل ويشرب ويلبس وهو يعرف أنه يفعل ذلك، فلابد أن يريده‏.‏ فالفعل الاختياري يمتنع أن يكون بغير إرادة‏.‏ وإذا تصور الفعل الذي يفعله وقد فعله لزم أن يكون مريدًا له وقد تصوره‏.‏ وإذا كان مريدًا له وقد تصوره امتنع ألا يريد ما تصوره وفعله‏.‏

 

ص -341-

 فالإنسان، إذا قام إلى صلاة يعلم أنها الظُّهر، فمن الممتنع أن يصلى الظهر وهو يعلم هذا لم ينسه ولا يريد صلاة الظهر‏.‏
وكذلك الصيام إذا تصور أن غدًا من رمضان وهو مريد لصوم رمضان امتنع ألا ينوي صومه‏.‏
وكذلك إذا أهل بالحج وهو يعلم أنه مهل به امتنع ألا يكون مريدًا للحج‏.‏
وكذلك الوضوء إذا علم أنه يتوضأ للصلاة وهو يتوضأ امتنع ألا يكون مريدًا للوضوء‏.‏ ومثل هذا كثير؛ نجد خلقًا كثيرًا من العلماء دع العامية يستدعون النية بألفاظ يقولونها ويتكلفون ألفاظًا، ويشكون في وجودها مرة بعد مرة، ويخرجون إلى ضرب من الوسوسة التي يشبه أصحابها المجانين‏.‏
والنية‏:‏ هي الإرادة، وهي القصد، وهي موجودة في نفوسهم لوجودها في نفس كل من يصلى في ذلك المسجد والجامع، ومن توضأ في تلك المطهرة‏.‏ أولئك يعلمون هذا من نفوسهم ولم يحصل لهم وسواس، وهؤلاء ظنوا أن النية لم تكن في قلوبهم يطلبون حصولها من قلوبهم‏.‏

 

ص -342-

 وهم يعلمون أن التلفظ بها ليس بواجب، وإنما الفرض وجود الإرادة في القلب وهي موجودة ومع هذا يعتقدون أنها ليست موجودة‏.‏ وإذا قيل لأحدهم‏:‏ ‏[‏النية حاصلة في قلبك‏]‏ لم يقبل لما قام به من الاعتقاد الفاسد المناقض لفطرته‏.‏
وكذلك حب الله ورسوله موجود في قلب كل مؤمن، لا يمكنه دفع ذلك من قلبه إذا كان مؤمنًا‏.‏ وتظهر علامات حبه لله ولرسوله إذا أخذ أحد يسب الرسول ويطعن عليه، أو يسب الله ويذكره بما لا يليق به‏.‏ فالمؤمن يغضب لذلك أعظم مما يغضب لو سب أبوه وأمه‏.‏
ومع هذا، فكثير من أهل الكلام والرأى أنكروا محبة الله، وقالوا‏:‏ يمتنع أن يكون محبًا أو محبوبًا، وجعلوا هذا من أصول الدين، وقالوا‏:‏ خلافًا للحلولية، كأنه لم يقل بأن الله يحب إلا الحلولية‏.‏ ومعلوم‏:‏ أن هذا دين الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وأهل الإيمان أجمعين‏.‏ وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كما قد بسطناه في مواضع‏.‏
فهذه المحبة لله ورسوله موجودة في قلوب أكثر المنكرين لها، بل في قلب كل مؤمن وإن أنكرها لشبهة عرضت له‏.‏

 

ص -343-

 وهكذا المعرفة موجودة في قلوب هؤلاء‏.‏ فإن هؤلاء الذين أنكروا محبته هم الذين قالوا‏:‏ معرفته لا تحصل إلا بالنظر، فأنكروا ما في فطرهم وقلوبهم من معرفته، ومحبته‏.‏
ثم قد يكون ذلك الإنكار سببًا إلى امتناع معرفة ذلك في نفوسهم وقد يزول عن قلب أحدهم ما كان فيه من المعرفة والمحبة فإن الفطرة قد تفسد فقد تزول، وقد تكون موجودة ولا ترى
‏{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏
‏{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30، 31‏]‏‏.‏
وفي الصحيحين، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء‏]‏، ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏
والفطرة تستلزم معرفة الله، ومحبته، وتخصيصه بأنه أحب الأشياء

 

ص -344-

 إلى العبد وهو التوحيد‏.‏ وهذا معنى قول‏:‏ ‏[‏لا إله إلا الله‏]‏، كما جاء مفسرًا‏:‏ ‏"‏كل مولود يولد على هذه الملة‏"‏، وروى‏:‏ ‏[‏على ملة الإسلام‏]‏‏.‏
وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ إنى خلقت عبادى حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وَحَرْمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُمْ أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا‏"‏‏.‏
فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده‏.‏ فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏‏.‏
فإن في هذه الكلمة الطيبة التي هي
‏{كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏، فيها إثبات معرفته والإقرار به‏.‏ وفيها إثبات محبته، فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يكون مألوهًا؛ وهذا أعظم ما يكون من المحبة‏.‏ وفيها أنه لا إله إلا هو‏.‏ ففيها المعرفة، والمحبة، والتوحيد‏.‏
وكل مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها‏.‏ ولكن أبواه يفسدان ذلك فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، ويشركانه‏.‏

 

ص -345-

 كذلك يجهمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده‏.‏ ثم المعرفة يطلبها بالدليل، والمحبة ينكرها بالكلية‏.‏ والتوحيد المتضمن للمحبة ينكره من لا يعرفه، وإنما ثبت توحيد الخلق، والمشركون كانوا يُقرون بهذا التوحيد وهذا الشرك‏.‏
فهما يُشرّكانه، ويُهودانه، ويُنصرانه، ويُمجسانه‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا الحديث وأقوال الناس فيه في غير هذا الموضع‏.‏
وأيضا، مما يبين أن الإنسان قد يخفي عليه كثير من أحوال نفسه، فلا يشعر بها‏.‏ إن كثيرًا من الناس يكون في نفسه حب الرياسة كامن لا يشعر به، بل إنه مخلص في عبادته وقد خفيت عليه عيوبه، وكلام الناس في هذا كثير مشهور؛ ولهذا سميت هذه‏:‏ ‏[‏الشهوة الخفية‏]‏‏.‏
قال شداد بن أوس‏:‏ يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية‏.‏ قيل لأبي داود السجستاني‏:‏ ما الشهوة الخفية‏؟‏ قال‏:‏ حب الرياسة‏.‏ فهي خفية تخفي على الناس، وكثيرًا ما تخفي على صاحبها‏.‏
بل كذلك حب المال والثروة، فإن الإنسان قد يحب ذلك ولا يدرى‏.‏ بل نفسه ساكنة ما دام ذلك موجودًا، فإذا فقده ظهر من

 

ص -346-

 جزع نفسه وتلفها ما دل على المحبة المتقدمة‏.‏ والحب مستلزم للشعور، فهذا شعور من النفس بأمور وجب لها‏.‏ والإنسان قد يخفي ذلك عليه من نفسه‏.‏ لا سيما والشيطان يغطى على الإنسان أمورًا‏.‏
وذنوبه أيضًا تبقى رينًا على قلبه قال تعالى‏:‏ ‏
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 14، 15‏]‏ ‏.‏ وفي الترمذى وغيره عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء‏.‏ فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه‏.‏ فذلك الران الذي قال الله‏:‏ ‏{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏"‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏
وقال‏:‏‏
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏102‏]‏‏.‏فالمتقون إذا أصابهم هذا الطيف الذي يطيف بقلوبهم يتذكرون ما علموه قبل ذلك، فيزول الطيف ويبصرون الحق الذي كان معلومًا،ولكن الطيف يمنعهم عن رؤيته‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 202‏]‏‏.‏ فإخوان

 

ص -347-

 الشياطين تمدهم الشياطين في غيهم، ‏{ثٍمَّ لا يٍقًصٌرٍونّ‏}‏، لا تقصر الشياطين عن المدد والإمداد، ولا الإنس عن الغى‏.‏ فلا يبصرون مع ذلك الغى ما هو معلوم لهم، مستقر في فطرهم، لكنهم ينسونه‏.‏
ولهذا كانت الرسل إنما تأتى بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته، وإمداده، ونفي المغير للفطرة‏.‏ فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال يحصل بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة‏.‏
فصل
وهذا النسيان نسيان الإنسان لنفسه ولما في نفسه حصل بنسيانه لربه ولما أنزله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالى في حق المنافقين‏:‏ ‏{نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏، وقال‏:‏ ‏{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 126‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏، يقتضي أن نسيان الله كان سببًا لنسيانهم أنفسهم، وأنهم لما نسوا الله عاقبهم بأن أنساهم أنفسهم‏.‏

 

ص -348-

 ونسيانهم أنفسهم يتضمن إعراضهم وغفلتهم وعدم معرفتهم بما كانوا عارفين به قبل ذلك من حال أنفسهم، كما أنه يقتضي تركهم لمصالح أنفسهم‏.‏ فهو يقتضي أنهم لا يذكرون أنفسهم ذكرًا ينفعها ويصلحها، وأنهم لو ذكروا الله لذكروا أنفسهم‏.‏
وهذا عكس ما يقال‏:‏ ‏[‏من عرف نفسه عرف ربه‏]‏‏.‏ وبعض الناس يروى هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد‏.‏
ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة إن صح ‏"‏يا إنسان، اعرف نفسك، تعرف ربك‏"‏‏.‏ وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدًا لا يمكن الاحتجاج بلفظه، فإنه لم يثبت عن قائل معصوم‏.‏ لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى، سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل‏.‏
وإنما القول الثابت ما في القرآن، وهو قوله‏:‏
‏{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏.‏ فهو يدل على أن نسيان الرب موجب لنسيان النفس‏.‏
وحينئذ،فمن ذكر الله ولم ينسه، يكون ذاكرًا لنفسه،فإنه لو

 

ص -349-

 كان ناسيا لها سواء ذكر الله أو نسيه لم يكن نسيانها مسببا عن نسيان الرب‏.‏فلما دلت الآية على أن نسيان الإنسان نفسه مسبب عن نسيانه لربه، دل على أن الذاكر لربه لا يحصل له هذا النسيان لنفسه‏.‏
والذكر يتضمن ذكر ما قد علمه، فمن ذكر ما يعلمه من ربه ذكر ما يعلمه من نفسه‏.‏ وهو قد ولد على الفطرة التي تقتضى أنه يعرف ربه ويحبه ويوحده‏.‏ فإذا لم ينس ربه الذي عرفه، بل ذكره على الوجه الذي يقتضي محبته ومعرفته وتوحيده، ذكر نفسه، فأبصر ما كان فيها قبل من معرفة الله ومحبته وتوحيده‏.‏
وأهل البدع الجهمية ونحوهم لما أعرضوا عن ذكر الله الذكر المشروع الذي كان في الفطرة وجاءت به الشرعة، الذي يتضمن معرفته ومحبته وتوحيده نسوا الله من هذا الوجه‏.‏ فأنساهم أنفسهم من هذا الوجه، فنسوا ما كان في أنفسهم من العلم الفطري، والمحبة الفطرية، والتوحيد الفطري‏.‏
وقد قال طائفة من المفسرين‏:‏
‏{نَسُواْ اللّهَ‏}‏، أي‏:‏ تركوا أمر الله ‏{فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏، أى‏:‏ حظوظ أنفسهم حيث لم يقدموا لها خيرًا، هذا لفظ طائفة منهم البغوى ولفظ آخرين منهم ابن الجوزي ‏:‏ حين لم يعملوا بطاعته‏.‏ وكلاهما قال‏:‏ ‏{نَسُواْ اللّهَ‏}‏ أى‏:‏ تركوا أمر الله‏.‏

 

ص -350-

 ومثل هذا التفسير يقع كثيرًا في كلام من يأتى بمجمل من القول يبين معنى دلت عليه الآية ولا يفسرها بما يستحقه من التفسير‏.‏ فإن قولهم‏:‏ ‏[‏تركوا أمر الله‏]‏‏.‏ هو تركهم للعمل بطاعته، فصار الأول هو الثاني‏.‏ والله سبحانه قال‏:‏ ‏{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 19‏]‏، فهنا شيئان‏:‏ نسيانهم لله، ثم نسيانهم لأنفسهم الذي عوقبوا به‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا الثاني هو الأول لكنه تفصيل مجمل، كقوله‏:‏ ‏
{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏4‏]‏، وهذا هو هذا، قيل‏:‏ هو لم يقل‏:‏ ‏[‏نسوا الله فنسوا حظ أنفسهم‏]‏ حتى يقال‏:‏ هذا هو هذا، بل قال‏:‏‏{نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ‏}‏، فثم إنساء منه لهم أنفسهم‏.‏ ولو كان هذا هو الأول لكان قد ذكر ما يعذرهم به، لا ما يعاقبهم به‏.‏
فلو كان الثاني هو الأول لكان‏:‏ ‏
{نَسُواْ اللّهَ‏}‏، أي‏:‏ تركوا العمل بطاعته، فهو الذي أنساهم ذلك‏.‏ ومعلوم فساد هذا الكلام لفظًا ومعنى‏.‏
ولو قيل‏:‏
‏{نَسُواْ اللّهَ‏}‏، أى‏:‏ نسوا أمره، {فَأَنسَاهُمْ‏}‏ العمل بطاعته، أى‏:‏ تذكرها، لكان أقرب، ويكون النسيان الأول على بابه‏.‏ فإن من نسى نفس أمر الله لم يطعه‏.‏

 

ص -351-

 ولكن هم فسروا نسيان الله بترك أمره‏.‏ وأمره الذي هو كلامه ليس مقدورًا لهم حتى يتركوه، إنما يتركون العمل به، فالأمر بمعنى المأمور به‏.‏
إلا أن يقال‏:‏ مرادهم بترك أمره هو ترك الإيمان به‏.‏ فلما تركوا الإيمان أعقبهم بترك العمل‏.‏ وهذا أيضًا ضعيف، فإن الإيمان الذي تركوه إن كان هو ترك التصديق فقط فكفي بهذا كفرًا وذنبًا‏.‏ فلا تجعل العقوبة ترك العمل به، بل هذا أشد‏.‏ وإن كان المراد بترك الإيمان، ترك الإيمان تصديقًا وعملا، فهذا هو ترك الطاعة كما تقدم‏.‏
وهؤلاء أتوا من حيث أرادوا أن يفسروا نسيان العبد بما قيل في نسيان الرب، وذاك قد فسر بالترك‏.‏ ففسروا هذا بالترك‏.‏ وهذا ليس بجيد، فإن النسيان المناقض للذكر جائز على العبد بلا ريب‏.‏ والإنسان يعرض عما أمر به حتى ينساه، فلا يذكره‏.‏ فلا يحتاج أن يجعل نسيانه تركًا مع استحضار وعلم‏.‏
وأما الرب تعالى فلا يجوز عليه ما يناقض صفات كماله سبحانه وتعالى وفي تفسير نسيانه الكفار بمجرد الترك نظر‏.‏
ثم هذا قيل في قوله تعالى‏:‏
‏{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 126‏]‏ ‏.‏

 

ص -352-

 أي‏:‏ تركت العمل بها‏.‏ وهنا قال‏:‏ ‏{نَسُواْ اللّهَّ‏}‏، ولا يقال في حق الله‏:‏ ‏[‏تركوه‏]‏‏.‏
فصل
قوله‏:‏
‏{الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1، 2‏]‏، بيان لتعريفه بما قد عرف من الخلق عمومًا، وخلق الإنسان خصوصًا، وإن هذا مما تعرف به الفطرة كما تقدم‏.‏
ثم إذا عرف أنه الخالق فمن المعلوم بالضرورة أن الخالق لا يكون إلا قادرًا‏.‏ بل كل فعل يفعله فاعل، لا يكون إلا بقوة وقدرة، حتى أفعال الجمادات‏.‏ كهبوط الحجر والماء وحركة النار هو بقوة فيها‏.‏ وكذلك حركة النبات هي بقوة فيه‏.‏ وكذلك فعل كل حى من الدواب وغيرها هو بقوة فيها‏.‏ وكذلك الإنسان وغيره‏.‏
والخلق أعظم الأفعال، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، فالقدرة عليه أعظم من كل قدرة، وليس لها نظير من قدر المخلوقين‏.‏
وأيضًا، فالتعليم بالقلم يستلزم القدرة‏.‏ فكل من الخلق والتعليم يستلزم القدرة‏.‏

 

ص -353-

 وكذلك كل منهما يستلزم العلم‏.‏فإن المعلم لغيره يجب أن يكون هو عالمًا بما علمه إياه، وإلا فمن الممتنع أن يعلم غيره ما لا يعلمه هو‏.‏ فمن علم كل شيء الإنسان غيره ما لم يعلم، أولى أن يكون عالمًا بما علَّمَه‏.‏ والخلق أيضًا يستلزم العلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وذلك من جهة أن الخلق يستلزم الإرادة‏.‏ فإن فعل الشيء على صفة مخصوصة ومقدار مخصوص دون ما هو خلاف ذلك لا يكون إلا بإرادة تخصص هذا عن ذاك‏.‏ والإرادة تستلزم العلم‏.‏ فلا يريد المريد إلا ما شعر به وتصور في نفسه، والإرادة بدون الشعور ممتنعة‏.‏
وأيضًا، فنفس الخلق خلق الإنسان هو فعل لهذا الإنسان الذي هو من عجائب المخلوقات‏.‏ وفيه من الإحكام والإتقان ما قد بهر العقول‏.‏ والفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم بما فعل‏.‏ وهذا معلوم بالضرورة‏.‏
فالخلق يدل على العلم من هذا الوجه، ومن هذا الوجه‏.‏
وقد قال في سورة الملك ‏
{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏‏.‏ وهو بيان ما في المخلوقات من لطف الحكمة التي تتضمن إيصال الأمور إلى غاياتها بألطف الوجوه، كما قال يوسف عليه السلام ‏:‏ ‏{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏

 

ص -354-

وهذا يستلزم العلم بالغاية المقصودة، والعلم بالطريق الموصل وكذلك الخبرة‏.‏
وبسط هذا يطول، إذ المقصود هنا التنبيه على ما في الآيات التي هي أول ما أنزل‏.‏
ثم إذا ثبت أنه قادر عالم، فذلك يستلزم كونه حيًا‏.‏ وكذلك الإرادة تستلزم الحياة‏.‏
والحي إذا لم يكن سميعًا بصيرًا متكلمًا، كان متصفًا بضد ذلك من العمى والصمم والخرس، وهذا ممتنع في حق الرب تعالى‏.‏ فيجب أن يتصف بكونه سميعًا بصيرًا متكلمًا‏.‏
والإرادة؛ إما أن تكون لغاية حكيمة، أو لا‏.‏ فإن لم تكن لغاية حكيمة كانت سفهًا، وهو منزه عن ذلك، فيجب أن يكون حكيما‏.‏
وهو إما أن يقصد نفع الخلق والإحسان إليهم، أو يقصد مجرد ضررهم وتعذيبهم، أو لا يقصد واحدًا منهما، بل يريد ما يريد سواء كان كذا أو كذا‏.‏ والثاني شرير ظالم يتنزه الرب عنه، والثالث سفيه عابث‏.‏ فتعين أنه تعالى رحيم، كما أنه حكيم، كما قد بسط في مواضع‏.‏

 

ص -355-

 فَصل
إثبات صفات الكمال له طرق‏:‏
أحدها‏:‏ ما نبهنا عليه من أن الفعل مستلزم للقدرة ولغيرها‏.‏ فمن النظار من يثبت أولا القدرة، ومنهم من يثبت أولا العلم، ومنهم من يثبت أولا الإرادة، وهذه طرق كثير من أهل الكلام‏.‏
وهذه يستدل عليها بجنس الفعل، وهي طريقة من لا يميز بين مفعول ومفعول، كجهم ابن صفوان ومن اتبعه‏.‏
وهؤلاء لا يثبتون حكمة، ولا رحمة، إذ كان جنس الفعل لا يستلزم ذلك‏.‏لكن هم أثبتوا بالفعل المحكم المتقن العلم‏.‏وكذلك تثبت بالفعل النافع الرحمة،وبالغايات المحمودة الحكمة‏.‏
ولكن هم متناقضون في الاستدلال بالإحكام والإتقان على العلم؛ إذ كان ذلك إنما يدل إذا كان فاعلا لغاية يقصدها‏.‏ وهم يقولون‏:‏ إنه يفعل لا لحكمة، ثم يستدلون بالإحكام على العلم، وهو تناقض‏.‏
كما تناقضوا في المعجزات حيث جعلوها دالة على صدق النبى، إما

 

ص -356-

 للعلم الضرورى بذلك، وإما لكونه لو لم تدل لزم العجز‏.‏ وهي إنما تدل إذا كان الفاعل يقصد إظهارها ليدل بها على صدق الأنبياء‏.‏ فإذا قالوا‏:‏ إنه لا يفعل شيئًا لشيء تناقضوا‏.‏
وأما الطريق الأخرى في إثبات الصفات وهي‏:‏ الاستدلال بالأثر على المؤثر، وأن من فعل الكامل فهو أحق بالكمال‏.‏
والثالثة‏:‏ طريقة قياس الأولى، وهي الترجيح والتفضيل، وهو أن الكمال إذا ثبت للمحدث الممكن المخلوق، فهو للواجب القديم الخالق أولى‏.‏
والقرآن يستدل بهذه، وهذه، وهذه‏.‏
فالاستدلال بالأثر على المؤثر أكمل، كقوله
تعالى‏:‏‏{وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏‏.‏
وهكذا، كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة‏.‏

 

ص -357-

  وهذه طريقة يقر بها عامة العقلاء، حتى الفلاسفة يقولون‏:‏ كل كمال في المعلول فهو من العلة‏.‏
وأما الاستدلال بطريق الأولى فكقوله‏:‏
‏{وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ‏} ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏، وأمثال ذلك مما يدل على أن كل كمال لا نقص فيه يثبت للمحدث المخلوق الممكن فهو للقديم الواجب الخالق أولى من جهة أنه أحق بالكمال؛ لأنه أفضل‏.‏
وذاك من جهة أنه هو جعله كاملا وأعطاه تلك الصفات‏.‏
واسمه ‏[‏العلي‏]‏ يفسر بهذين المعنيين؛ يفسر بأنه أعلى من غيره قدرًا، فهو أحق بصفات الكمال‏.‏ ويفسر بأنه العالى عليهم بالقهر والغلبة، فيعود إلى أنه القادر عليهم وهم المقدورون‏.‏ وهذا يتضمن كونه خالقًا لهم وربًا لهم‏.‏
وكلاهما يتضمن أنه نفسه فوق كل شيء، فلا شيء فوقه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏
:‏ ‏[‏أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء‏.‏ وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء‏]‏‏.‏

 

ص -358-

 فلا يكون شيء قبله، ولا بعده، ولا فوقه، ولا دونه، كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم وأثنى به على ربه‏.‏ وإلا فلو قدر أنه تحت بعض المخلوقات، كان ذلك نقصًا، وكان ذلك أعلى منه‏.‏
وإن قيل‏:‏ إنه لا داخل العالم ولا خارجه، كان ذلك تعطيلا له، فهو منزه عن هذا‏.‏
وهذا هو العلي الأعلى، مع أن لفظ ‏[‏العلي‏]‏ و ‏[‏العلو‏]‏، لم يستعمل في القرآن عند الإطلاق إلا في هذا وهو مستلزم لذينك لم يستعمل في مجرد القدرة، ولا في مجرد الفضيلة‏.‏
ولفظ ‏[‏العلو‏]‏ يتضمن الاستعلاء، وغير ذلك من الأفعال إذا عدى بحرف الاستعلاء دل على العلو، كقوله‏:‏
‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ فهو يدل على علوه على العرش‏.‏
والسلف فسروا ‏[‏الاستواء‏]‏ بما يتضمن الارتفاع فوق العرش، كما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏
{ثُمَّ اسْتَوَى‏}‏ قال‏:‏ ارتفع‏.‏ وكذلك رواه ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم رواه من حديث آدم بن أبي إياس، عن أبي جعفر، عن أبي الربيع، عن أبي العالية‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى‏}‏، قال‏:‏ ارتفع‏.‏

 

ص -359-

 وقال البخاري‏:‏ وقال مجاهد في قوله‏:‏‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏‏:‏ علا على العرش‏.‏ ولكن يقال‏:‏ ‏[‏علا على كذا‏]‏، و‏[‏علا عن كذا‏]‏ وهذا الثاني جاء في القرآن في مواضع،لكن بلفظ ‏[‏تعالى‏]‏ كقوله‏:‏‏{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 43‏]‏، ‏{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 29‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن كل واحد من ذكر أنه خلق، وأنه الأكرم الذي علم بالقلم، يدل على هاتين الطريقتين من إثبات الصفات، كما دلنا على الطريقة الأولى طريقة الاستدلال بالفعل‏.‏
فإن قوله‏:‏ ‏
{الْأَكْرَمُ‏}‏، يقتضي أنه أفضل من غيره في الكرم، والكرم اسم جامع لجميع المحاسن‏.‏ فيقتضي أنه أحق بجميع المحامد، والمحامد هي صفات الكمال فيقتضي أنه أحق بالإحسان إلى الخلق والرحمة، وأحق بالحكمة، وأحق بالقدرة، والعلم والحياة، وغير ذلك‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏
{خَلَقَ‏}‏ فإن الخالق قديم أزلى، مستغن بنفسه، واجب الوجود بنفسه، قيوم‏.‏ ومعلوم أنه أحق بصفات الكمال من المخلوق المحدث الممكن‏.‏
فهذا من جهة قياس الأولى‏.‏ ومن جهة الأثر، فإن الخالق لغيره

 

ص -360-

 الذي جعله حيًا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا، هو أولى بأن يكون حيا عالمًا قديرًا سميعًا بصيرًا‏.‏
و‏{الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3 5‏]‏ ‏.‏ فجعله عليمًا، والعليم لا يكون إلا حيًا‏.‏ وكرمه أيضًا أن يكون قديرًا سميعًا بصيرًا‏.‏ والأكرم الذي جعل غيره عليمًا هو أولى أن يكون عليمًا‏.‏ وكذلك في سائر صفات الكمال والمحامد‏.‏
فهذا استدلال بالمخلوق الخاص، والأول استدلال بجنس الخلق؛ ولهذا دل هذا على ثبوت الصفات بالضرورة من غير تكلف، وكذلك طريقة التفضيل والأولى، وأن يكون الرب أولى بالكمال من المخلوق‏.‏
وهذه الطرق لظهورها يسلكها غير المسلمين من أهل الملل وغيرهم كالنصارى، فإنهم أثبتوا أن الله قائم بنفسه حتى يتكلم بهذه الطريق، لكن سموه ‏[‏جوهرًا‏]‏، وضلوا في جعل الصفات ثلاثة، وهي الأقانيم‏.‏
فقالوا‏:‏ وجدنا الأشياء تنقسم إلى جوهر وغير جوهر، والجوهر أعلى النوعين، فقلنا‏:‏ هو جوهر‏.‏ ثم وجدنا الجوهر ينقسم إلى حى وغير حي، ووجدنا الحى أكمل، فقلنا‏:‏ هو حي‏.‏ ووجدنا الحى ينقسم إلى‏:‏ ناطق وغير ناطق، فقلنا‏:‏ هو ناطق‏.‏

 

ص -361-

 وكذلك يقال لهم في سائر صفات الكمال‏:‏ إن الأشياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، والقادر أكمل‏.‏ وقد بسط ما في كلامهم من صواب وخطأ في الكتاب الذي سميناه‏:‏ ‏[‏الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح‏]‏‏.‏
والمقصود هنا التنبيه على دلالة هذه الآية وهذه الآيات التي هي أول ما نزل على أصول الدين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏، يدل على قدرته على تعليم الإنسان ما قد علَّمَه، مع كون جنس الإنسان فيه أنواع من النقص‏.‏ فإذا كان قادرًا على ذلك التعليم فقدرته على تعليم الأنبياء ما علمهم أولى وأحرى‏.‏ وذلك يدخل في قوله‏:‏ ‏{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏، فإن الأنبياء من الناس‏.‏
فقد دلت هذه الآيات على جميع الأصول العقلية، فإن إمكان النبوات هو آخر ما يعلم بالعقل‏.‏
وأما وجود الأنبياء وآياتهم، فيعلم بالسمع المتواتر، مع أن قوله‏:‏
‏{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏، يدخل فيه إثبات تعليمه للأنبياء ما علَّمهم، فهي تدل على الإمكان والوقوع‏.‏

 

ص -362-

 وقد ذكرنا في مواضع أن تنزيهه يرجع إلى أصلين‏:‏
تنزيهه عن النقص المناقض لكماله‏.‏ فما دل على ثبوت الكمال له فهو يدل على تنزهه عن النقص المناقض لكماله‏.‏
وهذا مما يبين أن تنزهه عن النقص معلوم بالعقل، بخلاف ما قال طائفة من المتكلمين إن ذلك لا يعلم إلا بالسمع‏.‏
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق العقلية التي سلكوها من الاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام لا تدل على إثباته، ولا على إثبات شيء من صفات الكمال، ولا على تنزهه عن شيء من النقائص‏.‏ فليس عند القوم ما يحيلون به عنه شيئًا من النقائص‏.‏
وهم معترفون بأن الأفعال يجوز عليه منها كل شيء بخلاف الصفات‏.‏ لكن طريقهم في الصفات فاسد متناقض، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
الثاني‏:‏ أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال‏.‏
والقرآن مملوء بإثبات هذين الأصلين بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، وتنزيهه عن التمثيل سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.

 

ص -363-

فصل
وقوله‏:‏‏
{بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 4، 5‏]‏، يدل على إثبات أفعاله وأقواله‏.‏
فالخلق فعله، والتعليم يتناول تعليم ما أنزله، كما قال‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1 - 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{بِالْقَلَمِ‏}‏ يتناول تعليم كلامه الذي يكتب بالقلم‏.‏ ونزوله في أول السورة التي أنزل فيها كلامه، وعلم نبيه كلامه الذي يكتب بالقلم دليل على شمول الآية لذلك، فإن سبب اللفظ المطلق والعام لابد أن يكون مندرجًا فيه‏.‏ وإذا دل على أنه خلق وتكلم‏.‏
وقد قال‏:‏
‏{خَلَقَ الْإِنسَانَ‏}‏‏.‏ ومعلوم بالعقل وبالخطاب أن الإنسان المخلوق غير خلق الرب له، وكذلك خلقه لغيره‏.‏
والذين نازعوا في ذلك إنما نازعوا لشبهة عرضت لهم، كما قد ذكر بعد هذا وفي مواضع‏.‏ وإلا فهم لا يتنازعون أن ‏[‏خلق‏]‏ فعل له مصدر يقال‏:‏ خلق يخلق خلقًا‏.‏ والإنسان مفعول المصدر ‏[‏المخلوق‏]‏ ليس هو المصدر‏.‏

 

ص -364-

 ولكن قد يطلق لفظ المصدر على المفعول، كما يقال‏:‏ ‏[‏درهم ضرب الأمير‏]‏‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{هذا خلق الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏، والمراد هناك‏:‏ هذا مخلوق الله‏.‏ وليس الكلام في لفظ ‏[‏خلق‏]‏ المراد به ‏[‏المخلوق‏]‏، بل في لفظ ‏[‏الخلق‏]‏ المراد به ‏[‏الفعل‏]‏ الذي يسمي المصدر، كما يقال‏:‏ خلق يخلق خلقًا، وكقوله‏:‏ ‏{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏‏{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏51‏]‏‏.‏
وإذا كان الخلق فعله فهو بمشيئته، إذ يمتنع أن يكون فعله بغير مشيئة‏.‏ وما كان بالمشيئة، امتنع قدم عينه، بل يجوز قدم نوعه‏.‏
وإذا كان الخلق للحادث لابد له من مؤثر تام أوجب حدوثه لزم أنه لم يزل متصفًا بما يقوم به من الأمور الاختيارية، لكن إن يثبت أنه كان قبل هذا المخلوق مخلوق آخر ثبت أنه متصف بخلق بعد خلق‏.‏
وكذلك الكلام، هو متكلم بمشيئته‏.‏ ويمتنع ألا يكون متكلمًا ثم يصير متكلمًا لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه سلب لكماله، والكلام صفة كمال‏.‏
والثاني‏:‏ أنه يمتنع حدوث ذلك‏.‏ فإن من لا يكون متكلمًا يمتنع

 

ص -365-

 أن يجعل نفسه متكلمًا، ومن لا يكون عالمًا يمتنع أن يجعل نفسه عالمًا، ومن لا يكون حيًا يمتنع أن يجعل نفسه حيًا‏.‏ فهذه الصفات من لوازم ذاته‏.‏
وكذلك من لا يكون خالقًا يمتنع أن يجعل نفسه خالقًا‏.‏ فإنه إذا لم يكن قادرًا على أن يخلق فجعله نفسه خالقة أعظم؛ فيكون هذا ممتنعًا بطريق الأولى، فإن جعل نفسه خالقة يستلزم وجود المخلوق‏.‏
ولهذا لما كان قادرًا على جعل الإنسان فاعلًا، كان هو الخالق لما يفعله الإنسان‏.‏ فلو جعل نفسه خالقة كان هو الخالق لما جعلها تخلقه‏.‏
فإذا فرض أنه يمتنع أن يكون خالقًا في الأزل امتنع أن يجعل نفسه خالقة بوجه من الوجوه‏.‏ ويلزم من القول بامتناع الفعل عليه في الأزل امتناعه دائمًا‏.‏ وقد دلت الآية على أنه خلق‏.‏ فعلم أنه ما زال قادرًا على الخلْق، ما زال يمكنه أن يَخْلُقَ، وما زال الخلْق ممكنًا مقدورًا‏.‏ وهذا يبطل أصل الجهمية‏.‏
بل وإذا كان قادرًا عليه فالموجب له ليس شيئًا بائنًا من خارج، بل هو من نفسه‏.‏ فيمتنع أن يجعل نفسه مريدة بعد أن لم تكن، فيلزم أنه ما زال مريدًا قادرًا‏.‏ وإذا حصلت القدرة والإرادة، وجب وجود المقدور‏.‏

 

ص -366-

 وأهل الكلام الذين ينازعون في هذا يقولون‏:‏ لم يزل قادرًا على ما سيكون‏.‏
فيقال لهم‏:‏ القدرة لا تكون إلا مع إمكان المقدور، إذا كانت القدرة دائمة، فهل كان يمكنه أن يفعل المقدور دائمًا‏؟‏ وهم يقولون‏:‏ لا، بل الإمكان إمكان الفعل حادث‏.‏ وهذا يناقض إثبات القدرة، وإن قالوا‏:‏ بل الإمكان حاصل، تبين أنه لم يزل الفعل ممكنا فثبت إمكان وجود ما لا يتناهي من مقدور الرب‏.‏
وحينئذ، فإذا كان لم يزل قادرًا، والفعل ممكنًا، وهذا الممكن قد وجد، فما لا يزال، فالموجب لوجود جنس المقدور، كالإرادة مثلا، إما أن يكون وجودها في الأزل ممتنعًا، فيلزم امتناع الفعل، وقد بينا أنه ممكن‏.‏
وأيضًا، إذا كان وجودها ممتنعًا، لم يزل ممتنعًا؛ لأنه لا شيء هناك يجعلها ممكنة، فضلًا عن أن تكون موجودة‏.‏ ومعلوم أن وجودها بعد أن لم تكن، لابد له من موجب‏.‏ وإذا كان وجودها في الأزل ممكنًا، فوجود هذا الممكن لا يتوقف على غير ذاته، وذاته كافية في حصوله‏.‏ فيلزم أنه لم يزل مريدًا‏.‏
وهكذا في جميع صفات الكمال متي ثبت إمكانها في الأزل، لزم

 

ص -367-

 وجودها في الأزل‏.‏ فإنها لو لم توجد لكانت ممتنعة، إذ ليس في الأزل شيء سوي نفسه يوجب وجودها‏.‏ فإذا كانت ممكنة والمقتضي التام لها نفسه لزم وجوبها في الأزل‏.‏
وهذا مما يدل على أنه لم يزل حيًا، عليمًا، قديرًا، مريدًا، متكلمًا فاعلًا؛ إذ لا مقتضي لهذه الأشياء إلا ذاته، وذاته وحدها كافية في ذلك‏.‏ فيلزم قدم النوع، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، لكن أفراد النوع تحصل شيئًا بعد شيء بحسب الإمكان والحكمة‏.‏
ولهذا قد بين في مواضع أنه ليس في نفس الأمر ممكن يستوي طرفًا وجوده وعدمه، بل إما أن يحصل المقتضي لوجوده فيجب، أو لا يحصل فيمتنع‏.‏ فما اتصف به الرب، فاتصافه به واجب‏.‏ وما لم يتصف به،فاتصافه به ممتنع‏.‏ وما شاء،كان ووجب وجوده‏.‏ وما لم يشأ، لم يكن وامتنع وجوده‏.‏ فالممكن مع مرجحه التام واجب وبدونه ممتنع‏.‏
ففي قوله تعالى‏:‏
‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1 4‏]‏، دلالة على ثبوت صفات الكمال له، وأنه لم يزل متصفًا بها‏.‏
وأقوال السلف في ذلك كثيرة‏.‏ وبهذا فسروا قوله‏:‏
‏{وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏،

 

ص -368-

نحوه،كما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم من عدة طرق لما قيل له‏:‏ قوله‏:‏ ‏{وَكَانَ اللّهُ‏.‏‏.‏‏}‏، كأنه كان شيء ثم مضى‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ هو سمى نفسه بذلك ولم يزل كذلك‏.‏
هذا لفظ ابن أبي حاتم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ كذلك كان ولم يزل‏.‏
ومن رواية عمرو بن أبي قيس، عن مُطرَّف، عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ أتاه رجل فقال‏:‏ سمعت الله يقول‏:‏
‏{وَكَانَ اللّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، كأنه شيء كان‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏{كَانَ‏}‏، فإنه لم يزل ولا يزال، و ‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏‏.‏
ومن رواية عبد الرحمن بن مَغْراء عن مُجَمّع بن يحيي، عن عمه، عن ابن عباس‏.‏ قال، قال يهودي‏:‏ إنكم تزعمون أن الله كان عزيزًا حكيمًا، فكيف هو اليوم‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ إنه كان في نفسه عزيزًا حكيمًا‏.‏
وهذه أقوال ابن عباس تبين أنه لم يزل متصفًا بخبر ‏[‏كان‏]‏، ولا

 

ص -369-

يزال كذلك، وأن ذلك حصل له من نفسه‏.‏ فلم يزل متصفًا في نفسه إذا كان من لوازم نفسه، ولهذا لا يزال لأنه من نفسه‏.‏
وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لم يزل الله عالمًا، متكلمًا، غفورًا‏.‏ وقال أيضًا ‏:‏ لم يزل الله متكلمًا إذا شاء‏.‏
فصل
وكما أنه أول آية نزلت من القرآن تدل على ذلك، فأعظم آية في القرآن تدل على ذلك، لكن مبسوطًا دلالة أتم من هذا‏.‏
وهي آية الكرسي، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب‏:‏ ‏
"‏يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ ‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 552‏]‏،فقال‏:‏ ‏"‏لِيَهْنِكَ العلم، أبا المنذر‏!‏‏"‏‏.‏
وهنا افتتحها بقوله‏:‏ ‏{اللّهُ‏}‏، وهو أعظم من قوله‏:‏ ‏{ربك‏}‏ ولهذا افتتح به أعظم سورة في القرآن فقال‏:‏‏{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

 

ص -370-

 وقال‏:‏‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏، إذا كان المشركون قد اتخذوا إلهًا غيره وإن قالوا بأنه الخالق‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{خَلَقَ‏}‏ لم يذكر نفي خالق آخر إذ كان ذلك معلومًا‏.‏ فلم يثبت أحد من الناس خالقًا آخر مطلقًا خلق كل شيء وخلق الإنسان وغيره، بخلاف الإلهية‏.‏
قال تعالى‏:‏
‏{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 68‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏‏.‏
فابتغوا معه آلهة أخري، ولم يثبتوا معه خالقًا آخر‏.‏
فقال في أعظم الآيات‏:‏
‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏‏.‏ ذكره في ثلاثة مواضع من القرآن، كل موضع فيه أحد أصول الدين الثلاثة؛ وهي التوحيد، والرسل، والآخرة‏.‏
هذه التي بعث بها جميع المرسلين، وأخبر عن المشركين أنهم يكفرون بها في مثل قوله‏:‏ ‏
{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏150‏]‏‏.‏

 

ص -371-

 فقال هنا‏:‏ ‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏، قرنها بأنه لا إله إلا هو‏.‏
وزاد في آل عمران‏:‏
‏{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3، 4‏]‏، وهذا إيمان بالكتب والرسل‏.‏
وقال في طه‏:‏ ‏{
يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 109 111‏]‏‏.‏
فصل
ومن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه من الصفات الفعلية، كقوله في هذه السورة‏:‏
‏{الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1، 2‏]‏، و ‏[‏الخلق‏]‏ مذكور في مواضع كثيرة، وكذلك غيره من الأفعال‏.‏ وهو نوعان‏:‏
فعل متعدإلى مفعول به‏.‏ مثل ‏[‏خلق‏]‏، فإنه يقتضي مخلوقًا، وكذلك ‏[‏رزق‏]‏، كقوله‏:‏ ‏
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏،

 

ص -372-

وكذلك الهدي، والإضلال، والتعليم والبعث، والإرسال والتكليم‏.‏
وكذلك ما أخبر به من قوله‏:‏
‏{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏، ‏{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏، وقوله في الآية الأخري‏:‏ ‏{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏ وهذا في القرآن كثير جدًا‏.‏
والأفعال اللازمة، كقوله‏:‏
‏{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏
فأما النوع الأول‏:‏ فالمسلمون متفقون على إضافتهإلى الله، وأنه هو الذي يخلق ويرزق، ليس ذلك صفة لشيء من مخلوقاته‏.‏
لكن هل قام به فعل هو الخلق، أو الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق‏؟‏ وهذا فيه قولان لمن يثبت اتصافه بالصفات‏.‏ فأما

 

ص -373-

 من ينفي الصفات من الجهمية والمعتزلة، فهم ينفون قيام الفعل به بطريق الأولي‏.‏
لكن منهم من يجعل الخلق غير المخلوق، ويجعل الخلق إما معني قام بالمخلوق، أو المعاني المتسلسلة، كما يقوله مُعَمَّر بن عباد، أو يجعل الخلق قائمًا لا في محل، كقول بعضهم‏:‏ إنه قول‏:‏ ‏[‏كن‏]‏ لا في محل‏.‏ وقول البصريين‏:‏ إنه إرادة لا في محل‏.‏ وهذا فرار منهم عن قيام الحوادث به، مع أن منهم من يلتزم ذلك، كما التزمه أبو الحسين وغيره‏.‏
والجمهور المثبتون للصفات هم في الأفعال على قولين‏:‏
منهم من يقول‏:‏ لا يقوم به فعل، وإنما الفعل هو المفعول‏.‏ وهذا قول طائفة منهم الأشعري ومن وافقه من أصحابه وغير أصحابه، كابن عقيل وغيره، وهو أول قولي القاضي أبي يعلي‏.‏
وهؤلاء يقسمون الصفاتإلى ذاتية، ومعنوية، وفعلية‏.‏ وهذا تقسيم لا حقيقة له‏.‏ فإن الأفعال عندهم لا تقوم به فلا يتصف بها، لكن يخبر عنه بها‏.‏
وهذا التقسيم يناسب قول من قال‏:‏ الصفات هي الأخبار التي

 

ص -374-

 يخبر بها عنه، لا معاني تقوم به، كما تقول ذلك الجهمية والمعتزلة‏.‏ فهؤلاء إذا قالوا‏:‏ الصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، أرادوا بذلك ما يخبر به عنه من الكلام تارة يكون خبرًا عن ذاته، وتارة عن المخلوقات ليس عندهم صفات تقوم به‏.‏ فمن فسر الصفات بهذا أمكنه أن يجعلها ثلاثة أقسام؛ ذاتية ومعنوية وفعلية‏.‏
وأما من كان مراده بالصفات ما يقوم به؛ فهذا التقسيم لا يصلح على أصلهم، ولكن أخذوا التقسيم عن أولئك وهم مخالفون لهم في المراد بالصفات‏.‏
وهذا التقسيم موجود في كلام أبي الحسن ومن وافقه، كالقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، والباجي وغيرهم‏.‏
والقول الثاني‏:‏ إنه تقوم به الأفعال‏.‏ وهذا قول السلف وجمهور مثبتة الصفات‏.‏
ذكر البخاري في كتاب ‏[‏خلق أفعال العباد‏]‏‏:‏ أن هذا إجماع العلماء، خالق، وخلق، ومخلوق‏.‏ وذكره البغوي قول أهل السنة، وذكره أبو نصر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب ‏[‏التعرف بمذاهب التصوف‏]‏، أنه قول الصوفية‏.‏ وهو قول الحنفية مشهور عندهم يسمونه

 

ص -375-

 ‏[‏التكوين‏]‏‏.‏ وهو قول الكَرَّامِية، والهشامية، ونحوهما وهو قول القدماء من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ وهو آخر قولي القاضي أبي يعلي‏.‏
ثم إذا قيل‏:‏ الخلق غير المخلوق، وإنه قائم بالرب، فهل هو خلق قديم لازم لذات الرب مع حدوث المخلوقات، كما يقوله أصحاب أبي حنيفة وغيرهم‏؟‏ أو هم خلق حادث بذاته حدث لما حدث جنس المخلوقات‏؟‏ أم خلق بعد خلق‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏
وهذا أو هذا هو الذي عليه أئمة السنة والحديث وجمهورهم‏.‏ وهو قول طوائف من أهل الكلام من الكرامية والهشامية، وغيرهم‏.‏
فمن قال‏:‏ ‏[‏إنه يتكلم بمشيئته واختياره كلامًا يقوم بذاته، يمكنه أن يقول‏:‏ إنه يفعل باختياره ومشيئته فعلًا يقوم بذاته‏]‏‏.‏
والذين يقولون بقيام الأمور الاختيارية بذاته، منهم من يصحح دليل الأعراض والاستدلال به على حدوث الأجسام، كالكرامية، ومتأخري الحنفية، والمالكية، والحنبلية، والشافعية‏.‏ ومنهم من لا يصححه، كأئمة السلف، وأئمة السنة والحديث، وأحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهم‏.‏

 

ص -376-

 وهذه المسألة يعبر عنها ب ‏[‏مسألة التأثير‏]‏ هل هو أمر وجودي أم لا‏؟‏ وهل التأثير زائد على المؤثر والأثر أم لا‏؟‏ وكلام الرازي في ذلك مختلف، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع‏.‏
وعمدة الذين قالوا‏:‏ إن الخلق هو المخلوق، والتأثير هو وجود الأثر، لم يثبتوا زائدًا أن قالوا‏:‏ لو كان الخلق والتأثير زائدًا على ذات المخلوق والأثر، لكان إما أن يقوم بمحل أو لا، والثاني باطل، فإن المعاني لا تقوم بأنفسها‏.‏ وهذا رد على طائفة من المعتزلة قالوا‏:‏ يقوم بنفسه‏.‏
قالوا‏:‏ وإذا قام بمحل، فإما أن يقوم بالخالق أو بغيره، والثاني باطل، لأنه لو قام بغيره، لكان ذلك الغير هو الخالق، لا هو‏.‏ وهذا رد على طائفة ثانية يقولون‏:‏ إنه يقوم بالمخلوق‏.‏
وإذا قام بالخالق، فإما أن يكون قديمًا أو محدثًا، ولو كان قديمًا، للزم قدم المخلوق، فإن الخلق والمخلوق متلازمان‏.‏فوجود خلق بلا مخلوق ممتنع، وكذلك وجود تأثير بلا أثر‏.‏
وإن كان محدثًا، فهو باطل لوجهين؛ أحدهما‏:‏ أنه يلزم قيام الحوادث به‏.‏ والثاني‏:‏ أن ذلك الخلق الحادث يفتقرإلى خلق آخر ويلزم التسلسل‏.‏ ومعمر بن عباد التزم التسلسل، وجعل للخلق خلقًا، وللخلق خلقًا،

 

ص -377-

 لكن لا في ذات الله، وجعل ذلك في وقت واحد‏.‏
فهذه عمدة هؤلاء‏.‏ وكل طائفة تخالفهم، منعت مقدمة من مقدمات دليلهم‏.‏
فمن جوَّز أن يقوم بنفسه، أو بالمخلوق، منع تينك المقدمتين‏.‏ وأما الجمهور فكل أجاب بحسب قوله‏.‏
منهم من قال‏:‏ بل الخلق والتكوين قديم، كما أن الإرادة عندكم قديمة‏.‏ ومع القول بقدمها لم يلزم تقدم المراد، كذلك الخلق والتكوين قديم، ولا يلزم تقدم المخلوق‏.‏ وهذا لازم للكلابية من الأشعرية وغيرهم لا جواب لهم عنه‏.‏
لكن لا يلزم من نفي قدم إرادة معينة، بل نفي قدم الإرادة، كما يقوله الجهمية والمعتزلة‏.‏ أو يقول بقدم نوع الإرادة، كما يقوله أئمة أهل الحديث ومن وافقهم من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم‏.‏
لكن صاحب هذا القول يقال له‏:‏ التكوين القديم إما أن يكون بمشيئته، وإما ألا يكون بمشيئته‏.‏ فإن كان بغير مشيئته لزم أن يكون قد خلق الخلق بلا مشيئته‏.‏ وإن كان بمشيئته، لزم أن يكون القديم مرادًا‏.‏ وهذا باطل‏.‏ ولو صح لأمكن كون العالم قديمًا مع كونه مخلوقًا

 

ص -378-

 بخلق قديم بإرادة قديمة‏.‏ ومعلوم أن هذا باطل‏.‏ ولهذا كان كل من قال‏:‏ ‏[‏القرآن قديم‏]‏، يقولون‏:‏ تكلم بغير مشيئته وقدرته‏.‏
فالمفعول المراد لا يكون إلا حادثًا، وكذلك الفعل المراد لا يكون إلا حادثًا‏.‏
وأيضًا، فهؤلاء المنازعون لهم يقولون‏:‏ الإرادة مستلزمة للمراد، والخلق مستلزم للمخلوق‏.‏ وما ذكر حجة على هؤلاء، وهؤلاء‏.‏ فإن الإرادة والخلق من الأمور الإضافية، وثبوت إرادة بلا مراد وخلق بلا مخلوق ممتنع‏.‏ لكن المنازع يقول‏:‏ توجد الإرادة والخلق، ويتأخر المراد المخلوق‏.‏
فيقال لهؤلاء‏:‏ تقولون‏:‏ توجد الإرادة،أو الخلق مع الإرادة، ولا يوجد لا المراد ولا المخلوق‏.‏ ثم بعد ذلك بما لا يتناهي من تقدير الأوقات يوجد المراد المخلوق من غير سبب‏.‏ وهذا معلوم البطلان في بداية العقول‏.‏ فإن الإرادة أو الخلق كان موجودًا مع القدرة‏.‏ فإن كان هذا مؤثرًا تامًا استلزم وجود الأثر، ولزم وجود الأثر عند وجود المؤثر التام‏.‏
فإن الأثر ‏[‏ممكن‏]‏، والممكن يجب وجوده عند وجود المرجح

 

ص -379-

 التام، إذ لو لم يكن كذلك، كان جائزًا بعد وجود المرجح يقبل الوجود والعدم، وحينئذ، فيفتقرإلى مرجح‏.‏ وهذا يستلزم التسلسل‏.‏ ولا ينقطع التسلسل إلا إذا وجد المرجح التام الموجب‏.‏
وهنا تنازع الناس،فقالت طائفة مثل محمد بن الهيصم الكرامي ومحمود الخوارزمي ‏:‏ يكون الممكن أولي بالوقوع لكن لا ينتهيإلى حد الوجوب‏.‏
وقال أكثر المعتزلة والأشعرية‏:‏ بل لا يصير أولي ولكن القادر، أو القادر المريد، يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح‏.‏
وآخرون عرفوا أن هذا لازم فاعترفوا بأنه عند وجود المرجح التام، يجب وجود الأثر، وعند الداعي التام مع القدرة، يجب وجود الفعل، كما اعترف بذلك أبو الحسين البصري، والرازي، والطوسي وغيرهم‏.‏ وكثير من قدماء المتكلمين يقولون بالإرادة الموجبة، وأن الإرادة تستلزم وجود المراد‏.‏
والمتفلسفة أوردوا هذا على المتكلمين، لكن بأن الأثر يقارن وجود التأثير فيكون معه بالزمن‏.‏
وكثير من الناس لا يعرف إلا هذا القول، وذاك القول

 

ص -380-

 كالرازي وغيره، فيبقون حياري في هذا الأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين والكلام‏.‏
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير موضع، وبينا أن قولًا ثالثًا هو الصواب الذي عليه أئمة العلم‏.‏وهو أن التأثير التام، يستلزم وجود الأثر عقبه ؛ لا معه في الزمان،ولا متراخيًا عنه‏.‏
فمن قال بالتراخي من أهل الكلام فقد غلط، ومن قال بالاقتران كالمتفلسفة فهم أعظم غلطًا‏.‏ ويلزم قولهم من المحالات ما قد بيناه في مواضع‏.‏
وأما هذا القول فعليه يدل السمع والعقل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏
‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، والعقلاء يقولون‏:‏ ‏[‏قطعته فانقطع، وكسرته فانكسر‏]‏، و‏[‏طلق المرأة فطلقت، وأعتق العبد فعتق‏]‏‏.‏ فالعتق والطلاق يقعان عقب الإعتاق والتطليق لا يتراخي الأثر، ولا يقارن‏.‏ وكذلك الانكسار والانقطاع مع القطع والكسر‏.‏
وهذا مما يبين أنه إذا وجد الخلق، لزم وجود المخلوق عقبه، كما يقال‏:‏ كون الله الشيء فَتَكَوَّنَ‏.‏ فَتَكَوَّنه عقب تكوين الله لا مع التكوين، ولا متراخيا‏.‏

 

ص -381-

 وكذلك الإرادة التامة مع القدرة تستلزم وجود المراد المقدور‏.‏
فهو يريد أن يخلق، فيوجد الخلق بإرادته وقدرته‏.‏ ثم الخلق يستلزم وجود المخلوق، وإن كان ذلك الخلق حادثًا بسبب آخر يكون هذا عقبه‏.‏ فإنما في ذلك وجود الأثر عقب المؤثر التام، والتسلسل في الآثار‏.‏ وكلاهما حق، والله أعلم‏.‏
وأما المخلوق، فلا يكون إلا بائنًا عنه لا يقوم به مخلوق‏.‏
بل نفس الإرادة مع القدرة تقتضي وجود الخلق، كما تقتضي وجود الكلام‏.‏
ولا يفتقر الخلقإلى خلق آخر، بل يفتقرإلى ما به يحصل وهو الإرادة المتقدمة وإذا خلق شيئًا أراد خلق شيء آخر‏.‏ وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏
ومن قال‏:‏ إن الخلق حادث كالهشامية والكرامية قال‏:‏ نحن نقول بقيام الحوادث‏.‏
ولا دليل على بطلان ذلك‏.‏ بل العقل والنقل، والكتاب والسنة وإجماع السلف، يدل على تحقيق ذلك، كما قد بسط في موضعه‏.‏

 

ص -382-

 ولا يمكن القول بأن الله يدبر هذا العالم إلا بذلك، كما اعترف بذلك أقرب الفلاسفةإلى الحق، كأبي البركات صاحب ‏[‏المعتبر‏]‏ وغيره‏.‏
وأما قولهم‏:‏ يلزم أن للخلق خلقًا آخر، فقد أجابهم من يلتزم ذلك كالكرامية وغيرهم بأنكم تقولون‏:‏ إن المخلوقات المنفصلة تحدث بلا حدوث سبب أصلًا‏.‏ وحينئذ، فالقول بحدوث الخلق الذي تحصل به المخلوقات بلا حدوث، سبب أقربإلى العقل والنقل‏.‏
وهذا جواب لازم على هذا التقدير تقدير قيام الأمور الاختيارية‏.‏
والكرامية يسمون ما قام به ‏[‏حادثًا‏]‏، ولا يسمونه ‏[‏مُحْدَثًا‏]‏، كالكلام الذي يتكلم به القرآن، أو غيره يقولون‏:‏ هو حادث، ويمنعون أن يقال‏:‏ هو محدث؛ لأن ‏[‏الحادث‏]‏ يحدث بقدرته ومشيئته ك ‏[‏الفعل‏]‏‏.‏ وأما ‏[‏المحدث‏]‏ فيفتقرإلى إحداث، فيلزم أن يقوم بذاته إحداث غير المحدث، وذلك الإحداث يفتقرإلى إحداث، فيلزم التسلسل‏.‏
وأما غير الكرامية من أئمة الحديث والسنة والكلام، فيسمون ذلك ‏[‏محدثًا‏]‏، كما قال‏:‏
‏{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2‏]‏،

 

ص -383-

 وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة‏"‏‏.‏ والذي أحدثه هو النهي عن تكلمهم في الصلاة‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏[‏إن المحدث يفتقر إلى إحداث، وهلم جرًا‏]‏، هذا يستلزم التسلسل في الآثار، مثل كونه متكلمًا بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهاية لها، وأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء‏.‏ وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل‏.‏
وكذلك أفعاله، فإن الفعل والكلام صفة كمال‏.‏ فإن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يخلق أكمل ممن لا يخلق‏.‏ قال تعالى‏:
‏ ‏{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وحينئذ، فهو مازال متصفًا بصفات الكمال‏.‏ منعوتًا بنعوت الإكرام والجلال‏.‏
وبهذا تزول أنواع الإشكال، ويعلم أن ما أخبرت به الرسل عن الله من أصدق الأقوال، وأن دلائل العقول لا تدل إلا على ما يوافق أخبار الرسول‏.‏
ولكن، نشأ الغلط من جهل كثير من الناس بما أخبر به الرسول

 

ص -384-

 وسلوكهم أدلة برأيهم ظنوها عقلية وهي جهلية‏.‏ فغلطوا في الدلائل السمعية والعقلية، فاختلفوا‏.‏ ‏{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 176‏]‏‏.‏
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع في مسألة الكلام والأفعال وذكر ما تيسر من كلام السلف والأئمة في هذ الأصل‏.‏ والمقصود هنا التنبيه على مآخذ الأقوال‏.‏
وهذا الموضع مما بينه أئمة السنة كالإمام أحمد وغيره‏.‏ فتكلم في ‏[‏الرد على الجهمية ‏]‏ على قوله‏:‏
‏{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، وبين أن ‏[‏الجعل‏]‏ من الله قد يكون ‏[‏خلقًا‏]‏ كقوله‏:‏ ‏{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏، وقد يكون ‏[‏فعلًا ليس بخلق‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏، من هذا الباب‏.‏
وذلك أن الخلق ونحوه من الأفعال التي ليست خلقًا، مثل تكلمه بالقرآن وغيره، وتكلمه لموسي وغيره، ومثل النزول، والإتيان والمجيء، ونحو ذلك فهذه إنما تكون بقدرته ومشيئته، وبأفعال أُخر تقوم بذاته ليست خلقًا‏.‏
وبهذا يجيب البخاري وغيره من أئمة السنة للكرامية إذا قالوا‏:‏ ‏[‏المحدث لابد له من إحداث‏؟‏‏]‏، فيقول‏:‏ ‏[‏نعم، وذلك الإحداث

 

ص -385-

 

 

ص -386-

عن أحمد بن حنبل، عن الأشجعي، عن سفيان الثوري في قوله‏:‏ ‏{جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏‏:‏ بيناه قرآنًا عربيًا‏.‏
والإنسان يفرق بين تكلمه وتحركه في نفسه، وبين تحريكه لغيره‏.‏ وقد احتج سفيان بن عيينة وغيره من السلف على أنه غير مخلوق بأن الله خلق الأشياء ب‏[‏كن‏]‏‏.‏ فلو كانت ‏[‏كن‏]‏ مخلوقة لزم أن يكون خلق مخلوقًا بمخلوق، فيلزم التسلسل الباطل‏.‏
وذلك أنه إذا لم يخلق إلا ب ‏[‏كن‏]‏، فلو كانت ‏[‏كن‏]‏ مخلوقة، لزم ألا يخلق شيئًا‏.‏ وهو الدور الممتنع‏.‏ فإنه لا يخلق شيئًا حتي يقول‏:‏ ‏[‏كن‏]‏، ولا يقول‏:‏ ‏[‏كن‏]‏ حتي يخلقها، فلا يخلق شيئًا‏.‏ وهذا تسلسل في أصل التأثير والفعل، مثل أن يقال‏:‏ لا يفعل حتي يفعل، فيلزم ألا يفعل؛ ولا يخلق حتي يخلق، فيلزم ألا يخلق‏.‏
وأما إذا قيل‏:‏ قال‏:‏ ‏[‏كن‏]‏، وقبل ‏[‏كن‏]‏ ‏[‏كن‏]‏، وقبل ‏[‏كن‏]‏ ‏[‏كن‏]‏، فهذا ليس بممتنع‏.‏ فإن هذا التسلسل في آحاد التأثير، لا في جنسه‏.‏ كما أنه في المستقبل يقول‏:‏ ‏[‏كن‏]‏ بعد ‏[‏كن‏]‏، ويخلق شيئًا بعد شيء إلى غير نهاية‏.‏
فالمخلوقات التامة يخلقها بخلقه، وخلقه فعله القائم به، وذلك إنما يكون بقدرته ومشيئته‏.‏

ص -387-

وإذا قيل‏:‏ هذا الفعل القائم به يفتقرإلى فعل آخر يكون هو المؤثر في وجوده غير القدرة والإرادة فإنه لو كان مجرد ذلك كافيا كفي في وجود المخلوق فلما كان لابد له من خلق، فهذا الخلق أمر حادث بعد أن لم يكن، وهو فعل قائم به‏.‏ فالمؤثر التام فيه يكون مستلزمًا له مستعقبًا له، كالمؤثر التام في وجود الكلام الحادث بذاته‏.‏
والمتكلم من الناس إذا تكلم، فوجود الكلام لفظه ومعناه مسبوق بفعل آخر‏.‏ فلابد من حركة تستعقب وجود الحروف التي هي الكلام‏.‏ فتلك الحركة هي التي تجعل الكلام عربيًا أو عجميا، وهو فعل يقوم بالفاعل‏.‏ وذلك الجعل الحادث حدث بمؤثر تام قبله أيضًا‏.‏
وذات الرب هي المقتضية لذلك كله، فهي تقتضي الثاني بشرط انقضاء الأول، لا معه‏.‏ واقتضاؤها للثاني فعل يقوم بها بعد الأول‏.‏ وهي مقتضية لهذا التأثير وهذا التأثير‏.‏
ثم هذا التأثير وكل تأثير هو مسبب عما قبله، وشرط لما بعده‏.‏ وليس في ذلك شيء مخلوق وإن كانت ‏[‏حادثة‏]‏‏.‏
وإن قال قائل‏:‏ أنا أسمِّي هذا ‏[‏خلقًا‏]‏، كان نزاعه لفظيا، وقيل له‏:‏ الذين قالوا‏:‏ ‏[‏القرآن مخلوق‏]‏، لم يكن مرادهم هذا، ولا رد السلف والأئمة هذا‏.‏ إنما ردوا قول من جعله مخلوقًا بائنًا عن الله، كما قال

ص -388-

 الإمام أحمد‏:‏ كلام الله من الله ليس بائنًا عنه‏.‏
وقالوا‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ‏.‏
قال أحمد‏:‏ منه بدأ هو المتكلم به لم يبدأ من مخلوق، كما قال من قال‏:‏ إنه مخلوق، قال تعالى‏:‏
‏{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏‏.‏
ولهذا لا يقول أحد‏:‏ إنه خلق نزوله، واستواءه، ومجيئه‏.‏ وكذلك تكليمه لموسي، ونداؤه له ناداه وكلمه بمشيئته وقدرته‏.‏ والتكليم فعل قام بذاته، وليس هو الخلق، كما أن الإنسان إذا تكلم، فقد فعل كلامًا وأحدث كلامًا، ولكن في نفسه، لا مباينًا له‏.‏
ولهذا كان الكلام صفة فعل، وهو صفة ذات أيضًا على مذهب السلف والأئمة‏.‏
ومن قال‏:‏ إنه مخلوق يقول‏:‏ إنه صفة فعل، ويجعل الفعل بائنًا عنه، والكلام بائنًا عنه‏.‏ ومن قال‏:‏صفة ذات يقول‏:‏ إنه يتكلم بلا مشيئته وقدرته‏.‏
ومذهب السلف‏:‏ أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه قائم به‏.‏ فهو صفة

 

ص -389-

 ذات وصفة فعل‏.‏ ولكن الفعل هنا ليس هو الخلق، بل كما قال الإمام أحمد‏:‏ الجعل جعلان؛ جعل هو خلق، وجعل ليس بخلق‏.‏
وهذا كله يستلزم قيام الأفعال بذاته، وأنها تنقسمإلى قسمين‏:‏ أفعال متعدية كالخلق، وأفعال لازمة كالتكلم والنزول‏.‏ والسلف يثبتون النوعين هذا وغيره‏.‏
وأما جعل القرآن عربيا وإن كان متعديا في صناعة العربية بمعني أنه نصب مفعولًا ففي ‏[‏الكلام‏]‏ الفعل الذي هو ‏[‏التكلم‏]‏ متصلًا بالمفعول الذي هو ‏[‏الكلام‏]‏ كلاهما قائم بالمتكلم‏.‏
ولهذا قد يراد بالمفعول المصدر‏.‏ إذا قلت‏:‏ ‏[‏قال قولًا حسنًا‏]‏‏.‏ فقد يراد ب ‏[‏القول‏]‏ المصدر فقط، وقد يراد به ‏[‏الكلام‏]‏ فقط فيكون المفعول، وقد يراد به المجموع فيكون مفعولًا به ومصدرًا‏.‏
وكذلك ‏[‏القرآن‏]‏ هو في الأصل ‏[‏قرأ قرآنًا‏]‏، وهو الفعل والحركة، ثم سمي الكلام المقروء ‏[‏قرآنًا‏]‏‏.‏ قال تعالى في الأول‏:‏ ‏
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 17، 18‏]‏، وقال في الثاني‏:‏ ‏{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن التلاوة والقراءة في

 

ص -390-

 الأصل مصدر ‏[‏تلا تلاوة، وقرأ قراءة، كالقرآن‏]‏، لكن يسمي به الكلام كما يسمي بالقرآن‏.‏ وحينئذ، فتكون القراءة هي المقروء، والتلاوة هي المتلو‏.‏
وقد يراد بالتلاوة، والقراءة‏:‏ المصدر الذي هو الفعل، فلا تكون القراءة والتلاوة هي المقروء المتلو، بل تكون مستلزمة له‏.‏
وقد يراد بالتلاوة والقراءة مجموع الأمرين، فلا تكون هي المتلو؛ لأن فيها الفعل، ولا تكون مباينة مغايرة للمتلو؛ لأن المتلو جزؤها‏.‏
هذا، إذا أريد بالقراءة والمقروء شيء واحد معين، مثل قراءة الرب ومقروءه، أو قراءة العبد ومقروءه‏.‏ وأما إذا أريد بالقراءة قراءة العبد وهي حركته، وبالمقروء صفة الرب، فلا ريب أن حركة العبد ليست صفة الرب‏.‏
ولكن هذا تكلف‏.‏ بل قراءة العبد مقروءه كمقروئه‏.‏ وقراءته للقرآن إذا عني بها نفس القرآن، فهي مقروءه‏.‏ وإن عني بها حركته، فليست مقروءه‏.‏ وإن عني بها الأمران فلا يطلق أحدهما‏.‏
ولهذا كان من المنتسبين إلى السنة من يقول‏:‏ القراءة هي المقروء‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ القراءة غير المقروء‏.‏ ومنهم من لا يطلق واحدًا

 

ص -391-

 منهما‏.‏ ولكل قول وجه من الصواب عند التصور التام والإنصاف‏.‏ وليس فيها قول يحيط بالصواب، بل كل قول فيه صواب من وجه وقد يكون خطأ من وجه آخر‏.‏
والبخاري إنما يثبت خلق أفعال العباد حركاتهم وأصواتهم‏.‏ وهذه القراءة هي فعل العبد يؤمر به وينهي عنه‏.‏ وأما الكلام نفسه، فهو كلام الله‏.‏ ولم يقل البخاري‏:‏ إن لفظ العبد مخلوق ولا غير مخلوق كما نهي أحمد عن هذا وهذا‏.‏
والذي قال البخاري إنه مخلوق من أفعال العباد وصفاتهم، لم يقل أحمد ولا غيره من السلف إنه غير مخلوق، وإن سكتوا عنه؛ لظهور أمره، ولكونهم كانوا يقصدون الرد على الجهمية‏.‏
والذي قال أحمد إنه غير مخلوق هو كلام الله لا صفة العباد لم يقل البخاري إنه مخلوق‏.‏
ولكن أحمد كان مقصوده الرد على من يجعل كلام الله مخلوقًا إذا بلغ عن الله، والبخاري كان مقصوده الرد على من يقول‏:‏ أفعال العباد وأصواتهم غير مخلوقة‏.‏
وكلا القصدين صحيح لا منافاة بينهما‏.‏ وقد بين ذلك ابن قتيبة في

 

ص -392-

 مسألة اللفظ، ولكن المنحرفونإلى أحد الطرفين ينكرون على الآخر‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏
فصل
وأما الأفعال اللازمة كالاستواء والمجيء فالناس متنازعون في نفس إثباتها؛ لأن هذه ليس فيها مفعول موجود يعلمونه حتي يستدلوا بثبوت المخلوق على الخلق، وإنما عرفت بالخبر‏.‏ فالأصل فيها الخبر، لا العقل‏.‏
ولهذا كان الذين ينفون الصفات الخبرية ينفونها ممن يقول‏:‏ ‏[‏الخلق غير المخلوق‏]‏‏.‏ وممن يقول‏:‏ ‏[‏الخلق هو المخلوق‏]‏ ومن يثبت الصفات الخبرية من الطائفتين يثبتها‏.‏
والذين أثبتوا الصفات الخبرية لهم في هذه قولان‏:‏
منهم من يجعلها من جنس الفعل المتعدي بجعلها أمورًا حادثة في غيرها‏.‏ وهذا قول الأشعري، وأئمة أصحابه ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلي، وابن الزاغوني، وابن عقيل في كثير من أقواله‏.‏
فالأشعري يقول‏:‏ الاستواء فعل فعله في العرش،فصار به

 

ص -393-

 مستويا على العرش‏.‏ وكذلك يقول في الإتيان، والنزول‏.‏ ويقول‏:‏ هذه الأفعال ليست من خصائص الأجسام، بل توصف بها الأجسام والأعراض،فيقال‏:‏ ‏[‏جاءت الحمى، وجاء البرد، وجاء الحر‏]‏‏.‏ ونحو ذلك‏.‏
وهذا أيضًا قول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما‏.‏
وحملوا ما روي عن السلف، كالأوزاعي وغيره، أنهم قالوا في النزول‏:‏ يفعل الله فوق العرش بذاته، كما حكاه القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر، وكما حكوه عن الأشعري وغيره، كما ذكر في غير موضع من كتبه‏.‏
ولكن عندهم هذا من الصفات الخبرية‏.‏ وهذا قول البيهقي وطائفة وهو أول قولي القاضي أبي يعلي‏.‏
وكل من قال‏:‏ إن الرب لا تقوم به الصفات الاختيارية، فإنه ينفي أن يقوم به فعل شاءه سواء كان لازمًا أو متعديًا‏.‏ لكن من أثبت من هؤلاء فعلًا قديمًا كمن يقول بالتكوين‏.‏ وبهذا فإنه يقول‏:‏ ذلك القديم قام به بغير مشيئته، كما يقولون في إرادته القديمة‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أنها كما دلت عليه أفعال تقوم بذاته بمشيئته

 

ص -394-

 واختياره، كما قالوا مثل ذلك في الأفعال المتعدية‏.‏ وهذا قول أئمة السنة، والحديث، والفقه، والتصوف، وكثير من أصناف أهل الكلام، كما تقدم‏.‏
وعلي هذا، ينبني نزاعهم في تفسير قوله‏:‏
‏{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
فمن نفي هذه الأفعال يتأول إتيانه بإتيان أمره أو بأسه، والاستواء على العرش بجعله القدرة والاستيلاء، أو بجعله علو القدر‏.‏
فإن الاستواء للناس فيه قولان‏:‏ هل هو من صفات الفعل أو الذات‏؟‏ على قولين‏:‏
والقائلون بأنه صفة ذات، يتأولونه بأنه قدر على العرش‏.‏ وهو مازال قادرًا، ومازال عالي القدر؛ فلهذا ظهر ضعف هذا القول من وجوه‏:‏
منها‏:‏ قوله‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ فأخبر أنه استوي بحرف ‏[‏ثم‏]‏‏.‏

 

ص -395-

 ومنها‏:‏ أنه عطف فعلًا على فعل، فقال‏:‏ خلق ثم استوى‏.‏
ومنها‏:‏ أن ما ذكروه لا فرق فيه بين العرش وغيره، وإذا قيل‏:‏ إن العرش أعظم المخلوقات، فهذا لا ينفي ثبوت ذلك لغيره، كما في قوله ‏:‏
‏{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 26‏]‏، لما ذكر ربوبيته للعرش لعظمته، والربوبية عامة، جاز أن يقال‏:‏ ‏[‏رب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم‏]‏، ويقال‏:‏ ‏{بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 47، 48‏]‏‏.‏
والاستواء مختص بالعرش باتفاق المسلمين مع أنه مستول مقتدر على كل شيء من السماء والأرض وما بينهما‏.‏ فلو كان استواؤه على العرش هو قدرته عليه، جاز أن يقال‏:‏ على السماء والأرض وما بينهما‏.‏
وهذا مما احتج به طوائف،منهم الأشعري‏.‏ قال‏:‏ في إجماع المسلمين على أن الاستواء مختص بالعرش دليل على فساد هذا القول‏.‏
وأيضًا، فإنه مازال مقتدرًا عليه من حين خلقه‏.‏
ومنها‏:‏ كون لفظ ‏[‏الاستواء‏]‏ في لغة العرب يقال على القدرة أو علو القدر ممنوع عندهم‏.‏ والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة وكلام العرب يمنع هذا، كما قد بسط في موضعه‏.‏
وتكلم على البيت الذي يحتجون به‏:‏

 

ص -396-

 ثم استوي بِشْرٌ على العراق

 من غير سيفٍ ودم مهراق

وأنه لو كان صحيحًا، لم يكن فيه حجة‏.‏ فإنهم لم يقولوا‏:‏ استوى عمر على العراق لما فتحها، ولا استوي عثمان على خراسان، ولا استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن‏.‏
وإنما قيل‏:‏ هذا البيت إن صح في بشر بن مروان لما دخل العراق واستوى على كرسي ملكها‏.‏ فقيل هذا كما يقال‏:‏ جلس على سرير الملك، أو تخت الملك، ويقال‏:‏ قعد على الملك، والمراد هذا‏.‏
وأيضًا، فالآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة وإجماع السلف يدل على أن الله فوق العرش، كما قد بسط في مواضع‏.‏
وأما الذين قالوا‏:‏ الاستواء صفة فعل، فهؤلاء لهم قولان هنا على ما تقدم ‏:‏ هل هو فعل بائن عنه لأن الفعل بمعني المفعول، أم فعل قائم به يحصل بمشيئته وقدرته ‏:‏
الأول‏:‏ قول ابن كُلاب، ومن اتبعه كالأشعري وغيره‏.‏ وهو قول القاضي، و ابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم‏.‏

ص -397-

 والثاني‏:‏ قول أئمة أهل الحديث والسنة، وكثير من طوائف الكلام، كما تقدم‏.‏
ولهذا صار للناس فيما ذكر الله في القرآن من الاستواء والمجيء ونحو ذلك ستة أقوال‏:‏
طائفة يقولون‏:‏ تجري على ظاهرها، ويجعلون إتيانه من جنس إتيان المخلوق، ونزوله من جنس نزولهم‏.‏ وهؤلاء المشبهة الممثلة، ومن هؤلاء من يقول‏:‏ إذا نزل خلا منه العرش، فلم يبق فوق العرش‏.‏
وطائفة يقولون‏:‏ بل النصوص على ظاهرها اللائق به، كما في سائر ما وصف به في نفسه، وهو ‏
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 11‏]‏، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله‏.‏ ويقولون‏:‏ نزل نزولًا يليق بجلاله، وكذلك يأتي إتيانًا يليق بجلاله‏.‏ وهو عندهم ينزل ويأتي ولم يزل عاليًا وهو فوق العرش، كما قال حماد بن زيد‏:‏ هو فوق العرش يقرب من خلقه كيف شاء‏.‏ وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ ينزل ولا يخلو منه العرش‏.‏ ونقل ذلك عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد‏.‏
وتفسير النزول بفعل يقوم بذاته هو قول علماء أهل الحديث ، وهو الذي حكاه أبو عمر ابن عبد البر عنهم، وهو قول عامة القدماء من أصحاب أحمد ، وقد صرح به ابن حامد وغيره‏.‏

 

ص -398-

 والأول نفي قيام الأمور الاختيارية ‏:‏ هو قول التميمي موافقة منه لابن كلاب، وهو قول القاضي أبي يعلى وأتباعه‏.‏
وطائفتان يقولان‏:‏ بل لا ينزل ولا يأتي، كما تقدم، ثم منهم من يتأول ذلك، ومنهم من يفوض معناه‏.‏
وطائفتان واقفتان، منهم من يقول‏:‏ ما ندري ما أراد اللّه بهذا‏.‏ ومنهم من لا يزيد على تلاوة القرآن‏.‏
وعامة المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف، يبطلون تأويل من تأول ذلك بما ينفي أن يكون هو المستوي الآتي، لكنْ كثير منهم يرد التأويل الباطل ويقول‏:‏ ما أعرف مراد اللّه بهذا‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ هذا مما نهي عن تفسيره، أو مما يكتم تفسيره‏.‏
ومنهم من يقرره كما جاءت به الأحاديث الصحيحة والآثار الكثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين‏.‏
قال أبو محمد البغوي الحسين بن مسعود الفرَّاء الملقب ب ‏[‏محيي السنة‏]‏ في تفسيره‏:‏ ‏
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏:‏ قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف‏:‏ أي ارتفع إلى السماء‏.‏ وقال الفراء، وابن كيسان ،

 

ص -399-

 وجماعة من النحويين‏:‏ أي أقبل على خلق السماء‏.‏ وقيل‏:‏ قصد‏.‏
وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي في تفسيره‏.‏ قال‏:‏ ‏
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏، أي ‏:‏ عمد إلى خلقها‏.‏
وكذلك هو يرجح قول من يفسر الإتيان بإتيان أمره، وقول من يتأول الاستواء‏.‏ وقد ذكر ذلك في كتب أخري، ووافق بعض أقوال ابن عقيل‏.‏ قال‏:‏ ابن عقيل له في هذا الباب أقوال مختلفة وتصانيف يختلف فيها رأيه واجتهاده‏.‏
وقال البغوي في تفسير قوله‏:‏
‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏‏:‏ قال الكَلْبي، ومقاتل‏:‏ استقر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ صعد‏.‏ وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء‏.‏
وأما أهل السنة فيقولون‏:‏ الاستواء على العرش صفة للّه بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم فيه إلى اللّه‏.‏ وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، كيف استوى‏؟‏ فأطرق مالك رأسه مليًا، وعلاه الرُّحَضاء ‏[‏هو‏:‏ العرق‏]‏، ثم قال‏:‏ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالا‏.‏ ثم أمر به فأخرج‏.‏

 

ص -400-

 

 قال‏:‏ روي عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبد اللّه بن المبارك، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة‏:‏ أمروها كما جاءت بلا كيف‏.‏
وقال في قوله‏:‏ ‏
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏:‏ الأولَي في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى اللّه، ويعتقد أن اللّه منزه عن سمات الحدث‏.‏ على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة‏.‏
قال الكَلْبي‏:‏ هذا من المكتوم الذي لا يفسر‏.‏
قلت‏:‏ وقد حكي عنه أنه قال في تفسير قوله‏:‏ ‏
{ثُمَّ اسْتَوَى‏}‏‏:‏ استقر‏.‏ ففسر ذاك، وجعل هذا من المكتوم الذي لا يفسر؛ لأن ذاك فيه وصفه بأنه فوق العرش، وهذا فيه إتيانه في ظلل من الغمام‏.‏
قال البغوي‏:‏ وكان مكحول ‏[‏هو أبو عبد الله مكحول بن أبي مسلم بن شاذل، الهذلي، فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث، ورحل في طلب الحديث إلى العراق فالمدينة وطاف كثيرًا واستقر في دمشق، وتوفي بها عام 211ه‏]‏ والزهري، والأوزاعي، ومالك، وعبد اللّه بن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، يقولون فيه وفي أمثاله‏:‏ أمروها كما جاءت بلا كيف‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ كل ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه؛ ليس لأحد أن يفسره إلا اللّه ورسوله‏.‏

 

ص -401-

 وهذه الآية أغمض من آية الاستواء؛ ولهذا كان أبو الفرج يميل إلى تأويل هذا وينكر قول من تأول الاستواء بالاستيلاء‏.‏
قال في تفسيره‏:‏ قال الخليل بن أحمد‏:‏ ‏[‏العرش‏]‏‏:‏ السرير، وكل سرير للملك يسمى ‏[‏عرشًا‏]‏ وقلما يجمع العرش إلا في الاضطرار‏.‏
قلت‏:‏ وقد روي ابن أبي حاتم عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ يسمي ‏[‏عرشًا‏]‏ لارتفاعه‏.‏ قلت‏:‏ والاشتقاق يشهد لهذا، كقوله‏:‏
‏{وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏، وقول سعد‏:‏ وهذا كافر بالعرش‏.‏ ومقعد الملك يكون أعلى من غيره‏.‏ فهذا بالنسبة إلى غيره عال عليه، وبالنسبة إلى ما فوقه هو دونه‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن‏"‏‏.‏ فدل على أن العرش أعلى المخلوقات، كما بسط في مواضع أخر‏.‏
قال أبو الفَرَج‏:‏ واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏
مجدوا اللّه فهو للمجد أهل
ربنا في السماء أمسي كبيرا

 

ص -402-

 بالبناء الأعلى الذي سبق النا

 س وسوى فوق السماء سريرًا

 شرْجَعا لا يناله بصر العي

 ن تري دونه الملائك صورا

‏[‏الشَّرْجَعُ‏:‏ السرير‏]‏
قلت‏:‏ يريد أنه ذكره من العرب من لم يكن مسلمًا أخذه عن أهل الكتاب‏.‏ فإن أمية ونحوه إنما أخذ هذا عن أهل الكتاب، وإلا فالمشركون لم يكونوا يعرفون هذا‏.‏
قال أبو الفَرَج ابن الجوزي، وقال كعب‏:‏ إن السموات في العرش كقنديل معلق بين السماء والأرض‏.‏
قال‏:‏ وإجماع السلف منعقد على ألا يزيدوا على قراءة الآية‏.‏ وقد شذ قوم فقالوا‏:‏ العرش بمعني المُلْك‏.‏ وهو عدول عن الحقيقة إلى التجوز مع مخالفة الأثر‏.‏ ألم يسمعوا قوله‏
:‏ ‏{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏، أفتراه كان المُلْك على الماء‏؟‏
قال‏:‏ وبعضهم يقول‏:‏ استوى بمعني استولي، ويستدل بقول الشاعر‏:‏

 حتي استوى بِشْر على العراق

 من غير سيف ودم مهراق

وقال الشاعر أيضًا‏:‏

ص -403-

 قد قلما استوى بفضلهما جمي

 عًا على عرش الملوك بغير زور

قال‏:‏ وهو منكر عند اللُّغَويين‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ إن العرب لا تعلم استوى بمعني استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم‏.‏
قال‏:‏ وإنما يقال ب ‏[‏استولى فلان على كذا‏]‏ إذا كان بعيدًا عنه غير متمكن ثم تمكن منه، واللّه سبحانه وتعالى لم يزل مستوليًا على الأشياء‏.‏
والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي‏.‏ ولو صحا لم يكن حجة فيهما لما بينا من الاستيلاء من لم يكن مستوليًا نعوذ باللّه من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة ‏!‏‏.‏
قلت‏:‏ فقد تأول قوله‏:‏
‏{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، وأنكر تأويل ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏] وهو في لفظ ‏[‏الإتيان‏]‏ قد ذكر القولين‏.‏ فقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، كان جماعة من السلف يمسكون عن مثل هذا‏.‏ وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال‏:‏ المراد به قدرته وأمره‏.‏ قال‏:‏ وقد بينه في قوله‏:‏ ‏{أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ هذا الذي ذكره القاضي وغيره أن حنبلا نقله عن

ص -404-

 أحمد في كتاب‏:‏ ‏[‏المحنة‏]‏؛ أنه قال ذلك في المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله‏:‏ ‏"‏تجيء البقرة وآل عمران‏"‏، قالوا‏:‏ والمجيء لا يكون إلا لمخلوق‏.‏ فعارضهم أحمد بقوله‏:‏ ‏{وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏، ‏{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، وقال‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏"‏تجيء البقرة وآل عمران‏"‏‏:‏ ثوابهما، كما في قوله‏:‏ ‏{وَجَاء رَبُّكَ‏}‏‏:‏ أمره وقدرته‏.‏
وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل‏.‏ فإنه لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا، وتأويل النزول، والاستواء، ونحو ذلك من الأفعال‏.‏
ولهم ثلاثة أقوال‏:‏
قيل‏:‏ إن هذا غلط من حنبل ، انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة، مثل صالح، وعبد اللّه، والمروذي، وغيرهم‏.‏ فإنهم لم يذكروا هذا‏.‏ وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة، كالخلاَّل ‏[‏هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، مفسر عالم بالحديث واللغة، من كبار الحنابلة، من أهل بغداد، قال الذهبي‏:‏ جامع علم أحمد ومرتبه، من كتبه‏:‏ ‏[‏تفسير الغريب‏]‏، و‏[‏طبقات أصحاب ابن حنبل‏]‏ وغيرهما‏]‏ وصاحبه‏.‏ قال أبو إسحاق ابن شَاقلا‏:‏ هذا غلط من حنبل لا شك فيه‏.‏
وكذلك نُقِل عن مالك رواية أنه تأول‏:‏ ‏"‏ينزل إلى السماء الدنيا‏"‏‏:‏ أنه ينزل أمره‏.‏ لكن هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذاب باتفاقهم ‏.‏ وقد رويت من وجه آخر لكن الإسناد مجهول‏.‏
والقول الثاني‏:‏ قال طائفة من أصحاب أحمد‏:‏ هذا قاله إلزاما للخصم

 

ص -405-

 على مذهبه لأنهم في يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله‏:‏ ‏"‏تأتي البقرة وآل عمران‏"‏ أجابهم بأن معناه‏:‏ يأتي ثواب البقرة وآل عمران، كقوله‏:‏ ‏{أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ‏}‏، أي‏:‏ أمره وقدرته، على تأويلهم، لا أنه يقول بذلك‏.‏ فإن مذهبه ترك التأويل‏.‏
والقول الثالث‏:‏ أنهم جعلوا هذا رواية عن أحمد، وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه، لكن الصحيح المشهور عنه رد التأويل‏.‏ وقد ذكر الروايتين ابن الزاغُوني وغيره، وذكر أن ترك التأويل هي الرواية المشهورة المعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا‏.‏
ورواية التأويل فسر ذلك بالعمد والقصد، لم يفسره بالأمر والقدرة كما فسروا ‏
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏‏.‏
فعلى هذا في تأويل ذلك إذا قيل به وجهان‏.‏
وابن الزاغُوني، والقاضي أبو يعلى، ونحوهما وإن كانوا يقولون بإمرار المجيء والإتيان على ظاهره فقولهم في ذلك من جنس قول ابن كُلاب ، والأشعري‏.‏ فإنه أيضًا يمنع تأويل النزول والإتيان والمجيء، ويجعله من الصفات الخبرية، ويقول‏:‏ إن هذه الأفعال لا تستلزم الأجسام، بل يوصف بها غير الأجسام‏.‏ وكلام ابن الزاغوني في

 

ص -406-

 هذا النوع وفي استواء الرب على العرش هو موافق لقول أبي الحسن نفسه‏.‏
هذا قولهم في الصفات الخبرية الواردة في هذه الأفعال‏.‏
وأما علو الرب نفسه فوق العالم فعند ابن كُلاب أنه معلوم بالعقل، كقول أكثر المثبتة، كما ذكر ذلك الخطابي، وابن عبد البر، وغيرهما‏.‏ وهو قول ابن الزاغُوني، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى، وكان القاضي أولا يقول بقول الأشعري‏:‏ أنه من الصفات الخبرية‏.‏ وهذا قول القاضي أبي بكر، والبيهقي، ونحوهما‏.‏
وأما أبو المعالي الجويني وأتباعه، فهؤلاء خالفوا الأشعري وقدماء أصحابه في الصفات الخبرية، فلم يثبتوها‏.‏ لكن منهم من نفاها فتأول الاستواء بالاستيلاء، وهذا أول قولي أبي المعالي؛ ومنهم من توقف في إثباتها ونفيها، كالرازي، والآمدي، وآخر قولي أبي المعالي المنع من تأويل الصفات الخبرية، وذكر أن هذا إجماع السلف، وأن التأويل لو كان مسوغًا أو محتوما، لكان اهتمامهم به أعظم من اهتمامهم بغيره‏.‏
فاستدل بإجماعهم على أنه لا يجوز التأويل، وجعل الوقف التام على

 

ص -407-

 قوله‏:‏ ‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ذكر ذلك في‏:‏ ‏[‏النظَّامية في الأركان الإسلامية‏]‏‏.‏
وهذه طريقة عامة المنتسبين إلى السنة يرون التأويل مخالفًا لطريقة السلف‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وذكر لفظ ‏[‏التأويل‏]‏ وما فيه من الإجمال، والكلام على قوله‏:‏ ‏{
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏، وأن كلا القولين حق‏.‏
فمن قال‏:‏ لا يعلم تأويله إلا اللّه، فأراد به ما يؤول إليه الكلام من الحقائق التي لا يعلمها إلا اللّه‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل، فالمراد به تفسير القرآن الذي بينه الرسول والصحابة‏.‏
وإنما الخلاف في لفظ ‏[‏التأويل‏]‏ على المعنى المرجوح، وأنه حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح دون الراجح لدليل يقترن به‏.‏ فهذا اصطلاح متأخر، وهو التأويل الذي أنكره السلف والأئمة تأويلات أهل البدع‏.‏
وكذلك يقول أحمد في ‏[‏رده على الجهمية‏]‏ ‏:‏ الذين تأولوا القرآن على غير تأويله‏.‏ وقد تكلم أحمد على متشابه القرآن وفسره كله‏.‏

 

ص -408-

 ومنه تفسير متفق عليه عند السلف، ومنه تفسير مختلف فيه‏.‏
وقد ذكر الجَد أبو عبد الله في تفسيره من جنس ما ذكره البغوي، لا من جنس ما ذكره ابن الجوزي، فقال‏:‏
أما الإتيان المنسوب إلى الله، فلا يختلف قول أئمة السلف، كمكحول والزهري والأوزاعي، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وأتباعهم، أنه يمر كما جاء‏.‏ وكذلك ما شاكل ذلك مما جاء في القرآن، أو وردت به السنة، كأحاديث النزول، ونحوها‏.‏ وهي طريقة السلامة ومنهج أهل السنة والجماعة يؤمنون بظاهرها ويكلون علمها إلى الله ويعتقدون أن الله منزه عن سمات الحدث‏.‏ على ذلك مضت الأئمة خلفًا بعد سلف، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ ‏.‏
وقال ابن السائب في قوله‏:‏
‏{أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏ هذا من المكتوم الذي لا يفسر، وذكر ما يشبه كلام الخَطَّابي في هذا‏.‏
فإن قيل‏:‏ ‏[‏كيف يقع الإيمان بما لا يحيط من يدعي الإيمان به علما بحقيقته‏؟‏‏]‏، فالجواب‏:‏ كما يصح الإيمان بالله

 

ص -409-

 ،وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والنار والجنة‏.‏ ومعلوم أنا لا نحيط علما بكل شيء من ذلك على جهة التفصيل، وإنما كُلِّفنا الإيمان بذلك في الجملة‏.‏ ألا تري أنا لا نعرف عدة من الأنبياء وكثيرًا من الملائكة، ولا نحيط بصفاتهم، ثم لا يقدح ذلك في إيماننا بهم‏؟‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الجنة‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ لا ريب أنه يجب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول وتصديقه فيما أخبر به، وإن كان الشخص لم يفقه بالعربية ما قال ولا فهم من الكلام شيئًا، فضلا عن العرب‏.‏ فلا يشترط في الإيمان المجمل العلم بمعني كل ما أخبر به؛ هذا لا ريب فيه‏.‏
فكل من اشتبه عليه آية من القرآن‏.‏ ولم يعرف معناها، وجب عليه الإيمان بها، وأن يكل علمها إلى الله في قول‏:‏ ‏[‏الله أعلم‏]‏‏.‏ وهذا متفق عليه بين السلف والخلف‏.‏ فما زال كثير من الصحابة يمر بآية ولفظ لا يفهمه فيؤمن به وإن لم يفهم معناه‏.‏
لكن، هل يكون في القرآن ما لا يفهمه أحد من الناس‏.‏ بل ولا الرسول، عند من يجعل التأويل هو ‏[‏معنى الآية‏]‏ ويقول‏:‏ إنه لا

 

ص -410-

 يعلمه إلا الله‏؟‏ فيلزم أن يكون في القرآن كلام لا يفهمه لا الرسول، ولا أحد من الأمة، بل ولا جبريل‏.‏ هذا هو الذي يلزم على قول من يجعل معاني هذه الآيات لا يفهمه أحد من الناس‏.‏
وليس هذا بمنزلة ما ذكر في الملائكة، والنبيين، والجنة‏.‏ فإنا قد فهمنا الكلام الذي خوطبنا به، وأنه يدل على أن هناك نعيمًا لا نعلمه‏.‏ وهذا خطاب مفهوم، وفيه إخبارنا أن من المخلوقات ما لا نعلمه وهذا حق كقوله‏:
‏ ‏{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏، وقوله لما سألوه عن الروح‏:‏ ‏{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ فهذا فيه إخبارنا بأن لله مخلوقات لا نعلمها، أو نعلم جنسهم ولا نعلم قدرهم، أو نعلم بعض صفاتهم دون بعض‏.‏
وكل هذا حق، لكن ليس فيه أن الخطاب المنزل الذي أمرنا بتدبره لا يفقه ولا يفهم معناه لا الرسول ولا المؤمنون‏.‏ فهذا هو المنكر الذي أنكره العلماء‏.‏ فإن الله قال‏:‏ ‏{
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏، وقال‏:‏ ‏{حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏‏.‏
وفرق بين ما لم يخبر به أو أخبرنا ببعض صفاته دون بعض فما

 

ص -411-

 لم يخبر به لا يضرنا ألا نعلمه وبين ما أخبرنا به‏.‏ وهو الكلام العربي الذي جعل هدي وشفاء للناس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت وما عني بها‏.‏ فكيف يكون في مثل هذا الكلام ما لا يفهمه أحد قط‏؟‏
وفرق بين أن يقال‏:‏ ‏[‏الرب هو الذي يأتي إتيانًا يليق بجلاله‏]‏، أو يقال‏:‏ ‏[‏ما ندري، هل هو الذي يأتي أو أمره‏.‏ فكثير من لا يجزم بأحدهما، بل يقول‏:‏ اسكت، فالسكوت أسلم‏]‏‏.‏
ولا ريب أنه من لم يعلم فالسكوت له أسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت‏"‏‏.‏ لكن هو يقول‏:‏ إن الرسول وجميع الأمة كانوا كذلك لا يدرون هل المراد به هذا أو هذا، ولا الرسول كان يعرف ذلك‏.‏ فقائل‏:‏ هذا مبطل متكلم بما لا علم له به‏.‏ وكان يسعه أن يسكت عن هذا لا يجزم بأن الرسول والأئمة كلهم جهال يجب عليهم السكوت كما يجب عليه‏.‏
ثم إن هذا خلاف الواقع، فأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلام السلف في معني هذه الآية ونظائرها كثير مشهور‏.‏ لكن قال على رضي الله عنه ‏:‏
‏"‏حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون‏.‏ أتحبون أن يكذب الله ورسوله‏؟‏‏"‏‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ‏[‏ما من

 

ص -412-

رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم‏]‏‏.‏
وإذا قال‏:‏ بل كان من السلف من يجزم بأن المراد هو إتيانه نفسه، فهذا جزم بأنهم عرفوا معناها وبطلان القول الآخر، لم يكونوا ساكتين حيارى‏.‏ ولا ريب أن مقدوره ومأموره مما يأتي أيضا، ولكن هو يأتي كما أخبر عن نفسه إتيانًا يليق بجلاله‏.‏
فإذا قيل‏:‏ لا نعلم كيفية الاستواء، كان هذا صحيحًا‏.‏ وإذا كان الخطاب والكلام مما لا يفهم أحد معناه لا الرسول، ولا جبريل، ولا المؤمنون لم يكن مما يتدبر ويعقل‏.‏ بل مثل هذا عبث، والله منزه عن العبث‏.‏
ثم هذا يلزمهم في الأحاديث، مثل قوله‏:‏ ‏"‏ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء‏"‏‏.‏ أفكان الرسول يقول هذا الحديث ونحوه وهو لا يفقه ما يقول ولا يفهم له معني‏؟‏ سبحان الله‏!‏ هذا بهتان عظيم، وقدح في الرسول، وتسليط للملحدين‏.‏ إذا قيل‏:‏ إن نفس الكلام الذي جاء به قد كان لا يفهم معناه قالوا‏:‏ فغيره من العلوم العقلية أولي ألا يفهم معناه‏.‏
والكلام إنما هو في صفات الرب،فإذا قيل‏:‏ إن ما أنزل عليه من

 

ص -413-

 صفات الرب لم يكن هو ولا غيره يفهمه، وهو كلام أمي عربي ينزل عليه، قيل‏:‏ فالمعاني المعقولة في الأمور الإلهية أولي ألا يكون يفهمها‏.‏وحينئذ،فهذا الباب لم يكن موجودًا في رسالته، ولا يؤخذ من جهته لا من جهة السمع،ولا من جهة العقل‏.‏ قالت الملاحدة‏:‏فيؤخذ من طريق غيره‏.‏
فإذا قال لهم هؤلاء ‏:‏ هذا غير ممكن لأحد، منعوا ذلك وقالوا‏:‏ إنما في القرآن أن ذلك الخطاب لا يعلم معناه إلا الله‏.‏ لكن من أين لكم أن الأمور الإلهية لا تعلم بالأدلة العقلية التي يقصر عنها البيان بمجرد الخطاب والخبر‏؟‏
والملاحدة يقولون‏:‏ إن الرسل خاطبت بالتخييل، وأهل الكلام يقولون‏:‏ بالتأويل، وهؤلاء الظاهرية يقولون‏:‏ بالتجهيل‏.‏ وقد بسط الكلام على خطأ الطوائف الثلاث، وبين أن الرسول قد أتي بغاية العلم والبيان الذي لا يمكن أحدًا من البشر أن يأتي بأكمل مما جاء به صلى الله عليه وسلم تسليما‏.‏ فأكمل ما جاء به القرآن، والناس متفاوتون في فهم القرآن تفاوتًا عظيما‏.‏
وقول ابن السائب‏:‏ إن هذا من المكتوم الذي لا يفسر، يقتضي أن له تفسيرًا يعلمه العلماء ويكتمونه‏.‏

 

ص -414-

 وهذا على وجهين؛ إما أن يريد أن يكتم شيء مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم عن جميع الناس فهذا من الكتمان المجرد الذي ذم الله عليه‏.‏ وهذه حال أهل الكتاب‏.‏ وعاب الذين يكتمون ما بينه للناس من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس في الكتاب‏.‏ وقال‏:‏ ‏{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏140‏]‏‏.‏
وهذه حال أهل الكتاب في كتمان ما في كتابهم من الألفاظ يتأولها بعضهم‏.‏ ويجعلها بعضهم متشابها‏.‏ وهي دلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك‏.‏ فإن ألفاظ التوراة والإنجيل وسائر كتب الأنبياء وهي بضع وعشرون كتابا عند أهل الكتاب لا يمكنهم جحد ألفاظها، لكن يحرفونها بالتأويل الباطل، ويكتمون معانيها الصحيحة عن عامتهم، كما قال تعالى‏:
‏ ‏{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏‏.‏
فمن جعل أهل القرآن كذلك، وأمرهم أن يكونوا فيه أميين لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، فقد أمرهم بنظير ما ذم الله عليه أهل الكتاب‏.‏
وصَبيغ بن عَسْل التميمي إنما ضربه عمر؛ لأنه قصد باتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏.‏ وهؤلاء الذين عابهم الله في كتابه لأنهم

 

ص -415-

 جمعوا شيئين؛ سوء القصد، والجهل‏.‏ فهم لا يفهمون معناه ويريدون أن يضربوا كتاب الله بعضه ببعض ليوقعوا بذلك الشبهة والشك‏.‏ وفي الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم‏"‏‏.‏
فهذا فعل من يعارض النصوص بعضها ببعض ليوقع الفتنة وهي الشك والريب في القلوب، كما روي أنه خرج على القوم وهم يتجادلون في القدر، هؤلاء يقولون‏:‏ ألم يقل الله كذا‏؟‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ ألم يقل الله كذا‏؟‏ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم قال‏:‏ ‏"‏أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ‏؟‏ انظروا ما أمرتم به فافعلوه‏"‏‏.‏
فكل من اتبع المتشابه على هذا الوجه فهو مذموم‏.‏ وهو حال من يريد أن يشكك الناس فيما علموه لكونه وإياهم لم يفهموا ما توهموا أنه يعارضه‏.‏ هذا أصل الفتنة أن يترك المعلوم لغير معلوم‏.‏ كالسفسطة التي تورث شبها يقدح بها فيما علم وتيقن‏.‏ فهذه حال من يفسد قلوب الناس وعقولهم بإفساد ما فيها من العلم والعمل أصل الهدي، فإذا شككهم فيما علموه بقوا حيارى‏.‏
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أتي بالآيات البينات الدالة على

 

ص -416-

 صدقه، والقرآن فيه الآيات المحكمات اللاتي هي أم الكتاب قد علم معناها وعلم أنها حق،وبذلك يهتدي الخلق وينتفعون‏.‏
فمن اتبع المتشابه ابتغي الفتنة وابتغي تأويله والأول قصدهم فيه فاسد، والثاني ليسوا من أهله، بل يتكلمون في تأويله بما يفسد معناه إذ كانوا ليسوا من الراسخين في العلم‏.‏
وإنما الراسخ في العلم الذي رسخ في العلم بمعني المحكم، وصار ثابتا فيه لا يشك ولا يرتاب فيه بما يعارضه من المتشابه، بل هو مؤمن به، قد يعلمون تأويل المتشابه‏.‏
وأما من لم يرسخ في ذلك بل إذا عارضه المتشابه شك فيه فهذا يجوز أن يراد بالمتشابه ما يناقض المحكم، فلا يعلم معني المتشابه، إذ لم يرسخ في العلم بالمحكم‏.‏ وهو يبتغي الفتنة في هذا وهذا‏.‏ فهذا يعاقب عقوبة تردعه، كما فعل عمر بصَبِيغ‏.‏
وأما من قصده الهدي والحق، فليس من هؤلاء‏.‏ وقد كان عمر يسأل ويسأل عن معاني الآيات الدقيقة، وقد سأل أصحابه عن قوله‏:‏
‏{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏، فذكروا ظاهر لفظها‏.‏ ولما فسرها ابن عباس بأنها إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته قال‏:‏ ما أعلم منها إلا ما تعلم‏.‏

 

ص -417-

 وهذا باطن الآية الموافق لظاهرها‏.‏ فإنه لما أمر بالاستغفار عند ظهور الدين، والاستغفار يؤمر به عند ختام الأعمال، وبظهور الدين حصل مقصود الرسالة، علموا أنه إعلام بقرب الأجل مع أمور أُخر‏.‏ وفوق كل ذي علم عليم‏.‏
والاستدلال على الشيء بملزوماته‏.‏ والشيء قد يكون له لازم، وللازمه لازم، وهلم جرا‏.‏ فمن الناس من يكون أفطن بمعرفة اللوازم من غيره، يستدل بالملزوم على اللازم‏.‏ ومن الناس من لا يتصور اللازم، ولو تصوره لم يعرف الملزوم، بل يقول‏:‏ يجوز أن يلزم، ويجوز ألا يلزم؛ ويحتمل، ويحتمل‏.‏ وتردد الاحتمال هو من عدم العلم، وإلا فالواقع هو أحد أمرين‏.‏ فحيث كان احتمال بلا ترجيح كان لعدم العلم بالواقع وخفاء دليله، وغيره قد يعلم ذلك ويعلم دليله‏.‏
ومن ظن أن ما لا يعلمه هو لا يعلمه غيره، كان من جهله‏.‏ فلا ينفي عن الناس إلا ما علم انتفاؤه عنهم، وفوق كل ذي علم عليم أعلم منه، حتي ينتهي الأمر إلى الله تعالى‏.‏ وهذا قد بسط في مواضع‏.‏
ثم إنهم يقولون‏:‏ المأثور عن السلف هو السكوت عن الخوض في

 

ص -418-

 تأويل ذلك، والمصير إلى الإيمان بظاهره، والوقوف عن تفسيره؛ لأنا قد نهينا أن نقول في كتاب الله برأينا، ولم ينبهنا الله ورسوله على حقيقة معني ذلك‏.‏
فيقال‏:‏ أما كون الرجل يسكت عما لا يعلم، فهذا مما يؤمر به كل أحد‏.‏ لكن هذا الكلام يقتضي أنهم لم يعلموا معني الآية وتفسيرها وتأويلها‏.‏ وإذا كان لم يتبين لهم، فمضمونه عدم علمهم بذلك، وهو كلامُ شاكٍ لا يعلم ما أريد بالآية‏.‏
ثم إذا ذكر لهم بعض التأويلات، كتأويل من يفسره بإتيان أمره وقدرته، أبطلوا ذلك بأن هذا يسقط فائدة التخصيص‏.‏ وهذا نفي للتأويل وإبطال له‏.‏
فإذا قالوا مع ذلك‏:
‏ ‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، أثبتوا تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون جنس التأويل‏.‏
ونقول‏:‏ ما الحامل على هذا التأويل البعيد‏؟‏ وقد أمكن بدونه أن نثبت إتيانا ومجيئًا لا يعقل كما يليق به، كما أثبتنا ذاتًا لها حقيقة لا تعقل، وصفات من سمع وبصر وغير ذلك لا تعقل‏.‏ ولأنه إذا جاز تأويل هذا، وأن نُقَدِّر مضمرًا محذوفًا من قدرة أو عذاب ونحو ذلك، فما منعكم من تأويل قوله‏:‏ ‏"‏ترون ربكم‏"‏ كذلك‏؟‏

 

ص -419-

 وهذا كلام في إبطال التأويل وحمل للفظ على ما دل عليه ظاهره على ما يليق بجلال الله‏.‏
فإذا قيل مع هذا‏:‏ إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله وأريد بالتأويل هذا الجنس، كان تناقضًا‏.‏ كيف ينفي جنس التأويل ويثبت له تأويل لا يعلمه إلا الله‏.‏
فعُلِم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لا يناقض حمله على ما دل عليه اللفظ، بل هو أمر آخر يحقق هذا ويوافقه، لا يناقضه ويخالفه كما قال مالك‏:‏ الاستواء معلوم والكيف مجهول‏.‏
وإذا كان كذلك، أمكن أن من العلماء من يعلم من معني الآية ما يوافق القرآن لم يعلمه غيره، ويكون ذلك من تفسيرها‏.‏ وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم،كمن يعلم أن المراد بالآية مجيء الله قطعًا لا شك في ذلك لكثرة ما دل عنده على ذلك‏.‏ويعلم مع ذلك أنه العلي الأعلى يأتي إتيانًا تكون المخلوقات محيطة به وهو تحتها‏.‏ فإن هذا مناقض لكونه العلي الأعلى‏.‏
والجد الأعلى أبو عبد الله رحمه الله قد جري في تفسيره على ما ذكر من الطريقة‏.‏ وهذه عادته وعادات غيره ‏.‏

 

ص -420-

 وذكر كلام ابن الزاغُوني ، فقال‏:‏ قال الشيخ على بن عبيد الله الزاغُوني‏:‏
وقد اختلف كلام إمامنا أحمد في هذا المجيء هل يحمل على ظاهره، وهل يدخل التأويل‏؟‏ على روايتين‏:‏
إحداهما‏:‏ أنه يحمل على ظاهره من مجيء ذاته‏.‏ فعلى هذا يقول‏:‏ لا يدخل التأويل، إلا أنه لا يجب أن يحمل مجيئه بذاته إلا على ما يليق به‏.‏ وقد ثبت أنه لا يحمل إثبات مجيء هو زوال وانتقال يوجب فراغ مكان وشغل آخر من جهة أن هذا يعرف بالجنس في حق المحدث الذي يقصر عن استيعاب المواضع والمواطن؛ لأنها أكبر منه وأعظم، يفتقر مجيئه إليها إلى الانتقال عما قرب إلى ما بعد‏.‏
وذلك ممتنع في حق الباري تعالى لأنه لا شيء أعظم منه، ولا يحتاج في مجيئه إلى انتقال وزوال؛ لأن داعي ذلك وموجبه لا يوجد في حقه‏.‏ فأثبتنا المجيء صفة له ومنعنا ما يتوهم في حقه ما يلزم في حق المخلوقين؛ لاختلافهما في الحاجة إلى ذلك‏.‏ ومثله قوله‏:
‏ ‏{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏
ومثله الحديث المشهور الذي رواه عامة الصحابة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏
"‏ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقي ثلث

 

ص -421-

 الليل الآخر، فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه،من يستغفرني فأغفر له‏"‏‏.‏ فنحن نثبت وصفه بالنزول إلى سماء الدنيا بالحديث ولا نتأول ما ذكروه ولا نلحقه بنزول الآدميين الذي هو زوال وانتقال من علو إلى أسفل‏.‏ بل نسلم للنقل كما ورد، وندفع التشبيه لعدم موجبه، ونمنع من التأويل لارتفاع نسبته‏.‏
قال‏:‏ وهذه الرواية هي المشهورة والمعمول عليها عند عامة المشائخ من أصحابنا‏.‏
قلت‏:‏ أما كون إتيانه ومجيئه ونزوله ليس مثل إتيان المخلوق ومجيئه ونزوله، فهذا أمر ضروري متفق عليه بين علماء السنة ومن له عقل‏.‏ فإن الصفات والأفعال تتبع الذات المتصفة الفاعلة‏.‏ فإذا كانت ذاته مباينة لسائر الذوات، ليست مثلها، لزم ضرورة أن تكون صفاته مباينة لسائر الصفات ليست مثلها‏.‏ ونسبة صفاته إلى ذاته، كنسبة صفة كل موصوف إلى ذاته‏.‏ ولا ريب أنه العلي الأعلى العظيم، فهو أعلى من كل شيء، وأعظم من كل شيء‏.‏ فلا يكون نزوله وإتيانه بحيث تكون المخلوقات تحيط به أو تكون أعظم منه وأكبر‏.‏ هذا ممتنع‏.‏
وأما لفظ ‏[‏الزوال‏]‏ و‏[‏الانتقال‏]‏ فهذا اللفظ مجمل، ولهذا كان

 

ص -422-

 أهل الحديث والسنة فيه على أقوال‏.‏
فعثمان بن سعيد الدارمي وغيره، أنكروا على الجهمية قولهم‏:‏ إنه لا يتحرك، وذكروا أثرًا أنه لا يزول، وفسروا الزوال بالحركة‏.‏ فبين عثمان بن سعيد أن ذلك الأثر إن كان صحيحًا لم يكن حجة لهم؛ لأنه في تفسير قوله‏:‏
‏{الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، ذكروا عن ثابت‏:‏ دائم باق لا يزول عما يستحقه، كما قال ابن إسحاق‏:‏ لا يزول عن مكانته‏.‏
قلت‏:‏ والكَلْبي بنفسه الذي روي هذا الحديث هو يقول‏:
‏ ‏{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏‏:‏ استقر، ويقول‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏‏:‏ صعد إلى السماء‏.‏
وأما ‏[‏الانتقال‏]‏ فابن حامد وطائفة يقولون‏:‏ ينزل بحركة وانتقال‏.‏ وآخرون من أهل السنة كالتميمي من أصحاب أحمد أنكروا هذا وقالوا‏:‏ بل ينزل بلا حركة وانتقال‏.‏ وطائفة ثالثة، كابن بطة وغيره يقفون في هذا‏.‏
وقد ذكر الأقوال الثلاثة القاضي أبو يعلى في كتاب ‏[‏اختلاف الروايتين والوجهين ونفي اللفظ بمجمله‏]‏‏.‏
والأحسن في هذا الباب، مراعاة ألفاظ النصوص، فيثبت ما

 

ص -423-

 أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه‏.‏ وهو أن يثبت النزول، والإتيان، والمجيء، وينفي المثل، والسمي، والكفؤ، والند‏.‏
وبهذا يحتج البخاري وغيره على نفي المثل‏.‏ يقال‏:‏ ينزل نزولا ليس كمثله شيء، نزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين نزولا يختص به، كما أنه في ذلك وفي سائر ما وصف به نفسه ليس كمثله شيء في ذلك‏.‏ وهو منزه أن يكون نزوله كنزول المخلوقين، وحركتهم، وانتقالهم، وزوالهم مطلقًا لا نزول الآدميين ولا غيرهم‏.‏
فالمخلوق إذا نزل من علو إلى سفل، زال وصفه بالعلو وتبدل إلى وصفه بالسفول، وصار غيره أعلى منه‏.‏
والرب تعالى لا يكون شيء أعلى منه قط، بل هو العلي الأعلى ولا يزال هو العلي الأعلى مع أنه يقرب إلى عباده ويدنو منهم، وينزل إلى حيث شاء، ويأتي كما شاء‏.‏ وهو في ذلك العلي الأعلى، الكبير المتعالى، على في دنوه، قريب في علوه‏.‏
فهذا وإن لم يتصف به غيره فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا وهذا‏.‏ كما يعجز أن يكون هو الأول والآخر، والظاهر والباطن‏.‏

 

ص -424-

 ولهذا قيل لأبي سعيد الخَرَّاز‏:‏ بم عرفت الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏بالجمع بين النقيضين‏]‏‏.‏ وأراد أنه يجتمع له ما يتناقض في حق الخلق، كما أجتمع له أنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها من الأعيان والأفعال مع ما فيها من الخبث وأنه عدل،حكيم، رحيم‏.‏ وأنه يمكن من مكنه من عباده من المعاصي مع قدرته على منعهم، وهو في ذلك حكيم عادل‏.‏ فإنه أعلم الأعلمين، وأحكم الحاكمين، وخير الفاتحين، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏.‏
فألا يحيطوا علما بما هو أعظم في ذلك أولي وأحري‏.‏ وقد سألوا عن الروح فقيل لهم‏:‏
{الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا‏} ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين، أن الخضر قال لموسى لما نقر عصفور في البحر‏:‏ ‏"‏ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏"‏‏.‏
فالذي ينفي عنه وينزه عنه، إما أن يكون مناقضًا لما علم من صفاته الكاملة، فهذا ينفي عنه جنسه، كما قال‏:
‏ ‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏، فجنس السنة،والنوم، والموت، ممتنع عليه، لا يجوز أن يقال في شيء من هذا‏:‏ ‏"‏إنه يجوز عليه كما يليق بشأنه‏"‏؛ لأن هذا الجنس يوجب نقصًا في كماله‏.‏

 

ص -425-

 وكذلك لا يجوز أن يقال‏:‏ هو يكون في السفل، لا في العلو، وهو سفول يليق بجلاله، فإنه سبحانه العلي الأعلى لا يكون قط إلا عاليًا، والسفول نقص هو منزه عنه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏وأنت الباطن فليس دونك شيء‏"‏ ، لا يقتضي السفول إلا عند جاهل لا يعلم حقيقة العلو والسفول، فيظن أن السموات - وما فيها - قد تكون تحت الأرض إما بالليل وإما بالنهار وهذا غلط كمن يظن أن ما في السماء من المشرق يكون تحت ما فيها مما في المغرب‏.‏ فهذا أيضا غلط‏.‏ بل السماء لا تكون قط إلا عالية على الأرض وإن كان الفلك مستديرًا محيطًا بالأرض فهو العإلى على الأرض علوًا حقيقيا من كل جهة‏.‏ وهذا مبسوط في مواضع‏.‏
والنوع الثاني‏:‏ أنه منزه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته، فالألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة في الإثبات تثبت‏.‏ والتي جاءت بالنفي تنفي‏.‏ والألفاظ المجملة كلفظ ‏[‏الحركة‏]‏ و‏[‏النزول‏]‏ و‏[‏الانتقال‏]‏ يجب أن يقال فيها‏:‏ إنه منزه عن مماثلة المخلوقين من كل وجه، لا يماثل المخلوق لا في نزول، ولا في حركة، ولا انتقال ولا زوال، ولا غير ذلك‏.‏
وأما إثبات هذا الجنس، كلفظ ‏[‏النزول‏]‏، أو نفيه

 

ص -426-

 مطلقًا كلفظ ‏[‏النوم‏]‏ و‏[‏الموت‏]‏، فقد يسلك كلاهما طائفة تنتسب إلى السنة‏.‏
والمثبتة يقولون‏:‏ نثبت حركة، أو حركة وانتقالا، أو حركة وزوالًا، تليق به، كالنزول والإتيان اللائق به‏.‏
والنفاة يقولون‏:‏ بل هذا الجنس يجب نفيه‏.‏
ثم منهم من ينفي جنس ذلك في حقه بكل اعتبار، ولا يجَوِّز عليه أن يقوم به شيء من الأحوال المتجددة‏.‏ وهذه طريقة الكُلاَّبية ومن اتبعهم ممن ينتسب إلى السنة والحديث‏.‏
ومنهم من لا ينفي في ذلك ما دل عليه النص، ولا ينفي هذا الجنس مطلقًا بما ذكروه من أنه لا تقوم به الحوادث لما قد علم بالآيات والسنة والعقل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب عبده المؤمن إذا اتبع رسوله، إلى غير ذلك من المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة‏.‏ بل ينفي ما ناقض صفات كماله، وينفي مماثلة مخلوق له‏.‏ فهذان هما اللذان يجب نفيهما‏.‏ والله أعلم‏.‏
وكذلك إذا قال القائل‏:‏ الله يجب تنزيهه عن سمات الحدث، أو

 

ص -427-

 علامات الحدث، أو كل ما أوجب نقصًا وحدوثا فالرب منزه عنه، فهذا كلام حق معلوم متفق عليه‏.‏
لكن الشأن فيما تقول النافية‏:‏ إنه من سمات الحدث، وآخرون ينازعونهم لا سيما والكتاب والسنة تناقض قولهم - قالت الجهمية‏:‏ إن قيام الصفات به، أو قيام الصفات الاختيارية، هو من سمات الحدث‏.‏ وهذا باطل عند السلف وأئمة السنة، بل وجمهور العقلاء‏.‏ بل ما ذكروه يقتضي حدوث كل شيء‏.‏ فإنه ما من موجود إلا وله صفات تقوم به، وتقوم به أحوال تحصل بالمشيئة والقدرة‏.‏ فإن كان هذا مستلزما للحدوث، لزم حدوث كل شيء، وألا يكون في العالم شيء قديم‏.‏ وهذا قد بسط في مواضع أيضًا‏.‏
وسمات الحدث التي تستلزم الحدوث مثل افتقار إلى الغير‏.‏ فكل ما افتقر إلى غيره، فإنه محدث، كائن بعد أن لم يكن‏.‏ والرب منزه عن الحاجة إلى ما سواه بكل وجه‏.‏ ومن ظن أنه محتاج إلى العرش، أو حملة العرش، فهو جاهل ضال، بل هو الغني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه‏.‏ وهو الصمد الغني عن كل شيء، وكل ما سواه يصمد إليه محتاجا إليه‏:‏ ‏
{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏‏.‏

 

ص -428-

 ومن سمات الحدث النقائص، كالجهل، والعمى، والصمم، والبكم، فإن كل ما كان كذلك، لم يكن إلا محدثًا؛ لأن القديم الأزلي منزه عن ذلك؛ لأن القديم الأزلي متصف بنقيض هذه الصفات، وصفات الكمال لازمة له‏.‏ واللازم يمتنع زواله إلا بزوال الملزوم‏.‏ والذات قديمة أزلية، واجبة بنفسها، غنية عما سواها، يستحيل عليها العدم والفناء بوجه من الوجوه‏.‏ فيستحيل عدم لوازمها، فيستحيل اتصافها بنقيض تلك اللوازم‏.‏ فلا يوصف بنقيضها إلا المحدث، فهي من سمات الحدث المستلزمة لحدوث ما اتصف بها‏.‏
وهذا يدخل في قول القائل‏:‏ ‏[‏كل ما استلزم حدوثًا أو نقصًا فالرب منزه عنه‏]‏‏.‏ والنقص المناقض لصفات كماله مستلزم لحدوث المتصف به، والحدوث مستلزم للنقص اللازم للمخلوق‏.‏ فإن كل مخلوق فهو يفتقر إلى غيره، كائن بعد أن لم يكن لا يعلم إلا ما علم، ولا يقدر إلا ما أقدر، وهو محاط به مقدور عليه‏.‏
فهذه النقائص اللازمة لكل مخلوق هي ملزومة للحدوث،حيث كان حدوث كانت‏.‏ والحدوث أيضًا ملزوم لها، فحيث كان محدث كانت هذه النقائص‏.‏
فقولنا‏:‏ ‏[‏ما استلزم نقصًا أو حدوثًا فالرب منزه عنه‏]‏ حق‏.‏

 

ص -429-

  والحدوث والنقص اللازم للمخلوق متلازمان‏.‏ والرب منزه عن كل منهما من جهتين‏:‏ من جهة امتناعه في نفسه‏.‏ ومن جهة أنه مستلزم للآخر وهو ممتنع في نفسه فكل منهما دليل ومدلول عليه باعتبارين‏:‏ على أن الرب منزه عنه، وعن مدلوله الذي هو لازمه‏.‏
والحاجة إلى الغير والفقر إليه مما يستلزم الحدوث والنقص اللازم للمخلوق‏.‏ وقولى‏:‏ ‏[‏اللازم‏]‏، ليعم جميع المخلوقين، وإلا فمن النقائص ما يتصف بها بعض المخلوقين دون بعض‏.‏ فتلك ليست لازمة لكل مخلوق‏.‏
والرب منزه عنها أيضا لكن إذا نزه عن النقص اللازم لكل مخلوق فعن ما يختص به بعض المخلوقين أولى وأحرى‏.‏ فإنه إذا كان مخلوق ينزه عن نقص، فالخالق أولى بتنزيهه عنه‏.‏ وهذه طريقة ‏[‏الأولى‏]‏ كما دل عليها القرآن في غير موضع‏.‏
وقد ذكرنا في جواب ‏[‏المسائل التدمرية‏]‏ الملقب ب ‏[‏تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع‏]‏؛ أنه لا يجوز الاكتفاء فيما ينزه الرب عنه على عدم ورود السمع والخبر به فيقال‏:‏ كل ماورد به الخبر أثبتناه، وما لم يرد به لم نثبته بل ننفيه‏.‏ وتكون عمدتنا في النفي على عدم الخبر‏.‏

 

ص -430-

 بل هذا غلط لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن عدم الخبر هو عدم دليل معين، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم إذا لم يخبر هو بالشيء أن يكون منتفيًا في نفس الأمر‏.‏ ولله أسماء سمى بها نفسه واستأثر بها في علم الغيب عنده‏.‏ فكما لا يجوز الإثبات إلا بدليل لا يجوز النفي إلا بدليل‏.‏ ولكن إذا لم يرد به الخبر ولم يعلم ثبوته يسكت عنه فلا يتكلم في الله بلا علم‏.‏
الثانى‏:‏ أن أشياء لم يرد الخبر بتنزيهه عنها، ولا بأنه منزه عنها، لكن دل الخبر على اتصافه بنقائضها فعلم انتفاؤها‏.‏ فالأصل أنه منزه عن كل ما يناقض صفات كماله وهذا مما دل عليه السمع والعقل‏.‏
وما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه، وإلا سكتنا عنه‏.‏ فلا نثبت إلا بعلم ولا ننفي إلا بعلم‏.‏
ونفي الشيء من الصفات وغيرها كنفي دليله طريقة طائفة من أهل النظر والخبر‏.‏ وهي غلط إلا إذا كان الدليل لازمًا له‏.‏ فإذا عدم اللازم، عدم الملزوم‏.‏
وأما جنس الدليل، فيجب فيه الطرد، لا العكس‏.‏ فيلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه، ولا ينعكس‏.‏

 

ص -431-

 فالأقسام ثلاثة‏:‏ ما علم ثبوته أُثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه‏.‏ هذا هو الواجب‏.‏ والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته‏.‏
ومن لم يثبت ما أثبته إلا بالألفاظ الشرعية التي أثبتها، وإذا تكلم بغيرها استفسر واستفصل، فإن وافق المعنى الذي أثبته الشرع أثبته باللفظ الشرعى، فقد اعتصم بالشرع لفظًا ومعنى‏.‏ وهذه سبيل من اعتصم بالعروة الوثقى‏.‏
لكن ينبغي أن تعرف الأدلة الشرعية إسنادًا ومتنًا‏.‏ فالقرآن معلوم ثبوت ألفاظه، فينبغي أن يعرف وجوه دلالته‏.‏ والسنة ينبغي معرفة ما ثبت منها وما علم أنه كذب‏.‏
فإن طائفة ممن انتسب إلى السنة، وعظَّم السنة والشرع، وظنوا أنهم اعتصموا في هذا الباب بالكتاب والسنة جمعوا أحاديث وردت في الصفات، منها ما هو كذب معلوم أنه كذب، ومنها ما هو إلى الكذب أقرب، ومنها ما هو إلى الصحة أقرب، ومنها متردد‏.‏ وجعلوا تلك الأحاديث عقائد، وصنفوا مصنفات‏.‏ ومنهم من يكفر من يخالف ما دلت عليه تلك الأحاديث‏.‏
وبإزاء هؤلاء المكذبين بجنس الحديث ومن يقول عن أخبار

 

ص -432-

 الصحيحين وغيرها‏:‏ هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم‏.‏
وأبلغ من هؤلاء من يقول‏:‏ دلالة القرآن لفظية سمعية، والدلالة السمعية اللفظية لا تفيد اليقين‏.‏ ويجعلون العمدة على ما يدعونه من العقليات، وهي باطلة فاسدة، منها ما يعلم بطلانه وكذبه‏.‏
وهؤلاء أيضًا قد يكفرون من خالف ذلك، كما فعل أولئك‏.‏ وكلا الطريقين باطل ولو لم يكفر مخالفه‏.‏ فإذا كفر مخالفه صار من أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، كما فعلت الخوارج وغيرهم‏.‏
وقد بسط في غير هذا الموضع؛ أن الأدلة التي توجب العلم لا تناقض قط‏.‏ ولا يناقض الدليل العقلى الذي يفيد العلم للدليل السمعى الذي يفيد العلم قط، كما قد بينا ذلك في كتاب ‏[‏درء تعارض العقل والنقل‏]‏‏.‏
وهذه الأحاديث قد ذكر بعضها القاضي أبو يعلى في كتاب ‏[‏إبطال التأويل‏]‏، مثل ما ذكر في حديث المعراج حديثًا طويلًا عن أبي عبيدة ‏[‏أن محمدًا رأى ربه‏]‏‏.‏
وطائفة ممن يقول بأنه رأى ربه بعينه، يكَفِّرون من خالفهم لما

 

ص -433-

 ظنوا أنه قد جاء في ذلك أحاديث صحيحة، كما فعل أبو الحسن على بن شكر، فإنه سريع إلى تكفير من يخالفه فيما يدعيه من السنة، وقد يكون مخطئًا فيه، إما لاحتجاجه بأحاديث ضعيفة، أو بأحاديث صحيحة لكن لا تدل على مقصوده‏.‏ وما أصاب فيه من السنة لا يجوز تكفير كل من خالف فيه‏.‏ فليس كل مخطئ كافرًا لا سيما في المسائل الدقيقة التي كثر فيها نزاع الأمة، كما قد بسط هذا في مواضع‏.‏
وكذلك أبو علي الأهوازي له مصنف في الصفات قد جمع فيه الغث والسمين‏.‏
وكذلك ما يجمعه عبد الرحمن بن مَنْدَه ‏[‏هو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني، حافظ مؤرخ، جليل القدر، واسع الرواية، وصنف كتبًا كثيرة، ولد عام 383 وتوفي 470ه بأصبهان‏.‏ قال الذهبى‏:‏ له محاسن، وقالوا‏:‏ إنه حاطب ليل يروى الغث والثمين‏]‏ مع أنه من أكثر الناس حديثا، لكن يروى شيئًا كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، ولا يميز بين الصحيح والضعيف‏.‏ وربما جمع بابًا وكل أحاديثه ضعيفة، كأحاديث أكل الطين وغيرها‏.‏ وهو يروى عن أبي علي الأهوازي‏.‏
وقد وقع ما رواه من الغرائب الموضوعة إلى حسن بن عدى فبنى على ذلك عقائد باطلة، وادعى أن الله يرى في الدنيا عيانًا‏.‏ ثم الذين يقولون بهذا من أتباعه يكفرون من خالفهم‏.‏ وهذا كما تقدم من فعل أهل البدع، كما فعلت الخوارج‏.‏
ومن ذلك‏:‏ حديث عبد الله بن خليفة المشهور، الذي يروى عن عمر

 

ص -434-

 عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى في ‏[‏مختاره‏]‏‏.‏
وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه، كما فعل ذلك أبو بكر الإسماعيلي، وابن الجوزي، وغيرهم‏.‏ لكن أكثر أهل السنة قبلوه‏.‏
وفيه قال‏:‏ ‏[‏إن عرشه أو كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربعة أصابع أو فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع وإنه لَىَئِط به أطيط الرَّحْل الجديد براكبه‏]‏‏.‏
ولفظ ‏[‏الأطيط‏]‏ قد جاء في حديث جبير بن مطعم الذي رواه أبو داود في السنن‏.‏ وابن عساكر عمل فيه جزءًا، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق‏.‏‏.‏والحديث قد رواه علماء السنة كأحمد، وأبي داود وغيرهما، وليس فيه إلا ما له شاهد من رواية أخرى‏.‏ ولفظ ‏[‏الأطيط‏]‏ قد جاء في غيره‏.‏
وحديث ابن خليفة رواه الإمام أحمد وغيره مختصرًا، وذكر أنه حدث به وكيع‏.‏
لكن كثير ممن رواه رووه بقوله‏:‏ ‏[‏إنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع، فجعل العرش يفضل منه أربع أصابع‏]‏ واعتقد القاضي، وابن

 

ص -435-

 الزَّاغُوني، ونحوهما، صحة هذا اللفظ، فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء‏.‏ وذكر عن ابن العايذ أنه قال‏:‏ هو موضع جلوس محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
والحديث قد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، ولفظه‏:‏ ‏[‏وإنه ليجلس عليه، فما يفضل منه قدر أربع أصابع‏]‏ بالنفي‏.‏
فلو لم يكن في الحديث إلا اختلاف الروايتين هذه تنفي ما أثبتت هذه‏.‏ ولا يمكن مع ذلك الجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الإثبات، وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوى عليها الرب‏.‏ وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات‏.‏ بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب وأكبر‏.‏ وهذا باطل، مخالف للكتاب والسنة، وللعقل‏.‏
ويقتضي أيضًا أنه إنما عرف عظمة الرب بتعظيم العرش المخلوق وقد جعل العرش أعظم منه‏.‏ فما عظم الرب إلا بالمقايسة بمخلوق، وهو أعظم من الرب‏.‏ وهذا معنى فاسد، مخالف لما علم من الكتاب والسنة والعقل‏.‏
فإن طريقة القرآن في ذلك؛ أن يبين عظمة الرب، فإنه أعظم من كل ما يعلم عظمته‏.‏ فيذكر عظمة المخلوقات ويبين أن الرب أعظم منها‏.‏

 

ص -436-

 كما في الحديث الآخر الذي في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما حديث الأطيط لما قال الأعرأبي‏:‏ إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله تعالى فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال‏:‏ ‏[‏ويحك‏!‏ أتدرى ماتقول‏؟‏ أتدرى ما الله‏؟‏ شأن الله أعظم من ذلك‏.‏ إن عرشه على سمواته هكذا‏]‏ وقال بيده مثل القبة ‏:‏ ‏[‏وإنه لىئط به أطيط الرحل الجديد براكبه‏]‏‏.‏
فبين عظمة العرش، وأنه فوق السموات مثل القبة‏.‏ ثم بين تصاغره لعظمة الله، وأنه يئط به أطيط الرحل الجديد براكبه‏.‏ فهذا فيه تعظيم العرش، وفيه أن الرب أعظم من ذلك‏.‏ كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏أتعجبون من غيرة سعد‏؟‏ لأنا أغير منه، والله أغير منى‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏[‏لا أحد أغير من الله‏.‏ من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏]‏ ومثل هذا كثير‏.‏
وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي، وأنه ذكر عظمة العرش، وأنه مع هذه العظمة فالرب مستو عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع‏.‏ وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان، كما يقدر في الميزان قدره فيقال‏:‏ ما في السماء قدر كف سحابًا‏.‏ فإن الناس يقدرون الممسوح بالباع والذراع، وأصغر ما عندهم

 

ص -437-

 قال‏:‏ حدثنا أبو زُرْعة، ثنا مِنْجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدرى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفًا واحدًا ما أحاطوا بالله أبدًا‏"‏‏.‏
وهذا له شواهد، مثل ما في الصحاح في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏، قال ابن عباس‏:‏ ما السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم‏.‏
ومعلوم أن العرش لا يبلغ هذا، فإن له حملة وله حول، قال تعالى‏:‏
‏{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وهذا قد بسط في موضع آخر في ‏[‏مسألة الإحاطة‏]‏ وغيرها‏.‏ والله أعلم‏.
فَصْل
فالرسول صلى الله عليه وسلم بين الأصول الموصلة إلى الحق

 

ص -438-

  أحسن بيان، وبين الآيات الدالة على الخالق سبحانه وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ووحدانيته، على أحسن وجه، كما قد بسط في مواضع‏.‏
وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصَّلوا أصولا تناقض الحق‏.‏ فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصَّلوا أصولا تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدموها على ما جاء به الرسول‏.‏
ثم تارة يقولون‏:‏ الرسول جاء بالتخييل، وتارة يقولون‏:‏ جاء بالتأويل، وتارة يقولون‏:‏ جاء بالتجهيل‏.‏
فالفلاسفة ومن وافقهم أحيانًا يقولون‏:‏ خاطب الجمهور بالتخييل لم يقصد إخبارهم بالأمر على ما هو عليه، بل أخبرهم بخلاف ما الأمر عليه ليتخيلوا ما ينفعهم‏.‏ وهذا قول من يعرف بأنه كان يعرف الحق، كابن سينا وأمثاله، ويقولون‏:‏ الذي فعله من التخييل غاية ما يمكن‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ لم يعرف الحق، بل تَخيَّل وخَيَّل، كما يقوله الفارأبي وأمثاله‏.‏ ويجعلون الفيلسوف أفضل من النبي، ويجعلون النبوة من جنس المنامات‏.‏

 

ص -439-

 وأما أكثر المتكلمين فيقولون‏:‏ بل لم يقصد أن يخبر إلا بالحق، لكن بعبارات لا تدل وحدها عليه، بل تحتاج إلى التأويل ليبعث الهمم على معرفته بالنظر والعقل، ويبعثها على تأويل كلامه ليعظم أجرها‏.‏
والملاحدة يسلكون مسلك التأويل ويفتحون باب القرمطة، وهؤلاء يجوزون التأويل مع الخاصة‏.‏
وأما أهل التخييل فيقولون‏:‏ الخاصة قد عرفوا أن مراده التخييل للعامة، فالتأويل ممتنع‏.‏
والفريقان يسلكون مسلك إلجام العوام عن التأويل، لكن أولئك يقولون‏:‏ لها تأويل يفهمه الخاصة‏.‏
وهي طريقة الغزالى في ‏[‏الإلجام‏]‏‏.‏ استقبح أن يقال‏:‏ كذبوا للمصلحة‏.‏ وهو أيضًا لا يرى تأويل الأعمال كالقرامطة، بل تأويل الخبر عن الملائكة وعن اليوم الآخر‏.‏ وكذلك طائفة من الفلاسفة ترى التأويل في ذلك‏.‏ وهذا مخالف لطريقة أهل التخييل‏.‏
وقد ذكر الغزالى هذا عنهم في ‏[‏الإحياء‏]‏ لما ذكر إسرافهم في التأويل، وذكره في مواضع، كما حكى كلامه في ‏[‏السبعينية‏]‏ وغيرها‏.‏

 

ص -440-

 والقسم الثالث‏:‏ الذين يقولون‏:‏ هذا لا يعلم معناه إلا الله، أو له تأويل يخالف ظاهره لا يعلمه إلا الله‏.‏ فهؤلاء يجعلون الرسول وغيره غير عالمين بما أنزل الله‏.‏ فلا يسوغون التأويل؛ لأن العلم بالمراد عندهم ممتنع‏.‏ ولا يستجيزون القول بطريقة التخييل لما فيها من التصريح بكذب الرسول‏.‏ بل يقولون‏:‏ خوطبوا بما لا يفهمونه؛ ليثابوا على تلاوته والإيمان بألفاظه وإن لم يفهموا معناه‏.‏ يجعلون ذلك تعبدًا محضَا على رأى المجبرة الذين يجوزون التعبد بما لا نفع فيه للعامل، بل يؤجر عليه‏.‏
والكلام على هؤلاء وفساد قولهم مذكور في مواضع‏.‏ والمقصود هنا أن الذي دعاهم إلى ذلك ظنهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ظاهر ما أخبر به الرسول‏.‏ وقد بسط الكلام على رد هذا في مواضع، وبين أن العقل لا يناقض السمع، وأن ما ناقضه فهو فاسد‏.‏ وبين بعد هذا أن العقل موافق لما جاء به الرسول، شاهد له، ومصدق له‏.‏
لا يقال‏:‏ إنه غير معارض فقط، بل هو موافق مصدق، فأولئك كانوا يقولون‏:‏ هو مكذب مناقض‏.‏ بين أولا أنه لا يكذب ولا يناقض، ثم بين ثانيا أنه مصدق موافق‏.‏

 

ص -441-

 وأما هؤلاء فيبين أن كلامهم الذي يعارضون به الرسول باطل لا تعارض فيه‏.‏ ولا يكفي كونه باطلا لا يعارض، بل هو أيضًا مخالف لصريح العقل‏.‏ فهم كانوا يدعون أن العقل يناقض النقل‏.‏
فيبين أربع مقامات‏:‏ أن العقل لا يناقضه‏.‏ ثم يبين أن العقل يوافقه‏.‏ ويبين أن عقلياتهم التي عارضوا بها النقل باطلة‏.‏ ويبين أيضًا أن العقل الصريح يخالفهم‏.‏
ثم لا يكفي أن العقل يبطل ما عارضوا به الرسول، بل يبين أن ما جعلوه دليلا على إثبات الصانع إنما يدل على نفيه‏.‏ فهم أقاموا حجة تستلزم نفي الصانع، وإن كانوا يظنون أنهم يثبتون بها الصانع‏.‏
والمقصود هنا أن كلامهم الذي زعموا أنهم أثبتوا به الصانع إنما يدل على نفي الصانع وتعطيله‏.‏ فلا يكفي فيه أنه باطل لم يدل على الحق، بل دل على الباطل الذي يعلمون هم وسائر العقلاء أنه باطل‏.‏
ولهذا كان يقال في أصولهم‏:‏ ‏[‏ترتيب الأصول في تكذيب الرسول‏]‏‏.‏ ويقال أيضًا هي‏:‏ ‏[‏ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول‏]‏‏.‏ جعلوها أصولا للعلم بالخالق، وهي أصول تناقض العلم به‏.‏ فلا يتم العلم بالخالق إلا مع اعتقاد نقيضها‏.‏ وفَرْقٌ بين الأصل والدليل المستلزم للعلم بالرب، وبين المناقض المعارض للعلم بالرب‏.‏

 

ص -442-

 فالمتفلسفة يقولون‏:‏ إنهم أثبتوا واجب الوجود‏.‏ وهم لم يثبتوه، بل كلامهم يقتضي أنه ممتنع الوجود‏.‏ والجهمية والمعتزلة ونحوهم يقولون‏:‏ إنهم أثبتوا القديم المحدث للحوادث، وهم لم يثبتوه، بل كلامهم يقتضي أنه ما ثم قديم أصلا‏.‏ وكذلك الأشعرية والكَرَّامية وغيرهم ممن يقول‏:‏ إنه أثبت العلم بالخالق، فهم لم يثبتوه، لكن كلامهم يقتضي أنه ما ثَمَّ خالق‏.‏
وهذه الأسماء الثلاثة هي التي يُظْهرها هؤلاء واجب الوجود، والقديم، والصانع أو الخالق، ونحو ذلك‏.‏
ثم إنه من المعلوم بضرورة العقل أنه لا بد في الوجود من موجود واجب بنفسه قديم أزلى محدث للحوادث‏.‏ فإذا كان هذا معلومًا بالفطرة والضرورة والبراهين اليقينية، وكانت أصولهم التي عارضوا بها الرسول تناقض هذا، دل على فسادها جملة وتفصيلًا‏.‏
وقد ذكرنا في مواضع أن الإقرار بالصانع فطرى ضروري مع كثرة دلائله وبراهينه‏.‏
ونقول هنا ‏:‏ لا ريب أنا نشهد الحوادث كحدوث السحاب، والمطر والزرع، والشجر، والشمس، وحدوث الإنسان وغيره من الحيوان ،

 

ص -443-

 وحدوث الليل والنهار، وغير ذلك‏.‏ ومعلوم بضرورة العقل أن المحدَث لابد له من مُحدِث، وأنه يمتنع تسلسل المحدثات بأن يكون للمحدَثِ محدِث، وللمحدِث محدِث، إلى غير غاية‏.‏ وهذا يسمى تسلسل المؤثرات والعلل، والفاعلية، وهو ممتنع باتفاق العقلاء ، كما قد بسط في مواضع، وذكر ما أورد عليه من الإشكالات‏.‏ حتى ذكر كلام الآمدي، والأَبْهَرَى ‏[‏هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمى الأبهرى، شيخ المالكية في العراق، له تصانيف في شرح مالك والرد على مخالفيه منها ‏[‏الرد على المزني‏]‏ و‏[‏الأصول‏]‏، وغيرها كثير، وكان ثقة أمينًا مستورًا، وانتهت إليه الرياسة في مذهب مالك‏]‏ مع كلام الرازي، وغيرهم‏.‏
مع أن هذا بديهي ضرورى في العقول، وتلك الخواطر من وسوسة الشيطان‏.‏ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد إذا خطر له ذلك أن يستعيذ بالله منه، وينتهي عنه‏.‏ فقال‏:
‏ ‏[‏يأتى الشيطان أحدكم فيقول‏:‏ من خلق كذا‏؟‏ من خلق كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ الله‏.‏ فيقول‏:‏ فمن خلق الله‏؟‏ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته‏]‏‏.‏
ومعلوم أن المحْدَثَ الواحد لا يحدث إلا بمحْدِثٍ‏.‏ فإذا كثرت الحوادث وتسلسلت كان احتياجها إلى المحدِث أولى‏.‏ وكلها محدَثَات، فكلها محتاجة إلى محدِث‏.‏ وذلك لا يزول إلا بمحدثٍ لا يحتاج إلى غيره، بل هو قديم أزلي بنفسه سبحانه وتعالى‏.‏
وإذا قيل‏:‏ إن الموجود إما قديم وإما محدَثٌ، والمحدَثُ لابد له من قديم، فيلزم وجود القديم على التقديرين، كان برهانًا صحيحًا ،

 

ص -444-

 وكذلك إذا قيل‏:‏ إما ممكن وإما واجب، وبين الممكن بأنه المحدث كان من هذا الجنس‏.‏
وأما إذا فسر الممكن بما يتناول القديم، كما فعل ابن سينا وأتباعه كالرازي، كان هذا باطلاً‏.‏ فإنه على هذا التقدير لا يمكن إثبات الممكن المفتقر إلى الواجب ابتداء، والدليل لا يتم إلا بإثبات هذا ابتداء‏.‏ وإنما يمكن ذلك في أن المحدَث لابد له من محدِث‏.‏ فإن هذا تشهد أفراده وتعلم بالعقل كلياته‏.‏
وأما إثبات قديم أزلي ممكن، فهذا مما اتفق العقلاء على امتناعه‏.‏ وابن سينا وأتباعه وافقوا على امتناعه، كما ذكروه في المنطق تبعًا لسلفهم، لكن تناقضوا أولا‏.‏ فسلفهم وهم يقولون‏:‏ الممكن العامى والخاصى الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثًا، لا يكون ضروريًا، وكل ما كان قديمًا أزليًا فهو ضروري عندهم‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ الموجود؛ إما أن يكون مخلوقًا وإما ألا يكون مخلوقًا، والمخلوق لابد له من موجود غير مخلوق، فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ الموجود؛إما غنى عن غيره، وإما فقير إلى غيره، والفقير المحتاج إلى غيره لا تزول حاجته وفقره إلا بغنى عن غيره،

 

ص -445-

 فيلزم وجود الغنى عن غيره على التقديرين‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ الحي؛ إما حى بنفسه، وإما حى حياته من غيره، وما كانت حياته من غيره فذلك الغير أولى بالحياة، فيكون حيًا بنفسه، فثبت وجود الحي بنفسه على التقديرين‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ العالم؛ إما عالم بنفسه، وإما عالم علمه غيره، ومن علم غيره فهو أولى أن يكون عالمًا، وإذا لم يتعلم من غيره كان عالمًا بنفسه، فثبت وجود العالم بنفسه على التقديرين الحاصرين، فإنه لا يمكن سوى هذين التقديرين والقسمين‏.‏
فإذا كان لا يمكن إلا أحدهما، وعلى كل تقدير العالم بنفسه موجود والحي بنفسه موجود، والغنى بنفسه موجود، والقديم الواجب بنفسه موجود، لزم وجوده في نفس الأمر وامتناع عدمه في نفس الأمر، وهو المطلوب‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ القادر؛ إما قادر بنفسه، وإما قادر قدَّره غيره، ومن أقدر غيره فهو أولى أن يكون قادرًا‏.‏ وإذا لم تكن قدرته من غيره، كانت قدرته من لوازم نفسه، فثبت وجود القادر بنفسه الذي قدرته من لوازم نفسه، وعلمه من لوازم نفسه، وحياته من لوازم نفسه، على كل تقدير‏.‏

 

ص -446-

 وكذلك الحكيم إما أن يكون حكيمًا بنفسه، وإما أن تكون حكمته من غيره‏.‏ ومن جعل غيره حكيمًا، فهو أولى أن يكون حكيمًا، فيلزم وجود الحكيم بنفسه على التقديرين‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ الرحيم؛ إما أن تكون رحمته من نفسه، وإما أن يكون غيره جَعَله رحيمًا‏.‏ ومن جعل غيره رحيمًا فهو أولى أن يكون رحيمًا وتكون رحمته من لوازم نفسه، فثبت وجود الرحيم بنفسه الذي رحمته من لوازم نفسه على التقديرين‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ الكريم المحسن؛ إما أن يكون كرمه وإحسانه من نفسه وإما أن يكون من غيره‏.‏ ومن جعل غيره كريمًا محسنًا فهو أولى أن يكون كريمًا محسنًا وذلك من لوازم نفسه‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأة من السبي إذا رأت طفلا أرضعته رحمة له، فقال‏
:‏ ‏"‏أترون هذه طارحة ولدها في النار‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ لا، يا رسول الله‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏لله أرحم بعباده من هذه بولدها‏"‏‏.‏
فبين أن الله أرحم بعباده من أرحم الوالدات بولدها‏.‏ فإنه من جعلها رحيمة أرحم منها‏.‏
وهذا مما يدل علىه قوله‏:‏
‏{وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3‏]‏، وقولنا‏:‏ ‏[‏الله أكبر‏]‏

 

ص -447-

 فإنه سبحانه أرحم الراحمين‏.‏ وخير الغافرين، وخير الفاتحين، وخير الناصرين، وأحسن الخالقين، وهو نعم الوكيل، ونعم المولى، ونعم النصير‏.‏
وهذا يقتضي حمدًا مطلقًا على ذلك، وأنه كافي من توكل عليه، وأنه يتولى عبده توليًا حسنًا، وينصره نصرًا عزيزًا‏.‏ وذلك يقتضي أنه أفضل وأكمل من كل ما سواه، كما يدل على ذلك قولنا‏:‏ ‏[‏الله أكبر‏]‏‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ المتكلم السميع البصير إما أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله سميعًا بصيرًا، متكلمًا‏.‏ومن جعل غيره متكلمًا سميعًا بصيرًا، فهو أولى أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا، وإلا كان المفعول أكمل من الفاعل، فإن هذه صفات كمال‏.‏
وكذلك يقال‏:‏ العادل؛ إما أن يكون عادلا بنفسه‏.‏ والصادق؛ إما أن يكون صادقًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله صادقًا عادلًا‏.‏ ومن جعل غيره صادقًا عادلًا، فهو أولى أن يكون صادقًا عادلًا‏.‏
فهذه كلها طرق صحيحة بينة‏.‏
فإن قيل‏:‏ يُعَارَضُ هذا بأن يقال‏:‏ من جعل غيره ظالمًا أو كاذبًا فهو أيضًا ظالم كاذب، وأهل السنة يقولون‏:‏ إنه جعل غيره كذلك ،

 

ص -448-

 وليس هو كذلك سبحانه، قيل‏:‏ هذا باطل من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه ليس كل من جعل غيره على صفة أى صفة كانت كان متصفًا بها، بل من جعل غيره على صفة من صفات الكمال فهو أولى باتصافه بصفة الكمال من مفعوله‏.‏
وأما صفات النقص، فلا يلزم إذا جعل الجاعل غيره ناقصًا أن يكون هو ناقصًا‏.‏ فالقادر يقدر أن يعجز غيره ولا يكون عاجزًا‏.‏ والحي يمكنه أن يقتل غيره ويميته ولا يكون ميتًا‏.‏ والعالم يمكنه أن يُجَهِّل غيره ولا يكون جاهلًا‏.‏ والسميع والبصير والناطق يمكنه أن يعمى غيره، ويصمه، ويخرصه، ولا يكون هو كذلك‏.‏
فلا يلزم حينئذ أن من جعل غيره ظالمًا وكاذبًا أن يكون كاذبًا وظالمًا؛ لأن هذه صفة نقص‏.‏
فإن قيل‏:‏ الكاذب والظالم قد يلزم غيره بالصدق والعدل أحيانًا، قيل‏:‏ هو لم يجعله صادقًا وعالمًا وإنما أمره بذلك، وهو فعل ذلك بنفسه‏.‏ ولم نقل‏:‏ كل من أمر غيره بشيء كان متصفًا بما أمر به غيره‏.‏
الثانى‏:‏ أن الظلم أمر نسبى إضافي، فمن أمر غيره أن يقتل شخصًا

 

ص -449-

 فقتله هذا القاتل من غير جرم يعلمه كان ظالمًا، وإن كان ذلك الآمر إنما أمره به لكونه قد قتل أباه والمأمور لم يفعله لذلك‏.‏ فلو فعله بطريق النيابة لم يكن ظالمًا‏.‏ فإن كان له معه غرض فقتله ظلمًا، ولكن الآمر كان مستحقًا لقتله‏.‏
وكذلك من أمر غيره بماهو كذب من المأمور كأمر يوسف للمؤذن أن يقول‏:‏
‏{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 70‏]‏، يوسف عليه السلام قصد‏:‏ إنكم لسارقون يوسف من أبيه، وهو صادق في هذا‏.‏ والمأمور قصد‏:‏ إنكم لسارقون الصواع، وهو يظن أنهم سرقوه، فلم يكن متعمدًا للكذب، وإن كان خبره كذبًا‏.‏
والرب تعالى لا تقاس أفعاله بأفعال عباده‏.‏ فهو يخلق جميع ما يخلقه لحكمة ومصلحة، وإن كان بعض ما خلقه فيه قبح، كما يخلق الأعيان الخبيثة كالنجاسات وكالشياطين لحكمة راجحة، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن دلائل إثبات الرب كثيرة جدًا‏.‏ وهؤلاء الذين يزعمون أن المعقول يعارض خبر الرسول الذين يقولون إنهم أثبتوا واجب الوجود، أو القديم، أو الصانع هم لم يثبتوه، بل حججهم تقتضى نفيه وتعطيله، فهم نافون له‏.‏ لا مثبتون له‏.‏ وحججهم باطلة في

 

ص -450-

 العقل، لا صحيحة في العقل‏.‏
والمعرفة بالله ليست موقوفة على أصولهم‏.‏ بل تمام المعرفة موقوف على العلم بفساد أصولهم وإن سموها ‏[‏أصول العلم والدين‏]‏ فهي ‏[‏أصول الجهل وأصول دين الشيطان لا دين الرحمن‏]‏‏.‏ وحقيقة كلامهم‏:‏ ‏[‏ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول‏]‏، كما قال أصحاب النار‏:‏ ‏
{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، فمن خالف الرسول فقد خالف السمع والعقل خالف الأدلة السمعية والعقلية‏.‏
أما القائلون بواجب الوجود، فقد بينا في غير موضع أنهم لم يقيموا دليلاً على واجب الوجود‏.‏
وأن الرازي لما تبع ابن سينا، لم يكن في كتبه إثبات واجب الوجود‏.‏ فإنهم جعلوا وجوده موقوفًا على إثبات ‏[‏الممكن‏]‏ الذي يدخل فيه القديم‏.‏ فما بقى يمكن إثبات واجب الوجود على طريقهم إلا بإثبات ممكن قديم، وهذا ممتنع في بديهة العقل واتفاق العقلاء‏.‏ فكان طريقهم موقوفًا على مقدمة باطلة في صريح العقل‏.‏ وقد اتفق العقلاء على بطلانها، فبطل دليلهم‏.‏ ولهذا كان كلامهم في ‏[‏الممكن‏]‏ مضطربًا غاية الاضطراب‏.‏
ولكن أمكنهم أن يستدلوا على أن المحدث لابد له من قديم، وهو

 

ص -451-

 واجب الوجود‏.‏ ولكن قد أثبتوا قديمًا ليس بواجب الوجود‏.‏ فصار ما أثبتوه من القديم يناقض أن يكون هو رب العالمين؛ إذ أثبتوا قديمًا ينقسم إلى واجب وإلى غير واجب‏.‏
وأيضًا، فالواجب الذي أثبتوه قالوا‏:‏ إنه يمتنع اتصافه بصفة ثبوتية‏.‏ وهذا ممتنع الوجوب،لا ممكن الوجوب، فضلا عن أن يكون واجب الوجود، كما قد بسط هذا في مواضع، وبين أن الواجب الذي يدعونه يقولون‏:‏ إنه لا يكون لا صفة ولا موصوفًا البتة‏.‏ وهذا إنما يتخيل في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان‏.‏
والواجب إذا فسر بمبدع الممكنات فهو حق، وهو اسم للذات المتصفة بصفاتها‏.‏ وإذا فسر بالموجود بنفسه الذي لا فاعل له فالذات واجبة والصفات واجبة‏.‏ وإذا فسر بما لا فاعل له ولا محدث، فالذات واجبة والصفات ليست واجبة‏.‏ وإذا فسر بما ليس صفة ولا موصوفًا فهذا باطل لا حقيقة له‏.‏ بل هو ممتنع الوجود، لا ممكن الوجود، ولا واجب الوجود‏.‏ وكلما أمعنوا في تجريده عن الصفات، كانوا أشد إيغالا في التعطيل، كما قد بسط في مواضع‏.‏
وأما الذين قالوا إنهم أثبتوا القديم من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكَراية الذين استدلوا بحدوث الأعراض

 

ص -452-

 ولزومها للأجسام، وامتناع حوادث لا أول لها، على حدوث الأجسام فهؤلاء لم يثبتوا الصانع؛ لما عرف من فساد هذا الدليل حيث ادعوا امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئته أو فعَّالا لما يشاء‏.‏ بل حقيقة قولهم امتناع كونه لم يزل قادرًا‏.‏ وأدلتهم على هذا الامتناع قد ذكرت مستوفاة في غير هذا الموضع، وذكر كلامهم هم في بيان بطلانها‏.‏
وأما كونهم عطلوا الخالق، فلأن حقيقة قولهم أن من لم يزل متكلمًا بمشيئته فهو محدث، فيلزم أن يكون الرب محدثًا، لا قديمًا‏.‏ بل حقيقة أصلهم أن ما قامت به الصفات والأفعال فهو محدث، وكل موجود فلا بد له من ذلك، فيلزم أن يكون كل موجود محدثًا‏.‏ ولهذا صرح أئمة هذا الطريق الجهمية والمعتزلة بنفي صفات الرب، وبنفي قيام الأفعال وسائر الأمور الاختيارية بذاته؛ إذ هذا موجب دليلهم‏.‏ وهذه الصفات لازمة له، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم‏.‏ فكان حقيقة قولهم نفي الرب وتعطيله‏.‏
وهم يسمون الصفات أعراضًا، والأفعال ونحوها حوادث‏.‏ فقالوا‏:‏ الرب ينزه عن أن تقوم به الأعراض والحوادث‏.‏ فإن ذلك مستلزِم أن يكون جسمًا‏.‏ قالوا‏:‏ وقد أقمنا الدليل على حدوث كل جسم‏.‏ فإن

 

ص -453-

 

ص -454-

 الجسم لا ينفك من الأعراض المحدثة ولا يسبقها، وما لم ينفك عن الحوادث ولم يسبقها فهو حادث‏.‏
وقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على مذهب السلف،وأن الرب لم يزل متكلمًا إذا شاء، فيلزم على قولهم أنه لم يسبق الحوادث ولم ينفك عنها‏.‏ ويجب على قولهم كونه حادثًا‏.‏
فالأصل الذي أثبتوا به القديم هو نفسه يقتضي أنه ليس بقديم، وأنه ليس في الوجود قديم‏.‏ كما أن أولئك أصلهم يقتضي أنه ليس بواجب بذاته،وأنه ليس في الوجود واجب بذاته‏.‏
والطريق التي قالوا بها يثبت الصانع مناقضة لإثبات الصانع‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ لا يمكن العلم بالصانع إلا بها، كان الحق أن يقال‏:‏ بل لا يمكن تمام العلم بالصانع إلا مع العلم بفسادها‏.‏
ولهذا كان كل من أقر بصحتها قد كذب بعض ما أخبر به الرسول مما هو من لوازم الرب، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم‏.‏
والذين زعموا أنهم يحتجون به على حدوث الأجسام من جنس ما زعم أولئك أنهم يحتجون به على إمكان الأجسام‏.‏ وكل منهما باطل‏.‏

 

ص -455-

 ومقتضاه حدوث كل موجود وإمكان كل موجود، وأنه ليس في الوجود قديم ولا واجب بنفسه‏.‏
فأصولهم تناقض مطلوبهم‏.‏ وهي طريقة مُضِلَّةٌ، لا هادية‏.‏ لكن كما قال الله تعالى‏:‏ ‏
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏  وأما الذين يقولون‏:‏ نثبت الصانع والخالق، ويقولون‏:‏ إنا نسلك غير هذه الطريق، كالاستدلال بحدوث الصفات على الرب‏.‏ فإن هذه تدل عليه من غير احتياج إلى ما التزمه أولئك‏.‏ والرازي قد ذكر هذه الطريق‏.‏
وأما الأشعرى نفسه، فلم يستدل بها‏.‏ بل ‏[‏في اللمع‏]‏، و‏[‏رسالته إلى الثغر‏]‏، استدل بالحوادث على حدوث ما قامت به، كما ذكره في النطفة بناء على امتناع حوادث لا أول لها‏.‏ ثم جعل حدوث تلك الجواهر التي ذكر أنه دل على حدوثها هو الدليل على ثبوت الصانع‏.‏ وهذه الطريق باطلة، كما قد بين‏.‏
وأما تلك فهي صحيحة، لكن أفسدوها من جهة كونهم جعلوا

 

ص -456-

 الحوادث المشهود لهم حدوثها هي الأعراض فقط، كما قد بينا هذا في مواضع‏.‏
ثم يقال‏:‏ هؤلاء يثبتون خالقًا لا خلق له‏.‏وهذا ممتنع في بداية العقول، فلم يثبتوا خالقًا‏.‏
والكَرَّامية، وإن كانوا يقولون‏:‏ الخلق غير المخلوق، فهم يقولون بحدوث الخلق بلا سبب يوجب حدوثه‏.‏ وهذا أيضًا ممتنع‏.‏ فما أثبتوا خالقًا‏.‏
وأيضًا، فهؤلاء وهؤلاء يقولون‏:‏ الموجب للتخصيص بحدوث ما حدث دون غيره هو إرادة قديمة أزلية‏.‏ فالكَرَّامية يقولون‏:‏ هي المخصص لما قام به وما خلقه‏.‏ وهؤلاء عندهم لم يقم به شيء يكون مرادًا، بل يقولون‏:‏ هي المخصص لما حدث‏.‏
والطائفتان ومن وافقهم يقولون‏:‏ تلك الإرادة قديمة أزلية لم تزل على نعت واحد، ثم وجدت الحوادث بلا سبب أصلا‏.‏ ويقولون‏:‏ من شأنها أن تخصص مثلًا على مثل، ومن شأنها أن تتقدم على المراد تقدمًا لا أول له‏.‏ فوصفوا الإرادة بثلاث صفات باطلة يعلم بصريح العقل أن الإرادة لا تكون هكذا‏.‏ وهي المقتضية للخلق والحدوث، فإذا أثبتت فلا خلق ولا حدوث‏.‏

 

ص -457-

 وكذلك القدرة التي أثبتوها وصفوها بما يمتنع أن يكون قدرة، وهي شرط في الخلق‏.‏ فإذا نفوا شرط الخلق، انتفي الخلق، فلم يبق خالقًا، فالذي وصفوا به الخالق يناقض كونه خالقًا، ليس بلازم لكونه خالقًا‏.‏ وهم جعلوه لازمًا، لا مناقضًا‏.‏
أما الإرادة، فذكروا لها ثلاثة لوازم، والثلاثة تناقض الإرادة‏.‏
قالوا‏:‏ إنها تكون ولا مراد لها، بل لم يزل كذلك ثم حدث مرادها من غير تحول حالها‏.‏ وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل‏.‏ فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل، فالمتقدم كان عزمًا على الفعل، وقصدًا له في الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال‏.‏ بل إذا فعل فلابد من إرادة الفعل في الحال‏.‏ ولهذا يقال‏:‏ الماضى عزم‏.‏ والمقارن قصد‏.‏ فوجود الفعل بمجرد عزم من غير أن يتجدد قصد من الفاعل ممتنع‏.‏ فكان حصول المخلوقات بهذه الإرادة ممتنعًا لو قدر إمكان حدوث بلا سبب، فكيف وذاك أيضًا ممتنع في نفسه‏؟‏ فصار الامتناع من جهة الإرادة، ومن جهة تعينت بما هو ممتنع في نفسه‏.‏
الثانى‏:‏ قولهم‏:‏ إن الإرادة ترجح مثلًا على مثل‏:‏ فهذا مكابرة، بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح وجوده على عدمه عند الفاعل‏.‏ إما لعلمه بأنه أفضل، أو لكون محبته له أقوى‏.‏ وهو إنما يترجح في العلم لكون

 

ص -458-

 عاقبته أفضل‏.‏ فلا يفعل أحد شيئًا بإرادته إلا لكونه يحب المراد، أو يحب ما يؤول إليه المراد بحيث يكون وجود ذلك المراد أحب إليه من عدمه، لا يكون وجوده وعدمه عنده سواء‏.‏
الثالث‏:‏ أن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة، فهذا أيضًا باطل‏.‏ بل متى حصلت القدرة التامة والإرادة الجازمة وجب وجود المقدور، وحيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة‏.‏ والرب تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏
وهو يخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أمورًا لم يفعلها، كما قال‏:‏
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏} ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏،{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏، ‏{وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ‏}‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏ فبين أنه لو شاء ذلك لكان قادرًا عليه‏.‏ لكنه لا يفعله؛ لأنه لم يشأه؛ إذ كان عدم مشىئته أرجح في الحكمة مع كونه قادرًا عليه لو شاءه‏.‏
وقد بسط الكلام على ما يذكرونه في القدرة والإرادة هم وغيرهم في غير هذا الموضع‏.‏ وأن من هؤلاء من يقول‏:‏إنما يقدر على الأمور المباينة له دون الأفعال القائمة بنفسه،كما يقول ذلك المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم‏.‏ومنهم من يقول‏:‏ بل يقدر على ما يقوم به من الأفعال، وعلى ما هو باين عنه، كما يحكى عن الكَرَّامية‏.‏

 

ص -459-

 والصواب الذي دل عليه القرآن والعقل؛ أنه يقدر على هذا وهذا، قال تعالى‏:‏ ‏{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهٍُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 40‏]‏ ، وقال ‏{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏، وهذا كثير في القرآن أكثر من النوع الآخر‏.‏
فإن ما قاله الكَرَّامية والهشامية أقرب إلى العقل والنقل مما قالت الجهمية ومن وافقهم، وإن كان فيما حكوه عنهم خطأ من جهة نفيهم القدرة على الأمور المباينة‏.‏
والله تعالى قد أخبر أنه على كل شيء قدير‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي مسعود لما رآه يضرب غلامه ‏:‏
‏[‏لله أقدر عليك منك على هذا‏]‏‏.‏ وفي القرآن‏:‏ ‏{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 41، 42‏]‏، وبسط هذا له مواضع أخر‏.‏
فجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو لازم في نفس الأمر‏.‏ وكل ما أثبته من صفات الرب فهو لازم‏.‏ وإذا قدر عدمه لزم عدم الملزوم‏.‏ فنفي ما أخبر به الرسول مستلزم للتعطيل‏.‏
لكن من ذلك ما يظهر بالعقل مع تفاوت الناس في العقل، ومنه

 

ص -460-

  ما يكفي فيه مجرد خبر الرسول‏.‏ فإن ما أخبر به الرسول فهو حق‏.‏ وكل ما أثبت للرب فهو لازم الثبوت، وما انتفي عنه فهو لازم الانتفاء فإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم‏.‏
لكن هذا كله لازم المذهب، وهو يدل على بطلانه‏.‏ ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبًا، بل أكثر الناس يقولون أقوالًا ولا يلتزمون لوازمها‏.‏ فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقدًا للتعطيل‏.‏ بل يكون معتقدًا للإثبات، ولكن لا يعرف ذلك اللزوم‏.‏
وأيضًا، فإذا كانت أصولهم التي بنوا عليها إثبات الصانع باطلة، لم يلزم أن يكونوا هم غير مقرين بالصانع، وإن كان هذا لازمًا من قولهم‏.‏ إذا قالوا‏:‏ إنه لا يعرف إلا بهذه الطريق، وقد ظهر فساده، لزم ألا يعرف‏.‏ لكن هذا اللزوم يدل على فساد هذا النفي، ولا يلزم ألا يكونوا هم مقرين بالصانع لما قد بيناه في غير موضع أن الإقرار بالصانع، ومعرفته، ومحبته، وتوحيده فطري، يكون ثابتًا في قلب الإنسان، وهو يظن أنه ليس في قلبه‏.‏
ولهذا كان عامة هؤلاء مقرين بالصانع، معترفين به، قبل أن يسلكوا هذه الطريق النظرية، سواء كانت صحيحة أو باطلة‏.‏ وهذا

 

ص -461-

 أمر يعرفونه من أنفسهم‏.‏ فعلم أنه لا يلزم من عدم سلوك هذه الطريق عدم المعرفة‏.‏ وقد اعترف كثير منهم بذلك، كما قد بيناه في مواضع‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ إن الطريق النظرية التي يسلكها زادته بصيرة وعلمًا‏.‏ كما يقوله ابن حزم وغيره‏.‏ وهو سَلْك طريقة الأعراض‏.‏
وكثير من الناس يقول‏:‏ إن هذه الطريق لم تفدهم إلا شكا وريبًا وفطرة هؤلاء أصح، فإنها طرق فاسدة‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ لم يحصل لى بها شيء لا علم ولا شك‏.‏ وذلك أنها لم تحصل له علمًا ولا سلمها، فلم يتبين له صحتها ولا فسادها‏.‏
ومن الناس من لا يفهم مرادهم بها‏.‏ وأكثر أتباعهم لا يفهمونها، بل يتبعونهم تقليدًا وإحسانًا للظن بهم‏.‏
فَصْل
ومما ينبغي أن يعرف؛ أنا لا نقول‏:‏ إن الشيء لا يعرف إلا بإثبات جميع لوازمه‏.‏ هذا لا يقوله عاقل، بل قد تعرف عامة الأشياء وكثير

 

ص -462-

 من لوازمها لا تعرف، وقد يعلم المسلمون أن الرب على كل شيء قدير وأنه يفعل ما يشاء، وهم لا يعرفون كثيرًا من لوازم القدرة والمشيئة‏.‏ لكن أهل الاستقامة كما لا يعرفون اللوازم فلا ينفونها، فإن نفيها خطأ‏.‏
وأما عدم العلم بها كلها فهذا لازم لجميع الناس فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا‏.‏ وما سواه
‏{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وهو سبحانه ‏{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏‏.‏
ولكن المقصود بيان أن المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم ولو في كلمة لابد أن يكون في قولهم من الخطأ بحسب ذلك‏.‏ وأن الأدلة العقلية والسمعية المنقولة عن سائر الأنبياء توافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناقض ما يقوله أهل البدع المخالفون للكتاب والسنة‏.‏
وإذا قالوا‏:‏ إن العقل يخالف النقل، أخطؤوا في خمسة أصول‏:‏
أحدها‏
:‏ أن العقل الصريح لا يناقضه‏.‏
الثانى‏:‏ أنه يوافقه‏.‏
الثالث‏:‏ أن ما يدعونه من العقل المعارض ليس بصحيح‏.‏
الرابع‏:‏ أن ما ذكروه من المعقول المعارض هو المعارض للمعقول الصريح‏.‏
الخامس‏:‏ أن ما أثبتوا به الأصول كمعرفة البارى وصفاته لا يثبتها، بل يناقض إثباتها‏.

 

ص -463-

فَصْل
وذلك أن ما جاء به الرسول هو من علم الله‏.‏ فما أخبر به عن الله، فالله أخبر به، وهو سبحانه يخبر بعلمه يمتنع أن يخبر بنقيض علمه وما أمر به فهو من حكم الله‏.‏ والله عليم حكيم‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏
{لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏، قال الزجاج‏:‏ أنزله وفيه علمه‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقى‏:‏ أنزله من علمه‏.‏ وهكذا ذكر غيرهما‏.‏
وهذا المعنى مأثور عن السلف، كما روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال‏:‏ أقرأنى أبو عبد الرحمن القرآن‏.‏ وكان إذا أقرأ أحدنا القرآن قال‏:‏ قد أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ‏:‏ ‏
{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللّهِ شَهِيدًا‏}‏ وكذلك قالوا في قوله تعالى ‏{فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ‏}‏ ، قالوا‏:‏ أنزله وفيه علمه‏.‏

 

ص -464-

 قلت‏:‏ الباء قد تكون للمصاحبة، كما تقول‏:‏ جاء بأسياده وأولاده‏.‏ فقد أنزله متضمنًا لعلمه، مستصحبًا لعلمه‏.‏ فما فيه من الخبر هو خبر بعلم الله‏.‏ وما فيه من الأمر فهو أمر بعلم الله، بخلاف الكلام المنزل من عند غير الله‏.‏ فإن ذلك قد يكون كذبا وظلمًا كقرآن مسيلمة، وقد يكون صدقا لكن إنما فيه علم المخلوق الذي قاله فقط، لم يدل على علم الله تعالى إلا من جهة اللزوم‏.‏ وهو أن الحق يعلمه الله‏.‏
وأما القرآن فهو متضمن لعلم الله ابتداء‏.‏ فإنما أنزل بعلمه لا بعلم غيره، ولا هو كلام بلا علم‏.‏
وإذا كان قد أنزل بعلمه فهو يقتضي أنه حق من الله، ويقتضي أن الرسول، رسول من الله الذي بين فيه علمه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏[‏الشاهد‏]‏ المبين لما شهد به، والله يبين ذلك ويعلم مع ذلك أنه حق‏.‏
قلت‏:‏ قوله‏:‏
‏{لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ‏}‏، شهادته هو بيانه وإظهاره دلالته وإخباره‏.‏ فالآيات البينات التي بين بها صدق الرسول تدل عليه ومنها القرآن هو شهادة بالقول‏.‏
وهو في نفسه آية ومعجزة تدل على الصدق كما تدل سائر الآيات، والآيات كلها شهادة من الله، كشهادة بالقول، وقد تكون أبلغ‏.‏
ولهذا ذكر هذا في سورة هود لما تحداهم بالإتيان بالمثل فقال‏:‏

 

ص -465-

 ‏{فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13 ،14‏]‏‏.‏ فإن عجز أولئك عن المعارضة، دل على عجز غيرهم بطريق الأولي، وتبين أن جميع الخلق عاجزون عن معارضته، وأنه آية بينة تدل على الرسالة وعلى التوحيد‏.‏
وكذلك قوله‏:‏
‏{لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏‏.‏
بعد قوله‏:‏
‏{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136،135‏]‏، وقد ذكروا أن من الكفار من قال‏:‏ لا نشهد لمحمد بالرسالة، فقال تعالى‏:‏ ‏{لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَّ‏}‏‏.‏
وأحسن من هذا أنه لما قال‏:‏ ‏{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏، نفي حجة الخلق على الخالق فقال‏:‏ لكن حجة الله على الخلق قائمة بشهادته بالرسالة، فإنه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه فما للخلق على الله حجة، بل له الحجة البالغة‏.‏ وهو الذي هدي عباده بما أنزله‏.‏
وعلى ما تقدم فقوله‏:
‏ ‏{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏، أي‏:‏ فيه علمه بما كان وسيكون وما أخبر به، وهو أيضًا مما يدل على أنه حق‏.‏ فإنه إذا أخبر بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله، دل على أن الله أخبره به،

 

ص -466-

 كقوله‏:‏ ‏{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ‏}‏ الآية ‏[‏الجن‏:‏ 26 ،27‏]‏
وقد قيل‏:‏ أنزله وهو عالم به وبك‏.‏ قال ابن جرير الطبري في آية النساء‏:‏ أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه‏.‏
وذكر الزجاج في آية هود قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنزله وهو عالم بإنزاله، وعالم أنه حق من عنده‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أنزله بما أخبر فيه من الغيوب، ودل على ما سيكون وما سلف‏.‏
قلت‏:‏ هذا الوجه هو الذي تقدم‏.‏
وأما الأول فهو من جنس قول ابن جرير‏.‏ فإنه عالم به وبمن أنزل إليه وعالم بأنه حق، وأن الذي أنزل عليه أهل لما اصطفاه الله له‏.‏ ويكون هذا كقوله‏:‏
‏{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 32‏]‏، وقول من قال‏:‏ ‏{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏78‏]‏، أي‏:‏ على علم من الله باستحقاقي‏.‏
قلت‏:‏ وهذا الوجه يدخل في معنى الأول فإنه إذا نزل الكلام بعلم الرب، تضمن أن كل ما فيه فهو من علمه، وفيه الإخبار بحاله وحال الرسول‏.‏ وهذا الوجه هو الصواب‏.‏ وعليه الأكثرون، ومنهم من لم يذكر غيره‏.‏

 

ص -467-

 والأول - وإن كان معناه صحيحًا - فهو جزء من هذا الوجه‏.‏
وأما كون الثاني هو المراد بالآية فغلط؛ لأن كون الرب - سبحانه - يعلم الشيء لا يدل على أنه محمود ولا مذموم‏.‏ وهو - سبحانه - بكل شيء عليم‏.‏ فلا يقول أحد‏:‏ إنه أنزله وهو لا يعلمه‏.‏
لكن قد يظن أنه أنزل بغير علمه، أي‏:‏ وليس فيه علمه، وأنه من تنزيل الشيطان، كما قال تعالى‏:‏
‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221 ،222‏]‏‏.‏ والشياطين، هو يرسلهم وينزلهم، لكن الكلام الذي يأتون به ليس منزلا منه ولا هو منزل بعلم الله، بل منزل بما تقوله الشياطين من كذب وغيره‏.‏
ولهذا هو - سبحانه - إذا ذكر نزول القرآن، قيده بأن نزوله منه، كقوله‏:‏
‏{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏1‏]‏، ‏{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏، ‏{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏
وهذا مما استدل به الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة على أن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق خَلَقَه في محل غيره، فإنه كان يكون منزلا من ذلك المحل لا من الله‏.‏ وقال‏:‏ إنه نزل بعلم الله، وإنه من علم الله، وعلم الله غير مخلوق‏.‏

 

ص -468-

 وقال أحمد‏:‏ كلام الله من الله ليس شيئان منه‏.‏ ولهذا قال السلف‏:‏ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏ فقالوا‏:‏ منه بدأ لم يبدأ من غيره، كما تقوله الجهمية‏.‏ يقولون‏:‏ بدأ من المحل الذي خلق فيه‏.‏ وهذا مبسوط في مواضع‏.‏
والمقصود أنه إذا كان فيه علمه فهو حق، والكلام الذي يعارضه به خلاف علم الله فهو باطل، كالشرك الذي قال الله - تعالى - فيه‏:
‏{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏
فصل
وهذا الذي ذكرته من أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة، كما بينته من أن الكتاب بَيّنَ الأدلة العقلية التي بها تعرف المطالب الإلهية، وبَيَّن ما يدل على صدق الرسول في كل ما يقوله هو يظهر الحق بأدلته السمعية والعقلية‏.‏
وبَيَّن أن لفظ ‏[‏العقل والسمع‏]‏ قد صار لفظًا مجملا‏.‏ فكل من

 

ص -469-

 وضع شيئًا برأيه سماه ‏[‏عقليات‏]‏، والآخر يبين خطأه فيما قاله ويدعي العقل - أيضًا، ويذكر أشياء أُخر تكون - أيضًا - خطأ، كما قد بسط في مواضع‏.‏
وهو نظير من يحتج في السمع بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو نصوص ثابتة لكن لا تدل على مطلوبه‏.‏
وكثير من أهل الكلام يجعل دلالة القرآن والأحاديث من جهة الخبر المجرد‏.‏ ومعلوم أن ذلك لا يوجب العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر‏.‏ فلهذا يضطرون إلى أن يجعلوا العلوم العقلية أصلا، كما يفعل أبو المعالى، وأبو حامد، والرازي، وغيرهم‏.‏
وأئمة المتكلمين يعترفون بأن القرآن بَيَّن الأدلة العقلية، كما يذكر ذلك الأشعري وغيره، وعبد الجبار بن أحمد وغيره من المعتزلة‏.‏
ثم هؤلاء قد يذكرون أدلة يجعلونها أدلة القرآن ولا تكون هي إياها، كما فعل الأشعري في ‏[‏اللمع‏]‏ وغيره، حيث احتج بخلق الإنسان، وذكر قوله‏:‏
‏{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 58 ،59‏]‏، لكن هو يظن أن النطفة فيها جواهر باقية، وأن نقلها في

 

ص -470-

 الأعراض يدل على حدوثها، فاستدل على حدوث جواهر النطفة‏.‏
وليست هذه طريقة القرآن،ولا جمهور العقلاء،بل يعرفون أن النطفة حادثة بعد أن لم تكن، مستحيلة عن دم الإنسان، وهي مستحيلة إلى المضغة،وأن اللّه يخلق هذا الجوهر الثاني من المادة الأولي بالاستحالة ويعدم المادة الأولي - لا تبقي جواهرها بأعيانها دائمًا، كما تقدم‏.‏
فالنظار في القرآن ثلاث درجات، منهم من يعرض عن دلائله العقلية‏.‏ ومنهم من يقر بها لكن يغلط في فهمها‏.‏ ومنهم من يعرفها على وجهها‏.‏ كما أنهم ثلاث طبقات في دلالته الخبرية؛ منهم من يقول لم يدل على الصفات الخبرية، ومنهم من يستدل به على غير ما دل عليه‏.‏ ومنهم من يستدل به على ما دل عليه‏.‏
والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية‏.‏ أخذوا من هؤلاء كلامًا صحيحًا، ومن هؤلاء أصولا عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة‏.‏ فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية‏.‏ ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية، كأبي المعالى وأتباعه‏.‏ ومنهم من سلك مسلكهم كأئمة أصحابهم، كما قد بسط في مواضع‏.‏
إذًا المقصود - هنا - أن جعل القرآن إمامًا يؤتم به في أصول الدين

 

ص -471-

 وفروعه هو دين الإسلام‏.‏ وهو طريقة الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين‏.‏ فلم يكن هؤلاء يقبلون من أحد قط أن يعارض القرآن بمعقول أو رأي يقدمه على القرآن‏.‏ ولكن إذا عرض للإنسان إشكال، سأل حتى يتبين له الصواب‏.‏
ولهذا صنف الإمام أحمد كتابًا في ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله‏]‏‏.‏
ولهذا كان الأئمة الأربعة وغيرهم يرجعون في التوحيد والصفات إلى القرآن والرسول، لا إلى رأي أحد، ولا معقوله، ولا قياسه‏.‏
قال الأوزاعي‏:‏ كنا - والتابعون متوافرون - نقول‏:‏ إن اللّه فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته‏.‏
وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ لا يوصف اللّه إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث‏.‏
وقال الشافعي في خطبة ‏[‏الرسالة‏]‏‏:‏ الحمد للّه الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه‏.‏
وقال مالك‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به

 

ص -472-

 واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏ وكان يكره ما أحدث من الكلام‏.‏ وروي عنه وعن أبي يوسف‏:‏ من طلب الدين بالكلام تزندق‏.‏  وقال الشافعي‏:‏ حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال‏:‏ هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام‏.‏ وقال‏:‏ لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت أظنه، ولأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك باللّه خير له من أن يبتلى بالكلام‏.‏
وقد بُسِط تفسير كلامه وكلام غيره في مواضع، وبُيِّن أن مرادهم بالكلام هو كلام الجهمية الذي نفوا به الصفات، وزعموا أنهم يثبتون به حدوث العالم، وهي طريقة الأعراض‏.‏
وقال أحمد أيضًا ‏:‏ علماء الكلام زنادقة، وما ارتدي أحد بالكلام فأفلح‏.‏ وكلام عبد العزيز بن أبي سَلَمَة الماجشون مبسوط في هذا‏.‏
وذكر أصحاب أبي حنيفة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال‏:‏ لا ينبغي لأحد أن ينطق في اللّه بشيء من رأيه، ولكنه يصفه بما وصف به نفسه‏.‏
وقال أبوحنيفة‏:‏ أتانا من خُرَاسان ضيفان كلاهما ضالان‏:‏ الجهمية، والمشبهة‏.‏

 

ص -473-

 وعن أبي عصمة قال‏:‏ سألت أبا حنيفة‏:‏ من أهل الجماعة‏؟‏ قال‏:‏ من فَضَّل أبا بكر وعمر‏.‏ وأحب عليًا وعثمان، ولم يُحَرِّم نبيذ الجرَّ، ولم يكفر أحدًا بذنب، ورأي المسح على الخفين، وآمن بالقدر خيره وشره من اللّه، ولم ينطق في اللّه بشيء‏.‏
وروي خالد بن صُبَيْح، عن أبي حنيفة قال‏:‏ الجماعة سبعة أشياء‏:‏ أن يفضل أبا بكر وعمر، وأن يحب عثمان وعليًا، وأن يصلي على من مات من أهل القبلة بذنب، وألا ينطق في اللّه شيئًا‏.‏
قلت‏:‏ قوله في هاتين الروايتين‏:‏ ‏[‏لا ينطق في اللّه شيئًا‏]‏ قد بينه في رواية أبي يوسف، وهو ‏[‏ألا ينطق في اللّه بشيء من رأيه ولكنه يصفه بما وصف به نفسه‏]‏
فهذا ذم من الأئمة لكل من يتكلم في صفات الرب بغير ما أخبر به الرسول‏.‏ فكيف بالذين يجعلون الكتاب والسنة لا يفيد علمًا، ويقدمون رأيهم على ذلك، مع فساده من وجوه كثيرة‏؟‏‏!‏
وروي هشام، عن محمد، عن أبي حنيفة وأبي يوسف - وهو قول محمد - قالوا‏:‏ السنة التي عليها أمر الناس ألا يكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ويخرج من الإسلام، ولا يشك في الدين - يقول الرجل‏:‏ لا أدري أمؤمن أنا أو كافر، ولا يقول بالقدر، ولا يخرج

 

ص -474-

 على المسلمين بالسيف، ويقدم من يقدم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويفضل من فضل‏.‏
وذكروا عن أبي يوسف أنه قال‏:‏ مذهب أهل الجماعة عندنا، وما أدركنا عليه جماعة أهل الفقه ممن لم يأخذ من البدع والأهواء، ألا يشتم أحدًا من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر فيهم عيبا، ولا يذكر ما شجر بينهم فيحرف القلوب عنهم، وألا يشك بأنهم مؤمنون، وألا يكفر أحدًا من أهل القبلة ممن يقر بالإسلام ويؤمن بالقرآن، ولا يخرجه من الإيمان بمعصية إن كانت فيه، ولا يقول بقول أهل القدر، ولا يخاصم في الدين، فإنها من أعظم البدع‏.‏
فهذا قول أهل السنة والجماعة، ولا ينبغي لأحد أن يقول في هذا كيف ولم‏؟‏ ولا ينبغي أن يخبر السائل عن هذا إلا بالنهى له عن المسألة وترك المجالسة والمشي معه إن عاد‏.‏ ولا ينبغي لأحد من أهل السنة والجماعة أن يخالط أحدًا من أهل الأهواء حتى يصاحبه ويكون خاصته، مخافة أن يستزله أو يستزل غيره بصحبة هذا‏.‏
قال‏:‏ والخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة‏.‏ لو كانت فضلا لسبق إليها أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوي ولها أبصر‏.‏ وقال

 

ص -475-

 اللّه تعالى‏:‏ ‏{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏، ولم يأمره بالجدال‏.‏ ولو شاء لأنزل حججًا وقال له‏:‏ قل كذا وكذا‏.‏
وقال أبو يوسف‏:‏ دعوا قول أصحاب الخصومات وأهل البدع في الأهواء من المرجئة، والرافضة، والزيدية، والمشبهة، والشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية‏.‏
قالوا‏:‏ وروي عن محمد قال‏:‏ أبو بكر وعمر أفضل من على‏.‏
قلت‏:‏ ما ذكر أبو يوسف في أمر الجدال هو يشبه كلام كثير من أئمة السنة - يشبه كلام الإمام أحمد وغيره‏.‏ وفيه بسط وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏
ولهذا كان بشير بن الوليد صاحب أبي يوسف يحب أحمد، ويميل إليه‏.‏ فإن أبا يوسف كان أميل إلى الحديث من غيره‏.‏ واللّه أعلم وأحكم‏.‏

 

ص -476-

 وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ اللّه‏:‏
فصل

السور القصار في أواخر المصحف متناسبة‏.‏ فسورة
‏{اقرأ‏}‏ هي أول ما نزل من القرآن؛ ولهذا افتتحت بالأمر بالقراءة، وختمت بالأمر بالسجود، ووسطت بالصلاة التي أفضل أقوالها وأولها بعد التحريم هو القراءة، وأفضل أفعالها وآخرها قبل التحليل هو السجود؛ ولهذا لما أُمِرَ بأن يقرأ أنزل عليه بعدها المدثر، لأجل التبليغ فقيل ‏:‏‏{له قُمْ فَأَنذِرْ ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏2‏]‏، فبالأولي صار نبيًا، وبالثانية صار رسولا؛ ولهذا خوطب بالمتدثر، وهو المتدفئ من برد الرعب والفزع الحاصل بعظمة ما دهمه لما رجع إلى خديجة ترجف بوادره، وقال دثروني دثروني، فكأنه نهى عن الاستدفاء وأُمِرَ بالقيام للإنذار، كما خوطب في ‏[‏المزمل‏]‏ وهو المتلفف للنوم لما أُمِر بالقيام إلى الصلاة، فلما أُمِر في هذه السورة بالقراءة ذكر في التي تليها نزول القرآن ليلة القدر،وذكر فيها تنزل الملائكة والروح، وفي ‏[‏المعارج‏]‏ عروج الملائكة والروح، وفي ‏[‏النبأ‏]‏ قيام الملائكة والروح‏.‏ فذكر الصعود والنزول والقيام، ثم

 

ص -477-

 في التي تليها تلاوته على المنذرين حيث قال‏:‏ ‏{يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏2 ،3‏]‏‏.‏
فهذه السور الثلاث منتظمة للقرآن أمرًا به وذكرًا لنزوله ولتلاوة الرسول له على المنذرين، ثم سورة ‏[‏الزلزلة‏]‏ و‏[‏العاديات‏]‏ و‏[‏القارعة‏]‏ و‏[‏التكاثر‏]‏ متضمنة لذكر اليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، وكل واحد من القرآن وإليوم الآخر قيل هو النبأ العظيم‏.‏
ثم سورة ‏[‏العصر‏]‏ و‏[‏الهمزة‏]‏ و‏[‏الفيل‏]‏ و‏[‏لإيلاف‏]‏ و‏[‏أرأيت‏]‏ و‏[‏الكوثر‏]‏ و‏[‏الكافرون‏]‏ و‏[‏النصر‏]‏ و‏[‏تبت‏]‏ متضمنة لذكر الأعمال حسنها وسيئها، وإن كان لكلٍ سورة خاصة‏.‏
وأما سورة ‏[‏الإخلاص‏]‏ و‏[‏المعوذتان‏]‏، ففي الإخلاص الثناء على اللّه،وفي المعوذتين دعاء العبد ربه ليعيذه، والثناء مقرون بالدعاء، كما قرن بينهما في أم القرآن المقسومة بين الرب والعبد‏:‏ نصفها ثناء للرب،ونصفها دعاء للعبد، والمناسبة في ذلك ظاهرة؛ فإن أول الإيمان بالرسول الإيمان بما جاء به من الرسالة وهو القرآن، ثم الإيمان بمقصود ذلك وغايته وهو ما ينتهي الأمر إليه من النعيم والعذاب‏.‏ وهو الجزاء، ثم معرفة طريق المقصود وسببه وهو الأعمال‏:‏ خيرها ليفعل، وشرها ليترك‏.‏

 

ص -478-

 ثم ختم المصحف بحقيقة الإيمان وهو ذكر اللّه ودعاؤه، كما بنيت عليه أم القرآن، فإن حقيقة الإنسان المعنوية هو المنطق، والمنطق قسمان‏:‏ خبر وإنشاء، وأفضل الخبر وأنفعه وأوجبه ما كان خبرًا عن اللّه كنصف الفاتحة وسورة الإخلاص، وأفضل الإنشاء الذي هو الطلب وأنفعه وأوجبه ما كان طلبًا من اللّه، كالنصف الثاني من الفاتحة والمعوذتين‏.‏

 

ص -479-

 سُورَة البَيِّنَة
قَالَ شيخ الإِسلام رحَمهُ اللَّه‏:‏
فصل
في قوله تعالى‏:‏ ‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏
فإن هذه السورة سورة جليلة القَدْر، وقد ورد فيها فضائل‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن اللّه أمر نبيه أن يقرأها على أبي بن كعب‏.‏ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لأبي‏:
‏ ‏"‏إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ آللّه سماني لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏آللّه سماك لي‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فجعل أبي يبكي‏.‏ وفي رواية أخري‏:‏ ‏"‏إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك‏:‏ ‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ سماني لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ فبكى‏.‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ وذكرت عند رب العالمين‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ فذرفت عيناه‏.‏ قال قتادة‏:‏ أنبئت

 

ص -480-

 أنه قرأ عليه‏:‏ ‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏‏.‏ وتخصيص هذه السورة بقراءتها على أبي يقتضي اختصاصها وامتيازها بما اقتضي ذلك‏.‏
وقوله‏:‏‏"‏أن أقرأ عليك‏"‏، أي قراءة تبليغ وإسماع وتلقين، ليس هي قراءة تلقين وتصحيح كما يقرأ المتعلم على المعلم، فإن هذا قد ظنه بعضهم، وجعلوا هذا من باب التواضع‏.‏ وجعل أبو حامد هذا مما يستدل به على تواضع المتعلم، وليس هذا بشيء‏.‏ فإن هذه القراءة كان يقرأها على جبريل يعرض عليه القرآن كل عام، فإنه هو الذي نزل عليه القرآن‏.‏
وأما الناس فمنه تعلموه، فكيف يصحح قراءته على أحد منهم، أو يقرأ كما يقرأ المتعلم ‏؟‏
ولكن قراءته على أبي بن كعب كما كان يقرأ القرآن على الإنس والجن‏.‏ فقد قرأ على الجن القرآن‏.‏ وكان إذا خرج إلى الناس يدعوهم إلى الإسلام، ويقرأ عليهم القرآن‏.‏ ويقرأه على الناس في الصلاة وغير الصلاة‏.‏
قال تعالى‏
:‏ ‏{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏20 ،21‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏،

 

ص -481-

وقال تعالى‏:‏‏{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏وذكر مثل هذا في غير موضع‏.‏فهو يتلو على المؤمنين آيات اللّه‏.‏
وأبي بن كعب أمر بتخصيصه بالتلاوة عليه لفضيلة أبي واختصاصه بعلم القرآن، كما ثبت في الصحاح عن عمر أنه قال‏:‏ أبي أقرأنا وعلى أقضانا‏.‏
وفي الصحيح أنه قال لابن مسعود‏:‏ ‏"‏اقرأ علي القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ أقرأ عليك وعليك أنزل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏"‏‏.‏ فقراءة ابن مسعود عليه في هذا الموضع لإسماعه إياه، لا لأجل التصحيح والتلقين‏.‏
وفي معنى قوله تعالى‏:‏ لم يكن هؤلاء وهؤلاء ‏{مُنفَكِّينَ‏}‏، ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين‏:‏
هل المراد لم يكونوا منفكين عن الكفر‏؟‏
أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث، فلم يكونوا منفكين عن محمد والتصديق بنبوته حتى بعث‏؟‏
أو المراد أنهم لم يكونوا متروكين حتى يُرسَل إليهم رسول ‏؟‏

 

ص -482-

 وممن ذكر هذا أبو الفرج بن الجوزي‏.‏ قال‏:‏ ‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏، يعني اليهود والنصارى‏.‏ ‏{وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏، وهم عبدة الأوثان‏.‏ ‏{مُنفَكِّينَ‏}‏، أي‏:‏ منفصلين وزائلين‏.‏ يقال‏:‏ فككت الشيء فانفك، أي‏:‏ انفصل‏.‏ والمعنى‏:‏ لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى أتتهم البينة‏.‏ لفظه لفظ المستقبل ومعناه الماضي‏.‏ والبينة الرسول، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بين لهم ضلالهم وجهلهم‏.‏ وهذا بيان عن نعمة اللّه على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم به‏.‏
ولفظ البغوي نحو هذا‏.‏ قال‏:‏ لم يكونوا منتهين عن كفرهم وشركهم‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ ‏[‏منفكين‏]‏ منفصلين زائلين، يقال‏:‏ فككت الشيء فانفك، أي‏:‏ انفصل‏.‏
‏{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي‏:‏ حتى أتتهم البينة الحجة الواضحة يعني محمدًا أتاهم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان‏.‏ فأنقذهم اللّه به من الجهل والضلالة‏.‏
ولم يذكر غير هذا‏.‏
قال أبو الفرج‏:‏ وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية‏:‏ لم يختلفوا أن اللّه يبعث إليهم نبيًا حتى بعث، فافترقوا‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ لم يكونوا منفكين عن حُجَج اللّه حتى أقيمت عليهم البينة‏.‏

 

ص -483-

 قال‏:‏ والوجه هو الأول‏.‏
وذكر الثلاثة أبو محمد بن عطية، لكن الثالث وجهه وقواه، ولم يحكه عن غيره‏.‏ فقال‏:‏ قوله‏:
‏ ‏{مُنفَكِّينَ‏}‏، أي‏:‏ منفصلين متفرقين‏.‏ تقول‏:‏ انفك الشيء عن الشيء إذا انفصل عنه‏.‏
قال‏:‏ و‏[‏ما انفك‏]‏ التي هي من أخوات ‏[‏كان‏]‏ لا مدخل لها في هذه الآية، فبين في هذه أن تكون هذه الصفة منفكة‏.‏
قال‏:‏ واختلف الناس عن ماذا ‏؟‏ فقال مجاهد وغيره‏:‏ لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة، وأوقع المستقبل موقع الماضي في
‏{تأْتِيَهُمُ‏}‏؛ لأن بأس الشريعة وعِظَمِها لم يجئ بعد‏.‏
وقال الفراء وغيره‏:‏ لم يكونوا منفكين عن معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكد لأمره، حتى جاءتهم البينة فتفرقوا عند ذلك‏.‏
قال‏:‏ وذهب بعض النحويين إلى أن هذا المنفي المتقدم مع ‏[‏منفكين‏]‏، يجعلهم تلك هي مع ‏[‏كان‏]‏، ويروي التقدير في خبرها‏:‏ ‏[‏عارفين أمر محمد‏]‏، أو نحو هذا‏.‏
قال‏:‏ وفي معنى الآية قول ثالث بارع المعنى؛ وذلك أن يكون المراد‏:‏ لم يكونوا هؤلاء منفكين من أمر اللّه وقدرته ونظره لهم حتى

 

ص -484-

 يبعث إليهم رسولا منذرًا تقوم عليهم به الحجة وتتم على من آمن النعمة فكأنه قال‏:‏ ما كانوا يتركوا سدي‏.‏ قال‏:‏ ولهذا المعنى نظائر في كتاب اللّه‏.‏
وقد ذكر الثعلبي ثلاثة أقوال‏.‏ لكن الثالث حكاه عمن جعل مقصوده إهلاكهم بإقامة الحجة وجعل ‏[‏منفكين‏]‏ بمعنى هالكين‏.‏
فقال‏:‏ لم يكونوا منفكين منتهين عن كفرهم وشركهم‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ زائلين‏.‏ تقول العرب‏:‏ ما انفك فلان يفعل كذا، أي‏:‏ مازال‏.‏ وأصل الفك‏:‏ الفتح، ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال‏.‏ ‏
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، الحجة الواضحة، وهو محمد أتاهم بالقرآن، فبين ضلالتهم وجهالتهم‏.‏ ودعاهم إلى الإيمان‏.‏
قال‏:‏ وقال ابن كَيْسان‏:‏ معناه‏:‏ لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد في كتابهم حتى بعث، فلما بعث تفرقوا فيه‏.‏
وقال‏:‏ قال العلماء في أول السورة إلى قوله‏:‏
‏{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 3‏]‏، حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين‏.‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقَ‏}‏‏:‏ حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجة عليهم‏.‏

 

ص -485-

 قال‏:‏ وقال بعض أئمة اللغة‏:‏ قوله ‏{مُنفَكِّينَ‏}‏، أي هالكين‏.‏ من قولهم‏:‏ انفك صَلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل ولا يلتئم فتهلك‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لم يكونوا هالكين مكذبين إلا بعد إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب‏.‏
وقد ذكر البغوي هذا والأول‏.‏ قال‏:‏ والأول أصح‏.‏
قلت‏:‏ القول الثاني الذي حكاه عن ابن كيسان هو قول الفرَّاء‏.‏ وقد قدمه المْهدَوي على الأول فقال‏:‏ ‏
{مُنفَكِّينَ‏}‏، مِن ‏[‏انفك الشيء من الشيء‏]‏ إذا فارقه‏.‏ والمعنى‏:‏ لم يكونوا متفرقين إلا إذا جاءهم الرسول لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره وصفته‏.‏ وكفرهم بعد البينات‏.‏ قال‏:‏ ولا يحتاج ‏{مُنفَكِّينَ‏}‏ على هذا التأويل إلى خبر‏.‏ ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏‏.‏
قال، وقال مجاهد‏:‏ المعنى لم يكونوا منتهين عما هم عليه‏.‏ وعن مجاهد أيضًا ‏:‏ لم يكونوا ليؤمنوا حتى تأتيهم البينة‏.‏
قال‏:‏ وقال الفراء‏:‏ لم يكونوا تاركين ذكر ما عندهم من ذكر النبي حتى ظهر‏.‏ فلما ظهر تفرقوا واختلفوا‏.‏

 

ص -486-

 قلت‏:‏ هذا المعنى هو الذي قدمه‏.‏ لكن الفراء وابن كَيْسَان جعلا الانفكاك مفارقتهم وتركهم لذكره وخبره والبشارة به‏.‏ أي‏:‏ لم يكونوا مفارقين تاركين لما علموه من خبره حتى ظهر‏.‏ فانفكوا حينئذ‏.‏ وذاك يقول‏:‏ لم يكونوا منفكين، أي‏:‏ متفرقين‏.‏ إلا إذا جاء الرسول، لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره‏.‏ وهو معنى ما حكاه أبو الفرج‏:‏ لم يختلفوا أن اللّه يبعث إليهم نبيًا حتى بعث، فافترقوا‏.‏
فالانفكاك انفكاك بعضهم عن بعض، أو انفكاكهم عما كان عندهم من علمه وخبره‏.‏ وهذا القول ضعيف لم يرد بهذه الآية قطعًا‏.‏ فإن الله لهم يذكر أهل الكتاب، بل ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب‏.‏ ومعلوم أن المشركين لم يكونوا يعرفونه ويذكرونه ويجدونه في كتبهم، كما كان ذلك عند أهل الكتاب‏.‏ ولا كانوا قبل مبعثه على دين واحد، متفقين عليه‏.‏ فلما جاء تفرقوا‏.‏
فيمتنع أن يقال‏:‏ لم يكن المشركون تاركين لمعرفة محمد وذكره والإيمان به‏.‏ ولم يكونوا مختلفين في ذلك، ولا متفرقين فيه حتى بعث‏.‏ فهذا معنى باطل في المشركين‏.‏
ولا يستقيم هذا أيضًا في أهل الكتاب‏.‏فإن اللّه إنما ذكر الكفار منهم،فقال‏:‏
‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

 

ص -487-

ومعلوم أن الذين كانوا يعرفون نبوته ويقرون به ويذكرونه قبل أن يبعث لم يكونوا كلهم كفارًا،بل كان الإيمان أغلب عليهم‏.‏  يبين هذا أنه إذا ذكر تفرق الذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءتهم البينة، فإنه يعمهم فيقول‏:‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، وأنه لا يقول‏:‏ كان الكفار من أهل الكتاب متفقين على الحق حتى جاءتهم البينة‏.‏
وأيضًا، فاستعمال لفظ ‏[‏الانفكاك‏]‏ في هذا غير معروف، لا يعرف في اللغة له شاهد‏.‏ فتسمية الافتراق والاختلاف ‏[‏انفكاكًا‏]‏ غير معروف‏.‏
وأيضًا، فهو لم يذكر ل
‏{مُنفَكِّينَ‏}‏ خبرًا كما يقال‏:‏ ما انفكوا يذكرون محمدًا، وما زالوا يؤمنون به، ونحو ذلك‏.‏ وهذه التي هي من أخوات ‏[‏كان‏]‏ لا يقال فيها‏:‏ ‏[‏ما كنت منفكًا‏]‏، بل يقال‏:‏ ‏[‏ما انفككت أفعل كذا‏]‏، فهو يلي حرف ‏[‏ما‏]‏‏.‏
وأيضًا، فليس في اللفظ ما يدل على أن الانفكاك عن أمر محمد خاصة‏.‏ وأيضًا، فهذا المعنى مذكور في قوله‏:‏ ‏
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}

 

ص -488-

فلو أريد بهذه لكان تكريرًا محضًا‏.‏
والقول الأول أشهر عند المفسرين‏.‏ ومنهم من يذكر غيره، كالبغوي وغيره‏.‏ فإنه معروف عن مجاهد، والربيع بن أنس، كما في التفسير المعروف عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏
‏{مُنفَكِّينَ‏}‏، قال‏:‏ منافقين، لم يكونوا ليؤمنوا حتى تبين لهم الحق، وقال الربيع بن أنس‏:‏ لم يزالوا مقيمين على الشك والريبة حتى جاءتهم البينة والرسل‏.‏
وهذا القول يتضمن مدحهم والثناء عليهم بعد مجيء البينة؛ ولهذا احتاج من قاله إلى أن يقول‏:‏ هذا فيمن آمن من الفريقين في أنه بيان لنعمة اللّه عليهم‏.‏ وجعلوا قوله‏:‏ ‏
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ فيمن لم يؤمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
وهذا - أيضًا - ضعيف‏.‏ فإن أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا قبل إرسال محمد إليهم، كما أخبر اللّه بذلك في غير موضع‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 16‏,‏17‏]‏‏.‏

 

ص -489-

وقال‏:‏ ‏{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ فأخبر أن الله هدي المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه‏.‏ فكان الاختلاف قبل وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏124‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 93‏]‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏

 

ص -490-

{تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏63 ،64‏]‏ فقد أخبر - تعالى - أنه أرسل إلى أمم من قبل محمد، وأن الشيطان زين لهم أعمالهم، وهو - حين يبعث محمد - وليهم، وأنه أنزل إليهم الكتاب ليبين لهم الذي اختلفوا فيه‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 76 ،77‏]‏، وقال لأمة محمد‏:‏‏{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏فهذا بين أنهم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات قبل محمد، وقد نهى الله أمته أن يكونوا مثلهم‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏
‏{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏، وقال عن اليهود‏:‏ ‏{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏‏.‏
وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسند - من وجوه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
:‏ ‏"‏تفرقت اليهود على إحدي وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة‏"‏‏.‏ وإن كان بعض الناس - كابن حزم - يضعف هذه الأحاديث، فأكثر أهل العلم قبلوها وصدقوها‏.‏

 

ص -491-

 وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم‏.‏ فإذا نهىتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏.‏
وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم‏.‏ فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له‏.‏ الناس لنا فيه تبع - غدًا لليهود، وبعد غد للنصارى‏"‏‏.‏
وهذا معلوم بالتواتر أن أهل الكتاب اختلفوا وتفرقوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ بل اليهود افترقوا قبل مجيء المسيح، ثم لما جاء المسيح اختلفوا فيه‏.‏ثم اختلف النصارى اختلافا آخر‏.‏
فكيف يقال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، هو فيمن لم يؤمن بمحمد منهم‏؟‏
وأيضًا، فالذين كفروا بمحمد كفار، وهم المذكورون في قوله‏:‏
‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهم

 

ص -492-

 تفرقوا واختلفوا فيما جاءت به الأنبياء قبل محمد، وكفر من كفر منهم قبل إرسال محمد‏.‏
وكان منهم من لم يكفر، بل كان مؤمنًا بالأنبياء كما قال تعالى‏:‏
‏{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏، ‏{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113 ،114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏‏.‏
وفي صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حِمَار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏ ‏"‏ إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم - عربهم وعجمهم - إلا بقايا من أهل الكتاب‏.‏ وإن ربي قال لي‏:‏ قم في قريش فأنذرهم‏.‏ فقلت‏:‏ أي رب، إذًا يَثلَغُوا رأسي حتى يدعوه خبزة‏.‏ فقال‏:‏ إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائمًا ويقظانًا‏.‏ فابعث جندًا نبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك‏"‏، والحديث أطول من هذا‏.‏

 

ص -493-

والمقصود - هنا - الكلام على الآية، فنقول‏:‏ القول الثالث وهو أصح الأقوال لفظًا ومعنى‏.‏
أما من جهة اللفظ ودلالته وبيانه، فإن هذا اللفظ هو مستعمل فيما يلزم به الإنسان - يعني اختياره - ويقهر عليه إذا تخلص منه‏.‏ يقال‏:‏ انفك منه، كالأسير والرقيق المقهور بالرق والأسر‏.‏ يقال‏:‏ فككت الأسير فانفك، وفككت الرقبة‏.‏ قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 ،13‏]‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري‏
:‏ ‏"‏عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني‏"‏‏.‏ وفي الصحيح أيضًا ‏:‏ أن عليا لما سئل عما في الصحيفة فقال‏:‏ فيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر‏.‏
ففكه‏:‏ فصله عمن يقهره ويستولي عليه بغير اختياره، والتفريق بينهما‏.‏
ويقال‏:‏ فلان ما يفك فلانًا حتى يوقعه في كذا وكذا، والمتولي لا يفك هذا حتى يفعل كذا - يقال لمن لزم غيره واستولي عليه إما بقدرة وقهر، وإما بتحسين وتزيين وأسباب، حتى يصير بها مطيعًا له‏.‏

 

ص -494-

ويقال للمستولَي عليه‏:‏ هو ما ينفك من هذا، كما لا ينفك الأسير والرقيق من المستولِي عليه‏.‏
فقوله‏:‏ ‏
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏، أي‏:‏ لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم - يفعلون ما يهوونه لا حَجْر عليهم، كما أن المنفك لا حَجْر عليه‏.‏ وهو لم يقل‏:‏ ‏[‏مفكوكين‏]‏ بل قال‏:‏ ‏{مُنفَكِّينَ‏}‏‏.‏ وهذا أحسن، فإنه نفي لفعلهم‏.‏ ولو قال‏:‏ ‏[‏مفكوكين‏]‏، كان التقدير‏:‏ لم يكونوا مسيبين مخلين، فهو نفي لفعل غيرهم‏.‏ والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين - لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، بل يفعلون ما شاؤوا مما تهواه الأنفس‏.‏  والمعنى‏:‏ أن الله ما يخليهم ولا يتركهم‏.‏ فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏36‏]‏، لا يؤمر ولا ينهى‏.‏ أي‏:‏ أيظن أن هذا يكون‏؟‏ هذا ما لا يكون البتة‏.‏ بل لابد أن يؤمر وينهى‏.‏ وقريب من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏3 ،5‏]‏‏.‏ وهذا استفهام إنكار، أي‏:‏ لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل‏.‏ ومن كره إرسالهم‏؟‏

 

ص -495-

فإن الأول تكذيب بوجودهم، والثاني يتضمن بغضهم وكراهة ما جاؤوا به‏.‏قال تعالى‏:‏‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏9‏]‏، وقال عن مؤمن آل فرعون‏:‏‏{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏‏.‏
وأما من كذب بهم بعد الإرسال، فكفره ظاهر‏.‏ ولكن من ظن أن الله لا يرسل إليه رسولا، وأنه يترك سدي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، فهذا - أيضًا - مما ذمه الله، إذا كان لابد من إرسال الرسل وإنزال الكتب، كما أنه - أيضًا - لابد من الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب وقيام القيامة‏.‏
ولهذا ينكر - سبحانه - على من ظن أن ذلك لا يكون، فقال تعالى‏:‏
‏{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏27 ،28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85 ،86‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 22‏]‏‏.‏

 

ص -496-

وقال عن أولي الألباب‏:‏ ‏{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏، ونحوه في القرآن مما يبين أن الأمر والنهى، والثواب والعقاب، والمعاد، مما لابد منه‏.‏ وينكر على من ظن أو حسب أن ذلك لا يكون‏.‏ وهو يقتضي وجوب وقوع ذلك، وأنه يمتنع ألا يقع‏.‏
وهذا متفق عليه بين أهل الملل المصدقين للرسل من المسلمين وغيرهم من جهة تصديق الخبر، فإن الله أخبر بذلك، وخبره صدق‏.‏ فلابد من وقوع مخبره، وهو واجب بحكم وعده وخبره‏.‏ فإنه إذا علم أن ذلك سيكون، وأخبر أنه سيكون، فلابد أن يكون‏.‏ فيمتنع أن يكون شيء على خلاف ما علمه وأخبر به، وكتبه، وقدره‏.‏
وأيضًا، فإنه قد شاء ذلك، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏ ولابد أن يقع كل ماشاءه‏.‏
لكن هل يقال‏:‏ إن المشيئة موجبة‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ وكذلك يقال‏:‏ إن ذلك وجب لإيجابه له على نفسه، أو لاقتضاء حكمته ذلك، فيه - أيضًا - نزاع‏.‏
وما أقسم ليفعلنه، فلابد أن يقع‏.‏ والقسم متضمن معنى الخبر،

 

ص -497-

ومعنى الحض والطلب‏.‏ لكن في ثبوت الثاني في حق الله نزاع بين الناس، كقوله‏:‏ ‏{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏‏.‏
والذين قالوا إن حكمته، أو حكمه، أو مشيئته، توجب ذلك يقولون‏:‏ إن ذلك قد يعرف بالعقل‏.‏ فيقولون‏:‏ إنه قد يعرف بالعقل أنه لابد من إرسال الرسل‏.‏ وأن ذلك واجب في حكمه وحكمته‏.‏ وهذا قول كثير من الطوائف، أو أكثرهم‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ لا يعلم شيء من ذلك إلا بالخبر، وهذا قول الجهمية والأشعرية‏.‏ وذاك قول المعتزلة، والكَرَّامية، والحنفية، أو أكثرهم‏.‏
وأما أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، فمنهم من يقول بهذا، ولكن جمهور الفقهاء مع السلف يثبتون الحكمة والتعليل‏.‏ وإنما ينفي ذلك منهم من وافق الجهمية المجبرة‏.‏ كالأشعري ومن وافقه‏.‏
وكذلك جمهورهم يثبتون للأفعال صفات بها كانت حسنة أو سيئة قبيحة‏.‏لا يجعلون حسنها وقبحها ترجيحًا لأحد الأمرين بلا مرجح بل لمحض المشيئة، كما تقوله الجهمية ومن وافقهم‏.‏

 

ص -498-

هذا قول الأئمة والجمهور، كما أن الأئمة والجمهور على إثبات القدر والإيمان به، وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏ لا يقولون بقول من أنكر القدر من المعتزلة ونحوهم، ولا بقول من أنكر حكمة الرب من الجهمية المجبرة ونحوهم‏.‏
فلا يقولون بقول القدرية النفاة للقدر، ولا بقول القدرية المجبرة الذين يستلزم قولهم إنكار الأمر والنهى، والوعد والوعيد، والجزاء بالثواب والعقاب، لا سيما من أفصح منهم بذلك، أو قال‏:‏ إن من شهد القدر سقط عنه الأمر والنهى والوعد والوعيد‏.‏
فآمنوا بما جاءت به الرسل في الجملة، وأوجبوا ما أوجبه الله، وحرموا ما حرمه الله، وآمنوا بالجنة والنار، واجتهدوا في متابعة الرسل‏.‏ لكن أخطؤوا حيث نفوا القدر، وظنوا أن إثباته يناقض الأمر والنهى والوعد والوعيد، وأنه لا يتم إيمانهم بأن الله عادل صادق حتى يكذبوا بالقدر، وبإخراج أهل الكبائر من النار ظنًا منهم أن الله أخبر بأن كل من كان له ذنب يستحق به العذاب لا يخرجه من النار،ولا يرحمه أبدًا‏.‏ فلم يجوزوا أن يعذب بذنبه ثم يرحم، بل عندهم من كان له ذنب يستحق به العذاب لم يرحم أبدًا‏.‏
وهم - وإن كانوا لم يتعمدوا تكذيب الرسل - فقولهم هذا يتضمن

 

ص -499-

مخالفة الأخبار المتواترة عند أهل العلم بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج أهل الذنوب من النار،وشفاعة الشفعاء فيهم‏.‏ ويتضمن أنهم آيسوا الخلق من رحمة الله - مع تكذيبهم بعموم خلق الله، ومشيئته وقدرته - حيث زعموا أن من الحوادث ما لا يقدر عليه ولا يشاؤه، ولا يخلقه‏.‏
وتشبهوا بالمجوس من هذا الوجه، حتى قيل‏:‏ القدرية مجوس هذه الأمة‏.‏
وقابلهم أولئك، فتوقفوا في خبر الله مطلقًا، حتى أنكروا صِنْفَي العموم، فلم يعلموا بخبره ما أخبر به من الوعد والوعيد‏.‏
فلا يجزمون بالنجاة للصِّنف الذين يعلم الله أنهم آمنوا وعملوا الصالحات، وكانوا من أعظم الناس طاعة لله، إذا كان لأحدهم سيئة واحدة صغيرة‏.‏ ولا بالعذاب للصنف الذين يعلم الله أنهم أفجر أهل القبلة وشرها؛ بل يجوزون مع علم الله بهذا وبهذا أن يعذب أهل الحسنات الكبيرة على سيئة صغيرة عذابًا ما يعذبه أحدًا من أهل القبلة، وأن يدخل فجار أهل القبلة الجنة مع السابقين الأولين‏.‏
وبسط الكلام على هؤلاء وهؤلاء له مقام آخر‏.‏

 

ص -500-

 

والمقصود - هنا - أن هذه السورة دلت على ما تدل عليه مواضع أخر من القرآن‏.‏ من أن الله يرسل الرسل إلى الناس تأمرهم وتنهاهم - يرسلهم مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏48‏]‏، ينذرون الذين أساؤوا عقوبات أعمالهم، ويبشرون الذين آمنوا وعملوا الصاحات بالنعيم المقيم، و ‏{أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏2 ،3‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏
‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏، بيان منه أن الكفار لم يكن الله ليدعهم ويتركهم على ما هم عليه من الكفر، بل لا يفكهم حتى يرسل إليهم الرسول بشيرًا ونذيرًا ‏{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 31‏]‏
ومما يبين ذلك‏:‏ أن ‏[‏حتى‏]‏ حرف غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها‏.‏ كما في قوله‏:‏
‏{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{حَتَّىَ يَطْهُرْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، ونظائر ذلك‏.‏
فلو أريد أنهم لم يكونوا منتهين ويؤمنون حتى يتبين لهم الحق لزم أن يكونوا كلهم بعد مجيء البينة قد انتهوا وآمنوا‏.‏ فإن اللفظ عام فيهم‏.‏

 

ص -501-

وكذلك لو كان المراد أنهم كانوا متفقين على تصديق الرسول حتى بعث، لزم أن يكونوا كلهم كانوا يعرفونه قبل إرساله إليهم، وأنهم كلهم بعد إرساله تفرقوا واختلفوا‏.‏ وكلاهما باطل‏.‏ فكثير منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ولم يكونوا يعرفون ما في الكتب من بعثه ومن أمور أخر‏.‏ ولما بعث، فقد آمن به خلق كثير منهم، ولم يتفرقوا كلهم عن الإيمان به‏.‏
وحينئذ، فالآية لم تتضمن مدحهم مطلقًا‏.‏ كما ظن من ظن أن معناها أنهم لم ينتهوا ولم يؤمنوا حتى يتبين لهم الحق‏.‏ ولا تتضمن ذمهم مطلقًا، كما ظن من ظن أنهم لما جاءهم الرسول تفرقوا واختلفوا بعد ما كانوا متفقين على التصديق، بل تضمنت مدح من آمن منهم بالرسول، وذم من لم يؤمن، والإخبار أنه لابد من إرسال الرسول إليهم، فيؤمن به بعضهم ويكفر بعض‏.‏
قال تعالى‏:‏
‏{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏

 

ص -502-

 ثم إن الذين آمنوا بالرسل لابد أن يمتحنهم ليُمَيِّز بين الصادق والكاذب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏2، 3‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 4‏]‏‏.‏
فالناس إذا أرسل إليهم أحد رجلين؛ إما رجل آمن بهم في الظاهر، فلابد أن يمتحن حتى يتبين الصادق من الكاذب‏.‏ وإما رجل عمل السيئات ولم يؤمن، فلا يفوت الله، بل هو آخذه - سبحانه وتعالى‏.‏
ولهذا انقسم الناس في الرسل إلى ثلاثة أقسام‏:‏ مؤمن باطن وظاهر، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإيمان مبطن للكفر‏.‏ ومن حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حصل هذا الانقسام، وأنزل الله تعالى في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين‏.‏
وأما حين كان بمكة وكان المؤمنون مستضعفين، فلم يكن أحد يحتاج إلى النفاق، بل كان من المؤمنين من يكتم إيمانه من كثير من الناس‏.‏

 

ص -503-

  ومنهم من يتكلم بالكفر مكرهًا مع طمأنينة قلبه بالإيمان‏.‏ وهذا مؤمن باطنًا وظاهرًا‏.‏ فإنه وإن أظهر الكفر لبعض الناس لما أكره عليه، أو كتم عنه إيمانه، فهو يتكلم بالإيمان في خلوته ومع من يأمنه، ويعمل بما يمكنه، وما عجز عنه فقد سقط عنه‏.‏
ولهذا قال العلماء منهم أحمد بن حنبل ‏:‏لم يكن يمكنهم نفاق،إنما كان النفاق بالمدينة‏.‏
ولكن كان بمكة من في قلبه مرض، كما قال في السورة المكية‏:‏ ‏
{وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏31‏]‏
وهو - سبحانه - قد ذكر أن المظهرين للإيمان ما كان ليدعهم حتى يميز الخبيث من الطيب ويمتحنهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏، وقال‏:‏ ‏{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 16‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏

 

ص -504-

 فكذلك الذين كفروا، لم يكن ليتركهم حتى يبعث إليهم الرسول بالآيات البينات‏.‏ فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهم إذا جاءتهم البينة، منهم من يؤمن، ومنهم من يكفر‏.‏
وإذا قيل‏:‏ إن الآية تتضمن بعد ذلك المعنى الآخر، وهو أنهم لم يكونوا ليهتدوا ويعرفوا الحق ويؤمنوا حتى تأتيهم البينة؛ إذ لا طريق لهم إلى معرفة الحق إلا برسول يأتي من الله أيضًا، أو لم يكونوا منتهين متعظين - وإن عرفوا الحق - حتى يأتيهم من الله من يذكرهم، فهذا المعنى لا يناقض ذاك‏.‏
بخلاف قول من قال‏:‏ لم يكن المشركون وأهل الكتاب تاركين لمعرفة محمد ولذكره، ولم يكونوا متفرقين فيه، بل متفقين على الإيمان به، حتى جاءتهم البينة، فتركوا الإيمان به وتفرقوا‏.‏ فإن هذا غير مراد قطعًا‏.‏
ومما يبين ذلك قوله‏:‏ ‏
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏حتى أتتهم‏]‏‏.‏ وأولئك لما لم يفهموا معنى الآية ظنوا أن الموضع موضع الماضي، وأن المراد‏:‏ ما انفكوا عما كانوا عليه إما من كفر، وإما من إيمان حتى أتتهم البينة‏.‏ فلما قيل‏:‏ ‏{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ أشكل عليهم‏.‏ وقال

 

ص -505-

 بعضهم‏:‏ لما تأتهم كلها‏.‏
وأما على المعنى الصحيح، فالموضع موضع المضارع، كقوله تعالى‏:‏
‏{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏‏.‏ فإن المراد‏:‏ ما كانوا مفكوكين متروكين حتى تأتيهم البينة‏.‏
وهو - سبحانه - قال‏:‏
‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏‏.‏ و‏[‏لم‏]‏ وإن كانت تقلب المضارع ماضيًا فذاك إذا تجرد، فقيل‏:‏ ‏[‏لم يأت‏]‏، و‏[‏لم يذهب‏]‏ فمعناه‏:‏ ‏[‏ما أتي‏]‏ و‏[‏ما ذهب‏]‏
وأما إذا قيل‏:‏ ‏[‏لم يكن يفعل هذا‏]‏، و
‏{لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏، فالمقصود معنى الفعل الدائم مطلقًا‏.‏ وإذا قيل‏:‏ ‏[‏لم يكن فلان آتيًا حتى يذهب إليه فلان‏]‏، بخلاف ما إذا قلت‏:‏ ‏[‏لم يكن فلان قد أتي حتى ذهب إليه فلان‏]‏‏.‏ ولو قيل‏:‏ ‏[‏ما كان فلان فاعلا لهذا حتى يكون كذا‏]‏ كان نحو ذاك، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ ‏[‏ما كان فلان قد فعل حتى أتى فلان‏]‏
فنفي المضارع الذي خبره اسم فاعل، وهو الدائم‏.‏ والمراد‏:‏ لم يكونوا في الحال والاستقبال متروكين حتى تأتيهم البينة‏.‏ ولو قيل هنا ‏:‏ ‏[‏حتى أتتهم البينة‏]‏، لم يكن موضعه‏.‏

 

ص -506-

 وكذلك لو أراد الانتهاء عن الكفر والإيمان، لقيل‏:‏‏{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ أي‏:‏لم يكونوا يعرفون الحق حتى يأتيهم نبي يعرفهم،أو لم يكونوا متعظين عاملين حتى يأتي من يعظهم ويذكرهم‏.‏ فليس هذا موضع الماضي، بخلاف ما لو قيل‏:‏ ‏[‏مازالوا كافرين حتى أتاهم‏]‏‏.‏
فالآية تتضمن الإخبار عن وجوب إثبات البينة، وامتناع الانفكاك بدونها‏.‏ لم يقصد بها مجرد الخبر عن عدم الانفكاك ثم ثبوته في الماضي‏.‏ وهو كما لو قيل‏:‏ ‏[‏لم يكونوا ينفكوا حتى تأتيهم البينة‏]‏، لكن هنا ذكر اسم الفاعلين، فقيل‏:‏ ‏[‏منفكين‏]‏‏.‏
وهو سبحانه لما ذكر أنه لابد من إرسال الرسل إلى الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب لتقوم عليهم الحجة بذلك، ذكر بعد هذا أن أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل، ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة‏.‏ فبينات الله وحجته قامت على هؤلاء وهؤلاء‏.‏
وهو لم يعذب واحدًا من الحزبين إلا بعد أن جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة، كما في قصة موسي ومن أرسل إليه‏.‏ فإن الله لم يدع فرعون وقومه حتى أرسل إليهم موسي، ولم يعذبهم إلا بعد إقامة الحجة‏.‏ ثم لما آمن بنو إسرائيل بالكتب والرسل، لم يتفرقوا ويختلفوا إلا من

 

ص -507-

 بعد ما جاءتهم البينة‏.‏ فلم يكونوا معذورين في ذلك‏.‏
ولهذا نهيت أمة محمد عن التشبه بهم، فقيل‏:‏ ‏
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏105‏]‏‏.‏
والناس الذين بعث إليهم محمد، هم كذلك‏.‏ فمن كان كافرًا لم يكن منفكًا حتى تأتيه البينة، ومن آمن بمحمد من الأمم ثم تفرقوا واختلفوا، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏.‏
وما أمر الجميع
‏{إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏‏.‏
والآية تضمنت مدح الرب وذكر حكمته وعدله وحجته في أنه لا يدعهم حتى يرسل إليهم رسولًا، كما قال لأهل الكتاب‏:‏ ‏
{قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 19‏]‏، لم تتضمن مدحهم على بقائهم على الكفر حتى يأتي الرسول‏.‏ فإن هذا غايته ألا يعاقبوا عليه حتى يأتي الرسول، لا أن يحمدوا عليه حتى يأتي الرسول‏.‏ فإن هذا لا يقوله عاقل، ولم يقله أحد، لا سيما وأهل الكتاب قد قامت عليهم الحجة بأنبياء قبله‏.‏

 

ص -508-

 ونظير هذا في اللفظ قوله‏:‏ ‏{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ليس المراد‏:‏ ما كنتم بالغيه في الماضي، بل هذه حالهم دائمًا‏.‏
فقوله‏:‏
‏{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ٍ‏}‏ يقتضي أن هذه حالهم دائمًا‏.‏
وتضمنت السورة ذكر أصناف الخلق، وما أمر الله به جميع العباد،وأن ذلك أمر لابد منه لابد من إرسال الرسل،وإنزال الكتب،وبيان السعداء أهل الجنة، والأشقياء أهل النار‏.‏
فقوله‏:‏ ‏
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً‏}‏، جملة، فيه بيان إرسال الرسول إلى الجميع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏} ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، فيه إقامة الحجة على أهل الشرائع، وذم تفرقهم واختلافهم، وأن ذلك بعد أن جاءتهم البينة‏.‏
وهاتان الجملتان نظيرهما قوله‏:‏
‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏‏.‏

 

ص -509-

ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 14‏]‏، وقوله‏:‏‏{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏، في سورة ‏[‏هود‏:‏110‏]‏‏.‏
ثم ذكر ما أمر به الجميع بقوله‏:‏
‏{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏‏.‏
ثم ذكر عاقبة الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وعاقبة الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.

 

ص -510-

فصل
وقوله‏:‏
‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏‏.‏ قال طائفة من المفسرين‏:‏ هو تفرقهم في محمد بعد أن كانوا مجتمعين على الإيمان به‏.‏
ثم من هؤلاء من جعل تفرقهم إيمان بعضهم وكفر بعض‏.‏ قال البغوي‏:‏ ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، فقال‏:‏
‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، أي‏:‏ البيان في كتبهم أنه نبي مرسل‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد حتى بعثه الله‏.‏ فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا‏.‏ فآمن به بعضهم وكفر به بعضهم‏.‏
وهكذا ذكر طائفة في قوله‏:‏ ‏
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏93‏]‏، قال أبو الفرج‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ما اختلفوا في أمر محمد، لم يزالوا به مصدقين حتى جاءهم العلم، يعني‏:‏ القرآن‏.‏ وروي عنه‏:‏ حتى جاءهم العلم، يعني‏:‏ محمدًا‏.‏ فعلى هذا يكون العلم هنا عبارة عن المعلوم‏.‏ وبيان هذا أنه لما جاءهم

 

ص -511-

 اختلفوا في تصديقه، فكفر به أكثرهم -بغيًا وحسدًا- بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه بغيًا وحسدًا‏.‏
ومنهم من جعل المتفرقين كلهم كفارًا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ثم ذكر -تعالى- مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد إلا من بعد أن رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته‏.‏ فلما جاء من العرب حسدوه‏.‏
وكذلك قال الثَّعْلَبي‏:‏ ما تفرق الذين أوتوا الكتاب في أمر محمد فكذبوه إلا من بعد ما جاءتهم البينة البيان في كتبهم أنه نبي مرسل‏.‏ قال العلماء‏:‏ من أول هذه السورة إلى قوله‏:‏
‏{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏، حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين‏.‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقَ‏} حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجة عليه‏.‏
وكذلك قال أبو الفرج، قال‏:
‏ ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏، يعني‏:‏ من لم يؤمن‏.‏ ‏{إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، وفيها ثلاثة أقوال‏:‏
أحدها‏
:‏ أنه محمد،والمعنى‏:‏لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث،قاله الأكثرون‏.‏

 

ص -512-

 والثاني‏:‏ القرآن، قاله أبو العالية‏.‏
والثالث‏:‏ ما في كتبهم من بيان نبوته، ذكره الماوردي‏.‏
قلت‏:‏هذا هو الذي قطع به أكثر المفسرين،ولم يذكر الثعلبي، والبغوي، وغيرهما سواه‏.‏
وأبو العالية إنما قال‏:‏ الكتاب، لم يقل‏:‏ القرآن‏.‏ هكذا رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف عن الربيع بن أنس‏:‏
‏{إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏،قال‏:‏ قال أبو العالية‏:‏ الكتاب‏.‏ ومراد أبي العالية جنس الكتاب‏.‏ فيتناول الكتاب الأول، كما قال‏:‏ ‏{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏110‏]‏، في موضعين من القرآن، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏
وهذا التفسير معروف عن أبي العالية، ورواه عن أبي بن كعب‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم وغيره عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرؤها‏:‏
‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏

 

ص -513-

وأن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف، ‏{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ‏}‏، قال‏:‏ أنزل الكتاب عند الاختلاف‏.‏ ‏{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ‏}‏، يعني‏:‏ بني إسرائيل‏.‏ أوتوا الكتاب والعلم‏.‏ ‏{مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏، يقول‏:‏ بغيًا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغي بعضهم على بعض، وضرب بعضهم رقاب بعض، ‏{فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏، يقول‏:‏ فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف؛ أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له‏.‏ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏.‏ وأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف‏.‏ فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة - كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغتهم وأنهم كذبوا رسلهم‏.‏
قلت‏:‏ الاختلاف في كتاب الله نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ يذم فيه المختلفين كلهم، كقوله‏:‏ ‏
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 176‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏ الثاني‏:‏ يمدح المؤمنين ويذم الكافرين، كقوله‏:‏ ‏{وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏،

 

ص -514-

وقوله‏:‏{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏19 ،23‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وإذا كان كذلك، فالذي ذمه من تفرق أهل الكتاب واختلافهم، ذم فيه الجميع، ونهي عن التشبه بهم، فقال‏
:‏ ‏{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏‏.‏
وذلك بأن تؤمن طائفة ببعض حق وتكفر بما عند الأخري من الحق، وتزيد في الحق باطلًا، كما اختلف اليهود والنصارى في المسيح وغير ذلك‏.‏
وحينئذ، نقول‏:‏ من قال‏:‏ إن أهل الكتاب ما تفرقوا في محمد إلا من بعد ما بعث، إرادة إيمان بعضهم وكفر بعضهم كما قاله طائفة فالمذموم هنا من كَفَر، لا من آمن‏.‏ فلا يذم كل المختلفين، ولكن يذم من كان يعرف أنه رسول، فلما جاء كفر به حسدًا أو بغيًا كما قال تعالى‏:‏

 

ص -515-

{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏89‏]‏‏.‏
وإن أريد بالتفرق فيه أنهم كلهم كفروا به، وتفرقت أقوالهم فيه، فليس الأمر كذلك‏.‏ وقد بين القرآن في غير موضع أنهم تفرقوا واختلفوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فاختلاف هؤلاء وتفرقهم في محمد صلى الله عليه وسلم هو من جملة ما تفرقوا واختلفوا فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -516-

سورة التكاثر
قال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
فصل
سورة ‏[‏التكاثر‏]‏، قيل فيها‏:‏ ‏
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 2‏]‏، تنبيها على أن الزائر لابد أن ينتقل عن مزاره، فهو تنبيه على البعث‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏3 ،4‏]‏، فهذا خبر عن علمهم في المستقبل؛ ولهذا روي عن على أنه في عذاب القبر، ثم قال‏:‏ ‏{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 5‏]‏، فهذا إشارة إلى علمهم في الحال، والخبر محذوف، أي‏:‏ لكان الأمر فوق الوصف، ولعلمتم أمرًا عظيمًا، ولألهاكم عما ألهاكم، فإن الالتهاء بالتكاثر، إنما وقع من الغفلة وعدم اليقين، كما قال‏:‏ ‏{كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏136‏]‏،ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا‏"‏‏.‏ وحَذْفُ جواب لو كثير في القرآن، تعظيمًا له وتفخيمًا، فإنه أعظم

 

ص -517-

من أن يوصف أو يتصور بسماع لفظ، إذ المخبر ليس كالمعاين؛ ولهذا اتبع ذلك بالقسم على الرؤية التي هي عين اليقين، التي هي فوق الخبر الذي هو علم اليقين، فقال‏:‏ ‏{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 6 ،7‏]‏،وهذا الكلام جواب قسم محذوف مستقبل، مع كون جواب لو محذوفًا كما تقدم، في أحد القولين‏.‏ وفي الآخر‏:‏ هو متعلق بلو، لكن يقال‏:‏ جواب لو إنما يكون ماضيًا، فيقال‏:‏ لرأيتم الجحيم‏.‏ كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو تكونون على الحال التي تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة في طرقكم وعلى فرشكم‏"‏ ، ولو كان ماضيًا فليس مما يؤكد بل يقال‏:‏ لو يجيء، لأجيء‏.‏ وجواب هذا أنه جواب قسم محذوف سد مسد جواب لو‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏، وله نظائر في القرآن وكلام العرب، فإن الكلام إذا اشتمل على قسم وشرط، وكل منهما يقتضي جوابه، أجيب الأول منهما، وهو - هنا - القسم، وهو المقصود‏.‏
وعلى هذا القول، يكون المعنى‏:‏ والله لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم بقلوبكم، والأول هو المشهور، ومن المفسرين من لم يذكر سواه، وهو الذي أثروه عن متقدميهم، ويدل على صحته وأنه الحق أن قوله‏:‏
‏{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا‏}‏، ‏{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ‏}‏،معطوف على ما قبله، فيكون داخلًا في حيزه، فلو كان الأول معلقًا بالشرط،لكان المعطوف عليه

 

ص -518-

 كذلك، وهو باطل؛ لأن رؤيتها عين اليقين، والمسألة عن النعيم ليس معلقًا بأن يعلموها في الدنيا علم اليقين‏.‏
وأيضًا، فتفسير الرؤية المطلقة برؤية القلب ليس هو المعروف من كلام العرب‏.‏
وأيضًا، فيكون الشرط هو الجواب، فإن المعنى -حينئذ- لو علمتم علم اليقين، لرأيتم بقلوبكم، وذلك هو العلم، فالمعنى‏:‏ لو علمتم لعلمتم، وهذا لا يفيد‏.‏ ولو أريد بمشاهدة القلب قدر زائد على مجرد العلم، فهذا معلوم أن من علم الشيء أمكنه أن يجعل مشاهدًا له بقلبه‏.‏
وأيضًا، فهذا المعنى لو كان مفيدًا، لم يكن مما يستحق القسم عليه، فإنه ليس بطائل‏.‏
وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏
{لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏، لم يذكر المعلوم، حتى يستلزم العلم به العلم بالجحيم، فإن أريد معلوم خاص، فلا دليل في الشرط عليه، حتى يصح الارتباط‏.‏ وإن أريد المعلوم العام وهو ما بعد الموت فذاك يستلزم العلم بالجحيم وغيرها، وهذا فيه نظر‏.‏ فقد يسأل ويقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏، لم يذكر

 

ص -519-

 فيه المعلوم بل أطلق، ومعلوم أن كل أحد سوف يعلم شيئًا لم يكن علمه، وجوابه‏:‏ أن سياق الكلام يقتضي الوعيد والتهديد، حيث افتتحه بقوله‏:‏ ‏{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏‏.‏
وأيضًا، فمثل هذا الكلام قد صار في العرف يستعمل في الوعيد غالبًا أو في الوعد‏.‏ وإذا كان العلم مقيدًا بالسياق اللفظي، وبالوضع العرفي، فقوله‏:‏ ‏{لَوْ تَعْلَمُونَ‏}‏ هو ذاك العلم، أخبر بوقوعه مستقبلا، ثم علق بوقوعه حاضرًا، وقيد المعلق به بعلم اليقين، فإنهم قد يعلمون ما بعد الموت، لكن ليس علمًا هو يقين‏.‏

 

ص -520-

 سورة الهمزة
قال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
فصل
قوله‏:‏ ‏{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏، هو‏:‏ الطَّعَّان العيَّاب‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 11‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏، وقال‏:‏ ‏{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏، والهمز أشد؛ لأن الهمز الدفع بشدة، ومنه الهمزة من الحروف، وهي نقرة في الحلق، ومنه‏:‏ ‏{وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 97‏]‏، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من هَمْزِه، ونفخه، ونفثه‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏همزه‏:‏ الموُتَةُ‏"‏ وهي الصرع، فالهَمْزُ‏:‏ مثل الطعن لفظًا ومعنى‏.‏
واللَّمْز‏:‏ كالذم والعيب، وإنما ذم من يكثر الهمز، واللمز‏.‏ فإن الهُمُزَة واللُّمزَة‏:‏ هو الذي يفعل ذلك كثيرًا، و‏[‏الهمزة‏]‏، و‏[‏اللمزة‏]‏‏:‏

 

ص -521-

 الذي يُفْعل ذلك به‏.‏ كما في نظائره مثل الضحكة والضحكة، واللعبة واللعبة، وقوله‏:‏ ‏{الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 2‏]‏، وصفه بالطعن في الناس، والعيب لهم، وبجمع المال وتعديده، وهذا نظير قوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36،37‏]‏، فإن الهمزة اللمزة‏:‏ يشبه المختال الفخور، والجمَّاع المحصي نظير البخيل، وكذلك نظيرهما قوله‏:‏ ‏{هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 11،13‏]‏، وصفه بالكبر والبخل، وكذلك قوله‏:‏‏{وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 8‏]‏، فهذه خمسة مواضع، وذلك ناشئ عن حب الشرف والمال، فإن محبة الشرف تحمل على انتقاص غيره بالهمز واللمز والفخر والخيلاء، ومحبة المال تحمل على البخل، وضد ذلك من أعطي فلم يبخل، واتقي فلم يهمز، ولم يلمز‏.‏ وأيضًا، فإن المعطي نَفَعَ الناس، والمتقي لم يضرهم، فنفع ولم يضر‏.‏ وأما المختال الفخور البخيل، فإنه ببخله منعهم الخير، وبفخره سامهم الضر، فضرهم ولم ينفعهم، وكذلك‏:‏ ‏[‏الهمزة الذي جمع مالا ‏]‏، ونظيره‏:‏ قارون الذي جمع مالا، وكان من قوم موسي فبغي عليهم‏.‏
ومن تدبر القرآن، وجد بعضه يفسر بعضًا، فإنه كما قال ابن عباس في رواية الوالبي ‏:‏ مشتمل على الأقسام، والأمثال، وهو تفسير
‏{مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏

 

ص -522-

 ولهذا جاء كتاب الله جامعًا، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أعطيت جوامع الكلم‏"‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فالتشابه يكون في الأمثال، والمثاني في الأقسام، فإن التثنية في مطلق التعديد‏.‏ كما قد قيل في قوله‏:‏ ‏{ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏، وكما في قول حذيفة‏:‏ كنا نقول بين السجدتين‏:‏ رب اغفر لي، رب اغفر لي‏.‏ وكما يقال‏:‏ فعلت هذا مرة بعد مرة، فتثنية اللفظ يراد به التعديد؛ لأن العدد ما زاد على الواحد، وهو أول التثنية، وكذلك ثنيت الثوب، أعم من أن يكون مرتين فقط أو مطلق العدد فهو جميعه متشابه، يصدق بعضه بعضًا، ليس مختلفًا، بل كل خبر وأمر منه يشابه الخبر؛ لاتحاد مقصود الأمرين، ولاتحاد الحقيقة التي إليها مرجع الموجودات‏.‏
فلما كانت الحقائق المقصودة والموجودة ترجع إلى أصل واحد، وهو الله سبحانه كان الكلام الحق فيها خبرًا، وأمرًا متشابهًا، ليس بمنزلة المختلف المتناقض، كما يوجد في كلام أكثر البشر، والمصنفون الكبار منهم يقولون شيئًا ثم ينقضونه، وهو جميعه مثاني؛ لأنه استوفيت فيه الأقسام المختلفة، فإن الله يقول‏
:‏‏{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏49‏]‏، فذكر الزوجين مثاني، والإخبار عن الحقائق بما هي عليه بحيث يحكم على الشيء بحكم نظيره، وهو حكم على المعنى الواحد المشترك خبرًا أو طلبًا خطاب متشابه، فهو متشابه مثاني‏.‏

 

ص -523-

 وهذا في المعاني مثل الوجوه والنظائر في الألفاظ، فإن كل شيئين من الأعيان والأعراض وغير ذلك، إما أن يكون أحدهما مثل الآخر، أو لا يكون مثله فهي الأمثال، وجمعها هو التاليف، وإذا جاءت بلفظ واحد كانت نظائر، وإن لم يكن مثله، فهو خلافه سواء كان ضدًا أو لم يكن‏.‏ وقد يقال‏:‏ إما أن يجمعهما جنس أو لا، فإن لم يجمعهما جنس، فأحدهما بعيد عن الآخر، ولا مناسبة بينهما‏.‏ وإن جمعهما جنس، فهي الأقسام، وجمعها هو التصنيف‏.‏ ودلالة اللفظ الواحد على المعاني المختلفة تسمي الوجوه‏.‏ والكلام الجامع هو‏:‏ الذي يستوفي الأقسام المختلفة، والنظائر المتماثلة جمعًا بين المتماثلين، وفرقًا بين المختلفين‏.‏ بحيث يبقي محيطًا، وإلا فذكر أحد القسمين أو المثْلَين لا يفيد التمام، ولا يكون الكلم محيطًا، ولا الكلم جوامع، وهو فعل غالب الناس في كلامهم‏.‏
والحقائق في نفسها‏:‏ منها المختلف، ومنها المؤتلف، والمختلفان بينهما اتفاق من وجه، وافتراق من وجه‏.‏ فإذا أحاط الكلام بالأقسام المختلفة، والأمثال المؤتلفة، كان جامعًا، وباعتبار هذه المعاني كانت ضروب القياس العقلي المنطقي ثلاثة‏:‏ الحمليات والشرطيات المتصلة، والشرطيات المنفصلة‏.‏
فالأول‏:‏ للحقائق المتماثلة الداخلة في القضية الجامعة‏.‏
والثاني‏:‏ للمختلفات التي ليست متضادة، بل تتلازم تارة، ولا تتلازم أخرى.‏

 

ص -524-

 والثالث‏:‏ للحقائق المتضادة المتنافية، إما وجودًا أو عدمًا، وهي النقيضان‏.‏ وإما وجودًا فقط، وهو أعم من النقيضين، وإما عدمًا فقط، وهو أخص من النقيضين‏.‏
فالحمليات للمثلين، والأمثال‏.‏ والشرطيات المنفصلة للمتضادين، والمتضادات‏.‏ ويسمي التقسيم، والسَّبر، والترديد، والبياني‏.‏ والمتصلة للخلافين غير المتضادين، ويسمي التلازم‏.‏

 

ص -525-

 سورة الكوثر
وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏
سورة ‏[‏الكوثر‏]‏، ما أجلها من سورة‏!‏ وأغزر فوائدها -على اختصارها- وحقيقة معناها تعلم من آخرها، فإنه -سبحانه وتعالى- بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يَعِي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله‏.‏ ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا، ولا عونًا‏.‏ ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة -وإن باشرها بظاهره- فقلبه شارد عنها‏.‏ وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورده لأجل هواه، أو متبوعه، أو شيخه، أو أميره، أو كبيره‏.‏ كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله

 

ص -526-

  ورسوله منها، أو حملها على ما يوافق مذهبه، ومذهب طائفته، أو تمني ألا تكون آيات الصفات أنزلت، ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن أقوى علامات شناءته لها، وكراهته لها، أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك، وحاد ونفر عن ذلك؛ لما في قلبه من البغض لها، والنفرة عنها‏.‏ فأي شانئ للرسول أعظم من هذا‏؟‏ وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغنا والقصائد والدفوف والشَّبَّابات، إذا سمعوا القرآن يتلي ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه، فأي شنآن أعظم من هذا‏؟‏ وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب‏.‏
وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسي القرآن بعد أن حفظه، ويشتغل بقول فلان وفلان، ولكن أعظم من شنأه ورده‏:‏ من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرًا يؤثر، فهذا أعظم وأطم انبتارًا‏.‏ وكل من شنأه له نصيب من الانبتار، على قدر شناءته له‏.‏ فهؤلاء لما شنؤوه وعادوه، جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديًا لهم، فبترهم منه، وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بضد ذلك، وهو أنه أعطاه الكوثر، وهو من الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا

 

ص -527-

 والآخرة، فمما أعطاه في الدنيا‏:‏ الهدي والنصر والتأييد وقرة العين والنفس وشرح الصدر، ونعم قلبه بذكره وحبه بحيث لا يشبه نعيمَه نعيم في الدنيا البتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك‏.‏ وجعل المؤمنين كلهم أولاده وهو أب لهم، وهذا ضد حال الأبتر الذي يشنؤه ويشنأ ما جاء به‏.‏
وقوله‏:
‏‏{إِنَّ شَانِئَكَ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 3‏]‏، أي‏:‏ مبغضك‏.‏ والأبتر‏:‏ المقطوع النسل، الذي لا يولد له خير ولا عمل صالح، فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح‏.‏ قيل لأبي بكر بن عياش‏:‏ إن بالمسجد قومًا يجلسون ويجلس إليهم، فقال‏:‏ من جلس للناس، جلس الناس إليه‏.‏ ولكن أهل السنة يموتون، ويحيي ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله‏:‏‏{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏، وأهل البدعة شنؤوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصيب من قوله‏:‏ ‏{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 3‏]‏‏.‏
فالحذَرَ الحذر أيها الرجل، من أن تكره شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارًا لمذهبك، أو

 

ص -528-

 لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق، واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع، إنما يطاع تبعًا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول، ما أطيع‏.‏ فاعلم ذلك واسمع، وأطع واتبع، ولا تبتدع، تكن أبتر مردودًا عليك عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع، ولا خير في عامله‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 1‏]‏، تدل هذه الآية على عطية كثيرة صادرة عن معطٍ كبير غني واسع‏.‏ وأنه تعالى وملائكته وجنده معه‏.‏ صدر الآية ‏[‏ بإنَّ ‏]‏ الدالة على التأكيد، وتحقيق الخبر، وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال عن التحقيق، وأنه أمر ثابت واقع، ولا يدفعه ما فيه من الإيذان، بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قُدِّرت مقادير الخلائق، قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين، وأتي بالصفة، أي‏:‏ أنه سبحانه وتعالى قال‏:‏‏{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏، فوصفه بالكوثر، والكوثر المعروف إنما هو نهر في الجنة، كما قد وردت به الأحاديث الصحيحة الصريحة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الكوثر‏:‏إنما هو من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وإذا كان أقل أهل

 

ص -529-

 الجنة من له فيها مثل الدنيا عشر مرات، فما الظن بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما أعده الله له فيها‏؟‏‏!‏ فالكوثر علامة وإمارة على تعدد ما أعده الله له من الخيرات، واتصالها وزيادتها، وسمو المنزلة وارتفاعها‏.‏ وإن ذلك النهر وهو الكوثر أعظم أنهار الجنة وأطيبها ماء، وأعذبها وأحلاها وأعلاها‏.‏
وذلك أنه أتى فيه بلام التعريف الدالة على كمال المسمي وتمامه‏.‏ كقوله‏:‏ زيد العَالِم، زيد الشجاع، أي‏:‏ لا أعلم منه ولا أشجع منه، وكذلك قوله‏:‏
‏{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏، دل على أنه أعطاه الخير كله كاملا موفرًا، وإن نال منه بعض أمته شيئًا، كان ذلك الذي ناله ببركة اتباعه، والاقتداء به، مع أن له صلى الله عليه وسلم مثل أجره من غير أن ينقص من أجر المتبع له شيء ففيه الإشارة إلى أن الله تعالى يعطيه في الجنة بقدر أجور أمته‏.‏ كلهم من غير أن ينتقص من أجورهم، فإنه هو السبب في هدايتهم، ونجاتهم، فينبغي -بل يجب- على العبد اتباعه والاقتداء به، وأن يمتثل ما أمره به، ويكثر من العمل الصالح صومًا وصلاة وصدقة وطهارة؛ ليكون له مثل أجره، فإنه إذا فعل المحظورات، فات الرسول مثل أجر ما فرط فيه من الخير، فإن فعل المحظور مع ترك المأمور قوي وزره، وصعبت نجاته؛ لارتكابه المحظور وتركه المأمور، وإن فعل المأمور وارتكب المحظور، دخل فيمن يشفع

 

ص -530-

 فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكونه ناله مثل أجر ما فعله من المأمور، وإلى الله إياب الخلق، وعليه حسابهم، وهو أعلم بحالهم، أي‏:‏ بأحوال عباده، فإن شفاعته لأهل الكبائر من أمته، والمحسن إنما أحسن بتوفيق الله له، والمسيء لا حجة له ولا عذر‏.‏
والمقصود أن الكوثر نهر في الجنة، وهو من الخير الكثير الذي أعطاه الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وهذا غير ما يعطيه الله من الأجر الذي هو مثل أجور أمته إلى يوم القيامة، فكل من قرأ، أو علم أو عمل صالحًا، أو علم غيره، أو تصدق، أو حج، أو جاهد، أو رابط، أو تاب، أو صبر، أو توكل، أو نال مقامًا من المقامات القلبية من خشية وخوف ومعرفة وغير ذلك، فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر ذلك العامل‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله، وخلفه، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم؛ ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى‏:‏

 

ص -531-

{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏،والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه‏.‏
والمقصود أن الصلاة والنسك هما أجَلّ ما يتَقَربُ به إلى الله‏.‏ فإنه أتي فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك -وهو الصلاة والنحر- سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر، والخير الكثير، فشكر المنعم عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان، بل الصلاة نهاية العبادات، وغاية الغايات، كأنه يقول‏:
‏ ‏{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏، الخير الكثير، وأنعمنا عليك بذلك لأجل قيامك لنا بهاتين العبادتين، شكرًا لإنعامنا عليك، وهما السبب لإنعامنا عليك بذلك‏.‏ فقم لنا بهما، فإن الصلاة والنحر محفوفان بإنعام قبلهما، وإنعام بعدهما، وأجل العبادات المالية النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة، لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وأصحاب الهمم العالية، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص‏.‏ وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثًا وستين بُدْنة، وكان ينحر في الأعياد وغيرها‏.‏
وفي قوله‏:‏
‏{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏1 ،2‏]‏، إشارة إلى

 

ص -532-

أنك لا تتأسف على شيء من الدنيا، كما ذكر ذلك في آخر‏[‏طه‏]‏ و‏[‏الحجر‏]‏ وغيرهما، وفيها الإشارة إلى ترك الالتفات إلى الناس، وما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر‏.‏ وفيها التعريض بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ‏}‏، أنواع من التأكيد‏:‏ أحدها‏:‏ تصدير الجملة بإن‏.‏ الثاني‏:‏ الإتيان بضمير الفصل الدال على قوة الإسناد والاختصاص‏.‏ الثالث‏:‏ مجيء الخبر على أفعل التفضيل، دون اسم المفعول‏.‏ الرابع‏:‏ تعريفه باللام الدالة على حصول هذا الموصوف له بتمامه، وأنه أحق به من غيره، ونظير هذا في التأكيد قوله‏:‏ ‏{لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏68‏]‏‏.‏
ومن فوائدها اللطيفة‏:‏ الالتفات في قوله‏:‏
‏{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ الدالة على أن ربك مستحق لذلك، وأنت جدير بأن تعبده، وتنحر له‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -533-

سُورَة الكافِرون
َقَالَ الشّيخ رَحِمَه الله‏:‏
فَصل
في سورة ‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ للناس في وجه تكرير البراءة من الجانبين طرق، حيث قال‏:‏ ‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 2 ،3‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 4 ،5‏]‏، منها قولان مشهوران ذكرهما كثير من المفسرين، هل كرر الكلام للتوكيد،أو لنفي الحال والاستقبال‏؟‏
قال أبو الفرج‏:‏ في تكرار الكلام قولان؛ أحدهما‏:‏ إنه لتأكيد الأمر وحسم إطماعهم فيه، قاله الفراء‏.‏ وقد أفعمناهذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة‏:‏ التكرير في سورة الرحمن للتوكيد‏.‏ قال‏:‏ وهذه مذاهب العرب، أن التكرير للتوكيد والإفهام، كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف

 

ص -534-

 والإيجاز؛ لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون، أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد‏.‏ يقول القائل‏:‏ والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله‏!‏ إذا أراد التوكيد وحسم الإطماع من أن يفعله، كما يقول‏:‏ والله أفعله‏؟‏ بإضمار ‏[‏لا‏]‏ إذا أراد الاختصار‏.‏ ويقول للمرسل المستعجل‏:‏ اعجل، اعجل‏!‏ والرامي‏:‏ ارم، ارم‏!‏ قال الشاعر‏:‏
كم نعمة كانت لكم وكم وكم‏؟‏وقال الآخر‏:‏

 هل سألت جموع كن

 دة يوم ولوا أين أينا‏؟‏

وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية؛ لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفًا‏.‏
قال ابن قتيبة‏:‏ فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها، كقولك للرجل‏:‏ ألم أنزلك منزلًا وكنت طريدًا‏؟‏ أفتنكر هذا‏؟‏ ألم أحج بك وكنت صرورًا‏؟‏ أفتنكر هذا‏؟‏‏.‏
قلت‏:‏ قال ابن قتيبة‏:‏ تكرار الكلام في
‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏؛

 

ص -535-

 لتكرار الوقت‏.‏ وذلك أنهم قالوا‏:‏ إن سرك أن ندخل في دينك عامًا فادخل في ديننا عامًا، فنزلت هذه السورة‏.‏
قلت‏:‏ هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب، فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب، وإما في الخبر، بتكرار الكلام‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏والله‏!‏ لأغزون قريشًا، ثم والله‏!‏ لأغزون قريشًا، ثم والله‏!‏ لأغزون قريشًا، ثم قال‏:‏ إن شاء الله، ثم لم يغزهم‏"‏
وروي عنه أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة، ويسوق به عمار، فخرج بضعة عشر رجلًا حتى صعدوا العقبة ركبانًا متلثمين، وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لحذيفة‏:‏ ‏"‏قد، قد‏"‏ ولعمار‏:‏ ‏"‏سق، سق‏"‏‏.‏
فهذا أكثر، لكن ليس في القرآن من هذا شيء‏.‏ فإن القرآن له شأن اختص به، لا يشبهه كلام البشر - لا كلام نبي، ولا غيره، وإن كان نزل بلغة العرب- فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله‏.‏
فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط‏.‏ وإنما في

 

ص -536-

  سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية، لم يذكر متواليا‏.‏ وهذا النمط أرفع من الأول‏.‏
وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار، كما ظنه بعضهم‏.‏
و‏{
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏‏.‏ وهو مع الفصل بينهما بجملة‏.‏
وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه،وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها‏:‏ ألم تك فقيرًا فأغنيتك‏؟‏ أفتنكر هذا‏؟‏ ألم تك عريانًا فكسوتك‏؟‏ أفتنكر هذا‏؟‏ ألم تك خاملًا فعرفتك‏؟‏ ونحو ذلك‏.‏ وهذا أقرب من التكرار المتوالي، كما في اليمين المكررة‏.‏
وكذلك ما يقوله بعضهم‏:‏ إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ، كقوله‏:‏
فألفي قولها كذبًا ومينًا
فليس في القرآن من هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا، إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله‏:‏ ‏
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏159‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏، فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه‏.‏ فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى‏.‏ والضم أقوى

 

ص -537-

 من الكسر، والكسر أقوى من الفتح؛ ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل ‏[‏الكره‏]‏ و ‏[‏الكَرْهُ‏]‏‏.‏ فالكره هو الشيء المكروه، كقوله‏:‏ ‏{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏، والكره المصدر، كقوله‏:‏ ‏{طَوْعًا أَوْ كَرْهًا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏، والشئ الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره‏.‏
وكذلك ‏[‏الذِّبْح‏]‏ و‏[‏الذَّبْح‏]‏، فالذِّبح‏:‏ المذبوح، كقوله‏:‏ ‏
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 107‏]‏، والذَّبح‏:‏ الفعل‏.‏ والذبح‏:‏ مذبوح، وهو جسد يذبح، فهو أكمل من نفس الفعل‏.‏
قال أبو الفرج‏:‏ والقول الثاني أن المعنى‏:‏
‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ في حالي هذه، ‏{وَلَا أَنتُمْ‏}‏ في حالكم هذه ‏{عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ في ما استقبل، وكذلك ‏{أَنتُمْ‏}‏ فنفي عنهم في الحال والاستقبال‏.‏ وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، كما ذكرناه عن مقاتل‏.‏ فلا يكون حينئذ تكرار‏.‏ قال‏:‏ وهذا قول ثعلب، والزجاج‏.‏
قلت‏:‏ قد ذكر القولين جماعة، لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني‏.‏ فقالوا واللفظ للبغوي‏:‏ معنى الآية‏:‏ لا أعبد ما تعبدون في الحال، ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال،

 

ص -538-

 ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال‏.‏ وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون‏.‏
قال‏:‏ وقال أكثر أهل المعاني‏:‏ نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم‏.‏ ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز‏.‏
قلت‏:‏ ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني - منهم المهدوي وابن عطية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لما كان قوله‏:‏
‏{لَا أَعْبُدُ‏}‏ محتملًا أن يراد به الآن، ويبقي المستأنف منتظرًا ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله‏:‏ ‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏، أي‏:‏ أبدًا ما حييت‏.‏ ثم جاء قوله‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا، كالذين كشف الغيب عنهم، كما قيل لنوح‏:‏ ‏{أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏، أما إن هذا فخطاب لمعينين، وقوم نوح قد عموا بذلك‏.‏
قال‏:‏ فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة‏.‏ وليس هو بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، مع الإبلاغ والتوكيد، وزيادة الأمر بيانًا وتبريا منهم‏.‏
قلت‏:‏هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى

 

ص -539-

 زائد على التكرير‏.‏لكن فيه نقص من جهة أخري‏.‏وهو جعلهم هذا خطابًا لمعينين،فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه‏.‏
وهذا غلط، فإن قوله‏:‏ ‏
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، خطاب لكل كافر، وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين، ويأمر بها ويقول‏:‏ هي براءة من الشرك‏.‏ فلو كانت خطابًا لأولئك المعينين، أو لمن علم منهم أنه يموت كافرًا، لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه‏.‏
وأيضًا، فأولئك المعينون إن صح أنه إنما خاطبهم فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر‏.‏
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه‏.‏ ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان‏:‏ إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين‏.‏ ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد‏.‏ ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي‏.‏
ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئًا، كمحمد بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، فضلًا عن مثل أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه‏.‏
وقد ذكر غيره هذا عن قريش مطلقًا، كما رواه عبد بن حُمَيْد،

 

ص -540-

 عن وهْب بن مُنبِّه قال‏:‏ قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن سرك أن ندخل في دينك عامًا وتدخل في ديننا عامًا، فنزلت‏:‏ ‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ حتى ختمها‏.‏ وعن ابن عباس، قالت قريش‏:‏
يا محمد، لو استلمت آلهتنا، لعبدنا إلهك، فنزلت السورة‏.‏ وعن قتادة قال‏:‏ أمره الله أن ينادي الكفار فنادهم بقوله‏
:‏ ‏{يَا أَيُّهَا‏}‏
وروي ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه، قال‏:‏ كفار قريش، فذكره، وقال عكرمة‏:‏ برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار،وقال قتادة‏:‏ أمر الله نبيه أن يتبرأ من المشركين فتبرأ منهم‏.‏
وروي قتادة عن زُرَارَة بن أوفي‏:‏ كانت تسمى‏:‏ ‏[‏المقشقشة‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ قشقش فلان، إذا برئ من مرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك‏.‏
وبهذا نعتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف في المسند والترمذي من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:
‏ ‏"‏مجيء ما جاء بك‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ جئت، يا رسول الله؛ لتعلمني شيئًا أقوله عند منامي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إذا أخذت مضجعك فاقرأ‏:‏ ‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، ثم نم على

 

ص -541-

 خاتمتها، فإنها براءة من الشرك‏"‏‏.‏
رواه غير واحد عن أبي إسحاق، وكان تارة يسنده، وتارة يرسله رواه عنه زهير، وإسرائيل مسندًا‏.‏ ورواه عنه شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال‏:‏ ‏[‏عن أبي إسحاق، عن رجل، عن فروة بن نوفل ‏]‏، ولم يقل ‏[‏عن أبيه‏]‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وحديث زهير أشبه وأصح من حديث شعبة‏.‏ قال‏:‏ وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، فرواه عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه،عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو فروة بن نوفل‏.‏
قلت‏:‏ وقد رواه عن أبي إسحاق، إسماعيل بن أبي خالد، قال‏:‏ جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، علمني كلاما أقوله عند منامي‏.‏ قال‏:
‏ ‏"‏إنك لنا ظِئْر، اقرأ‏:‏‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ عند منامك، فإنها براءة من الشرك‏"‏‏.‏
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك‏.‏ فلو كان الخطاب لمن يموت على الشرك، كانت براءة من دين أولئك فقط، لم تكن براءة من الشرك الذي يسلم صاحبه فيما بعد‏.‏ ومعلوم أن المقصود منها أن تكون براءة من كل شرك اعتقادي وعملي‏.‏

 

ص -542-

  وقوله‏:‏ ‏{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏، خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد‏.‏ فدينه قبل الإسلام له كان، والمؤمنون بريئون منه، وإن غفره الله له بالتوبة منه، كما قال لنبيه‏:‏ ‏{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 216‏]‏، فإنه بريء من معاصي أصحابه، وإن تابوا منها‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏41‏]‏‏.‏
وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي ثنا محمد بن موسي الجُرْشي، ثنا أبو خلف عبد الله ابن عيسي، ثنا داود بن أبي هند، عن عَكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغني رجل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه أي يسودوه فقالوا‏:‏ هذا لك عندنا‏.‏ يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض علي خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ما هي‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ تعبد آلهتنا سنة اللات والعزي ونعبد إلهك سنة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏حتى أنظر ما يأتيني من ربي‏"‏‏.‏ فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ‏:‏ ‏
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، إلى آخرها، وأنزل الله عليه‏:‏ ‏{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏64 ،66‏]‏‏.‏

 

ص -543-

 وقوله‏:‏ ‏{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏، خطاب لكل من عبد غير الله وإن كان قد قدر له أن يتوب فيما بعد‏.‏ وكذلك كل مؤمن يخاطب بهذا من عَبَدَ غير الله‏.‏
وقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏حتى أنظر ما يأتيني من ربي‏"‏، قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه‏.‏
وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول‏:‏ حتى أشاور أمها، وهو يريد ألا يزوجها بذلك، ويعلم أن أمها لا تشير به‏.‏ وكذلك قد يقول النائب‏:‏ حتى أشاور السلطان‏.‏
فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك‏.‏
وقد كان جماعة من قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله، ويقاتلونهم، ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك، ثم تابوا وأسلموا وقرؤوا هذه السورة‏.‏
ومن النقلة من يعين ناسا غير الذين عينهم غيره‏.‏ منهم من يذكر أبا جهل وطائفة، ومنهم من يذكر عتبة بن ربيعة وطائفة، ومنهم من

 

ص -544-

 يذكر الوليد بن المغيرة وطائفة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ طلبوا أن يعبدوا الله معه عامًا ويعبد آلهتهم معهم عامًا‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ طلبوا أن يستلم آلهتهم‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ طلبوا الاشتراك، كما روي ابن أبي حاتم وغيره عن ابن إسحاق قال‏:‏ حدثني سعيد بن مِيْنَاء مولى أبي البَخْتَرِي قال‏:‏ لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا‏:‏ هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله‏.‏ فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه‏.‏ وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه‏.‏ فأنزل الله السورة‏.‏
وهذا منقول عن عبيد بن عمير، وفيه أن القائل له عتبة، وأمية‏.‏
فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد، وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم، ويدخلوا في شيء من دينه، ثم إن كانت كلها صحيحة، فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا، وقوم هذا وقوم هذا‏.‏
وعلى كل تقدير، فالخطاب للمشركين، كلهم من مضي، ومن يأتي إلى يوم القيامة‏.‏

 

ص -545-

 وقد أمره الله بالبراءة من كل معبود سواه‏.‏ وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهو مبعوث بملته‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 ،28‏]‏‏.‏
وقال الخليل أيضًا‏:‏ ‏
{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78 ،79‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وقال لنبيه‏:‏
‏{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه، وتبريه هذا يتناول المشركين وأهل الكتاب‏.‏
وقد ذكر المَهْدَوي هذا القول، وذكر معه قولين أخرىن‏.‏ فقال‏:‏ الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة؛ لأن لامها مُخَاطِبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرًا‏.‏ فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم‏.‏
وتكرير ما كرر فيها، ليس بتكرير في المعنى، ولا في اللفظ، سوى

 

ص -546-

 موضع واحد منها‏.‏ فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى‏.‏ بل معنى ‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏‏:‏ في الحال‏.‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏‏:‏ في الحال‏.‏ ‏{وّلا أّنّا عّابٌدِ مَّا عّبّدتٍَمً‏}‏‏:‏ في الاستقبال‏.‏ ‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏‏:‏ في الاستقبال‏.‏
قال‏:‏ فقد اختلف اللفظ، والمعنى في قوله‏:‏‏
{لَا أَعْبُدُ‏}‏، وما بعده، ‏{وَلَا أَنَا‏}‏‏.‏ وتكرر ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ في اللفظ دون المعنى‏.‏
قال‏:‏ وقيل إن معنى الأول‏:‏ ولا أنتم عابدون ما عبدت، ومعنى الثاني‏:‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد‏.‏ فعدل عن لفظ ‏[‏عبدتُ‏]‏ للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر‏.‏ وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى‏.‏
ويجوز أن تكون ‏[‏ما‏]‏ والفعل مصدرًا، وقيل‏:‏ إن معنى الآيات وتقديرها‏:‏ قل يأيها الكافرون، لا أعبد الأصنام، التي تعبدون، ولا أنتم عابدون الذي أعبده، لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام‏.‏ فإن زعمتم أنكم تعبدونه،فأنتم كاذبون، لأنكم تعبدونه مشركين به‏.‏ فأنا لا أعبد ما عبدتم،أي مثل عبادتكم‏.‏فهو في الثاني مصدر‏.‏ وكذلك‏:‏ ‏
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ هو في الثاني مصدر أيضًا معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي التي هي توحيد‏.‏

 

ص -547-

 قلت‏:‏ القول الثالث هو في معنى الثاني، لكن جعل قوله‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ معنيين؛ أحدهما‏:‏ بمعنى ‏[‏ما عبدت‏]‏، والآخر‏:‏ بمعنى ‏[‏ما أعبد‏]‏ ليطابق قوله لهم‏:‏ {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏، ‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏‏.‏
فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال، كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال‏.‏ لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ وإنما لم يقل في حقه‏:‏ ‏[‏ما عبدت‏]‏، للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل‏.‏
قلت‏:‏ أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم‏.‏
لكن إذا أريد بقوله‏:‏
‏{مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ ما أريد بقوله‏:‏ ‏{مَا أَعْبُدُ‏}‏ في أحد الموضعين الماضي كان التقدير على ما ذكروه‏:‏ لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي‏.‏ فيكون قد نفي عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏
‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، أي‏:‏ في الماضي‏.‏ فسواء أريد بما يعبدون الحال أو الاستقبال إنما نفي عبادة ما عبدوه في الماضي‏.‏ وهذا أنقص لمعنى الآية‏.‏ وكيف يتبرأ في المستقبل من عبادة ما عبدوه في الماضي فقط‏؟‏ وكذلك هم‏؟‏‏.‏

 

ص -548-

 وإن قيل‏:‏ في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر، فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه، قيل‏:‏ فعلى هذا، لا يقال لهؤلاء‏!‏ ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي، بل قد يعبدون في المستقبل إذا انتقلوا ربه الذي عبده فيما مضي‏.‏
وإن قيل‏:‏ قول هؤلاء هو القول الثاني لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال، ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل قيل‏:‏ ولفظ الآية
‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏، ليس لفظها ‏[‏ولا أنا عابد ما تعبدون‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏، إن أريد به الماضي الذي أراده هؤلاء، فسد المعنى‏.‏ وإن أريد به المستقبل، بطل ما ذكروه من أن المضارع بمعنى الماضي في قوله‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، فإن الماضي هنا بمعنى المضارع‏.‏ فإذا كان المضارع مطابقًا له بقي مضارعًا لم ينقل إلى الماضي فيكون عكس المقصود‏.‏
والقول الرابع الذي ذكره قول من جعل ‏[‏ما‏]‏ مصدرية في الجملةالثانية دون الأخرى‏.‏ وهذا أيضًا ليس في الكلام ما يدل على الفرق بينهما‏.‏ وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه ‏[‏ما‏]‏ المصدرية حاصل بقوله ‏[‏ما‏]‏‏.‏ فإنه لم يقل‏:‏ ‏[‏ولا أنتم عابدون من أعبد‏]‏، بل قال‏:‏
‏{مَا أَعْبُدُ‏}‏

 

ص -549-

 ولفظ ‏[‏ما‏]‏ يدل على الصفة بخلاف ‏[‏من‏]‏‏.‏ فإنه يدل على العين، كقوله‏:‏‏{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، أي‏:‏ الطيب، ‏{وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 5‏]‏، أي‏:‏ وبانيها‏.‏ ونظيره قوله‏:‏ ‏{إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏133‏]‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏من تعبدون من بعدي‏]‏‏.‏
وهذا نظير قوله‏:‏
‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ سواء‏.‏ فالمعنى‏:‏ لا أعبد معبودكم، ولا أنتم عابدون معبودي‏.‏
فقوله‏:‏ ‏
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، يتناول شركهم، فإنه ليس بعبادة الله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له‏.‏
وأيضًا، فما عبدوا ما يعبده، وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص‏.‏ بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات‏.‏ فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه‏.‏  وأيضًا، فالشرائع قد تتنوع في العبادات، فيكون المعبود واحدًا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة‏.‏ وهؤلاء لا يتبرأ منهم‏.‏ فكل من عبد الله

 

ص -550-

 مخلصًا له الدين فهو مسلم في كل وقت، ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه‏.‏ فلو قال‏:‏ لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته‏.‏ وإنما البراءة من المعبود وعبادته‏.
فَصْل
إذا تبين هذا فنقول‏:‏ القرآن تنزيل من حكيم حميد، وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت‏.‏
ولو أن رجلًا من بني آدم له علم، أو حكمة، أو خطبة، أو قصيدة، أو مصنف، فهذب ألفاظ ذلك وأتي فيه بمثل هذا التغاير، لعلم أنه قصد في ذلك حكمة، وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدي‏.‏ فكيف بكلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين‏؟‏ لا سيما وقد قال فيه‏:‏ ‏
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏‏.‏
فنقول‏:‏ الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي، فيعم الحاضر والمستقبل، كما قال سِيبَويه‏:‏ وبنوه لِمَا مضي من

 

ص -551-

 الزمان، ولما هو دائم لم ينقطع، ولما لم يأت بمعنى الماضي، والمضارع وفعل الأمر‏.‏ فجعل المضارع لما هو من الزمان دائمًا لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل‏.‏
فقوله‏:‏
‏{لَا أَعْبُدُ‏}‏، يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{مَا تَعْبُدُونَ‏}‏، يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل‏.‏ كلاهما مضارع‏.‏
وقال في الجملة الثانية عن نفسه‏:‏
‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏‏.‏ فلم يقل‏:‏ ‏[‏لا أعبد‏]‏، بل قال‏:‏‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏ما تعبدون‏]‏، بل قال‏:‏ ‏{مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏‏.‏ فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأول‏.‏والنفي بهذه الجملة الثانية، أعم من النفي بالأولي‏.‏ فإنه قال‏:‏ ‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ بصيغة الماضي‏.‏ فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهة شتي‏.‏ وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى‏.‏
فقوله‏:‏ ‏
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏، براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة

 

ص -552-

 الماضية، كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال‏.‏ فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماض، وحاضر، ومستقبل‏.‏ وقوله أولا‏:‏ ‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏، لا يتناول هذا كل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ‏}‏، اسم فاعل قد عمل عمل الفعل، ليس مضافًا، فهو يتناول الحال والاستقبال أيضًا لكنه جملة اسمية، والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى، كما تقول‏:‏ ما أفعل هذا، ما أنا بفاعله‏.‏
وقولك‏:‏ ‏[‏ما هو بفاعل هذا أبدًا‏]‏ أبلغ من قولك‏:‏ ‏[‏ما يفعله أبدًا‏]‏‏.‏ فإنه نفي عن الذات صدور هذا الفعل عنها، بخلاف قولك‏:‏ ‏[‏ما يفعل هذا‏]‏، فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه‏.‏ ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له، بخلاف قوله‏:‏ ‏[‏ما هو فاعلا، وما هو بفاعل‏]‏، كما في قوله‏:‏
‏{فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة: 85‏]‏، ‏{وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 81‏]‏، ‏{وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏، ‏{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏102‏]‏
ولا يقال‏:‏ الجملة الاسمية ترك الثبوت، ونفي ذلك لا يقتضي نفي

 

ص -553-

 العارض‏.‏ فإن هذه الجملة في معنى الفعلية نفي؛لكونها عملت عمل الفعل‏.‏لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا، فنفت عن الذت أن يعرض لها هذا الفعل تنزيهًا للذات، ونفيًا لقبولها لذلك‏.‏ فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل، والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل‏.‏
فقوله‏:‏ ‏
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 4‏]‏، أي‏:‏ نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط‏.‏ ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط‏.‏ فأي معبود عبدتموه في وقت، فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات‏.‏
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل، ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان، ما ليس في الجملة الأولى‏.‏ تلك تضمنت نفي الفعل في الزمان غير الماضي، وهذه تضمنت نفي إمكانه وقبوله لما كان معبودًا لهم ولو في بعض الزمان الماضي فقط‏.‏ والتقدير‏:‏ ما عبدتموه ولو في بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدًا‏.‏
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل؛ لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال‏.‏ وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها‏.‏

 

ص -554-

 فهو يتبرأ في الحاضر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان، وينفي جواز عبادته لمعبودهم،ويبين أن مثل هذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ‏.‏ فهو ينفي جوازه شرعًا ووقوعًا‏.‏ فإن مثل هذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال، كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقال‏:‏ ‏[‏أنا أفعل هذا‏؟‏ ما أنا بفاعل هذا أبدًا‏]‏‏.‏ فهو أبلغ من قوله‏:‏ ‏[‏لا أفعله أبدًا‏]‏‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 145‏]‏‏.‏
فهو يتضمن نفي الفعل بغضًا فيه وكراهة له بخلاف قوله‏:‏ ‏[‏لا أفعل‏]‏‏.‏ فقد يتركه الإنسان وهو يحبه لغرض آخر‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏[‏ما أنا عابد ما عبدتم‏]‏، دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه‏.‏ وهذه هي البراءة‏.‏
ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال‏:‏ تول فلانًا، وتبرأ من فلان‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏
{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وأما قوله عن الكفار‏:‏
‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏،فهو خطاب لجنس الكفار0وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارًا‏.‏فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك‏.‏فإنهم حينئذ مؤمنون، لا كافرون،

 

ص -555-

 وإن كانوا منافقين، فهم كافرون في الباطن، فيتناولهم الخطاب‏.‏
وهذا كما يقال‏:‏ قل يا أيها المحاربون، والمخاصمون، والمقاتلون، والمعادون‏.‏ فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة‏.‏
وما دام الكافر كافرًا، فإنه لا يعبد الله، وإنما يعبد الشيطان، سواء كان متظاهرًا، أو غير متظاهر به كاليهود‏.‏
فإن اليهود لا يعبدون الله، وإنما يعبدون الشيطان؛ لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر‏.‏ وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها، فليست عبادة‏.‏
فكل كافر بمحمد، لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرًا‏.‏ والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع‏.‏ فهو ما دام كافرًا، لا يعبد معبود محمد صلى الله عليه وسلم، لا في الحاضر، ولا في المستقبل‏.‏
ولم يقل عنهم‏:‏ ‏[‏ولا تعبدون ما أعبد‏]‏، بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد، لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة؛ إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده

 

ص -556-

 وحده بما أمر به على لسان محمد‏.‏ ومن كان كافرًا بمحمد، لا يكون عمله عبادة الله قط‏.‏
وتبرئتهم من عبادة الله، جاءت بلفظ واحد، بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله، لم تقتصر على نفي الفعل‏.‏
ولم يحتج أن يقول فيهم‏:‏ ‏[‏ولا أنتم عابدون ما عبدت‏]‏، كما قال في نفسه‏:‏ ‏
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة، ومنهم من كان معبوده غير الله‏.‏ فلو قال‏:‏ ‏[‏ولا أنتم عابدون ما عبدت‏]‏، لقالوا‏:‏ بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركًا، بخلاف ما إذا قال‏:‏ ‏[‏ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت‏]‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ ‏[‏ما أنا عابد له‏]‏ إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقًا‏.‏ وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل، فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذمومًا، بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره، فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله‏.‏ فهو يقول للكفار‏:‏ ‏[‏ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن‏]‏‏.‏ وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة‏.‏ فلما قال‏:‏
‏{لا أّعبد ما تعبدون‏}‏ فنفي الفعل، قال‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏‏.‏

 

ص -557-

 ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه، ونفي أن يعبد شيئًا مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، بل أنتم بريؤون من عبادة ما أعبده‏.‏فليس لبراءتي، وكمال براءتي، وبُعْدِي من معبودكم، وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له، يكون لكم نصيب من هذه العبادة‏.‏ بل أنتم أيضًا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد لا في الحال الأولى، ولا في الثانية‏.‏
ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولي، لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية‏.‏ فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولي الخاصة، وحين البراءة الثانية العامة القاطعة‏.‏
وهم لم يختلف حالهم في الحالين، بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد‏.‏ فلم يكن في تغيير العبارة فائدة، وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنىين‏.‏
والإنسان يقوي يقينه، وإخلاصه، وتوحيده، وبراءته من الشرك وأهله، وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم، فرفع درجته في ذلك‏.‏ وهو في ذلك يقول للكفار‏:‏ ‏[‏لا تعبدون ما أعبد‏]‏ في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد‏.‏

 

ص -558-

 فالمقصود بالسورة‏:‏ أن المؤمن يتبرأ منهم، ويخبرهم أنهم برآء منه، وتبريه منهم إنشاء ينشئه، كما ينشئ المتكلم بالشهادتين‏.‏ وهذا يزيد وينقص‏.‏ ويقوي ويضعف‏.‏
وأما هم، فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال، لا ينشئ شيئًا لم يكن فيهم‏.‏ فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم، والخبر مطابق للمخبر عنه، فلم يتغير لفظ خبره عنهم، إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته الله لا يعبدون ما يعبد‏.‏ فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا‏.‏
ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم، فإن ذلك محرم‏.‏ بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان‏.‏ وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به‏.‏ فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص‏.‏ فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد‏.‏ وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص الله وحده، وعبادته وحده، والبراءة من كل معبود سواه وعبادته، وبراءته منه ومن عابديه‏.‏ وقوله‏:‏
‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏، وإن كان لفظها خبرًا، ففيها معنى الإنشاء، كسائر ألفاظ الإنشاءات، كقوله‏:‏ ‏[‏أشهد أن لا إله إلا الله‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏26 ،27‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏، فكل هذه الأقوال فيها معنى الإنشاء لما ينشئه المؤمن في

 

ص -559-

 نفسه من زيادة البراءة من الشرك وهي المقَشْقِشَة التي تُقَشْقِشُ من الشرك، كما يُقَشْقَشُ المريض من المرض‏.‏ فإن الشرك والكفر أعظم أمراض القلوب‏.‏ فأمر المؤمن بقول يوجب في قلبه من البراءة من الشرك ما لم يكن في قلبه قبل ذلك‏.‏ وكلما قاله ازداد براءة من الشرك، وقلبه شفاء من المرض، وإن كان الكَفَرة المخاطبون لا يزدادون بالإخبار عنهم إلا كفرًا‏.‏ فالجمل الخبرية تطابق المخبر عنه، والإنشاء يوجب إحداث ما لم يكن‏.‏ فقيل‏:‏ ‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏1 ،2‏]‏، أي‏:‏ أنا ممتنع من هذا، تارك له، ثم قال‏:‏ ‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ أنا بريء من هذا متنزه عنه‏.‏ مزكٍ لنفسي منه‏.‏ فإن الشرك أعظم ما تنجس به النفس، وأعظم تزكية النفس وتطهيرها، تزكيتها منه وتطهيرها منه‏.‏ فما أنا عابد قط ما عبدتم في وقت من الأوقات‏.‏
وأنتم مع ذلك ما أنتم عابدون ما أعبد، بل أنتم بريؤون مما أعبد‏.‏ وأنا بريء مما تعبدون، مأمور بالبراءة منه، وطالب زيادة البراءة منه، ومجتهد في ذلك‏.‏
وأنا أخبر عنكم بأنكم بريؤون مما أعبد، إما لكونكم تأمرون بذلك، وإما لكونكم تعبدونه، فلا أخبر به، فإنه كذب‏.‏ وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها، فبها تختلف فيه أحوالكم‏.‏

 

ص -560-

 وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم، ولا أكذب عليكم، فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت، بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة، لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولًا بقوله‏:‏ ‏{قُلْ‏}‏ فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه، واختياري به عداوتكم، والصبر على أذاكم‏.‏ واحتمالي هذه المكاره العظيمة‏.‏ بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم، وتصفوني بالأمانة، وتسموني ‏[‏الأمين‏]‏ وتفضلوني على غيري، ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان، وأني لا أختار لأحد منكم سوءًا، ولا أريد أن أصيب أحدًا بِشَرٍّ‏.‏ فاختياري للبراءة مما تعبدون، وإظهاري لسبهم وشتمهم، أهو سُدي ليس له موجب أوجبه‏؟‏ فانظروا في ذلك‏.‏ ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته، مع ما فيها من كمال البراءة منهم‏.‏ ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، يتناول كل كافر‏.‏ فهو لا يعبد ما يعبده أحد من الكفار، ولا مشركي العرب، ولا غيرهم من المشركين

 

ص -561-

 والكفار أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى، ولا غيرهم من أصناف الكفار وذلك أنه قال‏:‏ ‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏‏.‏ فذكر لفظ ‏[‏ما‏]‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏من تعبدون‏]‏‏.‏ و‏[‏ما‏]‏ تدل على الصفة كما تقدم وما ذكره المهدوي وغيره من أنه قال‏:‏ ‏{مَا أَعْبُدُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏[‏من أعبد‏]‏ يقابل به ‏{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ الذي يراد به الأصنام، فضعيف جدًا يغيِّر اللغة ويخص عموم القرآن وهو عموم مقصود ويزيل المعنى الذي به تعلقت هذه البراءة‏.‏
فإن ‏[‏ما‏]‏ في اللغة إما لما لا يعلم، ولصفات ما يعلم، كما في قوله‏:‏
‏{فَانكِحُواْ مَا طَابَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ ‏{وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7‏]‏، ‏{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏، وفي التسيبح المأثور أنه يقال عند سماع الرعد‏:‏ ‏[‏سبحان ما سبحت له‏]‏ ومثله كثير‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، جار على أصل اللغة‏.‏
وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏
{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏، خطاب للكفار مطلقًا، فهو لا يعبد الملائكة، ولا غير ذلك مما عبد من دون الله وإن كان ما عبد أهل العلم والعقل فَعَبَّر عن ذواتهم ب‏[‏من‏]‏ فتخصيص البراءة من الشرك بشرك مشركي العرب غلط عظيم، وإنما هي براءة من كل شرك‏.‏
وكون الرب يتصف بما تتصف به الأصنام من عدم العلم ما لا

 

ص -562-

 يجوز عليه، ولا تصح المقابلة في مثل ذلك، بل المقصود ذكر الصفات والإخبار بمعبود الرسول والمؤمنين ليتبرأ من معبدوهم ويبرئهم من معبوده‏.‏
وإذا قال اليهود‏:‏ نحن نقصد عبادة الله، كانوا كاذبين، سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا، كما يقول النصارى‏:‏ إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين، وهم كاذبون؛ لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به، وهو الشرع، لا بالمنسوخ المبدل‏.‏
وأيضًا، فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته، هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن، ولا أرسل المسيح ولا محمدًا‏.‏ بل هو عند بعضهم فقير، وعند بعضهم بخيل، وعند بعضهم عاجز، وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه‏.‏ وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه، الذين يزعمون أنهم رسله وليسوا رسله، بل هم كاذبون سحرة‏.‏ قد أيدهم ونصرهم، ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين؛ لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس‏.‏ فالرب الذي يعبدونه هو دائمًا ينصر أعداءه‏.‏
فهم يعبدون هذا الرب، والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود‏.‏ فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها

 

ص -563-

 من جهة كونه معبودًا لهم منزه عن هذه الإضافة‏.‏ فليس هو معبودًا لليهود، وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان‏.‏ فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات، وإنما هو الشيطان‏.‏
فالرسول والمؤمنون لا يعبدون شيئًا تعبده اليهود وإن كانوا يعبدون من يعبدونه، وهذا مما يظهر به فائدة ما ذكرنا‏.‏
وعلى هذا فقوله‏:
‏ ‏{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏، خطاب لجميع الكفار كما دلت عليه الآية‏.‏ وبهذا يظهر خطأ من قال‏:‏ إنه خطاب للمشركين والنصارى دون اليهود، كما في قول ابن زيد‏:‏ ‏{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏، قال‏:‏ للمشركين والنصارى، واليهود، لا يعبدون إلا الله، ولا يشركون، إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء بما جاؤوا به من عند الله، ويكفرون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وقتلوا طوائف الأنبياء ظلمًا وعدوانًا‏.‏ قال‏:‏ إلا العصابة التي تقول حيث خرج بُخْت نَصَّر، وقيل‏:‏ من سموا عزيرًا ‏[‏ابن الله‏]‏ ولم يعبدوه‏.‏ ولم يفعلوا كما فعلت النصارى قالت‏:‏ المسيح ابن الله، وعبدته‏.‏
فهذا الذي ذكره من أن اليهود لا تشرك كما أشركت العرب والنصارى صحيح، لكنهم مع هذا لا يعبدون الله، بل يستكبرون عن عبادته، ويعبدون الشيطان، لا يعبدون الله‏.‏ ومن قال‏:‏ إن اليهود

 

ص -564-

 تعبد الله فقد غلط غلطًا قبيحًا‏.‏ فكل من عبد الله، كان سعيدًا من أهل الجنة، وكان من عباد الله الصالحين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏60 ،61‏]‏
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن‏
:‏ ‏"‏إنك تأتي قومًا هم أهل كتاب، فأول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فادعهم إلى عبادة الله فإذا عرفوا الله فأعلمهم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏
فلا يعبد إلا الله بعد أن أرسل محمدًا وعرفت رسالته وبلغت؛ ولهذا اتفق العلماء على أن أعمالهم حابطة‏.‏ ولو عبدوا الله لم تحبط أعمالهم‏.‏ فإن الله لا يظلم أحدًا‏.‏
وقبل إرسال محمد، إنما كان يعبد الله من عبده بما أمر به‏.‏ فأما من ترك عبادته بما أمر به واتبع هواه، فهو لا يعبد الله، إنما يعبد الشيطان، ويعبد الطاغوت‏.‏ وقد أخبر الله عن اليهود بأنهم عبدوا الطاغوت، وأنه لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت‏.‏
وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان، والوثن، والكهان،

 

ص -565-

 والدرهم، والدينار، وغير ذلك‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏، وقال‏:‏ ‏{نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 101 ،102‏]‏‏.‏
وهم أشد عداوة للمؤمنين من النصارى، وكفرهم أغلظ،وهم مغضوب عليهم‏.‏ ولهذا قيل‏:‏إنهم تحت النصارى في النار‏.‏ واليهود إن لم يعبدوا المسيح، فقد افتروا عليه وعلى أمه بما هو أعظم من كفر النصارى‏.‏ ولهذا جعل الله النصارى فوقهم إلى يوم القيامة‏.‏
فالنصارى مشركون يعبدون الله ويشركون به‏.‏ وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادته، مستكبرون عنها كلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم استكبروا ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون‏.‏ بل هم متبعون أهواءهم، عابدون للشيطان‏.‏
فالنبي والمؤمنون لا يعبدون ما تعبده اليهود‏.‏ وهم وإن وصفوا الله ببعض ما يستحقه فهم يصفونه بما هو منزه عنه‏.‏ وليس في قلوبهم عبادة له وحده‏.‏ فإن ذلك لا يكون إلا لمن عبده بما أمره به‏.‏
والسورة لم يقل فيها‏:‏ ‏[‏يا أيها المشركون‏]‏ حتى يقال فيها‏:‏ إنها

 

ص -566-

 إنما تناولت من أشرك‏.‏ بل قال‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، فتناولت كل كافر، سواء كان ممن يظهر الشرك، أو كان فيه تعطيل لما يستحقه الله واستكبار عن عبادته‏.‏ والتعطيل شر من الشرك، وكل معطل فلابد أن يكون مشركًا‏.‏
والنصارى مع شركهم لهم عبادات كثيرة، واليهود من أقل الأمم عبادة وأبعدهم عن العبادة الله وحده‏.‏ لكن قد يعرفون مالا تعرفه النصارى، لكن بلا عبادة وعمل بالعلم‏.‏ فهم مغضوب عليهم، وأولئك ضالون‏.‏ وكلاهما قد برأ الله منهم رسوله والمؤمنين‏.‏
وفي هذه الأمة من يعرف ما لا تعرفه اليهود والنصارى بلا عمل بالعلم، ففيهم شبه، كما قال سُفيان بن عُيَيْنة‏:‏ من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى‏.‏ بل قد قال أبو هريرة‏:‏ ما أقرب الليلة من البارحة، أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل‏.‏ بل في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فمن‏؟‏‏"‏ وفي رواية‏:‏ فارس والروم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ومَنِ الناس إلا أولئك‏؟‏‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏افترقت اليهود على إحدي وسبعين فرقة، وافترقت

 

ص -567-

 النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة‏"‏‏.‏
وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن فيه حال الفرقة الناجية الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏
ومما يوضح ما تقدم أن قوله‏:‏
‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏2 ،3‏]‏، معناه المعبود‏.‏ ولكن هو لفظ مطلق يتناول الواحد والكثير، والمذكر والمؤنث‏.‏ فهو يتناول كل معبود لهم‏.‏
والمعبود هو الإله، فكأنه قال‏:‏لا أعبد إلهكم، ولا تعبدون إلهي،كما ذكر الله في قصة يعقوب‏.‏قال تعالى‏:‏‏
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، واسم الإله والمعبود يتضمن إضافة إلى العابد‏.‏ وقال‏:‏‏{إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ‏}‏، هو الذي يعبده هؤلاء صلوات الله وسلامه عليهم ويألهونه‏.‏
وإنما يعبده من كان على ملتهم، كما قال يوسف‏:‏ ‏

 

ص -568-

{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ‏}‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37 ،40‏]‏‏.‏ فتبين أن ملة آبائه هي عبادة الله، وهي ملة إبراهيم‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130 ،132‏]‏‏.‏
وإذا كان كذلك، فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم، وإذا لم يكونوا على ملته، لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم‏.‏ فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته، قال تعالى‏:‏
‏{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ إلى قوله ‏:‏{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 135 ،137‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم‏}‏، يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملة إبراهيم‏.‏
وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه، فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم‏.‏ والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل‏.‏ قال تعالى‏:
‏ ‏{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ّ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏
وقال‏:‏
‏{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏، يبين

 

ص -569-

 أن كل من رغب عنها فقد سفه نفسه‏.‏ وفيه من جهة الإعراب والمعنى قولان‏:‏
أحدهما وهو قول الفراء وغيره من نحاة الكوفة واختيار ابن قتيبة وغيره، وهو معنى قول أكثر السلف ‏:‏ أن النفس هي التي سفهت‏.‏ فإن ‏[‏سفه‏]‏ فعل لازم لا يتعدي، لكن المعنى‏:‏ إلا من كان سفيهًا فجعل الفعل له ونصب النفس على التمييز لا النكرة، كقوله‏:‏ ‏
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وأما الكوفيون فعرفوا هذا وهذا‏.‏ قال الفراء‏:‏ نصب النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال‏:‏ ضقت بالأمر ذرعا، معناه‏:‏ ضاق ذرعي به‏.‏ ومثله‏:‏
‏{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا‏}‏، أي‏:‏ اشتعل الشيب في الرأس‏.‏ قال‏:‏ ومنه قوله‏:‏ ألم فلان رأسه، ووجع بطنه، ورشد أمره‏.‏ وكان الأصل‏:‏ سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلما حول الفعل إلى زيد انتصب ما بعده على التمييز‏.‏
فهذه شواهد عرفها الفراء من كلام العرب‏.‏ ومثله قوله‏:‏ غُبِنَ فلان رأيه، وبطر عيشه‏.‏ ومثل هذا قوله‏:‏
‏{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 58‏]‏، أي‏:‏ بطرت نفس المعيشة‏.‏ وهذا معنى قول يَمَان بن رباب‏:‏ حمق رأيه ونفسه، وهو معنى قول ابن السائب‏:‏ ضل من قبل نفسه، وقول

 

ص -570-

 أبي روق‏:‏ عجز رأيه عن نفسه‏.‏
والبصريون لم يعرفوا ذلك‏.‏ فمنهم من قال‏:‏ جهل نفسه، كما قاله ابن كَيسان، والزجّاج‏.‏ قال‏:‏ لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها‏.‏
وهذا الذي قالوه ضعيف‏.‏ فإنه إن قيل‏:‏ إن المعنى صحيح، فهو إنما قال‏:‏ ‏[‏سفه‏]‏، و‏[‏سفه‏]‏ فعل لازم، ليس بمتعدٍ، و‏[‏جهل‏]‏ فعل متعد‏.‏ وليس في كلام العرب ‏[‏سفهت كذا‏]‏ البتة بمعنى‏:‏ جهلته‏.‏ بل قالوا‏:‏ سَفُه بالضم سفاهة، أي صار سفيهًا، وسفِه بالكسر أي‏:‏ حصل منه سفه، كما قالوا في ‏[‏فقُه وفقِه‏]‏‏.‏ ونقل بعضهم‏:‏ سفهت الشرب إذا أكثرت منه‏.‏ وهو يوافق ما حكاه الفراء، أي‏:‏ صار شربه سفيها، فسفه شربه لما جاوز الحد‏.‏
وقال الأخفش، ويونس‏:‏ نصب بإسقاط الخافض، أي‏:‏ سفه في نفسه‏.‏ وقولهم ‏[‏بإسقاط الخافض‏]‏، ليس هو أصلا فيعتبر به، ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة، فيتعدي الفعل بنفسه‏.‏ وإن كان مقيسًا في بعض الصور، ف ‏[‏سفه‏]‏ ليس من هذا، لا يقال‏:‏سفهت أمر الله، ولا دين الإسلام، بمعنى‏:‏ جهلته، أي‏:‏ سفهت فيه‏.‏ وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمييز ما خص به،

 

ص -571-

  مثل نفسه أو شربه، ونحو ذلك‏.‏
والمقصود أن كل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا دين إبراهيم‏.‏ وكذلك قال قتادة‏:‏ بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ‏.‏
فأما موسي والمسيح، ومن اتبعهما، فهم على ملة إبراهيم متبعون له، وهو إمامهم‏.‏ وهذا معنى قوله‏:
‏ ‏{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏ فهو يتناول الذين اتبعوه قبل مبعث محمد وبعد مبعثه‏.‏ وقيل‏:‏ إنه عام، قال الحسن البصري‏:‏ كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضي وممن بقي‏.‏وقال الربيع بن أنس‏:‏هم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه،وكان محمد والذين معه من المؤمنين أولي الناس بإبراهيم‏.‏ وهذا وغيره مما يبين أن اليهود والنصارى لا يعبدون الله، وليسوا على ملة إبراهيم‏.‏
فإن قيل‏:‏ فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قول الخليل‏:‏ ‏
{قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75 ،77‏]‏، فقد استثناه مما يعبدون، فدل على أنهم كانوا يعبدون الله‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏26 ،27‏]‏، واستثناه

 

ص -572-

 أيضًا‏.‏ وفي المسند وغيره حديث حُصَين الخُزَاعي لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏يا حُصَين ‏!‏، كم تعبد اليوم‏؟‏‏]‏ قال‏:‏ سبعة آلهة ستة في الأرض، وواحد في السماء‏.‏ قال‏:‏ ‏[‏فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك‏؟‏‏]‏ قال‏:‏ الذي في السماء‏.‏
قيل‏:‏ هذا قول المشركين، كما تقول اليهود والنصارى‏:‏ نحن نعبد الله‏.‏ فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا‏.‏
وأما قول الخليل، ففيه قولان؛ قال طائفة‏:‏ إنه استثناء منقطع، وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ كانوا يعبدون الله مع آلهتهم‏.‏
وعلى هذا، فهذا لفظ مقيد‏.‏ فإنه قال‏:‏
‏{مَا تَعْبُدُونَ‏}‏‏.‏ فسماه عبادة إذا عرف المراد، لكن ليست هي العبادة التي هي عند الله عبادة‏.‏ فإنه كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏أنا أغني الشركاء عن الشرك‏.‏ من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك‏"‏‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏ سماه إيمانًا مع التقييد، وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلهًا آخر لا يدخل في مسمي الإيمان عند الإطلاق‏.‏ وقد قال‏:‏ ‏{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏، ‏{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏‏.‏ فهذا مع التقييد‏.‏ ومع الإطلاق‏.‏ فالإيمان هو الإيمان بالله، والبشارة بالخير‏.‏

 

ص -573-

 وقوله‏:‏ ‏{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 3‏]‏، نفي العبادة مطلقًا، ليس هو نفي لما قد سمي عبادة مع التقييد‏.‏ والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال‏:‏ إنه يعبد الله وغيره، أو يعبده مشركًا به‏.‏ لا يقال‏:‏ إنه يعبد مطلقًا‏.‏ والمعطل الذي لا يعبد شيئًا شر منه‏.‏ والعبادة المطلقة المعتدلة هي المقبولة،وعبادة المشرك ليست مقبولة‏.‏
ومما يوضح هذا قوله‏:‏
‏{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏: ‏133‏]‏، قالوا فيها‏:‏ ‏{نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ‏}‏، ثم قالوا‏:‏ ‏{إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، فهذا بدل من الأول في أظهر الوجهين‏.‏ فإن النكرة تبدل من المعرفة، كما في قوله‏:‏ ‏{كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 15 ،16‏]‏، فذكرت معرفة وموصوفة‏.‏ كذلك قالوا‏:‏ ‏{نَعْبُدُ إِلَهَكَ‏}‏ فعرفوه‏.‏ ثم قالوا‏:‏ ‏{إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ فوصفوه‏.‏ والبدل في حكم تكرير العامل أحيانًا، كما في قوله‏:‏ ‏{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75‏]‏، فالتقدير‏:‏ نعبد إلهك، نعبد إلهًا واحدًا، ونحن له مسلمون‏.‏ فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه، وأنهم إنما يعبدون إلهًا واحدًا‏.‏ فمن عبد إلهين لم يكن عابدًا لإلهه وإله آبائه‏.‏ وإنما يعبد إلهه من عبد إلهًا واحدًا‏.‏
ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابدًا له، لكانت عبادته نوعين؛ عبادة إشراك، وعبادة إخلاص‏.‏ وإذا كان كذلك لم يكن

 

ص -574-

 قوله‏:‏ ‏{إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ بدلًا؛ لأن هذا كل من كل، ليس هو بدل بعض من كل‏.‏ فَعُلِم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلهًا واحدًا‏.‏
والوجه الثاني‏:‏قوله‏:
‏‏{إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ نصب على الحال، لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا‏.‏كقوله‏:‏‏{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏، وهو لا يكون إلا مصدقًا‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏، {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏} ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏‏.‏ فمن عبد معه غيره، فما عبده إلها واحدًا، ومن أشرك به فما عبده‏.‏ وهو لا يكون إلا إلهًا واحدًا‏.‏ فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له، لم تكن له حال أخرى يعبده فيها، فما عبده‏.‏
فإن قيل‏:‏ المشرك يجعل معه آلهة أخرى، فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد، قيل‏:‏ هذا غلط منشؤه أن لفظ ‏[‏الإله‏]‏ يراد به المستحق للإلهية، ويراد به ما اتخذه الناس إلهًا وإن لم يكن إلهًا في نفس الأمر، بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم‏.‏ فتلك ليست في نفسها آلهة، وإنما هي آلهة في أنفس العابدين‏.‏ فإلهيتها أمر قدره المشركون، وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقًا للخارج، كالذي يجعل من ليس بعالم عالمًا، ومن ليس بحي حيا، ومن ليس بصادق ولا عدل صادقًا وعدلًا فيقال‏:‏ هذا عندك صادق، وعادل، وعالم، وتلك اعتقادات غير مطابقة، وأقوال كاذبة غير لائقة‏.‏

 

ص -575-

 ولهذا يجعل سبحانه ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف‏:‏ ‏{هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 15‏]‏، وقال الخليل‏:‏ ‏{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏، أي‏:‏ أي شيء يتبع الذين يشركون‏؟‏ وإنما يتبعون الظن والخرص، وهو الحزْرُ‏.‏ هذا صواب، وإن ما استفهامية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها نافية‏.‏ وبعضهم لم يذكر غيره، كأبي الفرج‏.‏ وهو ضعيف كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع‏.‏
وقال هود‏:‏
‏{اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏50‏]‏‏.‏
وإذا كانت إلهية ما سوى الله أمرًا مختلقا يوجد في الذهن واللسان لا وجود له في الأعيان‏.‏ هو من باب الكذب والاعتقاد الباطل الذي ليس بمطابق‏.‏ وما عند عابديها من الحب والخوف والرجاء لها تابع لذلك الاعتقاد الباطل‏.‏ كمن اعتقد في شخص أنه صادق فصدقه فيما يقول، وبني على إخباره أعمالًا كثيرة‏.‏ فلما تبين كذبه، ظهر فساد تلك الأعمال كأتباع مسيلمة،والأسود، وغيرهما من أصحاب الزوايا والتُّرهَات، وما يشرعونه لأتباعهم مما لم يأذن به الله، بخلاف الصادق والصدق‏.‏

 

ص -576-

 ولهذا كانت كلمة التوحيد ‏{كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال في كلمة الشرك‏:‏ ‏{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فليس لها أساس ثابت، ولا فرع ثابت؛ إذ كانت باطلة، كأقوال الكاذبين وأعمالهم، بل هي أعظم الكذب والافتراء مع الحب لها‏.‏
والشرك أعظم الظلم‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏
‏"‏أن تجعل لله ندًا وهو خلقك‏"‏
فنفس تألههم لها، وعبادتهم إياها، وتعظيمها، وحبها، ودعائها، واعتقادها آلهة، والخبر عنها بأنها آلهة موجود، كما كان اعتقاد الكذابين موجودًا‏.‏ وأما نفس اتصافها بالإلهية، فمفقود، كاتصاف مسيلمة بالنبوة‏.‏
فهنا حالان‏:‏ حال للعابد‏.‏ وحال للمعبود‏.‏ فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه‏.‏ وأما المعبودون، فالرحمن له الإلهية، وما سواه لا إلهية له، بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرًا ولا نفعا‏.‏ ‏
{قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏42‏]‏، وهو في أصح القولين ‏{سَبِيلًا‏}‏ بالتقرب بعبادته وذكره‏.‏ ولهذا قال بعدها‏:‏‏{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏،

 

ص -577-

فأخبر عن الخلائق كلها أنها تسبح بحمده‏.‏ وقد بسط هذا في موضع آخر‏.‏
فقوله‏:‏
‏{نَعْبُدُ إِلَهَكَ‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، إذا قيل‏:‏ إنه منصوب على الحال، فإما أن يكون حالًا من الفاعل العابد، أو من المفعول المعبود‏.‏ فالأول‏:‏ نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه‏.‏ والثاني نعبده في الحال اللازمة له، وهو أنه إله واحد، فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه‏.‏
فإن كان التقدير هذا الثاني، امتنع أن يكون المشرك عابدًا له‏.‏ فإنه لا يعبده في هذه الحال، وهو -سبحانه- ليست له حال أخرى نعبده فيها‏.‏ وإن كان التقدير الأول، فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا‏.‏
لكن قوله‏:‏
‏{إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ دليل على أنها حال من المعبود، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ نعبده مخلصين له الدين، فإن هذه حال من الفاعل‏.‏
ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرًا، كقوله‏:‏
‏{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 14‏]‏‏.‏ فهذا حال من الفاعل

 

ص -578-

 فإنه يكون تارة مخلصا، وتارة مشركا‏.‏ وأما الرب - تعالى - فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا‏.‏
والحال - وإن كانت صفة للمفعول فهي - أيضًا - حال للفاعل‏.‏ فإنهم قالوا‏:‏ نعبده في هذه الحال‏.‏ فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال‏.‏ وبين أن قوله‏:‏
‏{نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏133‏]‏، هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعًا - بالعابد والمعبود‏.‏ فإن العامل فيها - المتعلق بها - العبادة، وهي فعل العابد، والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود‏.‏
كما قيل في الجملة‏:‏
‏{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ قيل‏:‏ هي واو العطف‏.‏ وقيل‏:‏ واو الحال‏.‏ أى‏:‏ نعبده في هذه الحال‏.‏ قالوا‏:‏ وهي حال من فاعل ‏[‏نعبد‏]‏ أو مفعوله لرجوع الهاء إليه في ‏[‏له‏]‏‏.‏ وهذا التقدير غلط؛ إذ هي حال منهما جميعًا‏.‏ فإنهم إذا عبدوه وهم مسلمون فهم مسلمون حال كونهم عابدين، وحال كونه معبودًا؛ إذ كونهم عابدين وكونه معبودًا ليس مختصًا بمقارنة أحدهما دون الآخر‏.‏
فالظرف والحال -هنا- كلمة وليست مفردًا؛ ولهذا اشتبه عليهم‏.‏فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا‏.‏فإذا قلت‏:‏ضربت زيدًا قاعدًا، فالقعود حال للفاعل أو المفعول‏.‏ وإذا قلت‏:‏ضربته والناس

 

ص -579-

 قعود، فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر، بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها، كأنه قال‏:‏ ضربته في زمان قعود الناس‏.‏ فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول، بخلاف ما إذا قلت‏:‏ ضربته في حال قعودي أو قعوده، فهذا يختلف‏.‏
والآية فيها
‏{إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏‏.‏ فهذه حال من المعبود بلا ريب‏.‏ فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلهًا واحدًا، وهذه لازمة له‏.‏
وإذا قيل‏:‏ المراد في حال كونه معبودًا واحدًا لا نتخذ معه معبودًا آخر، فهذه حال ليست لازمة، لكنه صفة للعابدين، لا له‏.‏ قيل‏:‏ هذا ليس فيه مدح له، ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية‏.‏ لكن فيها وصفهم فقط‏.‏
وأيضًا‏.‏ فقوله‏:‏‏
{إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏ فهو في نفسه إله واحد وإن جعل معه المشركون آلهة بالافتراء والحب‏.‏ فيجب أن يكون المراد ما دل عليه هذا الاسم‏.‏
ولو أرادوا ذلك المعني لقالوا‏:‏ نعبده مخلصين له الدين‏.‏ وهذا المعني قد ذكروه في الجملة الثانية، وهي قولهم‏:‏
‏{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏، لا سيما إذا جعلت حالا، أى‏:‏ نعبده إلها واحدًا في حال إسلامنا له‏.‏

 

ص -580-

 وإسلامهم له يتضمن إخلاص الدين له، وخضوعهم، واستسلامهم لأحكامه، بخلاف غير المسلمين‏.‏
ولهذا قال آمرًا للمؤمنين أن يقولوا‏:‏ ‏
{آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏
{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 138، 139‏]‏‏.‏
وفي هذه الآيات معان جليلة ليس هذا موضع استيفائها‏.
فَصل
وهذا النزاع في قوله ‏:‏
‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ ، هل هو خطاب لجنس الكفار ،كما قاله الأكثرون‏؟‏ أو لمن علم أنه يموت كافرًا، كما قاله بعضهم‏؟‏ يتعلق بمسمى ‏[‏الكافر‏]‏ ومسمى ‏[‏المؤمن‏]‏‏.‏

 

ص -581-

 فطائفة تقول‏:‏ هذا إنما يتناول من وافي القيامة بالإيمان‏.‏ فاسم المؤمن -عندهم- إنما هو لمن مات مؤمنًا‏.‏ فأما من آمن ثم ارتد فذاك ليس عندهم بإيمان‏.‏
وهذا اختيار الأشعري، وطائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم‏.‏ وهكذا يقال‏:‏ الكافر من مات كافرًا‏.‏
وهؤلاء يقولون‏:‏ إن حب الله وبغضه، ورضاه وسخطه، وولايته وعداوته، إنما يتعلق بالموافاة فقط‏.‏ فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنًا‏.‏ ويرضى عنه ويواليه بحب قديم وموالاة قديمة‏.‏ ويقولون‏:‏ إن عمر حال كفره كان وليًا لله‏.‏
وهذا القول معروف عن ابن كُلاب ومن تبعه، كالأشعرى وغيره‏.‏
وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا، فيقولون‏:‏ بل قد يكون الرجل عدوًا لله ثم يصير وليًا لله، ويكون الله يبغضه ثم يحبه‏.‏ وهذ مذهب الفقهاء والعامة‏.‏ وهو قول المعتزلة، والكرامية، والحنفية قاطبة، وقدماء المالكية، والشافعية، والحنبلية‏.‏
وعلى هذا يدل القرآن، كقوله‏:‏
‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏، ‏{وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏7‏]‏، وقوله‏:‏

 

ص -582-

 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏، فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر‏.‏ وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏.‏ وقال‏:‏ ‏{فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمًْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏ ‏.‏
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة‏:‏ تقول الأنبياء‏:‏ ‏
"‏إن ربي قد غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله‏.‏ ولن يغضب بعده مثله‏"‏‏.‏
وفي دعاء الحجاج عند الملتزم عن ابن عباس وغيره‏:‏ ‏[‏فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني‏]‏‏.‏ وبعضهم حذف‏:‏ ‏[‏فارض عني‏]‏، فظن بعض الفقهاء أنه ‏[‏فمن الآن‏]‏ أنه من ‏[‏المن‏]‏‏.‏ وهو تصحيف‏.‏ وإنما هو من حروف الجر كما في تمام الكلام، وإلا فمن الآن فارض عني‏.‏
فبين أنه يزداد رضا، وأنه يرضى في وقت محدود‏.‏ وشواهد هذا كثيرة‏.‏ وهو مبسوط في مواضع‏.‏
فَصل
ونظير القول في‏:
‏ ‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، القولان في قوله‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، فإن للناس في هذه الآية قولين‏:‏

 

ص -583-

أحدهما‏:‏ أنها خاصة بمن يموت كافرًا‏.‏ وهذا منقول عن مقاتل، كما قال في قوله‏:‏ ‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏ وكذلك نقل عن الضحاك‏.‏ قالا‏:‏ نزلت في مشركى العرب، كأبي جهل، وأبي طالب، وأبي لهب، ممن لم يسلم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ونزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته‏.‏
وطائفة من المفسرين لم يذكروا غير هذا القول، كالثعلبى والبغوى وابن الجوزى‏.‏ قال البغوى‏:‏ هذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله‏.‏
وقال ابن الجوزي‏:‏ قال شيخنا على بن عبيد الله‏:‏ وهذه الآية وردت بلفظ العموم والمراد بها الخصوص؛ لأنها آذنت بأن الكفار حين إنذارهم لا يؤمنون، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم‏.‏ ولو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله بخلاف مخبره، فلذلك وجب نقلها إلى الخصوص‏.‏
والقول الثاني ‏:‏ أن الآية على مقتضاها، والمراد بها أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الكافر ما دام كافرًا ، لا ينفعه الإنذار ولا يؤثر فيه، كما قيل مثل ذلك في الآيات‏:‏ إنها غير موجبة للإيمان‏.‏ وقد جمع بينهما في قوله‏:‏ ‏
{وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏‏.‏

 

ص -584-

فالآيات أفقية، وأرضية، وقرآنية، وهي أدلة العلم‏.‏ والإنذار يقتضى الخوف‏.‏ فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به، فهذا تنفعه الحكمة‏.‏ والإنذار لمن يعرف الحق وله هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه، وهو خوف العذاب‏.‏ وهذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة‏.‏ وآخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل، فيجادل بالتي هي أحسن‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏
‏{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏، ‏{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏
فالمراد أن الكافر ما دام كافرًا لا يقبل الحق سواء أنذر أم لم ينذر، ولا يؤمن ما دام كذلك؛ لأن على قلبه وسمعه وبصره موانع تصد عن الفهم والقبول‏.‏ وهكذا حال من غلب عليه هواه‏.‏
هو -سبحانه- لم يقل‏:‏ ‏[‏إنهم لا يؤمنون‏]‏‏.‏ وقيل ذلك لمن سبقت عليه الشقوة، أو حقت عليه الكلمة، كقوله‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏، فبين أن هؤلاء لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم إيمانهم وقت

 

ص -585-

رؤية العذاب الأليم، كإيمان فرعون المذكور قبلها‏.‏ وموسى قد دعا عليه فقال‏:‏ ‏{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88، 89‏]‏‏.‏
وأما إذا أطلق -سبحانه- الكفار فهو مثل قوله‏:‏ ‏
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، فبين أنهم قد يؤمنوا إذا شاء‏.‏
وآية البقرة مطلقة عامة‏.‏ فإنه ذكر في أول السورة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في المنافقين‏.‏ فبين حال الكافر المصر على كفره أن الإنذار لا ينفعه للحجب التي على قلبه وسمعه وبصره‏.‏ وليس قال‏:‏ إن الله لا يهدي أحدًا من هؤلاء، فيسمع ويقبل‏.‏ ولكن هو حين يكون كافرًا لا تتناوله الآية‏.‏ وهذا كما يقال في الكافر الحربي‏:‏لا يجوز أن تعقد له الذمة، ولا يكون قط من أهل دار الإسلام ما دام حربيًا‏.‏
فالكفار ما داموا كفارًا هم بهذه المثابة لهم موانع تمنعهم من الإيمان كما أن للمنافقين موانع تمنعهم ما داموا كذلك، وإن أنذروا‏.‏ وهذا كقوله‏:
‏ ‏{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏، فهذا مثل كل كافر ما دام كافرًا‏.‏

 

ص -586-

وذلك لا يمنع أن يكونوا قد يسمعون إذا زال الغطاء الذي على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فإنهم لا يسمعون لذلك المعني المشتق منه، وهو الكفر‏.‏ فما داموا هذه حالهم فهم كذلك، ولكن تغير الحال ممكن، كما قال‏:‏ ‏{إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ‏}‏، وكما هو الواقع‏.‏
ومثل هذا يفيد أن الإنسان لا يعتقد أنه بدعائه وإنذاره وبيانه يحصل الهدى، ولو كان أكمل الناس، وأن الداعي وإن كان صالحًا ناصحًا مخلصًا فقد لا يستجيب المدعو؛ لا لنقص في الدعاء، لكن لفساد في المدعو‏.‏
وهذا لأن حصول المطلوب متوقف على فعل الفاعل وقبول القابل، كالسيف القاطع يؤثر بشرط قبول المحل فيه لا يقطع الحجارة والحديد ونحو ذلك‏.‏ والنفخ يؤثر إذا كان هناك قابل لا يؤثر في الرماد‏.‏
والدعاء، والتعليم، والإرشاد‏.‏ وكل ما كان من هذا الجنس، له فاعل وهو المتكلم بالعلم والهدى والنذارة، وله قابل وهو المستمع‏.‏ فإذا كان المستمع قابلا حصل الإنذار التام، والتعليم التام، والهدى التام‏.‏ وإن لم يكن قابلا قيل‏:‏ علمته فلم يتعلم، وهديته فلم يهتد، وخاطبته فلم يصغ، ونحو ذلك‏.‏

 

ص -587-

فقوله في القرآن‏:‏ ‏{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، هو من هذا‏.‏ إنما يهتدى من يقبل الاهتداء، وهم المتقون، لا كل أحد‏.‏ وليس المراد أنهم كانوا متقين قبل اهتدائهم، بل قد يكونوا كفارًا‏.‏ لكن إنما يهتدى به من كان متقيًا‏.‏ فمن اتقى الله اهتدى بالقرآن‏.‏ والعلم والإنذار إنما يكون بما أمر به القرآن‏.‏
وهكذا قوله‏:‏ ‏
{لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏، الإنذار التام، فإن الحى يقبله‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏، فهم لم يقبلوا الإنذار‏.‏
ومثله قوله‏:‏ ‏
{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وعكسه قوله‏:‏
‏{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ أي‏:‏ كل من ضل به فهو فاسق‏.‏ فهو ذم لمن يضل به، فإنه فاسق‏.‏ ليس أنه كان فاسقًا قبل ذلك‏.‏
ولهذا تأولها سعد بن أبي وقاص في الخوارج، وسماهم ‏[‏فاسقين‏]‏؛ لأنهم ضلوا بالقرآن‏.‏ فمن ضل بالقرآن فهو فاسق‏.‏
فقوله‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، من هذا الباب‏.‏ والتقدير‏:‏ من ختم على قبله وجعل على سمعه وبصره غشاوة فسواء عليك أنذرته أم لم تنذره هو لا يؤمن، أي‏:‏ ما دام كذلك ،

 

ص -588-

ولكن هذا قد يزول‏.‏
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏، وحرزًا للأميين‏.‏ أنت عبدى ورسولى، سميتك ‏[‏المتوكل‏]‏، لست بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق‏.‏ ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر‏.‏ ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صما، وقلوبًا غلفًا‏.‏
وقد قال‏:‏
‏{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6، 7‏]‏، فدل على أن بعضهم يؤمنون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 8 11‏]‏ فهذا هو الإنذار التام، وهو الإنذار الذي يقبله المنذر وينتفع به‏.‏
وقوله‏:
‏ ‏{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ هو أصل الإنذار، كما يقال في البليد والمشغول الذهن بأمور الدنيا والشهوات‏:‏ سواء عليك أعلمته أم لم تعلمه لا يتعلم ولا يقبل الهدى، ويقال في الذكى الفارغ‏:‏ إنما يتعلم مثل هذا‏.‏ ثم المشغول قد يتفرغ‏.‏ وقد يصلح ذهن بعد فساده‏.‏ ويفسد بعد صلاحه لفساد قلبه وصلاحه‏.‏
وعلى هذا القول أكثر تفسير السلف، كما ذكره ابن إسحاق، وقد رواه ابن أبي حاتم وغيره‏.‏ قال ابن إسحاق، حدثنى محمد بن أبي

 

ص -589-

محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، أي‏:‏ بما أنزل إليك، وإن قالوا‏:‏ إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك، ‏{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏، أي‏:‏ إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك‏.‏ فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا‏؟‏
فقد تبين أنهم لا يسمعون الإنذار؛ لكفرهم بما عندهم وما جاءهم من الحق‏.‏ ومعلوم أن منهم خلقًا تابوا بعد ذلك وآمنوا‏.‏
وروى عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال‏:‏ آيتان في قادة الأحزاب‏:
‏‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هم الذين ذكرهم الله في هذه الآية‏:‏ ‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ جعلهم قادة الأحزاب لكونهم أضلوا الأتباع فأحلوهم دار البوار‏.‏ والأحزاب يوم الخندق قد أسلم عامة قادتها، وحسن إسلامهم، مثل عكْرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وأبي سفيان‏.‏ وهؤلاء أسلم منهم من أسلم عام الفتح، وهم الطلقاء‏.‏ ومنهم من أسلم قبل ذلك‏.‏ والحزب الآخر غَطَفَان، وقد أسلموا أيضًا‏.‏

 

ص -590-

 والآية لابد أن تتناول كفار أهل الكتاب،كما قال ابن إسحاق‏.‏ فإن السورة مدنية،وإن تناولت مع ذلك المشركين‏.‏فهي تعم كل كافر‏.‏ومقاتل،والضحاك يخصاها ببعض مشركى العرب‏.‏ وابن السائب يقول‏:‏ هي إنما نزلت في اليهود،منهم حيى بن أخْطَب‏.‏وكذلك ما ذكره ابن إسحاق،عن ابن عباس، أنها في اليهود، وأبو العالية يقول‏:‏ إنها نزلت في قادة الأحزاب‏.‏
والآية تعم هؤلاء كلهم وغيرهم، كما أن آيات المؤمنين والمنافقين كان سبب نزولها المؤمنين والمنافقين الموجودين وقت النزول، وهي تعمهم وغيرهم من المؤمنين والمنافقين إلى قيام الساعة‏.‏
والمقصود أن قوله‏:‏
‏{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، كقوله‏:‏ ‏{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ‏} ‏[‏الروم‏:‏ 52، 53‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42، 43‏]‏‏.‏
وكل هذا فيه بيان أن مجرد دعائك وتبليغك وحرصك على هداهم ليس موجب ذلك، وإنما يحصل ذلك إذا شاء الله هداهم فشرح صدورهم للإسلام، كما قال
تعالى‏:‏‏{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 37‏]‏،

 

ص -591-

ففيه تعزية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبينت الآية له أن تبليغك وإن لم يهتدوا به ففيه مصالح عظيمة غير ذلك‏.‏
وفيه بيان أن الهدى هدى الله‏.‏ ف ‏
{مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏، وقد قال له‏:‏ ‏{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ففيه تقرير التوحيد، وتقرير مقصود الرسالة‏.‏
وهو سبحانه أخبر عمن لا يؤمن فقال‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فخص في هذه الآية، وفي تلك‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ‏}‏‏.‏ وهم الذين حق عليهم القول، أي‏:‏ حق عليهم ما قاله الله سبحانه وكتبه، وقدره‏.‏ فجعل الموجب هو التقدير السابق، وهو قوله‏.‏
والقول وإن كان قد يكون خبرًا مجردًا بما سيكون، وقد يكون قولا يتضمن أشياء كاليمين المتضمنة للحض والمنع، فقد ذكر في مواضع تقديم اليمين، كقوله‏:‏
‏{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

 

ص -592-

 فهو خبر عما قاله، أو قاله وكتبه‏.‏ وهو التقدير الذي يتضمن أنه قدر ما يفعله، وعلمه، وكتبه، كما تظاهرت النصوص بأن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏.‏ والقدر تضمن علمه بما سيكون، ومشيئته لوجود ما قدره وعلم أن سيخلقه‏.‏
والقول قد يكون خبرًا، وقد يكون فيه معني الطلب الحض والمنع بالقسم، وإما لكتابته على نفسه، كقوله‏:‏
‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا‏"‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏
{وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، فهذا مختص بالكفار‏.‏ وهو الوعيد المتضمن الجزاء على الأعمال، كما قال تعالى لإبليس‏:‏ ‏{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 129‏]‏ أي‏:‏ إن عذابهم له أجل مسمى، إما يوم القيامة، وإما في الدنيا كيوم بدر، وإما عقب الموت وقد ذكر في الآية الأقوال الثلاثة‏.‏ فلولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لكان العذاب لزامًا، أي‏:‏ لازمًا لهم‏.‏ فإن المقتضي له قائم تام، وهو كفرهم‏.‏

 

ص -593-

 وأما إذا أطلق القول على الكفار من غير تقييد، فإنه لايريد من لا يؤمن منهم‏.‏ فإن اللفظ لايدل على ذلك البتة‏.‏
وأيضًا، فإن هذا لا فائدة فيه، إذ كان أولئك غير معروفين، وإنما هم طائفة قد حق عليهم القول، وهم لايتميزون من غيرهم‏.‏ بل هو مأمور بإنذار الجميع، وفيهم من يؤمن ومن لا يؤمن‏.‏ فذكر اللفظ العام - وإرادة أولئك دون غيرهم ليس فيه بيان للمراد الخاص‏.‏ وذكر المعني الذي أوجب أنهم لا يؤمنون قط، ولا فيه تعليق الحكم بالمعني العام‏.‏ وكلام الله تعالى يصان عن مثل ذلك‏.‏
وما ذكر من الموانع هي موجودة في كل من لم يقبل الإنذار، سواء كان كافرًا، أو منافقًا أو فاسقًا أو غير ذلك، لسبب يوجب ذلك، فيمتنع قبول الإنذار بسبب الموانع‏.‏ ولكن هذه الموانع قد تزول، فإنها ليست لازمة لكل كافر‏.‏
وإذا كان المانع ما سبق من القول الذي حق عليهم فقد لا يزول أبدًا، كما قال‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏‏.‏
وقد يذكر هذا وهذا‏.‏

 

ص -594-

 وأما إذا اقتصر على ذكر الموانع التي فيهم، ولم يذكر ما سبق من القول، فهذه الموانع يرجى زوالها ويمكن، ما لم يذكر معها ما يقتضى امتناع تغير حالهم وحصول الهدى‏.‏
فصل
‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ جاء الخطاب فيها ب ‏[‏ما‏]‏، ولم يجئ ب ‏[‏من‏]‏، فقيل‏:‏ ‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ لم يقل‏:‏ ‏[‏لا أعبد من تعبدون‏]‏؛ لأن ‏[‏من‏]‏ لمن يعلم، والأصنام لا تعلم‏.‏
وهذا القول ضعيف جدًا، فإن معبود المشركين يدخل فيه من يعلم كالملائكة والأنبياء والجن والإنس، ومن لم يعلم‏.‏ وعند الاجتماع تغلب صيغة أولى العلم، كما في قوله‏:‏
‏{فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏45‏]‏‏.‏
فإذا أخبر عنهم بحال من يعلم عبر عنهم بعبادته، كما في قوله‏:
‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏194، 195‏]‏، فعبر عنهم بضمير الجمع المذكر‏.‏وهو لأولى العلم‏.‏

 

ص -595-

 وأما ما لا يعلم فجمعه مؤنث،كما تقول‏:‏الأموال جمعتها والحجارة قذفتها‏.‏
ف ‏[‏ما‏]‏ هي لما لا يعلم، ولصفات من يعلم‏.‏ ولهذا تكون للجنس العام؛ لأن شمول الجنس لما تحته هو باعتبار صفاته، كما قال‏:‏
‏{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، أي‏:‏ الذي طاب، والطيب من النساء‏.‏ فلما قصد الإخبار عن الموصوف بالطيب، وقصد هذه الصفة دون مجرد العين، عبر ب ‏[‏ما‏]‏‏.‏
ولو عبر ب ‏[‏من‏]‏، كان المقصود مجرد العين والصفة للتعريف ، حتى لو فقدت لكانت غير مقصودة، كما إذا قلت‏:‏ جاءنى من يعرف ، ومن كان أمس في المسجد، ومن فعل كذا، ونحو ذلك‏.‏ فالمقصود الإخبار عن عينه، والصلة للتعريف وإن كانت تلك الصفة قد ذهبت‏.‏
ومنه قوله‏:‏ ‏
{وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 5 - 7‏]‏‏.‏ على القول الصحيح إنها اسم موصول، والمعني‏:‏ وبانيها، وطاحيها، ومسويها‏.‏ ولما قال‏:‏ ‏{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏، أخبر ب ‏[‏من‏]‏؛ لأن المقصود الإخبار عن فلاح عينه وإن كان فعله للتزكية والتدسية قد ذهب في الدنيا‏.‏
فالقسم هناك بالموصوف، بحيث أنه إنما أقسم بهذا الموصوف والصفة

 

ص -596-

 لازمة‏.‏ فإنه لا توجد مبنية إلا ببانيها، ولا مطحية إلا بطاحيها، ولا مسواة إلا بمسويها‏.‏ وأما المرء المزكى نفسه والمدسيها، فقد انقضى عمله في الدنيا، وفلاحه وخيبته في الآخرة ليسا مستلزمًا لذلك العمل‏.‏
ونحو هذا قوله‏:‏ ‏
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏‏.‏
ولهذا يستفهم بها عن صفات من يعلم في قوله‏:‏
‏{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏، كما يستفهم على وجه بها في قوله {مَاذَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 85‏]‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فالاستفهام عن عين الخالق للتمييز بينه وبين الآلهة التي تعبد‏.‏ فإن المستفهمين بها كانوا مقرين بصفة الخالق، وإنما طلب بالاستفهام تعيينه وتمييزه، ولتقام عليهم الحجة باستحقاقه وحده العبادة‏.‏
وأما فرعون، فكان منكرًا للموصوف المسمى، فاستفهم بصيغة ‏[‏ما‏]‏؛ لأنه لم يكن مقرًا به، طالبًا لتعيينه؛ ولهذا كان الجواب في هذا الاستفهام بقول موسى‏:‏
‏{رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16، الإسراء‏:‏ 102‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 26‏]‏، فأجاب أيضًا بالصفة‏.‏ وهناك قال‏:‏ ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏، فكان الجواب بالاسم المميز للمسمى عن غيره‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏]‏ إلى تمام الآيات‏.‏

 

ص -597-

 فقوله‏:‏ ‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ ، يقتضى تنزيهه عن كل موصوف بأنه معبودهم؛ لأن كل ما عبده الكافر وجبت البراءة منه؛ لأن كل من كان كافرًا،لا يكون معبوده الإله الذي يعبده المؤمن‏.‏ إذ لو كان هو معبوده لكان مؤمنًا، لا كافرًا‏.‏وذلك يتضمن أمورًا‏:‏
أحدها‏:‏ أن ذلك يستلزم براءته من أعيان من يعبدونهم من دون الله‏.‏
الثاني‏:‏ أنهم إذا عبدوا الله وغيره فمعبودهم المجموع، وهو لا يعبد المجموع لايعبد إلا الله وحده‏.‏ فيعبده على وجه إخلاص الدين له، لا على وجه الشرك بينه وبين غيره‏.‏
وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول الخليل‏:‏
‏{إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26، 27‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75 - 77‏]‏، بأن يقال‏:‏ هنا نفي عبادة المجموع، وذلك لا ينفي عبادة الواحد الذي هو الله‏.‏ والخليل تبرأ من المجموع، وذلك يقتضى البراءة من كل واحد، فاستثنى‏.‏ أو يقال‏:‏ الخليل تبرأ من جميع المعبودين من الجميع فوجب أن يستثنى رب العالمين‏.‏ ولهذا لما وقع مستثنى في أول الكلام في قوله‏:‏

 

ص -598-

 ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ لم يحتج إلى استثناء آخر‏.‏
وأما هذه السورة فإن فيها التبري من عبادة ما يعبدون، لا من نفس ما يعبدون‏.‏ وهو برىء منهم، ومن عبادتهم، ومما يعبدون‏.‏ فإن ذلك كله باطل، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله‏:
‏ ‏[‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك‏.‏ من عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك‏]‏‏.‏
فعبادة المشرك كلها باطلة، لا يقال‏:‏ نصيب الله منها حق، والباقى باطل، بخلاف معبودهم‏.‏ فإن الله إله حق، وماسواه آلهة باطلة‏.‏
فلما تبرأ الخليل من المعبودين احتاج إلى استثناء رب العالمين‏.‏ ولما كان في هذه تبرؤه من أن يعبد ما يعبدون،فكان المنفي هو العبادة، تبرأ من عبادة المجموع الذين يعبدهم الكافرون‏.‏
الثالث‏:‏ إن كان النفي عن الموصوف بأنه معبودهم، لا عن عينه، فهو لايعبد شيئًا من حيث هو معبودهم؛ لأنه من حيث هو معبودهم هم مشركون به، فوجبت البراءة من عبادته على ذلك الوجه‏.‏ ولو قال‏:‏ ‏[‏من تعبدون‏]‏، لكان يقال‏:‏ إلا رب العالمين؛ لأن النفي واقع على

 

ص -599-

 عين المعبود‏.‏ وليس إذا لم يعبد ما يعبدون متبرئًا منه ومعاديًا له حتى يحتاج إلى الاستثناء، بل هو تارك لعبادة ما يعبدون‏.‏
وهذا يتبين بالوجه الرابع‏:‏ وهو قوله‏:‏ ‏
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، نفي عنهم عبادة معبوده‏.‏ فهم إذا عبدوا الله مشركين به لم يكونوا عابدين معبوده‏.‏ وكذلك هو إذا عبده مخلصًا له الدين لم يكن عابدًا معبودهم‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أنهم لو عينوا الله بما ليس هو الله، وقصدوا عبادة الله، معتقدين أن هذا هو الله، كالذين عبدوا العجل، والذين عبدوا المسيح، والذين يعبدون الدجال، والذين يعبدون ما يعبدون من دنياهم وهواهم، ومن عبد من هذه الأمة، فهم عند نفوسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود الذي لهم ليس هو الله‏.‏
فإذا قال‏:‏
‏{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏، كان متبرئًا من هؤلاء المعبودين وإن كان مقصود العابدين هو الله‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أنهم إذا وصفوا الله بما هو برىء منه، كالصاحبة والولد، والشريك، وأنه فقير أو بخيل، أوغير ذلك، وعبدوه كذلك، فهو برىء من المعبود الذي لهؤلاء‏.‏ فإن هذا ليس هو الله

 

ص -600-

 كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش‏؟‏ يسبون مُذَمَّما وأنا محمد‏"‏‏.‏ فهم وإن قصدوا عينه لكن لما وصفوه بأنه مذمم كان سبهم واقعًا على من هو مذمم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذاك ليس هو الله‏.‏
فالمؤمنون برآء مما يعبد هؤلاء‏.‏
الوجه السابع‏:‏ أن كل من لم يؤمن بما وصف به الرسول ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول من تلك الجهة‏.‏
وقس على هذا، فلتتأمل هذه المعانى، وتلخص وتهذب، والله - تعالى - أعلم‏.‏

 

ص -601-

 سُوَرة تَبَّت
قال شيخ الإسلام قدسَ الله روحه‏:
سورة ‏[‏تبت‏]‏ نزلت في هذا وامرأته، وهما من أشرف بطنين في قريش، وهو عم علي، وهي عمة معاوية، واللذان تداولا الخلافة في الأمة هذان البطنان‏:‏ بنو أمية، وبنو هاشم، وأما أبو بكر وعمر فمن قبيلتين أبعد عنه صلى الله عليه وسلم واتفق في عهدهما ما لم يتفق بعدهما‏.‏
وليس في القرآن ذم من كفر به صلى الله عليه وسلم باسمه إلا هذا وامرأته، ففيه أن الأنساب لا عبرة بها، بل صاحب الشرف يكون ذمه على تخلفه عن الواجب أعظم‏.‏ كما قال تعالى‏:‏
‏{يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏
قال النَّحاس‏:‏ ‏{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏، دعاء عليه بالخسر‏.‏ وفي قراءة عبد الله‏:‏ ‏[‏وقد تب‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏
‏{وَمَا كَسَبَ‏}‏، أي‏:‏ ولده‏.‏ فإن قوله‏:‏

 

ص -602-

 ‏{وَمَا كَسَبَ‏}‏، يتناوله، كما في الحديث ولده من كسبه‏.‏ واستدل بها على جواز الأكل من مال الولد‏.‏ ثم أخبر أنه‏:‏ ‏{سَيَصْلَى نَارًا‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏ أخبر بزوال الخير، وحصول الشر، و‏[‏الصلي‏]‏ الدخول والاحتراق جميعا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 4‏]‏ أن كان مثلا للنميمة؛ لأنها تضرم الشر، فيكون حطب القلوب، وقد يقال‏:‏ ذنبها أعظم، وحمل النميمة لايوصف بالحبل في الجيد، وإن كان وصفا لحالها في الآخرة، كما وصف بعلها وهو يصلي، وهي تحمل الحطب عليه، كما أعانته على الكفر، فيكون من حشر الأزواج، وفيه عبرة لكل متعاونين على الإثم، أو على إثم ما، أو عدوان ما‏.‏
ويكون القرآن قد عمم الأقسام الممكنة في الزوجين، وهي أربعة إما كإبراهيم وامرأته، وإما هذا وامرأته، وإما فرعون وامرأته، وإما نوح وامرأته، ولوط‏.‏ ويستقيم أن يفسر حمل الحطب بالنميمة بحمل الوقود في الآخرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏[‏من كان له لسانان‏]‏ إلخ‏.‏ والله أعلم‏.

 

ص -603-