عنوان الكتاب:

مجموع فتاوى ابن تيمية – الجزء الثالث

تأليف:

أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

728هـ

دراسة وتحقيق:

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم

الناشر:

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية

1416هـ/1995م

"العقيدة"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي، بعده‏.‏
مجمل اعتقاد السلف
قال الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ الإسلام تقي الدين، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، رضي الله عنه وأرضاه‏:‏
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إله وصحبه وسلم، أما بعد‏:‏
فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه منى في بعض المجالس، من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر، لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين، وكثرة الاضطراب

 

ص -1-

فيهما‏.‏ فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة، وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات فالكلام في باب ‏[‏التوحيد والصفات‏]‏‏:‏ هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في ‏[‏الشرع والقدر‏]‏‏:‏ هو من باب الطلب والإرادة، الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض، نفيًا وإثباتًا والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ومعروف، عند أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في ‏[‏كتاب الإيمان‏]‏ وكما ذكره المقسمون للكلام، من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان‏:‏ خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء أمر أو نهي، أو إباحة وإذا كان كذلك، فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولا بد له في أحكامه

 

ص -2-

من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته، وعموم مشيء ته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه، من القول والعمل ويؤمن بشرعه وقدره، إيمانا خاليا من الزلل، وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول، كما دل على ذلك سورة ‏{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ودل على الآخر سورة‏:‏ ‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏ وهما سورتا الإخلاص وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر، وركعتي الطواف، وغير ذلك فأما الأول وهو التوحيد في الصفات، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله، نفيا وإثباتا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد‏:‏ لا في أسمائه ولا في آياته فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَلِلّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{إن الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ الآية‏.‏

 

ص -3-

فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات‏:‏ إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى‏:‏ ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏:‏ رد للتشبيه والتمثيل وقوله‏:‏ ‏{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ رد للإلحاد والتعطيل‏.‏
فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى‏:
‏ ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ففي قوله‏:‏ ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ رد للتشبيه والتمثيل، وقوله‏:‏ ‏{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ رد للإلحاد والتعطيل، والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ قال أهل اللغة هل تعلم له ‏[‏سميًا‏]‏ أي نظيرًا يستحق مثل اسمه، ويقال مساميًا يساميه، وهذا معنى ما يروي عن ابن عباس‏:‏ ‏{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ مثيلاً أو شبيهًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏.‏ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يَصِفُونَ‏.‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100، 101‏]‏،

 

ص -4-

وقال تعالى‏:‏ ‏{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏.‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ‏.‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ‏.‏ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ‏.‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏.‏ أَصْطَفى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ‏.‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏.‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏.‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ‏.‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏.‏ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏.‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ‏.‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏:‏ 160‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ‏.‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ‏.‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏:‏ 182‏]‏‏.‏
فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء، والصفات وبديع المخلوقات‏.‏
وأما الإثبات المفصل، فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله‏:‏ ‏
{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ الآية بكمالها، وقوله‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏.‏ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1، 2‏]‏ السورة‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، ‏{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏، ‏{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ‏{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏،

 

ص -5-

‏{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏.‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ‏.‏ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 14 ‏:‏16‏]‏، ‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏.‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏
،وقوله‏:‏ ‏
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏.‏ وَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسماء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 22‏:‏ 24‏]‏

 

ص -6-

إلى أمثال هذه الآيات، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل، ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين، والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية، والقرامطة والباطنية ونحوهم، فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية، على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل، وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات، فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممعدومات،

 

ص -7-

فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين،كلاهما من الممتنعات.
 وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد، واجب بذاته غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلا عن الوجوب أو الوجود، أو القدم.
 وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات، دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق، بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف‏.‏
فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم، والقدرة، والمشيئة، جحدًا للعلوم الضروريات.
 وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم، فأثبتوا لله الأسماء، دون ما تتضمنه من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير، كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال‏:‏ عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم، دون ما تضمنه من الصفات.

 

ص -8-

والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات، وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء، فيقعون في نظيره وفي شر منه مع، ما يلزمهم من التحريف والتعطيل، ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين آوتوا العلم، الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول، هو الحق من ربه، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات، وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غنى عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار، أن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لابد له من موجد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون لأنفسهم، تعين أن لهم خالقا خلقهم، وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود، وهذا

 

ص -9-

موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه، ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الاضافة والتخصيص والتقييد، ولا في غيره، فلا يقول عاقل إذا قيل أن العرش شيء موجود وأن البعوض شيء موجود، إن هذا مثل هذا، لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا، هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه، لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما، ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء وكانت تلك الأسماء مختصة به، إذا أضيفت إليه، لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين، وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة، والتخصيص اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص، فقد سمى الله نفسه حيا، فقال‏:‏ ‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وسمى بعض عباده حيًا، فقال‏:‏ ‏{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأن قوله الحي اسم لله مختص به وقوله‏:‏

 

ص -10-

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركا بين المسميين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق، ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والإتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق، للخالق في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى، وكذلك سمى الله نفسه عليمًا حليمًا وسمى بعض عباده عليمًا فقال‏:‏ وبشرناه بغلام عليم، يعني إسحق، وسمى آخر حليمًا، فقال‏:‏ { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } يعني إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، وسمى نفسه سميعًا بصيرًا، فقال‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وسمى بعض عباده سميعًا بصيرًا فقال‏:‏ ‏{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال‏:‏

 

ص -11-

‏{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم، وسمى نفسه بالملك فقال‏:‏ ‏{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏}‏ وسمى بعض عباده بالملك فقال‏:‏ ‏{وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏،
‏{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50، 54‏]‏‏.‏ وليس الملك كالملك، وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن، فقال‏:‏ ‏{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وليس المؤمن كالمؤمن، وسمى نفسه بالعزيز فقال‏:‏ ‏{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال‏:‏ ‏{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وليس العزيز كالعزيز، وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال‏:‏ ‏{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر، ونظائر هذا متعددة، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك، فقال‏:‏ ‏{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ ‏{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ وقال ‏{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏ وقال ‏{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏ فصلت‏:‏ 15‏]‏ وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة، فقال‏:‏ ‏{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ وقال‏:‏ ‏{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ وقال‏:‏ ‏{فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏

 

ص -12-

وقال‏{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏ وقال ‏{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقال ‏{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ أي بقوة، وقال ‏{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ أي ذا القوة، وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال‏:‏ ‏{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏.‏ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏ وقال ‏{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا‏.‏ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏ وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال‏:‏ ‏{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏‏.‏
ووصف نفسه بالمحبة، ووصف عبده بالمحبة فقال‏:‏
‏{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقال ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال‏:‏ ‏{رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 8‏]‏ ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه، وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت فقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وليس المقت مثل المقت‏.‏

 

ص -13-

وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال‏:‏ ويمكرون ويمكر الله، وقال‏:‏ ‏{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا‏.‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 15، 16‏]‏، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد، ووصف نفسه بالعمل، فقال‏:‏ ‏{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ ووصف عبده بالعمل فقال‏:‏ ‏{جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏ وليس العمل كالعمل ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، فقال‏:‏ ‏{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 52‏]‏ وقال‏:‏ ‏{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏ وقال ‏{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ ووصف عباده بالمناداة والمناجاة، فقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 4‏]‏ وقال ‏{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 9‏]‏ وليس المناداة ولا المناجاة، كالمناجاة والمناداة، ووصف نفسه بالتكليم في قوله ‏{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، ووصف عبده بالتكليم في قوله ‏{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏ وليس التكليم كالتكليم، ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة، فقال‏:‏ ‏{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وليس الإنباء كالإنباء‏.‏

 

ص -14-

ووصف نفسه بالتعليم ووصف عبده بالتعليم فقال‏:‏ ‏{الرَّحْمَنُ‏.‏ عَلَّمَ الْقُرْآنَ‏.‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ‏.‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وليس التعليم كالتعليم، وهكذا وصف نفسه بالغضب، فقال‏:‏ ‏{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 6‏]‏، ووصف عبده بالغضب في قوله ‏{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وليس الغضب كالغضب، ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه أنه استوى على العرش،ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله‏{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ‏}‏[‏المؤمنون‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏ وليس الاستواء كالإستواء، ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال‏:‏ ‏{وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏
ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله‏
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏ وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة

 

ص -15-

فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي مماثلته بخلقه، فمن قال ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة، ولا كلام ولا يحب ولا يرضى ولا نادى ولا ناجى ولا استوى‏.‏ كان معطلا جاحدا، ممثلا لله بالمعدومات والجمادات‏.‏
ومن قال له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي أو رضاء كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي، كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات بل لا بد من إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل، ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين‏.‏
ولله المثل الأعلى‏.‏ ‏.‏ ‏[‏وبخاتمة جامعة‏]‏‏.‏

 

ص -16-

فصل‏:‏
فأما الأصلان‏:‏ فأحدهما أن يقال‏:‏ القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطب ممن يقول‏:‏ بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له‏:‏ لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت‏:‏ أن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه‏.‏ وهذا هو التمثيل وإن قلت‏:‏ أن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك‏:‏ وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به وإن قلت‏:‏ الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال له‏:‏ والإرادة

 

ص -17-

ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة فإن قلت‏:‏ هذه إرادة المخلوق قيل لك‏:‏ وهذا غضب المخلوق وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال‏:‏ أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له‏:‏ وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له‏:‏ فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي‏:‏ ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك، فإن قال‏:‏ تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة والتخصيص، دل على الإرادة والإحكام، دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع، والبصر والكلام، أو ضد ذلك

 

ص -18-

قال له سائر أهل الإثبات‏:‏ لك جوابان‏:‏ أحدهما أن يقال‏:‏ عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت والسمع، قد دل عليه ولم يعارض، ذلك معارض عقلي، ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض‏.‏
المقام الثاني أن يقال‏:‏ يمكن إثبات هذه الصفات، بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم، دل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم وعقاب الكافرين، يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر‏:‏ من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - تدل على حكمته البالغة، كما يدل التخصيص على المشيئة، وأولى لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم، أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة

 

ص -19-

وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول‏:‏ إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة، قيل له‏:‏ لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات الصفات فإنك إن قلت‏:‏ إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهًا أو تجسيمًا، لأنا لا نجد في الشاهد متصفًا بالصفات إلا ما هو جسم قيل لك‏:‏ ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم، فانف الأسماء بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم، فكل ما يحتج به من نفي الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جوابًا لذلك كان جوابًا لمثبتي الصفات، وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول‏:‏ هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم
 قيل له‏:‏ كذلك إذا قلت‏:‏ ليس بموجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير، كان ذلك تشبيها بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات
 فإن قال‏:‏ أنا أنفي النفي والإثبات، قيل له‏:‏ فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودًا معدومًا

 

ص -20-

أو لا موجودًا ولا معدومًا، ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم، أو الحياة والموت، أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل، فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما، قيل لك‏:‏ أولا هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر، وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل‏:‏ فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏.‏ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏[‏النحل‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏
فسمى الجماد ميتًا، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم
وقيل لك ثانيا‏:‏ فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات، أنقص مما يقبل ذلك -، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر، أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدًا منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجامدات التي لا تقبل ذلك‏.‏

 

ص -21-

وأيضًا فما لا يقبل الوجود والعدم، أعظم امتناعًا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعًا، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم‏.‏ كان أعظم امتناعًا، مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعًا في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعا، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم، هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد، وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين‏:‏ الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما‏.‏
ومن يقول لا أثبت واحدًا منهما، فامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر؛ لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق، وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم، أعظم امتناعًا مما يقدر قبوله لهما، مع نفيهما عنه فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم، أقرب إلى المعدوم الممتنع، مما يقدر قابلًا لهما، مع نفيهما عنه، وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلًا لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود، قابلًا وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود القبول وجب وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه‏.‏
وقيل له أيضًا‏:‏ اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو

 

ص -22-

 لتشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات؛ وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه، سبحانه وتعالى‏.‏
وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهًا وتجسيمًا، تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل، وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة‏.‏
وإن قال نفاة الصفات‏:‏ إثبات العلم والقدرة والإرادة؛ مستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع، قيل‏:‏ وإذا قلتم‏:‏ هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا‏؟‏ فهذه معان متعددة متغايرة، في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدًا
فإن قالوا‏:‏ هذا توحيد في الحقيقة، وليس هذا تركيبًا ممتنعًا، قيل لهم‏:‏ واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس هو تركيبًا ممتنعًا

 

ص -23-

وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول، أنه ليس معنى كون الشيء عالمًا، هو معنى كونه قادرًا، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالمًا قادرًا، فمن جوز أن تكون هذه الصفة هي الموصوف، فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحدًا بالعين لا بالنوع، وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق يعدم بعدم وجوده ويوجد بعد عدمه، هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم وإذا قدر هذا كان الوجود الواجب، موصوفًا بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير، وهذا باب مطرد فإن كل واحد من النفاة لما أخبر به الرسول من الصفات‏:‏ لا ينفي شيئًا فرارًا مما هو محذور، إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه، فلا بد في آخر الأمر من أن يثبت موجودًا واجبًا قديمًا متصفًا بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلًا لخلقه، فيقال له‏:‏ هكذا القول في جمع الصفات وكل ما تثبته من الأسماء والصفات‏:‏ فلا بد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال‏.‏

 

ص -24-

وهذا يتبين بالأصل الثاني، وهو أن يقال القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات، فإذا قال السائل‏:‏ كيف استوى على العرش‏؟‏
قيل له‏:‏ كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به، واجب والسؤال عن الكيفية بدعة‏.‏ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه، وكذلك إذا قال‏:‏ كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا‏؟‏
قيل له‏:‏ كيف هو‏؟‏ فإذا قال لا أعلم كيفيته‏.‏ قيل له‏:‏ ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة، يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه، ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته‏؟‏‏.‏
وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابته في نفس الأمر، مستوجبه لصفات الكمال

 

ص -25-

لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لايشابهه فيها سمع المخلوقين، وبصرهم، وكلامهم، ونزولهم، واستواؤهم، وهذا الكلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئًا ونفي شيئًا بالعقل، إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة، نظير ما يلزمه فيما أثبته؛ ولو طولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقًا؛ ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض الذين يوجبون فيما نفوه، إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ قانون مستقيم‏.‏
فإذا قيل لهم‏:‏ لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد‏؟‏‏.‏ لم يكن لهم جواب صحيح، فهذا تناقضهم في النفي وكذا تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه، ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الارادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت، والرضا والسخط‏.‏

 

ص -26-

ولو فسر ذلك بمفعولاته، وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فر منه، فإن الفعل لابد أن يقوم، أولًا بالفاعل والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه ويسخطه ويبغضه، المثيب المعاقب فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات‏.‏

 

ص -27-

فصل‏:‏
وأما المثلان المضروبان‏:‏ فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات‏:‏ من أصناف المطاعم والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبنًا وعسلًا وخمرًا وماء ولحمًا وحريرًا وذهبًا، وفضة وفاكهة، وحورًا وقصورًا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏[‏ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء‏]‏ وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى‏:‏ فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات منه مباينة المخلوق للمخلوق ومباينته لمخلوقاته‏:‏ أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم، من الخالق إلى المخلوق، وهذا بين واضح، ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق‏:‏
 فالسلف والأئمة وأتباعهم‏:‏ آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم

 

ص -28-

الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وإن مباينة الله لخلقه أعظم والفريق الثاني‏:‏ الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيرًا مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام‏.‏
والفريق الثالث‏:‏ نفوا هذا وهذا كالقرامطة، والباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، ثم إن كثيرًا منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها‏:‏ لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون من الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون‏:‏ إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل - صلوات الله عليهم - وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه وإلحاد في آيات الله
 وقد يقولون الشرائع تلزم العامة دون الخاصة فإذا صار الرجل

 

ص -29-

من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم‏:‏ رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب وهؤلاء الباطنية‏:‏ هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والإثبات‏:‏ يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم فإذا أثبت لله تعالى الصفات ونفي عنه مماثلة المخلوقات كما دل على ذلك الآيات البينات كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول ويهدم أساس الإلحاد والضلالات
 والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه فإن الله لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرَك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده؛ ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم:‏ فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم
 وهكذا القول في المثل الثاني‏:‏

 

ص -30-

وهو أن الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تقبض من البدن، وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة، والناس مضطربون فيها، فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءًا من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم‏:‏ أنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم‏:‏ إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن، ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون‏:‏ لا هي داخلة في البدن ولا خارجة، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض، وقد يقولون‏:‏ أنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة، وقد يقولون‏:‏ أنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، وربما قالوا ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع

 

ص -31-

وإذا قيل لهم‏:‏ إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل قالوا‏:‏ بل هذا ممكن بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها، وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفي فساده على غالب الجهال‏.‏
واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير وسبب ذلك أن الروح - التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة - ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ، وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي، فإن أهل اللغة يقولون‏:‏ الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسما، ولهذا يقولون‏:‏ الروح والجسم، كما قال تعالى‏:
‏ ‏{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏‏.‏

 

ص -32-

وأما أهل الكلام‏:‏ فمنهم من يقول الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول‏:‏ هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول‏:‏ هو المركب من الجواهر المفردة، ومنهم من يقول‏:‏ هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون‏:‏ إنه مشار إليه إشارة حسية، ومنهم من يقول‏:‏ ليس مركبًا من هذا ولا من هذا؛ بل هو مما يشار إليه، ويقال‏:‏ إنه هنا أو هناك، فعلى هذا إن كانت الروح مما يشار إليها ويتبعها بصر الميت، - كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الروح إذا خرجت تبعها البصر وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء‏"‏- كانت الروح جسمًا بهذا الاصطلاح، والمقصود‏:‏ أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة‏:‏ تصعد وتنزل وتذهب وتجيء ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرًا‏.‏ والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره‏.‏
 فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات، مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات
فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها‏.‏

 

ص -33-

القاعدة الثالثة‏:‏
إذا قال القائل‏:‏ ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد، فإنه يقال‏:‏ لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلًا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر، أو ضلال، والذين يجعلون ظاهرها ذلك، يغلطون من وجهين‏:‏ تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل فالأول كما قالوا في قوله‏:‏ ‏"‏عبدي جعت فلم تطعمني‏"‏ الحديث وفي الأثر الآخر‏:‏ ‏"‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن‏"‏ فقالوا‏:‏ قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق‏.‏

 

ص -34-

فصل
‏[‏وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة‏]‏‏.‏
القاعدة الأولى‏:‏ أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي؛ كقوله
‏{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتًا وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء فهو كما قيل‏:‏ ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون مدحًا أو كمالا ولان النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال‏.‏

 

ص -35-

فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح كقوله‏:‏ ‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته، وتمامها بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته، وكذلك قوله‏:‏ ‏{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏ فان نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض، وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به، وإن علم فكما أنه إذا علم لا يحاط به علمًا‏:‏ فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية،

 

ص -36-

فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية لا على نفيها لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها
وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب‏:‏ لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش
ويقولون‏:‏ ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباينًا للعالم ولا محايثًا له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت
ولهذا قال ‏[‏محمود بن سبكتكين‏]‏ لمن ادعى ذلك في الخالق‏:‏ ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم‏.‏ وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات
فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص
فمن قال‏:‏ لا هو مباين للعالم، ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال‏:‏ لا هو قائم بنفسه، ولا بغيره، ولا قديم، ولا محدث، ولا متقدم، على العالم، ولا مقارن له

 

ص -37-

ومن قال‏:‏ إنه ليس بحي ولا ميت، ولا سميع ولا بصير، ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتًا أصم أعمى أبكم‏.‏
فإن قال‏:‏ العمى عدم البصر عمًا من شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر، كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له‏:‏ هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام، يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة، وأيضًا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضهًا، فإن الله قادر على جعل الجماد حيًا، كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضًا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصًا ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصًا من الحي الأعمى الأخرس فإذا قيل‏:‏ أن الباري لا يمكن اتصافه بذلك‏:‏ كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم؛ مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيهًا له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها‏.‏ وهذا تشبيه بالجمادات، لا بالحيوانات، فكيف من قال ذلك غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي

 

ص -38-

وأيضًا فنفس نفي هذه الصفات نقص كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به‏:‏ لكان المخلوق أكمل منه‏.‏
واعلم أن الجهمية المحضة، كالقرامطة ومن ضاهاهم؛ ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولون ليس بموجود، ولا ليس بموجود، ولا حي، ولا ليس بحي، ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين، وآخرون وصفوه بالنفي فقط فقالوا‏:‏ ليس بحي ولا سميع، ولا بصير وهؤلاء، أعظم كفرًا من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفرًا، من هؤلاء من وجه، فإذا قيل لهؤلاء هذا مستلزم وصفه بنقيض، ذلك كالموت والصمم والبكم، قالوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلًا لذلك، وهذا الاعتذار يزيد قولهم فسادًا، وكذلك من ضاهي هؤلاء وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه، إذا قيل هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره، قالوا‏:‏ هذا إنما يكون إذا كان قابلًا لذلك والقبول إنما يكون من التحيز، فإذا انتفي التحيز انتفي قبول هذين المتناقضين‏.‏

 

ص -39-

فيقال لهم علم الخلق بإمتناع الخلو من هذين النقيضين، هو علم مطلق لا يستثني منه موجود، والتحيز المذكور أن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها متميز عنها، فهذا هو الخروج، فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل ليس بمتحيز، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه‏.‏
فهم غيروا العبارة، ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل، كما فعل أولئك بقولهم‏:‏ ليس بحى ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل‏.‏

 

ص -40-

القاعدة الثانية‏:‏
أن ما أخبر به الرسول عن ربه، فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه، أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصًا في الكتاب والسنة، متفق عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفيًا وإثباتًا، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحدًا على إثبات لفظه أو نفيه؛ حتى يعرف مراده فإن أراد حقًا قبل، وإن أراد باطلًا رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقًا، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ، ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك، فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقا، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه، ونحو ذلك‏.‏ وقد علم أن ما ثم موجود

 

ص -41-

إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته‏.‏
فيقال لمن نفي الجهة‏:‏ أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق‏؟‏ فالله ليس داخلًا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم‏؟‏ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات، وكذلك يقال لمن قال الله‏:‏ في جهة أتريد بذلك أن الله فوق العالم‏؟‏ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات‏؟‏
فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل وكذلك لفظ التحيز‏:‏ أن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين ملوك الأرض‏؟‏‏"‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة‏"‏ وفي حديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم‏"‏ وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها منفصل عنها ليس حالًا فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة‏:‏ فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه‏.‏

 

ص -42-

القاعدة الثالثة‏:‏
إذا قال القائل‏:‏ ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد، فإنه يقال‏:‏ لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلًا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر، أو ضلال، والذين يجعلون ظاهرها ذلك، يغلطون من وجهين‏:‏ تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل فالأول كما قالوا في قوله‏:‏ ‏"‏عبدي جعت فلم تطعمني‏"‏ الحديث وفي الأثر الآخر‏:‏ ‏"‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن‏"‏ فقالوا‏:‏ قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق‏.‏

 

ص -43-

فيقال لهم‏:‏ لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق أما الواحد فقوله‏:‏ ‏"‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏"‏ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال‏:‏ ‏"‏يمين الله في الأرض‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏"‏ ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به
ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحًا لله، وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرًا لأنه محتاج إلى التأويل‏.‏ مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس‏؟‏
 وأما الحديث الآخر‏:‏ فهو في الصحيح مفسرًا‏:‏ ‏"‏يقول الله عبدي جعت فلم تطعمنى فيقول‏:‏ رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏.‏ عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول‏:‏ رب كيف أعودك وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده‏"‏
 وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض، ولا يجع، ولكن مرض عبده وجوع عبده فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسرًا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل

 

ص -44-

وأما قوله ‏"‏قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن‏"‏، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل هذا بين يدي ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل‏:‏ السحاب المسخر بين السماء والأرض، لم يقتض أن يكون مماسًا للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة، ومما يشبه هذا القول؛ أن يجعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله، كما قيل في قوله ‏{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏؟‏‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏‏.‏ فقيل هو مثل قوله‏:‏ ‏{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏‏؟‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فهذا ليس مثل هذا، لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهًا بقوله‏:‏ ‏{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وهنا أضاف الفعل إليه فقال‏:‏ ‏{لِمَا خَلَقْتُ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{بِيَدَيَّ‏}‏ وأيضا‏:‏ فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله‏:‏ ‏{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله‏:‏ ‏{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 14‏]‏‏.‏
وهذا في الجمع نظير قوله‏:‏ ‏{بِيَدِهِ الْمُلْكُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وبيده الخير في المفرد فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهرًا أو مضمرًا، وتارة بصيغة الجمع، كقوله‏:‏ ‏
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏ ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه،

 

ص -45-

وأما صيغة التثنية، فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك، فلو قال‏:‏ ‏{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏‏.‏ لما كان كقوله‏:‏ ‏{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ وهو نظير قوله‏:‏ ‏{بِيَدِهِ الْمُلْكُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وبيده الخير، ولو قال خلقت بصيغة الإفراد، لكان مفارقًا له، فكيف إذا قال خلقت بيدي‏؟‏ بصيغة التثنية، هذا مع دلالات الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه مثل قوله‏:‏ ‏"‏المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا‏"‏‏.‏ وأمثال ذلك، وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع؛ فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد‏:‏ كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير، فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ ‏{رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ أنه على ظاهره، لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبًا كحبه، ولا رضًا كرضاه،

 

ص -46-

فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادًا وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا؛ إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا، إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحدا‏.‏ وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة‏.‏ ثم أن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير‏:‏ لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا بل صفة الموصوف تناسبه‏.‏ فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏"‏ فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي‏.‏

 

ص -47-

وهذا يتبين‏.‏
بالقاعدة الرابعة‏:‏
وهو أن كثيرًا من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها، أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه؛ فيقع في أربعة أنواع من المحاذير‏:‏
أحدها‏:‏ كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل‏.‏
الثاني‏:‏ أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة، عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله‏.‏ فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله‏.‏ حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل‏.‏ قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى‏.‏
الثالث أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب‏.‏

 

ص -48-

الرابع‏:‏ أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات‏.‏ فيجمع في كلام الله، وفي الله بين التعطيل والتمثيل؛ يكون ملحدًا في أسماء الله وآياته، مثال ذلك أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات واستوائه على العرش، فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله، فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش، كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله‏:‏ ‏{وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ‏{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏‏.‏ فيتخيل له أنه إذا كان مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه، كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو غرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش؛ لسقط الرب سبحانه وتعالى، ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا؛ فيقول‏:‏ ليس استواؤه بقعود ولا استقرار

 

ص -49-

ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار، يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك‏:‏ فلا فرق بين الاستواء والقعود، والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقرا ولا قاعدا، وإن لم يدخل في مسمى ذلك، إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم، وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقا معروفة‏.‏
ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء، مع إثبات نظيره، وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك، وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق؛ ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك‏.‏ فلم يذكر استواء مطلقا يصلح للمخلوق، ولا عاما يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء إضافه إلى نفسه الكريمة فلو قدر على وجه الفرض الممتنع أنه هو مثل خلقه - تعالى عن ذلك -، لكان استواؤه مثل استواء خلقه، أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه، بل قد علم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش، ولغيره وأن كل ما سواه مفتقر إليه،

 

ص -50-

وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواء يخصه، لم يذكر استواء يتناول غيره، ولا يصلح له كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه، إلا ما يختص به فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه‏!‏‏!‏‏.‏
سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، هل هذا إلا جهل محض وضلال، ممن فهم ذلك وتوهمه أو ظنه، ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق؛ بل لو قدر أن جاهلًا فهم مثل هذا وتوهمه لبين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلًا، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه، فلما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏
{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏
فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وجبل طين وأعوان‏؟‏ ثم قد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقرًا إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقرًا إلى أن تحمله الأرض والسحاب، أيضًا فوق الأرض وليس مفتقرًا إلى أن تحمله، والسموات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء

 

ص -51-

ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه‏:‏ كيف يجب أن يكون محتاجًا إلى خلقه، أو عرشه‏؟‏ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات‏؟‏ وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره، فالخالق سبحانه وتعالى أحق به، وأولى وكذلك قوله‏:‏ ‏{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏‏.‏ من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا‏:‏ أن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك فإن حرف ‏[‏في‏]‏ متعلق بما قبله وبما بعده، فهو بحسب المضاف إليه، ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصة يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف ‏[‏في‏]‏ مستعملًا في ذلك فلو قال قائل‏:‏ العرش في السماء أو في الأرض‏؟‏ لقيل في السماء ولو قيل‏:‏ الجنة في السماء أم في الأرض‏؟‏ لقيل الجنة في السماء، ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات، بل ولا الجنة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن‏"‏ فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك‏.‏ مع أن الجنة في

 

ص -52-

السماء، يراد به العلو سواء كانت فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى‏:‏ ‏{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلى الأعلى، وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله‏:‏ إنه في السماء أنه في العلو وأنه فوق كل شيء‏.‏ وكذلك الجارية لما قال لها أين الله‏؟‏ قالت‏:‏ في السماء، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها‏.‏
وإذا قيل‏:‏ العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل‏:‏ العرش في السماء فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، كان المراد إنه عليها، كما قال‏:‏ ‏
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وكما قال‏:‏ ‏{فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{فسيحوا في الأرض‏}‏ ويقال‏:‏ فلان في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه‏.‏

 

ص -53-

القاعدة الخامسة‏:‏
أنّا نعلم لما أخبرنا به من وجه دون وجه‏.‏ فإن الله قال‏:‏ ‏
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فأمر بتدبر الكتاب كله وقد قال تعالى‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف على قوله‏:‏ ‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم،

 

ص -54-

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ التفسير على أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب‏.‏ وقد روي عن مجاهد وطائفة‏:‏ أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله‏.‏ وقد قال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية، وأسأله عن تفسيرها، ولا منافاة بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ ‏[‏التأويل‏]‏ قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملا في ثلاثة معان‏:‏ -
أحدها‏:‏ وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله، أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدليل يقترن به، وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات، وترك تأويلها، وهل ذلك محمود أو مذموم أو حق أو باطل‏؟‏‏.‏‏.‏
الثاني‏:‏ أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير، واختلف علماء التأويل، ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري‏:‏ ‏[‏إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به‏]‏ وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهما، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره‏.‏

 

ص -55-

الثالث من معاني التأويل‏:‏ هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏‏.‏ فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون، من القيامة والحساب والجزاء، والجنة والنار، ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في قصة يوسف، لما سجد أبواه وإخوته قال‏:‏ ‏{يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ فجعل عين ما وجد في الخارج، هو تأويل الرؤيا الثاني، هو تفسير الكلام وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ، حتى يفهم معناه أو تعرف علته، أو دليله وهذا‏.‏
التأويل الثالث‏:‏ هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة‏:‏ ‏"‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي‏"‏ يتأول القرآن يعني قوله‏:‏
‏{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقول سفيان بن عيينة‏:‏ السنة هي تأويل الأمر والنهي فإن نفس الفعل المأمور به‏:‏ هو تأويل الأمر به ونفس الموجود المخبر عنه، هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد وغيره‏:‏ الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما

 

ص -56-

ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء، لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع بقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهما، ما لا يعلم بمجرد اللغة، ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر‏.‏ إذا عرف ذلك‏:‏ فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن نفسه المقدسة، المتصفة بما لها من حقائق الأسماء والصفات، هو حقيقة لنفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به تعالى، من الوعد والوعيد، هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد، ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فيه ألفاظ متشابهة يشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلًا وخمرًا، ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظًا ومعنى، ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته فأسماء الله تعالى وصفاته أولى، وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته، والإخبار عن الغائب لا يفهم أن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب، بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وإن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد وفي الغائب

 

ص -57-

ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منا فهمه، بذلك الخطاب وفسرنا ذلك، وأما نفس الحقيقة المخبر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏
ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان، فبين أن الاستواء معلوم، وإن كيفية ذلك مجهول، ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف، والأئمة ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي‏:‏ ‏"‏لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏"‏ وهذا في صحيح مسلم وغيره وقال في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏"‏ وهذا الحديث في المسند، وصحيح أبي حاتم، وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده،

 

ص -58-

فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره‏.‏ والله سبحانه أخبرنا أنه عليم قدير، سميع بصير، غفور رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته‏.‏
فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات، وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب‏.‏ وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء، وغير ذلك، ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها هل هي من قبيل المترادفة لا تحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات‏؟‏ كما إذا قيل‏:‏ السيف والصارم والمهند، وقصد بالصارم، معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند، والتحقيق أنها مترادفة في الذات، متباينة في الصفات، ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم، وبأنه متشابه، وفي موضع آخر، جعل منه ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه قال

 

ص -59-

الله تعالى‏:‏ {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى‏:‏ ‏{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ فأخبر أنه كله متشابه‏.‏
والحكم هو الفصل بين الشيئين فالحاكم يفصل بين الخصمين‏,‏ والحكم فصل بين المتشابهات، علمًا وعملًا، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال‏:‏ حكمت السفيه وأحكمته‏:‏ إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها‏:‏ إذا جعلت لها حكمة، وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه‏.‏
فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيمًا بقوله‏:‏
‏{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله‏:‏ ‏{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏76‏]‏، وجعله مفتيًا في قوله‏:‏ ‏{قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هاديًا ومبشرًا في قوله‏:‏ ‏{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه

 

ص -60-

في قوله‏:‏‏{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏ وهو الاختلاف المذكور في قوله‏:‏ ‏{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏
فالتشابه هنا‏:‏ هو تماثل الكلام وتناسبه بحيث يصدق بعضه بعضا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهي عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهي عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته، إذا لم يكن هناك نسخ‏.‏
وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضًا، فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهي عنه في وقت واحد، ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر‏.‏
فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة‏.‏
وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضًا، ويعضد بعضها بعضًا، ويناسب بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضًا، كان الكلام متشابهًا، بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضًا‏.‏
فهذا التشابه العام، لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلامض

 

ص -61-

المحكم المتقن يصدق بعضه بعضًا لا يناقض بعضه بعضًا، بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله وليس كذلك‏.‏
والإحكام هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما‏.‏
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبهًا عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس مثله، وإن كان مشبها له من بعض الوجوه‏.‏
ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل، حتى تشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل، والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه‏.‏
فمن عرف الفصل بين الشيئين، اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه

 

ص -62-

والقياس الفاسد، وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه؛ فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه، والقياس الفاسد لا ينضبط كما قال الإمام أحمد‏:‏أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس‏.‏فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال، والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة‏.‏
وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الآمر إلى من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود، فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، وأن يكون إياه أو متحدًا به، أو حالًا فيه، من الخالق مع المخلوق‏.‏
فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه‏.‏
وذلك أن الموجودًات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحدًا، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع‏.‏
وآخرون توهموا أنه إذا قيل‏:‏ الموجودًات تشترك في مسمى الوجود، لزم

 

ص -63-

التشبيه والتركيب، فقالوا‏:‏ لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم، من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات‏.‏
وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودًات تشترك في مسمى الوجود، لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة، مثل وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتًا في الأعيان، وهذا كله من نوع الاشتباه‏.‏
ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام؛ لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق‏.‏
وهذا كما أن لفظ ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له‏.‏ فإذا تمسك النصراني بقوله  تعالى‏:
‏‏{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله  تعالى‏:‏ ‏{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏‏.‏ ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدًا يزيل ما هناك من

 

ص -64-

الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينًا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم‏.‏
وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمهم إلا هو‏
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، بخلاف الملك من البشر إذا قال‏:‏ قد أمرنا لك بعطاء، فقد علم أنه هو وأعوانه، مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به، وقد يعلم ما صدرت عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك‏.‏
والله  سبحانه وتعالى  لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة‏.‏
وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد النوعين‏:‏ من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل‏:‏ فيها أنهار من ماء، فهناك قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا‏.‏
لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين  مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏

 

ص -65-

وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذي يختص بها، التي هي حقيقة لا يعلمها إلا هو؛ ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره  ينكرون على الجهمية، وأمثالهم  من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله‏.‏
وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق لفظ التأويل كما تقدم؛ من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها،فذاك لا يعلمه إلا هو‏.‏ وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع‏.‏
ومن لم يعرف هذا، اضطربت أقواله،مثل طائفة يقولون‏:‏ إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره، ويحتجون بقوله تعالى‏:‏‏
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل، وهذا تناقض منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقًا‏.‏
وجهة الغلط‏:‏ أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو‏.‏

 

ص -66-

وأما التأويل المذموم والباطل، فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقًا ممكنًا كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلا ممتنعًا كان الثابت مثله‏.‏
وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقًا، ويحتجون بقوله تعالى‏:‏
‏{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء‏.‏
وهذا مع أنه باطل فهو متناقض؛ لأنا إذا لم نفهم منه شيئًا لم يجز لنا أن نقول‏:‏ له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه؛ لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر، فلا يكون تأويلًا‏.‏
ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير‏.‏
فإن تلك المعاني التي دل عليها قد لا نكون عارفين بها؛ ولأنا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله فلئلا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى؛ لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى

 

ص -67-

من المعاني، ولا يفهم منه معنى أصلا، لم يكن مشعرًا بما أريد به، فلئلا يكون مشعرًا بما لم يرد به أولى‏.‏
فلا يجوز أن يقال‏:‏ إن هذا اللفظ متأول، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال‏:‏ إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله‏.‏ اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالخلق‏.‏
فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لابد وأن يكون له تأويل يخالف ظاهره‏.‏ لكن إذا قال هؤلاء‏:‏ إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين‏.‏
وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى، وهناك معنى، في سياق واحد من غير بيان، كان تلبيسًا‏.‏
وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ، أي تجرى على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه، كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضًا؛ لأن من أثبت تأويلًا أو نفاه، فقد فهم معنى من المعاني‏.‏
وبهذا التقسيم يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب‏.‏

 

ص -68-

القاعدة السادسة‏:‏
أنه لقائل أن يقول‏:‏ لابد في هذا الباب من ضابط، يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات، إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز‏.‏
فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له‏:‏ إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته‏.‏ وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له‏.‏
ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة، ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرًا بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا‏:‏ إنه مشبه، ومنازعهم يقول‏:‏ ذلك المعنى ليس من التشبيه‏.‏

 

ص -69-

وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل‏.‏
وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون‏:‏ كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال‏:‏ إن لله علما قديمًا أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبهًا ممثلا؛ لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديمًا، ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار‏.‏ ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون‏:‏ أخص وصفه ما لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك‏.‏
ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات‏:‏ إنها قديمة، بل يقول‏:‏ الرب بصفاته قديم‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول‏:‏ هو وصفاته قديمان‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ هو وصفاته قديمان، ولكن يقول‏:‏ ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلا عن أن تختص بالقدم‏.‏
وقد يقولون‏:‏ الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلها ولا ربا، كما أن النبي محدث وصفاته محدثة، وليست صفاته نبيًا‏.‏

 

ص -70-

فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل، كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم تقول لهم أولئك‏:‏ هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهًا، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية‏.‏
والقرآن قد نفي مسمى المثل والكفء والنِّدّ ونحو ذلك‏.‏
ولكن يقولون‏:‏ الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف، ولا كفؤه ولا نده، فلا يدخل في النص‏.‏
وأما العقل، فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة‏.‏
وكذلك  أيضًا  يقولون‏:‏ إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلًا لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه‏.‏
وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية، الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش، وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون‏:‏ الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسمًا، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسمًا، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه‏.‏
فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبهًا، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهًا، كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله‏.‏

 

ص -71-

وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولى القاضي أبى يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه‏.‏ وقد يقولون‏:‏ إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات‏.‏
والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه، كالأمر فيما أثبتوه، لا فرق‏.‏
وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزم للتجسيم، والأجسام متماثلة‏.‏
والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى، وتارة بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كل من المقدمتين، وتارة بالاستفصال‏.‏
ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود، أو بالمركب من الهُيولي والصورة ونحو ذلك، فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، فهذا يبني على صحة ذلك، وعلى إثبات الجوهر الفرد، وعلى أنه متماثل، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك‏.‏
والمقصود هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيمًا بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة النصب على

 

ص -72-

من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وبناء على أن من أحبهما فقد أبغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصبي‏.‏
وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى، ولهذا يقول هؤلاء‏:‏ إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه، وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك، وبينا فساد قول من يقول بتماثلها‏.‏
وأيضًا، فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل، وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام، فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم‏.‏
وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم، كان هذا وحده كافيًا في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك‏.‏ إلى نفي مسمى التشبيه، لكن نفي التجسيم يكون مبنيًا على نفي هذا التشبيه بأن يقال‏:‏ لو ثبت له كذا وكذا لكان جسمًا، ثم يقال‏:‏ والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه‏.‏
لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدًا في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر، سنتكلم عليه  إن شاء الله‏.‏

 

ص -73-

وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد؛ إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك، مما هو  سبحانه  مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة‏.‏
وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو ألا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه‏.‏ وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد؛ ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته بشيء من المخلوقات‏.‏
فإن قيل‏:‏ إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه‏.‏
قيل‏:‏ هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب  سبحانه، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعًا، كما إذا قيل‏:‏ إنه موجود حي عليم سميع بصير، وقد سمى بعض المخلوقات حيًا سميعًا عليمًا بصيرًا‏.‏ فإذا قيل‏:‏ يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودًا حيًا عليما سميعًا بصيرًا‏.‏ قيل‏:‏ لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعًا على الرب  تعالى، فإن ذلك لا يقتضي حدوثًا ولا إمكانًا، ولا نقصًا ولا شيئًا مما ينافي صفات الربوبية‏.‏

 

ص -74-

وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع أو البصر، أو السميع أو البصير، أو القدرة أو القدير، والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه‏.‏
فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال، كالوجود والحياة، والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق، لم يكن في إثبات هذا محذور أصلًا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود‏.‏
ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئًا، وربما قالت الجهمية‏:‏ هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفي القدر المشترك مطلقًا لزم التعطيل العام‏.‏
والمعاني التي يوصف بها الرب  تعالى  كالحياة، والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت، والحقيقة ونحو ذلك تجب لوازمها، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة، وعلم ونحو ذلك‏.‏

 

ص -75-

والله  سبحانه  منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم‏.‏
وهذا الموضع من فهمه فهمًا جيدًا وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام‏.‏ وقد بسط هذا في مواضع كثيرة‏.‏ وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينًا مقيدًا، وأن معنى اشتراك الموجودًات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا؛ لأن الموجودًات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله‏.‏
ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضًا في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرًا من ملزومات التشبيه، وتارة يتفطن أنه لابد من إثبات هذا على تقدير فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة‏.‏
ولكثرة الاشتباه في هذا المقام، وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته‏؟‏ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك‏؟‏ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها،

 

ص -76-

وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا‏؟‏ وفي وجود الموجودًات هل هو زائد على ماهيتها أم لا‏؟‏‏.‏
وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات؛ فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكى عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير‏.‏
وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة، ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة‏.‏
وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك، فهذه الألفاظ كلها متواطئة‏.‏
فإذا قيل‏:‏ إنها مشككة لتفاضل معانيها، فالمشكك نوع من المتواطئ العام، الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلًا في موارده أو متماثلاً‏.‏
وبينا أن المعدوم شيء  أيضًا  في العلم والذهن لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به‏.‏
وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودًات وتختلف، لها وجود في

 

ص -77-

الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة، فتتشابه بذلك وتختلف به‏.‏
وأما هذه الجملة المختصرة، فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها علم قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال‏.‏
والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة، فيما ينفي عن الرب وينزه عنه  كما يفعله كثير من المصنفين  خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة‏.

 

ص -78-

فصل
وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات، أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه، مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود، الذين يقولون‏:‏ إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، والذين يقولون بإلهية بعض البشر وأنه الله‏.‏
فإن كثيرًا من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم والتحيز ونحو ذلك، ويقولون‏:‏ لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسمًا أو متحيزًا، وذلك ممتنع، وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم هؤلاء الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن وصف الله  تعالى  بهذه النقائص والآفات أظهر فسادًا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم؛ فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والدليل معروف للمدلول ومبين له، فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفي، كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود‏.‏

 

ص -79-

الوجه الثاني‏:‏ أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الصفات يمكنهم أن يقولوا‏:‏ نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم، فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة الكلام وصفات الكمال، فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحدًا، ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد‏.‏
الثالث‏:‏ أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه بصفات الكمال واجب ثابت بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلًا على فساد هذه الطريقة‏.‏
الرابع‏:‏ أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئًا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفي شيئًا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي‏.‏
فمثبتة الصفات  كالحياة والعلم، والقدرة والكلام، والسمع والبصر إذا قالت لهم النفاة  كالمعتزلة‏:‏ هذا تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، أو لأنا لا نعرف موصوفًا بالصفات إلا جسمًا‏.‏ قالت لهم المثبتة‏:‏ وأنتم قد قلتم‏:‏ إنه حي عليم قدير، وقلتم‏:‏ ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجودًا حيًا عالما قادرًا إلا جسمًا، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن‏.‏ وقالوا لهم‏:‏ أنتم أثبتم حيًا عالما قادرًا، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل‏.‏

 

ص -80-

ثم هؤلاء المثبتون إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب، ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول، والإتيان والمجىء، أو بالوجه واليد ونحو ذلك، إذا قالوا‏:‏ هذا يقتضي التجسيم لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم‏.‏ قالت لهم المثبتة‏:‏ فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة، والسمع والبصر والكلام، وهذا هكذا، فإذا كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك، فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين‏.‏
ولهذا لما كان الرد على من وصف الله  تعالى  بالنقائص بهذه الطريق طريقًا فاسدًا، لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة، لا تحق حقًا، ولا تبطل باطلاً‏.‏
ولهذا لم يذكر الله في كتابه، فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار، ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتدع، الذي أنكره السلف والأئمة‏.‏

 

ص -81-

فصل
وأما في طرق الإثبات، فمعلوم  أيضًا  أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفي في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال، بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه‏.‏
كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن، والجوع والعطش، مع نفي التشبيه‏.‏ وكما لو قال المفترى‏:‏ يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولاحزنهم،كما يقال‏:‏ يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال‏:‏ له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل‏:‏ له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم‏.‏ حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله  عز وجل  عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
فإنه يقال لمن نفي ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات‏:‏ ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيًا في الإثبات، فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر‏.‏

 

ص -82-

فإن قال‏:‏ العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجئ به السمع‏.‏
قيل له أولا‏:‏ السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتًا في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، إذا لم يكن نفاه‏.‏
ومعلوم أن السمع لم ينف هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلابد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها‏.‏
وأيضًا، فلابد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفي، فإن الأمور المتماثلة في الجواز، والوجوب، والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض، في الجواز والوجوب والامتناع، فلابد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي، ولابد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت‏.‏
وقد يعبر عن ذلك بأن يقال‏:‏ لابد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله، كما أنه لابد من أمر يثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافيًا كان مخبرًا عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا‏؟‏
فيقال‏:‏ كلما نفي صفات الكمال الثابتة للّه فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد

 

ص -83-

الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم، علم امتناع العدم والحدوث عليه، وعلم أنه غني عما سواه‏.‏
فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه، ليس هو موجودًا بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به‏.‏
وهو  سبحانه  غني عن كل ما سواه، فكل ما نافي غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه قدير قوي، فكل ما نافي قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو  سبحانه  حي قيوم، فكل ما نافي حياته وقيوميته فهو منزه عنه‏.‏
وبالجملة، فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي لضده، ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه‏.‏
فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك، وفرقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئًا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه‏.‏
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور، حتى نفوا النفي، فقالوا‏:‏

 

ص -84-

لا يقال‏:‏ لا موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي؛ لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم فلزم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعًا‏.‏
ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات، والممتنعات، والجمادات، أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا‏.‏
وقد تقدم أن ما ينفي عنه  سبحانه  النفي المتضمن للإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجودًات، وليس هذا مدحًا له؛ لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقًا، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزه عنه الرب تبارك وتعالى‏.‏
والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك، فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسِّنَةُ ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، كذلك اللُّغُوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به، ونحو ذلك تتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه‏.‏
وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه،

 

ص -85-

ليس مستغنيًا عنه بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب‏.‏
ولهذا كانت الملائكة صمدًا لا تأكل ولا تشرب، وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفي ذلك في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏
‏{اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 2‏]‏‏.‏ والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، أو هي الأصل في هذا الباب‏.‏
وقال في حق المسيح وأمه‏:‏ ‏
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏‏.‏ فجعل ذلك دليلًا على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى‏.‏
والكبد والطحال، ونحو ذلك، هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو  سبحانه  موصوف بالعمل والفعل؛ إذ ذاك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر علي الفعل‏.‏
وهو  سبحانه  منزه عن الصاحبة والولد، وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن، هو مستلزم الضعف والعجز، الذي ينزه عنه  سبحانه، بخلاف الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون

 

ص -86-

العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك‏.‏
وأيضًا، فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع، من أنه  سبحانه  لا كفؤ له، ولا سمي له وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيعلم قطعًا أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات، ولا الكواكب ولا الهواء، ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا أبدانهم، ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يعلم أن حقيقته عن مماثلات شيء من الموجودًات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر‏.‏
فإن الحقيقتين إذا تماثلتا، جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق، من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والفناء، فيكون الشيء الواحد واجبًا بنفسه غير واجب بنفسه، موجودًا معدومًا، وذلك جمع بين النقيضين‏.‏
وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون‏:‏ بصر كبصري، أو يد كيدي ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا

 

ص -87-

وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ولا ما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه‏.‏
وما سكت عنه السمع نفيًا وإثباتًا، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه‏.‏
فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -88-

فصل
وأما الأصل الثاني ‏[‏وهو التوحيد في العبادات‏]‏‏.‏ المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعًا ‏.‏ فنقول‏:‏ لا بد من الإيمان بخلق الله وأمره فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء كما قال تعالى‏:‏
‏{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرض إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء‏"‏‏.‏ ويجب الإيمان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وعبادته تتضمن

 

ص -89-

كمال الذل والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته ‏{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية64‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ من الآية31‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.‏، ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ من الآية13‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏‏.‏، ‏{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعلات وإن أولى الناس بابن مريم لأنا ‏;‏ إنه ليس بيني وبينه نبي‏"‏‏,‏ وهذا الدين هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره لا من الأولين ولا من الأخرين فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام قال الله تعالى عن نوح

 

ص -90-

‏‏{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ من الآية71‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وأمرت أن أكون من المسلمين ‏}‏ ‏.‏ وقال عن إبراهيم‏:‏ ‏{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية130‏]‏‏.‏ إلى قوله ‏;‏‏{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏131، 132‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية‏:‏ 132‏]‏‏.‏ وقال عن موسى‏:‏ ‏{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏‏.‏ وقال في خبر المسيح‏:‏ ‏{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏‏.‏وقال فيمن تقدم من الأنبياء‏:‏ ‏{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ من الآية‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقال عن بلقيس أنها قالت‏:‏ ‏{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ من الآية‏:‏ 44‏]‏‏.‏ فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده‏;‏ فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده‏.‏ فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره ‏;‏ وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت ‏;‏ فإذا أمر في أول الأمر باستقبال

 

ص -91-

الصخرة ثم أمرنا ثانيا باستقبال الكعبة‏:‏ كان كل من الفعلين حين أمر به داخلًا في الإسلام فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين ‏;‏ وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجه المصلى فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك ‏;‏ فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد والله تعالى جعل من دين الرسل‏:‏ أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ من الآية‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وجعل الإيمان متلازما وكفر من قال‏:‏ إنه آمن ببعض وكفر ببعض

 

ص -92-

قال الله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏150‏]‏‏.‏‏{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية‏:‏ 151‏]‏‏.‏ وقال تعالى ‏{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية‏:‏ 85‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{تعملون‏}‏ وقد قال لنا‏:‏ ‏{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏‏.‏ ‏{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏ فأمرنا أن نقول‏:‏ آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا ‏;‏ بل يكون كافرا وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن ‏.‏ كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى‏:‏‏{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏ قالت اليهود والنصارى‏:‏ فنحن مسلمون‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ من الآية‏:‏ 97‏]‏‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نحج فقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ من الآية‏:‏ 97‏]‏‏.‏فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت ‏;‏ كما

 

ص -93-

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بني الإسلام على خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ‏,‏ وإقام الصلاة ‏,‏ وإيتاء الزكاة ‏,‏ وصوم رمضان ‏,‏ وحج البيت‏"‏ ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ من الآية‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا‏؟‏ ‏[‏وهو نزاع لفظي‏]‏‏.‏ فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن‏:‏ ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ورأس الإسلام مطلقا شهادة أن لا إله إلا الله وبها بعث جميع الرسل كما قال تعالى‏:‏‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ من الآية‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ وقال عن الخليل‏:‏ ‏{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ‏.‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏.‏ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 ‏:‏28‏]‏‏.‏ وقال تعالى عنه ‏{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏.‏ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ‏.‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75‏:‏ 77‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ من الآية‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

 

ص -94-

وذكر عن رسله كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم ‏{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ من الآية‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وقال عن أهل الكهف ‏{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً‏.‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إلهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏13، 15‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 15‏]‏ وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ذكر ذلك في موضعين من كتابه وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة والشرك بالأنبياء والشرك بالكواكب والشرك بالأصنام وأصل الشرك الشرك بالشيطان فقال عن النصارى‏:‏‏{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إلهًا وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏.‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏116،117‏]‏ وقال تعالى ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79، 80‏]‏

 

ص -95-

إلى قوله ‏{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏80‏]‏ فبيين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر ومعلوم أن أحدًا من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح بن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهًا مساويًا لله في جميع صفاته بل عامة المشركين بالله مقرون بأنه ليس شريكه مثله بل عامتهم يقرون ان الشريك مملوك له سواء كان ملكًا أو نبيًا أو كوكبًا أو صنمًا كما كان مشركوا العرب يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والأخرين في الملل والنحل والآراء والديانات فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات ولا مماثل له في جميع الصفات بل من أعظم

 

ص -96-

ما نقلوا في ذلك قول الثنوية الذين يقولون بالأصلين النور والظلمة وإن النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين أحدهما أنها محدثة فتكون من جملة المخلوقات له والثاني أنها قديمة لكنها لم تفعل إلا الشر فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور وقد أخبر سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه فقال‏:‏‏{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أو أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏، وقال تعالى ‏{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏.‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏لمؤمنون‏:‏ 84‏:‏ 87‏]‏‏.‏ إلى قوله ‏{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ من الآية‏:‏89‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏91‏]‏ وقال ‏{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏106‏]‏‏.‏ وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد فإن عامة

 

ص -97-

المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون هو واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الافعال وهو أن خالق العالم واحد وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا هو معنى قولنا لا اله الا الله حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث اليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولا لم يكونوا يخالفونه في هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شىء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك ولكن غاية ما يقال‏:‏ إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير الله كالقدرية وغيرهم لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا أنهم خلقوا أفعالهم وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة

 

ص -98-

مخلوقة لا يقولون انها غنية عن الخالق مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للصانع كالقول الذي أظهر فرعون والكلام الآن مع المشركين بالله المقرين بوجوده فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون بل يقرون به مع انهم مشركون كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع وكما علم بالإضطرار من دين الإسلام وكذك النوع الثاني وهو قولهم لا شبيه له في صفاته فإنه ليس في الامم من أثبت قديما مماثلا له في ذاته سواء قال أنه يشاركه أو قال أنه لا فعل له بل شبه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبهه به في بعض الأمور وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك كإتفاقهما في مسمى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك فإن نفي ذلك يقتضى التعطيل المحض وانه لا بد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد فصار من قال ان لله علما أو قدرة أو أنه يرى في الآخرة أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون أنه مشبه ليس بموحد‏.‏

 

ص -99-

وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى وقالوا من قال إن الله عليم قدير عزيز حكيم فهو مشبه ليس بموحد وزاد عليهم غلاة الغلاة وقالوا لا يوصف بالنفي و لا الإثبات لأن في كل منهما تشبيها له وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فرارا من تشبيهم بزعمهم له بالأحياء ومعلوم ان هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلاً وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيدا ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون نفوسهم الموحدين وكذلك النوع الثالث وهو قولهم هو واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له أو لا بعض له لفظ مجمل فان الله سبحانه احد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد فيمتنع عليه ان يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعانى المستلزمة لنفيه وتعطيله ويجعلون ذلك من التوحيد‏.‏

 

ص -100-

 

فقد تبين أن ما يسمونه توحيدا فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل ولو كان جميعه حقا فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بل لا بد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله وليس المراد بالاله هو القادر على الإختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلين حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره وأن من أقر بأن الله هو القادر على الإختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه بل الإله الحق هو الذي يستحق بأن يعبد فهو إله بمعنى مألوه لا إله بمعنى آله والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له والإشراك أن يجعل مع الله إلهًا آخر وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار أهل الإثبات للقدر المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع انهم مشركون وكذلك طوائف من اهل التصوف والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا سيما اذا غاب العارف بموجوده عن

 

ص -101-

وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات فيفنون في توحيد الربوبية مع اثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا وهذا شر من حال كثير من المشركين وكان جهم ينفي الصفات ويقول بالجبر فهذا تحقيق قول جهم لكنه اذا اثبت الأمر والنهي والثواب والعقاب فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي والثواب والعقاب عنده والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات

 

ص -102-

والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة والكلابية هم أتباع أبى محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي سلك الأشعرى خطته وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبى وأبى العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم اليه أحد حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وان كان مع عدم تصديق القلب فيجعلون المنافق مؤمنا لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الإسم دون الحكم وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم اشبه من اكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات ويقاربون قول جهم لكنهم

 

ص -103-

ينفون القدر فهم وإن عظموا الأمر والنهي والوعد والوعيد وغلو فيه فهم يكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب والإقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة‏.‏
فهؤلاء المتصوفون‏.‏ الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي، شر من القدرية المعتزلة ونحوهم‏.‏ أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين، الذين قالوا‏:‏ ‏
{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، والمشركون شر من المجوس‏.‏ فهذا أصل عظيم، على المسلم أن يعرفه، فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏
وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين، أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد، والعلم والمعرفة‏.‏

 

ص -104-

فإقرار المشرك بأن الله رب كل شىء،ومليكه وخالقه، لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدًا رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلا بد من الكلام في هذين الأصلين‏:‏
الأصل الأول‏:‏ توحيد الإلهية‏:‏
فإنه  سبحانه  أخبر عن المشركين  كما تقدم - بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله، يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله، قال تعالى‏:‏
‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏، فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون‏.‏
وقال تعالى عن مؤمن يس‏:‏
‏{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22-25‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏، فأخبر  سبحانه  عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43، 44‏]‏‏.‏،

 

ص -105-

وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26- 28‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏

 

ص -106-

قال طائفة من السلف‏:‏ كان قوم يدعون العزير والمسيح والملائكة، فأنزل الله هذه الآية، يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه‏.‏
ومن تحقيق التوحيد‏:‏ أن يعلم أن الله  تعالى  أثبت له حقًا لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكل، والخوف والخشية، والتقوى، كما قال تعالى‏:‏
‏{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 22‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ‏} ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{الشاكرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64-66‏]‏‏.‏، وكل من الرسل يقول لقومه‏:‏ ‏{اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏‏.‏
وقد قال تعالى في التوكل‏:
‏ ‏{وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏‏.‏، ‏{وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏‏.‏
فقال في الإتيان‏:‏
‏{مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏، وقال في التوكل‏:‏ ‏{وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ورسوله؛ لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال، الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كافٍ عبده، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏، فهو وحده حسبهم كلهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏‏.‏، أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم،

 

ص -107-

وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين؛ إذ هو وحده كافٍ نبيه، وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول، وهذا في اللغة كقول الشاعر‏:‏
فحسبك والضحاك سيف مهند
وتقول العرب‏:‏ حسبك وزيدًا درهم، أي يكفيك وزيدًا جميعًا درهم‏.‏
وقال في الخوف والخشية والتقوى‏:‏
‏{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فأثبت الطاعة لله والرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح  عليه السلام‏:‏ ‏{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏، فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏‏.‏، وقال الخليل  عليه السلام‏:‏ ‏{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 81، 82‏]‏‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ وأينا لم يظلم نفسه‏؟‏

 

ص -108-

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما هو الشرك أو لم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏:‏ إن الشرك لظلم عظيم‏"‏ ‏[‏في المطبوعة‏:‏ ‏[‏شاء‏]‏، والصواب ما أثبتناه‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15‏]‏‏.‏، ‏{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏
ومن هذا الباب‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته‏:‏ ‏
"‏من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ولا تقولوا‏:‏ ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا‏:‏ ما شاء الله ثم شاء محمد‏"‏‏.‏
ففي الطاعة قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو، وفي المشيئة أمر أن يجعل ذلك بحرف ‏[‏ثم‏]‏ وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة الرسول، بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان، وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله‏.‏
الأصل الثاني‏:‏ حق الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏
فعلينا أن نؤمن به ونطيعه ونتبعه، ونرضيه ونحبه ونسلم لحكمه، وأمثال

 

ص -109-

ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏، وأمثال ذلك‏.

 

ص -110-

فصل
وإذا ثبت هذا، فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره، بقضائه وشرعه‏.‏
وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق‏:‏ مجوسية، ومشركية، وإبليسية‏.‏
فالمجوسية‏:‏ الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب‏.‏ ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته،وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم‏.‏
والفرقة الثانية‏:‏ المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى‏:
‏ ‏{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعى الحقيقة من المتصوفة‏.‏
والفرقة الثالثة‏:‏ وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضًا من الرب  سبحانه وتعالى  وطعنوا في حكمته وعدله، كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب‏.‏

 

ص -111-

والمقصود أن هذا مما يقوله أهل الضلال، وأما أهل الهدى والفلاح، فيؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء أحصاه في إمام مبين‏.‏
ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته ومشيئته، ووحدانيته وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، ما هو من أصول الإيمان‏.‏
ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى‏:‏
‏{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏، فأخبر أنه يفعل بالأسباب‏.‏
ومن قال‏:‏ إنه يفعل عندها لا بها فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها، مثل قدرة العبد، كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره‏.‏
وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولابد من مانع يمنع مقتضاه، إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في

 

ص -112-

‏ الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏ أي‏:‏ فتعلمون أن خالق الأزواج واحد‏.‏
ولهذا من قال‏:‏ إن الله لا يصدر عنه إلا واحد  لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد  كان جاهلا، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء  لا واحد ولا اثنان  إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏.‏
فالنار التي خلق الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها، وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السَّمَنّدَل ‏[‏السَّمَنْدَلُ‏:‏ طائر بالهند لا يحترق بالنار‏.‏ انظر‏:‏ القاموس المحيط، مادة  سمندل‏]‏ والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه‏.‏
والشمس التي يكون عنها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف، لم يحصل الشعاع تحته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود هنا أنه لابد من ‏[‏الإيمان بالقدر‏]‏، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس‏:‏ هو نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض توحيده‏.‏
ولابد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه‏.‏

 

ص -113-

والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه‏.‏
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏أصدق الأسماء حارث وهمام‏"‏، وهو معنى قولهم‏:‏ متحرك بالإرادات، فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها، ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار‏؟‏ وهل يصلحه أو يفسده‏؟‏
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضهم يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم لهم‏.‏
وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنها وقبيحها بالعقل، أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل‏؟‏ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه‏.‏
فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو

 

ص -114-

أن يكون الفعل سببًا لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسببًا لما يبغضه ويؤذيه، وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعا أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال  من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة  لا تعرف إلا بالشرع‏.‏
فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك‏.‏
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب، هو ما دل عليه قوله تعالى‏:‏
‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 50‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏‏.‏
ولكن توهمت طائفة أن للحسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا، فكلا الطائفتين، اللتين أثبتتا الحسن والقبح والعقليين أو الشرعيين، وأخرجتاه عن هذا القسم، غلطت‏.‏

 

ص -115-

ثم إن كلتا ‏[‏في المطبوعة‏:‏ كلتي‏.‏ والصواب ما أثبتناه‏]‏ الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا، والسخط والفرح، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية ودلت عليه الشواهد العقلية، تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح، وأنه  سبحانه  منزه عن ذلك، لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه‏؟‏ على قولين‏.‏
والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محمودًا على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، وما تركه من التعذيب والنقمة‏.‏
والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه‏.‏
فمن نظر إلى القدر فقط، وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار‏.‏
وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله، ودينه وشرائعه، فهم

 

ص -116-

مخالفون  أيضًا  لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لابد أن يلتذ ب شيء ويتألم ب شيء فيميز بين ما يأكل ويشرب، وما لا يأكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية‏.‏
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوى عنده الأمران دائمًا، فقد افترى وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض، كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه، فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة، وما يسره أخرى‏.‏
فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك، إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها  لضعف تمييزه  لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا، ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية‏:‏ قدرًا وشرعًا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا، لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز‏:‏ العقل والمعرفة‏.‏
وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول‏:‏ أريد ألا أريد، أو أن العارف لا حظ له، وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك، فهذا إنما يمدح

 

ص -117-

منه سقوط إرادته التي يؤمر بها وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه‏.‏
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل‏.‏
ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل‏.‏
والفناء يراد به ثلاثة أمور‏:‏
أحدها‏:‏ هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به، فيفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ماسواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله‏.‏
وأما الفناء الثاني‏:‏ وهو الذي يذكره بعض الصوفية، وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره،

 

ص -118-

وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله  تعالى  فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله‏.‏
ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وللسابقين الأولين، ومن جعل هذا نهاية السالكين، فهو ضال ضلالا مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك‏.‏
وأما الثالث‏:‏ فهو الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهو قول أهل الإلحاد والاتحاد، الذين هم من أضل العباد‏.‏
وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله، فإنه إذا كان مشاهدًا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور فعومل بموجب ذلك، مثل أن يضرب ويجاع، حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع، فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له‏:‏ هذا الذي فعله مقضى مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله وهو يعمكما، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له‏.‏
فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر، ويعرض

 

ص -119-

عن الأمر والنهي‏.‏ والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، كما قال تعالى‏:‏{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏‏.‏
وقال في قصة يوسف‏:‏
‏{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏، فالتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه؛ ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏
فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لابد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏
‏"‏يأيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة‏"‏‏.‏
وكان يقول‏:‏ ‏"
‏اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر‏"‏‏.‏
وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربه وتاب إليه، فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه، وعن إبليس أبي الجن  لعنه الله  أنه أصر متعلقًا بالقدر فلعنه وأقصاه، فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه، ومن أشبه أباه فما ظلم،

 

ص -120-

قال الله  تعالى ‏:‏ ‏{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72، 73‏]‏
ولهذا قرن الله  سبحانه  بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏
وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره‏:‏ ‏"‏يقول الشيطان‏:‏ أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا‏"‏‏.‏
وقد ذكر  سبحانه  عن ذي النون أنه نادى في الظلمات‏:‏ ‏
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 88‏]‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه‏"‏‏.‏
وجماع ذلك‏:‏ أنه لابد له في الأمر من أصلين، ولابد له في القدر من أصلين‏.‏

 

ص -121-

ففي الأمر عليه الاجتهاد في الامتثال علما وعملا، فلا تزال تجتهد في العلم بما أمر الله به والعمل بذلك‏.‏
ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه الحدود‏.‏
ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقد قال الله تعالى‏:‏
‏{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏، فقاموا بالليل وختموه بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قول الله تعالى‏:‏ ‏{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏سورة النصر‏]‏‏.‏ وفي الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول‏:‏ في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفرلي‏"‏ يتأول القرآن‏.‏
وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، ويكون مفتقرًا إليه في طلب الخير وترك الشر‏.‏
وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه‏.‏
ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى لما قال‏:‏ يا آدم، أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا

 

ص -122-

ونفسك من الجنة‏؟‏ فقال له آدم‏:‏ أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه فبكم وجدت مكتوبًا على من قبل أن أخلق‏:‏ ‏{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ ‏؟‏ قال‏:‏ بكذا وكذا، فحج آدم موسى‏.‏
وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب، فإن آدم قد كان تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك‏.‏
وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏
فمن راعى الأمر والقدر كما ذكر، كان عابدًا لله مطيعًا له، مستعينًا به، متوكلا عليه، من الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا‏.‏
وقد جمع الله  سبحانه  بين هذين الأصلين في مواضع، كقوله‏:‏
‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏
فالعبادة لله والاستعانة به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية‏:‏

 

ص -123-

"‏اللهم منك ولك‏"‏، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم‏.‏
ولابد في عبادته من أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ إخلاص الدين له‏.‏
والثاني‏:‏ موافقة أمره الذي بعث به رسله‏.‏
ولهذا كان عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  يقول في دعائه‏:‏ اللّهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا‏.‏ وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى‏:‏
‏{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قال‏:‏ أخلصه وأصوبه‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إذا كان العمل خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنَّة‏.‏
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين ما لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدين، كما قال تعالى‏:‏
‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله‏.‏
والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه‏.‏
ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام‏:‏

 

ص -124-

فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه‏.‏
وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحريًا للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع‏.‏
وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر، من غير استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة، فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنًا وظاهرًا، ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى، فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق، إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر واتبع فيه السنة‏.‏
وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فهو لا يشهد أن علمه لله، ولا أنه بالله‏.‏
فالمعتزلة ونحوهم  من القدرية الذين أنكروا القدر  هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية، الذين يعرضون عن الشرع، والأمر والنهي‏.‏
والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية، خير من المعتزلة، ولكن فيهم من فيه نوع بدع، مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد،

 

ص -125-

حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك، ويصيرون  أيضًا  معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم، فهم معتزلة من هذا الوجه‏.‏
وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرًا من بدعة أولئك المعتزلة، وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة‏.‏
وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه وهو الصراط المستقيم، وهو طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير القرون وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين، قال تعالى‏:
‏ ‏{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏ فرضي عن السابقين الأولين رضا مطلقًا، ورضى عن التابعين لهم بإحسان‏.‏
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة‏:
‏ ‏"‏خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏‏.‏
وكان عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه  يقول‏:‏ من كان منكم مُسْتنّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم‏.‏

 

ص -126-

وقال حذيفة بن اليمان  رضي الله عنهما ‏:‏ يا معشر القراء، استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولأن أخذتُم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالا بعيدًا‏.‏
وقد قال عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه‏:‏ خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط حوله خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏:‏
‏"‏هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏"‏، ثم قرأ‏:‏ ‏{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، وقد أمرنا  سبحانه  أن نقول في صلاتنا‏:‏ ‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏"‏؛ وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه، والنصارى عبدوا الله بغير علم‏.‏
ولهذا كان يقال‏:‏ تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وقال تعالى‏:‏
‏{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 123، 124‏]‏، قال ابن عباس  رضي الله عنهما‏:‏ تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وقرأ هذه الآية‏.‏

 

ص -127-

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1-5‏]‏ فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم و الضالين‏.‏
فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏

 

ص -128-

 شيْخَ الإسلام  رحمه الله  أَحَدُ قضاة واسط أن يكتب له عقيدة تكون عمدة له وأهل بيته‏.‏ :العقيدة الواسطية
فأجابه‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا‏.‏
أما بعد‏:‏ فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة  أهل السنة والجماعة  وهو‏:‏ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر؛ خيره وشره‏.‏
ومن الإيمان بالله‏:‏ الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه

 

ص -129-

به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه‏:‏ ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه  سبحانه  لا سَمَيَّ له، ولا كُفْوَ له، ولا نِدَّ له، ولا يقاس بخلقه  سبحانه وتعالى  فإنه  سبحانه  أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثًا من خلقه‏.‏
ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون؛ ولهذا قال  سبحانه وتعالى‏:‏
‏{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏:‏ 182‏]‏، فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين، لسلامة ما قالوه من النقص والعيب‏.‏
وهو  سبحانه  قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين‏.‏
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل

 

ص -130-

ثلث القرآن، حيث يقول‏:‏ ‏{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏‏.‏
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه، حيث يقول‏:‏
‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح‏.‏ وقوله  سبحانه ‏:‏ ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏‏.‏
وقوله  سبحانه ‏:‏
‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 1‏]‏، ‏{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، ‏{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏‏.‏

 

ص -131-

وقوله‏: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏} ‏[‏الذاريات‏:‏ 85‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 39‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، ‏{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، ‏{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏، ‏{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 14‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 1‏]‏، ‏{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏، ‏{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏،‏{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، ‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏، ‏{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، ‏{فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 64‏]‏‏.‏

 

ص -132-

وقوله‏:‏ ‏{رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 64‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، ‏{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21، 22‏]‏، ‏{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏، ‏{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏، ‏{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، ‏{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 13، 14‏]‏، ‏{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏، ‏{لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏،

 

ص -133-

‏{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 14‏]‏،‏{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 218-220‏]‏‏{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 105‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 50‏]‏وقوله‏:‏ ‏{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏الطارق‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 149‏]‏، ‏{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏وقوله عن إبليس‏:‏ ‏{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 78‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏، ‏{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌِ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏، ‏{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏، ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏،

 

ص -134-

‏ ‏{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 111‏]‏، ‏{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 1‏]‏، ‏{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1، 2‏]‏، ‏{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91، 92‏]‏، ‏{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 74‏]‏، ‏{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏، ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ في ستة مواضع‏:‏ في سورة الأعراف قوله‏:‏ ‏{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، وقال في سورة يونس  عليه السلام ‏:‏ ‏{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏، وقال في سورة الرعد‏:‏ ‏{اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏، وقال في سورة طه‏:‏ ‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ وقال في سورة الفرقان‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏،وقال في سورة الم السجدة‏:‏ ‏{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏
ر

 

ص -135-

وقال في سورة الحديد‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}
‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏، ‏{بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 158‏]‏، ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، ‏{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36، 37‏]‏‏{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، ‏{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، ‏{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏، ‏{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏، ‏{وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 46‏]‏، ‏{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏، ‏{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏، ‏{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، ‏{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏، ‏{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏،

 

ص -136-

{مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، ‏{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، ‏{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم52‏]‏، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏} ‏[‏الشعراء‏:‏ 10‏]‏، ‏{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏، ‏{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 74‏]‏، ‏{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏‏.‏
‏{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏،‏{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏، ‏{يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏، ‏{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 27‏]‏، ‏{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 7‏]‏‏.‏ هَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 551‏]‏، ‏{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏، ‏{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 101-10‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏، ‏{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 35‏]‏، ‏{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏، ‏{لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 35‏]‏‏.‏
وهذا الباب في كتاب الله  تعالى  كثير، من تدبر القرآن طالبًا للهدى منه تبين له طريق الحق‏.

 

ص -137-

فَصل
في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
فالسنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه، وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه  عز وجل  من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك‏.‏
مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب ‏[‏في المطبوعة‏:‏ ‏"‏فأستجب‏"‏، والصواب ما أثبتناه‏]‏ له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏‏"‏ متفق عليه‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته‏"‏ الحديث متفق عليه‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة‏"‏ متفق عليه‏.‏

 

ص -138-

وقوله‏:‏ ‏"‏عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب‏"‏ حديث حسن‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏
:‏ ‏"‏لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول‏:‏ هل من مزيد ‏؟‏ حتى يضع رب العزة فيها رجله  وفي رواية‏:‏ عليها قدمه  فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول‏:‏ قط قط‏"‏ متفق عليه‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك‏.‏ فينادي بصوت‏:‏ إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار‏"‏ متفق عليه، وقوله‏:‏‏"‏ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان‏"‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض‏:‏ ‏"‏ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض،اغفر لنا حوْبَنا ‏[‏وقوله‏:‏ ‏"‏حوبنا‏"‏‏:‏ أي‏:‏ إثمنا‏]‏ وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ‏"‏ حديث حسن‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء‏"‏ حديث صحيح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏والعرش فوق الماء والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه‏"‏ حديث حسن رواه أبو داود وغيره‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية‏:
‏ ‏"‏أين الله‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ في السماء‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏من أنا‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ أنت رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أعتقها فإنها مؤمنة‏"‏ رواه مسلم‏.‏

 

ص -139-

وقوله‏:‏ ‏"‏أفضل الإيمان‏:‏ أن تعلم أن الله معك حيثما كنت‏"‏ حديث حسن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبْصُقْ قبل وجهه، ولا عن يمينه، فإن الله قبل وجهه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين واغنني من الفقر‏"‏ رواه مسلم‏.‏
وقوله  لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر‏:‏
‏"‏أيها الناس،ارْبعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائالا، إنما تدعون سميعًا قريالا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏"‏ متفق عليه ‏[‏قوله‏:‏ ‏"‏اربعُوا‏"‏‏:‏ أي‏:‏ ارفقوا‏]‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، فافعلوا‏"‏ متفق عليه‏.‏
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به‏.‏

 

ص -140-

فإن الفرقة الناجية  أهل السنة والجماعة  يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم‏.‏
فهم وسط في باب صفات الله  سبحانه وتعالى  بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة‏.‏
وهم وسط في باب أفعال الله  تعالى  بين القدرية والجبرية‏.‏
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، من القدرية وغيرهم‏.‏
وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية‏.‏
وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض، والخوارج‏.‏

 

ص -141-

فصل
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله‏:‏ الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه  سبحانه  فوق سمواته علىُّ عرشه، على على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله‏:‏ ‏
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏4‏]‏‏.‏
وليس معنى قوله‏:‏
‏{وَهُوَ مَعَكُمْ‏}‏ أنه مختلط بالخلق؛ فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته‏.‏
وكل هذا الكلام الذي ذكره الله  سبحانه  من أنه فوق العرش، وأنه معنا  حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون

 

ص -142-

الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله‏:‏ ‏{فى السَّمَاءِ‏}‏ أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وسع كرسيه السموات والأرض، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ‏{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏25‏]‏‏.‏
فصل
وقد دخل في ذلك‏:‏ الإيمان بأنه قريب من خلقه، مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله‏:‏ ‏
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة  لما رفعوا أصواتهم بالذكر ‏:‏
‏"‏أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائالا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏"‏ وما ذكر في الكتاب والسنة  من قربه ومعيته  لا ينافى ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه  سبحانه  ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليٌّ في دنوه قريبٌ في علوه‏.‏

 

ص -143-

فصل
ومن الإيمان بالله وكتبه‏:‏ الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود،وأن الله تعالى تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله  تعالى  حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا‏.‏
وهو كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف‏.‏
فصل
وقد دخل  أيضًا  فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبرسله‏:‏ الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانًا بأبصارهم، كما يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه  سبحانه  وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة، كما يشاء الله  سبحانه وتعالى‏.‏

 

ص -144-

فصل
ومن الإيمان باليوم الآخر‏:‏ الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه‏.‏
فأما الفتنة، فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل‏:‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن‏:‏ الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيىِ، وأما المرتاب فيقول‏:‏ هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق‏.‏
ثم بعد هذه الفتنة، إما نعيم، وإما عذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى‏.‏ فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غُرْلاً، وتَدْنُو منهم الشمس، ويلجمهم العرق‏.‏
وتنصب الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد،

 

ص -145-

{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏102، 103‏]‏‏.‏
وتنشر الدواوين  وهي صحائف الأعمال  فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، كما قال  سبحانه وتعالى‏:‏ ‏
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏13، 14‏]‏‏.‏
ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة‏.‏
وأما الكفار، فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها‏.‏
وفي عرصة القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا‏.‏
والصراط منصوب على متن جهنم  وهو الجسر الذي بين الجنة والنار  يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد،

 

ص -146-

ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشى مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فليقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة‏.‏
فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة‏.‏
وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته‏.‏
وله صلى الله عليه وسلم  في القيامة  ثلاث شفاعات‏:‏
أما الشفاعة الأولى‏:‏ فيشفع في أهل الموقف، حتى يقضي بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء، آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم عن الشفاعة، حتى تنتهي إليه‏.‏
وأما الشفاعة الثانية‏:‏ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له‏.‏
وأما الشفاعة الثالثة‏:‏ فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين، والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، ويخرج الله  تعالى  من النار أقوامًا بغير

 

ص -147-

شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقوامًا فيدخلهم الجنة‏.‏  وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثورة عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفى ويكفي، فمن ابتغاه وجده‏.‏
وتؤمن الفرقة الناجية  أهل السنة والجماعة  بالقدر؛ خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين‏:‏
فالدرجة الأولى‏:‏ الإيمان بأن الله  تعالى  علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال‏.‏
ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق‏:‏ ‏"‏فأول ما خلق الله القلم قال له‏:‏ اكتب قال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏ فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏70‏]‏،

 

ص -148-

وقال‏:‏ ‏{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏22‏]‏‏.‏
وهذا التقدير  التابع لعلمه سبحانه  يكون في مواضع جملة وتفصيلا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء‏.‏ وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له‏:‏ اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكره اليوم قليل‏.‏
وأما الدرجة الثانية‏:‏ فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله  سبحانه  لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه  سبحانه وتعالى  على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات‏.‏
فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه  سبحانه  لا خالق غيره ولا رب سواه‏.‏
ومع ذلك، فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته‏.‏
وهو  سبحانه  يحب المتقين، والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد‏.‏

 

ص -149-

والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏28، 29‏]‏‏.‏
وهذه الدرجة من القدر، يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها‏.‏

 

ص -150-

فصل
ومن أصول أهل السنة‏:‏ أن الدين والإيمان قول وعمل؛ قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‏.‏
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال  سبحانه وتعالى  في آية القصاص‏:‏ ‏
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏‏.‏
ولا يسلبون الفاسق المِلِّيّ ‏[‏المِلِّي‏:‏ نسبة إلى أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى‏]‏ اسم الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار، كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى‏:‏
‏{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏92‏]‏‏.‏
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله تعالى‏:
‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]‏، وقوله صلى الله

 

ص -151-

عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهْبةً ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن‏"‏‏.‏ ‏[‏قوله‏:‏ ‏"‏لا ينتهب نهبة‏"‏‏:‏ النهب‏:‏ الغارة والسلب، أي‏:‏لا يختلس شيئًا له قيمة عالية‏]‏
ويقولون‏:‏ هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم‏.‏
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة‏:‏ سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى‏:‏ ‏
{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏10‏]‏‏.‏
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏
‏"‏لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهالا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏"‏‏.‏
 ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع، من فضائلهم ومراتبهم، فيفضلون من أنفق من قبل الفتح  وهو صلح الحديبية  وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل

 

ص -152-

بدر  وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ‏:‏ ‏"‏اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏"‏، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة‏.‏
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، كالعشرة، وكثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة‏.‏
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  وعن غيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي  رضي الله عنهم  كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة  رضي الله عنهم  على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي  رضي الله عنهما  بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر  أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم عليًا، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة  مسألة عثمان وعلي  ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة‏.‏
وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله‏.‏

 

ص -153-

ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غَدِير خُمّ‏:‏ ‏"‏أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي‏"‏، وقال  أيضًا  للعباس عمه  وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم  فقال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي‏"‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم‏"‏‏.‏
ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصًا خديجة  رضي الله عنها  أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية‏.‏
والصديقة بنت الصديق  رضي الله عنهما  التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏"‏‏.‏
ويتبرؤون من طريقة الروافض، الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب، الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، و يمسكون عما شجر بين الصحابة‏.‏

 

ص -154-

ويقولون‏:‏ إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون‏.‏
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنهم خير القرون‏"‏ وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهالا ممن بعدهم‏.‏
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم‏؟‏
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح‏.‏

 

ص -155-

ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما مَنَّ الله به عليهم من الفضائل، علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى‏.‏
ومن أصول أهل السنة والجماعة‏:‏ التصديق بكرامات ‏[‏في المطبوعة‏:‏ ‏[‏بكرمات‏]‏ والصواب ما أثبتناه‏]‏ الأولياء، وما يجرى الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة‏.‏

 

ص -156-

فصل
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة‏:‏اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال‏:‏ ‏"‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدى محمد صلى الله عليه وسلم على هدى كل أحد، وبهذا سموا‏:‏ أهل الكتاب والسنة‏.‏
وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هى الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين، والإجماع هو الأصل الثالث الذى يعتمد عليه فى العلم والدين‏.‏
وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين، والإجماع الذى ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة‏.

 

ص -157-

فصل
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة‏.‏ ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء، أبرارًا كانوا أو فجارًا، ويحافظون على الجماعات‏.‏
ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا‏"‏، وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏"‏‏.‏
ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا‏"‏‏.‏
ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر

 

ص -158-

والخُيَلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالى الأخلاق، وينهون عن سفسافها وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره، فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة‏.‏
وطريقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏"‏، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم‏.‏وهم الطائفة المنصورة، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب‏.‏ والله أعلم‏.‏
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏

 

ص -159-

قال  رحمه الله تعالى ‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ‏.‏الرحمن الرحيم‏.‏مالك يوم الدين‏.‏
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير له، ولا معين‏.‏
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي أرسله إلى الخلق أجمعين‏.‏صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، وعلى سائر عباد الله الصالحين‏.‏
أما بعد‏:‏ فقد سئلت غير مرة، أن أكتب ما حضرنى ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة، المعقودة للمناظرة، في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان، من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد‏.‏ لما سعى إليه قوم من الجهمية،والاتحادية، والرافضة، وغيرهم من ذوى الأحقاد‏.‏
فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة  قضاة المذاهب الأربعة  وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشائخ، ممن له حرمة وبه اعتداد‏.‏ وهم لا يدرون

 

ص -160-

ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد، وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة‏.‏
فقال لى‏:‏ هذا المجلس عقد لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك، وعما كتبت به إلى الديار المصرية، من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد، وأظنه قال‏:‏ وأن أجمع القضاة والفقهاء، وتتباحثون في ذلك‏.‏
فقلت‏:‏ أما الاعتقاد، فلا يؤخذ عنى ولا عمن هو أكبر منى، بل يؤخذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، مثل صحيح البخاري، ومسلم‏.‏
وأما الكتب، فما كتبت إلى أحد كتابًا ابتداءً أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألنى من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغنى أنه زور على كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير، أستاذ دار السلطان، يتضمن ذكر عقيدة محرفة، ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أنه مكذوب‏.‏
وكان يرد عليَّ من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد وغيره، فأجيبه بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة‏.‏

 

ص -161-

فقال‏:‏ نريد أن تكتب لنا عقيدتك‏.‏
فقلت‏:‏ اكتبوا‏.‏ فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب، فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر، ومسائل الإيمان والوعيد، والإمامة والتفضيل‏.‏
وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة‏:‏ الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏
والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة، وأحبها ورضيها، ونهي عن المعصية وكرهها، والعبد فاعل حقيقة،والله خالق فعله،وأن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص،وألا نكفر أحدًا من أهل القبلة بالذنوب، ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحدًا، وأن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة،ومن قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ‏[‏أزرى بالمهاجرين والأنصار‏:‏ أي قلل من شأنهم وعابهم‏]‏ وذكرت هذا أو نحوه؛ فإني الآن قد بعد عهدي، ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك‏.‏
ثم قلت للأمير والحاضرين‏:‏ أنا أعلم أن أقوامًا يكذبون على، كما قد كذبوا علىَّ غير مرة، وإن أمليت الاعتقاد من حفظي، ربما يقولون‏:‏ كتم بعضه،

 

ص -162-

أو داهن وداري، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة، من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشام‏.‏
وقلت قبل حضورها كلامًا قد بعد عهدي به، وغضبت غضبًا شديدًا، لكني أذكر أني قلت‏:‏ أنا أعلم أن أقوامًا كذبوا على وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت‏:‏ من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيرى‏؟‏ ومن الذي أوضح دلائله وبينه‏؟‏ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه، وقمت مظهرًا لحجته مجاهدًا عنه، مرغبًا فيه‏؟‏
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في فكيف يصنعون بغيري‏؟‏ ‏!‏ ولو أن يهوديًا طلب من السلطان الإنصاف، لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقى وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون؛ ليوافقوا على افترائهم، وقلت كلامًا أطول من هذا الجنس، لكن بعد عهدي به‏.‏
فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محيي الدين بأن يكتب ذلك‏.‏
وقلت  أيضًا ‏:‏ كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده، لكننى قلت  أيضًا  بعد حضورها وقراءتها‏:‏ ما ذكرت فيها فصلًا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف، ثم

 

ص -163-

أرسلت من أحضرها، ومعها كراريس بخطى من المنزل، فحضرت ‏[‏العقيدة الواسطية‏]‏‏.‏
وقلت لهم‏:‏ هذه كان سبب كتابتها أنه قدم عليَّ من أرض واسط بعض قضاة نواحيها  شيخ يقال له‏:‏ رضى الدين الواسطى من أصحاب الشافعي  قدم علينا حاجًا، وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي دولة التتر من غلبة الجهل، والظلم،ودروس الدين والعلم، وسألنى أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت‏:‏ قد كتب الناس عقائد متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة‏.‏ فألح في السؤال، وقال‏:‏ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت،فكتبت له هذه العقيدة، وأنا قاعد بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق، وغيرهما‏.‏
فأشار الأمير بألا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين، فقرأها على الحاضرين حرفًا حرفًا، والجماعة الحاضرون يسمعونها، ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء‏.‏والأمير  أيضًا‏:‏ يسأل عن مواضع فيها، وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين، من الخلاف والهوى، ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد، وبعضه بغير ذلك‏.‏
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس؛ فإنه

 

ص -164-

كثير لا ينضبط، لكن أكتب ملخص ما حضرنى في ذلك، مع بعد العهد بذلك، ومع أنه كان يجرى رفع أصوات ولغط لا ينضبط‏.‏
فكان مما اعترض عليَّ بعضهم  لما ذكر في أولها، ومن الإيمان بالله‏:‏ الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل  فقال‏:‏ ما المراد بالتحريف والتعطيل‏؟‏ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل، الذي أثبته أهل التأويل، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، إما وجوبًا، وإما جوازًا‏.‏
فقلت‏:‏ تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمه الله  تعالى  في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى،مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى‏:‏
‏{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏‏.‏ أي جَرَّحَهُ بأظافير الحكمة تجريحًا‏.‏ ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم من الجهمية والرافضة والقدرية، وغيرهم فسكت وفي نفسه ما فيها‏.‏
وذكرت في غير هذا المجلس أنى عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف؛ لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات؛ لأنه لفظ له عدة معان، كما بينته في موضعه من القواعد‏.‏

 

ص -165-

فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين، من أهل الأصول والفقه، وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف؛ لأن من المعانى التي قد تسمى تأويلًا ما هو صحيح، منقول عن بعض السلف، فلم أنف ما تقوم الحجة على صحته، فإذا ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف، فليس من التحريف‏.‏
وقلت له  أيضًا‏:‏ ذكرت في النفي التمثيل، ولم أذكر التشبيه؛ لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال‏:‏ ‏
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقال‏:‏ ‏{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏، وكان أحب إلى من لفظ ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح، كما قد يعنى به معنى فاسد‏.‏
ولما ذكرت أنهم لا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، جعل بعض الحاضرين يتمعض من ذلك؛ لاستشعاره ما في ذلك من الرد الظاهر عليه، ولكن لم يتوجه له ما يقوله، وأراد أن يدور بالأسئلة التي أعلمها، فلم يتمكن لعلمه بالجواب‏.‏
ولما ذكرت آية الكرسى  أظنه سأل الأمير عن قولنا‏:‏ لا يقربه شيطان حتى يصبح  فذكرت حديث أبي هريرة في الذي كان يسرق صدقة الفطر، وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه، وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم، ويطنبون في هذا، ويعرضون لما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك‏.‏

 

ص -166-

فقلت‏:‏ قولى‏:‏ من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترت هذين الاسمين؛ لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة، ومالك، وابن عيينة وغيرهم  المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏
فاتفق هؤلاء السلف على أن التكييف غير معلوم لنا،فنفيت ذلك اتباعًا لسلف الأمة‏.‏
وهو  أيضًا  منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته‏.‏وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة، ذكرتها في التأويل والمعنى، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله‏.‏
وكذلك التمثيل، منفي بالنص، والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه، ونفي التكييف؛ إذ كُنْه البارى غير معلوم للبشر، وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطأبي الذي نقل أنه مذهب السلف، وهو إجراء آيات الصفات، وأحاديث الصفات على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها؛ إذ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف‏.‏

 

ص -167-

فقال أحد كبار المخالفين‏:‏ فحينئذ يجوز أن يقال‏:‏ هو جسم لا كالأجسام، فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين‏:‏ إنما قيل‏:‏إنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم، حتى يلزم هذا السؤال‏.‏
وأخذ بعض القضاة الحاضرين والمعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفي عنا ما يقول وينسبه البعض إلينا، فجعل يزيد في المبالغة في نفي التشبيه والتجسيم، فقلت‏:‏ ذكرت فيها في غير موضع من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقلت في صدرها‏:‏ ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل‏.‏
ثم قلت‏:‏ وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح، التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان بها كذلك،إلى أن قلت‏:‏ إلى أمثال هذه الأحاديث الصحاح، التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية  أهل السنة والجماعة  يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم‏.‏

 

ص -168-

فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية،وبين أهل التمثيل المشبهة‏.‏
ولما رأى هذا الحاكم العدل ممالأتهم، وتعصبهم، ورأي قلة العارف الناصر، وخافهم قال‏:‏ أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول‏:‏ هذا اعتقاد أحمد، يعني والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم‏.‏
فقلت‏:‏ ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
وقلت مرات‏:‏ قد أمهلت كل من خالفنى في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة  التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال‏:‏
‏"‏خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏  يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلىَّ أن آتى بنقول جميع الطوائف  عن القرون الثلاثة، توافق ما ذكرته  من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم‏.‏

 

ص -169-

وقلت  أيضًا  في غير هذا المجلس‏:‏ الإمام أحمد  رحمه الله  لما انتهي إليه من السنة، ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر مما انتهي إلى غيره، وابتلى بالمحنة، والرد على أهل البدع، أكثر من غيره، كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره، فصار إمامًا في السنة أظهر من غيره، وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة  العلماء الصلحاء  قال‏:‏ المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل‏.‏ يعني‏:‏ أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم والبيان، وإظهار الحق، ودفع الباطل ما ليس لبعض‏.‏
ولما جاء فيها‏:‏ وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل العلم بالقبول‏.‏ ولما جاء حديث أبي سعيد  المتفق عليه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله يوم القيامة‏:‏
‏"‏يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك، فينادى بصوت‏:‏ إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا إلى النار‏"‏ الحديث  سألهم الأمير هل هذا الحديث صحيح‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ هو في الصحيحين، ولم يخالف في ذلك أحد، واحتاج المنازع إلى الإقرار به، ووافق الجماعة على ذلك‏.‏
وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف والصوت؛ لأن ذلك طلب منه‏.‏
فقلت‏:‏ هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه، أن صوت القارئين، ومداد الصحف قديم أزلي  كما نقله مجد الدين ابن الخطيب

 

ص -170-

وغيره  كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين، لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم‏.‏
وأخرجت كراسًا قد أحضرته مع العقيدة، فيه ألفاظ أحمد، مما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الإمام أحمد، وما جمعه صاحبه أبو بكر المروذى من كلام الإمام أحمد،وكلام أئمة زمانه وسائر أصحابه‏:‏ أن من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي‏.‏ ومن قال‏:‏ غير مخلوق، فهو مبتدع‏.‏
قلت‏:‏ وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب المقالات عن أهل السنة وأصحاب الحديث‏.‏وقال‏:‏ إنه يقول به‏.‏قلت‏:‏ فكيف بمن يقول‏:‏ لفظى قديم‏؟‏ فكيف بمن يقول‏:‏ صوتي غير مخلوق‏؟‏ فكيف بمن يقول‏:‏ صوتي قديم‏؟‏
ونصوص الإمام أحمد في الفرق بين تكلم الله بصوت، وبين صوت العبد  كما نقله البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره من أئمة السنة‏.‏
وأحضرت جواب مسألة كنت سئلت عنها قديمًا، فيمن حلف بالطلاق، في مسألة الحرف والصوت، ومسألة الظاهر في العرش، فذكرت من الجواب القديم في هذه المسألة، وتفصيل القول فيها، وأن إطلاق القول أن

 

ص -171-

القرآن هو الحرف والصوت، أو ليس بحرف ولا صوت، كلاهما بدعة، حدثت بعد المائة الثالثة‏.‏ وقلت‏:‏ هذا جوابي‏.‏
وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة، ممن كان بعضهم حاضرا في المجلس، فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم، وكانوا قد ظنوا أنى إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله، حصل مقصودهم من الشناعة، وإن أجبت بما يقولونه هم، حصل مقصودهم من الموافقة، فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة  وليس هو ما يقولونه هم، ولا ما ينقولونه عن أهل السنة؛ إذ قد يقوله بعض الجهال  بهتوا لذلك وفيه‏:‏ أن القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه، ليس القرآن اسمًا لمجرد الحروف، ولا لمجرد المعاني‏.‏
وقلت في ضمن الكلام لصدر الدين ابن الوكيل  لبيان كثرة تناقضه، وأنه لا يستقر على مقالة واحدة، وإنما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين‏:‏ عندى عقيدة للشيخ أبي البيان، فيها‏:‏ أن من قال‏:‏ إن حرفًا من القرآن مخلوق، فقد كفر‏.‏
وقد كتبت عليها بخطك‏:‏ أن هذا مذهب الشافعي، وأئمة أصحابه، وأنك تدين الله بها فاعترف بذلك، فأنكر عليه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ذلك‏.‏
فقال ابن الوكيل‏:‏ هذا نص الشافعي، وراجعه في ذلك مرارا، فلما اجتمعنا في المجلس الثاني، ذكر لابن الوكيل أن ابن درباس ‏[‏هو أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس بن عبدوس الكردي، قاضي الديار المصرية، ولد سنة 615 ه تقريبًا، توفي سنة 650 ه‏]‏ نقل في كتاب

 

ص -172-

الانتصار عن الشافعي مثل ما نقلت، فلما كان في المجلس الثالث، أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك‏.‏
فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين ابن الوكيل‏:‏ قد قلت في ذلك المجلس للشيخ تقى الدين‏:‏ إنه من قال‏:‏ إن حرفًا من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مرارًا، فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضبًا شديدًا، ورفع صوته‏.‏ وقال‏:‏ هذا يكفر أصحابنا المتكلمين الأشعرية، الذين يقولون‏:‏ إن حروف القرآن مخلوقة مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا‏.‏
فأنكر ابن الوكيل أنه قال ذلك، وقال‏:‏ ما قلت ذلك، وإنما قلت‏:‏ إن من أنكر حرفًا من القرآن فقد كفر، فرد ذلك عليه الحاضرون وقالوا‏:‏ ما قلت إلا كذا وكذا، وقالوا‏:‏ ما ينبغى لك أن تقول قولًا وترجع عنه‏.‏وقال بعضهم‏:‏ ما قال هذا‏.‏فلما حرفوا، قال‏:‏ ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائب السلطان‏:‏ واحد يكذب، وآخر يشهد، والشيخ كمال الدين مغضب‏.‏فالتفت إلى قاضى القضاة نجم الدين الشافعي يستصرخه للانتصار على ابن الوكيل، حيث كفر أصحابه‏.‏فقال القاضى نجم الدين‏:‏ ما سمعت هذا، فغضب الشيخ كمال الدين، وقال كلاما لم أضبط لفظه، إلا أن معناه‏:‏ أن هذا غضاضة على الشافعي، وعار عليهم أن أئمتهم يكفرون، ولا ينتصر لهم‏.‏
ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حق القاضي نجم الدين، واستثبت غيري ممن حضر، هل سمع منه في حقه شيئًا‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏لكن القاضى اعتقد

 

ص -173-

أن التعيير لأجله، ولكونه قاضي المذهب، ولم ينتصر لأصحابه، وأن الشيخ كمال الدين قصده بذلك، فغضب قاضي القضاة نجم الدين‏.‏ وقال‏:‏ اشهدوا على أني عزلت نفسي، وأخذ يذكر ما يستحق به التقديم، والاستحقاق، وعفته عن التكلم في أعراض الجماعة، ويستشهد بنائب السلطان في ذلك‏.‏ وقلت له كلامًا مضمونه تعظيمه واستحقاقه لدوام المباشرة في هذه الحال‏.‏
ولما جاءت مسألة القرآن ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله‏.‏ غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، نازع بعضهم في كونه منه بدأ وإليه يعود، وطلبوا تفسير ذلك‏.‏
فقلت‏:‏ أما هذا القول، فهو المأثور الثابت عن السلف،مثل ما نقله عمرو بن دينار، قال‏:‏ أدركت الناس منذ سبعين سنة، يقولون‏:‏ الله الخالق، وما سواه مخلوق إلا القرآن، فإنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏
وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والصحابة والتابعين، كالحافظ أبي الفضل ابن ناصر، والحافظ أبي عبد الله المقدسي‏.‏ وأما معناه‏:‏ فإن قولهم‏:‏ منه بدأ، أي‏:‏ هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقول الجهمية‏:‏ إنه خلق في الهوى أو غيره، أو بدأ من عند غيره‏.
‏وأما إليه يعود‏:‏ فإنه يسري به في آخر الزمان، من المصاحف والصدور،فلا

 

ص -174-

يبقى في الصدر منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف، ووافق على ذلك غالب الحاضرين، وسكت المنازعون‏.‏
وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس، بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادرى، التي فيها أن القرآن كلام الله، خرج منه، فتوقف في هذا اللفظ‏.‏ فقلت‏:‏ هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه‏"‏ يعني‏:‏ القرآن، وقال خباب بن الأرت‏:‏ يا هنتاه، تقرب إلى الله بما استطعت، فلن يتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه‏.‏
وقال أبو بكر الصديق  لما قرأ قرآن مُسَيْلَمة الكذاب‏:‏ إن هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ  يعنى رب‏.‏
وجاء فيها‏:‏ ومن الإيمان به‏:‏ الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن  الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم  هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة، بل إذا قرأه الناس، أو كتبوه في المصاحف، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا، فتمعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة، بعد تسليمه أن الله تعالى تكلم به حقيقة‏.‏

 

ص -175-

ثم إنه سلَّم ذلك لمَّا بين له أن المجاز يصح نفيه، وهذا لا يصح نفيه، ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم، وشعر الشعراء المضاف إليهم، هو كلامهم حقيقة، فلا يكون نسبة القرآن إلى الله بأقل من ذلك‏.‏
فوافق الجماعة كلهم على ما ذكر في مسألة القرآن، وأن الله تكلم حقيقة، وأن القرآن كلام الله حقيقة لا كلام غيره‏.‏
ولما ذكر فيها‏:‏ أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا، استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وأخذ أكبر الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام، كابن الوكيل وغيره، وأظهر الفرح بهذا التلخيص، وقال‏:‏ إنك قد أزلت عنا هذه الشبهة، وشفيت الصدور ويذكر أشياء من هذا النمط‏.‏
ولما جاء ما ذكر من الإيمان باليوم الآخر، وتفصيله ونظمه، استحسنوا ذلك وعظموه‏.‏
وكذلك لما جاء ذكر الإيمان بالقدر وأنه على درجتين، إلى غير ذلك مما فيها من القواعد الجليلة‏.‏
وكذا لما جاء ذكر الكلام في الفاسق الملِّىّ، وفي الإيمان، لكن اعترضه على ذلك بما سأذكره‏.‏

 

ص -176-

وكان مجموع ما اعترض به المنازعون المعاندون، بعد انقضاء قراءة جميعها، والبحث فيها عن أربعة أسئلة‏:‏
الأول‏:‏ قولنا‏:‏ ومن أصول الفرقة الناجية‏:‏ أن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح‏.‏
قالوا‏:‏ فإذا قيل‏:‏ إن هذا من أصول الفرقة الناجية، خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك،مثل أصحابنا المتكلمين،الذين يقولون‏:‏ إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول‏:‏ الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجحين، لزم أن يكونوا هالكين‏.‏
وأما الأسئلة الثلاثة  وهي التي كانت عمدتهم  فأوردوها على قولنا، وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله‏:‏ الإيمان بما أخبر الله في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة،من أنه  سبحانه  فوق سمواته على عرشه،علىٌّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏‏.‏وليس معنى قوله‏:‏ ‏{وَهُوَ مَعَكُمْ‏}‏‏:‏ أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق،

 

ص -177-

بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما كان، وغير المسافر، وهو  سبحانه  فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معانى ربوبيته‏.‏وكل هذا الكلام الذي ذكره الله  تعالى  من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان على الظنون الكاذبة‏.‏
السؤال الثاني‏:‏ قال بعضهم‏:‏نقر باللفظ الوارد، مثل حديث العباس، حديث الأوعال، والله فوق العرش،ولا نقول‏:‏فوق السموات،ولا نقول‏:‏ على العرش‏.‏ وقالوا أيضًا‏:‏ نقول‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏ طه‏:‏ 5‏]‏ ولا نقول‏:‏ الله على العرش استوى، ولا نقول‏:‏ مستو، وأعادوا هذا المعنى مرارا، أي أن اللفظ الذي ورد، يقال اللفظ بعينه، ولا يبدل بلفظ يرادفه، ولا يفهم له معنى أصلا‏.‏ ولا يقال‏:‏ إنه يدل على صفة الله أصلا، ونبسط الكلام في هذا في المجلس الثاني، كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏
السؤال الثالث‏:‏ قالوا‏:‏ التشبيه بالقمر فيه تشبيه كون الله في السماء، بكون القمر في السماء‏.‏
السؤال الرابع‏:‏ قالوا‏:‏ قولك حق على حقيقته، الحقيقة هي المعنى اللغوي، ولا يفهم من الحقيقة اللغوية إلا استواء الأجسام وفوقيتها،ولم تضع العرب ذلك إلا لها، فإثبات الحقيقة هو محض التجسيم، ونفي التجسيم مع هذا تناقض أو مصانعة‏.‏

 

ص -178-

فأجبتهم عن الأسئلة، بأن قولى‏:‏ اعتقاد الفرقة الناجية‏:‏ هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة، حيث قال‏:‏ ‏"‏تفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏"‏‏.‏
فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه  رضي الله عنهم  وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال‏:‏ الإيمان يزيد وينقص، وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك‏.‏
ثم قلت لهم‏:‏ وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت، وذو الحسنات الماحية، والمغفور له وغير ذلك، فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيًا، وقد لا يكون ناجيًا، كما يقال‏:‏ من صمت نجا‏.‏
وأما السؤال الثاني‏:‏ فأجبتهم أولًا بأن كل لفظ قلته فهو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل لفظ‏:‏ فوق السموات، ولفظ‏:‏ على العرش، وفوق

 

ص -179-

العرش، وقلت‏:‏ اكتبوا الجواب، فأخذ الكاتب في كتابته، ثم قال بعض الجماعة‏:‏ قد طال المجلس اليوم، فيؤخر هذا إلى مجلس آخر، وتكتبون أنتم الجواب، وتحضرونه في ذلك المجلس‏.‏
فأشار بعض الموافقين بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب؛ لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم وكان الخصوم لهم غرض في تأخير كتابة الجواب، ليستعدوا لأنفسهم، ويطالعوا، ويحضروا من غاب من أصحابهم، ويتأملوا العقيدة فيما بينهم؛ ليتمكنوا من الطعن والاعتراض، فحصل الاتفاق على أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة، وقمنا على ذلك‏.‏
وقد أظهر الله من قيام الحجة، وبيان المحجة، ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة، وفي نفوس كثير من الناس أمور لما يحدث في المجلس الثاني، وأخذوا في تلك الأيام يتأملونها، ويتأملون ما أجبت به في مسائل تتعلق بالاعتقاد، مثل‏:‏ ‏[‏المسألة الحموية في الاستواء‏]‏، والصفات الخبرية وغيرها‏.

 

ص -180-

فصل
فلما كان المجلس الثاني يوم الجمعة في اثني عشر رجب، وقد أحضروا أكثر شيوخهم ممن لم يكن حاضرًا ذلك المجلس، وأحضروا معهم زيادة صفي الدين الهندي ‏[‏هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد صفي الدين الهندي، الفقيه الشافعي الأصولي، ولد بالهند سنة 446 ه، صنف في أصول الدين‏:‏ ‏[‏الفائق‏]‏ وفي أصول الفقه‏:‏ ‏[‏النهاية‏]‏، و‏[‏الزبدة‏]‏ في علم الكلام‏]‏، وقالوا‏:‏ هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، وبحثوا فيما بينهم، واتفقوا وتواطؤوا، وحضروا بقوة واستعداد غير ما كانوا عليه؛ لأن المجلس الأول أتاهم بغتة، وإن كان  أيضًا  بغتة للمخاطب، الذي هو المسؤول والمجيب والمناظر‏.‏
فلما اجتمعنا  وقد أحضرت ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة، الذي طلبوا تأخيره إلى اليوم  حمدت الله بخطبة الحاجة  خطبة ابن مسعود رضي الله عنه  ثم قلت‏:‏ إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف‏.‏
وقال لنا في القرآن‏:‏ ‏
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 103‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159 ‏]‏، وقال‏:‏‏{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏

 

ص -181-

وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد،وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين، وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفنى بعد ذلك كشفت له الأسرار، وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة، التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإن للسلم كلامًا، وللحرب كلامًا‏.‏
وقلت‏:‏ لا شك أن الناس يتنازعون، يقول هذا‏:‏ أنا حنبلي، ويقول هذا‏:‏ أنا أشعري، ويجري بينهم تفرق وفتن، واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها‏.‏
وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته، وأحضرت كتاب تبيين كذب المفتري، فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري  رحمه الله  تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر  رحمه الله‏.‏
وقلت‏:‏ لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل هذا، وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتابه‏:‏ الإبانة‏.‏
فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة، سأل الأمير عن معنى المعتزلة، فقلت‏:‏ كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملِّيّ، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن‏؟‏ فقالت الخوارج‏:‏ إنه كافر‏.‏ وقالت الجماعة‏:‏

 

ص -182-

إنه مؤمن‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ نقول‏:‏ هو فاسق، لا مؤمن ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه  رحمه الله تعالى  فسموا معتزلة‏.‏
وقال الشيخ الكبير بجبته وردائه‏:‏ ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون مسألة الكلام، وسمى المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد، ثم خلفه بعد موته عطاء بن واصل، هكذا قال، وذكر نحوًا من هذا‏.‏
فغضبت عليه وقلت‏:‏ أخطأت، وهذا كذب مخالف للإجماع‏.‏ وقلت له‏:‏ لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب‏؟‏
ثم قلت‏:‏ الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون، وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير، في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري، في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام، ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعيد‏.‏
فقال‏:‏ هذا ذكره الشهرستاني في كتاب الملل والنحل‏.‏ فقلت‏:‏ الشهرستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين، لم سموا متكلمين‏؟‏ لم يذكره في اسم المعتزلة،

 

ص -183-

والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة، وأنكر الحاضرون عليه، وقالوا‏:‏ غلطت‏.‏ وقلت في ضمن كلامي‏:‏ أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها‏.‏
وأيضًا، فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين، فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم، قبل منازعتهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء‏:‏ إنه متكلم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام‏.‏
وقلت‏:‏ أنا وغيري‏:‏ إنما هو واصل بن عطاء، أي‏:‏ لا عطاء بن واصل كما ذكره المعترض، قلت‏:‏ وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد وإنما كان قرينه‏.‏
وقد روى أن واصلًا تكلم مرة بكلام، فقال عمرو بن عبيد‏:‏ لو بعث نبى ما كان يتكلم بأحسن من هذا، وفصاحته مشهورة، حتى قيل‏:‏ إنه كان ألثغ، وكان يحترز عن الراء، حتى قيل له‏:‏ أمر الأمير أن يحفر بئر‏.‏فقال‏:‏ أوعز القائد أن يقلب قليب في الجادة‏.‏
ولما انتهي الكلام إلى ما قاله الأشعري، قال الشيخ المقدم فيهم‏:‏ لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر، ومن أكبر أئمة الإسلام، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء‏.‏

 

ص -184-

فقلت‏:‏ أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريء، قد انتسب إلى مالك أناس مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى موسى  عليه السلام  أناس هو منهم بريء، وانتسب إلى عيسى  عليه السلام  أناس هو منهم بريء، وقد انتسب إلى على بن أبي طالب أناس هو بريء منهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملحدة والمنافقين، من هو بريء منهم‏.‏
وذكر في كلامه أنه انتسب إلى أحمد ناس من الحشوية والمشبهة، ونحو هذا الكلام‏.‏
فقلت‏:‏ المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، هؤلاء أصناف، الأكراد كلهم شافعية، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية‏.‏قلت‏:‏ وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم‏.‏
وكان من تمام الجواب أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية، وتكلمت على لفظ الحشوية  ما أدرى جوابًا عن سؤال الأمير أو غيره، أو عن غير جواب  فقلت‏:‏ هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة؛ فإنهم يسمون الجماعة

 

ص -185-

والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرافضة الجمهور، وحشو الناس هم عموم الناس وجمهورهم، وهم غير الأعيان المتميزين، يقولون هذا من حشو الناس، كما يقال هذا من جمهورهم‏.‏
وأول من تكلم بهذا عمرو بن عبيد، وقال‏:‏ كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشويا فالمعتزلة سموا الجماعة حشوا كما تسميهم الرافضة الجمهور‏.‏
وقلت لا أدري  في المجلس الأول أو الثاني  أول من قال أن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي‏.‏
وقلت لهذا الشيخ‏:‏ من في أصحاب الإمام أحمد رحمه الله حشوي بالمعنى الذي تريده ‏؟‏ الأثرم، أبو داود، المروذى، الخلال، أبو بكر عبدالعزيز، أبو الحسن التميمي، ابن حامد، القاضي أبو يعلى، أبو الخطاب، ابن عقيل‏؟‏ ورفعت صوتي وقلت‏:‏ سمهم، قل لي منهم، من هم‏؟‏
أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة، وتندرس معالم الدين‏؟‏ كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون‏:‏ إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وأن الصوت والمداد قديم أزلي، من قال هذا‏؟‏ وفي أي كتاب وجد هذا عنهم‏؟‏ قل لي‏؟‏‏!‏
وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه، والمقدمة التي نقلها عنهم؛ وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ؛ من أنه كبير الجماعة

 

ص -186-

وشيخهم وأن فيه من العقل والدين ما يستحق أن يعامل بموجبه، وأمرت بقراءة العقيدة جميعها عليه فإنه لم يكن حاضرا في المجلس الأول، وإنما أحضروه في الثاني انتصارًا به‏.‏
وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس أنه اجتمع به وقال له‏:‏ أخبرني عن هذا المجلس، فقال‏:‏ ما لفلان ذنب ولا لي فإن الأمير سأل عن شيء فأجابه عنه فظننته سأل عن شيء آخر ‏.‏
وقال‏:‏ قلت لهم أنتم ما لكم على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل، وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري‏.‏
وقال أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها، وفيها قول ترك التأويل‏.‏
قال الحاكي لي‏:‏ فقلت له‏:‏ بلغني عنك أنك قلت في آخر المجلس  لما أشهد الجماعة على انفسهم بالموافقة  لا تكتبوا عني نفيًا ولا إثباتًا فلم ذاك‏؟‏ فقال‏:‏ لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول‏.‏
والثاني‏:‏ لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم، فسكت عن الطائفتين‏.‏

 

ص -187-

وأمرت غير مرة أن يعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ، فرأي بعض الجماعة أن ذلك تطويل، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال وأعظمه لفظ الحقيقة، فقرءوه عليه، فذكر هو بحثًا حسنًا يتعلق بدلالة اللفظ، فحسنته ومدحته عليه وقلت‏:‏ لا ريب ان الله حي حقيقة؛ عليم حقيقة؛ سميع حقيقة؛ بصير حقيقة وهذا متفق عليه بين أهل السنة والصفاتية من جميع الطوائف؛ ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك، فلا ريب أن الله موجود؛ والمخلوق موجود؛ ولفظ الوجود سواء كان مقولاً عليهما بطريق الاشتراك اللفظي فقط أو بطريق التواطئ المتضمن للاشتراك لفظًا ومعنى أو بالتشكيك الذي هو نوع من التواطئ‏.‏
فعلى كل قول‏:‏ فالله موجود حقيقة، والمخلوق موجود حقيقة، ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق والمخلوق بطريق الحقيقة محذور، ولم أرجح في ذلك المقام قولًا من هذه الثلاثة على الآخر لأن غرضي تحصل على كل مقصودي‏.‏
وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين إتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة والأشعري وأكابر أصحابه على ما ذكرته، فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس وخافوا انتصار الخصوم فيه وخافوا على نفوسهم أيضًا

 

ص -188-

من تفرق الكلمة فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته أو لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها لصارت فرقة، ولصعب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم‏.‏
فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك وقامت عليه الحجة وبان أنه مذهب السلف‏:‏ أمكنهم إظهار القول به مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق حتى قال لي بعض الأكابر من الحنفية  وقد اجتمع بي  لو قلت هذا مذهب أحمد وثبت على ذلك لا انقطع النزاع‏.‏
ومقصوده أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبوع ويستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة‏.‏
فقلت‏:‏ لا والله، ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضًا‏:‏ هذا اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثا أو إجماعا سلفيا، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين، والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية‏.‏
وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية  لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي وكل من قال بقول الأشعري

 

ص -189-

الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكى عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه وإنما هو قول طائفة من أصحابه فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان‏.‏
فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي سمى بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب، والممكن، على الأقوال الثلاثة‏:‏ تنازع كبيران، هل هو مقول بالاشتراك أو بالتواطئ‏؟‏
فقال أحدهما‏:‏ هو متواطئ، وقال الآخر‏:‏ هو مشترك؛ لئلا يلزم التركيب‏.‏
وقال هذا‏:‏ قد ذكر فخر دين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا‏؟‏ فمن قال أن وجود كل شيء عين ماهيته، قال‏:‏ إنه مقول بالاشتراك ومن قال أن وجوده قدر زائد على ماهيته قال أنه مقول بالتواطئ‏.‏
فأخذ الأول يرجح قول من يقول‏:‏ أن الوجود زائد على الماهية؛ لينصر أنه مقول بالتواطئ‏.‏
فقال الثاني‏:‏ ليس مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته؛ فأنكر الأول ذلك‏.‏
فقلت‏:‏ أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته؛

 

ص -190-

وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وكل منهما أصاب من وجه، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطئ، كما قد قررته في غير هذا الموضع وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين‏.‏
وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينه‏:‏ فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب، فإنا وإن قلنا أن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى نظيره بالاشتراك اللفظى فقط كما في جميع أسماء الأجناس فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطئ وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي لكنه لا يوجد مطلقا بشرط الإطلاق إلا في الذهن ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الأسماء الموجودة في الغالب وهي أسماء الأجناس اللغوية وهو الاسم المطلق على الشيء وعلى كل ما أشبهه سواء كان اسم عين أو اسم صفة جامدا أو مشتقا وسواء كان جنسا منطقيا أو فقهيا أو لم يكن بل اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة‏.‏
وطلب بعضهم إعادة قراءة الاحاديث المذكورة في العقيدة ليطعن في

 

ص -191-

بعضها، فعرفت مقصوده، فقلت‏:‏ كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعال حديث العباس بن عبد المطلب  وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم من قول البخاري في تأريخه عبد الله بن عميرة لا يعرف له سماع من الأحنف فقلت هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذى وغيرهم فهو مروي من طريقين مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر‏.‏
فقال‏:‏ أليس مداره على ابن عميرة، وقد قال البخاري‏:‏ لا يعرف له سماع من الأحنف‏؟‏
فقلت‏:‏ قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة؛ في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت والإثبات مقدم على النفي، والبخاري انما نفي معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره كإمام الأئمة ابن خزيمة ما ثبت به الإسناد كانت معرفته وإثباته مقدمًا على نفي غيره وعدم معرفته‏.‏
ووافق الجماعة على ذلك، وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه، وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن في العقيدة ولكن لها تعلق بما أجبت به في مسائل ولها تعلق بما قد يفهمونه من

 

ص -192-

العقيدة، فأحضر بعض أكابرهم كتاب الاسماء والصفات للبيهقي رحمه الله تعالى فقال‏:‏ هذا فيه تأويل الوجه عن السلف، فقلت‏:‏ لعلك تعني قوله تعالى‏:‏ ‏{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ قد قال مجاهد والشافعي يعنى قبلة الله، فقلت‏:‏ نعم هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما، وهذا حق، وليست هذه الآية من آيات الصفات‏.‏
ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال ‏:‏
‏{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ والمشرق والمغرب الجهات‏.‏
والوجه هو الجهة؛ يقال‏:‏ أي وجه تريده‏؟‏ أي أي جهة، وأنا أريد هذا الوجه أي هذه الجهة، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة 148‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ أي تستقبلوا وتتوجهوا والله أعلم وصلى الله على محمد‏.‏

 

ص -193-

نقل الشيخ علم الدين ‏:‏ حكاية الشيخ علم الدين للمناظرة في الواسطية
أن الشيخ قدس الله روحه قال‏:‏
في مجلس نائب السلطنة الأفرم لما سأله عن اعتقاده، وكان الشيخ أحضر عقيدته ‏[‏الواسطية‏]‏ قال هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام فقرئت في المجلس‏.‏
ثم نقل علم الدين عن الشيخ أنه قال‏:‏ كان سبب كتابتها أن بعض قضاة واسط من أهل الخير والدين شكى ما الناس فيه ببلادهم في دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة، فقلت له‏:‏ قد كتب الناس عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال‏:‏ ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت‏.‏
فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، فأشار الأمير لكاتبه فقرأها على الحاضرين حرفًا حرفًا، فاعترض بعضهم على قولي فيها‏:‏ ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل‏.‏ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إما وجوبًا وإما جوازًا‏.‏

 

ص -194-

فقلت‏:‏ إنى عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد‏.‏
فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف‏.‏
وقلت لهم ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال‏:‏ ‏
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا، ويعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك‏.‏
فقلت‏:‏ قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترت هذين الاسمين لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول‏:‏ ‏[‏الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة‏]‏ فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك اتباعا لسلف الأمة‏.‏
وهو أيضًا منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة

 

ص -195-

الموصوف، وحقيقة صفاته غير معلومة، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في ‏[‏التأويل والمعنى‏]‏ والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله‏.‏
وكذلك التمثيل منفي بالنص والإجماع القديم مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف إذ كنه الباري غير معلوم للبشر‏.‏
وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف وهو‏:‏ ‏[‏إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها إذ الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا اثبات تكييف‏]‏‏.‏
فقال أحد كبراء المخالفين فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم لا كالأجسام، فقلت له‏:‏ أنا وبعض الفضلاء إنما قيل‏:‏ أنه يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا‏.‏ وأول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي‏.‏
وأما قولنا‏:‏ فهم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم‏.‏ فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، فقيل لي‏:‏ أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد وأرادوا قطع النزاع لكونه مذهبًا متبوعًا‏.‏

 

ص -196-

فقلت‏:‏ ما خرجت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، وقلت‏:‏ قد أمهلت من خالفنى في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلي أن آتى بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرته من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث وغيرهم‏.‏
ثم طلب المنازع الكلام في ‏[‏مسألة الحرف والصوت‏]‏ فقلت‏:‏ هذا الذي يُحكى عن أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلى كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين‏.‏
وأخرجت كراسًا وفيه ما ذكره أبو بكر الخلال في ‏[‏كتاب السنة‏]‏ عن الإمام أحمد وما جمعه صاحبه أبو بكر المروذي من كلام أحمد وكلام أئمة زمانه في أن من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال‏:‏ غير مخلوق فهو مبتدع، قلت‏:‏ فكيف بمن يقول لفظي أزلي‏؟‏‏!‏ فكيف بمن يقول صوتي قديم‏؟‏‏!‏
فقال المنازع‏:‏ أنه انتسب إلى أحمد أناس من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام، فقلت‏:‏ المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، فهؤلاء أصناف الأكراد كلهم شافعية وفيهم من التشبيه والتجسيم مالا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم والكرامية المجسمة كلهم حنفية‏.‏

 

ص -197-

وقلت له‏:‏ من في أصحابنا حشوي بالمعنى الذي تريده‏؟‏‏!‏ الأثرم؛ أبو داود؛ المروزي؛ الخلال؛ أبو بكر عبد العزيز، أبو الحسن التميمي؛ ابن حامد؛ القاضي أبو يعلى؛ أبو الخطاب؛ ابن عقيل؛ ورفعت صوتي وقلت‏:‏ سمهم، قل لي من منهم‏؟‏ ‏!‏
أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة، وتندرس معالم الدين، كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون‏:‏ القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وأن الصوت والمداد قديم أزلي، من قال هذا‏؟‏ وفي أي كتاب وجد عنهم هذا‏؟‏ قل لى‏.‏ وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها عنهم‏.‏
ولما جاءت مسألة القرآن وأنه كلام الله غير مخلوق، منه بدء وإليه يعود، نازع بعضهم في كونه منه بدا وإليه يعود، وطلبوا تفسير ذلك، فقلت‏:‏ أما هذا القول فهو المأثور والثابت عن السلف مثل ما نقله عمرو بن دينار قال‏:‏ أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدا وإليه يعود‏.‏
ومعنى منه بدا أي هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه ليس هو كما تقوله الجهمية انه خلق في الهواء أو غيره وبدأ من غيره، وأما إليه يعود فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور

 

ص -198-

فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف‏.‏
ووافق على ذلك غالب الحاضرين فقلت‏:‏ هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه يعني القرآن، وقال خباب بن الأرت‏:‏ يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فلن يتقرب إلى الله بشيء أحب إليه مما خرج منه‏.‏
وقلت‏:‏ وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة؛ بل إذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، فامتعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة، ثم أنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه، وأن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة‏.‏
ولما ذكرت فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغا استحسنوا هذا الكلام وعظموه.
 وذكرت ما أجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة،

 

ص -199-

وليس معنى قوله ‏{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة؛ وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق؛ بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان‏.‏
ولما ذكرت أن جميع أسماء الله التي يسمى بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب والممكن تنازع كبيران، هل هو مقول بالاشتراك‏؟‏ أو بالتواطئ‏؟‏ فقال أحدهما‏:‏ هو متواطئ وقال آخر‏:‏ هو مشترك لئلا يلزم التركيب وقال هذا قد ذكر فخر الدين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا‏؟‏‏!‏ فمن قال إن وجود كل شيء عين ماهيته قال أنه مقول بالاشتراك؛ ومن قال أن وجوده قدر زائد على ماهيته قال أنه مقول بالتواطئ، فأخذ الأول يرجح قول من يقول أن الوجود زائد على الماهية لينصر أنه مقول بالتواطئ، فقال الثاني مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته، فأنكر الاول ذلك فقلت أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته وكل منهما أصاب من وجه فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطئ كما قد قررته في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -200-

 

وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عين وجود ماهيته فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب، فإنا وإن قلنا إن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى غيره بالاشتراك اللفظي فقط كما في جميع أسماء الأجناس، فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطئ وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد اذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي لكنه لا يوجد مطلقا بشرط الإطلاق إلا في الذهن ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الاسماء الموجودة في اللغات وهي أسماء الاجناس اللغوية وهو الاسم المعلق على الشيء وما أشبهه سواء كان اسم عين أو اسم صفة جامدا أو مشتقًا، وسواء كان جنسًا منطقيًا أو فقهيًا أو لم يكن، بل اسم الجنس في اللغة تدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة، قال الذهبى‏:‏ ثم وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد‏.‏

 

ص -201-

وكتب عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
من أخيه عبد الله بن تيمية إلى الشيخ الإمام العالم الفاضل الصدر الكبير زين الدين _  زينه الله تعالى بحلية أوليائه وأكرمه في الدنيا والآخرة بكرامة أصفيائه وجعل له البشرى بالنصر الأكبر على أعدائه وأوزعه شكر النعماء خصوصا أفضل نعمائه بما من الله به سبحانه من النصر العزيز للإسلام وللسنة وأهلها على حزب الشيطان وأوليائه  أما بعد فإنى أحمد اليك الله الذي لا اله إلا هو وهو للحمد أهل وأصلي على نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأعرفه بما من الله سبحانه علينا وعلى المسلمين أجمعين بالنصر الأكبر والفتح المبين، وهو وإن كانت العقول تعجز عن دركه على التفضيل والألسن عن وصفه عن التكميل لكن نذكر منه ما يسر الله سبحانه ملخصا خاليا عن التطويل‏.‏

 

ص -202-

وهو أنه لما كان يوم الاثنين ثامن من رجب جمع نائب السلطان القضاة الأربعة ونوابهم والمفتين والمشايخ نجم الدين؛ وشمس الدين؛ وتقي الدين؛ وجمال الدين؛ وجلال الدين نائب نجم الدين؛ وشمس الدين بن العز نائب شمس الدين؛ وعز الدين نائب تقي الدين؛ ونجم الدين نائب جمال الدين؛ والشيخ كمال الدين بن الزملكاني؛ والشيخ كمال الدين بن الشرشي؛ وابن الوكيل من الشافعية؛ والشيخ برهان الدين بن عبدالحق من الحنفية؛ والشيخ شمس الدين الحريرى من المالكية؛ والشيخ شهاب الدين المجد من الشافعية؛ والشيخ محمد بن قوام؛ والشيخ محمد بن إبراهيم الأرموي؛ ثم سأل نائب السلطان عن الاعتقاد فقال ليس الاعتقاد لي ولا لمن هو أكبر مني بل الاعتقاد يؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة يؤخذ من كتاب الله تعالى ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من الأحاديث المعروفة وما ثبت عن سلف الأمة.
 فقال الأمير نريد أن تكتب لنا صورة الاعتقاد، فقال الشيخ‏:‏ إذا قلت الساعة شيئًا من حفظي قد يقول الكذابون قد كتم بعضه أو داهن بل أنا أحضر ما كتبته قبل هذا المجلس بسنين متعددة قبل مجيء التتار، فأحضرت الواسطية وسبب تسميتها بذلك أن الذي طلبها من الشيخ رجل من قضاة واسط من أصحاب الشافعي قدم حاجًا من نحو عشر سنين  وكان فيه صلاح كبير وديانة كبيرة  فالتمس من الشيخ أن يكتب له عقيدة، فقال له

 

ص -203-

الشيخ‏:‏ الناس قد كتبوا في هذا الباب شيئًا كثيرًا فخذ بعض عقائد أهل السنة، فقال‏:‏ أحب أن تكتب لي أنت، فكتب له وهو قاعد في مجلسه بعد العصر هذه العقيدة‏.‏
ذكر الشيخ للأمير معنى هذا الكلام ثم قرئت على الحاضرين من أولها إلى آخرها كلمه كلمة وبحث في مواضع منها وفيهم من في قلبه من الشيخ ما لا يعلمه الا الله، وكان ظنهم أنهم اذا تكلموا معه في هذا الكتاب أظهروا أنه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة وأوردوا ثلاثة أسئلة في ثلاث مواضع وهي تسميتها باعتقاد أهل الفرقة الناجية؛ وقول استوى حقيقة؛ وقول فوق السموات‏.‏
فقال الشيخ للكاتب الذي أقعده نائب السلطان وهو الشيخ كمال الدين بن الزملكاني اكتب جوابها  وكان المجلس قد طال من الضحى إلى قريب العصر  فأشاروا بتأخير ذلك إلى مجلس ثان وهو يوم الجمعة ثانى عشر رجب، فاجتمعوا هم وحضر معهم الصفي الهندي، وحضرت أنا المجلس الثاني وما علمت بالمجلس الأول حين حضروا وقد كانوا بحثوا في تلك الآيام بالفصوص وطالعوه واتفقوا على أنهم لا يبقوا ممكنا، فلما حضرت بعد صلاة الجمعة واستقر المجلس أثنى الناس على الصفي الهندي وقال جماعة منهم هو شيخ الجماعة وكبيرهم في هذا وعليه اشتغل الناس في هذا الفن واتفقوا على أنه يتكلم مع الشيخ وحده فإذا فرغ تكلم واحد بعد واحد‏.‏

 

ص -204-

فخطب الشيخ فحمد الله وأثنى عليه بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه ثم قال‏:‏ إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والإئتلاف ونهي عن الفرقة والاختلاف، وربنا واحد ورسولنا واحد وكتابنا واحد وديننا واحد، وأصول الدين ليس بين السلف وأئمة الإسلام فيها خلاف، ولا يحل فيها الافتراق لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏‏.‏ وهذا الباب قد تنازع الناس فيه ويقول هذا أنا حنبلي ويقول هذا أنا أشعري، وقد أحضرت كتب الأشعري وكتب أكابر أصحابه مثل كتب أبي بكر بن الباقلاني، وأحضرت أيضًا من نقل مذاهب السلف من المالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث وشيوخ الصوفية وأنهم كلهم متفقون على اعتقاد واحد وكذلك أحضر نقل شيوخ أصحاب أبي حنيفة مثل محمد بن الحسن والطحاوي وما ذكروه من الصفات وغيرها في أصول الدين، وقرأ فصل مما ذكره الحافظ ابن عساكر في كتابه ‏[‏الإبانة‏]‏ وأنه يقول بقول الإمام أحمد، وأحضر كتاب التمهيد للقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأحضر النقول عن مالك وأكابر أصحابه مثل ابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وغيرهما من كبار أصحاب مالك بتصريحهم أن الله مستو بذاته على العرش، وقال‏:‏ أما الذي أذكره فهو مذهب السلف وأحضر ألفاظهم وألفاظ من

 

ص -205-

نقل مذاهبهم من الطوائف الأربعة وأهل الحديث والمتكلمين والصوفية، وأذكر موافقة ذلك من الكتاب والسنة، وأنه ليس في ذلك ما ينفيه العقل، وإن كان الله تعالى يجمع قلوب الجماعة على ذلك فالحمد لله رب العالمين وان خالف مخالف لذلك كان في كلام الآخر ما أقوله وأكشف الأسرار وأهتك الأستار وأبين ما يحتاج إليه بيانه واجتمع بالسلطان، وأقول له كلاما آخر وكان يومًا عظيمًا مشهودًا بين فيه للحاضرين من البحث والنقل أمر عظيم وبحث عن أشياء خارجة عن العقيدة الواسطية لما أحضر لهم جوابه في مسألة القرآن ومسألة الاستواء لما سئل عنها قديما من نحو اثني عشر سنة، وقرأ عليهم من ذلك الجواب، وسألوه عن ألفاظ في المسألة الحموية وأوردوا عليه جميع ما في أنفسهم من الأجوبة وقالوا هذا سؤالنا وما بقي في أنفسنا شيء، فلما أجاب الشيخ عن أسئلتهم وافقوه وانفصل المجلس على ذلك، وكان قال لهم كل من خالف شيئًا مما قلته فليكتب بخطه خلافه ولينقل فيما خالف في ذلك عن السلف أو يكتب كل شخص عقيدة وتعرض هذه العقائد على ولاة الأمور ويعرف أيها الموافق للكتاب والسنة، وقال أيضًا‏:‏ من جاء بحرف واحد عن السلف بخلاف ما ذكرت فأنا أصير إليه وأنا أحضر نقل جميع الطوائف أنهم ذكروا مذهب السلف كما وضعته، وأنا موافق السلف

 

ص -206-

ومناظر على ذلك، وجميع أئمة الطوائف من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث والصوفية موافقون ما أقوله‏.‏
وسألوه عن الظاهر، هل هو موافق‏؟‏ أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ هذا ليس في العقيدة وأنا أتبرع بالجواب عن أكثر من حكى مذهب السلف كالخطابي وأبي بكر الخطيب والبغوي وأبي بكر وأبي القاسم التميمي وأبي الحسن الأشعري وابن الباقلاني وأبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر والقاضي أبي يعلى والسيف الآمدي وغيرهم في نفي الكيفية والتشبيه عنها، وأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات يحتذي فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وقد نقل طائفة أن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد، قال‏:‏ والجمع بين النقلين أن الظاهر لفظ مشترك، فالظاهر الذي لا يليق إلا بالمخلوق غير مراد، وأما الظاهر اللائق بجلال الله تعالى وعظمته فهو مراد أنه هو المراد في أسماء الله تعالى وصفاته مثل الحي والعليم والقدير والسميع والبصير وجرت بحوث دقيقة لا يفهمها إلا قليل من الناس.
 وبين أن الله تعالى فوق عرشه على الوجه الذي يليق بجلاله، ولا أقول

 

ص -207-

فوقه كالمخلوق على المخلوق كما تقوله المشبهة، ولا يقال أنه لا فوق السموات ولا على العرش رب كما تقوله المعطلة الجهمية، بل يقال أنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه‏.‏
وتكلم على لفظ الجهة وأنه معنى مشترك، وعلى لفظ الحقيقة‏.
وسئل عن مسألة القرآن والصوت
فأجاب بالتفصيل، وكان أجاب به قديمًا فقال‏:‏ من قال‏:‏ إن صوت العبد بالقرآن ومداد المصحف قديم فهو مخطئ ضال، ولم يقل بهذا أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد ولا غيرهم، وما نقل عنهم أنهم يقولون ليس القرآن إلا الصوت المسموع من القارئ والمداد الذي في المصحف وهو مع ذلك قديم فهذا كذب مفترى‏.‏
ما قاله أحمد وأحضر نصوص الإمام أحمد وأصحابه وأصحاب مالك والشافعي والأشعري وغيرهم‏:‏ أن من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع فكيف بمن يقول صوتي به غير مخلوق‏!‏‏!‏ أو يقول صوتي به قديم‏!‏ وحرر الكلام فيها، وأن إطلاق القول بنفي الحرف بدعة لم يتلكم به الإمام أحمد ولا غيره من الأئمة المتبوعين، بل مذهب السلف أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه والكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا وأن الله تكلم بصوت وذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي في الصحيحين، فأخذ نائب

 

ص -208-

المالكي يقول‏:‏ أنت تقول إن الله ينادي بصوت‏؟‏ فقال له الشيخ‏:‏ هكذا قال نبيك إن كنت مؤمنا به وهكذا قال محمد بن عبدالله إن كان رسولا عندك، وجعل نائب السلطان كلما ذكر حديثا وعزاه إلى الصحيحين يقول لهم‏:‏ هكذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ فمن قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء يقال له‏؟‏‏!‏ وقال له كل شيء قلته من عندك قلته، فقال‏:‏ بل أنقله جميعا عن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وأبين أن طوائف الإسلام تنقله عن السلف كما نقلته، وأن أئمة الإسلام عليه وأنا أناظر عليه وأعلم كل من يخالفني بمذهبه‏.‏ وانزعج الشيخ انزاعاجا عظيما على نائب المالكي والصفي الهندي، وأسكتهما سكوتًا لم يتكلما بعده بما يذكر، وجزئيات الأمور لا يتسع لها هذا الورق، وبعد المجلس حمل بعض الشافعية النقل من تفسير القرطبي بأن السلف لم ينكر أحد منهم أن الله تعالى استوى على العرش حقيقة وأنهم لا يقولون بنفي ولا ينطقون إلا بما أخبرت به رسله، وخص العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات وإنما جهلوا كيفية الاستواء وأنه لا تعلم حقيقته كما قال مالك رحمه الله‏:‏ الاستواء معلوم  يعني في اللغة  والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، فقال المالكي‏:‏ ما كنا نعرف هذا‏.‏

 

ص -209-

وبعد المجلس حصل من ابن الوكيل وغيره من الكذب والأختلاق والتناقض بما عليه الحال ما لا يوصف، فجميع ما يرد اليك مما يناقض ما ذكرت من الأكإذيب والأختلاقات فتعلم ذلك، ولم ندر إلى الأن كيف وقع الأمر في مصر إلا ما في كتاب السلطان‏:‏ أنه بلغنا أن الشيخ فلانا كتب عقيدة يدعو إليها وأن بعض الناس أنكرها فليعقد له مجلس لذلك، ولتطالع ما يقع، وتكشف أنت ذلك كشفا شافيا، وتعرفنا به والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى الشيخ الإمام الكبير العالم الفاضل قرة العين عز الدين أفضل السلام وكذلك كل فرد من الأهل والأصحاب والمعارف والسلام

 

ص -210-

 في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن:

قال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة‏:‏
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وآله وسلم تسليما أما بعد‏:‏
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر

 

ص -211-

والإيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى ‏{الم‏.‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ‏.‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ‏.‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى‏:‏ ‏{قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏ وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏11‏]‏،

 

ص -212-

وقال تعالى‏:‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد 31‏]‏
وأخبر  سبحانه  أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال‏:‏
‏{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏45‏]‏‏.‏
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144-148‏]‏‏.‏
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"
‏لايقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له‏.‏ إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء

 

ص -213-

فَصَبر كان خيرًا له‏"‏‏.‏ والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه‏.‏
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان‏.‏
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله‏.‏
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين‏.‏
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور‏.‏ وشأن هذه ‏[‏القضية‏]‏ وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت‏:‏ هذه ‏[‏القضية‏]‏ ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين‏.‏ ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان‏.‏

 

ص -214-

نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له‏:‏ الضرر في هذه ‏[‏القضية‏]‏ ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم‏.‏
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال‏:‏ يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا‏؟‏ فقلت‏:‏ وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح‏.‏
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف  إن شاء الله  ينكشف الأمر‏.‏
قلت له‏:‏ وإلا فأنا على أي شيء أخاف‏!‏ إن قتلت كنت من أفضل الشهداء‏!‏ وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة‏!‏ وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة‏!‏ ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت

 

ص -215-

لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه‏!‏ لا أقطاعي ‏!‏ ولا مدرستي‏!‏ ولا مالي‏!‏ ولا رياستي وجاهي‏.‏
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة‏.‏
وقلت‏:‏ هؤلاء الذين بمصر من الأمراء، والقضاة، والمشائخ، إخواني وأصحابي، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسنًا إليهم، فأي شيء بيني وبينهم‏؟‏‏!‏ ولكن لَبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام‏.‏ وأنا أقول لكم - لكن لم يتفق أني قلت هذا له‏:‏ إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين ويطيعهم، وإن لم يكن منافقًا، كما قال تعالى‏:
‏{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{ولا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ إذاهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏
والنفاق له شعب ودعائم، كما أن للإيمان شعبًا ودعائم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏"‏‏.‏ وفيهما أيضا أنه قال‏:‏ ‏"‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، وإذا اؤتمن خان‏"‏ ‏.‏

 

ص -216-

وقلت له‏:‏ هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتر‏.‏ فقال‏:‏ إلى بلاد التتر‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم إلى أمور أخرى لا يصلح أن إذكرها لك‏.‏
وكان قد قال لي‏:‏ فأنت تخالف المذاهب الأربعة، وذكر حكم القضاة الأربعة، فقلت له‏:‏ بل الذي قلته عليه الأئمة الأربعة المذاهب، وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتابًا، من كتب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأهل الحديث‏.‏ والمتكلمين، والصوفية، كلها توافق ما قلته بألفاظه، وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها‏.‏
ولم يستطع المنازعون  مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه  أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه، وكان لما أعطاني الدرج‏.‏ فتأملته فقلت له‏:‏ هذا كله كذب؛ إلا كلمة واحدة، وهي أنه استوى على العرش حقيقة، لكن بلا تكييف، ولا تشبيه‏.‏ قلت‏:‏ وهذا هو في ‏[‏العقيدة‏]‏ بهذا اللفظ‏:‏ بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل‏.‏ فقال‏:‏ فاكتب خطك بهذا‏.‏ قلت‏:‏ هذا مكتوب قبل ذلك في ‏[‏العقيدة‏]‏ ولم أقل بما يناقضه فأي فائدة في تجديد الخط‏؟‏‏!‏‏.‏
وقلت‏:‏ هذا اللفظ قد حكى إجماع أهل السنة والجماعة عليه غير واحد من العلماء، المالكية، والشافعية، وأهل الحديث، وغيرهم، وما في علماء الإسلام من ينكر ذلك، إلا هؤلاء الخصوم‏.‏

 

ص -217-

قلت‏:‏ فإن هؤلاء يقولون‏:‏ ما فوق العرش رب يُدْعى، ولا فوق السماء إله يُعْبَد، وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، ولكن صعد إلى السماء، ونزل‏.‏ وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة‏!‏ ويقول‏:‏ إن الله حالٌّ في ذلك‏.‏
فاستعظم ذلك، وهاله أن أحدًا يقول هذا‏.‏ فقال‏:‏ هؤلاء يعني‏؟‏ ابن مخلوف وذويه‏.‏ ففلت‏:‏ هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم‏.‏
وجعل الرجل في أثناء الكلام يصغى لما أقوله، ويعيه، لما رأى غضبي؛ ولهذا بلغني من غير وجه أنه خرج فرحًا مسرورًا بما سمعه مني‏.‏ وقال‏:‏ هذا على الحق، وهؤلاء قد ضيعوا الله، وإلا فأين هو الله‏؟‏‏!‏ وهكذا يقول كل ذي فطرة سليمة‏.‏ كما قاله جمال الدين الأخرم للملك الكامل لما خاطبه الملك الكامل في أمر هؤلاء، فقال له الأخرم‏:‏ هؤلاء قد ضيعوا إلهك، فاطلب لك إلهًا تعبده‏.‏
ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصيرحقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وإنما ينكر ذلك

 

ص -218-

الفلاسفة الباطنية‏.‏ فيقولون‏:‏ نطلق عليه هذه الأسماء، ولا نقول‏:‏ إنها حقيقة‏.‏ وغرضهم بذلك جواز نفيها، فإنهم يقولون‏:‏ لا حي حقيقة، ولا ميت حقيقة، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا سميع ولا أصم‏.‏
فإذا قالوا‏:‏ إن هذه الأسماء مجاز، أمكنهم نفي ذلك؛ لأن علامة المجاز صحة نفيه‏.‏ فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه، فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة، فإنه يقول‏:‏ ليس الرحمن على العرش استوى، كما أن من قال‏:‏ إن لفظ الأسد للرجل الشجاع، والحمار للبليد ليس بحقيقة، فإنه يلزمه صحة نفيه‏.‏ فيقول‏:‏ هذا ليس بأسد، ولا بحمار، ولكنه آدمي‏.‏
وهؤلاء يقولون لهم‏:‏ لا يستوى الله على العرش‏.‏ كقول إخوانهم‏:‏ ليس هو بسميع ولا بصير، ولا متكلم؛ لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز‏.‏ فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله  سبحانه  يقابلونه بالنفي والرد، كما يقابله المشركون بالتكذيب، لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقًا‏.‏
وقال الطلمنكي ‏[‏هو أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى المعافري الأندلسي، صنف كتبًا كثيرة في السنة، وكان سيفًا مجردًا على أهل الأهواء والبدع، توفي سنة 924ه‏]‏  أحد أئمة المالكية  قبل ابن عبد البر، والباجي، وطبقتهما  في ‏[‏كتاب الوصول إلى معرفة الأصول‏]‏‏:‏ أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى
‏{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، ونحو ذلك من القرآن‏:‏ أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستو على العرش كيف شاء‏.‏
وقال  أيضًا‏:‏ قال أهل السنة في قول الله تعالى‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏:‏

 

ص -219-

إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة، لا على المجاز‏.‏ وقال ابن عبد البر في ‏[‏التمهيد‏]‏  شرح الموطأ، وهو أشرف كتاب صنف في فنه  لما تكلم على حديث النزول قال‏:‏ هذا حديث ثابت لا يختلف أهل الحديث في صحته‏.‏ وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم‏:‏ إنه في كل مكان، وليس على العرش‏.‏
قال‏:‏ والدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله تعالى‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏ وذكر آيات‏.‏
إلى أن قال‏:‏ وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم‏.‏
وهذا مثل ما ذكر محمد بن طاهر عن أبي جعفر الهمداني‏:‏ أنه حضر مجلس بعض المتكلمين فقال‏:‏ ‏[‏كان الله ولا عرش‏]‏ فقال‏:‏ يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش‏.‏ أخبرنا عن هذه الضرورات التي نجدها في قلوبنا‏:‏ ما قال عارف قط يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يُمْنة ولا يسْرَةً‏.‏ فضرب بيده على رأسه وقال‏:‏ حيرني الهمداني، حيرني الهمداني‏.‏ أراد الشيخ أن إقرار

 

ص -220-

الفطر بأن معبودها، ومدعوها فوق، هو أمر ضروري، عقلي، فطري، لم تستفده من مجرد السمع، بخلاف الاستواء على العرش  بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام  فإن هذا علم من جهة السمع‏.‏
ولهذا لا تعرف أيام الأسبوع إلا من جهة المقرين بالنبوات، فأما من لا يعرف ذلك كالترك المشركين، فليس في لغتهم أسماء أيام الأسبوع‏.‏ وهذا من حكمة اجتماع أهل كل ملة في يوم واحد في الأسبوع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى‏"‏‏.‏ وبسط ابن عبد البر الكلام في ذلك‏.‏
إلى أن قال‏:‏ وأما احتجاجهم بقوله تعالى‏:‏ ‏
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏، فلا حجة فيه لهم؛ لأن علماء الصحابة، والتابعين قالوا في تأويل هذه الأية‏:‏ هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله‏.‏
قال أبو عمر‏:‏ أهل السنة مجمعون على الأقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا، ولا يحدون فيه صفة محصورة‏.‏ وأما أهل البدع  الجهمية والمعتزلة والخوارج  فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم  عند من أقرَّ بها  نافون للمعبود، والحق ما نطق به كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة‏.‏

 

ص -221-

وقال  أيضًا‏:‏ الذي عليه أهل السنة، وأئمة الفقه، والأثر، في هذه المسألة وما أشبهها‏:‏ الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتصديق بذلك، وترك التحديد، والكيفية في شيء منه‏.‏
وقال السجزي في ‏[‏الإبانة‏]‏‏:‏ وأئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله  سبحانه  بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء‏.‏
وقال الشيخ عبد القادر في ‏[‏الغنية‏]‏‏:‏ أما معرفة الصانع بالآيات، والدلالات  على وجه الأختصار  فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد صمد، إلى أن قال‏:‏ وهو بجهة العلو، مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء‏.‏ قال‏:‏ ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال‏:‏ إنه في السماء على العرش، إلى أن قال‏:‏ وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش‏.‏ قال‏:‏ وكونه على العرش في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا تكييف‏.‏
وذكر الشيخ نصر المقدسي في ‏[‏كتاب الحجة‏]‏ عن ابن أبي حاتم قال‏:‏ سألت أبي وأبا زُرْعَةَ عن مذاهب أهل السنة‏؟‏ فقالأ‏:‏ أدركنا العلماء في جميع

 

ص -222-

الأمصار، حجازًا، وعراقًا، ومصر، وشامًا ويمنًا؛ فكان من مذاهبهم‏:‏ أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص والقرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، بجميع جهاته، إلى أن قال‏:‏ وإن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا‏.‏
وقال الشيخ نصر في أثناء الكتاب‏:‏ إن قال قائل‏:‏ قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء فإذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه‏.‏
فالجواب‏:‏ أن الذي أدركنا عليه أهل العلم، ومن بلغني قوله من غيرهم‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر جمل ‏[‏اعتقاد أهل السنة‏]‏ وفيه‏:‏ وأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه‏.‏ كما قال في كتابه‏.‏
وقال أبو الحسن الكجي الشافعي في ‏[‏قصيدته المشهورة في السنة‏]‏‏:‏

 عقيدتهم أن الإله بذاته

 على عرشه مع علمه بالغوائب

وقال القرطبي - صاحب التفسير الكبير  في قوله تعالى‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏‏.‏ قال‏:‏ هذه ‏[‏مسألة الاستواء‏]‏ وللعلماء فيها كلام‏.‏ فذكر قول المتكلمين‏.‏ ثم قال‏:‏ كان السلف الأول لا يقولون‏:‏ بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك‏.‏ بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله؛ كما نطق به كتابه، وأخبرت

 

ص -223-

به رسله‏.‏ قال‏:‏ ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة؛ وإنما جهلوا كيفية الاستواء‏.‏ فإنه لا تعلم حقيقته‏.‏
ثم قال  بعد أن حكى أربعة عشر قولاً‏:‏ وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي، والأخبار، والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه‏.‏ هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله الثقات عنهم‏.‏
ولما اجتمعنا بدمشق، وأحضر فيمن أحضر كتب أبي الحسن الأشعري‏:‏ مثل ‏[‏المقالات‏]‏، و‏[‏الإبانة‏]‏ وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر، وابن فُورَك، والبيهقي، وغيرهم‏.‏ وأحضر كتاب ‏[‏الإبانة‏]‏، وما ذكر ابن عساكر في كتاب ‏[‏تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري‏]‏ وقد نقله بخطه أبو زكريا النووي‏.‏
وقال فيه‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة‏:‏ فعرفونا قولكم الذي به تقولون‏.‏
قيل له‏:‏ قولنا‏:‏ التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث‏.‏ ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل  نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته  قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين‏.‏

 

ص -224-

وذكر الاعتقاد الذي ذكره في ‏[‏المقالات‏]‏ عن أهل السنة ثم احتج على أبواب الأصول مثل‏:‏ ‏[‏مسألة القرآن‏]‏، و‏[‏الرؤية‏]‏ و‏[‏الصفات‏]‏ ثم قال‏:‏
[‏باب ذكر الاستواء‏]‏
فإن قال قائل‏:‏ ما تقولون في الاستواء ‏؟‏ قيل بأن الله مستو على عرشه‏.‏ كما قال سبحانه‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏} ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏، وقال فرعون‏:‏ ‏{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَإذبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏36  37‏]‏
كذَّب موسى في قوله‏:‏ إن الله فوق السموات‏.‏
وقال‏:‏
‏{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، والسموات فوقها العرش، وإنما أراد العرش الذي هو على السموات، ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال‏:‏ ‏{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا‏} ‏[‏نوح‏:‏ 16‏]‏ لم يرد أن القمر يملأهن جميعًا، وأنه فيهن جميعًا‏.‏ ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو العرش‏.‏
قال‏:‏ وقد قال قائلون من المعتزلة، والجهمية، والحرورية‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ ‏
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ أي‏:‏ استولى، وملك، وقهر، والله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قاله أهل الحق‏.‏ قال‏:‏ ولو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة السفلى؛ لأن الله قادر على كل شيء، وقدر ذلك‏.‏

 

ص -225-

وساق الكلام إلى أن قال‏:‏ ومما يؤكد لكم أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها، ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏"‏ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول‏:‏ هل من سائل فأعطيه‏؟‏ هل من مستغفر فأغفر له‏؟‏ حتى يطلع الفجر‏"‏ ثم ذكر الأحاديث‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏ قال‏:‏ وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء‏.‏ وذكر دلائل‏.‏ إلى أن قال‏:‏ كل ذلك يدل على أن الله ليس في خلقه ولا خلقه فيه، وأنه عز وجل مستو على عرشه جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏ جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم له حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية؛ إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم على النفي في التأويل، يريدون بذلك  فيما زعموا  التنزيه، ونفي التشبيه‏.‏ فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي، والتعطيل‏.‏  وهذا باب واسع لا يحصر فيه كلام العلماء من جميع الطوائف، وما في ذلك من الدلائل العقلية والنقلية، وما يعارض ذلك أيضًا من حجج النفاة، والجواب عنها‏.‏
وقد كتبت في هذا ما يجىء عدة مجلدات، وذكرت فيها مقالأت الطوائف جميعها، وحججها الشرعية والعقلية، واستوعبت ما ذكره الرازي في كتاب ‏[‏تأسيس التقديس‏]‏ و‏[‏نهاية العقول‏]‏ وغير ذلك، حتى أتيت على مذاهب

 

ص -226-

الفلاسفة المشائين أصحاب أرسطو، وغير المشائين متقدميهم ومتأخريهم، كأفضل متأخريهم ‏[‏ابن سينا‏]‏ وأوحدهم في زمانه ‏[‏أبي البركات‏]‏ وذكرت حججهم‏.‏
فإني أعلم أن هذا الباب قد كثر فيه الاضطراب، وحار فيه طوائف من الفضلاء الإذكياء؛ لتعارض الأدلة عندهم‏.‏ وقررت الأدلة اللفظية الصحيحة، وميزت بينها وبين الشبهات الفاسدة، مع ما يجيء في ضمن ذلك من أصول عظيمة وقواعد جسيمة‏.‏
من أولها  وهو من أجل الأمور عند كثير من الناس  من تقرير استدارة الأفلاك‏.‏ فإني قررت ذلك، وذكرت كلام من ذكر إجماع المسلمين على ذلك، مثل ابن المنادي، وابن حزم، وابن الجوزي، وما يتعلق بذلك من الأمور الحسابية السمعية من الكتاب والسنة، إلى أمثال ذلك مما يطول وصفه‏.‏
وأيضًا، لما كنت في البرج ذكر لي أن بعض الناس علق مؤاخذة على الفتيا ‏[‏الحموية‏]‏ وأرسلت إلى، وقد كتبت فيما بلغ مجلدات، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة‏.‏ وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين، وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنا به من الأعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين

 

ص -227-


إلى الإمام أحمد  رحمه الله  ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه‏.‏
وكما قال أبو إسحاق الشيرازي ‏[‏هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، ولد سنة 393ه، له تصانيف كثيرة، منها‏:‏ ‏[‏التنبيه‏]‏ و‏[‏اللمع‏]‏ وغيرهما، توفي سنة 674ه‏]‏‏:‏ إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة، وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز، وأبي الحسن التميمي، ونحوهما، يذكرون كلامه في كتبهم، بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين، لكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله، وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها، فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب، كان أعلم بالمعقول والمنقول‏.‏
وكنت أقرر هذا للحنبلية، وأبين أن الأشعري، وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب‏.‏ فإنه كان تلميذ الجبائي، ومال إلى طريقة ابن كلاب، وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورًا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم‏.‏
وكذلك ابن عقيل كان تلميذ ابن الوليد وابن التبان المعتزليين ثم تاب من ذلك‏.‏ وتوبته مشهورة بحضرة الشريف أبي جعفر‏.‏ وكما أن في أصحاب أحمد من يبغض ابن عقيل ويذمه، فالذين يذمون الأشعري ليسوا مختصين بأصحاب أحمد، بل في جميع الطوائف من هو كذلك‏.‏
ولما أظهرت كلام الأشعري  ورآه الحنبلية  قالوا‏:‏ هذا خير من

 

ص -228-

كلام الشيخ الموفق، وفرح المسلمون باتفاق الكلمة‏.‏ وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة، ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم‏.‏
مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحدًا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا إذكره في كلامي، ولا إذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها‏.‏ وقد قلت لهم غير مرة‏:‏ أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته فأنا أقر بذلك، وأما ما إذكره فإذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم، وبألفاظ من نقل إجماعهم من عامة الطوائف‏.‏
هذا، مع أني دائمًا  ومن جالسني يعلم ذلك مني  أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية‏.‏
وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية، كما أنكر شريح قراءة من قرأ‏:‏
‏{بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 12‏]‏ وقال‏:‏ إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي

 

ص -229-

فقال‏:‏ إنما شريح شاعر يعجبه علمه‏.‏ كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ‏:‏ ‏{بَلْ عَجِبْتُ‏}‏‏.‏
وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، وقالت‏:‏ من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفريَةَ‏.‏ ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها‏:‏ إنه مفتر على الله‏.‏ وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك‏.‏
وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعًا مؤمنتان؛ وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق‏.‏
وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الأطلاق والتعيين‏.‏ وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة ‏[‏الوعيد‏]‏، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة، كقوله‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏، وكذلك سائر ما ورد‏:‏ من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة‏.‏
وهي بمنزلة قول من قال من السلف‏:‏ من قال كذا، فهو كذا‏.‏ ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة‏.‏

 

ص -230-

والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة‏.‏ وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا‏.‏
وكنت دائمًا إذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال‏:‏ إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني‏.‏ ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين‏.‏ ففعلوا به ذلك، فقال الله له‏:‏ ما حملك على ما فعلت‏؟‏ قال‏:‏ خشيتك فغفر له‏.‏
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرىَ، بل اعتقد أنه لا يعاد‏.‏ وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك‏.‏
والمتأول من أهل الأجتهاد، الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا‏.‏

 

ص -231-

فصل
ما ذكرتم من لين الكلام، والمخاطبة بالتي هي أحسن، فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالًا لهذا، لكن كل شيء في موضعه حسن، وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة، فنحن مأمورون بمقابلته، لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن‏.‏ ومن المعلوم أن الله تعالى يقول‏:‏
‏{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏139‏]‏ فمن كان مؤمنًا فإنه الأعلى بنص القرآن‏.‏
وقال‏:‏
‏{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ‏.‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي‏}‏ ‏[‏المجادلة20‏:‏ 21‏]‏ والله محقق وعده لمن هو كذلك كائنًا من كان‏.‏
ومما يجب أن يعلم‏:‏ أنه لا يسوغ في العقل ولا الدين طلب رضا المخلوقين لوجهين ‏[‏في المطبوعة  لوجين  والصواب ما أثبتناه‏]‏‏:‏
أحدهما‏:‏ أن هذا غير ممكن، كما قال الشافعي  رضي الله عنه‏:‏ الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه ولا تعانه‏.‏
والثاني‏:‏ أنا مأمورون بأن نتحرى رضا الله ورسوله، كما قال تعالى‏:‏

 

ص -232-

{وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏، وعلينا أن نخاف الله فلا نخاف أحدًا إلا الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏]‏، ‏{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فعلينا أن نخاف الله، ونتقيه في الناس، فلا نظلمهم بقلوبنا، ولا جوارحنا، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا وجوارحنا، ولا نخافهم في الله فنترك ما أمر الله به ورسوله خيفة منهم‏.‏
ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له كما كتبت عائشة إلى معاوية‏:‏ أما بعد‏:‏ فإنه من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، وعاد حامده من الناس ذامًا‏.‏ ومن التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه، وأرضى عنه الناس‏.‏
فالمؤمن لا تكون فكرته وقصده إلا رضا ربه، واجتناب سخطه والعاقبة له، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
هذا مع أن المرسل فرح بهذه الأمور جُوَّانيه في الباطن، وكل ما يظهره فإنه مراءاة لقرينه، وإلا فهما في الباطن متباينان‏.‏ وثم أمور تعرفها خاصتهم، ويكفيك الطيبرسي قد تواتر عنه الفرح والاستبشار بما جرى مع أنه المخاصم، المغلظ عليه‏.‏
وهذا  سواء كان أو لم يكن  الأصل الذي يجب اتباعه هو الأول وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏لا تبدؤوهم بقتال، وإن أكثبوكم فارموهم بالنبل‏"‏‏.‏ على الرأس والعين، ولم نرم إلا بعد أن قصدوا شرنا وبعد أن أكثبونا ؛ ولهذا نفع الله بذلك‏.‏

 

ص -233-

فصل
‏[‏ذكرتم من أني أطلب تفويض الحكم إلى شخص معين‏]‏‏.‏فهذا لا يصلح، بل فيه ضرر على ذلك الشخص، وعلى، وفساد عام‏.‏ وذلك أنكم تعلمون أن القاضي ‏[‏بدر الدين‏]‏ أني كنت من أعظم الناس موالاة له، ومناصرة، ومعاونة له ومدافعه لأعدائه عنه في أمور متعددة، بل ما أعلم أحدًا أكثر في مخالصة له ومعاونة‏.‏ وذلك لله وحده‏.‏ لا لرغبة، ولا لرهبة مني‏.‏  وقطعة قوية مما حصل لي من الأذى  بدمشق وبمصر أيضًا  إنما هو بسبب انتصاري له، ولنوابه، مثل الزرعي، والتبريزي، وغيرهما من حاشيته، وتنويهي بمحاسنه في مصر أيضًا، قد عرفت بذلك فإنه حزب الردى، وغيره يعادوني على ذلك‏.‏
والله يعلم أن منزلته عندي، ومكانته من قبلي، ليست قريبة من منزلة غيره‏.‏ فضلا عن أن تكون مثلها‏.‏ وحاشا لله أن يشبه بدر الدين بمن فرق الله بينه وبينه من وجوه كثيرة زائدة‏.‏ وفي سنن أبي داود عن عائشة قالت‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم

 

ص -234-

وعندي من أظلم الناس من يقرن بينه وبين غيره في مرتبة واحدة بالشام، أو بمصر وما زال بدر الدين مظلومًا بمثل هذا من الأقران، وأنا أعتقد من أعظم ما أتقرب به إلى الله نصره، وموالاته، ومعاونته‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ أنتم تعرفون في هذا خصوصًا بهذه الديار فإنه ينبغي أن تكون معاونةٌ له ومناصرةٌ له أكثر مما كانت بالشام؛ لأن في كثير من هؤلاء من النفرة عنه، والكذب والفجور ما ليس في غيرهم‏.‏
فأنا أحب وأختار كل ما فيه علو قدره في الدنيا والدين، ولا أحب أن أجعله غرضًا لسهم الأعداء، بل ما عملت معه، ومع غيره، وما أعمل معهم فأجرى فيه على الله الذي يقول‏:‏ ‏
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
ولهذا لما ذكر الطيبرسي القضاة وأجملهم، قلت له‏:‏ إنما دخل في هذه القضية ‏[‏ابن مخلوف‏]‏ وذاك رجل كذاب فاجر قليل العلم والدين‏.‏ فجعل يتبسم لما جعلت أقول هذا، كأنه يعرفه، وكأنه مشهور بقبح السيرة‏.‏
وقلت‏:‏ ما لابن مخلوف والدخول في هذا‏؟‏ هل ادعى أحد عليَّ دعوى مما يحكم به‏؟‏ أم هذا الذي تكلمت فيه هو من أمر العلم العام‏؟‏ مثل تفسير القرآن، ومعاني الأحاديث، والكلام في الفقه، وأصول الدين‏.‏ وهذه المرجع فيها

 

ص -235-

إلى من كان من أهل العلم بها، والتقوى لله فيها، وإن كان السلطان والحاكم من أهل ذلك تكلم فيها من هذه الجهة، وإذ عزل الحاكم لم ينعزل ما يستحقه من ذلك، كالإفتاء ونحوه، ولم يقيد الكلام في ذلك بالولاية‏.‏
وإن كان السلطان والحاكم ليس من أهل العلم بذلك ولا التقوى فيه لم يحل له الكلام فيه، فضلًا عن أن يكون حاكمًا‏.‏ وابن مخلوف ليس من أهل العلم بذلك ولا التقوى فيه‏.‏
قلت‏:‏ فأما القاضي بدر الدين فحاشا لله، ذاك فيه من الفضيلة والديانة ما يمنعه أن يدخل في هذا الحكم المخالف لإجماع المسلمين من بضعة وعشرين وجهًا‏.‏
قلت‏:‏ ومن أصر على أن هذا الحكم الذي حكم به ابن مخلوف هو حكم شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فهو بعد قيام الحجة عليه كافر‏.‏ فإن صبيان المسلمين يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا الحكم لا يرضى به اليهود، ولا النصارى، فضلا عن المسلمين‏!‏‏.‏
وذكرت له بعض الوجوه الذي يعلم بها فساد هذا الحكم، وهي مكتوبة مع ‏[‏الشرف محمد‏]‏‏.‏ وكذلك نزهت القاضي ‏[‏شمس الدين السروجي‏]‏ عن الدخول في مثل هذا الحكم‏.‏
وقلت له‏:‏ أنتم ما كان مقصودكم الحكم الشرعي، وإنما كان مقصودكم دفع

 

ص -236-

ما سمعتموه من تهمة الملك، ولما علمت الحكام أن في القضية أمر الملك أحجموا وخافوا من الكلام، خوفًا يعذرهم الله فيه، أو لا يعذرهم‏.‏ لكن لولا هذا لتكلموا بأشياء، ولو كان هذا الحكم شاذًا أو فيه غرض لذي سيف لكان عجائب‏.‏
فقالوا‏:‏ يا مولانا، من يتكلم في أمر الملك‏؟‏ نحن ما نتكلم‏.‏ دعنا من الكلام في الملك‏.‏ فقلت‏:‏ أيها النائم، أخليكم من الملك‏؟‏‏!‏ وهذه الفتنة التي قد ملأتم بها الدنيا هل أثارها إلا ذلك‏؟‏‏!‏ ونحن قد سمعنا هذا بدمشق، لكن ما اعتقدنا أن عاقلًا يصدق بذلك‏.‏
وهؤلاء القوم بعد أن خرج من أنفسهم تهمة الملك إذا ذكر لهم بعض ما يقوله المنازعون لي يستعظمونه جدًا ويرون مقابلة قائلها بأعظم العقوبة، فإن الله سبحانه يقول‏:‏ ‏
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏28‏]‏ فيعلم أني لو أطلب هذا ذهبت الطيور بي، وببدر الدين كل مذهب، وقيل‏:‏ إن بيننا في الباطن اتفاقات‏.‏ فأنا أعمل معه ما أرجو جزاءه من الله، وهو يعمل بموجب دينه‏.‏
وأيضًا، ف ‏[‏بدر الدين‏]‏ لا يحتمل من كلام الناس وأذاهم  مايفعله مثل هؤلاء  رجل له منصب، وله أعداء وأنا  ولا حول ولا قوة إلا بالله  فقد فعلوا غاية ما قدروا عليه، وما بقي إلا نصر الله الذي وعد به رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏

 

ص -237-

وأيضًا، فيعلم أن هذا إما أن يتعلق بالحاكم أولا فإن تعلق به لم يكن للخصم المدعى عليه أن يختار حكم حاكم معين، بل يجب إلى من يحكم بالعلم والعدل، وإن لم يتعلق بالحاكم فذاك أبعد‏.‏
وأيضًا، فأنا لم يدع على دعوى يختص بها الحاكم من الحدود والحقوق، مثل‏:‏ قتل، أو قذف، أو مال، ونحوه، بل في مسائل العلم الكلية‏:‏ مثل التفسير، والحديث، والفقه، وغير ذلك‏.‏ وهذا فيه ما اتفقت عليه الأمة وفيه ما تنازعت فيه، والأمة إذا تنازعت  في معنى آية، أو حديث، أو حكم خبري، أو طلبي  لم يكن صحة أحد القولين، وفساد الآخر ثابتًا بمجرد حكم حاكم، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة‏.‏
ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى
‏{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ هو الحيض والأطهار، ويكون هذا حكمًا يلزم جميع الناس قوله، أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى‏:‏ ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ هو الوطء، والمباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، أو الأب، والسيد وهذا لا يقوله أحد‏.‏
وكذلك الناس إذا تنازعوا في قوله‏:
‏ ‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ فقال‏:‏هو استواؤه بنفسه وذاته فوق العرش، ومعنى الاستواء معلوم، ولكن كيفيته مجهولة‏.‏ وقال قوم‏:‏ ليس فوق العرش رب، ولا هناك شيء أصلا، ولكن

 

ص -238-

معنى الآية‏:‏ أنه قدر على العرش، ونحو ذلك‏.‏ لم يكن حكم الحاكم لصحة أحد القولين وفساد الآخر مما فيه فائدة‏.‏
ولو كان كذلك لكان من ينصر القول الآخر يحكم بصحته إذ يقول‏:‏ وكذلك باب العبادات، مثل كون مس الذكر ينقض أو لا، وكون العصر يستحب تعجيلها أو تأخيرها، والفجر يقنت فيه دائمًا أو لا، أو يقنت عند النوازل ونحو ذلك‏.‏
والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين‏:‏ إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة؛ لقوله تعالى
‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وإذا تنازعوا فهم كلامهم‏:‏ إن كان ممن يمكنه فهم الحق، فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه، وأن يقر الناس على ما هم عليه، كما يقرهم على مذاهبهم العملية‏.‏
فأما إذا كانت البدعة ظاهرة - تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة - كبدعة الخوارج، والروافض والقدرية والجهمية، فهذه على السلطان إنكارها لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش، والخمر، وترك الصلاة، ونحو ذلك‏.‏
ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة، والأزمنة، حتى

 

ص -239-

يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئًا - عند الجهال - لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء، فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله، وتبيينها حتي تكون العقوبة بعد الحجة‏.‏
وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة، قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏
ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب‏.‏
وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا اذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها، فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواءً وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم‏.‏
نعم الولاية قد تمكنه من قول حق ونشر علم قد كان يعجز عنه بدونها، وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه، نعم للحاكم إثبات ما قاله زيد أو عمرو ثم بعد ذلك إن كان ذلك القول مختصا به كان مما يحكم فيه الحكام؛

 

ص -240-

وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس، فأما كون هذا القول ثابت عند زيد ببينة أو اقرار أو خط فهذا يتعلق بالحكام‏.‏
ولا ريب أن مثل بدر الدين من أعدل الناس وأحبهم في أهل الصدق والعدل؛ ومن أشهد الناس بغضا لشهود الزور ولو كان متمكنًا منهم لعمل أشياء، فهذا لو احتيج فيه إلى مثل بدر الدين لكان هو الحاكم الذي ينبغي أن يتولاه دون من هو مشهور بالفجور‏.‏
لكن هذه المحاضر التي عندهم ما تساوي مدادها وهم يعرفون كذبها وبطلانها وأنا لا أكره المحاقه عليها عنده ليثبت عنده الحق دون الباطل فإن كان يجيب إلى ذلك فيا حبذا، لكني أخاف أن يحصل له أذى في بالقدح في بعض الناس فهو يستخير الله فيما يفعله والله يخير له في جميع الأمور‏.‏
بل أختار أنا وغيرى المحاقة على ذلك عند بعض نوابه كالقاضى جمال الدين الزرعى فإنه من عدول القضاة، وإلا فبدر الدين أجل قدرًا من أن يكلف ذلك لو كنت محتاجًا إلى ذلك فأما والأمر ظهر عند الخاصة والعامة فلا يحتاج اليه كما قلت للطيبرسي الكتاب من السلطان الذي كتب على لسان السلطان وأخبر عن ذلك بجميع ما أخبر من الكذب ومخالفة الشريعة أمور عظيمة بنحو عشرة أوجه‏.‏
والكتاب الذي كتب على لسان غازان كان أقرب إلى الشريعة من هذا الكتاب الذي كتب على لسان السلطان، وسواء

 

ص -241-

بأن فعل ذلك أو لم يفعله فإني أعتقد وأدين الله بأن نصره ومعاونته على البر والتقوى؛ وعلى نفوذ صدقه وعدله دون كذب الغير وظلمه؛ وعلى رفع قدره على الغير من أعظم الواجبات ولا حول ولا قوة الا بالله‏.‏
وقد أرسل الي الشيخ نصر يعرض علي إن كنت أختار إحضار المحاضر لأتمكن من القدح فيها، فقلت له‏:‏ في الجواب هي أحقر وأقل من أن يحتاج دفعها إلى حضورها، فإني قد بينت بضعة وعشرين وجها أن هذا الحاكم خارج عن شريعة الإسلام بإجماع المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم‏.‏

 

ص -242-

فصل
وما ينبغى أن تعلمه أن القوم مستضعفون عن المحاقة إلى الغاية  ابن مخلوف وغيره  وقد أداروا الرأي بينهم وعلموا أنهم عند المحاقة مقهورون متهوكون، والطيرسي طلب مني غير مرة ترك المحاقة فقلت له‏:‏ أنا ما بغيت على أحد ولا قلت لأحد وافقني على اعتقادي وإلا فعلت بك؛ ولا أكرهت أحدا بقول ولا عمل بل ما كتبت في ذلك شيئًا قط إلا أن يكون جواب استفتاء بعد إلحاح السائل واحتراقه وكثرة مراجعته، ولا عادتي مخاطبة في هذا ابتداء‏.‏
وهؤلاء هم الذين دعوا الناس إلى ما دعوهم اليه وأكرهوهم عليه، فيبينون للناس ما الذي أمروهم به وما الذي نهوهم عنه فإن كانوا أمروهم بما أمرهم الله به ورسوله فالسمع والطاعة لله ولرسوله ولمن أمر بما أمر الله به ورسوله؛ وإن كانوا أمروا بحق وباطل ونهوا عن حق وباطل وأمروا ونهوا عن أمور لا يعرفون حقيقتها كانوا بذلك من الجاهلين الظالمين وكان الحاكم بذلك من القاضيين الذين في النار ولم تجز طاعتهم في ذلك بل تحرم‏.‏

 

ص -243-

وأنا لو شئت المحاقة كانت أمور عظيمة لكن من أنكر شيئًا مما قلته فليقل إنى أنكر كذا وكذا ويكتب خطه بما أنكره ويوجه إنكاره له‏.‏
وأنا أكتب خطي بالجواب ويعرض الكلامان على جميع علماء المسلمين شرقًا وغربًا، وأنا قائل ذلك وقد قلت قبل ذلك بدمشق هذه الإنكارات المجملة لا تفيد شيئًا، بل من أنكر شيئًا فليكتب خطه بما أنكره وبحجته، وأنا أكتب خطى بجواب ذلك ويرى أهل العلم والإيمان الكلامين فهذا هو الطريق في الأمور العامة، وأما الألفاظ التي لا تكتب فيكثر فيها التخليط والزيادة والنقصان، كما قد وقع، وقد قلت فيما قلته للطيبرسي‏:‏ هذا الأمر الذي عملتموه
فساد في ملتكم ودولتكم وشريعتكم والكتاب السلطاني الذي كتب على لسان السلطان فيه من الكذب عليكم ومخالفة الشريعة أمور كثيرة تزيد على عشرة أوجه، وكتاب غازان الذي قرئ على منبر الشام أقرب إلى شريعة الإسلام من هذا الذي كتب على لسان سلطان المسلمين وقرئ على منابر الإسلام، فاذ كان بحضورهم يكتب على الكذب عليكم وعلى القضاة ويبدل دين الإسلام فكيف فيما سوى ذلك مما غاب عنكم، وكذلك أرسلت مع الفتاح إلى نائب السلطان أقول هذا الاعتقاد عندكم وهو الذي بحثه علماء الشام فمن كان منكر منه شيئًا فليبينه‏.‏

 

ص -244-

ومما يجب أن يعلم أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن ينكر إلا بحجة وبيان إذ ليس لأحد أن يلزم أحدا بشيء ولا يحظر على أحد شيئًا بلا حجة خاصة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله الذي أوجب على الخلق طاعته فيما أدركته عقولهم وما لم تدركه وخبره مصدق فيما علمناه وما لم نعلمه وأما غيره إذا قال هذا صواب أو خطأ فإن  لم يبين ذلك بما يجب به اتباعه، فأول درجات الإنكار أن يكون المنكر عالما بما ينكره وما يقدر الناس عليه فليس لأحد من خلق الله كائنًا من كان أن يبطل قولا أو يحرم فعلا إلا بسلطان الحجة وإلا كان ممن قال الله فيه‏:‏ ‏{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏، وقال فيه‏:‏ ‏{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏‏.‏
هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ الآية

 

ص -245-

وقال تعالى‏:‏ ‏{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏، وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران120‏]‏‏.‏
وإن أرادوا أن ينكروا بما شاءوا من حجج عقلية أو سمعية فأنا أجيبهم إلى ذلك كله وأبينه بيانا يفهمه الخاص والعام أن الذي أقوله هو الموافق لضرورة العقل والفطرة وأنه الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وأن المخالف لذلك هو المخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، فلو كنت أنا المبتدىء بالإنكار والتحديث بمثل هذا لكانت الحجة متوجهة عليهم، فكيف إذا كان الغير هو المبتدئ بالإنكار‏
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏، الآيتين ‏{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171 173‏]‏ ‏{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏].
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى سائر الجماعة، وتخص بدر الدين بأكرم تحية وسلام وتوقفه على هذه الأوراق إن شئت فإنه كان يقول في بعض الأمور ما عن المحبوب سر محجوب وبشر بكل

 

ص -246-

ما يسر الله به عباده المؤمنين وينتقم به من الكافرين والمنافقين فإني أعرف جملا مما يتجرعه هو وذووه من أهل الترؤس بالباطل من ذوي الكذب والمحال والله ناصر دينه وناصر عباده المؤمنين على مناويهم بالباطل، لكن ليس هذا موضع الأخبار بتفاصيل سارة، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.

 

ص -247-

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى‏ محنة الشيخ في سجنه:
سم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، أما بعد‏:‏
فقد وصلت ورقتك التي ذكرت فيها إخبارك الشيخ باجتماع الرسول بي، وما أخبرته من الكلام وأن الشيخ قال‏:‏ "أعلم أني والله قد عظم عندي كيف وقعت الصورة على هذا إلى آخره، وأنه قال‏:‏ تجتمع بالشيخ وتتفق معه على ما يراه هو ويختاره إن يكن كما قلت، أو غيره فتسلم عليه وتقول له أما هذه القضية ليس لي فيها غرض معين أصلًا ولست فيها إلا واحدًا من المسلمين لي ما لهم وعلي ما عليهم،

 

ص -248-

وليس لي ولله الحمد حاجة إلى شيء معين يطلب من المخلوق ولا في ضرر يطلب زواله من المخلوق، بل أنا في نعمة من الله سابغة ورحمة عظيمة أعجز عن شكرها، ولكن علي أن أطيع الله ورسوله وأطيع أولي الأمر إذا أمروني بطاعة الله، فإذا أمروني بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق هكذا دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه أئمة الأمة قال الله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏‏.‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف‏"‏، وأن أصبر على جور الأئمة وأن لا أخرج عليهم في فتنة لما في الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية‏"‏‏.‏
ومأمور أيضًا مع ذلك أن أقول أو أقوم بالحق حيث ما كنت لا أخاف في الله لومة لائم كما أخرجا في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏"‏بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن

 

ص -249-

نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم‏"‏ فبايعهم على هذه الأصول الثلاثة الجامعة وهي الطاعة في طاعة الله وإن كان الآمر ظالما، وترك منازعة الأمر أهله، والقيام بالحق بلا مخافة من الخلق‏.‏
والله سبحانه قد أمر في كتابه عند تنازع الأمة بالرد إلى الله ورسوله لم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلاً، وقد قال الأئمة إن أولي الأمر صنفان‏:‏ العلماء؛ والأمراء وهذا يدخل فيه مشائخ الدين وملوك المسلمين كل منهم يطاع فيما إليه من الأمر كما يطاع هؤلاء بما يؤمرون به من العبادات ويرجع إليهم في معاني القرآن والحديث والإخبار عن الله، وكما يطاع هؤلاء في الجهاد وإقامة الحد وغير ذلك مما يباشرونه من الأفعال التي أمرهم الله بها، وإذا اتفق هؤلاء على أمر فإجماعهم حجة قاطعة فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة‏.‏
وإن تنازعوا فالمرد إلى الكتاب والسنة، وهذه القضية قد جرى فيها ما جرى مما ليس هذا موضع ذكره، وكنت تبلغني بخطابك وكتابك عن الشيخ ما تبلغني، وقد رأيت وسمعت موافقتي على كل ما فيه طاعة الله ورسوله، وعدم التفاتي إلى المطالبة بحظوظي، أو مقابلة من يؤذيني، وتيقنت هذا مني فما الذي يطلب من المسلم فوق هذا وأشرت بترك المخافة ولين الجانب وأنا مجيب إلى هذا كله‏.‏
فجاء الفتاح أولا فقال‏:‏ يسلم عليك النائب، وقال‏:‏ إلى متى يكون المقام

 

ص -250-

في الحبس‏؟‏ أما تخرج‏؟‏ هل أنت مقيم على تلك الكلمة أم لا‏؟‏  وعلمت أن الفتاح ليس في استقلاله بالرسالة مصلحة لأمور لا تخفى  فقلت له‏:‏ سلم على النائب وقل له أنا ما أدري ما هذه الكلمة‏؟‏ وإلى الساعة لم أدر على أي شيء حبست‏!‏ ولا علمت ذنبي‏!‏ وأن جواب هذه الرسالة لا يكون مع خدمتك، بل يرسل من ثقاته  الذين يفهمون ويصدقون  أربعة أمراء ليكون الكلام معهم مضبوطًا عن الزيادة والنقصان فأنا قد علمت ما وقع في هذه القصة من الأكاذيب‏.‏
فجاء بعد ذلك الفتاح ومعه شخص ما عرفته، لكن ذكر لي أنه يقال له علاء الدين الطيبرسي ورأيت الذين عرفوه أثنوا عليه بعد ذلك خيرًا وذكروه بالحسنى، لكنه لم يقل ابتداء من الكلام ما يحتمل الجواب بالحسنى؛ فلم يقل الكلمة التي أنكرت كيت وكيت‏؟‏ ولا أستفهم هل أنت مجيب إلى كيت وكيت‏؟‏
ولو قال ما قال من الكذب علي والكفر والمجادلة على الوجه الذي يقتضي الجواب بالحسنى لفعلت ذلك فإن الناس يعلمون أني من أطول الناس روحًا وصبرًا على مر الكلام؛ وأعظم الناس عدلا في المخاطبة لأقل الناس دع لولاة الأمور
 لكنه جاء مجيء المكره على أن أوافق إلى ما دعا إليه وأخرج درجا فيه

 

ص -251-

من الكذب والظلم والدعاء إلى معصية الله والنهي عن طاعته ما الله به عليم، وجعلت كلما أردت أن أجيبه وأحمله رسالة يبلغها لا يريد أن يسمع شيئًا من ذلك ويبلغه؛ بل لا يريد إلا ما مضمونه الإقرار بما ذكر والتزام عدم العود إليه والله تعالى يقول‏:‏ ‏{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏46‏]‏‏.‏ فمتى ظلم المخاطب لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن، بل قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعروة بن مسعود بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم  لما قال إني لأرى أوباشًا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ‏:‏ امصص بضر اللات أنحن نفر عنه وندعه‏.‏
ومعلوم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من كانوا وقد قال تعالى‏:‏ ‏
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏‏.‏ فمن كان مؤمنا فهو الأعلى كائنا من كان، ومن حاد الله ورسوله فقد قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏20‏]‏‏.‏
وأنا أو غيري من أي القسمين كنت‏؟‏ فإن الله يعاملني وغيري بما وعده، فإن قوله الحق وعد الله لا يخلف الله وعده‏.‏
فقلت له  في ضمن الكلام الحق في هذه القصة ‏:‏ ليس لي ولكن لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من شرق الأرض إلى غربها وأنا لا أعني تبديل الدين وتغييره؛ وليس لأجلك أو أجل غيرك أرتد عن دين الإسلام وأقر بالكفر والكذب والبهتان راجعًا عنه أو موافقًا عليه‏.‏

 

ص -252-

ولما رأيته يلح في الأمر بذلك أغلظت عليه في الكلام وقلت‏:‏ دع هذا الفشار؛ وقم رح في شغلك فأنا ما طلبت منكم أن تخرجوني  وكانوا قد أغلقوا الباب القائم الذي يدخل منه إلى الباب المطبق  فقلت أنا‏:‏ افتحوا لى الباب حتى أنزل  يعني فرغ الكلام  وجعل غير مرة يقول لي‏:‏ أتخالف المذاهب الأربعة‏؟‏ فقلت‏:‏ أنا ما قلت إلا ما يوافق المذاهب الأربعة، ولم يحكم علي أحد من الحكام  إلا ابن مخلوف  وأنت كنت ذلك اليوم حاضرا وقلت له‏:‏
أنت وحدك تحكم أو أنت وهؤلاء‏؟‏ فقال‏:‏ بل أنا وحدي‏.‏ فقلت له‏:‏ أنت خصمي فكيف تحكم علي‏؟‏ فقال كذا ومد صوته وانزوى إلى الزاوية وقال‏:‏ قم قم، فأقاموني وأمروا بي إلى الحبس، ثم جعلت أقول أنا وإخوتي غير مرة‏:‏ أنا أرجع وأجيب وإن كنت أنت الحاكم وحدك فلم يقبل ذلك مني، فلما ذهبوا بي إلى الحبس حكم بما حكم به وأثبت ما أثبت وأمر في الكتاب السلطاني بما أمر به، فهل يقول أحد من اليهود أو النصارى دع المسلمين أن هذا حبس بالشرع فضلا عن أن يقال شرع محمد بن عبدالله‏؟‏ وهذا مما يعلم
الصبيان الصغار بالاضطرار من دين الإسلام أنه مخالف لشرع محمد بن عبدالله، وهذا الحاكم هو وذووه دائما يقولون فعلنا ما فعلنا بشرع محمد بن عبدالله‏.‏

 

ص -253-

وهذا الحكم مخالفا لشرع الله الذي أجمع المسلمون عليه من أكثر من عشرين وجهًا‏.‏
ثم النصارى في حبس حسن يشركون فيه بالله ويتخذون فيه الكنائس؛ فياليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى؛ ويا ليتنا سوينا بالمشركين وعباد الأوثان؛ بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان‏!‏ فهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بهذا‏؟‏ وبأي ذنب حبس إخوتي في دين الإسلام  غير الكذب والبهتان ‏؟‏ ومن قال إن ذلك فعل بالشرع فقد كفر بإجماع المسلمين‏.‏
وقلت له في ضمن الكلام‏:‏ أنت لو ادعى عليك رجل بعشرة دراهم وأنت حاضر في البلد غير ممتنع من حضور مجلس الحاكم لم يكن للحاكم أن يحكم عليكم في غيبتك، هذا في الحقوق فكيف بالعقوبات التي يحرم فيها ذلك بإجماع المسلمين‏؟‏ ثم هذا الرجل قد ظهر كذبه غير مرة ذلك اليوم؛ كذب علي في أكثر ما قاله وهذه الورقة التي أمر بكتابتها أكثرها كذب، والكتاب السلطاني الذي كتب بأمره مخالف للشريعة من نحو عشرة أوجه؛ وفيه من الكذب على المجلس الذي عقد أمور عظيمة قد علمها الخاص والعام، فإذا كان الكتاب

 

ص -254-

الذي كتب على لسان السلطان وقرئ على منابر الإسلام أخبر فيه عن أهل المجلس من الأمراء والقضاة بما هو من أظهر الكذب والبهتان فكيف فيما غاب عنهم‏؟‏ قلت‏:‏ وهو دائما يقول عني أني أقول إن الله في زاوية ولد ولدا، وهذا كله كذب وشهرته بالكذب والفجور يعلمه الخاص والعام؛ فهل يصلح مثل هذا أن يحكم في أصول الدين ومعاني الكتاب والسنة وهو لا يعرف ذلك‏؟‏
ورأيته هنا يتبسم تبسم العارف بصحة ما قلته فكأن سيرة هذا الحاكم مشهورة بالشر بين المسلمين، وأخذ يقول لي هذه المحاضر؛ ووجدوا بخطك، فقلت‏:‏ أنت كنت حاضرًا ذلك اليوم هل أراني أحد ذلك اليوم خطأ أو محضرًا أو قيل لي شهد عليك بكذا أو سمع لي كلام‏؟‏ بل حين شرعت أحمد الله وأثنى عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم منعوني من حمد الله وقالوا لا تحمد الله بل أجب فقلت لابن مخلوف ألك أجيب أو لهذا المدعي وكان كل منهما قد ذكر كلاما أكثره كذب فقال‏:‏ أجب المدعي، فقلت‏:‏ فأنت وحدك تحكم أو أنت وهؤلاء القضاة‏؟‏ فقال‏:‏ بل أنا وحدى فقلت‏:‏ فأنت خصمي فكيف يصح حكمك علي‏؟‏ فلم تطلب مني الإستفسار عن وجه المخاصمة فإن هذا كان

 

ص -255-

خصما من جوه متعددة معروفة عند جميع المسلمين، ثم قلت أما ما كان بخطي فأنا مقم عليه؛ وأما المحاضر فالشهود فيها فيهم من الأمور القادحة في شهادتهم وجوه متعددة تمنع قبول شهادتهم بإجماع المسلمين والذي شهدوا به فقد علم المسلمون خاصتهم وعامتهم بالشام وغيره ضد ما شهدوا به، وهذا القاضي شرف الدين ابن المقدسي قد سمع منه الناس العدول
أنه كان يقول أنا على عقيدة فلان حتى قبل موته بثلاث دخلت عليه فيما يرى مع طائفة فقال قدامهم‏:‏ أنا أموت على عقيدتك يا فلان لست على عقيدة هؤلاء يعني الخصوم، وكذلك القاضي شهاب الدين الخولي غير مرة يقول‏:‏ في قفاك أنا على عقيدته، والقاضي إمام الدين قد شهد على العدول أنه قال‏:‏ ما ظهر في كلامه شيء ومن تكلم فيه عزرته؛ وقال لي في أثناء كلامه‏:‏ فقد قال بعض القضاة إنهم أنزلوك عن الكرسي، فقلت‏:‏ هذا من أظهر الكذب الذي يعلمه جميع الناس ما أنزلت من الكرسي قط ولا استنابني أحد قط عن شيء ولا استرجعني؛ وقلت‏:‏ قد وصل إليكم المحضر الذي فيه خطوط مشائخ الشام وسادات الإسلام والكتاب الذي فيه كلام الحكام الذين هم خصومي كجمال الدين المالكي وجلال الدين الحنفي، وما ذكروا فيه مما يناقض

 

ص -256-

هذه المحاضر، قول المالكي‏:‏ ما بلغني قط أنه استنيب ولا منع من فتيا ولا أنزل ولا كذا ولا كذا ولا ثبت عليه عندي قط شيء يقدح في دينه، وكذلك قول سائر العلماء والحكام في غيبتي‏.‏
وأما الشهادات ففيها أمور عظيمة فتدبروها فكيف وشهود المحضر فيهم من موانع الشهادة أمور تقال عند الحاجة‏!‏‏!‏

 

ص -257-

فصل معترض
ذكرت في ورقتك أنك قلت للشيخ في نفسي أن تطلب لي المحاضر حتى ينظر هو فيها، فإن كان له دافع وإلا فالجماعة كلهم معذورون وهذا مما لا حاجة إليه أصلاً، وهذه المحاضر أقل وأحقر من أن يحتاج الرد عليها إلى حضرتها؛ فإني قد بينت ببضع وعشرين وجهًا أن هذا الحكم خارج عن شريعة الإسلام بإجماع المسلمين المذاهب الأربعة وسائر أئمة الدين‏.‏
وقلت للرسول‏:‏ ما لابن مخلوف ونحوه في أن يتعرض إلى علم الدين الذي غيره أعلم به منه مثل تفسير القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومقالات السلف وأصول الدين التي لا يعرفها وهذه الأمور إنما يرجع فيها إلى من يعرفها فإن كان السلطان أو نائبه الحاكم يعرفها كان في ذلك كسائر العارفين بها، وإلا فلا أمر لهم فيها كما لا يراجع في الاستفتاء إلا من يحسن الفتيا.
 وقلت له‏:‏ أنا لم يصدر مني قط إلا جواب مسائل وإفتاء مستفت، ما كاتبت أحدًا أبدًا ولا خاطبته في شيء من هذا، بل يجيئني الرجل المسترشد المستفتي بما أنزل الله على رسوله فيسألني  مع بعده وهو محترق على طلب الهدى 

 

ص -258-

أفيسعني في ديني أن أكتمه العلم‏؟‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار‏"‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 159‏]‏‏.‏ أفعلى أمرك أمتنع عن جواب المسترشد لأكون كذلك‏؟‏ وهل يأمرني بهذا السلطان أو غيره من المسلمين‏؟‏
ولكن أنتم ما كان مقصودكم إلا دفع أمر الملك لما بلغكم من الأكاذيب‏؟‏ فقال‏:‏ يا مولانا دع أمر الملك أحد ما يتكلم في الملك، فقلت‏:‏ إيه الساعة ما بقي أحد يتكلم في الملك‏!‏ وهل قامت هذه الفتنة إلا لأجل ذلك‏؟‏ ونحن سمعنا بهذا ونحن بالشام أن المثير لها تهمة الملك لكن ما اعتقدنا أن أحدا يصدق هذا وذكرت له أن هذه القصة ليس ضررها علي، فإني أنا من أي شيء أخاف‏؟‏
إن قتلت كنت من أفضل الشهداء، وكان ذلك سعادة في حقي يترضى بها علي إلى يوم القيامة، ويلعن الساعي في ذلك إلى يوم القيامة، فإن جميع أمة محمد يعلموني أني أقتل على الحق الذي بعث الله به رسوله؛ وإن حبست فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله علي وليس لي ما أخاف الناس عليه لا مدرسة ولا أقطاع ولا مال ولا رئاسة ولا شيء من الأشياء‏.‏

 

ص -259-

ولكن هذه القصة ضررها يعود عليكم فإن الذين سعوا فيها من الشام أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم وفساد ملتكم ودولتكم وقد ذهب بعضهم إلى بلاد التتر وبعضهم مقيم هناك فهم الذين فصدوا فساد دينكم ودنياكم وجعلوني إماما بالتستر لعلمهم بأني أواليكم وأنصح لكم وأريد لكم خير الدنيا والآخرة‏.‏
والقضية لها أسرار كلما جاءت تنكشف، وإلا فأنا لم يكن بيني وبين أحد بمصر عداوة ولا بغضا وما زلت محبا لهم مواليهم أمرائهم ومشائخهم وقضاتهم‏.‏
فقال لي‏:‏ فما الذي أقوله لنائب السلطان‏؟‏ فقلت‏:‏ سلم عليه وبلغه كلما سمعت، فقال‏:‏ هذا كثير، فقلت‏:‏ ملخصه أن الذي في هذا الدرج أكثره كذب وأما هذه الكلمة ‏[‏استوى‏]‏‏.‏ حقيقة فهذه قد ذكر غير واحد من علماء الطوائف المالكية وغير المالكية أنه أجمع عليها أهل السنة والجماعة وما أنكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا أئمتها بل ما علمت عالما أنكر ذلك فكيف أترك ما أجمع عليه أهل السنة ولم ينكره أحد من العلماء‏.‏
وأشرت بذلك إلى أمور منها ما ذكره الإمام أبو عمر الطلمنكي وهو أحد أئمة المالكية قبل الباجي وابن عبدالبر وهذه الطبقة قال‏:‏ وأجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى‏:‏ ‏
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ‏}‏ [‏الحديد‏:‏4‏]‏‏.‏ ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء‏. وقال

 

ص -260-

أيضًا‏:‏ قال أهل السنة في قول الله ‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز‏.‏
وقال أبو عبدالله القرطبي صاحب التفسير المشهور في قوله تعالى
‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏} ‏[‏يونس‏:‏3‏]‏‏.‏ قال‏:‏ هذه مسألة الاستواء للعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب ‏[‏الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏]‏‏.‏ وذكرنا فيها أربعة عشر قولاً، إلى أن قال‏:‏ وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق به كتابه وأخبرت رسله، قال‏:‏ ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته  كما قال مالك ‏:‏ الاستواء معلوم  يعني في اللغة  والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة، وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها، وقال هذا الشيخ المشهور بمصر وغيرها في كتاب شرح الأسماء‏.‏
قال وذكر الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها ‏[‏برسالة الإسماء إلى مسألة الاستواء‏]‏‏.‏ لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء قول الطبري  يعني أبا جعفر صاحب التفسير الكبير  وأبي محمد بن أبي زيد، والقاضي عبدالوهاب، وجماعة من شيوخ الحديث والفقه قال‏:‏ وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر، وأبي الحسن يعني

 

ص -261-

الأشعري، وحكاه عنه  يعني القاضي أبا بكر  القاضي عبدالوهاب أيضا، وهو أنه سبحانه مستو على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه، قال الإمام أبو بكر‏:‏ ‏[‏وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة‏]‏‏.‏ قال الشيخ أبو عبدالله‏:‏ هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب ‏[‏تمهيد الأوائل‏]‏‏.‏ له‏.‏
وقاله الأستاذ أبو بكر بن فورك في ‏[‏شرح أوائل الأدلة‏]‏‏.‏ له وهو قول أبي عمر بن عبدالبر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين، ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولا‏:‏ ‏[‏وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله عنهم الثقات‏]‏‏.‏ هذا كله لفظه‏.‏
وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب ‏[‏الإبانة‏]‏‏.‏ له‏:‏ ‏[‏وأئمتنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبدالله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش؛ وأن علمه بكل مكان؛ وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش؛ وأنه ينزل إلى سماء الدنيا؛ وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء؛ فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم برىء وهم منه براء‏]‏‏.‏

 

ص -262-

وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب ‏[‏التمهيد‏]‏‏.‏ في شرح الموطأ وهو أجل ما صنف فيه فنه لما تكلم على حديث النزول قال‏:‏ هذا حديث ثابت من جهة النقل؛ صحيح الإسناد؛ لا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو حديث منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان وليس على العرش، قال في الدليل على صحة ما قاله أهل الحق قول الله‏:‏ ‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج 4‏]‏‏.‏ وقال لعيسى‏:‏ ‏{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏ال عمران‏:‏ 55‏]‏‏.‏، وذكر آيات إلى أن قال‏:‏ وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم، وبسط الكلام في ذلك إلى أن قال‏:‏ وأما احتجاجهم بقوله تعالى ‏{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فلا حجة لهم في ظاهر الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل هذه الآية هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله‏.‏

 

ص -263-

وذكر عن الضحاك بن زاحم أنه قال في قوله‏:‏ ‏{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏7‏]‏‏.‏قال‏:‏ هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا، وعن سفيان الثوري مثل ذلك، وعن ابن مسعود قال‏:‏ الله فوق العرش ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم‏.‏
قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيها ما قال القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة، وقال أبو عمر‏:‏ الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك وترك التحديد والكيفية في شيء منه‏.‏
وقال الشيخ العارف أبو محمد عبدالقادر بن أبي صالح الكيلاني في كتاب ‏[‏الغنية‏]‏‏.‏ له‏:‏ أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد واحد‏.‏‏.‏إلى أن قال‏:‏ وهو بجهة العلو؛ مستو على العرش؛ محتو على الملك؛ محيط علمه بالأشياء‏.‏ قال‏:‏ ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال إنه في السماء على العرش كما قال‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وذكر الآيات والأحاديث‏.‏‏.‏إلى أن قال‏:‏ وينبغي إطلاق صفة الاستواء

 

ص -264-

من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش‏.‏ قال‏:‏ وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل بلا كيف وذكر كلامًا طويلاً‏.‏
وقال الإمام أبو الحسن الكرخي الشافعي في مقدمته المشهورة في اعتقاد أهل السنة وهي منقولة من خط الشيخ أبي عمرو بن الصلاح‏:‏

 عقيدتهم أن الإله بذاته

 على عرشه مع علمه بالغوائب

وهذه الآثار لم أذكرها كلها للرسول لكن هي مما أشرت إليه بقولي‏:‏ إني لم أقل شيئًا من نفسي وإنما قلت ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وهذا الموضع يضيق بما في ذلك من كلام الأمة فقال لي‏:‏ نعم هو مستو على العرش حقيقة بذاته بلا تكييف ولا تشبيه، قلت‏:‏ نعم وهذا هو في العقيدة، فقال‏:‏ فاكتب هذه الساعة أو قال اكتب هذا أو نحو هذا، فقلت‏:‏ هذا هو مكتوب بهذا اللفظ في العقيدة التي عندكم التي بحثت بدمشق واتفق عليها المسلمون فأي شيء هو الذي أريده‏؟‏ وقلت له‏:‏ أنا قد أحضرت أكثر من خمسين كتابا من كتب أهل الحديث والتصوف والمتكلين والفقهاء الأربعة الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية وتوافق ما قلت؛ وقلت أنا أمهل من خالفني ثلاث سنين أن يجيء بحرف واحد عن أئمة الإسلام يخالف ما قلته فما الذي أصنعه‏؟.‏
فلما خرج الطيبرسي والفتاح عاد الفتاح بعد ساعة فقال‏:‏ يسلم عليك

ص -265-

نائب السلطان؛ وقال‏:‏ فاكتب لنا الآن عقيدة بخطك، فقلت‏:‏ سلم على نائب السلطان؛ وقل له‏:‏ لو كتبت الساعة شيئًا لقال القائل قد زاد ونقص أو غير الاعتقاد، وهكذا بدمشق لما طلبوا الاعتقاد لم اتهم إلا بشيء قد كتب متقدمًا‏.‏
قلت‏:‏ وهذا الاعتقاد هو الذي قرىء بالشام في المجالس الثلاثة، وقد أرسله إليكم نائبكم مع البريد، والجميع عندكم، ثم أرسل لكم مع العمري ثانيا لما جاء الكتاب الثاني ما قاله القضاة والعلماء والمحضر وكتاب البخاري الذي قرأه المزي، والاعتقاد ليس هو شيئًا ابتدئه من عندي حتى يكون كل يوم لي اعتقاد، وهو ذلك الاعتقاد بعينه؛ والنسخة بعينها، فانظروا فيها فراح‏.‏
ثم عاد وطلب أن أكتب بخطي أي شيء كان‏.‏ فقلت‏:‏ فما الذي أكتبه‏؟‏ قال‏:‏ مثل العفو، وألا تتعرض لأحد‏.‏ فقلت‏:‏ نعم هذا أنا مجيب إليه، ليس غرضي في إيذاء أحد ولا الانتقام منه ولا مؤاخذته، وأنا عاف عمن ظلمني‏.‏ وأردت أن أكتب هذا ثم قلت‏:‏ مثل هذا ما جرت العادة بكتابته؛ فإن عفو الإنسان عن حقه لا يحتاج إلى هذا‏.‏
وتعلم أن الأمر لما جرى على هذا الوجه كاد بعض القلوب يتغير على الشيخ، وظنوا أن هذا الدرج قد أقر به؛ وأن ذلك يناقض ما كان يقوله ويرسل به‏.‏ فجعلت أنا وأخي ندفع ذلك ونقول‏:‏ هذا من فعل ابن مخلوف؛ وقد تحققت أنا أن ذلك من عمل ابن مخلوف‏.‏
ويعرف الشيخ أن مثل هذه القضية التي قد اشتهرت وانتشرت لا تندفع

 

ص -266-

على هذا الوجه فأنا أبذل غاية ما وسعني من الإحسان، وترك الانتقام، وتأليف القلوب؛ لكن هو يعرف خلقا كثيرا ممن بالديار المصرية؛ وأن الإنسان لا ينجو من شرهم وظلمهم إلا بأخذ طريقين‏:‏
أحدهما مستقر، والآخر متقلب‏.‏
الأول‏:‏ أن يكون له من الله تأييد وسلطان، والتجاء إليه، واستعانة به، وتوكل عليه، واستغفار له، وطاعة له، يدفع به عنه شر شياطين الإنس والجن‏.‏ وهذه الطريقة هي الثابتة الباقية‏.‏
والطريق الثاني‏:‏ إن جاء من ذي جاه، فإنهم يراعون ذا الجاه ما دام جاهه قائما؛ فإذا انقلب جاهه كانوا من أعظم الناس قياما عليه هم بأعيانهم؛ حتى أنهم قد يضربون القاضي بالمقارع ونحو ذلك مما لا يكاد يعرف لغيرهم، أعداءه ومبغضون كثيرون، وقد دخل في إثباتات وأملاك وغير ذلك تعلقة بالدولة وغير الدولة‏.‏
فلو حصل من ذوي الجاه من له غرض في نقض أحكامه ونقل الأملاك كان ذلك من أيسر الأمور عليه‏:‏ إما أن يكتب ردته؛ وأحكام المرتد لا تنفذ، لأنه قد علم منه الخاص والعام أنه جعل ما فعل في هذه القضية شرع محمد بن عبدالله، والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه؛ أو حرم الحلال المجمع عليه؛ أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء‏.‏ وفي مثل هذا

 

ص -267-

نزل قوله على أحد القولين‏:‏ ‏{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏‏.‏ أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله‏.‏
ولفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معان‏:‏
‏[‏الشرع المنزل‏]‏‏.‏ وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يجب اتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته‏.‏
والثاني ‏[‏الشرع المؤول‏]‏‏.‏ وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه فهذا يسوغ اتباعه، ولا يجب ولا يحرم وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به، ولا يمنع عموم الناس منه‏.‏
والثالث ‏[‏الشرع المبدل‏]‏‏.‏ وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها؛ والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع، كمن قال إن الدم والميتة حلال  ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك‏.‏
فلو كان الذي حكم به ابن مخلوف هو مذهب مالك أو الأشعري لم يكن له أن يلزم جميع الناس به، ويعاقب من لم يوافقه عليه باتفاق الأمة، فكيف والقول الذي يقوله ويلزم به هو خلاف نص مالك وأئمة أصحابه؛ وخلاف نص الأشعري وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي الحسن الطبري

 

ص -268-

وأبي بكر بن فورك وأبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي‏؟‏ وغير هؤلاء كلهم مصرحون بمثل ما قلناه وبنقيض ما قاله‏.‏
ولهذا اصطلحت الحنبلية والأشعرية واتفق الناس كلهم‏.‏ ولما رأى الحنبلية كلام أبي الحسن الأشعري قالوا‏:‏ هذا خير من كلام الشيخ الموفق، وزال ما كان في القلوب من الأضغان، وصار الفقهاء من الشافعية وغيرهم يقولون‏:‏ الحمد لله على اتفاق كلمة المسلمين‏.‏
ثم لو فرض أن هذا الذي حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد‏:‏ لم يكن له أن ينقض حكم غيره فكيف إذا نقض حكم حكام الشام جميعهم بلا شبهة‏؟‏ بل بما يخالف دين المسلمين بإجماع المسلمين‏.‏ ولو زعم زاعم أن حكام الشام مكرهون ففيهم من يصرح بعدم الإكراه غير واحد، وهؤلاء بمصر كانوا أظهر إكراها لما اشتهر عند الناس أنه فعل ذلك لأجل غرض الدولة المتعلق بالملك، وأنه لولا ذلك لتكلم الحكام بأشياء، وهذا ثابت عن حكام مصر‏.‏
فكيف وهذا الحكم الذي حكم به مخالف لشريعة الإسلام من بضعة وعشرين وجها‏؟‏ وعامتها بإجماع المسلمين‏.‏ والوجوه مكتوبة مع الشرف محمد فينبغي أن يعرف الشيخ ‏[‏نصر‏]‏‏.‏ بحقيقة الأمر وباطن القضية ليطبها بتدبيره‏.‏
فأنا ليس مرادي إلا في طاعة الله ورسوله وما يخاف على المصريين إلا من بعضهم في بعض كما جرت به العادة‏.‏ وقد سمعتم ما جرى بدمشق  مع أن

 

ص -269-

أولئك أقرب إلى الاتفاق من تجديد القاضي المذكور إسلامه عند القاضي الآخر وأنا لما كنت هناك كان هذا الآذن ‏[‏يحيى الحنفي‏]‏‏.‏ فذهب إلى القاضي تقي الدين الحنبلي وجدد إسلامه وحكم بحقن دمه لما قام عليه بعض أصحابهم في أشياء‏.‏
وكان من مدة لما كان القاضي حسام الدين الحنفي مباشرا لقضاء الشام أراد أن يحلق لحية هذا الأذرعي، وأحضر الموسى، والحمار ليركبه ويطوف به، فجاء أخوه عرفني ذلك، فقمت إليه ولم أزل به حتى كف عن ذلك، وجرت أمور لم أزل فيها محسنا إليهم؛ وهذه الأمور ليست من فعلي ولا فعل أمثالي نحن إنما ندخل فيما يحبه الله ورسوله والمؤمنون ليس لنا غرض مع أحد، بل نجزي بالسيئة الحسنة، ونعفو ونغفر‏.‏
وهذه القضية قد انتشرت، وظهر ما فعل فيها وعلمه الخاص والعام، فلو تغيرت الأحوال حتى جاء أمير أو وزير له في نقل ملك قد أثبته أو حكم به لكان هذا عند المصريين من أسهل ما يكون فيثبتون ردته والمرتد أحكامه مردودة باتفاق العلماء، ويعود ضرره على الذين أعانوه ونصروه بالباطل من أهل الدولة وغيرهم، وهذا أمر كبير لا ينبغي إهماله فالشيخ خبير يعرف عواقب الأمور‏.‏

 

ص -270-

وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين، ولو كنت خارجا لكنت أعلم بماذا أعاونه؛ لكن هذه مسألة قد فعلوها زورا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم‏.‏
ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله؛ والاستغفار؛ والتوبة؛ وصدق الالتجاء فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
وأما ما ذكرت عن الشيخ ‏[‏نصر‏]‏‏.‏ أنه قال‏:‏ كنت أوثر أن لا يحسوا به، إلا وقد خرج خشية أن يعلم فلان وفلان فيطلعوا ويتكلموا فتكثر الغوغاء والكلام‏!‏ فعرفه‏:‏ أن كل من قال حقا فأنا أحق من سمع الحق والتزمه وقبله، سواء كان حلوا أو مرا، وأنا أحق أن يتوب من ذنوبه التي صدرت منه، بل وأحق بالعقوبة إذا كنت أضل المسلمين عن دينهم‏.‏
وقد قلت فيما مضى‏:‏ ما ينبغي لأحد أن يحمله تحننه لشخص وموالاته له على أن يتعصب معه بالباطل،أو يعطل لأجله حدود الله تعالى، بل قد قال

 

ص -271-

النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره‏"‏‏.‏
وهذا الذي يخافه من قيام العدو ونحوه في المحضر الذي قدم به من الشام إلى ابن مخلوف فيما يتعلق بالاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إن أظهروه وكان وباله عليهم، ودل على أنهم مشركون، لا يفرقون بين دين المسلمين ودين النصارى‏.‏
فإن المسلمين متفقون على ما علموه بالاضطرار من دين الإسلام أن العبد لا يجوز له أن يعبد، ولا يدعو ولا يستغيث، ولا يتوكل إلا على الله، وأن من عبد ملكا مقربا أو نبيا مرسلا أو دعاه أو استغاث به فهو مشرك، فلا يجوز عند أحد من المسلمين أن يقول القائل يا جبرائيل أو يا ميكائيل أو يا إبراهيم أو يا موسى أو يا رسول الله اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو انصرني أو أغثني أو أجرني من عدوي أو نحو ذلك، بل هذا كله من خصائص الإلهية، وهذه مسائل شريفة معروفة قد بينها العلماء وذكروا الفرق بين حقوق الله التي يختص بها الرسل والحقوق التي له ولرسله كما يميز سبحانه بين ذلك في مثل قوله‏:‏
‏{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فالتعزير والتوقير للرسول والتسبيح بكرة وأصيلا لله‏.‏

 

ص -272-

وكما قال‏:‏‏{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فالطاعة لله ولرسوله، والخشية والتقوى لله وحده‏.‏ وكما يقول المرسلون‏:‏ ‏{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فيجعلون العبادة والتقوى لله وحده، ويجعلون لهم الطاعة قال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18 22‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏213‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79، 80‏]‏‏.‏

 

ص -273-

فمن اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فقد كفر بعد إسلامه باتفاق المسلمين‏.‏
ولأجل هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، وعن أن يجعل لله ندًا في خصائص الربوبية، ففي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏ يحذر ما فعلوا وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تتخذوا قبري عيدًا‏"‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد‏"‏، وقال له رجل‏:‏ ما شاء الله وشئت فقال‏:‏ ‏"‏أجعلتني لله ندا‏!‏ قل ما شاء الله وحده‏"‏‏.‏
ولهذا قال العلماء من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يستلمه ولا يقبله، ولا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي يستلم ويقبل منه الركن الأسود؛ ويستلم الركن اليماني ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يشرع تقبيل شيء من الأحجار ولا استلامه إلا الركنان اليمانيان، حتى مقام إبراهيم الذي بمكة لا يقبل ولا يتمسح به فكيف بما سواه من المقامات والمشاهد‏!‏‏!‏

 

ص -274-

وأنت لما ذكرت في ذلك اليوم هذا قلت لك‏:‏ هذا من أصول الإسلام، فإذا كان القاضي لا يفرق بين دين الإسلام ودين النصارى الذين يدعون المسيح وأمه فكيف أصنع أنا‏؟‏‏.‏
ولكن من يتخذ نفيسة ربا، ويقول‏:‏ أنها تجبر الخائف؛ وتغيث الملهوف؛ وأنا في حسبها، ويسجد لها، ويتضرع في دعائها مثل ما يتضرع في دعاء رب الأرض والسموات، ويتوكل على حي قد مات ولا يتوكل على الحق الذي لا يموت، فلا ريب أن إشراكه بمن هو أفضل منها يكون أقوى قال تعالى‏:‏ ‏{
قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88، 89‏]‏‏.‏
وحديث معاذ لما رجع من الشام فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما هذا يا معاذ‏.‏ فقال‏:‏ رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم‏.‏ فقال‏:‏ يا معاذ أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدا له‏.‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فلا تسجد لي، فلو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها‏.‏
فمن لا ينهى الضالين عن مثل هذا الشرك المحرم بإجماع المسلمين كيف ينهى عما هو أقل منه‏؟‏ ومن دعى رجلا أو امرأة من دون الله فهو مضاه لمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
ر

 

ص -275-

أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا‏:‏ عبدالله ورسوله‏"‏‏.‏
بل من سوغ أن يدعى المخلوق، ومنع من دعاء الخالق الذي فيه تحقيق صمديته وإلهيته فقد ناقض الإسلام في النفي والإثبات‏:‏
وهو شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏
وأما حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم  بأبي هو وأمي  مثل تقديم محبته على النفس والأهل والمال، وتعزيره وتوقيره، وإجلاله وطاعته، واتباع سنته وغير ذلك فعظيمة جدًا وكذلك مما يشرع التوسل به في الدعاء كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم شخصا أن يقول‏:‏
‏"‏اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفعه في‏"‏ فهذا التوسل به حسن‏.‏
وأما دعاؤه والإستغاثة به فحرام، والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين، المتوسل إنما يدعو الله ويخاطبه ويطلب منه لا يدعو غيره إلا على سبيل استحضاره لا على سبيل الطلب منه، وأما الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعو ويطلب منه ويستغيثه ويتوكل عليه‏.‏ والله هو رب العالمين،

 

ص -276-

ومالك الملك، وخالق كل شيء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو القريب الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهو سميع الدعاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا‏.‏
وأنا قد صنفت كتابا كبيرًا سميته ‏[‏الصارم المسلول على شاتم الرسول‏]‏‏.‏ وذكرت في هذه المسألة ما لم أعرف احدا سبق إليه، وكذلك هذه القواعد الإيمانية قد كتبت فيها فصولا هي من أنفع
الأشياء في أمر الدين‏.‏
ومما ينبغي أن يعرف به الشيخ أني أخاف أن القضية تخرج عن أمره بالكلية ويكون فيها ما فيه ضرر عليه وعلى ابن مخلوف ونحوهما، فإنه قد طلب مني ما يجعل سببا لذلك ولم أجب إليه فإني إنما أنا لون واحد، والله ما غششتهما قط، ولو غششتهما كتمت ذلك‏.‏ وأنا مساعد لهما على كل بر وتقوى‏.‏
ولا ريب أن الأصل الذي تصلح عليه الأمور رجوع كل شخص إلى الله وتوبته إليه في هذا العشر المبارك، فإذا حسنت السرائر أصلح الله الظواهر، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏.‏
وهذه قضية كبيرة كلما كانت تزداد ظهورا تزداد انتشارًا‏.‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا ‏.‏

 

ص -277-

قال شيخ الإسلام‏:‏ قاعدة لأهل السنة والجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم الفرقة
تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى وتقدس‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102106‏]‏‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة ‏{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106، 107‏]‏‏.‏

 

ص -278-

وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج‏:‏ ‏"‏أنهم كلاب أهل النار‏"‏ وقرأ هذه الآية ‏{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏‏.‏ قال الإمام أحمد بن حنبل صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية‏"‏ وفي رواية ‏"‏يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان‏"‏‏.‏
والخوارج هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله، وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها‏.‏
وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق‏.‏
وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين‏.‏ أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبدالله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر‏.‏ وروى عنه من وجوه كثيرة أنه قال‏:‏ ‏"‏خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر‏"‏ ورواه عنه البخاري في صحيحه‏.‏

 

ص -279-

فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستورا لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل مازال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد‏.‏ وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم‏.‏
وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله،ولم يقل أحمد إنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله‏.‏

 

ص -280-

ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع؛ وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك‏.‏ ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر‏.‏
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال أن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره كما صلى عبدالله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان قد يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعا وجلده عثمان بن عفان على ذلك‏.‏
وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهما بالإلحاد وداعيا إلى الضلال‏.‏

 

ص -281-

فصل
ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم‏.‏
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين‏.‏ فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار ولهذا لم يسب حريمهم؛ ولم يغنم أموالهم‏.‏
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم‏؟‏ فلا يحل لأحد من هذه

 

ص -282-

الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها  وإن كانت فيها بدعة محققة  فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا‏؟‏ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه‏.‏
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع‏
:‏ ‏"‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إنه أراد قتل صاحبه‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما‏"‏‏.‏ وهذه الأحاديث كلها في الصحاح‏.‏
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله قد اطلع

 

ص -283-

على أهل بدل فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏"‏ وهذا في الصحيحين‏.‏ وفيها أيضًا من حديث الإفك أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة‏:‏ أنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم‏.‏ فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة‏.‏
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبروه وقال‏:‏ ‏
"‏يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله‏"‏ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة‏:‏ تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ‏.‏ ومع هذا لم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذًا‏.‏
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى‏
:‏ ‏{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏، فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل‏.‏

 

ص -284-

ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا مولاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض؛ ويأخذ بعضهم العلم عن بعض؛ ويتوارثون؛ ويتناكحون؛ ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه‏:‏ ‏"‏أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك‏"‏ وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضًا‏.‏
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى
‏{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏ ‏{أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏ ‏{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هاتان أهون‏"‏‏.‏
هذا مع أن الله أمر بالجماعة الائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف وقال‏:‏ ‏
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏159‏]‏‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏الشيطان

 

ص -285-

مع الواحد وهو من الاثنين أبعد‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم‏"‏‏.‏
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالًا أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان قادرًا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا‏"‏‏.‏
وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولى غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا وكان قد رد بدعة ببدعة‏.‏
 حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس‏:‏ من أعادها فهو مبتدع‏.‏ وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف

 

ص -286-

أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة‏.‏ ولهذا كان أصح قولي العلماء‏:‏ أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذووا الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء‏.‏
والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء  وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى ‏
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏ هو الحبل  فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏إنما هو سواد الليل وبياض النهار‏"‏ ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم

 

ص -287-

النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ‏.‏
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل يثبت؛ وقيل لا يثبت؛ وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ‏.‏ والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين‏"‏‏.‏
فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدرًا‏.

 

ص -288-

فصل
أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن ذلك حق يجزم به المسلمون ويقطعون به ولا يرتابون، وكل ما علمه المسلم جزم به فهو يقطع به، وإن كان الله قادرًا على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه ويسمعه، ويقطع بأن الله قادرعلى ما يشاء، وإذا قال المسلم‏:‏ أنا أقطع بذلك؛ فليس مراده إن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال‏:‏ إن الله لا يقدر على مثل إماتة الخلق وإحيائهم من قبورهم وعلى تسيير الجبال وتبديل الأرض غير الأرض فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل‏.‏
والذين يكرهون لفظ القطع من أصحاب أبي عمرو بن مرزوق هم قوم أحدثوا ذلك من عندهم، ولم يكن هذا الشيخ ينكرهذا، ولكن أصل هذا أنهم كانوا يستثنون في الإيمان، كما نقل ذلك عن السلف فيقول أحدهم‏:‏ أنا مؤمن إن شاء الله، ويستثنون في أعمال البر فيقول أحدهم‏:‏ صليت إن شاء الله؛ ومراد السلف من ذلك الاستثناء إما لكونه لا يقطع بأنه فعل الواجب كما أمرالله ورسوله، فيشك في قبول الله لذلك فاستثنى ذلك، أو للشك في العاقبة، أو يستثنى لأن الأمور جميعًا إنما تكون بمشيئة الله كقوله تعالى‏:‏

 

ص -289-

{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ مع أن الله علم بأنهم يدخلون لا شك في ذلك، أو لئلا يزكي أحدهم نفسه‏.‏
وكان أولئك يمتنعون عن القطع في مثل هذه الأمور؛ ثم جاء بعدهم قوم جهال، فكرهوا لفظ القطع في كل شيء، ورووا في ذلك أحاديث مكذوبة، وكل من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه، أو واحد من علماء المسلمين، أنه كره لفظ القطع في الأمور المجزوم بها، فقد كذب عليه وصار الواحد من هؤلاء يظن أنه إذا أقر بهذه الكلمة فقد أقر بأمر عظيم في الدين، وهذا جهل وضلال من هؤلاء الجهال لم يسبقهم إلى هذا أحد من طوائف المسلمين، ولا كان شيخهم أبو عمرو بن مرزوق، ولا أصحابه في حياته، ولا خيار أصحابه بعد موته يمتنعون من هذا اللفظ مطلقًا؛ بل إنما فعل هذا طائفة من جهالهم‏.‏
كما أن طائفة أخرى زعموا أن من سب الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏سب أصحابي ذنب لا يغفر‏"‏ وهذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة، وهو مخالف للقرآن؛ لأن الله قال‏:‏
‏{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ هذا في حق من لم يتب وقال في حق التائبين‏:‏ ‏{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏

 

ص -290-

فثبت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كل من تاب تاب الله عليه‏.‏
ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار المحاربين وقال‏:‏ هو ساحر، أو شاعر، أو مجنون، أو معلم، أو مفتر وتاب تاب الله عليه‏.‏
وقد كان طائفة يسبون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب ثم أسلموا وحسن إسلامهم وقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم‏:‏ أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وكان قد ارتد وكان يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول‏:‏ أنا كنت أعلمه القرآن، ثم تاب وأسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك‏.‏ وإذا قيل‏:‏ سب الصحابة حق لآدمي‏.‏ قيل‏:‏ المستحل لسبهم كالرافضي يعتقد ذلك دينا، كما يعتقد الكافر سب النبي صلى الله عليه وسلم دينا‏.‏ فإذا تاب وصار يحبهم، ويثني عليهم، ويدعو لهم محا الله سيئاته بالحسنات‏.‏ ومن ظلم إنسانا فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبل الله توبته‏.‏ لكن إن عرف المظلوم مكنه من أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد‏:‏ أصحهما أنه لا يعلمه أني اغتبتك وقد قيل‏:‏ بل يحسن إليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته؛ كما قال الحسن البصري‏:‏ كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته‏.‏ فإذا كان الرجل قد سب الصحابة أو غير الصحابة وتاب، فإنه يحسن إليهم بالدعاء لهم والثناء عليهم بقدر

 

ص -291-

‏ ما أساء إليهم والحسنات يذهبن السيئات‏.‏ كما أن الكافر الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول‏:‏ أنه كذاب إذا تاب وشهد أن محمدًا رسول الله الصادق المصدوق، وصار يحبه، ويثني عليه، ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته، والله تعالى يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏ وصلى الله على محمد وصحبه وسلم‏.‏

 

ص -292-

سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين
هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين لم ينقل عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيها كلام أم لا‏؟‏ فإن قيل بالجواز‏:‏ فما وجهه‏؟‏ وقد فهمنا منه عليه السلام النهي عن الكلام في بعض المسائل‏.‏
وإذا قيل بالجواز‏:‏ فهل يجب ذلك‏؟‏ وهل نقل عنه عليه السلام ما يقتضي وجوبه‏؟‏ وهل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد من الوصول إلى القطع‏؟‏ وإذا تعذر عليه الوصول إلى القطع فهل يعذر في ذلك أو يكون مكلفًا به‏؟‏ وهل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحالة هذه أم لا‏؟‏
وإذا قيل بالوجوب‏:‏ فما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك  وقد كان عليه السلام حريصًا على هدى أمته‏؟‏ والله أعلم‏.‏

 

ص -293-

فأجاب‏:‏ الحمد لله رب العالمين
‏[‏أما المسألة الأولى‏]‏ فقول السائل  هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين لم ينقل عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيها كلام أم لا‏؟‏  سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة‏.‏
فإن المسائل التي هي من أصول الدين _ التي تستحق أن تسمى أصول الدين _ أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه‏:‏ لا يجوز أن يقال‏:‏ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام؛ بل هذا كلام متناقض في نفسه إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين؛ وأنها مما يحتاج إليه الدين، ثم نفى نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين‏:‏
إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج الدين إليها فلم يبينها، أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة، وكلا هذين باطل قطعا‏.‏ وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين؛ وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول، أو جاهل بمايعقله الناس بقلوبهم، أو جاهل بهما جميعا‏.‏
فإن جهله بالأول‏:‏ يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه‏.‏
وجهله بالثاني‏:‏ يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو

 

ص -294-

وأشكاله عقليات؛ وإنما هي جهليات‏.‏
وجهله بالأمرين‏:‏ يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة، وأن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس‏:‏ حذاقهم؛ فضلا عن عامتهم‏.‏
وذلك أن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها قولاً أو قولاً وعملاً كمسائل التوحيد، والصفات، والقدر، والنبوة، والمعاد‏.‏ أو دلائل هذه المسائل‏.‏
‏[‏أما القسم الأول‏]‏‏:‏ فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته، واعتقاده، والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر‏.‏ إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين، وبينه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه‏.‏ وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلوها أيضًا عن الرسول مشتملة من ذلك على غاية المراد، وتمام الواجب، والمستحب‏.‏
والحمد لله الذي بعث إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته، ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة‏.‏ الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضى لنا بالإسلام دينا الذي أنزل الكتاب تفصيلًا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى

 

ص -295-

للمسلمين ‏{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏
وإنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة على بيان ذلك من كان ناقصًا في عقله، وسمعه، ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا‏:‏
‏{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏10‏]‏ وإن كان ذلك كثيرًا في كثير من المتفلسفة، والمتكلمة، وجهال أهل الحديث، والمتفقهة، والمتصوفة‏.‏
‏[‏وأما القسم الثاني‏]‏‏:‏ وهو دلائل هذه المسائل الأصولية، فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين، والمتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق‏.‏ فدلالته موقوفة على العلم بصدق المخبر، ويجعلون ما يبنى عليه صدق المخبر معقولات محضة‏.‏ فقد غلطوا في ذلك غلطا عظيما؛ بل ضلوا ضلالا مبينا في ظنهم‏:‏ أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد؛ بل الأمر ما عليه سلف الأمة وأئمتها  أهل العلم والإيمان  من أن الله سبحانه وتعالى بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره‏.‏
ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله تعالى في كتابه التي قال فيها‏:‏ ‏
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏27‏]‏ فإن الأمثال المضروبة هي ‏[‏الأقيسة العقلية‏]‏ سواء كانت قياس شمول، أو قياس تمثيل‏.‏ ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين وهو

 

ص -296-

القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية‏.‏ وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمى الله آيتي موسى برهانين‏.‏
ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي تستوي أفراده؛ فإن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها  ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى يقين بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة، والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها‏.‏
ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى سواء كان تمثيلاً أو شمولاً كما قال تعالى‏:‏
‏{وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏60‏]‏ مثل أن نعلم أن كل كمال ثبت للممكن، أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه‏:‏ وهو ما كان كمالا للموجود غير مستلزم للعدم فالواجب القديم أولى به‏.‏ وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق _ المربوب المعلول المدبر فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره  فهو أحق به منه‏.‏ وأن كل نقص وعيب في نفسه  وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن شيء ما من أنواع المخلوقات والمحدثات والممكنات  فإنه يجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى‏.‏ وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود، أما الأمور العدمية فالممكن بها أحق ونحو ذلك‏.‏

 

ص -297-

ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب، كما استعمل نحوها الإمام أحمد‏.‏ ومن قبله، وبعده من أئمة أهل الإسلام، وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير ‏[‏أصول الدين‏]‏ من مسائل التوحيد والصفات، والمعاد ونحو ذلك‏.‏
ومثال ذلك أنه سبحانه لما أخبر بالمعاد؛ والعلم به تابع للعلم بإمكانه، فإن الممتنع لا يجوز أن يكون بين سبحانه إمكانه أتم بيان؛ ولم يسلك في ذلك ما يسلكه ‏[‏طوائف من أهل الكلام‏]‏ حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، فيقولون‏:‏ هذا ممكن لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال، فإن الشأن في هذه المقدمة، فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال‏.‏ والمحال هنا أعم من المحال لذاته أو لغيره، والإمكان الذهني حقيقته عدم العلم بالامتناع‏.‏ وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي؛ بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع‏.‏ ولا معلوم الإمكان الخارجي وهذا هو الإمكان الذهني‏.‏
فالله سبحانه وتعالى لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا‏.‏ إذ يمكن أن يكون الشي ممتنعا ولو لغيره وإن لم يعلم الذهن امتناعه؛ بخلاف الإمكان الخارجي‏.‏ فإنه إذا علم بطل أن يكون ممتنعًا‏.‏ والإنسان يعلم الإمكان الخارجي‏:‏ تارة بعلمه بوجود الشيء، وتارة بعلمه بوجود نظيره، وتارة بعلمه بوجود ما هو أبلغ منه، فإن وجود الشئ دليل على أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه‏.‏

 

ص -298-

ثم إنه إذا بين كون الشيء ممكنا فلا بد من بيان قدرة الرب عليه، وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه إن لم تعلم قدرة الرب على ذلك‏.‏
فبين سبحانه هذا كله بمثل قوله‏:‏
‏{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 99‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان، والقدرة من ذلك‏.‏
وكذلك استدلالة على ذلك بالنشأة الأولى في مثل قوله‏:‏
‏{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ ولهذا قال بعد ذلك‏:‏ ‏{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وكذلك ما ذكره في قوله‏:‏
‏{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78، 79‏]‏ الآيات‏.‏ فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏78‏]‏ قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها وهو المثل المضروب الذي ذكره بقوله‏:‏

 

ص -299-

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏78‏]‏ وهذا استفهام إنكار متضمن للنفي‏:‏ أي لا أحد يحي العظام وهي رميم‏.‏ فإن كونها رميما يمنع عنده إحياءها لمصيرها إلى حال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها على الحرارة والرطوبة، ولتفرق أجزائها، واختلاطها بغيرها ولنحو ذلك من الشبهات‏.‏ والتقدير هذه العظام رميم ولا أحد يحي العظام وهي رميم، فلا أحد يحييها؛ ولكن هذه السالبة كاذبة ومضمونها امتناع الأحياء‏.‏
وبين سبحانه إمكانه من وجوه ببيان إنكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه، فقال‏:‏ ‏
{يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 79‏]‏ وقد أنشأها من التراب ثم قال‏:‏ ‏{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 79‏]‏ ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء واستحال‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏ فبين أنه أخرج النار الحارة اليابسة من البارد الرطب، وذلك أبلغ في المنافاة لأن اجتماع الحرارة والرطوبة أيسر من اجتماع الحرارة واليبوسة؛ فالرطوبة تقبل من الانفعال مالا تقبله اليبوسة‏.‏
ثم قال‏:‏
‏{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏ وهذه مقدمة معلومة بالبديهة، ولهذا جاء فيها باستفهام التقرير الدال على أن ذلك مستقر معلوم عند المخاطب كما قال سبحانه‏:‏ ‏{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 33‏]‏ ثم بين قدرته العامة بقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏

 

ص -300-

 

وفي هذا الموضع وغيره من القرآن من الأسرار، وبيان الأدلة القطعية على المطالب الدينية ما ليس هذاموضعه، وإنما الغرض التنبيه‏.‏
وكذلك ما استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة سواء سموها حسية أو عقلية كما تزعمه النصارى من تولد الكلمة  التي جعلوها جوهر الابن  منه، وكما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة، والنفوس الفلكية التسعة‏:‏ التي هم مضطربون فيها هل هي جواهر أو أعراض‏؟‏ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور، والنفوس بمنزلة الإناث، ويجعلون ذلك آباءهم، وأمهاتهم، وآلهتهم وأربابهم القريبة، وعلمهم بالنفوس أظهر لوجود الحركة الدورية الدالة على الحركة الإرادية الدالة على النفس المحركة؛ لكن أكثرهم يجعلون النفس الفلكية عرضا لا جوهرا قائما بنفسه، وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم‏:‏ الذين جعلوا له بنين وبنات‏.‏ قال تعالى‏
:‏ ‏{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏151، 152‏]‏ وكانوا يقولون الملائكة بنات الله كما يزعم هؤلاء أن العقول، أو العقول والنفوس ‏[‏هي الملائكة‏]‏ وهي متولدة عن الله فقال الله تعالى‏:‏ ‏{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 57‏:‏ 60‏]‏

 

ص -301-

إلى قوله‏:‏ ‏{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 62‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 16‏:‏ 19‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19 ‏:‏22‏]‏ أي جائرة وغير ذلك في القرآن‏.‏
فبين سبحانه أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم فيكف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم‏؟‏‏!‏ وتستخفون من إضافته إليكم مع أنه واقع لا محالة، ولا تنزهونه عن ذلك، وتنفونه عنه، وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم‏.‏
وكذلك قوله في التوحيد‏:‏ ‏
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ أي كخيفة بعضكم بعضا كما في قوله‏:‏ ‏{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏12‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏11‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 84‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ فإن المراد في هذا كله من نوع واحد‏.‏ فبين سبحانه أن المخلوق لا يكون مملوكه شريكه فيما له حتى يخاف مملوكه كما يخاف نظيره،

 

ص -302-

بل تمتنعون أن يكون المملوك لكم نظيرًا، فكيف ترضون لي أن تجعلوا ما هو مخلوقي ومملوكي شريكًا لي‏:‏ يدعى ويعبد  كما أدعى وأعبد  كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك  وهذا باب واسع عظيم جدًا ليس هذا موضعه‏.‏
وإنما الغرض التنبيه على أن في القرآن، والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل التي تستحق أن تكون أصول الدين‏.‏ وأماما يدخله بعض الناس في هذا المسمى من الباطل فليس ذلك من أصول الدين؛ وإن أدخله فيه مثل ‏[‏المسائل‏]‏ ‏[‏والدلائل‏]‏ الفاسدة‏:‏ مثل نفي الصفات، والقدر، ونحو ذلك من المسائل‏.‏
ومثل ‏[‏الاستدلال‏]‏ على حدوث العالم بحدوث ‏[‏الإعراض‏]‏ التي هي صفات الأجسام القائمة بها‏:‏ إما الأكوان، وإما غيرها، وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل‏:‏ من إثبات ‏[‏الأعراض‏]‏ التي هي الصفات أولا‏.‏ أو إثبات ‏[‏بعضها‏]‏ كالأكوان التي هي الحركة، والسكون، والإجتماع، والافتراق، ‏[‏وإثبات حدوثها‏]‏ ثانيا بإبطال ظهورها بعد الكمون وإبطال انتقالها من محل إلى محل  ثم إثبات ‏[‏امتناع خلو الجسم‏]‏ ثالثا؛ إما عن كل جنس من أجناس الأعراض‏:‏ بإثبات أن الجسم قابل لها، وإن القابل للشيء لا يخلو عنه، وعن ضده؛ وإما عن الأكوان  وإثبات ‏[‏امتناع حوادث لا أول لها‏]‏رابعا، وهو مبني على مقدمتين‏:‏

 

ص -303-

[‏إحداهما‏]‏‏:‏ إن الجسم لا يخلو عن ‏[‏الأعراض‏]‏ التي هي الصفات‏.‏ ‏[‏والثانية‏]‏‏:‏ أن ما لا يخلو عن ‏[‏الصفات‏]‏ التي هي الأعراض فهو محدث لأن الصفات التي هي الأعراض لا تكون إلا محدثة، وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض كالأكوان، وما لا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا تتناهى‏.‏
فهذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه ولهذا قد اعترف حذاق ‏[‏أهل الكلام‏]‏ كالأشعري وغيره بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم‏.‏
بل المحققون على أنها طريقة باطلة، وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقا‏.‏ ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه فأحد الأمرين له لازم؛ إما أن يطلع على ضعفها ويقابل بينها وبين أدلة القائلين يقدم العالم فتتكافأ عنده الأدلة، أو يرجح هذا تارة وهذا تارة‏.‏ كما هو حال طوائف منهم‏.‏
وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل؛ كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار، والتزم أبو الهذيل لأجلها انقطاع حركات أهل الجنة‏.‏ والتزم قوم لاجلها كالأشعري وغيره  أن الماء والهواء والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك‏.‏ والتزم قوم لأجلها، وأجل غيرها‏:‏ أن جميع ‏[‏الأعراض‏]‏ كالطعم واللون وغيرهما لا يجوز بقاؤها بحال لأنهم احتاجوا إلى جواب النقض

 

ص -304-

الوارد عليهم لما أثبتوا الصفات لله مع الاستدلال على حدوث الأجسام بصفاتها‏.‏ فقالوا‏:‏ صفات ‏[‏الأجسام‏]‏ أعراض أي أنها تعرض وتزول فلا تبقى بحال بخلاف صفات الله فإنها باقية‏.‏ وأما جمهور عقلاء بني آدم فقالوا‏:‏ هذه مخالفة للمعلوم بالحس‏.‏
والتزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم لأجلها نفى صفات الرب مطلقًا، أو نفي بعضها لأن الدال عندهم على حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها والدليل يجب طرده‏.‏ والتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به وهو أيضا في غاية الفساد والضلال‏.‏ ولهذا التزموا القول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة، وعلوه على عرشه‏.‏ إلى أمثال ذلك من اللوازم التي التزمها من طرد مقدمات هذه الحجة التي جعلها المعتزلة، ومن اتبعهم أصل دينهم‏.‏
فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء أصول الدين؛ ولكن ليست في الحقيقة من أصول الدين الذي شرعه الله لعباده‏.‏
وأما الدين الذي قال الله فيه‏:‏
‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏ فذاك له أصول وفروع بحسبه‏.‏
وإذا عرف أن مسمى أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الإسم فيه إجمال وإبهام  لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات  تبين أن الذي هو عند الله، ورسوله، وعباده المؤمنين أصول الدين؛ فهو موروث عن

 

ص -305-

الرسول‏.‏ وأما من شرع دينا لم يأذن به الله فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو باطل، وملزوم الباطل باطل كما أن لازم الحق حق‏.‏
وهذا التقسيم ينبه أيضا على مراد السلف، والأئمة بذم الكلام وأهله؛ إذ ذلك يتناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة، أو استدل على المقالات الباطلة‏.‏ فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكما ودليلا فهو من أهل العلم والإيمان والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏.‏
وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه  إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة  كمخاطبة العجم‏:‏ من الروم، والفرس، والترك بلغتهم وعرفهم‏.‏ فإن هذا جائز حسن للحاجة‏.‏
وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص  وكانت صغيرة ولدت بأرض الحبشة، لأن أباها كان من المهاجرين إليها فقال لها  ‏"‏يا أم خالد هذا سنا‏"‏ والسنا بلسان الحبشة الحسن ‏.‏لأنها كانت من أهل هذه اللغة‏.‏ وكذلك يترجم القرآن، والحديث لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم، وكلامهم بلغتهم، ويترجمها بالعربية‏.‏ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له، ويكتب له ذلك حيث لم يأمن من اليهود عليه‏.‏

 

ص -306-

فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ ‏[‏الجوهر‏]‏ و‏[‏العرض‏]‏ و‏[‏الجسم‏]‏ وغير ذلك؛ بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معاني مجملة في النفي والإثبات‏.‏ كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع فقال‏:‏ هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه‏.‏
فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة، بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق؛ بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ‏:‏ نفيا وإثباتا في الوسائل والمسائل؛ من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو الصراط المستقيم‏.‏ وهذا من مثارات الشبهة‏.‏
فإنه لا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أحد من الأئمة المتبوعين، أنه علق بمسمى لفظ ‏[‏الجوهر‏]‏ و‏[‏الجسم‏]‏ و‏[‏التحيز‏]‏ و‏[‏العرض‏]‏ ونحو ذلك شيء من أصول الدين لا الدلائل ولا المسائل؛ والمتكلمون بهذه العبارات يختلف مرادهم بها‏.‏ تارة لاختلاف الوضع‏.‏ وتارة لاختلافهم في المعنى الذي هو مدلول اللفظ كمن يقول ‏[‏الجسم‏]‏ هو المؤلف، ثم يتنازعون هل هو الجوهر الواحد بشرط تأليفه‏؟‏

 

ص -307-

أو الجوهران فصاعدا‏؟‏ أو الستة‏؟‏ أو الثمانية‏؟‏ أو غير ذلك‏؟‏ ومن يقول هو الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه، وأنه مركب من المادة والصورة، ومن يقول هو الموجود، أو الموجود القائم بنفسه؛ وأن الموجود لا يكون إلا كذلك‏.‏
والسلف والأئمة  الذين ذموا وبدعوا الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في أصول الدين في دلائله، وفي مسائله نفيا وإثباتا‏.‏ فأما إذا عرف المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء، وما خالفه‏.‏ فهذا عظيم المنفعة، وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى‏:‏ ‏{
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم‏.‏ وذلك يحتاج إلى معرفة معاني الكتاب، والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم‏.‏ ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف‏.‏ وأما قول السائل فإن قيل بالجواز‏:‏ فما وجهه، وقد فهمنا منه عليه السلام النهي عن الكلام في بعض المسائل‏؟‏ فيقال‏:‏ قد تقدم الاستفسار والتفصيل في جواب السؤال، وأن ما هو في الحقيقة أصول الدين الذي بعث الله به رسوله

 

ص -308-

فلا يجوز أن ينهى عنها بحال، بخلاف ما سمى أصول الدين وليس هو أصولا في الحقيقة لا دلائل ولا مسائل‏.‏ أو هو أصول لدين لم يشرعه الله بل شرعه من شرع من الدين ما لم يأذن به الله‏.‏
وأما ما ذكره السائل من نهيه فالذي جاء به الكتاب والسنة النهي عن أمور‏.‏
منها القول على الله بلا علم، كقوله‏:‏ ‏
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏
ومنها أن يقال عليه غير الحق كقوله‏:‏
‏{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏169‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ ومنها الجدل بغير علم كقوله‏:‏ ‏{هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏66‏]‏ ومنها الجدل في الحق بعد ظهوره كقوله‏:‏ ‏{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 6‏]‏‏.‏
ومنها الجدل بالباطل كقوله‏:‏
{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ومنها الجدل في آياته كقوله‏:‏ ‏{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ‏} ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏56‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 35‏]‏ ونحو ذلك قوله‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 16‏]‏

 

ص -309-

وقوله‏:‏ ‏{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 8‏]‏‏.‏
ومن الأمور التي نهى الله عنها في كتابه التفرق والاختلاف كقوله‏:‏
‏{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103، 106‏]‏‏.‏ قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏30‏:‏ 32‏]‏‏.‏
وقد ذم أهل التفرق والاختلاف في مثل قوله‏:
‏{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 14‏]‏ وفي مثل قوله‏:‏ ‏{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏ وفي مثل قوله‏:‏ ‏{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 176‏]‏‏.‏
 وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توافق كتاب الله كالحديث المشهور عنه الذي روى مسلم بعضه عن عبدالله بن عمرو، وسائره معروف في مسند أحمد، وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول

 

ص -310-

الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه  وهم يتناظرون في القدر  ورجل يقول‏:‏ ألم يقل الله كذا، ورجل يقول‏:‏ ألم يقل الله كذا فكأنما فقىء وجهه حب الرمان فقال‏:‏ ‏"‏أبهذا أمرتم إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا، لا ليكذب بعضه بعضا انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه‏"‏ هذا الحديث أو نحوه‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏المرآء في القرآن كفر‏"‏ وكذلك ما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ قوله‏:‏ ‏"
‏‏{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم‏"‏‏.‏
وأما أن يكون الكتاب أو السنة نهي عن معرفة المسائل التي يدخل فيما يستحق أن يكون من أصول دين الله فهذا لا يكون اللهم إلا أن ننهى عن بعض ذلك في بعض الأحوال مثل مخاطبة شخص بما يعجز عنه فهمه فيضل‏.‏ كقول عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏[‏ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم‏]‏ وكقول علي‏:‏ رضي الله عنه ‏[‏حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله‏]‏‏.‏ أو مثل قول حق يستلزم فسادا

 

ص -311-

أعظم من تركه فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان‏"‏ رواه مسلم‏.‏
وأما قول السائل إذا قيل بالجواز فهل يجب‏؟‏ وهل نقل عنه عليه السلام ما يقتضي وجوبه‏.‏
فيقال‏:‏ لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانًا عامًا مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب، والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك  مما أوجبه الله على المؤمنين  فهو واجب على الكفاية منهم‏.‏
وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم، ومعرفتهم، وحاجتهم وما أمر به أعيانهم فلا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم، أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي، والمحدث، والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك‏.‏
وأما قوله هل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد

 

ص -312-

من الوصول إلى القطع‏؟‏ فيقال‏:‏ الصواب في ذلك التفصيل‏.‏ فإنه وإن كان طوائف من أهل الكلام يزعمون أن المسائل الخبرية التي قد يسمونها مسائل الأصول يجب القطع فيها جميعا، ولا يجوز الاستدلال فيها بغير دليل يفيد اليقين، وقد يوجبون القطع فيها كلها على كل أحد‏.‏ فهذا الذي قالوه على إطلاقه وعمومه خطأ مخالف للكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمتها‏.‏
ثم هم مع ذلك من أبعد الناس عما أوجبوه فإنهم كثيرًا ما يحتجون فيها بالأدلة التي يزعمونها قطعيات، وتكون في الحقيقة من الأغلوطات فضلًا عن أن تكون من الظنيات؛ حتى إن الشخص الواحد منهم كثيرًا ما يقطع بصحة حجة في موضع، ويقطع ببطلانها في موضع آخر، بل منهم من غاية كلامه كذلك؛ وحتى قد يدعى كل من المتناظرين العلم الضروري بنقيض ما ادعاه الآخر‏.‏ وأما التفصيل فما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك، كقوله‏:‏ ‏
{اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏ وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به‏.‏
وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد كقوله‏:‏
‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

 

ص -313-

فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة  من هذه المسائل الدقيقة  قد يكون عند كثير من الناس مشتبها لا يقدر فيه على دليل يفيده اليقين؛ لا شرعي، ولا غيره لم يجب علي مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قوي غالب على ظنه لعجزه عن تمام اليقين؛ بل ذلك هو الذي يقدر عليه، لا سيما إذا كان مطابقا للحق‏.‏ فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه ويسقط به الفرض إذا لم يقدر على أكثر منه‏.‏
لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب، أو عجز فيه عن معرفة الحق، فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر، والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا‏.‏ كما قال تعالى‏:
‏ ‏{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 123، 124‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية‏.‏
وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ستكون فتن قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به

 

ص -314-

الألسن ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تشبع منه العلماء وفي رواية ولا تختلف به الآراء وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا‏:‏ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏1، 2‏]‏ من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏وقال تعالى‏:‏ ‏{المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1، 3‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155‏:‏ 157‏]‏‏.‏
فذكر سبحانه أنه سيجزي الصادف عن آياته مطلقًا  سواء كان مكذبًا أو لم يكن  سوء العذاب بما كانوا يصدفون يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر‏.‏ سواء اعتقد كذبه، أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعًا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به فكل مكذب بما جاء به فهو كافر‏.‏ وقد يكون كافرًا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به‏.‏
ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله وإن كان له نظر، وجدل، واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، جعل

 

ص -315-

ذلك من نعوت الكفار والمنافقين قال تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 26‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏ والسلطان هو الحجة المنزلة من عند الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 35‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 156،157‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏‏.‏
وقد طالب سبحانه من اتخذ دينا بقوله‏:‏
‏{اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏‏.‏
فالكتاب الكتاب، والأثارة كما قال من قال من السلف هي الرواية والإسناد‏.‏ وقالوا‏:‏ هي الخط أيضًا‏.‏ إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط؛ وذلك لأن الأثارة من الأثرة؛ فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد ويقيد بالخط فيكون كل ذلك من آثاره‏.‏

 

ص -316-

وقال تعالى في نعت المنافقين‏:‏ ‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 60‏:‏ 63‏]‏‏.‏
وفي هذه الآيات أنواع من العبر من الدلالة على ضلال من يحاكم إلى غير الكتاب والسنة، وعلى نفاقه، وإن زعم أنه يريد التوفيق بيد الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو ‏[‏عقليات‏]‏ من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الاعتبار‏.‏
فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلا، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهوالظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد؛ بخلاف المجتهد في طاعة الله، ورسوله باطنا وظاهرًا الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله؛ فهذا مغفور له خطؤه‏.‏
كما قال تعالى‏:‏ ‏
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

 

ص -317-

وقد ثبت في صحيح مسلم أن الله قال قد فعلت، وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطى ذلك‏.‏
فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطؤا‏.‏
وأما قول السائل هل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق  والحال هذه  فيقال‏:‏ هذه العبارة وإن كثر تنازع الناس فيها نفيا وإثباتا فينبغي أن يعرف أن الخلاف المحقق فيها نوعان‏:‏
‏[‏أحدهما‏]‏‏:‏ ما اتفق الناس على جوازه، ووقوعه، وإنما تنازعوا في إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق‏.‏
‏[‏والثاني‏]‏‏:‏ ما اتفقوا على أنه لا يطاق؛ لكن تنازعوا في جواز الأمر به، ولم يتنازعوا في عدم وقوعه‏.‏ فأما أن يكون أمر اتفق أهل العلم والإيمان على أنه لا يطاق، وتنازعوا في وقوع الأمر به فليس كذلك‏.‏
‏[‏فالنوع الأول‏]‏‏:‏ كتنازع المتكلمين من مثبتة القدر ونفاته في ‏[‏استطاعة العبد‏]‏ وهي قدرته، وطاقته‏.‏ هل يجب أن تكون مع الفعل لا قبله، أو يجب أن تكون متقدمة على الفعل أو يجب أن تكون معه وإن كانت متقدمة عليه‏؟‏
فمن قال بالأول لزمه أن يكون كل عبد لم يفعل ما أمر به قد كلف ما لا يطيقه

 

ص -318-

إذا لم يكن عنده قدرة إلا مع الفعل‏.‏ ولهذا كان الصواب الذي عليه محققوا المتكلمين، وأهل الفقه، والحديث، والتصوف، وغيرهم ما دل عليه القرآن، وهو أن ‏[‏الاستطاعة‏]‏ التي هي مناط الأمر والنهي وهي المصححة للفعل لا يجب أن تقارن الفعل‏.‏ وأما ‏[‏الاستطاعة‏]‏ التي يجب معها وجود الفعل فهي مقارنة له‏.‏
‏[‏فالأولى‏]‏‏:‏ كقوله‏:‏
‏{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏"‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏ ومعلوم أن الحج والصلاة تجب على المستطيع سواء فعل، أو لم يفعل‏.‏ فعلم أن هذه الاستطاعة لا تجب أن تكون مع الفعل‏.‏
‏[‏والثانية‏]‏‏:‏ كقوله تعالى‏:‏
‏{ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 100، 101‏]‏‏.‏ على قول من يفسر الاستطاعة بهذه، وأما على تفسير السلف والجمهور، فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفوسهم‏.‏ فنفوسهم لا تستطيع إرادته؛ وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه وهذه حال من صده هواه ورأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة، واتباعها، فقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك وهذه ‏[‏الاستطاعة‏]‏ هي المقارنة للفعل الموجبة له‏.‏

 

ص -319-

وأما ‏[‏الأولى‏]‏ فلولا وجودها لم يثبت التكليف بقوله‏:‏ ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏ وأمثال ذلك، فهؤلاء المفرطون والمعتدون في أصول الدين إذا لم يستطيعوا سمع ما أنزل إلى الرسول فهم من هذا القسم‏.‏
وكذلك أيضا تنازعهم في ‏[‏المأمور به‏]‏ الذي علم الله أنه لا يكون أو أخبر مع ذلك أنه لا يكون، فمن الناس من يقول أن هذا غير مقدور عليه‏.‏
كما أن غالية القدرية يمنعون أن يتقدم علم الله، وخبره، وكتابه بأنه لا يكون‏.‏ وذلك لاتفاق الفريقين على أن خلاف المعلوم لا يكون ممكنا، ولا مقدورا عليه‏.‏ وقد خالفهم في ذلك جمهور الناس‏.‏ وقالوا‏:‏ هذا منقوض عليهم بقدرة الله تعالى وقالوا‏:‏ أن الله يعلمه على ما هو عليه فيعلمه ممكنا مقدورا للعبد؛ غير واقع، ولا كائن لعدم إرادة العبد له، أو لبغضه إياه، ونحو ذلك، لا لعجزه عنه، وهذا النزاع يزول بتنويع القدرة عليه كما تقدم، فإنه غير مقدور القدرة المقارنة للفعل، وإن كان مقدورا ‏[‏القدرة المصححة للفعل‏]‏ التي هي مناط الأمر والنهي‏.‏
‏[‏وأما النوع الثاني‏]‏ فكاتفاقهم على أن العاجز عن الفعل لا يطيقه كما لا يطيق الأعمى، والأقطع والزمن نقط المصحف وكتابته والطيران، فمثل هذا النوع قد اتفقوا على أنه غير واقع في الشريعة‏.‏

 

ص -320-

وإنما تنازعوا في جواز الأمر به عقلا، حتى نازع بعضهم في ‏[‏الممتنع لذاته‏]‏ كالجمع بين الضدين والنقيضين هل يجوز الأمر به من جهة العقل مع أن ذلك لم يرد في الشريعة‏؟‏ ومن غلا فزعم وقوع هذه الضرب في الشريعة  كمن يزعم أن أبا لهب كلف بأن يؤمن  بأنه لا يؤمن فهو مبطل في ذلك عند عامة أهل القبلة من جميع الطوائف‏.‏ بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار  المستلزم لموته على الكفر وأنه أسمع هذا الخطاب، ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه الإيمان حينئذ كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب قال تعالى‏:‏ ‏{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏‏.‏
والمقصود هنا التنبيه على أن النزاع في هذا الأصل يتنوع تارة إلى الفعل المأمور به وتارة إلى جواز الأمر‏.‏ ومن هنا شبه من شبه من المتكلمين على الناس حيث جعل القسمين قسما واحدا، وادعى تكليف ما لا يطاق مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي لا يجعلها عامة المسلمين من باب ما لا يطاق‏.‏ والنزاع فيها لا يتعلق بمسائل الأمر والنهي؛ وإنما يتعلق بمسائل القضاء والقدر‏.‏
ثم إنه جعل جواز هذا القسم مستلزما لجواز القسم الذي اتفق المسلمون على أنه غير مقدور عليه، وقاس أحد النوعين بالآخر‏.‏ وذلك من ‏[‏الأقيسة‏]‏ التي اتفق المسلمون؛ بل وسائر أهل الملل؛ بل وسائر العقلاء على بطلانها  فإن من قاس الصحيح المأمور بالأفعال  كقوله‏:‏ إن القدرة مع الفعل أو أن الله

 

ص -321-

علم أنه لا يفعل  على العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه فقد جمع بين ما يعلم الفرق بينهما بالاضطرار عقلا ودينا وذلك من مثارات الأهواء بين القدرية وإخوانهم الجبرية، وإذا عرف هذا فإطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام‏.‏ كإطلاق القول‏:‏ بأن الناس مجبورون على أفعالهم، وقد اتفق سلف الأمة، وأئمتها على إنكار ذلك وذم من يطلقه، وإن قصد به الرد على القدرية الذين لا يقرون بأن الله خالق أفعال العباد، ولا بأنه شاء الكائنات‏.‏ وقالوا هذا رد بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد والباطل بالباطل؛ ولولا أن هذا الجواب لا يحتمل البسط لذكرت من نصوص أقوالهم في ذلك ما يبين ردهم لذلك‏.‏
وأما إذا فصل مقصود القائل، وبين بالعبارة التي لا يشتبه فيها الحق بالباطل‏.‏ ما هو الحق، وميز بين الحق والباطل؛ كان هذا من الفرقان؛ وخرج المبين حينئذ مما ذم به أمثال هؤلاء الذين وصفتهم الأئمة بأنهم مختلفون في كتاب الله مخالفون لكتاب الله متفقون على ترك كتاب الله، وأنهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم‏.‏
ولهذا كان يدخل عندهم المجبرة في مسمى القدرية المذمومين لخوضهم في القدر بالباطل إذ هذا جماع المعنى الذي ذمت به القدرية، ولهذا ترجم الإمام أبو بكر الخلال في ‏[‏كتاب السنة‏]‏ فقال‏:‏ ‏[‏الرد على القدرية، وقولهم‏:‏ أن الله

 

ص -322-

أجبر العباد على المعاصي‏]‏‏.‏ ثم روى عن عمرو بن عثمان عن بقية بن الوليد قال‏:‏ سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر؛ فقال الزبيدي‏:‏ أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحب‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ ما أعرف للجبر أصلا في القرآن ولا في السنة؛ فأهاب أن أقول ذلك؛ ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما وضعت هذا مخافة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق‏.‏
فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة‏.‏
أما ‏[‏الزبيدي‏]‏ فمحمد بن الوليد صاحب الزهري فإنه قال‏:‏ أمر الله اعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، فنفى الجبر، وذلك لأن الجبر المعروف في اللغة هو إلزام الإنسان بخلاف رضاه‏.‏ كما تقول الفقهاء في ‏[‏باب النكاح‏]‏ هل تجبر المرأة على النكاح أو لا تجبر‏؟‏ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع‏؟‏ فيعنون بجبرها إنكاحها بدون رضاها واختيارها، ويعنون بعضلها منعها مما ترضاه وتختاره‏.‏ فقال‏:‏ الله أعظم من أن يجبر أو يعضل؛ لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل العبد محبا راضيا لما يفعله، ومبغضا وكارها لما يتركه‏.‏ كما هو الواقع، فلا يكون العبد مجبورا على ما يختاره ويرضاه ويريده وهي‏:‏ ‏[‏أفعاله

 

ص -323-

الاختيارية‏]‏ ولا يكون معضولا عما يتركه فيبغضه ويكرهه ولا يريده وهي ‏[‏تروكه الاختيارية‏]‏‏.‏
وأما ‏[‏الأوزاعي‏]‏ فإنه منع من اطلاق هذا اللفظ، وإن عنى به هذا المعنى حيث لم يكن له أصل في الكتاب والسنة؛ فيفضي إلى إطلاق لفظ مبتدع ظاهر في إرادة الباطل‏.‏ وذلك لا يسوغ‏.‏ وإن قيل‏:‏ أنه أريد به معنى صحيح‏.‏
قال الخلال‏:‏ أنبأنا المروذي قال سمعت بعض المشيخة يقول‏:‏ سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول‏:‏ أنكر سفيان الثوري الجبر، وقال‏:‏ الله تعالى جبل العباد‏.‏ قال المروذي‏:‏ أظنه أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس  يعني قوله الذي في صحيح مسلم  ‏"‏إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة‏.‏ فقال‏:‏ أخلقين تخلقت بهما، أم خلقين جبلت عليهما‏.‏ فقال‏:‏ بل خلقين جبلت عليهما فقال‏:‏ الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى‏"‏‏.‏ ولهذا احتج البخاري وغيره على خلق الأفعال بقوله تعالى‏:‏
‏{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19‏:‏ 21‏]‏ فأخبر تعالى أنه خلق الإنسان على هذه الصفة‏.‏
وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي؛ لأن الزبيدي نفى الجبر، والأوزاعي منع إطلاقه، إذ هذا اللفظ يحتمل معنى صحيحًا، فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل،كما ذكر الخلال ما ذكره عبد الله بن أحمد في كتاب ‏[‏السنة‏]‏ فقال‏:‏ حدثنا

 

ص -324-

محمد بن بكار ثنا أبو معشر حدثنا يعلى عن محمد بن كعب، أنه قال‏:‏ إنما سمى الجبار؛ لأنه يجبر الخلق على ما أراد‏.‏ فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور، وكان أحسن من نفيه وإن كان ظاهرًا في المحتمل المعنى الفاسد خشية أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعًا‏.‏
وهكذا يقال في نفي الطاقة على المأمور؛ فإن إثبات الجبر في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور‏.‏ وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة‏:‏ قال الخلال‏:‏ أنبأنا الميموني قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله  يعنى أحمد بن حنبل  يناظر خالد بن خداش  يعني في القدر  فذكروا رجلا، فقال أبو عبد الله‏:‏ إنما أكره من هذا أن يقول‏:‏ أجبر الله‏.‏ وقال‏:‏ أنبأنا المروذي، قلت لأبى عبد الله‏:‏ رجل يقول‏:‏ إن الله أجبر العباد‏.‏ فقال‏:‏ هكذا لا تقل‏.‏ وأنكر هذا، وقال‏:‏ يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏.‏
وقال‏:‏ أنبأنا المروذي قال‏:‏ كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري وقال‏:‏ إنه تنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري‏:‏ إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء فقال‏:‏ إن الله جبر العباد على ما أراد‏.‏أراد بذلك إثبات القدر، فوضع أحمد بن علي كتابًا يحتج فيه، فأدخلته على أبي عبد الله، فأخبرته بالقصة فقال‏:‏ ويضع كتابًا‏.‏ وأنكر عليهما جميعًا، على بن رجاء حين قال‏:‏ جبر العباد، وعلى القدري الذي قال‏:‏ لم يجبر، وأنكر على أحمد بن علي في وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب، وقال

 

ص -325-

لي‏:‏ يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال‏:‏ جبر العباد‏.‏ فقلت لأبي عبد الله فما الجواب في هذه المسألة‏؟‏ قال‏:‏ يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء‏.‏
قال المروذي في هذه المسألة‏:‏ إنه سمع أبا عبد الله لما أنكر على الذي قال‏:‏ لم يجبر، وعلى من رد عليه‏:‏ جبر، فقال أبوعبد الله‏:‏ كلما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في جوابها، وقال‏:‏ يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثه، وأنكر على من رد بشىء من جنس الكلام، إذا لم يكن له فيها إمام مقدم‏.‏ قال المروذي‏:‏ فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبر ومعه مشيخة، وكتاب من أهل عكبر، فأدخلت أحمد بن عليٍّ على أبى عبد الله‏.‏ فقال‏:‏ يا أبا عبد الله هو ذا الكتاب، ادفعه إلى أبي بكر حتى يقطعه، وأنا أقوم على منبر عكبر، وأستغفر الله عز وجل‏.‏ فقال أبو عبد الله لي‏:‏ ينبغي أن تقبلوا منه، فرجعوا إليه‏.‏
وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في غير هذا الموضع وتكلمنا على الأصل الفاسد الذي ظنه المتفرقون من أن إثبات المعنى الحق  الذي يسمونه جبرًا  ينافى الأمر والنهي، حتى جعله القدرية منافيًا للأمر والنهي مطلقًا‏.‏
وجعله طائفة من الجبرية منافيًا لحسن الفعل وقبحه، وجعلوا ذلك مما اعتمدوه في نفي حسن الفعل وقبحه القائم به المعلوم بالعقل، ومن المعلوم أنه لا ينافى ذلك، إلا كما ينافيه بمعنى كون الفعل ملائمًا للفاعل ونافعًا له، وكونه منافيًا للفاعل وضارًا له‏.

 

ص -326-

سئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية  رحمه الله تعالى ‏:‏ ما الذي يجب على المكلف اعتقاده‏؟‏
ما الذي يجب على المكلف اعتقاده‏؟‏ وما الذي يجب عليه علمه‏؟‏ وما هو العلم المرغب فيه‏؟‏ وما هو اليقين‏؟‏ وكيف يحصل‏؟‏ وما العلم بالله‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، أما قوله‏:‏ ما الذي يجب على المكلف اعتقاده‏.‏ فهذا فيه إجمال وتفصيل‏.‏
أما الإجمال، فإنه يجب على المكلف أن يؤمن بالله ورسوله، ويقر بجميع ما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما أمر به الرسول ونهى، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به‏.‏ فلا بد من تصديقه فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر‏.‏
وأما التفصيل، فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده من أن الرسول أخبر به وأمر به، وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به، ولم يمكنه العلم بذلك، فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصلًا، وهو داخل في إقراره

 

ص -327-

بالمجمل العام، ثم إن قال خلاف ذلك متأولًا كان مخطئًا يغفر له خطؤه، إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان؛ ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل، وأما ما علم ثبوته بمجرد القياس العقلي دون الرسالة، فهذا لا يعاقب إن لم يعتقده‏.‏
وأما قول طائفة من أهل الكلام‏:‏ إن الصفات الثابتة بالعقل هي التي يجب الإقرار بها، ويكفر تاركها بخلاف ما ثبت بالسمع، فإنهم تارة ينفونه، وتارة يتأولونه، أو يفوضون معناه، وتارة يثبتونه، لكن يجعلون الإيمان والكفر متعلقًا بالصفات العقلية، فهذا لا أصل له عن سلف الأمة وأئمتها؛ إذ الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية‏.‏
وأما قوله‏:‏ ما الذي يجب عليه علمه‏؟‏ فهذا أيضا يتنوع، فإنه يجب على كل مكلف أن يعلم ما أمر الله به، فيعلم ما أمر بالإيمان به، وما أمر بعلمه، بحيث لو كان له ما تجب فيه الزكاة لوجب عليه تعلم علم الزكاة، ولو كان له ما يحج به لوجب عليه تعلم علم الحج، وكذلك أمثال ذلك‏!‏‏.‏
ويجب على عموم الأمة علم جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يضيع من العلم الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته شيء، وهو ما دل

 

ص -328-

عليه الكتاب والسنة، لكن القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعين فرض على الكفاية؛ إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين‏.‏
وأما ‏[‏العلم المرغب فيه جملة‏]‏ فهو العلم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، لكن يرغب كل شخص في العلم الذي هو إليه أحوج، وهو له أنفع، وهذا يتنوع، فرغبة عموم الناس في معرفة الواجبات والمستحبات من الأعمال والوعد والوعيد أنفع لهم، وكل شخص منهم يرغب في كل ما يحتاج إليه من ذلك، ومن وقعت في قلبه شبهة، فقد تكون رغبته في عمل ينافيها أنفع من غير ذلك‏.‏
وأما اليقين فهو طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه، وهو معنى ما يقولون‏:‏ ‏[‏ماء يقن‏]‏ إذا استقر عن الحركة‏.‏ وضد اليقين الريب، وهو نوع من الحركة والاضطراب، يقال‏:‏ رابني يريبني، ومنه في الحديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف، فقال‏:‏ ‏[‏لا يريبه أحد‏]‏‏.‏
ثم اليقين ينتظم منه أمران‏:‏ علم القلب، وعمل القلب‏.‏ فإن العبد قد يعلم علمًا جازمًا بأمر، ومع هذا فيكون في قلبه حركة واختلاج من العمل الذي يقتضيه ذلك العلم كعلم العبد أن الله رب كل شيء ومليكه، ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه، وقد لا يصحبه العمل بذلك؛ إما لغفلة القلب عن هذا العلم، والغفلة هي ضد العلم التام، وإن لم يكن ضدًا لأصل العلم، وإما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب، وإما لغير ذلك‏.‏

 

ص -329-

وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏سلوا الله اليقين والعافية، فما أعطى أحد بعد اليقين شيئًا خيرًا من العافية، فسلوهما الله‏"‏ فأهل اليقين إذا ابتلوا ثبتوا، بخلاف غيرهم، فإن الابتلاء قد يذهب إيمانه أو ينقصه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏، فهذه حال هؤلاء‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9-12‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ الآيتين ‏[‏المدثر‏:‏ 31، 32‏]‏‏.‏
وأما كيف يحصل اليقين‏؟‏ فبثلاثة أشياء‏:‏
أحدها‏:‏ تدبر القرآن‏.‏
والثاني‏:‏ تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق، التي تبين أنه حق‏.‏

 

ص -330-

والثالث‏:‏ العمل بموجب العلم، قال تعالى‏:‏ ‏{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏، والضمير عائد على القرآن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ الآية ‏[‏فصلت‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏
وأما قول طائفة من المتفلسفة  ومن تبعهم من المتكلمة والمتصوفة ‏:‏ أن الضمير عائد إلى الله، وأن المراد ذكر طريق من عرفه بالاستدلال بالعقل، فتفسير الآية بذلك خطأ من وجوه كثيرة، وهو مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها‏.‏
فبين  سبحانه  أنه يرى الآيات المشهودة ليبين صدق الآيات المسموعة، مع أن شهادته بالآيات المسموعة كافية؛ لأنه  سبحانه  لم يدل عباده بالقرآن بمجرد الخبر، كما يظنه طوائف من أهل الكلام، يظنون أن دلالة القرآن إنما هو بطريق الخبر، والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر الذي هو الرسول، والعلم بصدقه موقوف على إثبات الصانع، والعلم بما يجب ويجوز ويمتنع عليه، والعلم بجواز بعثة الرسل، والعلم بالآيات الدالة على صدقهم، ويسمون هذه الأصول العقليات؛ لأن السمع عندهم موقوف عليها، وهذا غلط عظيم، وهو من أعظم ضلال طوائف من أهل الكلام والبدع‏.‏
فإن الله  سبحانه  بين في كتابه كل ما يحتاج إليه في أصول الدين، قرر فيه

 

ص -331-

التوحيد، والنبوة، والمعاد بالبراهين التي لا ينتهي إلى تحقيقها نظر، خلاف المتكلمين من المسلمين والفلاسفة وأتباعهم، واحتج فيه بالأمثال الصمدية، التي هي المقاييس العقلية المفيدة لليقين، وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع‏.‏
وأما الآيات المشهودة، فإن ما يشهد، وما يعلم بالتواتر من عقوبات مكذبي الرسل ومن عصاهم، ومن نصر الرسل وأتباعهم على الوجه الذي وقع، وما علم من إكرام الله تعالى لأهل طاعته وجعل العاقبة له، وانتقامه من أهل معصيته وجعل الدائرة عليهم فيه عبرة تبين أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وغير ذلك، مما يوافق القرآن‏.‏
ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏2‏]‏‏.‏
فهذا بين الاعتبار في أصول الدين، وإن كان قد تناول الاعتبار في فروعه، وكذلك قوله‏:‏ ‏
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران: 13‏]‏‏.‏
وأما العمل، فإن العمل بموجب العلم يثبته ويقرره ومخالفته تضعفه، بل قد تذهبه، قال الله تعالى‏:‏ ‏
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏،

 

ص -332-

وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏}‏ الآيات ‏[‏النساء‏:‏66‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏28‏]‏‏.‏
وأما العلم فيراد به في الأصل نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ العلم به نفسه، وبما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام وما دلت عليه أسماؤه الحسنى‏.‏ وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة؛ فإنه لابد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته، كما شهد به القرآن والعيان‏.‏ وهذا معنى قول أبي حبان التيمي  أحد أتباع التابعين  العلماء ثلاثة‏:‏
عالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله وبأمر الله‏.‏ فالعالم بالله الذي يخشى الله، والعالم بأمر الله الذي يعرف الحلال والحرام‏.‏
وقال رجل للشعبي‏:‏ أيها العالم، فقال‏:‏ إنما العالم من يخشى الله‏.‏ وقال  عبد الله ابن مسعود‏:‏ كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلًا‏.‏
والنوع الثاني‏:‏ يراد بالعلم بالله‏:‏ العلم بالأحكام الشرعية، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترخص في شيء، فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنه،

 

ص -333-

فقال‏:‏ ‏"‏ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها‏!‏ والله إني لأعلمكم بالله، وأخشاكم له‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده‏"‏ فجعل العلم به هو العلم بحدوده‏.‏
وقريب من ذلك قول بعض التابعين في صفة أمير المؤمنين على بن أبي طالب  رضي الله عنه  حيث قال‏:‏ إن كان الله في صدري لعظيمًا، وإن كنت بذات الله لعليمًا، أراد بذلك أحكام الله‏.‏
فإن لفظ الذات في لغتهم لم يكن كلفظ الذات في اصطلاح المتأخرين، بل يراد به ما يضاف إلى الله، كما قال خبيب  رضي الله عنه‏:‏
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
ومنه الحديث‏:‏ ‏"‏لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، كلها في ذات الله‏"‏‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏
{فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏1‏]‏، ‏{وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏6‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ فإن ذات تأنيث ذو، وهو يستعمل مضافًا يتوصل به إلى الوصف بالأجناس، فإذا كان الموصوف مذكرًا قيل‏:‏ ذو كذا؛ وإن كان مؤنثًا قيل‏:‏ ذات كذا، كما يقال‏:‏ ذات سوار‏.‏ فإن قيل‏:‏ أصيب فلان في ذات الله فالمعنى في جهته ووجهته، أي فيما أمر به وأحبه، ولأجله‏.‏
ثم إن الصفات لما كانت مضافة إلى النفس فيقال في النفس أيضًا‏:‏ إنها ذات علم وقدرة وكلام ونحو ذلك،حذفوا الإضافة وعرفوها فقالوا‏:‏ الذات الموصوفة،

 

ص -334-

أي النفس الموصوفة، فإذا قال هؤلاء المؤكدون‏:‏ ‏[‏الذات‏]‏، فإنما يعنون به النفس الحقيقية، التي لها وصف ولها صفات‏.‏
والصفة والوصف تارة يراد به الكلام الذي يوصف به الموصوف، كقول الصحابي في
‏{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، وتارة يراد به المعاني التي دل عليها الكلام، كالعلم والقدرة، والجهمية والمعتزلة وغيرهم تنكر هذه، وتقول‏:‏ إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف‏.‏ والكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية قد يفرقون بين الصفة والوصف، فيجعلون الوصف هو القول، والصفة المعنى القائم بالموصوف‏.‏
وأما جماهير الناس فيعلمون أن كل واحد من لفظ الصفة والوصف مصدر في الأصل كالوعد والعدة، والوزن والزنة، وأنه يراد به تارة هذا، وتارة هذا‏.‏
ولما كان أولئك الجهمية ينفون أن يكون الله وصف قائم به علم أو قدرة، أو إرادة أو كلام  وقد أثبتها المسلمون  صاروا يقولون‏:‏ هؤلاء أثبتوا صفات زائدة على الذات‏.‏ وقد صار طائفة من مناظريهم الصفاتية يوافقونهم على هذا الإطلاق، ويقولون‏:‏ الصفات زائدة على الذات التي وصفوا  لها صفات ووصف  فيشعرون الناس أن هناك ذاتًا متميزة عن الصفات، وأن لها صفات متميزة عن الذات، ويشنع نفاة الصفات بشناعات ليس هذا موضعها، وقد بينا فسادها في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -335-

والتحقيق أن الذات الموصوفة لا تنفك عن الصفات أصلا، ولا يمكن وجود ذات خالية عن الصفات‏.‏ فدعوى المدعي وجود حي عليم قدير بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة، كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حيًا عليمًا قديرًا‏.‏ بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو محدث، عرى عن جميع الصفات، ممتنع في صريح العقل‏.‏
ولكن الجهمية المعتزلة وغيرهم؛ لما أثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات صار مناظرهم يقول‏:‏ أنا أثبت الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات، أي لا أقتصر على مجرد إثبات ذات بلا صفات‏.‏ ولم يعن بذلك أنه في الخارج ذات ثابتة بنفسها، ولا مع ذلك صفات هي زائدة على هذه الذات متميزة عن الذات؛ ولهذا كان من الناس من يقول‏:‏ الصفات غير الذات، كما يقوله المعتزلة، والكرامية، ثم المعتزلة تنفيها، والكرامية تثبتها‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره، كما يقوله طوائف من الصفاتية، كأبي الحسن الأشعري وغيره‏.‏
ومنهم من يقول كما قالت الأئمة‏:‏ لا نقول الصفة هي الموصوف، ولا نقول‏:‏ هي غيره؛ لأنا لا نقول‏:‏ لا هي هو، ولا هي غيره؛ فإن لفظ الغير فيه إجمال، قد يراد به المباين للشيء أو ما قارن أحدهما الآخر، وما قاربه بوجود أو زمان أو مكان، ويراد بالغيران‏:‏ ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر‏.‏

 

ص -336-

وعلى الأول‏:‏ فليست الصفة غير الموصوف، ولا بعض الجملة غيرها‏.‏
وعلى الثاني‏:‏ فالصفة غير الموصوف، وبعض الجملة غيرها‏.‏
فامتنع السلف والأئمة من إطلاق لفظ الغير على الصفة نفيًا أو إثباتًا؛ لما في ذلك من الإجمال والتلبيس، حيث صار الجهمي يقول‏:‏القرآن هو الله أو غير الله، فتارة يعارضونه بعلمه فيقولون‏:‏ علم الله هو الله أو غيره، إن كان ممن يثبت العلم، أو لا يمكنه نفيه‏.‏
وتارة يحلون الشبهة ويثبتون خطأ الإطلاقين‏:‏ النفي والإثبات، لما فيه من التلبيس، بل يستفصل السائل فيقال له‏:‏ إن أردت بالغير ما يباين الموصوف فالصفة لا تباينه، فليست غيره، وإن أردت بالغير ما يمكن فهم الموصوف على سبيل الإجمال، وإن لم يكن هو، فهو غير بهذا الاعتبار، والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد‏.‏

 

ص -337-

فصل
ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن والإيمان، تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة، يجعلون العقل وحده أصل علمهم، و يفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له‏.‏
والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن‏.‏
وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذب به صريح العقل‏.‏
ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها، ممن لم يعلم صدقه، وكلا الطرفين مذموم‏.‏
بل العقل شرط في معرفة العلوم،وكمال وصلاح الأعمال،وبه يكمل العلم

 

ص -338-

والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار‏.‏
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية، كانت الأقوال، والأفعال مع عدمه‏:‏ أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق كما قد يحصل للبهيمة‏.‏
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة‏.‏
والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال، وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم‏.‏
وقد يقترب من كل من الطائفتين بعض أهل الحديث، تارة بعزل العقل عن محل ولايته، وتارة بمعارضة السنن به‏.‏
فهذا الانحراف الذي بين الحرفية والصوتية في العقل التمييزي بمنزلة الانحراف الذي بينهم في الوجد القلبي، فإن الصوتية صدقوا وعظموه، وأسرفوا

 

ص -339-

فيه، حتى جعلوه هو الميزان، وهو الغاية، كما يفعل أولئك في العقل، والحرفية أعرضت عن ذلك، وطعنت فيه ولم تعده من صفات الكمال‏.‏
وسبب ذلك‏:‏ أن أهل الحرف لما كان مطلوبهم العلم، وبابه هو العقل، وأهل الصوت لما كان مطلوبهم العمل وبابه الحب، صار كل فريق يعظم ما يتعلق به، ويذم الآخر، مع أنه لابد من علم، وعمل؛ عقل علمي، وعمل ذهني، وحب، تمييز، وحركة‏.‏ قال‏:‏ وحال حرف، وصوت، وكلاهما إذا كان موزونًا بالكتاب والسنة كان هو الصراط المستقيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم‏.‏

 

ص -340-

قال شيخ الإسلام  قدس الله روحه‏:‏ الشهادتان هي أصل الدين
فصل
وإذا كانت الشهادتان هي أصل الدين، وفرعه، وسائر دعائمه، وشعبه داخلة فيهما، فالعبادة متعلقة بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏ وقال في الآية المشروعة في خطبة الحاجة‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70، 71‏]‏‏.‏
وفي الخطبة‏:‏ ‏"‏من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا‏"‏ وقال‏:
‏ ‏{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏، ‏{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُوَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏
وكذلك علق الأمور بمحبة الله ورسوله، كقوله‏:‏
‏{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏،

 

ص -341-

وبرضا الله ورسوله، كقوله‏:‏ ‏{وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ وتحكيم الله ورسوله، كقوله‏:‏ ‏{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 48‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 61‏]‏، وأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، فقال‏:‏ ‏{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏، وجعل المغانم لله والرسول،فقال‏:‏ ‏{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏1‏]‏ ونظائر هذا متعددة‏.‏
فتعليق الأمور من المحبة والبغضة، والموالاة والمعاداة، والنصرة والخذلان، والموافقة والمخالفة، والرضا والغضب، والعطاء والمنع، بما يخالف هذه الأصول المنزلة من عند الله مما هو ‏[‏أخص منها‏]‏ أو ‏[‏أعم منها‏]‏ أو ‏[‏أعم من وجه وأخص من وجه‏]‏‏.‏
فالأعم‏:‏ ما عليه المتفلسفة، ومن اتبعهم  من ضلال المتكلمة والمتصوفة والممالك المؤسسة على ذلك، كملك الترك وغيرهم، في تسويغ التدين بغير ما جاء به محمد رسول الله‏.‏ وإن عظم محمدًا وجعل دينه أفضل الأديان، وكذلك من سوغ النجاة والسعادة بعد مبعثه بغير شريعته‏.‏
والأعم من وجه الأخص من وجه‏:‏ مثل الأنساب، والقبائل، والأجناس العربية، والفارسية، والرومية، والتركية أو الأمصار والبلاد‏.‏

 

ص -342-

والأخص مطلقًا الانتساب إلى جنس معين من أجناس بعض شرائع الدين كالتجند للمجاهدين، والفقه للعلماء، والفقر والتصوف للعباد‏.‏ أو الانتساب إلى بعض فرق هذه الطوائف كإمام معين، أو شيخ، أو ملك، أو متكلم من رؤوس المتكلمين، أو مقالة، أو فعل تتميز به طائفة، أو شعار هذه الفرق من اللباس من عمائم أو غيرها، كما يتعصب قوم للخرقة، أو اللبسة، يعنون الخرقة الشاملة للفقهاء، والفقراء، أو المختصة بأحد هذين أو بعض طوائف أحد هؤلاء أو لباس التجند، أو نحو ذلك، كل ذلك من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة وأهلها، خارجون عن السنة والجماعة، داخلون في البدع والفرقة، بل دين الله تعالى أن يكون رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو المطاع أمره، ونهيه، المتبوع في محبته ومعصيته، ورضاه، وسخطه، و عطائه، ومنعه، وموالاته، ومعاداته، ونصره وخذلانه‏.‏
ويعطى كل شخص أو نوع من أنواع العالم من الحقوق ما أعطاهم إياه الرسول، فالمقرب من قربه، والمقصي من أقصاه، والمتوسط من وسط، ويحب من هذه الأمور أعيانها وصفاتها، ما يحبه الله ورسوله منها، ويكره منها ما كره الله ورسوله منها، ويترك منها  لا محبوبًا ولا مكروها  ما تركه الله، ورسوله كذلك  لا محبوبًا ولا مكروهًا‏.‏
ويؤمر منها بما أمر الله به ورسوله، وينهي عما نهى الله عنه ورسوله،

 

ص -343-

ويباح منها ما أباحه الله ورسوله، ويعفي عما عفا الله عنه ورسوله، ويفضل منها ما فضله الله ورسوله، ويقدم ما قدمه الله ورسوله‏.‏ ويؤخر ما أخره الله ورسوله، ويرد ما تنوزع منها إلى الله ورسوله، فما وضح اتبع، وما اشتبه بين فيه‏.‏ وما كان منها من الاجتهاديات المتنازع فيها التي أقرها الله ورسوله، كاجتهاد الصحابة في تأخير العصر عن وقتها يوم قريظة، أو فعلها في وقتها، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، وكما قطع بعضهم نخل بني النضير، وبعضهم لم يقطع، فأقر الله الأمرين‏.‏ وكما ذكر الله عن داود وسليمان‏:‏ أنهما حكما في الحرث، ففهم الحكومة أحدهما، وأثنى على كل منهما بالعلم والحكم به، وكما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏"‏‏.‏
فما وسعه الله ورسوله وسع، وما عفى عنه ورسوله عفى عنه‏.‏ وما اتفق عليه المسلمون من إيجاب، أو تحريم، أو استحباب، أو إباحة، أو عفو بعضهم لبعض عما أخطأ فيه، وإقرار بعضهم لبعض فيما اجتهدوا به  فهو مما أمر الله به ورسوله؛ فإن الله ورسوله أمر بالجماعة، ونهى عن الفرقة‏.‏
ودل على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، على ما هو مسطور في مواضعه‏.‏

 

ص -344-

وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية  قدس الله روحه ‏:‏ سئل عن قوله (ص) تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة
عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏تفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة‏"‏‏.‏ ما الفرق‏؟‏ وما معتقد كل فرقة من هذه الصنوف‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظه‏:‏ ‏"‏افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏على ثلاث وسبعين ملة‏"‏ وفي رواية قالوا‏:‏ يا رسول الله، من الفرقة الناجية‏؟‏ قال‏
:‏ ‏"‏من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏"‏‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ ‏"‏هي الجماعة، يد الله على الجماعة‏"‏‏.‏
ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم‏.‏

 

ص -345-

وأما الفرق الباقية، فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة‏.‏ وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع‏.‏ فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة‏.‏
وأما تعيين هذه الفرق، فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏هنا كلمة لم تظهر بالأصل‏]‏ هي إحدى الثنتين والسبعين لابد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عمومًا، وحرم القول عليه بلا علم خصوصًا، فقال تعالى‏:‏ ‏
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168، 169‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏].
 وأيضًا، فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست

 

ص -346-

هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة  كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك  كان من أهل البدع والضلال والتفرق‏.‏
وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعًا لها، تصديقًا وعملا وحبًا وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عادها، الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه‏.‏
وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفًا للكتاب والسنة

 

ص -347-

أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم‏.‏
وجماع الشر الجهل والظلم، قال الله تعالى‏:‏ ‏
{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ إلى آخر السورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72، 73‏]‏‏.‏ وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى أنه لابد لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائمًا يتبين له من الحق ما كان جاهلًا به، و يرجع عن عمل كان ظالمًا فيه‏.‏
وأدناه ظلمه لنفسه، كما قال تعالى‏:
‏ ‏{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏257‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏1‏]‏‏.‏
ومما ينبغي أيضًا أن يعرف‏:‏ أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة‏.‏
ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد بالباطل باطلًا بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة‏.‏

 

ص -348-

ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ‏.‏ والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك‏.‏
ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف من والى موافقه وعادي مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات‏.‏
ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع ‏[‏الخوارج‏]‏ المارقون‏.‏ وقد صح الحديث في الخوارج عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري منها غير وجه‏.‏
وقد قاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفين؛ إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف‏:‏ صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذه الحال‏.‏
فالخوارج لما فارقوا جماعة المسلمين وكفّروهم واستحلوا قتالهم، جاءت السنة

 

ص -349-

بما جاء فيهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏"‏‏.‏
وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى قِسْمَة النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يامحمد، اعدل؛ فإنك لم تعدل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لقد خبت وخسرت إن لم أعدل‏"‏ فقال له بعض أصحابه‏:‏ دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال‏:‏ ‏"‏إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم‏"‏ الحديث‏.‏
فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه‏.‏
وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك  وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين  قالا‏:‏ أصول البدع أربعة‏:‏ الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة‏.‏
فقيل لابن المبارك‏:‏ والجهمية‏؟‏ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد‏.‏ وكان يقول‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية‏.‏ وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا‏:‏

 

ص -350-

إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة‏.‏
وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء‏:‏ يكون كل طائفة من ‏[‏المبتدعة الخمسة‏]‏ اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين‏:‏ يكون كل طائفة من ‏[‏المبتدعة الأربعة‏]‏ ثمانية عشر فرقة‏.‏
وهذا يبني على أصل آخر، وهو‏:‏ تكفير أهل البدع‏.‏ فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم؛ فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله‏:‏ ‏"‏هم في النار‏"‏ مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال تعالى‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏‏.‏
ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين‏:‏
منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين‏.‏
وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير‏[‏المرجئة‏]‏ و‏[‏الشيعة‏]‏ المفضلة ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع  من هؤلاء وغيرهم  خلافًا

 

ص -351-

عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم‏.‏ وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة‏.‏
ومنهم من لم يكفر أحدًا من هؤلاء إلحاقًا لأهل البدع بأهل المعاصي،قالوا‏:‏فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدًا بذنب،فكذلك لا يكفرون أحدًا ببدعة‏.‏
والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير ‏[‏الجهمية المحضة‏]‏، الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى، ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة، بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لايرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات‏.‏
وأما الخوارج والروافض، ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره‏.‏
وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال‏.‏
وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا؛ فإن الله منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة، صار الناس ثلاثة أصناف‏:‏ مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر،

 

ص -352-

ومنافق مستخف بالكفر؛ ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشرة آية في المنافقين‏.‏
وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله‏:‏ ‏
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 15‏]‏، وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شر من الكفار، كما قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53، 54‏]‏‏.‏
وإذا كان كذلك، فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة‏.‏ وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا‏.‏ وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق؛ ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم‏.‏
ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًِا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم

 

ص -353-

حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين‏.‏
والأصل الثاني‏:‏ أن المقالة تكون كفرًا، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع؛ فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله‏.‏
وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدًا مشهورة وإنما يردونها بالتحريف‏.‏
الثاني‏:‏ أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع‏.‏ فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله، فأصل الكفر الإنكار لله‏.‏

 

ص -354-

الثالث‏:‏ أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها، لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان، حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات‏.‏ ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفارًا قطعًا، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه‏.‏
وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة‏:‏ أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏"‏ وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك‏.‏
وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس بذنب، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب  وإن كانت متواترة  ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم‏:‏
‏"‏يقتلون أهل الإسلام وَيَدعون أهل الأوثان‏"‏‏.‏ ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما، وكفروا أهل صفين  الطائفتين  في نحو ذلك من المقالات الخبيثة‏.‏

 

ص -355-

وأصل قول الرافضة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على عَلِيٍّ نصًا قاطعًا للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين، وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا، بل كفروا إلا نفرًا قليلًا‏:‏ إما بضعة عشر أو أكثر، ثم يقولون‏:‏ إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين‏.‏ وقد يقولون‏:‏ بل آمنوا ثم كفروا‏.‏
وأكثرهم يكفر من خالف قولهم، ويسمون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفارًا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة، أسوأ حالاً من مدائن المشركين والنصارى؛ ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين‏.‏ ومعاداتهم ومحاربتهم، كما عرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين‏.‏
ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم، ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة؛ ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السنى إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم‏:‏ أنا سني، فإنما معناه‏:‏ لست رافضيًا‏.‏
ولا ريب أنهم شر من الخوارج، لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة، وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف

 

ص -356-

الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب‏.‏ والخوارج مرقوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام‏.‏
وأما القدرية المحضة، فهم خير من هؤلاء بكثير، وأقرب إلى الكتاب والسنة، لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضًا، وقد يكفرون من خالفهم، ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك‏.‏
وأما المرجئة، فليسوا من هذه البدع المغلظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يُعَدُّون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة‏.‏
ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون، تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيرًا عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري‏:‏ من قَدَّم عليًا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى ‏"‏أي‏:‏ حطَّ من شأنهم‏"‏ بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك‏.‏ أو نحو هذا القول‏.‏ قاله لما نسب إلى تقديم على بعض أئمة الكوفيين‏.‏ وكذلك قول أيوب السختياني‏:‏ من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين‏.‏ وقد روى أنه رجع عن ذلك، وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين‏.‏

 

ص -357-

وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى، ليس له قول ابتدعه ولكن أظهر السنة وبينها، وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏ فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به وصار متبوعًا لمن بعده، كما كان تابعًا لمن قبله‏.‏
وإلا فالسنة هي ما تَلَقَّاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، والله أعلم‏.

 

ص -358-

فصل
قاعدة‏:‏ الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور
الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور، في أغلب الناس، مثل تقابلهم في بعض الأفعال، يتخذها بعضهم دينًا واجبًا، أو مُستحبًا، أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا، أو محرمًا، أو منهيًا عنه في الجملة‏.‏
مثال ذلك‏:‏ سماع الغناء، فإن طائفة من المتصوفة، والمتفقرة تتخذه دينًا، وإن لم تقل بألسنتها، أو تعتقد بقلوبها أنه قربة، فإن دينهم حال لا اعتقاد؛ فحالهم وعملهم هو استحسانها في قلوبهم، ومحبتهم لها، ديانة وتقربًا إلى الله، وإن كان بعضهم قد يعتقد ذلك، ويقوله بلسانه‏.‏
وفيهم من يعتقد، ويقول‏:‏ ليس قربة، لكن حالهم هو كونه قربة، ونافعًا في الدين، ومصلحًا للقلوب‏.‏
ويغلو فيه من يغلو، حتى يجعل التاركين له كلهم خارجين عن ولاية الله، وثمراتها من المنازل العلية‏.‏

 

ص -359-

بإزائهم من ينكر جميع أنواع الغناء ويحرمه، ولا يفصل بين غناء الصغير والنساء في الأفراح، وغناء غيرهن وغنائهن في غير الأفراح‏.‏
ويغلو من يغلو في فاعليه حتى يجعلهم كلهم فساقًا أو كفارًا‏.‏
وهذان الطرفان من اتخاذ ما ليس بمشروع دينًا، أو تحريم ما لم يحرم، دين الجاهلية والنصارى، الذي عابه الله عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار ‏:‏ ‏"‏إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا‏"‏ وقال في حق النصارى‏:‏ ‏{وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏
ومثال ذلك أن يحصل من بعضهم تقصير في المأمور أو اعتداء في المنهي؛ إما من جنس الشبهات، وإما من جنس الشهوات، فيقابل ذلك بعضهم بالاعتداء في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو بالتقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏
والتقصير والاعتداء  إما في المأمور به والمنهي عنه شرعًا، وإما في نفس أمر الناس ونهيهم  هو الذي استحق به أهل الكتاب العقوبة، حيث قال‏:‏
 

 

ص -360-

{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ فجعل ذلك بالمعصية، والاعتداء، والمعصية مخالفة الأمر، وهو التقصير، والاعتداء مجاوزة الحد‏.‏
وكذلك يضمن كل مؤتمن على مال إذا قصر وفرط فيما أمر به وهو المعصية، إذا اعتدى بخيانة أو غيرها؛ ولهذا قال‏:‏
‏{وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، فالإثم هو المعصية‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏ ‏"‏إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها‏"‏، فالمعصية تضييع الفرائض، وانتهاك المحارم، وهو مخالفة الأمر والنهي، والاعتداء مجاوزة حدود المباحات‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏
{يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، فالمعصية مخالفة أمره ونهيه، والاعتداء مجاوزة ما أحله إلى ما حرمه وكذلك قوله  والله أعلم‏:‏ ‏{ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏} ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏، فالذنوب‏:‏ المعصية، والإسراف‏:‏ الاعتداء ومجاوزة الحد‏.‏
واعلم أن ‏[‏مجاوزة الحد‏]‏ هي نوع من مخالفة النهي؛ لأن اعتداء الحد محرم منهي عنه، فيدخل في قسم المنهي عنه، لكن المنهي عنه قسمان‏:‏
منهي عنه مطلقًا كالكفر، فهذا فعله إثم، ومنهي عنه‏.‏

 

ص -361-

 وقسم أبيح منه أنواع ومقادير، وحرم الزيادة على تلك الأنواع والمقادير، فهذا فعله عدوان‏.‏
وكذلك قد يحصل العدوان في المأمور به كما يحصل في المباح، فإن الزيادة على المأمور به قد يكون عدوانًا محرمًا، وقد يكون مباحًا مطلقًا، وقد يكون مباحًا إلى غاية، فالزيادة عليها عدوان‏.‏
ولهذا التقسيم قيل في ‏[‏الشريعة‏]‏‏:‏ هي الأمر والنهي، والحلال والحرام، والفرائض والحدود، والسنن والأحكام‏.‏
و‏[‏الفرائض‏]‏‏:‏ هي المقادير في المأمور به، و‏[‏الحدود‏]‏‏:‏ النهايات لما يجوز من المباح المأمور به وغير المأمور به‏.‏

 

ص -362-

وقال شيخ الإسلام  قدس الله روحه‏:‏ لوصية الكبرى وهي رسالته إلى عدي بن مسافر
بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة  أبي البركات عدي بن مسافر الأموي  ‏"‏هو أبو البركات عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان‏.‏ تنسب إليه طائفة العدوية سار ذكره في الآفاق وتبعه خلق كثير، توفى سنة سبع، وقيل‏:‏ خمس وخمسين وخمسمائة‏"‏  رحمه الله  ومن نحا نحوهم، وفقهم الله لسلوك سبيله، وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج ؛ الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة‏.‏
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
وبعد‏:‏ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو

 

ص -363-

على كل شيء قدير‏.‏ ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عنده درجة، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏
أما بعد‏:‏ فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله‏.‏
وجعلهم أمة وسطًا أي عدلًا خيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم  بعد ذلك  بما ميزهم وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم‏.‏
فالأول‏:‏ مثل أصول الإيمان وأعلاها وأفضلها هو ‏[‏التوحيد‏]‏ وهو‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏،

 

ص -364-

وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51،52‏]‏‏.‏
ومثل الإيمان بجميع كتب الله، وجميع رسله، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 15‏]‏، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ إلى آخرها ‏[‏البقرة‏:‏ 285  286‏]‏
ومثل الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به، حيث قال‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏62‏]‏‏.‏
ومثل أصول الشرائع كما ذكر في سورة ‏[‏الأنعام‏]‏ و‏[‏الأعراف‏]‏ و‏[‏سبحان‏]‏ وغيرهن من السور المكية‏:‏ من أمره بعبادته وحده لا شريك له، وأمره ببر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والعدل في المقال، وتوفية الميزان والمكيال، وإعطاء السائل والمحروم، وتحريم قتل النفس بغير

 

ص -365-

الحق، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الإثم والبغي بغير الحق، وتحريم الكلام في الدين بغير علم، مع ما يدخل في التوحيد من إخلاص الدين لله، والتوكل على الله والرجاء لرحمة الله، والخوف من الله، والصبر لحكم الله والقيام لأمر الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أهله وماله والناس أجمعين‏.‏
إلى غير ذلك من أصول الإيمان التي أنزل الله ذكرها في مواضع من القرآن، كالسور المكية وبعض المدنية‏.‏
وأما الثاني‏:‏ فما أنزله الله في السور المدنية من شرائع دينه، وما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فإن الله سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة وامتن على المؤمنين بذلك، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك، فقال‏:‏
‏{وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏ وقال‏:‏ ‏{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏‏.‏
قال غير واحد من السلف‏:‏ الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه  رضي الله عنهن  سوى القرآن هو سننه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
"‏ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه‏"‏ وقال حسان بن عطية ‏"‏هو أبو بكر حسان بن عطية المحاربي مولاهم الدمشقي، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان، وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات في العشرين إلى الثلاثين ومائة، وقال‏:‏ كان من أفاضل أهل زمانه‏"‏‏:‏ كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن، فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن‏.‏

 

ص -366-

وهذه الشرائع التي هدي الله بها هذا النبي وأمته مثل‏:‏ الوجهة، والمنسك، والمنهاج، وذلك مثل الصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، وهذه القراءة، والركوع، والسجود، واستقبال الكعبة‏.‏
ومثل فرائض الزكاة ونصبها التي فرضها في أموال المسلمين‏:‏ من الماشية والحبوب، والثمار، والتجارة، والذهب، والفضة، ومن جعلت له، حيث يقول‏:‏
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏‏.‏
ومثل صيام شهر رمضان، ومثل حج البيت الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم، في المناكح، والمواريث، والعقوبات والمبايعات، ومثل السنن التي سنها لهم؛ من الأعياد، والجمعات، والجماعات في المكتوبات، والجماعات في الكسوف والاستسقاء وصلاة الجنازة والتراويح‏.‏
وما سنه لهم في العادات، مثل‏:‏ المطاعم، والملابس، والولادة، والموت، و نحو ذلك من السنن، والآداب، والأحكام التي هي حكم الله ورسوله بينهم، في الدماء، والأموال، والأبضاع، والأعراض، والمنافع،والأبشار، وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

ص -367-

 وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة كما ضلت الأمم قبلهم؛ إذ كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى رسولا إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏‏.‏
ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة؛ ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة والسنة والجماعة عن أهل الباطل، الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين‏.‏
فإن الله أمر في كتابه باتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولزوم سبيله،،وأمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى‏:‏ ‏
{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏80‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، وقال تعالى‏:‏

 

ص -368-

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏ ‏{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى ‏{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏153‏]‏، وقال تعالى في أم الكتاب‏:‏ ‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏"‏‏.‏ فأمر  سبحانه  في ‏[‏أم الكتاب‏]‏ التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، التي لا تجزئ صلاة إلا بها‏:‏ أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم، كاليهود، ولا الضالين، كالنصارى‏.‏
وهذا ‏[‏الصراط المستقيم‏]‏ هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو ‏[‏السنة والجماعة‏]‏ فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه من وجوه متعددة رواها أهل السنن والمسانيد، كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال‏:‏ ‏"‏ستفترق هذه

 

ص -369-

‏الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏"‏‏.‏
وهذه الفرقة الناجية‏:‏ أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون‏.‏
ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا‏.‏
بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79،80‏]‏‏.‏
ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في ‏[‏المسيح‏]‏ فلم يقولوا‏:‏هو الله، ولا ابن الله،

 

ص -370-

ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا‏:‏ هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه‏.‏
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله‏:‏ ‏
{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا‏}‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏‏.‏
ولا جَوَّزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله‏:‏
‏{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏، قال عدي بن حاتم  رضي الله عنه ‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، ما عبدوهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم‏"‏‏.‏
والمؤمنون قالوا‏:‏ ‏[‏لله الخلق والأمر‏]‏ فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره‏.‏ وقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا‏.‏
وكذلك في صفات الله تعالى‏:‏ فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق

 

ص -371-

الناقصة، فقالوا‏:‏ هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا‏:‏ يد الله مغلولة‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت‏.‏ إلى غير ذلك‏.‏
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا‏:‏ إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب‏.‏
والمؤمنون آمنوا بالله  سبحانه وتعالى  ليس له سمى ولا ند، و لم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه ‏{
ِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:93-95]‏‏.‏
ومن ذلك‏:‏ أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال الله تعالى‏:‏
‏{َفبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏160‏]‏، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط، ولا شحم الثرب والكليتين ولا الجدي في لبن أمه، إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل‏:‏ إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمرًا، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت‏.‏
وأما النصارى، فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح‏:‏ ‏
{وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏50‏]‏،

 

ص -372-

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏29‏]‏‏.‏
وأما المؤمنون، فكما نعتهم الله به في قوله‏:‏ ‏
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏‏.‏ وهذا باب يطول وصفه‏.‏
وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق‏.‏ فهم في ‏[‏باب أسماء الله وآياته وصفاته‏]‏ وسط بين ‏[‏أهل التعطيل‏]‏ الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين ‏[‏أهل التمثيل‏]‏ الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات‏.‏
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل‏.‏
وهم في ‏[‏باب خلقه وأمره‏]‏ وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين

 

ص -373-

لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير‏.‏ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات‏.‏
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا، إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله‏.‏
وهم في ‏[‏باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد‏]‏ وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبين المرجئة الذين يقولون‏:‏ إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية‏.‏

 

ص -374-

 فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته‏.‏
وهم  أيضًا  في ‏[‏أصحاب رسول الله‏]‏  صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم  وسط بين الغالية، الذين يغالون في على  رضي الله عنه  فيفضلونه على أبي بكر وعمر  رضي الله عنهما  ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان  رضي الله عنهما  ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب على وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة على رضي الله عنه وإمامته‏.‏
وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان‏.‏

 

ص -375-

فصل
وأنتم  أصلحكم الله  قد مَنَّ الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله، وعافاكم الله مما ابتلى به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب‏.‏ والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينًا سواه
‏{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏
وعافاكم الله بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة، مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية، بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته، وقضائه وقدره، أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك، فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين، وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم، من يؤيد الله به الدين، ويعز به المؤمنين‏.‏
وفي أهل الزهادة والعبادة منكم من له الأحوال الزكية والطريقة المرضية، وله المكاشفات والتصرفات‏.‏

 

ص -376-

 وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين، فإن قدماء المشائخ الذين كانوا فيكم، مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي، ومن سلك سبيلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم‏.‏
والشيخ عدي  قدس الله روحه  كان من أفاضل عباد الله الصالحين وأكابر المشائخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك‏.‏ وله في الأمة صيت مشهور ولسان صدق مذكور، وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشائخ الذين سلك سبيلهم، كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي ‏[‏عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي، أبو الفرج شيخ الشام في وقته، حنبلي أصله من شيراز، تفقه ببغداد، وسكن بيت المقدس واستقر في دمشق، فنشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن مؤلفاته ‏[‏الإيضاح‏]‏، و‏[‏الجواهر‏]‏، وتوفي بدمشق‏]‏، وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما‏.‏
وهؤلاء المشائخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول ‏[‏أهل السنة والجماعة‏]‏ بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليها والحرص على نشرها ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم، وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لابد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل

 

ص -377-

المرجوحة والدلائل الضعيفة، كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد ما يعرفه أهل البصيرة‏.‏
وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما، ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها، مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق‏.‏
فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب ‏[‏قوة الجهل والظلم‏]‏ اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله‏:‏ ‏{
وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 27‏]‏ فإذا منَّ الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ ‏[‏سورة العصر‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏‏.‏
وأنتم تعلمون  أصلحكم الله  أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها ويذم من خالفها، هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات‏.‏وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان‏.‏

 

ص -378-

 وذلك في دواوين الإسلام المعروفة؛ مثل‏:‏ صحيحي البخاري ومسلم، وكتب السنن؛ مثل‏:‏ سنن أبي داود، والنسائي، وجامع الترمذي، وموطأ الإمام مالك، ومثل‏:‏ المسانيد المعروفة؛ كمثل مسند الإمام أحمد وغيره‏.‏ ويوجد في كتب ‏[‏التفاسير‏]‏ و‏[‏المغازي‏]‏ وسائر كتب الحديث جملها وأجزائها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض‏.‏ وهذا أمر قد أقام الله له من أهل المعرفة من اعتنى به، حتى حفظ الله الدين على أهله‏.‏
وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب ‏[‏عقائد أهل السنة‏]‏ مثل‏:‏ حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعثمان بن سعيد الدارمي،وغيرهم في طبقتهم‏.‏ ومثلها ما بوب عليه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم في كتبهم‏.‏
ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم، وعبد الله بن أحمد، وأبي بكر الخلال، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي بكر الآجري، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي عبد الله بن منده، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي عبد الله بن بطة، وأبي عمرو الطلمنكي، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي بكر البيهقي، وأبي ذر الهروي، وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة‏.‏
وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وسائر أبواب الاعتقادات

 

ص -379-

وعامة أبواب الدين، أحاديث كثيرة تكون مكذوبة، موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قسمان‏:‏
منها ما يكون كلامًا باطلاً لا يجوز أن يقال، فضلا عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
والقسم الثاني من الكلام‏:‏ ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض العلماء أو بعض الناس، ويكون حقًا‏.‏ أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهبًا لقائله، فيعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري، وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة، عملها بعض الكذابين وجعل لها إسنادًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها من كلامه، وهذا يعلمه من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى‏.‏
وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة، والنزاع فيها لفظي لأن مبناها على أن اللذة التي يعقبها ألم، هل تسمى نعمة أم لا‏؟‏ وفيها أيضًا أشياء مرجوحة‏.‏
فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا‏.‏

 

ص -380-

 فصل
وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه، والجافي عنه‏.‏ والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه‏.‏ وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه، قد اعترض الشيطان كثيرًا ممن ينتسب إليه، حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة‏.‏
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود  رضي الله عنهم  وغير هؤلاء؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال‏:‏ ‏"‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم  أو فقاتلوهم  فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏"‏‏.‏ وفي رواية ‏:‏ ‏"‏شر قتيل تحت أديم السماء، خير

 

ص -381-

قتيل من قلتوه‏"‏ وفي رواية ‏:‏ ‏"‏لو يعلم الذين يقاتلونهم ما زوي لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لَنَكِلُوا عن العمل‏"‏ و‏[‏زوى‏]‏ ‏:‏ أي قضى، و‏[‏لنكلوا‏]‏ ‏:‏ أي لانقطعوا‏.‏
وهؤلاء لما خرجوا في خلافة أمير المؤمنين على بن أبي طالب  رضي الله عنه  قاتلهم هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحضيضه على قتالهم، واتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام‏.‏
وهكذا كل من فارق جماعة المسلمين، وخرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته من أهل الأهواء المضِلَّة والبدع المخالفة‏.‏
ولهذا قاتل المسلمون أيضًا ‏[‏الرافضة‏]‏ الذين هم شر من هؤلاء، وهم الذين يُكَفِّرون جماهير المسلمين؛ مثل الخلفاء الثلاثة وغيرهم، ويزعمون أنهم هم المؤمنون ومن سواهم كافر، ويكفرون من يقول‏:‏ إن الله يُرَى في الآخرة، أو يؤمن بصفات الله وقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة، ويكفرون من خالفهم في بدعهم التي هم عليها‏.‏
فإنهم يمسحون القدمين ولا يمسحون على الخف، ويؤخرون الفطور والصلاة إلى طلوع النجم، ويجمعون بين الصلاتين من غيرعذر، ويقنتون في الصلوات الخمس، ويحرمون الفقاع، وذبائح أهل الكتاب، وذبائح من خالفهم من المسلمين؛ لأنهم عندهم كفار، ويقولون على الصحابة  رضي

 

ص -382-

الله عنهم  أقوالاً عظيمة لا حاجة إلى ذكرها هنا، إلى أشياء أخر‏.‏ فقاتلهم المسلمون بأمر الله ورسوله‏.‏
فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام والسنة، حتى يدعي السنة من ليس من أهلها، بل قد مرق منها، وذلك بأسباب‏:‏
منها‏:‏ الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه، حيث قال‏:‏ ‏{
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏77‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين‏]‏ وهو حديث صحيح‏.‏
ومنها ‏:‏ التفرق والاختلاف الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز‏.‏
ومنها ‏:‏ أحاديث تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة، يسمعها الجاهل بالحديث فيصدق بها لموافقة ظنه وهواه‏.‏

 

ص -383-

 وأضل الضلال اتباع الظن والهوى،كما قال الله تعالى في حق من ذمهم‏:‏ ‏{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏1-4‏]‏
فنزهه عن الضلال والغواية، اللذين هما الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذي يتبع هواه، وأخبر أنه ما ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه، فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى‏.‏
وأنا أذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف ممن ينتسب إلى السنة وقد مرق منها، وصار من أكابر الظالمين‏.‏ وهي فصول‏:‏

 

ص -384-

 الفصل الأول
أحاديث رووها في الصفات، زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام، مما نعلم باليقين القاطع أنها كذب وبهتان، بل كفر شنيع‏.‏
وقد يقولون من أنواع الكفر ما لا يروون فيه حديثًا؛ مثل حديث يروونه‏:‏ ‏"‏أن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق، يصافح الركبان ويعانق المشاة‏"‏‏.‏ وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق، ولم يرو هذا الحديث أحد من علماء المسلمين أصلاً، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال أهل العلم  كابن قتيبة وغيره ‏:‏ هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار ليشينوا به على أهل الحديث، ويقولون‏:‏ إنهم يروون مثل هذا‏.‏
وكذلك حديث آخر فيه ‏:‏ ‏"‏أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف‏"‏‏.‏ أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله، الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

ص -385-

 وهكذا حديث فيه‏:‏ ‏"‏أن الله يمشي على الأرض، فإذا كان موضع خضرة قالوا‏:‏ هذا موضع قدميه‏"‏ ويقرؤون قوله تعالى‏:‏ ‏{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏50‏]‏ هذا أيضًا كذب باتفاق العلماء‏.‏ ولم يقل الله فانظر إلى آثار خطى الله، وإنما قال‏:‏ ‏{آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ‏}‏ ورحمته هنا النبات‏.‏
وهكذا أحاديث في بعضها‏:‏ ‏[‏أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الطواف‏]‏، وفي بعضها‏:‏ ‏[‏أنه رآه وهو خارج من مكة‏]‏، وفي بعضها ‏:‏ ‏[‏أنه رآه في بعض سكك المدينة‏]‏ إلى أنواع أُخر‏.‏
وكل حديث فيه‏:‏ ‏[‏أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض‏]‏ فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شىء لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم‏.‏
وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج‏؟‏ فكان ابن عباس  رضي الله عنهما  وأكثر علماء السنة يقولون‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة  رضي الله عنها  وطائفة معها تنكر ذلك، ولم ترو عائشة  رضي الله عنها  في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا سألته عن ذلك‏.‏ ولا نقل في ذلك عن الصديق  رضي الله عنه  كما يروونه ناس من الجهال‏:‏ ‏[‏أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ نعم‏.‏ وقال لعائشة ‏:‏ لا‏]‏ فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء‏.‏
ولهذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره‏:‏ أنه اختلفت الرواية عن الإمام

 

ص -386-

أحمد  رحمه الله  هل يقال‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه‏؟‏ أو يقال‏:‏ بعين قلبه‏.‏ أو يقال‏:‏ رآه ولا يقال‏:‏ بعيني رأسه ولا بعين قلبه‏؟‏ على ثلاث روايات‏.‏
وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال‏:‏ ‏[‏رأيت ربي في صورة كذا وكذا‏]‏ يروى من طريق ابن عباس ومن طريق أم الطفيل وغيرهما، وفيه‏:‏ ‏[‏أنه وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري‏]‏، هذا الحديث لم يكن ليلة المعراج؛ فإن هذا الحديث كان بالمدينة‏.‏ وفي الحديث ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح ثم خرج إليهم، وقال ‏:‏‏[‏رأيت كذا وكذا‏]‏ وهو من رواية من لم يصلِّ خلفه إلا بالمدينة كأم الطفيل وغيرها، والمعراج إنما كان من مكة باتفاق أهل العلم وبنص القرآن والسنة المتواترة، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏
فعلم أن هذا الحديث كان رؤيا منام بالمدينة، كما جاء مفسرًا في كثير من طرقه‏:‏ ‏[‏أنه كان رؤيا منام‏]‏، مع أن رؤيا الأنبياء وحي، لم يكن رؤيا يقظة ليلة المعراج‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينيه في الأرض، وأن الله لم ينزل له إلى الأرض، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم قط حديث فيه‏:‏ ‏[‏أن الله نزل له إلى الأرض‏]‏، بل الأحاديث الصحيحة‏:‏‏[‏إن الله يدنو عشية عرفة‏]‏، وفي رواية ‏:‏ ‏[‏إلى سماء الدنيا كل ليلة،حين يبقى

 

ص -387-

ثلث الليل الآخر، فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏‏]‏‏.‏
وثبت في الصحيح‏:‏ أن الله يدنو عشية عرفة، وفي رواية‏:‏ ‏[‏إلى سماء الدنيا، فيباهي الملائكة بأهل عرفة،فيقول‏:‏ انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا، ما أراد هؤلاء‏؟‏‏]‏ وقد روى‏:‏ ‏[‏أن الله ينزل ليلة النصف من شعبان‏]‏ إن صح الحديث فإن هذا مما تكلم فيه أهل العلم‏.‏
وكذلك ما روى بعضهم ‏:‏ ‏[‏أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من حراء تبدي له ربه على كرسي بين السماء والأرض‏]‏ غلط باتفاق أهل العلم، بل الذي في الصحاح‏:‏ ‏[‏أن الذي تبدي له الملك الذي جاءه بحراء في أول مرة، وقال له‏:‏ اقرأ‏.‏ فقلت‏:‏ لست بقارئ، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال‏:‏ اقرأ‏:‏ فقلت‏:‏ لست بقارئ‏.‏ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال‏:‏
‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1-5‏]‏ ‏]‏ فهذا أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي‏.‏ قال‏:
‏ ‏"‏فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض‏"‏‏.‏ رواه جابر  رضي الله عنه  في الصحيحين‏.‏
 فأخبر أن الملك الذي جاءه بحراء رآه بين السماء والأرض، وذكر أنه رعب

 

ص -388-

منه، فوقع في بعض الروايات الملَك فظن القارئ أنه الملك، وأنه الله، وهذا غلط وباطل‏.‏
وبالجملة، أن كل حديث فيه‏:‏ ‏[‏أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه في الأرض‏]‏ وفيه‏:‏ ‏[‏أنه نزل له إلى الأرض‏]‏ وفيه‏:‏ ‏[‏أن رياض الجنة من خطوات الحق‏]‏ وفيه‏:‏ ‏[‏أنه وطئ على صخرة بيت المقدس ‏]‏ كل هذا كذب باطل باتفاق علماء المسلمين من أهل الحديث وغيرهم‏.‏
وكذلك كل من ادعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت فدعواه باطل باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه لما ذكر الدجال قال‏:‏ ‏[‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏]‏‏.‏
وكذلك روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر؛ يحذر أمته فتنة الدجال، وبين لهم‏:‏ ‏[‏أن أحدًا منهم لن يرى ربه حتى يموت‏]‏، فلا يظنن أحد أن هذا الدجال الذي رآه هو ربه‏.‏
ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله ويقين القلوب ومشاهدتها وتجلياتها هو على مراتب كثيرة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل  عليه السلام  عن الإحسان قال‏:‏ ‏[‏الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏]‏‏.‏

 

ص -389-

 وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه‏.‏ ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل، لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق‏.‏
وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضًا من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا‏.‏
وربما غلب أحدهم ما يشهده قلبه وتجمعه حواسه، فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام‏.‏
فهكذا من العباد من يحصل له مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشهود بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غالط في ذلك، وكل من قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين‏:‏ أنه رأى ربه بعيني رأسه، فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان‏.‏
نعم، رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضًا للناس في عرصات القيامة، كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:
‏‏[‏إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحوًا ليس دونه سحاب‏]‏‏.‏

 

ص -390-

  وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏[‏جنات الفردوس أربع‏:‏ جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏[‏إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون‏:‏ ما هو ‏؟‏ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار‏.‏ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة‏]‏‏.‏
وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم؛ الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة‏.‏
ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية، بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل‏.‏
وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال، كما تقدم، فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص؛ إما بعض الصالحين، أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، عظم ضلالهم

 

ص -391-

وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى ابن مريم‏.‏
بل هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، ويقول للناس‏:‏ أنا ربكم‏!‏ ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ‏!‏ ويقول للخَرِبَة‏:‏ أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها ‏!‏ وهذا هو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وقال‏
:‏‏[‏ما من خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال‏]‏، وقال‏:‏‏[‏إذا جلس أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع؛ ليقل‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏]‏‏.‏
فهذا ادَّعَى الربوبية وأتى بشبهات فَتَنَ بها الخلق، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏[‏إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏]‏، فذكر لهم علامتين ظاهرتين يعرفهما جميع الناس؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن من الناس من يضل فيجوز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر، كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك، وهؤلاء قد يسمون ‏[‏الحلولية‏]‏ و‏[‏الاتحادية‏]‏‏.‏
وهم صنفان ‏:‏
قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء؛ كما يقوله النصارى

 

ص -392-

في المسيح  عليه السلام  والغالية في علي  رضي الله عنه  ونحوه؛ وقوم في أنواع من المشائخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى‏.‏
وصنف يعمون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات  حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها  كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية‏:‏ كأصحاب ابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني، والبلياني، وغيرهم‏.‏
ومذهب جميع المرسلين  ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب  أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه‏.‏
وهو  سبحانه  فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا؛ كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد ‏:‏4‏]‏‏.‏ فهؤلاء الضلال الكفار؛ الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه‏!‏ وربما يعين أحدهم آدميًا؛ إما شخصًا،

 

ص -393-

أو صبيًا، أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمهم، يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفارًا؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:72‏]‏ فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا‏:‏ إنه هو الله وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم، بل الذين قالوا‏:‏إنه اتخذ ولدًا حتى ٍقال‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏88  93‏]‏، فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو‏؟‏ هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليًا  رضي الله عنه  أو غيره من أهل البيت هو الله‏.‏ وهؤلاء هم الزنادقة؛ الذين حرقهم علي  رضي الله عنه  بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثًا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة  رضي الله عنهم  على قتلهم؛ لكن ابن عباس  رضي الله عنهما  كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء‏.‏

 

ص -394-

فصل
وكذلك الغلو في بعض المشائخ‏:‏ إما في الشيخ عدي ويونس القتي أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  ونحوه،بل الغلو في المسيح  عليه السلام  ونحوه‏.‏
فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح؛ كمثل علي  رضي الله عنه  أو عدي أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح، كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر، أو يونس القتي ونحوهم، وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول‏:‏ كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة‏:‏ باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى؛ مثل أن يقول‏:‏يا سيدي فلان، اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني، أو أغثني أو أجرني،أو توكلت عليك،أو أنت حسبي،أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال؛ التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى  فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهًا آخر‏.‏

 

ص -395-

 والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى  مثل‏:‏ الشمس والقمر والكواكب، والعزير والمسيح والملائكة، واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث ويعوق ونسر، أو غير ذلك  لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق؛ أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون‏:‏ إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون‏:‏ هم شفعاؤنا عند الله‏.‏
فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى‏:‏
‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏56، 57‏]‏‏.‏
قال طائفة من السلف‏:‏ كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فقال الله لهم ‏:‏ هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلىّ كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وقال تعالى‏:‏
‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، فأخبر  سبحانه  أن ما يدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك،

 

ص -396-

ولا شرك في الملك، وأنه ليس له من الخلق عون يستعين به، وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه‏.‏ُ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏18وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى‏:‏ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏}‏ الزخرف‏:‏45 وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل ‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل ‏:‏ ما شاء الله وشئت فقال‏
:‏‏[‏أجعلتني لله ندًا ‏؟‏‏!‏ بل ما شاء الله وحده‏]‏، وقال‏:‏ ‏[‏لا تقولوا‏:‏ ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد‏]‏، ونهى عن الحلف بغير الله فقال‏:‏ ‏[‏من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت‏]‏،

 

ص -397-

‏ وقال ‏:‏‏[‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏]‏، وقال‏:‏ ‏[‏لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏]‏‏.‏
ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق، كالكعبة ونحوها‏.‏
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك، وقال‏
:‏‏[‏لا يصلح السجود إلا لله‏]‏، وقال‏:‏ ‏[‏لو كنت آمرا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها‏]‏، وقال لمعاذ بن جبل  رضي الله عنه ‏:‏ ‏[‏أرأيت لو مررت بقبري، أكنت ساجدًا له‏؟‏‏]‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏[‏فلا تسجد لي‏]‏‏.‏
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته‏:‏ ‏
[‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏]‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة  رضي الله عنها  ‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال  قبل أن يموت بخمس ‏
:‏‏[‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏]‏؛ ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المسجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول‏:‏الصلاة عندها باطلة‏.‏

 

ص -398-

والسنة في زيارة قبور المسلمين نظير الصلاة عليهم قبل الدفن، قال الله تعالى في كتابه عن المنافقين‏:‏ ‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يُصَلَّى عليهم، ويقام على قبورهم‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا‏:‏
‏[‏السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم‏]‏‏.‏
وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه ‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال طائفة من السلف‏:‏ كانت هذه أسماء قوم صالحين، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها‏.‏
ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق‏.‏
وكذلك الطواف والصلاة والاجتماع للعبادات، إنما تقصد في بيوت الله، وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
[‏لا تتخذوا بيتي عيدًا‏]‏‏.‏ كل هذا لتحقيق

 

ص -399-

التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏
ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي
‏{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏[‏من كان آخر كلامه‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة‏]‏‏.‏ والإله‏:‏ الذي يؤلِّهه القلب عبادة له، واستعانة، ورجاء له، وخشية، وإجلالا، وإكرامًا‏.‏

 

ص -400-

 

فصل
ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت - بلا زيادة ولا نقصان - مثل الكلام في القرآن، وسائر الصفات‏.‏
فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏ هكذا قال غير واحد من السلف‏.‏ روى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار  وكان من التابعين الأعيان  قال‏:‏ ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك‏.‏
والقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره، وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم، فإن الكلام لمن قاله مبتدئًا لا لمن قاله مبلغًا مؤديًا، قال الله تعالى ‏:‏
‏{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، وهذا القرآن في المصاحف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏21، 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة ‏:‏2، 3‏]‏، وقال ‏:‏ ‏{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 77، 78‏]‏‏.‏
والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله‏.‏ وإعراب الحروف هو من تمام الحروف، كما قال النبي صلى الله

 

ص -401-

عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات‏"‏ وقال أبو بكر وعمر  رضي الله عنهما  ‏:‏ حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه‏.‏
وإذا كتب المسلمون مصحفًا، فإن أحبوا ألا ينقطوه ولا يشكلوه جاز ذلك، كما كان الصحابة يكتبون المصاحف من غير تنقيط ولا تشكيل؛ لأن القوم كانوا عربًا لا يلحنون‏.‏ وهكذا هي المصاحف التي بعث بها عثمان  رضي الله عنه  إلى الأمصار في زمن التابعين‏.‏
ثم فشا اللحن فنقطت المصاحف وشكلت بالنقط الحمر، ثم شكلت بمثل خط الحروف، فتنازع العلماء في كراهة ذلك‏.‏ وفيه خلاف عن الإمام أحمد  رحمه اللّه- وغيره من العلماء، قيل ‏:‏ يكره ذلك لأنه بدعة‏.‏ وقيل ‏:‏ لا يكره للحاجة إليه‏.‏ وقيل‏:‏ يكره النقط دون الشكل لبيان الإعراب‏.‏ والصحيح أنه لا بأس به‏.‏
والتصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
أن الله يتكلم بصوت  وينادي آدم  عليه السلام  بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث‏.‏ فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة‏.‏
وقال أئمة السنة ‏:‏ القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، حيث تلى وحيث

 

ص -402-

كتب‏.‏ فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن‏:‏ إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال‏:‏ غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد‏.‏
ولم يقل قط أحد من أئمة السلف‏:‏ إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال‏:‏ لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق‏.‏
وأما من قال ‏:‏ إن المداد قديم؛ فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى ‏:‏ ‏
{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته‏.‏
وكذلك من قال‏:‏ ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق، أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين‏.‏ والكلام في المصحف  على الوجه الذي يعرفه الناس  له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء‏.‏
وكذلك من زاد على السنة فقال‏:‏ إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة، فهو مبتدع ضال‏.‏ كمن قال‏:‏ إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت، فإنه أيضًا مبتدع منكر للسنة‏.‏
وكذلك من زاد وقال‏:‏ إن المداد قديم، فهو ضال‏.‏ كمن قال ‏:‏ ليس في المصاحف كلام الله‏.‏

 

ص -403-

وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون‏:‏ إن الورق، والجلد، والوتد، وقطعة من الحائط كلام الله، فهو بمنزلة من يقول ‏:‏ ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه‏.‏ هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة‏.‏
وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة نفيًا وإثباتًا، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل؛ فإن من قال‏:‏ إن المداد الذي تنقط به الحروف ويشكل به قديم، فهو ضال جاهل، ومن قال‏:‏ إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن، فهو ضال مبتدع‏.‏
بل الواجب أن يقال ‏:‏ هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها كما دخلت معانيه، ويقال‏:‏ ما بين اللوحين جميعه كلام الله‏.‏ فإن كان المصحف منقوطًا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله‏.‏ وإن كان غير منقوط ولا مشكول  كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة  كان أيضًا ما بين اللوحين هو كلام الله‏.‏ فلا يجوز أن تلقي الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه‏.‏

 

ص -404-

فصل
وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر ‏[‏الصحابة‏]‏ و‏[‏القرابة‏]‏  رضي الله عنهم  فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه، مثل قوله تعالى ‏:‏ ‏{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح ‏:‏29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏ ‏[‏لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه‏]‏‏.‏
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي

 

ص -405-

طالب  رضي الله عنه  أنه قال‏:‏ خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر  رضي الله عنهما‏.‏ واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر  رضي الله عنهما  وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏"‏خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكًا‏"‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏
وكان أمير المؤمنين على بن أبي طالب  رضي الله عنه  آخر الخلفاء الراشدين المهديين‏.‏
وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا‏:‏ أبوبكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي  رضي الله عنهم  ودلائل ذلك، وفضائل الصحابة كثير، ليس هذا موضعه‏.‏
وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب‏.‏ وهم كانوا مجتهدين؛ إما مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات  وقد سبق لهم من الله الحسنى  فإن الله يغفرها لهم؛ إما بتوبة أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏
"‏خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم‏"‏ وهذه خير أمة أخرجت للناس‏.‏

 

ص -406-

ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري  رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق‏"‏ وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن عليًا  رضي الله عنه  أقرب إلى الحق‏.‏
وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة؛ كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما  رضي الله عنهم  فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة، وعلى ذلك أكثر أهل الحديث‏.‏
وكذلك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا‏:‏ قولوا ‏:‏ ‏[‏اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏.‏ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏]‏‏.‏ وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل، وغيرهما من العلماء  رحمهم الله  فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إن الصدقة لا تَحِلُّ لمحمد ولا لآل محمد‏]‏ وقد قال الله تعالى في كتابه ‏:‏ ‏
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏، وحرم الله عليهم الصدقة، لأنها

 

ص -407-

أوساخ الناس، وقد قال بعض السلف‏:‏ حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق‏.‏ وفي المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس  لما شكا إليه جفوة قوم لهم  قال ‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي‏"‏‏.‏
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم‏"‏‏.‏
وقد كانت الفتنة لما وقعت بقتل عثمان وافتراق الأمة بعده، صار قوم ممن يحب عثمان ويغلو فيه ينحرف عن علي  رضي الله عنه  مثل كثير من أهل الشام، ممن كان إذ ذاك يسب عليًا  رضي الله عنه  ويبغضه‏.‏
وقوم ممن يحب عليًا  رضي الله عنه  ويغلو فيه ينحرف عن عثمان  رضي الله عنه مثل كثير من أهل العراق، ممن كان يبغض عثمان ويسبه  رضي الله عنه‏.‏
ثم تغلظت بدعتهم بعد ذلك، حتى سبوا أبا بكر وعمر  رضي الله عنهما  وزاد البلاء بهم حينئذ‏.‏
والسنة محبة عثمان وعلى جميعا، وتقديم أبى بكر وعمر عليهما رضي الله

 

ص -408-

عنهم  لما خصهما الله به من الفضائل التي سبقا بها عثمان وعليا جميعًا‏.‏ وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله‏.‏
فهذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه ويعتصم بحبل الله؛ فإن السنة مبناها على العلم والعدل، والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فالرافضة لما كانت تسب الصحابة صار العلماء يأمرون بعقوبة من يسب الصحابة، ثم كفرت الصحابة وقالت عنهم أشياء، قد ذكرنا حكمهم فيها في غير هذا الموضع‏.‏
ولم يكن أحد إذ ذاك يتكلم في يزيد بن معاوية ولا كان الكلام فيه من الدين، ثم حدثت بعد ذلك أشياء، فصار قوم يظهرون لعنة يزيد بن معاوية‏.‏ وربما كان غرضهم بذلك التطرق إلى لعنة غيره، فكره أكثر أهل السنة لعنة أحد بعينه، فسمع بذلك قوم ممن كان يتسنن، فاعتقد أن يزيد كان من كبار الصالحين وأئمة الهدى‏.‏
وصار الغلاة فيه على طرفي نقيض، هؤلاء يقولون‏:‏ إنه كافر زنديق، وإنه قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل الأنصار وأبناءهم بالحرة ليأخذ بثأر أهل بيته الذين قتلوا كفارًا، مثل جده لأمه عتبة بن ربيعة، وخاله الوليد، وغيرهما، ويذكرون عنه من الاشتهار بشرب الخمر وإظهار الفواحش أشياء‏.‏

 

ص -409-

وأقوام يعتقدون أنه كان إماما عادلا هاديًا مهديًا، وأنه كان من الصحابة أو أكابر الصحابة، وأنه كان من أولياء الله تعالى‏.‏ وربما اعتقد بعضهم أنه كان من الأنبياء‏!‏ ويقولون‏:‏ من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم، و يروون عن الشيخ حسن بن عدي‏:‏ أنه كان كذا و كذا وليًا، ومن وقفوا فيه وقفوا على النار؛ لقولهم في يزيد‏.‏ وفي زمن الشيخ حسن زادوا أشياء باطلة نظمًا ونثرًا‏.‏ وغلوا في الشيخ عدي وفي يزيد بأشياء مخالفة لما كان عليه الشيخ عدي الكبير  قدس الله روحه  فإن طريقته كانت سليمة لم يكن فيها من هذه البدع، وابتلوا بروافض عادوهم، وقتلوا الشيخ حسنا، وجرت فتن لا يحبها الله ولا رسوله‏.‏
وهذا الغلو في يزيد من الطرفين، خلاف لما أجمع عليه أهل العلم والإيمان‏.‏
فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان  رضي الله عنه  ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء، ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح، وكان من شبان المسلمين، ولا كان كافرًا ولا زنديقًا، وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم، وكان فيه شجاعة وكرم، ولم يكن مظهرًا للفواحش كما يحكي عنه خصومه‏.‏
وجرت في إمارته أمور عظيمة‏:‏
أحدها‏:‏ مقتل الحسين  رضي الله عنه  وهو لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر

 

ص -410-

الفرح بقتله، ولا نكت بالقضيب على ثناياه  رضي الله عنه  ولا حمل رأس الحسين  رضي الله عنه  إلى الشام، لكن أمر بمنع الحسين  رضي الله عنه  وبدفعه عن الأمر، ولو كان بقتاله، فزاد النواب على أمره، وحض الشمرذي الجيوش على قتله لعبيد الله بن زياد، فاعتدى عليه عبيد الله بن زياد، فطلب منهم الحسين  رضي الله عنه  أن يجىء إلى يزيد، أو يذهب إلى الثغر مرابطًا، أو يعود إلى مكة فمنعوه  رضي الله عنه  إلا أن يستأسر لهم، وأمر عمر بن سعد بقتاله  فقتلوه مظلومًا  له ولطائفة من أهل بيته  رضي الله عنهم‏.‏
وكان قتله  رضي الله عنه  من المصائب العظيمة، فإن قتل الحسين، وقتل عثمان قبله، كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة، وقَتَلَتْهُمَا من شرار الخلق عند الله‏.‏
ولما قدم أهلهم  رضي الله عنهم  على يزيد بن معاوية أكرمهم وسيرهم إلى المدينة، وروى عنه أنه لعن ابن زياد على قتله‏.‏ وقال‏:‏ كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، لكنه مع هذا لم يظهر منه إنكار قتله، والانتصار له، والأخذ بثأره كان هو الواجب عليه، فصار أهل الحق يلومونه على تركه للواجب مضافًا إلى أمور أخرى‏.‏ وأما خصومه فيزيدون عليه من الفرية أشياء‏.‏

 

ص -411-

وأما الأمر الثاني‏:‏ فإن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثا يقتلون وينهبون، ويفتضون الفروج المحرمة‏.‏ ثم أرسل جيشًا إلى مكة المشرفة، فحاصروا مكة، وتوفى يزيد وهم محاصرون مكة، وهذا من العدوان والظلم الذي فعل بأمره‏.‏
ولهذا كان الذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة‏:‏ أنه لا يسب ولا يحب‏.‏قال صالح ابن أحمد بن حنبل‏:‏ قلت لأبي‏:‏ إن قومًا يقولون‏:‏ إنهم يحبون يزيد‏.‏ قال‏:‏ يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر‏؟‏ فقلت‏:‏ يا أبت، فلماذا لا تلعنه‏؟‏ قال‏:‏ يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا‏؟‏
وروى عنه‏:‏ قيل له‏:‏ أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية ‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ ولا كرامة، أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل‏؟‏
فيزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه، فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين؛ لما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يكثر شرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه‏.‏ فقال

 

ص -412-

رجل‏:‏ لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله‏"‏‏.‏
ومع هذا فطائفة من أهل السنة يجيزون لعنه؛ لأنهم يعتقدون أنه فعل من الظلم ما يجوز لعن فاعله‏.‏
وطائفة أخرى ترى محبته؛ لأنه مسلم تولى على عهد الصحابة، وبايعه الصحابة‏.‏ ويقولون‏:‏ لم يصح عنه ما نقل عنه، وكانت له محاسن أو كان مجتهدًا فيما فعله‏.‏
والصواب هو ما عليه الأئمة‏:‏ من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن‏.‏ ومع هذا فإن كان فاسقًا أو ظالمًا فالله يغفر للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة‏.‏ وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر  رضي الله عنهما  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏
"‏أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له‏"‏ وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري  رضي الله عنه‏.‏
وقد يشتبه يزيد بن معاوية بعمه يزيد بن أبي سفيان، فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الصحابة وكان من خيار الصحابة، وهو خير آل حرب‏.‏ وكان أحد أمراء الشام الذين بعثهم أبو بكر  رضي الله عنه  في فتوح الشام، ومشى أبو بكر في ركابه يوصيه مشيعًا له، فقال له‏:‏ يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل‏.‏ فقال‏:‏لستُ براكب ولستَ بنازل، إني أحتسب خطاي هذه

 

ص -413-

في سبيل الله‏.‏ فلما توفى بعد فتوح الشام في خلافة عمر، ولى عمر  رضي الله عنه  مكانه أخاه معاوية، وولد له يزيد في خلافة عثمان بن عفان، وأقام معاوية بالشام إلى أن وقع ما وقع‏.‏
فالواجب الاقتصار في ذلك والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به، فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة؛ فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة، وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل، وهو خطأ بين‏.

 

ص -414-

فصل
وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله؛ مثل أن يقال للرجل‏:‏ أنت شكيلي، أو قرفندي؛ فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي‏.‏ والواجب على المسلم إذا سُئل عن ذلك أن يقول‏:‏ لا أنا شكيلي ولا قرفندي، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله‏.‏
وقد روينا عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل عبد الله بن عباس  رضي الله عنهما  فقال‏:‏ أنت على ملة علي، أو ملة عثمان‏؟‏ فقال‏:‏ لست على ملة علي، ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان كل من السلف يقولون‏:‏ كل هذه الأهواء في النار ويقول أحدهم‏:‏ ما أبالي أي النعمتين أعظم‏؟‏ على أن هداني الله للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء، والله تعالى قد سمانا في القرآن‏:‏ المسلمين المؤمنين عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم  وسموها هم وآباؤهم  ما أنزل الله بها من سلطان‏.‏

 

ص -415-

بل الأسماء التي قد يسوغ التسمى بها، مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي، والشافعي، والحنبلي أو إلى شيخ، كالقادري، والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل؛ كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري  فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان‏.‏
وأولياء الله  الذين هم أولياؤه  هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فقد أخبر  سبحانه  أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وقد بين المتقين في قوله تعالى‏:‏‏
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، والتقوى هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهي الله عنه‏.‏
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال أولياء الله، وما صاروا به أولياء، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة  رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يقول الله  تبارك وتعالى ‏:‏ من عادى لي وليًا فقد بارزني

 

ص -416-

بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه‏"‏‏.‏
فقد ذكر في هذا الحديث أن التقرب إلى الله تعالى على درجتين‏:‏ إحداهما‏:‏التقرب إليه بالفرائض‏.‏ والثانية‏:‏ هي التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض‏.‏
فالأولى درجة المقتصدين الأبرار أصحاب اليمين‏.‏ والثانية درجة السابقين المؤمنين، كما قال الله تعالى‏:‏‏
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 2226‏]‏‏.‏
قال ابن عباس  رضي الله عنهما ‏:‏ يمزج لأصحاب اليمين مزجًا، ويشربه المقربون صرفًا‏.‏
وقد ذكر الله هذا المعنى في عدة مواضع من كتابه، فكل من آمن بالله ورسوله واتقى الله، فهو من أولياء الله‏.‏

 

ص -417-

والله  سبحانه  قد أوجب موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأوجب عليهم معاداة الكافرين، فقال تعالى‏:‏‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏51-56‏]‏‏.‏
فقد أخبر  سبحانه  أن ولى المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنين، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة، سواء كان من أهل نسبة أو بلدة أو مذهب أو طريقة أو لم يكن، وقال الله تعالى‏:‏
‏{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ إلى

 

ص -418-

قوله‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7275‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏‏{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏"‏، وفي الصحاح  أيضًا  أنه قال‏:‏ ‏"‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا‏"‏، وشبك بين أصابعه، وفي الصحاح  أيضًا  أنه قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه‏"‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يظلمه‏"‏ وأمثال هذه النصوص في الكتاب والسنة كثيرة‏.‏
وقد جعل الله فيها عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين، وأمرهم سبحانه بالائتلاف ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، فقال‏:‏
‏{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، وقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏‏.‏
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف،

 

ص -419-

حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى، بلا برهان من الله تعالى‏.‏ وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان هكذا‏.‏
فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم‏.‏
وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله‏.‏ وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه‏.‏
وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضى الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة‏؟‏‏!‏ ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين، فليس كل من أخطأ يكون كافرًا ولا فاسقًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏:‏
‏{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وثبت في الصحيح أن الله قال‏:‏ ‏"‏قد فعلت‏"‏‏.‏
لا سيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام، مثل أن يكون مثلكم

 

ص -420-

على مذهب الشافعي أو منتسبًا إلى الشيخ عدي، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه ودمه أو ماله‏؟‏ مع ما قد ذكر الله  تعالى  من حقوق المسلم والمؤمن‏؟‏‏!‏
وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏.‏
وهذا التفريق الذي حصل من الأمة  علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها  هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏‏.‏
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب‏.‏
وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى‏
:‏‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ إلى قوله ‏{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102- 104‏]‏، فمن الأمر بالمعروف‏:‏ الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي

 

ص -421-

عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر‏:‏ إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله  تعالى‏.‏
فمن اعتقد في بشر أنه إله، أو دعا ميتًا، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكل عليه أو سجد له  فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه‏.‏
ومن فضَّل أحدًا من المشائخ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو اعتقد أن أحدًا يستغنى عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم  استتيب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه‏.‏
وكذلك من اعتقد أن أحدًا من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان الخضر مع موسى  عليه السلام  فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛ لأن الخضر لم يكن من أمة موسى  عليه السلام  ولا كان يجب عليه طاعته، بل قال له‏:‏ إني على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه‏.‏ وكان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏"‏‏.‏
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين؛ إنسهم وجنهم‏.‏ فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته، فهو كافر يجب قتله‏.‏

 

ص -422-

وكذلك من كَفَّر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم، ببدعة ابتدعها ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله، فإنه يجب نهيه عن ذلك وعقوبته بما يزجره، ولو بالقتل أو القتال، فإنه إذا عوقب المعتدون من جميع الطوائف، وأكرم المتقون من جميع الطوائف، كان ذلك من أعظم الأسباب التي ترضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتصلح أمر المسلمين‏.‏  ويجب على أولى الأمر  وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشائخها  أن يقوموا على عامتهم، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر؛ فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فالأول‏:‏ مثل شرائع الإسلام‏:‏ وهي الصلوات الخمس في مواقيتها، وإقامة الجمعة والجماعات من الواجبات، والسنن الراتبات؛ كالأعياد، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، والتراويح، وصلاة الجنائز، وغير ذلك، وكذلك الصدقات المشروعة، والصوم المشروع، وحج البيت الحرام، ومثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومثل الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏.‏
ومثل سائر ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة، ومثل إخلاص الدين لله، والتوكل على الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما

 

ص -423-

سواهما،والرجاء لرحمة الله والخشية من عذابه، والصبر لحكم الله، والتسليم لأمر الله، ومثل صدق الحديث، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك، والعدل في المقال والفعال، ثم الندب إلى مكارم الأخلاق، مثل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، قال الله تعالى‏:‏‏{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏40 43‏]‏‏.‏
وأما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلها آخر؛ إما الشمس وإما القمر أو الكواكب، أو ملكًا من الملائكة، أو نبيًا من الأنبياء، أو رجلًا من الصالحين، أو أحدًا من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك مما يدعى من دون الله تعالى، أو يستغاث به أو يسجد له، فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله‏.‏
وقد حرم الله قتل النفس بغير حقها، وأكل أموال الناس بالباطل؛ إما

 

ص -424-

بالغصب وإما بالربا أو الميسر، كالبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي بغير الحق‏.‏
وكذلك مما حرمه الله  تعالى‏:‏ أن يقول الرجل على الله ما لا يعلم؛ مثل أن يروي عن الله ورسوله أحاديث يجزم بها وهو لا يعلم صحتها، أو يصف الله بصفات لم ينزل بها كتاب من الله ولا أثارة من علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت من صفات النفي والتعطيل، مثل قول الجهمية‏:‏ إنه ليس فوق العرش ولا فوق السموات، وأنه لا يرى في الآخرة، وأنه لا يتكلم ولا يحب، ونحو ذلك مما كذبوا به الله ورسوله، أو كانت من صفات الإثبات والتمثيل، مثل من يزعم أنه يمشي في الأرض أو يجالس الخلق، أو أنهم يرونه بأعينهم أو أن السموات تحويه وتحيط به، أو أنه سار في مخلوقاته، إلى غير ذلك من أنواع الفرية على الله‏.‏
وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى‏:
‏‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏، فإن الله شرع لعباده المؤمنين عبادات، فأحدث لهم الشيطان عبادات ضاهاها بها، مثل أنه شرع لهم عبادة الله وحده لا شريك له، فشرع لهم شركاء، وهي عبادة ما سواه والإشراك به‏.‏ وشرع لهم الصلوات الخمس وقراءة القرآن فيها والاستماع

 

ص -425-

له والاجتماع لسماع القرآن خارج الصلاة أيضًا، فأول سورة أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ أمر في أولها بالقراءة وفي آخرها بالسجود، بقوله تعالى‏:‏‏{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏‏.‏
ولهذا كان أعظم الأذكار التي في الصلاة قراءة القرآن، وأعظم الأفعال السجود لله وحده لا شريك له،وقال تعالى‏:‏‏
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏‏.‏
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى  رضي الله عنهما ‏:‏ ذكرنا ربنا‏.‏ فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسي  رضي الله عنه  وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته، فقال‏:‏
‏"‏يا أبا موسى، مررت بك البارحة فجعلت أستمع لقراءتك‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏لو علمت لحَبَّرتُه لك تحبيرًا‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لله أشد أذنا‏"‏ أي استماعا ‏"‏إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القِينَةِ إلى قينته‏"‏‏.‏
وهذا هو سماع المؤمنين وسلف الأمة وأكابر المشائخ، كمعروف الكرخي والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ونحوهم‏.‏ وهو سماع المشائخ

 

ص -426-

المتأخرين الأكابر، كالشيخ عبد القادر، والشيخ عدي بن مسافر، والشيخ أبي مدين، وغيرهم من المشائخ  رحمهم الله‏.‏
وأما المشركون، فكان سماعهم كما ذكره الله  تعالى  في كتابه بقوله تعالى‏:‏‏
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 35‏]‏‏.‏ قال السلف‏:‏ المكاء‏:‏ الصفير‏.‏ والتصدية‏:‏ التصفيق باليد‏.‏ فكان المشركون يجتمعون في المسجد الحرام يصفقون ويصوتون يتخذون ذلك عبادة وصلاة، فذمهم الله على ذلك، وجعل ذلك من الباطل الذي نهى عنه‏.‏
فمن اتخذ نظير هذا السماع عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله، فقد ضاهى هؤلاء في بعض أمورهم، وكذلك لم تفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أكابر المشائخ‏.‏
وأما سماع الغناء على وجه اللعب، فهذا من خصوصية الأفراح للنساء والصبيان كما جاءت به الآثار؛ فإن دين الإسلام واسع لا حرج فيه‏.‏
وعماد الدين الذي لا يقوم إلا به هو الصلوات الخمس المكتوبات، ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها‏.‏ كان عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  يكتب إلى عماله‏:‏ إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة‏.‏

 

ص -427-

وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، والصلوات الخمس تولى الله إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج، وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقت فراق الدنيا، جعل يقول‏:‏‏"‏الصلاة الصلاة ‏!‏ وما ملكت أيمانكم‏"‏ وهي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله، وآخر ما يفقد من الدين، فإذا ذهبت ذهب الدين كله، وهي عمود الدين فمتى ذهبت سقط الدين‏.‏
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوَة سِنَامه الجهاد في سبيل الله‏"‏، وقد قال الله في كتابه‏:‏
‏{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏‏.‏
قال عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه  وغيره‏:‏ إضاعتها‏:‏ تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها كانوا كفارًا‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، والمحافظة عليها‏:‏ فعلها في أوقاتها، وقال تعالى‏:‏‏{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4، 5‏]‏ وهم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل، ولا تأخير صلاة الليل إلى النهار، لا لمسافر ولا لمريض ولا غيرهما‏.‏ لكن يجوز عند الحاجة أن يجمع المسلم بين صلاتي النهار وهي الظهر والعصر في وقت إحداهما، ويجمع بين صلاتي الليل وهي المغرب والعشاء في وقت إحداهما، وذلك لمثل المسافر والمريض وعند المطر، ونحو ذلك من الأعذار‏.‏

 

ص -428-

وقد أوجب الله على المسلمين أن يصلوا بحسب طاقتهم،كما قال الله تعالى‏:‏‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، فعلى الرجل أن يصلي بطهارة كاملة وقراءة كاملة، وركوع وسجود كامل، فإن كان عادمًا للماء، أو يتضرر باستعماله لمرض أو برد أو غير ذلك، وهو محدث أو جنب، يتيمم الصعيد الطيب، وهو التراب‏.‏ يمسح به وجهه ويديه ويصلي، ولا يؤخرها عن وقتها باتفاق العلماء‏.‏
وكذلك إذا كان محبوسًا أو مقيدًا أو زَمِنًا أو غير ذلك، صلى على حسب حاله، وإذا كان بإزاء عدوه صلى أيضًا صلاة الخوف، قال الله تعالى‏:‏
‏{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101-103‏]‏‏.‏
ويجب على أهل القدرة من المسلمين أن يأمروا بالصلاة كل أحد من الرجال والنساء حتى الصبيان‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏‏"‏مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع‏"‏‏.‏
والرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ فمن العلماء من

 

ص -429-

يقول‏:‏ يكون مرتدًا كافرًا لا يصلي عليه ولا يدفن بين المسلمين، ومنهم من يقول‏:‏ يكون كقاطع الطريق وقاتل النفس، والزاني المحصن‏.‏
وأمر الصلاة عظيم شأنها أن تذكر هاهنا، فإنها قوام الدين وعماده، وتعظيمه تعالى لها في كتابه فوق جميع العبادات؛ فإنه  سبحانه  يخصها بالذكر تارة، ويقرنها بالزكاة تارة، وبالصبر تارة، وبالنسك تارة، كقوله تعالى‏:‏ ‏
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43، 83، 110‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏‏{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162، 163‏]‏‏.‏ وتارة يفتتح بها أعمال البر ويختمها بها؛ كما ذكره في سورة‏:‏ ‏[‏سأل سائل‏]‏ وفي أول سورة ‏[‏المؤمنون‏]‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1-11‏]‏‏.‏
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا‏.‏
                                                                                    آخر‏"‏كتاب مجمل اعتقاد السلف‏"‏
                                                                                    ويليه ‏"‏كتاب مفصل الاعتقاد‏"‏‏.

 

ص -430-