عنوان الكتاب:

مجموع فتاوى ابن تيمية – الجزء الثاني

تأليف:

أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

728هـ

دراسة وتحقيق:

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم

الناشر:

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية

1416هـ/1995م

مجموع فتاوى ابن تيمية الجزء الثاني
توحيد الربوبية
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وقال شيخ الإسلام أَحْمَدُ بن تَيْمية قدسَ اللَّه روحه‏:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
قاعدة أولية ‏:
أن أصل العلم الإلهي ،ومبدأه، ودليله الأول ،عند الذين آمنوا :هو الايمان بالله ورسوله ،وعند رسول صلى الله عليه وسلم :هو وحى الله ألية ،كما قال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال المؤلف - أيضًا- في حاشية له أخرى على هذه القاعدة -‏: ‏وقال أبو محمد عبد اللّه بن أحمد الخليدي في كتابه ‏[‏شرح اعتقاد أهل السنة‏]‏ لأبي على الحسين بن أحمد الطبري، وهذا لعله ممن أدرك أحمد وغيره، قال الخليدي في معرفة اللّه‏: وهي أول الفرض الذي لا يسع المسلم جهله، ولا تنفعه الطاعة- وإن أتى بجميع طاعة أهل الدنيا - ما لم تكن معه معرفة وتقوى‏.‏ فالمسلم إذا نظر في مخلوقات اللّه تعالى وما خلق من عجائبه، مثل دوران الليل والنهار، والشمس والقمر، وتفكر في نفسه، وفي مبدئه ومنتهاه فتزيد معرفته بذلك‏.‏ قال اللّه تعالى‏: ‏‏{‏وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات21‏]‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏من عرف نفسه عرف ربه‏"‏ ولسنا نقول‏: إن اللّه يعرف بالمخلوقات، بل المخلوقات كلها تعرف باللّه، لكن معرفته تزيد بالنظر في مخلوقات اللّه‏.‏
وسئل عبد الرحمن بن أبي حاتم عن رجل يقول‏: ‏عرفت اللّه بالعقل والإلهام فقال‏: ‏من قال‏: ‏عرفت اللّه بالعقل والإلهام فهو مبتدع، عرفنا كل شيء باللّه‏.‏
وسئل ذو النون المصري‏: بماذا عرفت ربك‏؟‏ فقال‏: عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي‏!‏،وقال عبد اللّه بن رواحه‏:
واللّه لولا اللّه ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
إلى آخره‏.‏وكان هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه، فدل على صحة قول علمائنا‏: إن اللّه يعرف باللّه، والأشياء كلها تعرف باللّه‏.‏ هذا آخر كلامه‏.‏
وهو متعلق بما قد كتبته هنا، وبما كتبته في الجزء الذي بعد هذا في تحرير أصل العلم والإيمان،والفرق بين المنهاج النبوي، والفلسفي، وما كتبته في شرح قصيدة القدر‏: من أن أصل المعرفة فطري، وذكر الطريقة الكلامية والفلسفية‏.‏ وقال شيخ الإسلام الأنصاري في أول اعتقاد أهل السنة، وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة‏: أول ما يجب على العبد معرفة اللّه؛ لحديث معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏‏"‏إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة اللّه،فإذا عرفوا اللّه -سبحانه- فأخبرهم أن اللّه افترض عليهم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث رواه مسلم هكذا‏.‏ ورواه البخاري‏.‏ قال‏: "‏فاعلم أن معرفة اللّه وعبادته والإيمان به إنما يجب، ويسمع، ويلزم بالبلاغ، ويحصل بالتعريف‏"‏‏.‏
قلت‏: قد روي عن ابن عباس أنه قيل له‏: بماذا عرفت ربك‏؟‏ فقال‏: من طلب دينه بالقياس، لم يزل دهره في التباس، ظاعنًا في الاعوجاج،زائغًا عن المنهاج،أعرفه بما عرف به نفسه،وأصفه بما وصف به نفسه اه‏.‏‏"‏

 

ص -1-

 خاتم الأنبياء‏: ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللْه، وأن محمدا رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏"‏‏.‏
وقال اللّه تعالى له‏: ‏
{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ِِِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏: ‏50 ‏]‏، وقال‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى‏}‏ ‏[‏ الضحى‏: 7 ‏]‏ وقال ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏ يوسف‏: ‏3‏]

 

ص -2-

فأخبر أنه كان قبله من الغافلين، وقال ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏ الشورى‏: 52‏]‏‏.‏ وفي صحيح البخارى في خطبة عمر لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كلام معناه ‏: ‏‏"‏إن اللّه هدى نبيكم بهذا القرآن فاستمسكوا به فإنكم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير‏.‏ كقوله‏
{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏: 165 ‏]‏ وقوله ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏} ‏‏[‏الإسراء‏: ‏15‏]‏ وقوله‏: ‏‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ‏}‏ الآية ‏[‏طه‏: ‏134‏]‏،وقوله‏: ‏{‏مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا ِ‏}‏الآية ‏[‏القصص‏: 59‏]‏،وقوله‏: ‏‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏: ‏8‏]‏ وقوله‏: ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ‏}‏الآية ‏[‏الزمر‏: ‏71‏]‏،

 

ص -3-

وقوله‏: ‏‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ‏}‏ الآية ‏[‏الرحمن‏: ‏33‏]‏‏.‏
ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم‏: ابتدؤوها بأصل العلم والإيمان‏.‏ كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولا، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي‏.‏ وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب ‏[‏المسند‏]‏ ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفًا صالحًا‏.‏ وهذان الرجلان أفضل بكثير من مسلم، والترمذي ونحوهما، ولهذا كان أحمد بن حنبل يعظم هذين ونحوهما؛ لأنهم فقهاء في الحديث أصولا وفروعا‏.‏
ولما كان أصل العلم والهدى هو الإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة، كان ذكره طريق الهداية بالرسالة التي هي القرآن، وما جاءت به الرسل كثيرًا جدًا، كقوله‏:
‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏2‏]‏،وقوله‏: ‏‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏138‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏9‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ‏.‏ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏3، 4 ‏]‏ وقوله‏: ‏‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏: ‏1‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏.‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏طه‏: ‏123، 124‏]‏،

 

ص -4-

وقوله‏: ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏.‏صِرَاطِ اللَّهِ‏}‏‏[‏الشورى‏: ‏52، 53‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ‏}‏‏[‏آل عمران‏: ‏101‏]‏
فيعلم أن آيات اللّه والرسول تمنع الكفر، وهذا كثير‏.‏وكذلك ذكره حصول الهداية،والفلاح للمؤمنين دون غيرهم ملء القرآن،كقوله‏:
‏{‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏.‏ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏: ‏2، 3‏]‏‏.‏ ثم ذم الذين كفروا، والذين نافقوا وقوله‏: ‏‏{‏وَالْعَصْر‏.‏ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏.‏ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏‏[‏العصر‏: 1‏: 3‏]‏،وقوله‏: ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏.‏ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏‏[‏التين‏: ‏5، 6‏]‏
فحكم على النوع كله، والأمة الإنسانية جميعها، بالخسارة، والسفول إلى الغاية، إلا المؤمنين الصالحين‏.‏
وكذلك جعل أهل الجنة هم أهل الإيمان،وأهل النار هم أهل الكفر،فيما شاء اللّه من الآيات، حتى صار ذلك معلوما علما شائعًا، متواترًا، اضطراريا من دين الرسول عند كل من بلغته رسالته‏.‏
وربط السعادة مع إصلاح العمل به في مثل قوله‏: ‏
{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏97‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏91‏]‏‏.‏
وأحبط الأعمال الصالحة بزواله، في مثل قوله‏: ‏‏
{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏93‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏: ‏18‏]‏، وقوله‏:

 

ص -5-

‏{‏مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: 117‏]‏، وقوله‏: ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏32‏]‏، ونحو ذلك كثير‏.‏
وذكر حال جميع الأمم المهتدية أنهم كذلك، في قوله‏: ‏‏{
‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏: ‏62‏]‏
ولهذا أمر أهل العقل بتدبره، وأهل السمع بسمعه، فدعا فيه إلى التدبر، والتفكير، والتذكر، والعقل، والفهم، وإلى الاستماع، والإبصار، والإصغاء والتأثر بالوَجَل والبكاء وغير ذلك، وهذا باب واسع‏.‏
ولما كان الإقرار بالصانع فطريا - كما قال صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏كل مولود يولد على الفطرة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث - فإن الفطرة تتضمن الإقرار باللّه، والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا اللّه، فإن الإله هو الذي يعرف ويعبد، وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع‏.‏
وكان المقصود بالدعوة‏: ‏وصول العباد إلى ما خلقوا له من عبادة ربهم،وحده لا شريك له،والعبادة أصلها عبادة القلب،المستتبع للجوارح،فإن القلب هو الملك،والأعضاء جنوده‏.‏ وهو المضغة الذي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد‏.‏ وإنما ذلك بعلمه،وحاله كان هذا الأصل الذي هو عبادة اللّه بمعرفته،ومحبته،هو أصل الدعوة في القرآن‏.‏فقال تعالى‏:
‏‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏: ‏65‏]‏

 

ص -6-

وقال في صدر البقرة بعد أن صنف الخلق ثلاثة أصناف‏: مؤمن، وكافر، ومنافق فقال بعد ذلك‏: ‏‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏21‏]‏ وذكر آلاءه التي تتضمن نعمته، وقدرته، ثم أتبع ذلك بتقريره النبوة بقوله‏: ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏23‏]‏‏.‏
والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف، ويستعظمه حيث قررت الربوبية، ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية في نظره في القضايا العقليات، أولا من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقى السمعيات من النبوة كما هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة، والكرَّامية، والكُلاَّبية، والأشعرية‏.‏ ومن سلك هذه الطريق في إثبات الصانع أولا بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفيا وإثباتا بالقياس العقلي على ما بينهم فيه من اتفاق واختلاف‏: إما في المسائل، وإما في الدلائل ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات، من المعاد، والثواب والعقاب، والخلافة والتفضيل، والإيمان بطريق مجمل‏.‏
وإنما عمدة الكلام عندهم، ومعظمه‏: هو تلك القضايا التي يسمونها العقليات، وهي أصول دينهم‏.‏ وقد بنوها علي مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة‏.‏
وهم قسمان‏:
قسم بنوا على هذه العقليات القياسية الأصول العلمية، دون العملية؛ كالأشعرية‏.‏

 

ص -7-

وقسم بنوا عليها الأصول العلمية والعملية، كالمعتزلة،حتى إن هؤلاء يأخذون القدر المشترك في الأفعال بين اللّه وبين عباده، فما حسن من اللّه حسن من العبد، وما قبح من العبد قبح من اللّه، ولهذا سماهم الناس مشبهة الأفعال‏.‏
ولا شك أن هؤلاء هم المتكلمة المذمومون عند السلف؛ لكثرة بنائهم الدين على القياس الفاسد الكلامي، وردهم لما جاء به الكتاب والسنة‏.‏
والآخرون لما شاركوهم في بعض ذلك،لحقهم من الذم، والعيب، بقدر ما وافقوهم فيه، وهو موافقتهم في كثير من دلائلهم، التي يزعمون أنهم يقررون بها أصول الدين، والإيمان، وفي طائفة من مسائلهم التي يخالفون بها السنن والآثار، وما عليه أهل العقل والدين‏.‏
وليس الغرض هنا تفصيل أحوالهم، فإنا قد كتبنا فيه أشياء في غير هذا الموضع‏.‏ وإنما الغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين، وفروعه في الدلائل والمسائل بأكمل المناهج‏.‏
والمتكلم يظن أنه بطريقته التي انفرد بها- قد وافق طريقة القرآن، تارة في إثبات الربوبية، وتارة في إثبات الوحدانية، وتارة في إثبات النبوة، وتارة في إثبات المعاد، وهو مخطئ في كثير من ذلك، أو أكثره‏.‏ مثل هذا الموضع‏.‏
فإنه قد أخطأ المتكلم في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته من وجوه‏.‏

 

ص -8-

منها‏: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته، التي يستلزم العلم بها العلم به، كاستلزام العلم بالشعاع، العلم بالشمس، من غير احتياج إلى قياس كلي يقال فيه‏: وكل محدَث فلابد له من محدِث، أو كل ممكن فلابد له من مرجح، أو كل حركة فلابد لها من علة غائية،أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى أن يقال‏: سبب الافتقار إلى الصانع هل هو الحدوث فقط - كما تقوله المعتزلة - أو الإمكان - كما يقوله الجمهور - حتى يرتبون عليه أن الثاني حال باقية مفتقر إلى الصانع، على القول الثاني الصحيح دون الأول، فإنى قد بسطت هذا الموضع في غير هذا المكان،وبينت ما هو الحق، من أن نفس الذوات المخلوقة مفتقرة إلى الصانع، وأن فقرها وحاجتها إليه وصف ذاتي لهذه الموجودات المخلوقة، كما أن الغنى وصف ذاتي للرب الخالق، وأنه لا علة لهذا الافتقار غير نفس الماهية، وعين الإنيةِ، كما أنه لا علة لغناه غير نفس ذاته‏.‏
فلك أن تقول‏: لا علة لفقرها، وغناه؛ إذ ليس لكل أمر علة، فكما لا علة لوجوده، وغناه، لا علة لعدمها إذا لم يشأ كونها، ولا لفقرها إليه إذا شاء كونها، وإن شئت أن تقول‏: علة هذا الفقر، وهذا الغني‏: نفس الذات، وعين الحقيقة‏.‏
ويدل على ذلك أن الإنسان يعلم فقر نفسه، وحاجتها إلى خالقه، من غير أن يخطر بباله أنها ممكنة، والممكن الذي يقبل الوجود، والعدم، أو أنها محدثة والمحدث المسبوق بالعدم، بل قد يشك في قدمها، أو يعتقده، وهو يعلم فقرها، وحاجتها إلى بارئها، فلو لم يكن للفقر إلي الصانع علة إلا الإمكان أو

 

ص -9-

الحدوث، لما جاز العلم بالفقر إليه، حتى تعلم هذه العلة؛ إذ لا دليل عندهم على الحاجة إلى المؤثر إلا هذا‏.‏
وحينئذ، فالعلم بنفس الذوات المفتقرة، والإنيات المضطرة توجب العلم بحاجتها إلى بارئها، وفقرها إليه، ولهذا سماها اللّه آيات‏.‏ فهذان مقامان‏:
أحدهما‏: أنها مفتقرة إلى المؤثر الموجب أو المحدث لهاتين العلتين‏.‏
الثاني‏: أن كل مفتقر إلى المؤثر‏: الموجب، أو المحدث، فلابد له منه‏.‏ وهو كلام صحيح في نفسه، لكن ليس الطريق مفتقرا إليه، وفيه طول وعقبات، تبعد المقصود‏.‏
أما المقام الأول‏: فالعلم بفقرها غير مفتقر إلى دليل على ذلك من إمكان أو حدوث‏.‏
وأما الثاني‏: فإن كونها مفتقرة إليه غير مفتقر إلى أن يستدل عليه بقياس كلي‏: من أن كل ممكن فلابد له من موجب، وكل محدث فلابد له من محدث؛ لأنها آية له يمتنع أن تكون دونه أو أن تكون غير آية له‏.‏
والقلب بفطرته يعلم ذلك، وإن لم يخطر بقلبه وصف الإمكان والحدوث‏.‏ والنكتة‏: أن وصف الإمكان، والحدوث، لا يجب أن يعتبره القلب لا في فقر ذواتها، ولا في أنها آية لباريها، وإن كانا وصفين ثابتين‏.‏ وهما أيضا دليل صحيح، لكن أعيان الممكنات آية لعين خالقها الذي ليس كمثله شىء، بحيث لا يمكن أن يقع شركة فيه‏.‏

 

ص -10-

وأما قولنا كل ممكن فله مرجح، وكل محدث فله محدث، فإنما يدل على محدث، ومرجح، وهو وصف كلي يقبل الشركة، ولهذا القياس العقلي لا يدل على تعيين وإنما يدل على الكلي المطلق فلابد إذًا من التعيين‏.‏ فالقياس دليل على وصفية مطلقة كلية‏.‏
وأيضا، فإذا استدل على الصانع بوصف إمكانها، أو حدوثها، أو هما جميعا،لم يفتقر ذلك إلى قياس كلي، بأن يقال‏: وكل محدث فلابد له من محدث، أو كل ممكن فلابد له من مرجح، فضلا عن تقرير هاتين المقدمتين، بل علم القلب بافتقار هذا الممكن، وهذا المحدث، كعلمه بافتقار هذا الممكن، وهذا المحدث‏.‏ فليس العلم بحكم المعينات مستفادًا من العلم الكلي الشامل لها، بل قد يكون العلم بحكم المعين في العقل قبل العلم بالحكم الكلي العام‏.‏ كما أن العلم بأن العشرة ضعف الخمسة، ليس موقوفًا على العلم بأن كل عدد له نصفية، فهو ضعف نصفيه‏.‏
وعلى هذا جاء قوله‏:
‏‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏: ‏35‏]‏ قال جبير ابن مطعم‏: لما سمعتها أحسست بفؤادي قد تصدع‏.‏ وهو استفهام إنكار، يقول‏: ‏أأوجدوا من غير مبدع‏؟‏ فهم يعلمون أنهم لم يكونوا من غير مكوِّن، ويعلمون أنهم لم يكوِّنوا نفوسهم، وعلمهم بحكم أنفسهم معلوم بالفطرة بنفسه، لا يحتاج أن يستدل عليه بأن كل كائن محدَث، أو كل ممكن لا يوجد بنفسه، ولا يوجد من غير موجِد، وإن كانت هذه القضية العامة، النوعية، صادقة، لكن العلم بتلك المعينة الخاصة، إن لم يكن سابقًا لها، فليس متأخرًا عنها، ولا دونها في الجلاء‏.‏

 

ص -11-

وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع، وذكرت دعوة الأنبياء عليهم السلام أنه جاء بالطريق الفطرية كقولهم‏: ‏‏{‏أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏: ‏10‏]‏ وقول موسى‏: ‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏65 ‏]‏ وقوله في القرآن‏: ‏{‏اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏.‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا‏}‏‏[‏البقرة‏: ‏21، 22‏]‏،بين أن نفس هذه الذوات آية لله،كما أشرنا إليه أولًا من غير حاجة إلى ذينك المقامين، ولما وبخهم بيَّن حاجتهم إلى الخالق بنفوسهم، من غير أن تحتاج إلى مقدمة كلية‏: هم فيها وسائر أفرادها سواء، بل هم أوضح‏.‏ وهذا المعنى قررته مبسوطًا في غير هذا‏.‏
الوجه الثاني - في مفارقة الطريقة القرآنية الكلامية -‏: أن اللّه أمر بعبادته التي هي كمال النفوس، وصلاحها، وغايتها، ونهايتها، لم يقتصر على مجرد الإقرار به، كما هو غاية الطريقة الكلامية، فلا وافقوا لا في الوسائل، ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا إلى أنها فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، وتلك قياسية بعيدة، ولا توصل إلا إلى نوع المقصود، لا إلى عينه‏.‏
وأما المقاصد، فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له، فجمع بين قوتي الإنسان العلمية، والعملية‏: الحسية، والحركية، الإرادية الإدراكية، والاعتمادية‏: القولية، والعملية، حيث قال‏:
‏{‏اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ‏}‏ فالعبادة لابد فيها من معرفته، والإنابة إليه، والتذلل له، والافتقار إليه، وهذا هو المقصود‏.‏ والطريقة الكلامية، إنما تفيد مجرد الإقرار، والاعتراف بوجوده‏.‏

 

ص -12-

وهذا إذا حصل من غير عبادة وإنابة كان وبالا على صاحبه، وشقاء له، كما جاء في الحديث‏: ‏"‏أشد الناس عذابًا يوم القيامة‏: عالم لم ينفعه اللّه بعلمه‏"‏ كإبليس اللعين، فإنه معترف بربه، مُقِرٌّ بوجوده، لكن لما لم يعبده كان رأس الأشقياء، وكل من شقى فباتباعه له‏.‏ كما قال‏: ‏‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏[‏ص‏: ‏58‏]‏
فلابد أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه، مع أنه معترف بالرب، مقر بوجوده، وإنما أبى واستكبر عن الطاعة، والعبادة، والقوة العلمية مع العملية بمنزلة الفاعل، والغاية؛ ولهذا قيل‏: ‏العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، والمراد بالعمل هنا‏: عمل القلب الذي هو إنابته إلى اللّه، وخشيته له، حتى يكون عابدًا له‏.‏
فالرسل والكتب المنزلة أمرت بهذا وأوجبته، بل هو رأس الدعوة، ومقصودها، وأصلها، والطريقة السماعية العملية الصوتية المنحرفة توافق على المقصود العملي، لكن لا بعلم، بل بصوت مجرد أو بشعر مهيج، أو بوصف حب مجمل‏.‏ فكما أن الطريقة الكلامية فيها علم ناقص بلا عمل، فهذه الطريقة فيها عمل ناقص بلا علم، والطريقة النبوية، القرآنية السنية الجماعية فيها العلم والعمل كاملين‏.‏
ففاتحة دعوة الرسل‏: الأمر بالعبادة‏.‏ قال تعالي‏:
‏‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏21‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏أمرت أن

 

ص -13-

أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا عبده ورسوله‏"‏ وذلك يتضمن الإقرار به، وعبادته وحده، فإن الإله هو المعبود، ولم يقل‏: ‏حتى يشهدوا أن لا رب إلا اللّه، فإن اسم اللّه أدل على مقصود العبادة له، التي لها خلق الخلق، وبها أمروا‏.‏
وكذلك قوله لمعاذ‏: ‏"‏إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه‏"‏ وقال نوح عليه السلام‏: ‏
{‏أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏نوح‏: 3‏]‏ وكذلك الرسل في سورة الأعراف وغيرها‏.‏
وقال‏:
‏‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏36‏]‏، وقال للرسل جميعًا‏: ‏‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏.‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏‏[‏المؤمنون51، 52‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ‏.‏الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏‏[‏سورة قريش‏]‏ وقال‏: ‏‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏: ‏91‏]‏ وقال‏: ‏‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏.‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏.‏ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏‏[‏الكافرون‏: ‏1: 3‏]‏ وقال في الفاتحة‏: {‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏ وقال‏: ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ٌ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏123‏]‏ وقال‏: ‏‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏65‏]‏ وقال‏: ‏‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء‏}‏ ‏[‏البينة‏: ‏5‏]‏‏.

 

ص -14-

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس اللّه روحه‏:
فصل في تمهيد الأوائل، وتقرير الدلائل
وذلك ببيان وتحرير أصل العلم والإيمان، كما قد كتبته أولا في بيان أصل العلم الإلهي‏.‏ والذي أكتبه هنا‏: بيان الفرق بين المنهاج النبوي، الإيماني، العلمي، الصلاحي، والمنهاج الصابئ الفلسفي، وما تشعب عنه من المنهاج الكلامي والعبادي، المخالف لسبيل الأنبياء وسنتهم‏.‏
وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - دعوا الناس إلى عبادة اللّه أولا بالقلب واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته، وذكره‏.‏
فأصل علمهم وعملهم هو العلم باللّه،والعمل للّه، وذلك فطري كما قد قررته في غير هذا الموضع، في موضعين أو ثلاثة، وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وأنه أشد رسوخًا في النفوس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا‏: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي،كقولنا‏: إن الجسم

 

ص -15-

‏ لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي، فما يتصور أن تعرض عنه فطرة‏.‏ وبسط هذا له موضع غير هذا‏.‏
وإنما الغرض هنا‏: ‏أن اللّه - سبحانه - لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي إليه تصير الحادثات،فهو الأصل الجامع،فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وذكره أصل كل كلام وجامعه، والعمل له أصل كل عمل وجامعه‏.‏ وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته‏.‏ وإذا حصل لهم ذلك، فما سواه إما فضل نافع وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر‏.‏
ثم من العلم به، تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده، تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك، قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي، والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والإيمان، وإما في السلامة عن الجهل والكفر‏.‏
وبهذا جاءت النصوص الإلهية، في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن وهو المقر بربه علمًا، وعملا بالحي، والبصير، والسميع، والنور، والظل‏.‏
وضرب مثل الكافر بالميت،والأعمى، والأصم، والظلمة، والحرور‏.‏ وقالوا في الوسواس الخناس‏: هو الذي إذا ذكر اللّه خنس، وإذا غفل عن ذكر اللّه وسوس‏.

 

ص -16-

فتبين بذلك أن ذكر اللّه أصل لدفع الوسواس الذي هو مبدأ كل كفر وجهل، وفسق وظلم‏.‏ وقال اللّه تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏42‏]‏،وقال‏: ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏‏[‏النحل‏: ‏99‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏[‏آل عمران‏: ‏101‏]‏ ونحو ذلك من النصوص‏.‏
وفي الدعاء الذي علمه الإمام أحمد لبعض أصحابه‏: يا دليل الحيارى، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين‏.‏ ولهذا كان عامة أهل السنة من أصحابنا وغيرهم على أن اللّه يسمى دليلا، ومنع ابن عقيل، وكثير من أصحاب الأشعري أن يسمي دليلا؛ لاعتقادهم أن الدليل هو ما يستدل به، وأن اللّه هو الدال، وهذا الذي قالوه بحسب ما غلب في عرف استعمالهم من الفرق بين الدال، والدليل‏.‏ وجوابه من وجهين‏:
أحدهما‏: أن الدليل معدول عن الدال، وهو ما يؤكد فيه صفة الدلالة، فكل دليل دال، وليس كل دال دليلًا، وليس هو من أسماء الآلات التي يفعل بها، فإن فعيل ليس من أبنية الآلات كمِفْعَل، ومِفْعَال‏.‏
وإنما سمي ما يستدل به من الأقوال والأفعال والأجسام أدلة باعتبار أنها تدل من يستدل بها، كما يخبر عنها بأنها تهدي، وترشد، وتعرف، وتعلم، وتقول، وتجيب، وتحكم، وتفتى، و تقص، وتشهد، وإن لم يكن لها في ذلك قصد وإرادة، ولا حس وإدراك كما هو مشهور في الكلام العربي وغيره‏.‏ فما ذكروه من الفرق والتخصيص لا أصل له في كلام العرب‏.‏

 

ص -17-

الثاني‏: أنه لو كان الدليل من أسماء الآلات التي يفعل بها، فقد قال اللّه - تعالى - فيما روى عنه نبيه في عبده المحبوب‏: ‏‏"‏فبي يسمع وبي يبصر، وبي يعقل، وبي ينطق، وبي يبطش، وبي يسعى‏"‏ والمسلم يقول‏: استعنت باللّه واعتصمت به‏.‏
وإذا كان ما سوى اللّه من الموجودات‏: الأعيان، والصفات،يستدل بها،سواء كانت حية أو لم تكن، بل ويستدل بالمعدوم، فلأن يستدل بالحي القيوم أولى وأحرى، على أن الذي في الدعاء المأثور‏: يا دليل الحياري دلني علي طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين، يقتضى أن تسميته دليلا باعتبار أنه دال لعباده، لا بمجرد أنه يستدل به، كما قد يستدل بما لا يقصد الدلالة والهداية، من الأعيان، والأقوال، والأفعال‏.‏
ومن أسمائه الهادي، وقد جاء - أيضا - البرهان؛ ولهذا يذكر عن بعضهم أنه قال‏: عرفت الأشياء بربي،ولم أعرف ربي بالأشياء‏.‏ وقال بعضهم‏: ‏هو الدليل لي علي كل شىء، وإن كان كل شىء - لئلا يعذبني - عليه دليلا‏.‏ وقيل لابن عباس‏: بماذا عرفت ربك‏؟‏ فقال‏: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارجًا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه‏.‏ فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف اللّه، وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام اللّه، وهو نور القرآن‏.‏

 

ص -18-

وقال آخر للشيخ‏:

 قالوا ائتنا ببراهين فقلت لهم

  أنى يقوم على البرهان برهان‏؟‏

وقال الشيخ العارف للمتكلم‏: اليقين عندنا واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، فأجابه بأنه ضروري‏.‏
وقال الشيخ إسماعيل الكوراني للشيخ المتكلم‏: أنتم تقولون‏: إن اللّه يعرف بالدليل‏.‏ ونحن نقول‏: إنه تعرف إلينا فعرفناه‏.‏ يعني‏: أنه تعرف بنفسه، وبفضله‏.‏ مع أن كلام هذين الشيخين فيه إشارة إلى الطريقة العبادية،وقد تكلمت عليها في غير هذا الموضع‏.‏
فإذا كان الحق، الحي، القيوم، الذي هو رب كل شىء ومليكه،ومؤصل كل أصل، ومسبب كل سبب وعلة، هو الدليل والبرهان والأول والأصل، الذي يستدل به العبد، ويفزع إليه، ويرد جميع الأواخر إليه في العلم، كان ذلك سبيل الهدى وطريقه، كما أن الأعمال والحركات لما كان اللّه مصدرها، وإليه مرجعها كان المتوكل عليه في عمله، القائل أنه لا حول ولا قوة إلا باللّه مؤيدًا منصورًا‏.‏
فجماع الأمر‏: أن اللّه هو الهادي وهو النصير،‏
{‏وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏31‏]‏‏.‏ وكل علم فلابد له من هداية، وكل عمل فلابد له من قوة‏.‏ فالواجب

 

ص -19-

أن يكون هو أصل كل هداية وعلم، وأصل كل نصرة وقوة، ولا يستهدي العبد إلا إياه، ولا يستنصر إلا إياه‏.‏
والعبد لما كان مخلوقًا مربوبا، مفطورًا، مصنوعا، عاد في علمه وعمله إلى خالقه، وفاطره، وربه، وصانعه، فصار ذلك ترتيبًا مطابقًا للحق، وتأليفًا موافقًا للحقيقة؛ إذ بناء الفرع على الأصل، وتقديم الأصل على الفرع هو الحق، فهذه الطريقة الصحيحة، الموافقة لفطرة اللّه وخلقته ولكتابه وسنته‏.‏
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلي صلاة الليل يقول‏
: ‏‏"‏اللّهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏
وأما الطريقة الفلسفية الكلامية، فإنهم ابتدؤوا بنفوسهم، فجعلوها هي الأصل الذي يفرعون عليه، والأساس الذي يبنون عليه، فتكلموا في إدراكهم للعلم‏: أنه تارة يكون بالحس، وتارة بالعقل، وتارة بهما‏.‏
وجعلوا العلوم الحسية، والبديهية ونحوها،هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها‏.‏ ثم زعموا أنهم إنما يدركون بذلك الأمور القريبة منهم، من الأمور الطبيعية والحسابية، والأخلاق، فجعلوا هذه الثلاثة هي الأصول

 

ص -20-

التي يبنون عليها سائر العلوم، ولهذا يمثلون ذلك في أصول العلم والكلام، بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الجسم لا يكون في مكانين، وأن الضدين كالسواد والبياض لا يجتمعان‏.‏
فهذان الفنان متفق عليهما‏.‏
وأما الأخلاق مثل‏: استحسان العلم، والعدل، والعفة، والشجاعة، فجمهور الفلاسفة والمتكلمين، يجعلونها من الأصول، لكنها من الأصول العامة، ومنهم من لا يجعلها من الأصول، بل يجعلها من الفروع، التي تفتقر إلي دليل‏.‏ وهو قول غالب المتكلمة، المنتصرين للسنة في تأويل القدر، فكان الذي أصلوه واتفقوا عليه من المعارف، أمر قليل الفائدة، نزر الجدوى، وهو الأمور السفلية‏.‏
ثم إذا صعدوا من هذه المقدمات، والدلائل إلى الأمور العلوية فلهم طريقان‏:
أما المتكلمة المتبعون للنبوات، فغرضهم في الغالب إنما هو إثبات صانع العالم، والصفات التي بها تثبت النبوة على طريقهم، ثم إذا أثبتوا النبوة، تلقوا منها السمعيات وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، وفروع ذلك‏.‏
وأما المتفلسفة، فهم في الغالب يتوسعون في الأمور الطبيعية ولوازمها، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها‏.‏ ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب

 

ص -21-

الوجود، وإلى العقول والنفوس‏.‏ ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداء من جهة أن الوجود لابد فيه من واجب‏.‏
وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل، والمقاصد‏.‏ أما المقاصد فإن حاصلها - بعد التعب الكثير، والسلامة - خير قليل، فهي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل‏.‏ ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا‏.‏
وأما الوسائل، فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات، ينقطع السالكون فيها كثيرا قبل الوصول، ومقدماتها في - الغالب - إما مشتبهة يقع النزاع فيها، وإما خفية لا يدركها إلا الأذكياء‏.‏
ولهذا لا يتفق منهم اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادرًا، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال، تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن اللّه لا يعرف إلا بطريقته، وإن كان جمهور أهل الملة، بل عامة السلف يخالفونه فيها‏.‏
مثال ذلك‏: أن غالب المتكلمين يعتقدون أن اللّه لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم، ثم الاستدلال بذلك على محدثه، ثم لهم في إثبات حدوثه طرق‏: فأكثرهم يستدلون بحدوث الأعراض، وهي صفات الأجسام‏.‏ ثم القدرية من المعتزلة وغيرهم يعتقدون أن إثبات الصانع، والنبوة لا يمكن إلا بعد اعتقاد

 

ص -22-

أن العبد هو المحدث لأفعاله، وإلا انتقض الدليل، ونحو ذلك من الأصول التي يخالفهم فيها جمهور المسلمين‏.‏
وجمهور هؤلاء المتكلمين المستدلين على حدوث الأجسام بحدوث الحركات، يجعلون هذا هو الدليل على نفي ما دل عليه ظاهر السمعيات، من أن اللّه يجيء، وينزل ونحو ذلك‏.‏
والمعتزلة وغيرهم يجعلون هذا هو الدليل على أن اللّه ليس له صفة، لا علم ولا قدرة، ولا عزة، ولا رحمة، ولا غير ذلك؛ لأن ذلك - بزعمهم - أعراض تدل على حدوث الموصوف‏.‏
وأكثر المصنفين في الفلسفة - كابن سينا - يبتدئ بالمنطق، ثم الطبيعي والرياضي، أو لا يذكره‏.‏ ثم ينتقل إلى ما عنده من الإلهي‏.‏ وتجد المصنفين في الكلام يبتدؤون بمقدماته في الكلام‏: في النظر والعلم، والدليل - وهو من جنس المنطق - ثم ينتقلون إلى حدوث العالم، وإثبات محدثه‏.‏
ومنهم من ينتقل إلى تقسيم المعلومات إلى‏: الموجود، والمعدوم، وينظر في الوجود وأقسامه، كما قد يفعله الفيلسوف في أول العلم الإلهي‏.‏
فأما الأنبياء فأول دعوتهم‏: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه‏.‏

 

ص -23-

وقد اعترف الغزالي بأن طريق الصوفية هو الغاية؛ لأنهم يطهرون قلوبهم مما سوى اللّه، ويملؤونه بذكر اللّه، وهذا مبدأ دعوة الرسول، لكن الصوفي الذي ليس معه الأثارة النبوية مفصلة، يستفيد بها إيمانا مجملا، بخلاف صاحب الأثارة النبوية، فإن المعرفة عنده مفصلة‏.‏ فتدبر طرق العلم والعمل، ليتميز لك طريق أهل السنة والإيمان من طريق أهل البدعة والنفاق، وطريق العلم والعرفان، من طريق الجهل والنكران‏.‏

 

ص -24-

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - قدس اللّه روحه‏:
فصل قد تكلم طائفة من المتكلمة، والمتفلسفة، والمتصوفة في قيام الممكنات والمحدثات، بالواجب القديم،
وهذا المعنى حق، فإن اللّه رب كل شيء، ومليكه، لكن يستشهدون على ذلك بقوله‏: ‏‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏88‏]‏ ويقولون‏: إن معنى الآية‏: أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض، ونفى صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي من جهته هو موجود‏.‏
ثم منهم من قد يخرج منها إلى مذهب الجهمية‏: الاتحادية، والحلولية، فيقول‏: إن ذلك الوجه هو وجود الكائنات، ووجه اللّه هو وجوده، فيكون وجوده وجود الكائنات، لا يميز بين الوجود الواجب، والوجود الممكن - كما هو قول ابن عربي، وابن سَبْعِين ونحوهما - وهو لازم لمن جعل وجوده وجودًا مطلقًا، لا يتميز بحقيقة تخصه سواء جعله وجودًا مطلقا بشرط الإطلاق - كما يزعم ابن سينا ونحوه من المتفلسفة - أو جعله وجودًا مطلقا لا بشرط- كما يقوله الاتحادية‏.‏

 

ص -25-

وهم يسلمون من القواعد العقلية - مما هو يعلم بضرورة العقل ما يوجب أن يكون الموجود - بشرط الإطلاق - إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان كالحيوان المطلق بشرط الإطلاق، والإنسان المطلق بشرط الإطلاق ونحو ذلك‏.‏ وأن المطلق لا بشرط، ليس له حقيقة، غير الوجود العيني، والذهني، ليس في الأعيان الموجودة وجود مطلق، سوى أعيانها، كما ليس في هذا الإنسان، وهذا الإنسان إنسان مطلق وراء هذا الإنسان، فيكون وجود الرب على الأول ذهني وعلى الثاني نفس وجود المخلوقات‏.‏
وقول الجهمية من المتقدمين، والمتأخرين، لا يخرج عن هذين القولين، وهو حقيقة التعطيل، لكن هم يثبتونه أيضا، فيجمعون بين النفي والإثبات، فيبقون في الحيرة؛ ولهذا يجعلون الحيرة منتهى المعرفة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا مكذوبا عليه ‏"‏أعلَمكم باللّه أشدكم حيرة‏"‏ وأنه قال‏: ‏"‏اللّهم زدني فيك تحيرًا‏"‏ ويجمعون بين النقيضين ملتزمين لذلك‏.‏
وهذا قول القرامطة الباطنية، والاتحادية، وهو لازم لقول الفلاسفة والمعتزلة، وإن لم يصرح هؤلاء بالتزامه؛ بخلاف الباطنية، والاتحادية من المتصوفة‏.‏ فإنهم يصرحون بالتزامه، ويذكرون ذلك عن الحلاج‏.‏
والمقصود هنا أن يقال‏: أما كون وجود الخالق هو وجود المخلوق؛ فهذا كفر صريح باتفاق أهل الإيمان، وهو من أبطل الباطل في بديهة عقل كل إنسان، وإن كان منتحلوه يزعمون أنه غاية التحقيق والعرفان، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -26-

وأما كون المخلوق لا وجود له، إلا من الخالق سبحانه فهذا حق ثم جميع الكائنات، هو خالقها، وربها، ومليكها، لا يكون شيء إلا بقدرته، ومشيئته وخلقه، هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى‏.‏
لكن الكلام هنا في تفسير الآية بهذا، فإن المعاني تنقسم إلى حق وباطل‏.‏
فالباطل‏: لا يجوز أن يفسر به كلام الله‏.‏
والحق‏: إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة، كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ، كما تفعله القرامطة والباطنية؛ إذ دلالة اللفظ على المعنى سمعية‏.‏ فلابد أن يكون اللفظ مستعملا في ذلك المعنى بحيث قد دل على المعنى به، لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يصلح وضع اللفظ لذلك المعنى؛ إذ الألفاظ التي يصلح وضعها للمعاني ولم توضع لها لا يحصي عددها إلا الله‏.‏ وهذا عند من يعتبر المناسبة بين اللفظ والمعنى كقول طائفة من أهل الكلام والبيان، وأما عند من لا يعتبر المناسبة فكل لفظ يصلح وضعه لكل معنى، لاسيما إذا علم أن اللفظ موضوع لمعنى هو مستعمل فيه، فحمله على غير ذلك لمجرد المناسبة كذب على الله‏.‏
ثم إن كان مخالفًا لما علم من الشريعة، فهو دأب القرامطة، وإن لم يكن مخالفًا فهو حال كثير من جهال الوعاظ، والمتصوفة الذين يقولون بإشارات لا يدل اللفظ

 

ص -27-

عليها نصا ولا قياسا، وأما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دل اللفظ عليه، ويجعلون المعنى المشار إليه مفهوما من جهة القياس والاعتبار فحالهم كحال الفقهاء العالمين بالقياس، والاعتبار، وهذا حق إذا كان قياسا صحيحا لا فاسدا، واعتبارًا مستقيمًا، لا منحرفًا‏.‏
وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية فنقول‏: تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عمن قاله من السلف، والمفسرين، من أن المعنى‏: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه‏.‏ هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه، بعضها يشير إلى الرجحان، وبعضها يشير إلى البطلان‏.‏
الأول‏: أنه لم يقل‏: كل شيء هالك إلا من جهته، إلا من وجهه، ولكن قال‏: إلا وجهه‏.‏ وهذا يقتضي أن ثم أشياء تهلك إلا وجهه‏.‏ فإن أريد بوجهه وجوده، اقتضى أن كل ما سوي وجوده هالك، فيقتضي أن تكون المخلوقات هالكة‏.‏ وليس الأمر كذلك‏.‏ وهو أيضا على قول الاتحادية‏.‏ فإنه عندهم ما ثم إلا وجود واحد، فلا يصح أن قال‏: كل ما سوي وجوده هالك؛ إذ ما ثم شيء يخبر عنه بأنه سوى وجوده، إذ أصل مذهبهم نفي السوى، والغير في نفس الأمر‏.‏
وهذا يتم بالوجه الثاني‏: وهو أنه إذا قيل‏: المراد بالهالك‏: الممكن الذي لا وجود له من جهته، فيكون المعنى‏: كل شيء ليس وجوده من نفسه إلا هو‏.‏
قيل‏: استعمال لفظ الهالك في الشيء الموجود المخلوق لأجل أن وجوده من ربه لا من نفسه، لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازا‏.‏

 

ص -28-

والقرآن قد فرق في اسم الهلاك بين شيء وشيء‏.‏ فقال تعالى‏: ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏: 176‏]‏ وقال تعالى‏: ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏195‏]‏ وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏26‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏: ‏24‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ‏}‏‏[‏مريم‏: ‏74‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: 58‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏النمل‏: ‏48، 49‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏17‏]‏ وقالت الملائكة‏: ‏‏{‏إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏: ‏31‏]‏ وقال‏: ‏{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ}‏ ‏[‏المرسلات‏: ‏16، 17‏]‏‏.‏
فهذه الآيات تقتضي أن الهلاك استحالة، وفساد في الشيء الموجود، كما سنبينه، لا أنه يعني أنه ليس وجوده من نفسه؛ إذ جميع المخلوقات تشترك في هذا‏.‏
الوجه الثالث‏: أن يقال‏: على هذا التقدير‏: يكون المعنى‏: أن كل ما سواه ممكن قابل للعدم، ليس وجوده من نفسه، وهذا المعنى ليس هو الذي يقصدونه، وإنما مقصودهم أن كل ما سواه فوجوده منه، وبين المعنيين فرق واضح، فإن الخبر عن الشيء بأنه ممكن قابل العدم، ليس وجوده من نفسه غير الخبر عنه، بأنه موجود وإن وجوده من الله‏.‏

 

ص -29-

الوجه الرابع‏: أن يقال‏: إذا كان المراد أن كل ما سواه ممكن، والضمير عائد إلى واجب الوجود إلى الله الذي خلق الكائنات كان هذا من باب إيضاح الواضح، فإنه من المعلوم أن كل ما سوى واجب الوجود فهو ممكن، وأن كل ما هو مخلوق له فهو ممكن‏.‏
الوجه الخامس‏: أن يقال‏: اسم الوجه في الكتاب والسنة، إنما يذكر في سياق العبادة له والعمل له، والتوجه إليه، فهو مذكور في تقرير ألوهيته، وعبادته وطاعته، لا في تقرير وحدانية كونه خالقًا وربًا، وذلك المعنى هو العلة الغائية، وهذا هو العلة الفاعلية، والعلة الغائية، هي المقصودة التي هي أعلى وأشرف بل هي علة فاعلية للعلة الفاعلية، ولهذا قدمت في مثل قوله‏:
‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏ وفي مثل قوله‏: ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏123‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرضي‏}
‏[‏الليل‏: 19‏: 21‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏: ‏8، 9‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏[‏الأنعام‏: 52‏]‏‏.‏
وإذا كان كذلك، كان حمل اسم الوجه في هذه الآية على ما يدل عليه في سائر الآيات أولى من حمله على ما يدل عليه لفظ الوجه في شيء من الكتاب والسنة، بل هذا هو الواجب دون ذاك؛ لأن هذا استعمال للفظ فيما لم يرد به الكتاب، والكتاب قد ورد بغيره حيث ذكر‏.‏
الوجه السادس‏: أن اسم الهلاك يراد به الفساد، وخروجه عما يقصد به

 

ص -30-

ويراد، وهذا مناسب لما لا يكون لله، فإنه فاسد لا ينتفع به في الحقيقة، بل هو خارج عما يجب قصده وإرادته‏.‏ قال تعالى‏: ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏26‏]‏ أخبر أنهم يهلكون أنفسهم بنهيهم عن الرسول، وننأيهم عنه، معلوم أن من نأى عن اتباع الرسول، ونهي غيره عنه وهو الكافر فإن هلاكه بكفره هو حصول العذاب المكروه له، دون النعيم المقصود‏.‏ وقال تعالى‏: ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏167‏]‏‏.‏ وقال‏:

 

ص -31-

وقال قدس الله روحه‏:
فصل‏:
ثم يقال‏: هذا أيضًا يقتضي أن كلا منهما ليس واجبًا بنفسه غنيًا قيومًا، بل مفتقرًا إلى غيره في ذاته وصفاته، كما كان مفتقرًا إليه في مفعولاته؛ وذلك أنه إذا كان كل منهما مفتقرًا إلى الآخر في مفعولاته، عاجزًا عن الانفراد بها؛ إذ الاشتراك مستلزم لذلك، كما تقدم، فإما أن يكون قابلًا للقدرة على الاستقلال بحيث يمكن ذلك فيه، أولا يمكن‏.‏
والثاني‏: ممتنع؛ لأنه لو امتنع أن يكون الشيء مقدورًا ممكنًا لواحد، لامتنع أن يكون مقدورًا ممكنا لاثنين، فإنَّ حال الشيء في كونه مقدورًا ممكنًا، لا يختلف بتعدد القادر عليه وتوحده‏.‏ فإذا امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لواحد، امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لاثنين‏.‏ وإذا جاز أن يكون مفعولًا مقدورًا عليه لاثنين وهو ممكن، جاز أن يكون أيضا لواحد، وهذا بيِّن إذا كان الإمكان والامتناع لمعنى في الممكن المفعول المقدور عليه إذ صفات ذاته، لا تختلف في الحال‏.‏
وكذلك إذا كان لمعنى في القادر، فإن القدرة القائمة باثنين، لا تمتنع

 

ص -32-

أن تقوم بواحد، بل إمكان ذلك معلوم ببديهة العقل، بل من المعلوم ببديهة العقل أن الصفات بأسرها من القدرة وغيرها، كلما كان محلها متحدًا مجتمعًا، كان أكمل لها من أن يكون متعددًا متفرقا‏.‏
ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في الخلق، بأن يوجب لها من القوة والقدرة مالا يحصل لها إذا تفرقت وانفردت، وإن كانت إحداها باقية، بل الأشخاص والأعضاء وغيرها من الأجسام المتفرقة قد قام بكل منها قدرة، فإذا قدر اتحادها واجتماعها، كانت تلك القدرة أقوى وأكمل؛ لأنه حصل لها من الاتحاد والاجتماع بحسب الإمكان ما لم يكن حين الافتراق والتعداد‏.‏
وهذا يبين أن القدرة القائمة باثنين إذا قدر أن ذينك الاثنين كانا شيئًا واحدًا تكون القدرة أكمل، فكيف لا تكون مساوية للقدرة القائمة بمحلين‏؟‏ وإذا كان من المعلوم أن المحلَّين المتباينين اللذين قام بهما قدرتان، إذا قدر أنهما محل واحد، وأن القدرتين قامتا به لم تنقص القدرة بذلك بل تزيد، علم أن المفعول الممكن المقدور عليه لقادرين منفصلين إذا قدر أنهما بعينهما قادر واحد قد قام به ما قام بهما، لم ينقص بذلك بل يزيد، فعلم أنه يمكن أن يكون كل منهما قابلا للقدرة على الاستقلال، وأن ذلك ممكن فيه‏.‏
فتبين أنه من الممكن في المشتركين على المفعول الواحد أن يكون كل منهما قادرًا عليه، بل من الممكن أن يكونا شيئًا واحدًا قادرًا عليه، فتبين أن كلا منهما يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه، وأن يكون بصفة أخرى‏.‏

 

ص -33-

إذا كان يمكن في كل منهما أن تتغير ذاته، وصفاته‏.‏
ومعلوم أنه هو لا يمكن أن يكمل نفسه وحده، ويغيرها إذ التقدير‏: أنه عاجز عن الانفراد بمفعول منفصل عنه، فأن يكون عاجزًا عن تكميل نفسه وتغييرها أولى‏.‏
وإذا كان هذا يمكن أن يتغير ويكمل، وهو لا يمكنه ذلك بنفسه لم يكن واجب الوجود بنفسه، بل يكون فيه إمكان وافتقار إلى غيره، والتقدير‏: أنه واجب الوجود بنفسه غير واجب الوجود بنفسه فيكون واجبا ممكنا‏.‏
وهذا تناقض؛ إذ ما كان واجب الوجود بنفسه تكون نفسه كافية في حقيقة ذاته وصفاته، لا يكون في شيء من ذاته وصفاته مفتقرًا إلى غيره؛ إذ ذلك كله داخل في مسمى ذاته، بل ويجب ألا يكون مفتقرًا إلى غيره في شيء من أفعاله ومفعولاته‏.‏
فإن أفعاله القائمة به داخلة في مسمى نفسه، وافتقاره إلى غيره في بعض المفعولات يوجب افتقاره في فعله، وصفته القائمة به؛ إذ مفعوله صدر عن ذلك، فلو كانت ذاته كاملة غنية لم تفتقر إلى غيره في فعلها، فافتقاره إلى غيره بوجه من الوجوه دليل عدم غناه، وعلى حاجته إلى الغير، وذلك هو الإمكان المناقض لكونه واجب الوجود بنفسه‏.‏
ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين، والغني عن الغير من خصائص رب العالمين كان الاستقلال بالفعل من خصائص

 

ص -34-

رب العالمين، وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات، وليس فيها ما هو وحده علة قائمة، وليس فيها ما هو مستغنيًا عن الشريك في شيء من المفعولات، بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب، إلا بمشاركة سبب آخر له‏.‏
فيكون وإن سمى علة علة مقتضية سببية، لا علة تامة، ويكون كل منهما شرطا للآخر، كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه من الفعل، فكل ما في المخلوق مما يسمى علة أو سببا، أو قادرًا، أو فاعلا، أو مدبرًا فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد، وقد قال سبحانه‏: ‏
{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏: 49‏]‏ والزوج يراد به النظير المماثل، والضد المخالف، وهو الند‏.‏
فما من مخلوق إلا له شريك، وند‏.‏
والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له، ولا ند، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا، ولا ربا مطلقًا، ونحو ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الاستقلال، والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا وإن نازع بعض الناس في كون العلة تكون ذات أوصاف، وادعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد فإن أكثر الناس خالفوا في ذلك، وقالوا‏: يجوز أن تكون ذات أوصاف، بل قيل‏: لا تكون في المخلوق

 

ص -35-

علة ذات وصف واحد أو ليس في المخلوق ما يكون وحده علة، ولا يكون في المخلوق علة، إلا ما كان مركبًا من أمرين فصاعدًا‏.‏
فليس في المخلوق واحد يصدر عنه شيء، فضلا عن أن يقال‏: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدًا، وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله‏.‏
فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له، والوحدانية مستلزمة للكمال، والكمال مستلزم لها، والاشتراك مستلزم للنقصان، والنقصان مستلزم له‏.‏
وكذلك الوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير، والقيام بنفسه، ووجوبه بنفسه، وهذه الأمور من الغنى، والوجوب بالنفس والقيام بالنفس مستلزمة للوحدانية، والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير، والإمكان بالنفس، وعدم القيام بالنفس‏.‏
وكذلك الفقر والإمكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك، وهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها، وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات، وفقرها وأنها من بدئه، فهى من أدلة إثبات الصانع؛ لأن ما فيها من الافتراق والتعداد، والاشتراك يوجب افتقارها وإمكانها، والممكن المفتقر لابد له من واجب غني بنفسه، وإلا لم يوجد‏.‏
ولو فرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهي بمجموعها ممكنة، والممكن قد علم

 

ص -36-

بالاضطرار أنه يفتقر في وجوده إلى غيره، فكل ما يعلم أنه ممكن فقير، فإنه يعلم أنه فقير أيضا في وجوده إلى غيره، فلابد من غني بنفسه واجب الوجود بنفسه، وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال‏.‏
وهذه المعاني تدل على توحيد الربوبية، وعلى توحيد الإلهية، وهو التوحيد الواجب الكامل، الذي جاء به القرآن، لوجوه‏:
قد ذكرنا منها ما ذكرنا في غير هذا الموضع، مثل أن المتحركات لابد لها من حركة إرادية، ولابد للإرادة من مراد لنفسه، وذلك هو الإله، والمخلوق يمتنع أن يكون مرادًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون فاعلا لنفسه، فإذا امتنع أن يكون فاعلان بأنفسهما امتنع أن يكون مرادان بأنفسهما‏.‏
وأيضًا، فالإله الذي هو المراد لنفسه إن لم يكن ربا امتنع أن يكون معبودًا لنفسه، ومن لا يكون ربا خالقا لا يكون مدعوا مطلوبا منه، مرادًا لغيره، فلأن لا يكون معبودًا مرادًا لنفسه من باب الأولى فإثبات الإلهية يوجب إثبات الربوبية، ونفي الربوبية يوجب نفي الإلهية؛ إذ الإلهية هي الغاية، وهي مستلزمة للبداية كاستلزام العلة الغائية للفاعلىة‏.‏
وكل واحد من وحدانية الربوبية والإلهية وإن كان معلوما بالفطرة الضرورية البديهية، وبالشرعية النبوية الإلهية فهو أيضا معلوم بالأمثال الضرورية، التي هي المقاييس العقلية‏.‏
لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية،

 

ص -37-

 وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله، كنزاع المجوس والثنوية والطبيعية والقدرية، وأمثالهم من ضلال المتفلسفة، والمعتزلة، ومن يدخل فيهم، وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب، الذي دخل من أقرَّ أنه لا خالق إلا الله، ولا رب غيره من أصناف المشركين، كما قال تعالى‏: ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏106‏]‏، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -38-

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله‏:
فصل‏: أصل الإثبات والنفي، والحب والبغض‏
قاعدة قد كتبت ما يتعلق بها في الكراس الذي قبل هذا‏.‏  : هو شعور النفس بالوجود والعدم والملاءمة والمنافرة‏.‏ فإذا شعرت بثبوت ذات شيء، أو صفاته، اعتقدت ثبوته، وصدقت بذلك‏.‏ ثم إن كانت صفات كمال اعتقدت إجلاله وإكرامه صدَّقت ومدحته، وأثنت عليه‏.‏
وإذا شعرت بانتفائه، أو انتفاء صفات الكمال عنه، اعتقدت انتفاء ذلك‏.‏
وإن لم تشعر لا بثبوت، ولا انتفاء، لم تعتقد واحدًا منهما، ولم تصدق ولم تكذب، وربما اعتقدت الانتفاء إذا لم تشعر بالثبوت، وإن لم تشعر أيضا بالعدم‏.‏
وبين الشعور بالعدم، وعدم الشعور بالوجود فرقان بين، وهي منزلة الجهل الذي يؤتي منها أكثر الناس الذين يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه، والذي من جهل شيئا عاداه‏.‏

 

ص -39-

ثم إذا اعتقدت الانتفاء كذبت بالثبوت، وذمته، وطعنت فيه، هذا إذا كان ما استشعرت وجوده أو عدمه محمودًا، وأما إن كان مذمومًا، كان الأمر بالعكس، وكذلك إذا شعرت بما يلائمها أحبته وأرادته، وإن شعرت بما ينافيها أبغضته وكرهته، وإن لم تشعر بواحد منهما، أو شعرت بما ليس بملائم ولا مناف، فلا محبة ولا بغضة، وربما أبغضت ما لم يكن منافيًا إذ لم يكن ملائما‏.‏
وبين الشعور بالمنافي، وعدم الشعور بالملائم، فرق بين، لكن هذا محمود فإن ما لم يلائم الإنسان، فلا فائدة له فيه ولا منفعة، فيكون الميل إليه من باب العبث، والمضرة‏.‏
فينبغي الإعراض عنه؛ لأنه لا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه فالميل إليه مضرة، ثم يتبع الحب للشخص، أو العمل الصلاة عليه، والثناء عليه‏.‏ كما يتبع البغض اللعنة له، والطعن عليه، وما لم يكن محبوبا، ولا مبغضًا، لا يتبعه ثناء ولا دعاء، ولا طعن ولا لعن‏.‏
ولما كان في نفس الأمر وجود محبوب مألوه، كان أصل السعادة الإيمان بذلك، وأصل الإيمان قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو المحبة على سبيل الخضوع، إذ لا ملاءمة لأرواح العباد، أتم من ملاءمة إلهها الذي هو الله الذي لا إله إلا هو‏.‏
ولما كان الإيمان جامعًا لهذين المعنيين، وكان تعبير من عبر عنه بمجرد

 

ص -40-

التصديق ناقصا، قاصرًا، انقسم الأمة إلى ثلاث فرق‏:
فالجامعون، حققوا كلا معنييه، من القول التصديقي، والعمل الإرادي‏.‏ وفريقان فقدوا أحد المعنيين‏:
فالكلاميون، غالب نظرهم وقولهم في الثبوت، والانتفاء والوجود والعدم والقضايا التصديقية، فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر‏.‏
والصوفيون، غالب طلبهم وعملهم في المحبة، والبغضة، والإرادة، والكراهة، والحركات العملية، فغايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة‏.‏
وأما أهل العلم والإيمان، فجامعون بين الأمرين، بين التصديق العلمي، والعمل الحبي‏.‏ ثم إن تصديقهم عن علم، وعملهم وحبهم عن علم، فسلموا من أفتى منحرفة المتكلمة والمتصوفة، وحصلوا ما فات كل واحدة منهما من النقص، فإن كلا من المنحرفين له مفسدتان‏:
إحداهما‏: القول بلا علم إن كان متكلما والعمل بلا علم إن كان متصوفا وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية، المخالفة للكتاب والسنة‏.‏
والثاني‏: فوَّت المتكلم العمل، وفوَّتَ المتصوف القول والكلام‏.‏
وأهل السنة الباطنة والظاهرة كان كلامهم وعملهم باطنا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونا بالآخر‏.‏ وهؤلاء هم المسلمون حقًا،

 

ص -41-

 الباقون على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏.‏
فإن منحرفة أهل الكلام فيهم شبه اليهود، ومنحرفة أهل التصوف فيهم شبه النصارى؛ ولهذا غلب على الأولىن جانب الحروف وما يدل عليه من العلم والاعتقاد، وعلى الأخرىن جانب الأصوات، وما يثيره من الوجد والحركة‏.‏
ومن تمام ذلك أن الله أمر نبيه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن‏.‏
وهذه الطرق الثلاثة هي النافعة في العلم والعمل، وتشبه ما يذكره أهل المنطق من البرهان والخطابة والجدل‏.‏ بقي الشعر والسفسطة التي هي الكذب المموه فنفي الله ذلك بقوله‏: ‏
{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏إلى آخر السورة ‏[‏الشعراء‏: ‏221‏: 224‏]‏، فذكر الأفاكين، وهم المسفسطون، وذكر الشعراء‏.‏
وكذلك أبو بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب لما قال له‏: يا خليفة رسول الله، تألَّف الناس، فأخذ بلحيته وقال‏: يابن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام، علام أتألفهم‏؟‏ أعلى حديث مفترى، أم على شعر مفتعل‏؟‏ فذكرالحديث المفترى، والشعر المفتعل، كما ذكر الله الأفاكين والشعراء، وكان الإفك في القوة الخبرية‏.‏ والشعر في القوة العملية الطلبية، فتلك ضلال وهذه غواية‏.‏

 

ص -42-

ولهذا يقترن أحدهما بالآخر كثيرًا في مثل المليين من الرهبان، وفاسدي الفقراء وغيرهم، ثم لما كان الشعر مستفادًا من الشعور فهو يفيد إشعار النفس بما يحركها، وإن لم يكن صدقًا، بل يورث محبة، أو نفرة أو رغبة أو رهبة، لما فيه من التخييل، وهذا خاصة الشعر فلذلك وصفهم بأنهم يتبعهم الغوون‏.‏
والغيُّ‏: اتباع الشهوات؛ لأنه يحرك الناس حركة الشهوة، والنفرة والفرح، والحزن بلا علم، وهذا هو الغي، بخلاف الإفك، فإن فيه إضلالا في العلم بحيث يوجب اعتقاد الشيء، على خلاف ما هو به‏.‏ وإذا كانت النفس تتحرك تارة عن تصديق وإيمان، وتارة عن شعر‏.‏ والثاني مذموم إلا ما استثنى منه، قال تعالى‏:
‏{‏مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏يس‏: ‏69‏]‏، فالذكر خلاف الشعر، فإنه حق وعلم، يذكره القلب، وذاك شعر يحرك النفس فقط‏.‏
ولهذا غلب على منحرفة المتصوفة، الاعتياض بسماع القصائد والأشعار، عن سماع القرآن والذكر؛ فإنه يعطيهم مجرد حركة حب أو غيره، من غير أن يكون ذلك تابعًا لعلم وتصديق؛ ولهذا يؤثره من يؤثره على سماع القرآن، ويعتل بأن القرآن حق نزل من حق، والنفوس تحب الباطل؛ وذلك لأن القول الصدق والحق يعطي علمًا واعتقادًا بجملة القلب، والنفوس المبطلة لا تحب الحق‏.‏
ولهذا أثره باطل، يتفشى من النفس، فإنه فرع لا أصل له، ولكن له تأثير في النفس من جهة التحريك، والإزعاج والتأثير، لا من جهة التصديق والعلم

 

ص -43-

 والمعرفة؛ ولهذا يسمون القول حاديًا؛ لأنه يحدو النفوس، أي يبعثها، ويسوقها كما يحدو حادي العيس‏.‏
وأما الحكمة والموعظة الحسنة، والجدل الأحسن، فإنه يعطي التصديق والعمل، فهو نافع منفعة عظيمة‏.‏
وإنما قلت‏: إن هذه الثلاثة تشبه من بعض الوجوه الأقيسة الثلاثة، التي هي‏: البرهانية، والخطابية، والجدلية، وليست هي، بل أكمل من وجوه كثيرة لوجوه‏:
أحدها‏: أن التي في القرآن تجمع نوعي العلم، والعمل، والخبر والطلب على أكمل الوجوه، بخلاف الأقيسة المنطقية‏.‏
وذلك أن القياس العقلي المنطقي إنما فائدته مجرد التصديق في القضايا الخبرية، سواء تبع ذلك عمل أو لم يتبعه، فإن كانت مواد القياس يقينية كان برهانًا، سواء كانت مشهورة، أو مسلمة، أو لم تكن، وهو يفيد اليقين، وإن كانت مشهورة، أو مقبولة سمي خطابة، سواء كانت يقينية أو لم تكن، وذلك يفيد الاعتقاد والتصديق الذي هو بين اليقين والظن، ليس أنه يفيد الظن دون اليقين، إذ ليس في كونها مشهورة ما يمنع أن تكون يقينية مفيدة لليقين‏.‏
وفرق بين مالا يجب أن يفيد اليقين، وما يمنع إفادة اليقين‏.‏ فالمشهورة من حيث هي مشهورة تفيد التصديق، والإقناع، والاعتقاد‏.‏ ثم إن عرف أنها

 

ص -44-

يقينية أفادت اليقين أيضا، وإن عرف أنها غير يقينية لم تفد إلا الظن، وإن لم تشعر النفس بواحد منهما بقي اعتقادًا مجردًا، لا يثبت له اليقين، ولا ينفي عنه‏.‏
وأما الحكمة في القرآن، فهي معرفة الحق وقوله والعمل به، كما كتبت تفسيرها في غير هذا الموضع‏.‏
والموعظة الحسنة تجمع التصديق بالخبر والطاعة للأمر؛ ولهذا يجيء الوعظ في القرآن مرادًا به الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله‏: ‏
{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏66‏]‏، وقوله‏: ‏{‏يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏17‏]‏، وقوله‏: ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً َ‏} ‏[‏البقرة‏: ‏66‏]‏، أي‏: يتعظون بها فينتبهون، وينزجرون‏.‏
وكذلك الجدل الأحسن، يجمع الجدل للتصديق، وللطاعة‏.‏
الوجه الثاني‏: ويمكن أن يقسم هذا إلى وجه آخر بأن يقال‏: الناس ثلاثة أقسام‏: إما أن يعترف بالحق ويتبعه، فهذا صاحب الحكمة، وإما أن يعترف به، لكن لا يعمل به، فهذا يوعظ حتى يعمل، وإما ألا يعترف به، فهذا يجادل بالتي هي أحسن؛ لأن الجدال في مظنة الإغضاب، فإذا كان بالتي هي أحسن‏: حصلت منفعته بغاية الإمكان، كدفع الصائل‏.‏
الوجه الثالث‏: أن كلام الله لا يشتمل إلا على حق يقين، لا يشتمل على ما تمتاز به الخطابة والجدل عن البرهان، بكون المقدمة مشهورة، أو مسلمة غير

 

ص -45-

يقينية، بل إذا ضرب الله مثلا مشتملا على مقدمة مشهورة، أو مسلمة، فلابد وأن تكون يقينية‏.‏ فأما الاكتفاء بمجرد تسليم المنازع من غير أن تكون المقدمة صادقة، أو بمجرد كونها مشهورة، وإن لم تكن صادقة، فمثل هذه المقدمة لا يشتمل عليها كلام الله، الذي كله حق وصدق، وهو أصدق الكلام، وأحسن الحديث‏.‏
فصاحب الحكمة يدعى بالمقدمات الصادقة، سواء كانت مشهورة أو مسلمة أو لم تكن؛ لما فيه من أدرك الدق، واتباع الحق‏.‏
وصاحب الموعظة يدعي من المقدمات الصادقة بالمشهورة؛ لأنه قد لا يفهم الخفية من الحق، ولا ينازع في المشهورة‏.‏   
 وصاحب الجدل يدعى بما يسلمه من المقدمات الصادقة، مشهورة كانت أو لم تكن؛ إذ قد لا ينقاد إلى ما لا يسلمه، سواء كان جليًا أو خفيًا، وينقاد لما يسلمه، سواء كان جليًا أو خفيًا، فهذا هذا‏.‏
وليس الأمر كما يتوهمه الجهال الضلال من الكفار المتفلسفة، وبعض المتكلمة، من كون القرآن جاء بالطريقة الخطابية، وعري عن البرهانية، أو اشتمل على قليل منها بل جميع ما اشتمل عليه القرآن هو الطريقة البرهانية، وتكون تارة خطابية، وتارة جدلية مع كونها برهانية‏.‏
والأقيسة العقلية التي اشتمل عليها القرآن هي الغاية في دعوة الخلق إلى الله، كما قال‏:
‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏89‏]‏، في أول سبحان وآخرها، وسورة الكهف، والمثل هو القياس؛ ولهذا اشتمل القرآن

 

ص -46-

على خلاصة الطرق الصحيحة، التي توجد في كلام جميع العقلاء من المتكلمة، والمتفلسفة، وغيرهم‏.‏ ونزه الله عما يوجد في كلامهم من الطرق الفاسدة، ويوجد فيه من الطرق الصحيحة ما لا يوجد في كلام البشر بحال‏.‏
الوجه الرابع‏: أن هنا نكتة ينبغي التفطن لها، فإنها نافعة، وذلك أن المقدمة المذكورة في القياس الذي هو مثل لها وصف ذاتي، ووصف إضافي‏:
فالوصف الذاتي لها‏: أن تكون مطابقة، فتكون صدقا، أو لا تكون مطابقة فتكون كذبا، وجميع المقدمات المذكورة في أمثال القرآن هي صدق، والحمد لله رب العالمين‏.‏
وأما الوصف الإضافي‏: فكونها معلومة عند زيد، أو مظنونة، أو مسلمة أو غير مسلمة، فهذا أمر لا ينضبط‏.‏ فرب مقدمة هي يقينية عند شخص قد علمها وهي مجهولة، فضلا عن أن تكون مظنونة عند من لم يعلمها، فكون المقدمة يقينية، أو غير يقينية، أو مشهورة، أو غير مشهورة، أو مسلمة أو غير مسلمة أمور نسبية وإضافية لها، تعرض بحسب شعور الإنسان بها‏.‏
ولهذا تنقلب المظنونة، بل المجهولة في حقه يقينية معلومة، والممنوعة مسلمة، بل والمسلمة ممنوعة‏.‏ والقرآن كلام الله الذي أنذر به جميع الخلق، لم يخاطب به واحدًا بعينه حتى يخاطب بما هو عنده يقيني من المقدمات، أو مشهور، أو مسلم‏.‏
فمقدمات الأمثال فيه اعتبر فيها الصفة الذاتية وهي كونها صدقا، وحقا

 

ص -47-

يجب قبوله، وأما جهة التصديق فتتعدد وتتنوع؛ إذ قد يكون لهذا من طرق التصديق بتلك المقدمة ما ليس لعمرو، مثل أن يكون هذا يعلمها بالإحساس والروية، وهذا يعلمها بالسماع والتواتر كآيات الرسول وقصة أهل الفيل، وغير ذلك‏.‏
فما كان جهة تصديقه عاما للناس، أمكن ذكره جهة التصديق به، كآيات الربوبية المعلومة بالإحساس دائمًا، وما كان جهة تصديقه متنوعًا، أحيل كل قوم على الطريق التي يصدقون بها‏.‏
وقد يقال في مثل هذا‏: ‏
{‏ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏125‏]‏، فإن مخاطبة المعين قد يعلم بها ما هو عنده يقيني أو مشهور من اليقين، أو مسلم منه‏.‏
وبهذا يتبين لك أن تقسيم المنطقيين لمقدمات القياس إلى المستيقن والمشهور والمسلم، ليس ذلك وصفا لازما للقضية، بل هو بحسب ما اتفق للمصدق بها، وربما انقلب الأمر عنده، ويظهر لك من هذا أن ما يشهدون عليه أنه ليس بيقيني، أو ليس مشهورًا، وليس بمسلم، ليست الشهادة صحيحة؛ إذ سلب ذلك إنما يصح في حق قوم معينين، لا في حق جميع البشر‏.‏
وكذلك الشهادة عليه بأنه يقيني، أو مشهور، أو مسلم، إنما هو في حق من ثبت له هذا الوصف‏.‏
وأيضا، القياس حق ثابت لا يتبدل، وما يقوله هؤلاء يتغير ويتبدل 

 

ص -48-

ولا يستمر، اللهم إلا في الأمور التي قضت سنة الله باشتراك الناس فيها، من الحسابيات، والطبيعيات‏.‏
وهذان الفنان ليسا مقصود الدعوة النبوية، ولا معرفتهما شرطًا في السعادة، ولا محصلًا لها، وإنما المقصود الفن الإلهي‏.‏ ومقدمات القياس فيه هي من القسم الأول، الذي تختلف فيه أحكام المقدمات، بالنسب، والإضافة‏.‏ فتدبر هذا فإنه خالص نافع عظيم القدر‏.‏
يوضح هذا الفصل أن القرآن وإن كان كلام الله فإن الله أضافه إلى الرسول، المبلغ له من الملك، والبشر، فأضافه إلى الملك في قوله‏: ‏
{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: 12‏: 21‏]‏، فهذا جبرائيل‏.‏ فإن هذه صفاته، لا صفات محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏: ‏‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: ‏22‏]‏، أضافه إلينا، امتنانا علىنا بأنه صاحبنا، كما قال‏: ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏: ‏1، 2‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: 23، 24‏]‏ فهو محمد، أي‏: بمتهم، وعلى القراءة الأخرى‏: ببخيل‏.‏ وزعم بعض المتفلسفة أنه جبرائيل أيضا، وهو العقل الفاعل الفائض، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، فإن صفات جبرائيل تقدمت، وإنما هذا وصف محمد، ثم قال‏: ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: ‏25‏]‏ لما أثبت أنه قول

 

ص -49-

 الملك، نفي أن يكون قول الشيطان‏.‏ كما قال في الشعراء‏: ‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ إلى قوله‏: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 221‏: 223‏]‏‏.‏
وأضافه إلى الرسول البشري في قوله‏:
‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏: 38‏: 43‏]‏ فنفي عنه أن يكون قول شاعر، أو كاهن، وهما من البشر‏.‏ كما ذكر في آخرالشعراء‏: أن الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم؛ كالكهنة، الذين يلقون إليهم السمع، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون‏.‏
فهذان الصنفان اللذان قد يشتبهان بالرسول من البشر، لما نفاهما علم أن الرسول الكريم هو المصطفي من البشر، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس، كما أنه في سورة التكوير لما كان الشيطان قد يشبه بالملك فنفي أن يكون قول شيطان رجيم علم أن الرسول المذكور هو المصطفي من الملائكة‏.‏
وفي إضافته إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا تارة، دليل على أنه إضافة بلاغ وأداء، لا إضافة إحداث لشيء منه أو إنشاء، كما يقوله بعض المبتدعة الأشعرية، من أن حروفه ابتداء جبرائيل، أو محمد، مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال‏: إنه قول البشر، من مشركي العرب، ممن يزعم أنه أنشأه

 

ص -50-

 بفضله، وقوة نفسه، ومن المتفلسفة الذين يزعمون أن المعاني والحروف تأليفه، لكنها فاضت عليه، كما يفيض العلم على غيره من العلماء‏.‏
فالكاهن مستمد من الشياطين
‏{‏وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏‏[‏الشعراء‏: ‏224‏]‏ وكلاهما في لفظه وزن‏.‏ هذا سجع وهذا نظم، وكلاهما له معان من وحي الشياطين‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفثه، ونفخه‏"‏‏.‏ وقال‏: ‏"‏همزه الموتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر‏"‏ وقوله تعالى‏: ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: ‏25‏]‏‏: ينفي الأمرين، كما أنه في السورة الأخرى قال‏: ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ‏. ‏وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏: 41، 42‏]‏ وكذلك قال في الشعراء‏: ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏210‏]‏ مطلقا‏.‏
ثم ذكر علامة من تنزل عليه الشياطين‏: بأنه أفاك أثيم، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون‏.‏ فظاهر القرآن ليس فيه أن الشعراء تتنزل عليهم الشياطين، إلا إذا كان أحدهم كذابا أثيما، فالكذاب‏: في قوله، وخبره‏.‏ والأثيم‏: في فعله وأمره‏.‏
وذاك والله أعلم لأن الشعر يكون من الشيطان تارة، ويكون من النفس أخرى‏.‏ كما أنه إذا كان حقًا يكون من روح القدس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا لحسان بن ثابت‏:
‏"‏اللهم أيده بروح القدس‏"‏‏.‏ وقال‏: ‏"‏اهجهم أو هاجهم وجبرائيل معك‏"‏ فلما نفي قِسمَ الشيطانِ نفي قسم النفس، ولهذا قال‏: ‏{‏يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏224‏]‏ والغي اتباع الشهوات، التي هي هوى النفوس‏.‏

 

ص -51-

ولهذا قال أبو حيان ما كان من نفسك فأحبته نفسك لنفسك، فهو من نفسك فانهها
عنه، وما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك، فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه، فهذا والله أعلم لأن الكلام نوعان‏: خبر، وإنشاء‏.‏
والكاهن يخبر بالغيوب، مخلطًا فيه الصدق بالكذب، لا يأتون بالحق محضًا، وإذا ألقى الشيطان في أمنية أحدهم شيئا في القلب، لم ينسخ منه بل أكثرهم كاذبون‏.‏ كما قال تعالى، وكما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الكهان لما قال‏: ‏"‏إنهم يزيدون في الكلمة مائة كذبة‏"‏ بخلاف الرسول، والنبي، والمحدَّثِ، كما في قراءة ابن عباس وغيره‏: ‏"‏فإن الله ينسخ ما يلقى الشيطان‏"‏‏.‏
والقراءة العامة ليس فيها المحدَّث؛ إذ يجوز أن يقر على بعض الخطأ، ويدخل الشيطان في أمنيته بعض ما يلقيه فلا ينسخ، بخلاف الرسول والنبي، فإنه لابد من نسخ ما يلقي الشيطان، وأن يحكم الله آياته؛ لأنه حق، والمحدَّث مأمور بأن يعرض ما يحدَّثه على ما جاء به الرسول‏.‏
ولهذا ألقى الشيطان لعمر وهو محدَّث، في قصة الحديبية، وقصة موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة اختلافه وحكيم بن حزام في سورة الفرقان، فأزاله عنه نور النبوة‏.‏

 

ص -52-

وأما الشاعر فشأنه التحريك للنفوس، فهو من باب الأمر الخاص المرغب؛ فلهذا قيل فيهم‏: ‏{‏يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 224‏]‏، فضررهم في الأعمال لا في الاعتقادات، وأولئك ضررهم في الاعتقادات ويتبعها الأعمال؛ ولهذا قال‏: ‏‏{‏أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏: 7‏]‏
ومعنى الكهانة والشعر‏: موجود في كثير من المتفلسفة، والمتصوفة، والمتكلمة، والمتفقهة، والعامة، والمتفقرة، الخارجين عن الشريعة الذين يتكلمون بالغيوب عن كهانة، ويحركون النفوس بالشعر ونحوه وهم من أتباع المتنبئين الكذابين لهم مادة من الشياطين‏.‏ كما قد رأيناه كثيرًا في أنواع من هذه الطوائف وغيرها، لمن نور الله صدره، وقف في قلبه من نوره‏.

 

ص -53-

وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:
فصل
ثم إن المنحرفين المشابهين للصابئة‏: إما مجردة، وإما منحرفة إلى يهودية أو نصرانية، من أهل المنطق والقياس، الطالبين للعلم والكلام، ومن أهل العمل والوجد، الطالبين للمعرفة، والحال، أهل الحروف، وأهل الأصوات سلكوا في أصل العلم الإلهي طريقين‏: كل منهم سلك طريقا‏.‏ وقد يسلك بعضهم هذا في وقت، وهذا في وقت، وربما جمع بعضهم بين الطريقين‏.‏
وأكثرهم لا يعلمون أن الله إليه طريق إلا أحد هذين، كما يذكره جماعات‏: ‏مثل ابن الخطيب، ومن نحا نحوه، بل مثل أبي حامد، لما حصر الطرق في الكلام، والفلسفة، الذي هو النظر، والقياس، أو في التصوف والعبادة، الذي هو العمل والوجد، ولم يذكر غير هؤلاء الأصناف الثلاثة‏.‏ بل أبو حامد لما ذكر في المنقذ من الضلال، والمفصح بالأحوال، أحواله في طرق العلم، وأحوال العالم، وذكر أن أول ما عرض له ما يعترض طريقهم- وهو السفسطة بشبهها المعروفة- وذكر أنه أعضل به هذا الداء قريباً من شهرين، هو فيهما على مذهب السفسطة، بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى

وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:
فصل ثم إن المنحرفين المشابهين للصابئة‏
: إما مجردة، وإما منحرفة إلى يهودية أو نصرانية، من أهل المنطق والقياس، الطالبين للعلم والكلام، ومن أهل العمل والوجد، الطالبين للمعرفة، والحال، أهل الحروف، وأهل الأصوات سلكوا في أصل العلم الإلهي طريقين‏: كل منهم سلك طريقا‏.‏ وقد يسلك بعضهم هذا في وقت، وهذا في وقت، وربما جمع بعضهم بين الطريقين‏.‏
وأكثرهم لا يعلمون أن الله إليه طريق إلا أحد هذين، كما يذكره جماعات‏: ‏مثل ابن الخطيب، ومن نحا نحوه، بل مثل أبي حامد، لما حصر الطرق في الكلام، والفلسفة، الذي هو النظر، والقياس، أو في التصوف والعبادة، الذي هو العمل والوجد، ولم يذكر غير هؤلاء الأصناف الثلاثة‏.‏ بل أبو حامد لما ذكر في المنقذ من الضلال، والمفصح بالأحوال، أحواله في طرق العلم، وأحوال العالم، وذكر أن أول ما عرض له ما يعترض طريقهم- وهو السفسطة بشبهها المعروفة- وذكر أنه أعضل به هذا الداء قريباً من شهرين، هو فيهما على مذهب السفسطة، بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى

 

ص -54-

الله عنه ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها، على أمن وتبين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكبر المعارف قال‏: فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة‏.‏ ثم قال‏: انحصرت طرق الطالبين عندي في أربع فرق‏:
المتكلمون‏: وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر‏.‏
والباطنية‏: وهم يدعون أنهم أصحاب التعلم، والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم‏.‏
والفلاسفة‏: وهم يدعون أنهم أصحاب المنطق والبرهان‏.‏
والصوفية‏: ويدعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المكاشفة، والمشاهدة‏.‏
فقلت في نفسي‏: الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم السالكون سبل طريق الحق، فإن سد الحق عنهم فلا يبقي في درك الحق مطمع‏.‏ ثم ذكر أن مقصود الكلام وفائدته‏: الذب عن السنة بالجدل، لا تحقيق الحقائق، وأن ما عليه الباطنية باطل، وأن الفلسفة بعضها حق، وبعضها كفر، والحق منها لا يفي بالمقصود‏.‏
ثم ذكر أنه أقبل بهمته على طريق الصوفية، وعلم أنها لا تحصل إلا بعلم

 

ص -55-

وعمل، فابتدأ بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد، حتى طلع على كنه مقاصدهم العلمية‏.‏
ثم إنه علم يقينا أنهم أصحاب أحوال، لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصله، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالتعلم والسماع، بل بالذوق والسلوك‏.‏
قال‏: وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها،والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية، والعقلية إيمان يقيني بالله، وبالنبوة وباليوم الآخر‏.‏
وهذه الأصول الثلاثة - من الإيمان - كانت قد رسخت في نفسي بالله لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجارب، لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى‏.‏ وذكر أنه تخلى عشر سنين‏.‏ إلى أن قال‏: انكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به‏: أني علمت يقينا، أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم، وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا‏.‏

 

ص -56-

 فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من مشكاة نور النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به‏.‏
وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريق طهارتها‏؟‏ وهي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب بذكر الله‏.‏
قلت‏: يستفاد من كلامه أن أساس الطريق‏: هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما قررته غير مرة‏.‏ وهذا أول الإسلام، الذي جعله هو النهاية، وبينت الفرق بين طريق الأنبياء، وطريق الفلاسفة والمتكلمين، لكن هو لم يعرف طريقة أهل السنة والحديث، من العارفين، فلهذا لم يذكرها، وهي الطريقة المحمدية المحضة، الشاهدة على جميع الطرق‏.‏
والسهروردي الحلبي، المقتول، سلك النظر والتأله جميعا، لكن هذا صابئي محض، فيلسوف لا يأخذ من النبوة إلا ما وافق فلسفته، بخلاف ذينك وأمثالهما‏.‏
ثم منهم من لا يعرف إلا طريقة النظر والقياس ابتداء، كجمهور المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، والأشعرية، وبعض الحنبلية‏.‏
ومنهم من لا يعرف ابتداء إلا طريقة الرياضة، والتجرد والتصوف، ككثير من الصوفية والفقراء الذين وقعوا في الاتحاد، والتأله المطلق، مثل‏: عبد الله الفارسي، والعفيف التلمساني ونحوهما‏.‏ ومنهم من قد يجمع كالصدر القوْنَوِي ونحوه‏.‏

 

ص -57-

والغالب عليهم عالم التوهم‏.‏ فتارة يتوهمون ما له حقيقة، وتارة يتوهمون ما لا حقيقة له، كتوهم إلهية البشر، وتوهم النصاري، وتوهم المنتظر، وتوهم الغوث المقيم بمكة أنه بواسطته يدبر أمر السماء والأرض، ولهذا يقول التلمساني‏: ثبت عندنا بطريق الكشف ما يناقض صريح العقل‏.‏
ولهذا أصيب صاحب الخلوة بثلاث توهمات‏:
أحدها‏: أن يعتقد في نفسه أنه أكمل الناس استعداداً‏.‏
والثاني‏: أن يتوهم في شيخه أنه أكمل من على وجه الأرض‏.‏
والثالث‏: أنه يتوهم أنه يصل إلى مطلوبه بدون سبب، وأكثر اعتماده على القوة الوهمية، فقد تعمل الأوهام أعمالا لكنها باطلة، كالمشيخة الذين لم يسلكوا الطرق الشرعية النبوية، نظراً أو عملاً، بل سلكوا الصابئية‏.‏
ويشبه هؤلاء من بعض الوجوه‏: أكثر الأحمدية، واليونسية، والحريرية، وكثير من العدوية، وأصحاب الأوحد الكرماني، وخلق كثير من المتصوفة والمتفقرة بأرض المشرق؛ ولهذا تغلب عليهم الإباحة، فلا يؤمنون بواجبات الشريعة ومحرماتها‏.‏ وهم إذا تألهوا في تألهٍ مطلقٍ، لا يعرفون من هو إلههم بالمعرفة القلبية، وإن حققه عارفوهم الزنادقة، جعلوه الوجود المطلق‏.‏
ومنهم من يتأله الصالحين من البشر، وقبورهم ونحو ذلك‏.‏
فتارة يضاهئون المشركين، وتارة يضاهئون النصارى، وتارة يضاهئون

 

ص -58-

الصابئين، وتارة يضاهئون المعطلة الفرعونية، ونحوهم من الدهرية، وهم من الصابئين، لكن كفار في الأصل‏.‏ والخالص منهم يعبد الله وحده، لكن أكثر ما يعبده بغير الشريعة القرآنية المحمدية، فهم منحرفون، إما عن شهادة أن لا إله إلا الله، وإما عن شهادة أن محمداً رسول الله، وقد كتبته في غير هذا‏.‏
وكل واحد من طريقي النظر والتجرد طريق فيه منفعة عظيمة، وفائدة جسيمة، بل كل منهما واجب لابد منه، ولا تتم السعادة إلا به، والقرآن كله يدعو إلى النظر والاعتبار والتفكر، وإلى التزكية والزهد والعبادة‏.‏
وقد ذكر القرآن صلاح القوة النظرية العلمية، والقوة الإرادية العملية في غير موضع، كقوله‏:
‏‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏33‏]‏، فالهدى كمال العلم، ودين الحق كمال العمل، كقوله‏: ‏‏{‏أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏: ‏45‏]‏،وقوله‏: ‏‏{‏كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ِِِِ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏: ‏22‏]‏ وقوله‏: ‏‏{‏آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏‏[‏التين‏: ‏6‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏: ‏10‏]‏، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدى محمد‏"‏، لكن النظر النافع أن يكون في دليل، فإن النظر في غير دليل لا يفيد العلم بالمدلول عليه، والدليل هو الموصل إلى المطلوب، والمرشد إلى المقصود، والدليل التام هو الرسالة، والصنائع‏.‏
وكذلك العبادة التامة فعل ما أمر به العبد وما جاءت به الرسل، وقد وقع

 

ص -59-

الخطأ في الطريقين، من حيث‏: أخذ كل منهما أو مجموعهما، مجرداً في الابتداء عن الإيمان بالله، وبرسول‏.‏‏.‏
بل اقتصر فيهما على مجرد ما يحصله نظر القلب، وذوقه الموافق لما جاءت به الرسل تارة، والمخالف لما جاءت به أخرى، في مجرد النظر العقلي، ومجرد العبادات العقلية، أو الصعود عن ذلك إلى النظر الملي، والعبادات الملية، والواجب أنه لابد في كل واحد من النظر والعمل، من أن يوجد فيه العقلي، والملي، والشرعي، فلما قصروا وقع كل من الفريقين، إما في الضلال، وإما في الغواية، وإما فيهما‏.‏
وحاصلهم‏: إما الجهل البسيط، أو الكفر البسيط، أو الجهل المركب، أو الكفر المركب، مع الجهل والظلم‏.‏
وذلك أن طريقة أهل النظر والقياس‏: مدارها على مقدمة لابد منها في كل قياس يسلكه الآدميون، وهي مقدمة كلية جامعة، تتناول المطلوب، وتتناول غيره، بمعنى أنها لا تمنع غيره من الدخول، وإن لم يكن له وجود في الخارج، فهي لا تتناول المطلوب لخاصيته، بل بالقدر المشترك بينه وبين غيره، والمطلوب بها هو الله تعالى فلم يصلوا إليه إلا بجامع ما يشترك فيه هو وغيره، من القضايا الإيجابية، والسلبية‏.‏
والمشترك بينه وبين غيره لا يعرف بخصوصه أصلا، فلم يعرفوا الله،

 

ص -60-

بل لما اعتقدوا فيه القدر المشترك صاروا مشركين به، وحكموا على القدر المشترك بأحكام سلبية، أو إيجابية، فإنها تصح في الجملة ؛ لأن ما انتفى عن المعنى العام المشترك انتفى عن الخاص المميز، وليس ما انتفى عن الخاص المميز انتفى عن العام، فما نفيته عن الحيوان أو عن النبي، انتفى عن الإنسان والرسول‏.‏ وليس ما نفيته عن الإنسان أو الرسول انتفى عن الحيوان أو النبي‏.‏
ولهذا كان قوله‏: ‏‏"‏لا نبي بعدي‏"‏ ينفي الرسول،وكذلك ما ثبت للمعنى المشترك بصفة العموم ثبت للخاص، وما ثبت له بصفة الإطلاق لم يجب أن يثبت للخاص، فإذا ثبت حكم لكل نبي دخل فيه الرسول‏.‏ وأما إذا ثبت للنبي مطلقًا لم يجب أن يثبت للرسول، وقد تتألف من مجموع القضايا السلبية والإيجابية أمور لا تصدق إلا عليه، ولا يصح أن يوصف بها غيره، كما إذا وصف نبي بمجموع صفات، لا توجد في غيره‏.‏
لكن هذا القدر يعرف انتفاء غيره أن يكون إياه، وأما عينه فلا يعرف بمجموع تلك القضايا الكلية، فلا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب، والعدم، إذا كان القياس صحيحا‏.‏
ولهذا جاءت الأمثال المضروبة في القرآن وهي المقاييس العقلية دالة على النفي في مثل قوله‏: ‏‏
{‏ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏: ‏28‏]‏، ومثل قوله‏: ‏‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ‏}‏الآيات ‏[‏النحل‏: ‏76‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏الآية ‏[‏الحج‏: ‏73‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونََ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏: ‏42‏]‏،

 

ص -61-

وقوله‏: ‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏: ‏91‏]‏، وأمثال ذلك من الأمثال وهي القياسات التي مضمونها نفي الملزوم لانتفاء لازمه، أو نحو ذلك‏.‏
ولهذا كان الغالب على أهل القياس، من أهل الفلسفة، و الكلام، في جانب الربوبية إنما هي المعارف السلبية‏.‏ ثم لم يقتصروا على مقدار ما يعلمه العقل من القياس، بل تعدوا ذلك، فنفوا أشياء مشبهة القياس الفاسد، مثل نفي الصفات النبوية، الخبرية، بل ونفى الفلاسفة والمعتزلة للصفات التي يثبتها متكلمو أهل الإثبات، ويسمونها الصفات العقلية؛ لإثباتهم إياها بالقياس العقلي‏.‏
ومعلوم أن العقل لا ينفي بالقياس إلا القدر المشترك، الذي هو مدلول القضية الكلية التي لابد منها في القياس، مثل أن ينفي الإرادة أو الرحمة أو العلم المشترك بين مسميات هذا الاسم، والقدر المشترك في المخلوقين تلحقه صفات لا تثبت لله تعالى، فينفون المعنى المشترك المطلق، على صفات الحق وصفات الخلق تبعاً لانتفاء ما يختص به الخلق فيعطلون، كما أن أهل التمثيل يثبتون ما يختص به الخلق تبعاً للقدر المشترك وكلاهما قياس خطأ‏.‏
ففي هذه الصفات، بل وفي الذوات ثلاث اعتبارات‏:
أحدها‏: ما تختص به ذات الرب وصفاته‏.‏
والثاني‏: ما يختص به المخلوق وصفاته‏.‏

 

ص -62-

والثالث‏: المعنى المطلق الجامع‏.‏
فاستعمال القياس الجامع في نفي الأول خطأ، وكذلك استعماله في إثبات الثاني‏.‏ وأما استعماله في إثبات الثالث، فيحتاج إلى إدراك العقل لثبوت المعنى الجامع الكلي، وهذا أصل القياس والدليل، فإن لم يعرف العقل بنفسه - أو بواسطة قياس آخر- ثبوت هذا، وإلا لم يستقم القياس‏.‏
وكذلك في معارفهم الثبوتية لا يأتون إلا بمعانٍ مطلقة مجملة‏.‏ مثل ثبوت الوجود، ووجوب الوجود، أو كونه رباً أو صانعاً أو أوَّلاً، أو مبدأ أو قديما، ونحو ذلك من المعاني الكلية، التي لا يعلم بها خصوص الرب تعالى، إذ القياس لا يدل على الخصوص، فإنه إذا استدل بأن كل ممكن فلابد له من موجب وبأن كل محدَث فلابد له من محدِث، كان مدلول هذا القياس أمراً عاماً، وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع‏.‏
وكذلك أصحاب الرياضة والتجرد، فإن صفوتهم الذين يشتغلون بذكر بسيط مثل لا إله إلا الله إن لم يغلوا فيقتصروا على مجرد ‏[‏الله، الله‏]‏ ويعتقدون أن ذلك أفضل وأكمل، كما فعله كثير منهم، وربما اقتصر بعضهم على ‏[‏هُوْ، هُوْ‏]‏ أو على قوله‏: ‏‏[‏لا هو إلا هو‏]‏ ؛ لأن هذا الذكر المبتدع الذي هو لا يفيد بنفسه إلا أنه مطلقاً، ليس فيه بنفسه ذكر لله إلا بقصد المتكلم‏.‏
فقد ينضم إلى ذلك اعتقاد صاحبه أنه لا وجود إلا هو، كما يصرح به بعضهم ويقول‏: لا هو إلا هو، أو لا موجود إلا هو، وهذا عند الاتحادية

 

ص -63-

أجود من قول‏: ‏[‏لاإله إلا الله‏]‏؛ لأنه مصرح بحقيقة مذهبهم الفرعوني القرمطي، حتى يقول بعضهم‏: ‏[‏لا إله إلا الله‏]‏ ذكر العابدين، و‏[‏الله، الله‏]‏ ذكر العارفين، و ‏[‏هو‏]‏ ذكر المحققين، ويجعل ذكره ‏[‏يا من لا هو إلا هو‏]‏، وإذا قال‏: الله، الله إنما يفيد مجرد ثبوته، فقد ينضم إلى ذلك نفي غيره لا نفي إلهية غيره، فيقع صاحبه في وحدة الوجود وربما انتفى شهود القلب للسوي إذا كان في مقام الفناء فهذا قريب، أما اعتقاد أن وجود الكائنات هي هو، فهذا هو الضلال‏.‏
ويضمون إلى ذلك نوعا من التصفية، مثل ترك الشهوات البدنية من الطعام والشراب والرياسة والخلوة، وغير ذلك من أنواع الزهادة المطلقة، والعبادة المطلقة، فيصلون أيضا إلى تأله مطلق، ومعرفة مطلقة بثبوت الرب ووجوده ونحو ذلك، من نحو ما يصل إليه أرباب القياس‏.‏
ثم قد تتوارى هذه المعرفة والعلم بملابسة الأمور الطبيعية، من الطعام، والاجتماع بالناس، فإن سببها إنما هو ذلك التجرد، فإذا زال زال، ولهذا قيل‏: ‏كل حال أعطاكه الجوع فإنه يذهب بالشبع، كما قد تتوارى معرفة الأولى المطلقة بغفلة القلب عن تلك المقاييس النظرية، ولا ريب أن القياس يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه، وأن الرياضة والتأله يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه، لكن معرفة مطلقة بسبب قد يثبت وقد يزول، وكثيراً ما يفضي إلى الاتحاد والحلول والإباحة، وذلك لأنهم يجردون التأله عما لابد منه من صالح البشر، فإذا احتاجوا إليها أعرضوا عن التأله‏.‏
فهم إما آلهة عند نفوسهم، وإما زنادقة أو فساق، ولهذا حدثني الشيخ

 

ص -64-

الصالح يوسف من أصحابنا أنه رآني في المنام وأنا أخاطبهم
والمعرفة الحاصلة بذلك هي المعرفة التي تصلح حال العبد وتجب عليه،لكن قد يحصل مع صدق الطلب بواسطة القياس، أو بواسطة الوجد وصول إلى الرسالة فيتلقى حينئذ من الرسالة ما يصلح حاله،ويعرفه المعرفة التامة والعلم النافع الواجب عليه وهي الطريق الشرعية النبوية التي ذكرناها أولا وقد لا يحصل ذلك فيقع كثير منهم في الاستغناء عن النبوة، اعتقادا أو حالا بالإعراض عما جاءت به، فيفوته من الإيمان والعلم والمعرفة التي جاء بها الرسول ما يضل بفواته في الدنيا عن الهدى، ويشقى به الشقاء الأكبر، كحال الكافرين بالرسول وإن آمنوا بوجود الرب، من اليهود والنصارى والصابئين، فإن في المسلمين من ينافق في الرسول، كما كفر هؤلاء به ظاهراً، وهذا النفاق كثير جداً، قديما وحديثا‏.‏
وقد تنعقد في قلبه مقاييس فاسدة، ومواجيد فاسدة، يحكم بمقتضاها في الربوبية أحكاماً فاسدة مثل‏: أحكام المنحرفة إلى صابئية، أو يهودية أو نصرانية، من الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة، الذين انحرفوا إما إلى تعطيل للصفات وتكذيب بها، وإما إلى تمثيل لها وتشبيه، وإما إلى اعتقاد أن الرب هو الوجود المطلق الذي لا يتميز، وأن عين

 

ص -65-

الوجود هو عين الخالق،وأنه ليس وراء السموات والأرض شيء آخر، وإنما هذه الأشياء كلها مراتب للصفات، وأن الربوبية والإلهية مراتب ذهنية شكوكية‏.‏ وأما في الحقيقة‏: فليس إلا عين ذاته، فالمحجوبون يرون المراتب والمكاشف ما ترى إلا عين الحق‏.‏
ويحسبون ويحسب كثير بسببهم أن هذا التوحيد هو توحيد الصديقين، الذين عرفوا الله، وقالوا‏:
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل.
كما يحسب المتكلم الزائغ أن توحيده - الذي هو نفي الصفات - هو توحيد الأنبياء، والصديقين، الذين عرفوا الله ؛ ولهذا يقع في هؤلاء الشركُ كثيرا، حتى يسجد بعضهم لبعض، كما يقع في القسم الآخر تحريم الحلال من العقود، والعبادات المباحة‏.‏
فاقتسم الفريقان‏: ما ذم الله به المشركين، من الشرك، وتحريم الحلال‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا يوجد كثيراً في هؤلاء المشبهة للنصارى‏.‏ وظهر في الآخرين من الآصار، والأغلال، وجحود الحق، وقسوة القلوب ما يوجد كثيرا في هؤلاء المشبهة لليهود‏.‏
هذا في غير الغالية منهم، وأما الغالية من الصنفين، فعندهم أن معرفتهم وحالهم فوق معرفة الأنبياء وحالهم‏.‏ كما يقول التلمساني‏: القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله‏.‏

 

ص -66-

وكما يزعم الفارابي‏: أن الفيلسوف أكمل من النبي،وإنما خاصة النبي جودة التخييل للحقائق، إلي أنواع من الزندقة والكفر، يلتحقون فيها بالإسماعيلية، والنصيرية، والقرامطة، والباطنية، ويتبعون فرعون، والنمروذ وأمثالهما من الكافرين بالنبوات، أو النبوة والربوبية‏.‏
وهذا كثير جداً في هؤلاء وهؤلاء، وسبب ذلك عدم أصل في قلوبهم، وهو الإيمان بالله، والرسول‏.‏ فإن هذا الأصل إن لم يصحب الناظر، والمريد، والطالب، في كل مقام، وإلا خسر خسرانا مبينا، وحاجته إليه كحاجة البدن إلى الغذاء، أو الحياة إلى الروح‏.‏
فالإنسان بدون الحياة والغذاء لا يتقوم أبداً، ولا يمكنه أن يَعلم، ولا أن يُعلم‏.‏
كذلك الإنسان بدون الإيمان بالله ورسوله لا يمكنه أن ينال معرفة الله، ولا الهداية إليه، وبدون اهتدائه إلى ربه لا يكون إلا شقيا معذباً، وهو حال الكافرين بالله ورسوله، ومع الإيمان بالله ورسوله إذا نظر، واستدل، كان نظره في دليل وبرهان - وهو ثبوت الربوبية، والنبوة - وإذا تجرد وتصفى، كان معه من الإيمان ما يذوقه بذلك ويجده‏.‏
ثم هذا النظر، وهذا الذوق يجتلب له ما وراء ذلك من أنواع المعالم الربانية، والمواجيد الإلهية‏.‏ والعلم والوجد متلازمان‏.‏
وذلك، أن الأنبياء والمرسلين عرفوا الله بالوحي المعرفة التي هي معرفة، وعبدوه العبادة التي هي حق له بحسب ما منحهم الله تعالى‏.‏
وهم درجات في ذلك، لكن عرفوا من خصوص الربوبية ما لا يقوم به

 

ص -67-

 مجرد القياس النظري، ولا يناله مجرد الذوق الإرادي، ثم أخبروا عن ذلك‏.‏
ولابد في الوصف والإخبار من أن يذكر المسمى الموصوف بالأسماء والأوصاف المتواطئة التي فيها اشتراك وتمييز عن المخلوقات بما يقطع الشركة؛ لأن القصد بالإخبار، والوصف، تعريف المخاطبين، والمخاطبون لا يعرفون الخصوصيات، التي هي خصوص ذات الله، و صفاته‏.‏
فلو أخبروا بذلك وحده مجرداً لم يعرفوا شيئا، بل ربما أنكروا ذلك‏.‏ فإذا خوطبوا بالمعاني المشتركة، وأزيل مفسدة الاشتراك بما يقطع التماثل، كقوله‏: ‏‏
{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏‏[‏الشورى‏: ‏11‏]‏،‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏: ‏4‏]‏،ونحو ذلك كانوا أحد رجلين‏:
إما رجل مؤمن، آمن بمعاني تلك الصفات على الوجه المطلق الجملي وأثبتها لله على وجه يليق به، ويختص به، لا يشركه فيه مخلوق، فهذا غاية الممكن في حال هؤلاء‏.‏
وإما رجل قذف اللّه في قلبه من نوره وهدايته الخاصة ما أشهده شيئا من الخصوصيات، التي هي أعيان تلك الأسماء والصفات، فيعلم ذلك لا بمجرد القياس، ولا بمجرد الوجد بل بشهود علمي مطابق لما أخبرت به الرسل، وتدله على صحة شهوده موافقته لما أنبأت به الرسل، ويحصل له نصيب من النبوة، فإن النبوة انقطعت بكمالها، وأما وجود بعض أجزائها فلم ينقطع‏.‏ ولابد أن يكون في بعض الأمور محجوبا عن أن يشهد ما شهده النبي، فيصدقه فيه، لشهوده بعض ما أخبر به النبي، ويبقى ما شهده محققا عنده لثبوت ما لم يشهده، وهذه حال الصديقين مع الأنبياء‏.‏

 

ص -68-

 وذلك نظير من وصف له ملك مدينة، بأنواع من الصفات، فقدم حتى رأى بعض شؤونه التي دلته على صدق المخبر فيما لم يشهد‏.‏ ولست أجعل مجرد هذه الشهادة مصدقة، فإن المخبر قد يصدق في بعض، ويخطئ في بعض،وإنما ذلك بواسطة إخبار المخبر - أي رسول الله - وشهوده منه ما يوجب له امتناع الكذب عليه، كما يذكر في غير هذا الموضع‏.‏
فإن قلت‏: فمن أين له ابتداء صحة الإيمان بالله ورسوله، حتى يصير ذلك أصلا يبني عليه، وينتقل معه إلى ما بعده‏؟‏ فأهل القياس والوجد إنما تعبوا التعب الطويل في تقرير هذا الأصل في نفوسهم، ولهذا يسمي المتكلمون كل ما يقرر الربوبية والنبوة‏: العقليات والنظريات، ويسميها أولئك‏: الذوقيات، والوجديات، ورأوا أن ما لا يتم معرفة الله ورسوله إلا به فمعرفته متقدمة على ذلك، وإلا لزم الدور‏.‏ فسموا تلك عقليات، والعقليات لا تنال إلا بالقياس العقلي المنطقي‏.‏
قلت‏: جواب هذا من وجوه‏:
أحدها‏: المعارضة بالمثل، فإن سالك سبيل النظر القياسي، أو الإرادة الذوقية، من أين له ابتداء أن سلوك هذا الطريق يحصل له علما، ومعرفة، ليس معه ابتداء إلا مجرد إخبار مخبر بأنه سلك هذا الطريق فوصل، أو خاطر يقع في قلبه سلوك هذا الطريق، إما مجوزا للوصول أو متحريا أو غير ذلك، أو سلوكا ابتداء بلا انتهاء، وليس ذلك مختصا بالعلم الإلهي، بل كل العلوم لابد للسالك فيها ابتداء من مصادرات يأخذها مسلمة إلى أن تتبرهن فيما بعد‏.‏

 

ص -69-

إذا لو كان كل طالب العلم حين يطلبه قد نال ذلك العلم، لم يكن طالبا له، والطريق التي يسلكها قد يعلم أنها تفضي به إلى العلم‏.‏
لكن الكلام في أول الأوائل، ودليل الأدلة، وأصل الأصول‏.‏ فإنه لو كان حين ينظر فيه يعلم أنه دليل مفض لم يمكن ذلك حتى يعلم ارتباطه بالمدلول، فإن الدليل إن لم يستلزم المدلول لم يكن دليلاً‏.‏
والعلم بالاستلزام موقوف على العلم بالملزوم واللازم، فلا يعلم أنه دليل على المدلول المعين،حتى يعلم ثبوت المدلول المعين، ويعلم أنه ملزوم له، وإذا علم ذلك استغنى عن الاستدلال به على ثبوته، وإنما يفيده التذكير به، لا ابتداء العلم به، وإنما يقع الاشتباه هنا؛ لأنه كثيراً ما يعرف الإنسان ثبوت شيء، ثم يطلب الطريق إلى معرفة صفاته، ومشاهدة ذاته، إما بالحس، وإما بالقلب، فيسلك طريقا يعلم أنها موصلة إلى ذلك المطلوب؛ لأنه قد علم أن تلك الطريق مستلزم لذلك المطلوب الذي علم ثبوته قبل ذلك‏.‏
كمن طلب أن يحج إلى الكعبة، التي قد علم وجودها، فيسلك الطريق التي يعلم أنها تفضي إلى الكعبة، لإخبار الناس له بذلك، أو يستدل بمن يعلم أنه عارف بتلك الطريق، فسلوكه للطريق بنفسه بعد علمه أنها طريق المقصود بإخبار الواصلين، أو سلوكه بدليل خريت يهديه في كل منزلة لا يكون إلا بعد العلم بثبوت المطلوب، وثبوت أن هذا طريق ودليل‏.‏  وهكذا حال الطالبين لمعرفة الله، والمريدين له، والسائرين إليه، قد عرفوا

 

ص -70-

وجوده أولا وهم يطلبون معرفة صفاته، أو مشاهدة قلوبهم له في الدنيا‏.‏ فيسلكون الطريق الموصلة إلى ذلك بالإيمان والقرآن‏.‏
فالإيمان‏: نظير سلوك الرجل الطريق التي وصفها له السالكون، فإنهم متفقون على ذلك‏.‏
والقرآن‏: تصديق الرسل فيما تخبر به، وهو نظير اتباع الدليل منزلة منزلة، ولابد في طريق الله منهما‏.‏
وأما الشيء الذي لم يعلم العقل ثبوته أولا، إذا سلك طريقا يفضي إلى العلم به - فلا يسلكها ابتداء إلا بطريق التقليد والمصادرة - كسائر مبادئ العلوم - فإذا كان لابد في الطريقة القياسية، والعملية، من تقليد في الأول في سلوكه فيما لم يعلم أنه طريق، وأنه مفض إلى المطلوب أو أن المطلوب موجود، فالطريقة الإيمانية إذا فرض أنها كذلك لم يقدح ذلك فيها، بل تكون هي أحق، لوجوه كثيرة‏.‏
ونذكر بعضها إن شاء الله‏.‏
بل لا طريق إلا هي أو ما يفضي إليها، أو يقترن بها فهي شرط قطعاً في درك المطلوب، وما سواها ليس بشرط، بل يحصل المطلوب دونه وقد يضر بحصول المطلوب فلا يحصل، أو يحصل نقيضه وهو الشقاء الأعظم على التقديرين، فتلك الطريق مفضية قطعاً ولا فساد فيها، وما سواها يعتريه الفساد كثيراً، وهو لا يوصل وحده، بل لابد من الطريقة الإيمانية‏.‏

 

ص -71-

الوجه الثاني في الجواب‏: أن الطريقة القياسية، والرياضية، إذا سلكها الرجل وأفضت به إلى المعرفة - إن أفضت - علم حينئذ أنه سلك طريقا صحيحا وأن مطلوبه قد حصل، وأما قبل ذلك فهو لا يعرف، فأدني أحوال الإيمانية - ولا دناءة فيها - أن تكون كذلك‏.‏ فإنه إذا أخذ الإيمان بالله ورسله مسلما، ونظر في موجبه،وعمل بمقتضاه، حصل له بأدني سعي مطلوبه من معرفة الله، وأن الطريق التي سلكها صحيحة، فإن نفس تصديق الرسول فيما أخبر به عن ربه وطاعته، يقرر عنده علماً يقينياً بصحة ذلك أبلغ بكثير مما ذكر أولا‏.‏
الوجه الثالث‏: أن الإقرار بالله قسمان‏: فطري، وإيماني‏.‏ فالفطري‏: وهو الاعتراف بوجود الصانع - ثابت في الفطرة‏.‏ كما قرره الله في كتابه في مواضع وقد بسطت القول فيه في غير هذا الموضع‏.‏ فلا يحتاج هذا إلى دليل، بل هو أرسخ المعارف، وأثبت العلوم، وأصل الأصول‏.‏
وأما الإقرار بالرسول، فبأدني نظر فيما جاء به، أو في حاله، أو في آياته، أو نحو ذلك من شؤونه يحصل العلم بالنبوة، أقوى بكثير مما يحصل المطالب القياسية، والوجدية، في الأمور الإلهية‏.‏ ثم إذا قوي النظر في أحواله حصل من اليقين الضروري الذي لا يمكن دفعه ما يكون أصلا راسخا‏.‏ وبسط هذا مذكور في غير هذا الموضع؛ إذ المقصود هنا بيان خطأ من سلك طريق القياس، أو الرياضة، دون الإيمان ابتداء‏.‏ وأما تقرير طريقة الإيمان فشأنه عظيم، أعظم مما كتبته هنا‏.‏
الوجه الرابع‏: أنا نخاطب المسلمين المتسمين بالإيمان، الذين غرض أحدهم

 

ص -72-

معرفة الله الخاصة، التي يمتاز بها العلماء والعارفون عن العامة، فيسلك بعضهم طريقة أهل القياس المبتدع، والفلاسفة والمتكلمين، وبعضهم طريقة أهل الرياضة والإرادة المبتدعة، من المتفلسفة والمتصوفه، معرضا عما جاء به الرسول في تفاصيل هذه الأمور، فإن هؤلاء إذا كانوا عالمين بصدق الرسول - المبلغ عن ربه، الهادي إليه، الداعي إليه، الذي أكمل له الدين، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء - كيف يدعون الاستدلال بما جاء به، والاقتداء به، إلى ما ذكر من الطريقين‏؟‏
الوجه الخامس‏: أن أكثر من سلك الطريقين المنحرفين، لم يعتقد أن هناك طريقا ثالثا- كما يذكره رجال من فضلاء العالم الغالطين في القواعد الكبار - فهم ينتقلون من مادة فلسفية صابئية، إلى مادة إرادية نصرانية، إلى مادة كلامية يهودية‏.‏
وأهل فلسفتهم يوما مع ذوي إرادتهم، ويوما مع ذوي كلامهم، وهم متهوكون في هذه المجارات‏.‏
والطريقة الإيمانية النبوية المحمدية، الدينية السنية الأثرية، لا يهتدون إليها، ولا يعرفونها ولا يظنون أنها طريقة إلى مطلوبهم، ولا تفضي إلى مقصودهم، وذلك لعدم وجود من يسلكها في اعتقادهم، أو كبتوا نفوسهم عنها ظلما، فلضلالهم عنها أو غوايتهم وجهلهم بها، أو ظلمهم أنفسهم، أعرضوا عنها‏.‏
فإن قلت‏: فالقرآن يأمر بالنظر في الآيات‏.‏

 

ص -73-

قلت‏: النظر لا ريب في صحته في الجملة، وأنه إذا كان في دليل أفضى إلى العلم بالمدلول، وإذا كان في آيات الله أفضى إلى الإيمان به، الذي هو رأس العبادة، كما أن العبادة والإرادة لا ريب في صحتها في الجملة، وأنها إذا كانت على منهاج الأنبياء أفضت إلى رضوان الله، لكن عليك أن تفرق بين الآيات وبين القياس، كما قد بيناه في غير هذا الموضع‏.‏
فإن الآية هي العلامة‏.‏ وهي ما تستلزم بنفسها لما هي آية عليه، من غير توسط حد أوسط، ينتظم به قياس مشتمل على مقدمة كلية، كالشعاع فإنه آية الشمس، وكذلك النبات للمطر في الأرض القفر، والدخان للنار، وإن لم ينعقد في النفس قياس، بل العقل يعلم تلازمهما بنفسه، فيعلم من ثبوت الآية ثبوت لازمها، والعلم بالتلازم قد يكون فطريا، وقد لا يكون‏.‏
الوجه السادس‏: أن تينك الطريقين ليستا باطلا محضا، بل يفضي كل منهما إلى حق ما، لكن ليس هو الحق الواجب، وكثيراً ما يقترن معه الباطل فلا يحصل بكل منهما بمجرده أداء الواجب ولا اجتناب المحرم، و لا تحصلان المقصود الذي فيه سعادة العبد من نجاته ونعيمه، بعد مبعث الرسول‏.‏
أما الطريقة النظرية القياسية، فإنه لابد فيها من الاستدلال بالممكن على الواجب، أو المحدَث على المحدِث، أو بالحركة على المحرِّك، وذلك يعطي فاعلا عظيما من حيث الجملة‏.‏
وكذلك الطريقة الرياضية الذوقية تعطي انقياد القلب وخضوعه إلى الصانع

 

ص -74-

المطلق، وكل منهما لابد فيها من علم اضطراري يضطر القلب إليه؛ إذ القلب لا يحصل له علم إلا من جنس الاضطراري ابتداء بتوسط الضروري، فإن النظر يبنى على مقدمات تنتهي إلى ما هو من جنس الضروري، إما بتوسط الحس أو مجرداً عن الحس‏.‏
فالطريق القياسية تفيد العلم بتوسط مقدمات ضرورية، مثل أن يقال‏: الوجود المعلوم إما ممكن، وإما واجب، والممكن لا يوجد إلا بواجب‏.‏ فثبت وجود الواجب على التقديرين‏.‏
ومثل أن يقال‏: العالم محدَث أو كثير منه محدث‏.‏ والثاني ضروري، والأول يستدل عليه‏.‏ ثم يقال‏: وكل محدَث فله محدِث‏.‏
أو يقال‏: لا شك أن ثم وجودًا، وهو إما قديم، وإما محدَث، والمحدث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين‏.‏
كما يقال‏: لا ريب أن ثم وجودًا، وهو إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب فثبت وجود الواجب على التقديرين‏.‏
وقد يقال أيضا‏: لا ريب أن ثم وجودا، وهو إما مصنوع، أو غير مصنوع، أو مخلوق أو غير مخلوق، أو مفطور أو غير مفطور، والمصنوع أو المخلوق أو المفطور، لابد له من صانع وخالق وفاطر، فثبت وجود ما ليس بمصنوع ولا مفطور ولا مخلوق على التقديرين‏.‏

 

ص -75-

فهذه الوجوه وما يشبهها تدل على وجود واجب قديم ليس بمصنوع، لكن الشأن في تعيينه، فإن عامة الدهرية يقولون‏: هذا هو العالم أو شيء قائم به‏.‏ ثم إن افتقار الممكن إلى الواجب، والمحدث إلى القديم، والمصنوع إلى الصانع، مقدمة ضرورية؛ وإن كان طائفة من النظار يستدلون على هذه المقدمة، وعلى أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، والجمهور على الاكتفاء بالضرورة فيهما‏.‏
والطريق العبادية تفيد العلم بتوسط الرياضة وصفاء النفس، فإنه حينئذ يحصل للقلب علم ضروري،كما قال الشيخ إسماعيل الكوراني لعز الدين بن عبد السلام لما جاء إليه يطلب علم المعرفة وقد سلك الطريقة الكلامية فقال‏: ‏أنتم تقولون‏: إن الله يعرف بالدليل، ونحن نقول‏: عرَّفنا نفسه فعرفناه‏.‏ وكما قال نجم الدين الكبرى لابن الخطيب، ورفيقه المعتزلي وقد سألاه عن علم اليقين، فقال‏: هو واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها‏.‏ فأجابهما‏: بأن علم اليقين عندنا هو موجود بالضرورة لا بالنظر، وهو جواب حسن‏.‏
فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه الانفكاك عنه‏.‏ فالقائس إن لم يحصل له العلم الضروري ابتداء، وإلا فلابد أن يبني نظره وقياسه على مقدمات ضرورية، ثم حينئذ يحصل له العلم‏.‏
ولهذا قال طائفة منهم أبو المعالي الجويني إن جميع العلوم ضرورية

 

ص -76-

باعتباراتها بعد وجود النظر الصحيح في الدليل تحصل العلم ضرورة، لكن منها ما هو ضروري عند تصور طرفي القضية، ومنها ما هو ضروري بعد تأمل ونظر، ومنها ما هو ضروري بعد النظر في دليل ذي مقدمتين، أو مقدمات‏.‏
فقال الشيخ العارف‏: نحن نجد العلم وجدا ضرورياً بالطريق التي نسلكها من تزكية النفس، وإصلاح القلب الذي هو حامل العلم وداعيه فكل منهما يفيض الله العلم على قلبه، وينزله على فؤاده، ولكن أحدهما بتحصيل العلم المقارن للعلم المطلوب،الذي هو المقدمات، والآخر بإصلاح طالب العلم الذي يريد أن يكون عالماً وهو القلب بمنزلة من يخطب امرأة، فتارة تجمَّل لها وتَعَرَّض حتى رأته فرغبت فيه وخطبته، وتارة بأن أرسل إليها من تأنس إليه وتطيعه، فخطبها له فأجابت، فكان سعي الأول وعمله في إصلاح نفسه وتعرضه لها حتى ترغب، وكان سعي الثاني في تحصيل الرسول المطاع حتى تجيب‏.‏ وبمنزلة من يصيد صيدًا‏.‏
لكن مجرد النظر والعمل مجتمعين ومنفردين، لا يحصلان إلا أمراً مجملاً، كما هو الواقع، وذلك صحيح‏.‏ فإن ثبوت الأمر المجمل حق، فإن ضما إلى ذلك ما يعلم بنور الرسالة من الأمر المفصل حصل الإيمان النافع، وزال ما يخاف من سوء عاقبة ذينك الطريقين‏.‏
وهذه حال من تحيز من أهل النظر الكلامي، والعمل العبادي إلى اتباع الرسول والإيمان به، فقبل منه وأخذ عنه‏.‏

 

ص -77-

وإن لم يضم أحدهما إلى ذلك ما جاء به الرسول، فإما أن يضم ضده، أو لا يضم شيئاً، فإن ضم إلى ذلك ضد ما جاء به الرسول وقع في التكذيب، وهو الكفر المركب، وإن لم يضم إليه شيء بقى في الكفر البسيط، سواء كان في ريب، أو في إعراض وغفلة‏.‏
فإن حال الكافر لا تخلو من أن يتصور الرسالة أولا، فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها، وعدم إيمان بها، كما قال‏: ‏{
‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏: ‏28‏]‏، وقال‏: ‏{‏فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏136‏]‏، لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة، والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة‏.‏ فلهذا قرن التكذيب بالغفلة وإن تصور ما جاء به الرسول وانصرف فهو معرض عنه، كما قال تعالى‏: ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏.‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏}‏‏[‏طه‏: ‏123،124‏]‏، وكما قال‏: ‏{‏رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا‏}‏‏[‏النساء‏: ‏61‏]‏،وكما قال‏: ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏170‏]‏
وإن كان مع ذلك لا حظ له، لا مصدق ولا مكذب، ولا محب ولا مبغض، فهو في ريب منه، كما أخبر بذلك عن حال كثير من الكفار، منافق وغيره، كما قال‏: ‏
{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونََ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏45‏]‏، وكما قال موسى‏:

 

ص -78-

 ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏.‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ‏.‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏[‏إبراهيم‏: ‏9‏: 11‏]‏‏.‏
فأخبر سبحانه عن مناظرة الكفار للرسل في الربوبية أولا،فإنهم في شك من الله الذي يدعونهم إليه،وفي النبوة ثانيا بقولهم‏:
‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏: ‏10‏]‏،وهذا بحث كفار الفلاسفة بعينه،وإن كان مكذباً له فهو التكذيب،والتكذيب أخص من الكفر، فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر‏.‏وليس كل كافر مكذباً، بل قد يكون مرتابا، إن كان ناظراً فيه أو معرضاً عنه بعد أن لم يكن ناظرا فيه، وقد يكون غافلا عنه لم يتصوره بحال، لكن عقوبة هذا موقوفة على تبليغ المرسل إليه‏.‏
وكل واحد من الأمرين في أن يضم إلى المعرفة المجملة، إما تكذيب، وإما كفر بلا تكذيب واقع كثيراً في سالكي الطريقين، النظر في القياس المجرد، والعمل بالعبادة المجردة‏.‏
مثال ذلك‏: أن كثيراً من النظار أثبت واجب الوجود، أو صانع العالم، وذهبوا في تعيينه وصفاته مذاهب يضيق هذا الموضع عن تفصيلها معروفة

 

ص -79-

في كتب المقالات، من أهل ملتنا، وغير أهل ملتنا مقالات الإسلاميين المصلين، ومقالات غيرهم‏.‏ وكثير من العباد المتأخرين أثبت أيضا ذلك إثباتا مجملا، وتوهموا فيه أنواعا من التوهمات الكفرية، الذي يصفها عارفوهم‏.‏
فمنهم من توهمه الوجود المطلق، المشترك بين الموجودات، كالإنسان المطلق مع أعيانه وأفراده، فإذا تعين الوجود لم يكن إياه؛ إذ المطلق ليس هو المعين، كما يقوله الصدر القونوي‏.‏
ومنهم من توهم أن وجود الممكنات هو عين وجوده الفائض عليها‏.‏ كما يذكره صاحب الفصوص
ومنهم يتوهمه جملة الوجود، وكل معين فهو جزء منه، كالبحر مع أمواجه، وأعضاء الإنسان مع الإنسان‏.‏ فليس هو ما يختص بكل معين، لكنه مجموع الكائنات، كالعفيف التلمساني، وعبد الله الفارسي البلياني، ويقولون‏: إن كل موجود فهو مرتبة من مراتب الوجود، أو مظهر من مظاهره، بمنزلة أمواج البحر معه، وأعضاء الإنسان معه، وأجزاء الهوى مع الهواء، أو بمنزلة هذا الإنسان وهذا الحيوان مع الحيوان المطلق والإنسان المطلق‏.‏
ويقول شاعرهم ابن إسرائيل‏:

 وما أنت غير الكون بل أنت عينه

 ويفهم هذا السر من هو ذائق

وقال‏:

 وتلتذ إن مرت على جسدي يدي

 لأني في التحقيق لست سواكم

ص -80-

ولهذا ليس عندهم للإنسان غاية وراء نفسه، وإنما غايته أن ينكشف الغطاء عن نفسه، فيري أن نفسه هي الحق، وكان قبل ذلك محجوبا عنها، فلما شاهد الحقيقة رأى أنه هو كما قال ابن إسرائيل‏:

 ما بال عيسك لا يقر قرارها

 إلا في ظلك لا تني منتقلا

 فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن

 إلا إليك إذا بلغت المنزلا

وكما يقول بعضهم‏:

 وفي كل شيء له آية

 تدل على أنه عينه

والله يقول‏: ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ ‏[‏العلق‏: ‏8‏]‏، ويقول‏: ‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ‏}‏‏[‏الانشقاق‏: ‏6‏]‏،ويقول‏: ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام62‏]‏، ويقول‏: ‏{‏إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏156‏]‏، ونحو ذلك‏.‏وقال التلمساني وكان راسخ القدم في هذه الزندقة التي أسموا بها التوحيد والحقيقة-‏:

 توهمت قدما أن ليلى تبرقعت

 وأن حجاباً دونها يمنع اللثما

 فلاحت،فلا والله ما كان حجبها

 سوى أن طرفي كان عن حبها أعمى

وله شعر كثير في هذا الفن‏:

 هي الجوهر الصرف القديم وإن بدا

 لها خبث أتيت به فهو حادث

ص -81-

حلفت لهم ما كان منها غير ذاتها

 فقالوا اتئد فيها فإنك حانث

وله‏:

 وقل لحبيبك مت وجداً وذب طربا

 فيها وقل لزوال العقل لا تزل

 واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة

 فإن وجدت لسانا قائلا فقل

ولهذا يصلون إلى مقام لا يعتقدون فيه إيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإنما يرون الإيجاب والتحريم للمحجوبين عندهم، الذين لم يشهدوا أنه هو حقيقة الكون، فمن العابد ومن المعبود ومن الآمر ومن المأمور‏؟‏ كما قال صاحب الفتوحات في أولها‏:

 الرب حق والعبد حق

 يا ليت شعري من المكلف

 إن قلت عبد فذاك ميت

 أو قلت رب أني يكلف

وعندهم أن التكليف هو في مرتبة من مراتب الأسماء والصفات وهو مرتبة الممتحن‏.‏
قال بعضهم‏:

 ما الأمر إلا نسق واحد

 ما فيه من مدح ولا ذم

 وإنما العادة قد خصصت

 والطبع والشارع بالحكم

ص -82-

ومنشأ هذين عن الصابئة كما يبين ذلك عند التأمل فإن الصابئة الخارجين عن التوحيد لله وحده لا شريك له كالمشركين، والمجوس مثل فرعون موسى، ونمروذ إبراهيم، وغيرهم من البشر، معترفون بالوجود المطلق‏.‏
ولهذا كان أفضل علوم الفلاسفة هو علم ما بعد الطبيعة، أعني بهم الفلاسفة المشائين الذين يتبعون ‏[‏أرسطو‏]‏، فإنه عندهم المعلم الأول الذي صنف في أنواع التعاليم من أجزاء المنطق، والعلم الطبيعي كالحيوان، والمكان والسماء، والعالم، والآثار العلوية، وصنف فيما بعد الطبيعة وهو عندهم غاية حكمتهم، ونهاية فلسفتهم وهو العلم الذي يسميه متأخرو الفلاسفة كابن سينا‏: ‏[‏العلم الإلهي‏]‏‏.‏
وموضوع هذا العلم عند أصحابه‏: هو الوجود المطلق ولواحقه، مثل الكلام في الموجود، والمعدوم، ثم في تقسيم الموجود إلى واجب وممكن، وقديم، ومحدث، وعلة ومعلول، وجوهر وعَرَض، ونحو ذلك‏.‏
ثم الكلام في أنواع هذه الأقسام وأحكامها، مثل‏: تقسيم العلل إلى الأنواع الأربعة، وهي‏: الفاعل والغاية، اللذان هما سببان لوجود الشيء، والمادة والصورة، اللذان هما سببان لحقيقة المركب، وتقسيم الأعراض إلى الأجناس المقالية التسعة،وهي‏: الكيف، والكم، والوضع، والأين، ومتى، والإضافة، والملك، وأن يفعل، وأن ينفعل، أو جعلها خمسة على ما بينهم من الاختلاف‏.‏

 

ص -83-

وفي آخر علم ما بعد الطبيعة حرف اللام كأنه هو العلة الغائية، الذي إليه الحركة، كما أثبت المعلم الأول وجوده بطريق الاستدلال بالحركة الذي تكلم فيه المعلم الأول على واجب الوجود لذاته، بكلام مختصر ذكر فيه قدراً يسيراً من أحكامه وهو الذي كان يقول فيه ابن سينا فهذا ما عند المعلم الأول من معرفة الله‏.‏
وأما النبوات والرسل، فليس لهؤلاء فيها كلام معروف، لا نفيا ولا إثباتا‏.‏ وأما المتأخرون فهم لما ظهرت الملة الحنيفية الإبراهيمية، التوحيدية تارة بنبوة عيسى لما ظهرت النصارى على مملكة الصابئين بأرض الشام، ومصر، والروم، وغيرها ثم بنبوة خاتم المرسلين، وأظهر الله من نور النبوة شمساً طمست ضوء الكواكب، وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم خفى بعض نور النبوة، فعرب بعض كتب الأعاجم الفلاسفة، من الروم، والفرس والهند، في أثناء الدولة العباسية‏.‏
ثم طلبت كتبهم في دولة المأمون من بلاد الروم، فعربت، ودرسها الناس، وظهر بسبب ذلك من البدع ما ظهر، وكان أكثر ما ظهر من علومهم الرياضية كالحساب والهيئة، أو الطبيعية كالطب، أو المنطقية، فأما الإلهية،فكلامهم فيها نزر وهو مع نزارته ليس غالبه عندهم يقينا، وعند المسلمين من العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نوراً وهدى

 

ص -84-

بل متكلموهم الذين ينسبون إلى البدع عندهم من العلم الإلهي بمقاييسهم المستخرجة أضعاف أضعاف أضعاف ما عند حذاق المتفلسفة‏.‏
ثم بعد ذلك لما صار فيهم من يتحذق على طريقتهم في علم ما بعد الطبيعة، كالفارابي، وابن سينا ونحوهم، وصنف ابن سينا كتباً زاد فيها بمقتضى الأصول المشتركة، أشياء لم يذكرها المتقدمون، وسمى ذلك العلم الإلهي، وتكلم في النبوات، والكرامات، ومقامات العارفين، بكلام فيه شرف ورفعة، بالنسبة إلى كلام المتقدمين‏.‏
وإن كان عند العلوم الإلهية النبوية فيه من القصور والتقصير والنفاق والجهل، والضلال والكفر، ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة بالعلم والإيمان، وإنما راج على من سلك طريق المتفلسفة؛ لأنه قرب إليهم معرفة الله، والنبوات، والمعجزات، والولاية، بحسب أصول الصابئة الفلاسفة لا بحسب الحق في نفسه بما أشرق على جهالاتهم من نور الرسالة، وبرهان النبوة‏.‏
كما فعله نسطور النصراني، الذي كان في زمن المأمون، الذي تنسب إليه النسطورية في التثليث والاتحاد، لكنه بما أضاء عليه من نور المسلمين أزال كثيراً من فساد عقيدة النصراني، وبقى عليه منها بقايا عظيمة‏.‏ وكذلك يحيى بن عدي النصراني، لما تفلسف قرب مذهب النصارى في التثليث إلى أصول الفلاسفة في العقل، والعاقل، والمعقول‏.‏

 

ص -85-

ولهذا الفلاسفة المحضة الباقون على محض كلام المشائين يرون أن ابن سينا صانع المليين،لما رأوا من تقريبه،وجهلوا فيما قالوا، وكذبوا،لم يصانع،ولكن قال بموجب الحق وبموافقة أصولهم العقلية ما قاله من الحق الذي أقر به، كما أن الفلاسفة الإلهيين المشائين وغيرهم متفقون على الإقرار بواجب الوجود، وببقاء الروح بعد الموت، وبأن الأعمال الصالحة تنفع بعد الموت، ويخالفهم في ذلك فلاسفة كثيرون من الطبيعيين وغيرهم، بل وبين الإلهيين من الفلاسفة خلاف في بعض ذلك حتى الفارابي، وهو عندهم المعلم الثاني يقال‏: إنه اختلف كلامه في ذلك‏.‏
فقال تارة ببقاء الأنفس كلها، وتارة ببقاء النفوس العالمة دون الجاهلة‏.‏ كما قاله في آراء المدينة الفاضلة، وتارة كذب بالأمرين، وزعم الضال الكافر أن النبوة خاصتها جودة تخييل الحقائق الروحانية، وكلامهم المضطرب في هذا الباب كثير، ليس الغرض هنا ذكره‏.‏
وإنما الغرض أن العلم الأعلى عندهم والفلسفة الأولى علم ما بعد الطبيعة وهو الوجود المطلق ولواحقه، حتى أن من له مادة فلسفية من متكلمة المسلمين - كابن الخطيب وغيره - يتكلمون في أصول الفقه، الذي هو علم إسلامي محض، فيبنونه على تلك الأصول الفلسفية‏.‏
كقول ابن الخطيب وغيره في أول أصول الفقه موافقة لابن سينا ومن قبله‏: العلوم الجزئية لا تقرر مبادئها فيها؛ لئلا يلزم الدور، فإن مبدأ العلم أصوله،

 

ص -86-

وهو لا يعرف إلا بعدها‏.‏ فلو عرفت أصوله بمسائله المتوقفة على أصوله، للزم الدور بل توجد أصوله مسلمة، ويقدر في علم أعلى منه، حتى ينتهي إلى العلم الأعلى الناظر في الوجود ولواحقه، وهذا قالوه في مثل الطب والحساب‏: إن الطببب إنما هو طبيب ينظر في بدن الحيوان، وأخلاطه وأعضائه ليحفظه صحته إن كانت موجودة، ويعيدها إليه إن كانت مفقودة، وبدن الحيوان جزء من المولدات في الأرض، وكذلك أخلاطه‏.‏
فأعم منه النظر في المولدات من الأركان الأربعة، الماء، والهواء، والنار، والأرض‏.‏
وأعم من ذلك‏: النظر في الجسم المستحيل، ثم في الجسم المطلق، فما من علم يتعلق بموضوع ببعض الموجودات العينية، أو العلمية إلا وأعم منه ما يشترك هو وغيره فيه‏.‏ فأما إدخال العلم بالله الذي هو أعلى العلوم، وأشرفها في هذا، وجعله جزءاً من أجزاء العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه وكذلك ما يتبع ذلك من العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر- فهذا منشأ الضلال القياسي‏.‏
ويتبين ذلك من وجوه‏:
أحدها‏: ‏أن الله سبحانه هو الأعلى وهو الأكبر؛ ولهذا كان شعار أكمل الملل هو‏: الله أكبر في صلواتهم وأذانهم وأعيادهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم‏:
‏‏"‏يا عدي، ما يُفِرُّك‏!‏ أيفرك أن يقال لا إله إلا الله‏؟‏

 

ص -87-

يا عدي،فهل تعلم من إله إلا الله‏؟‏ يا عدي، ما يفرك‏؟‏ أيفرك أن يقال‏: الله أكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله‏"‏‏؟‏ وبهذا‏: تبين صواب من قال من الفقهاء أنه لا يجوز إبدال هذه الكلمة بقولنا‏: الله الكبير، مع أن كشف هذا له موضع آخر‏.‏
وقال‏: ‏
{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏: ‏1‏]‏، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏: ‏‏"‏اجعلوها في سجودكم‏"‏، فالله هو الأعلى، وهو الأكبر‏.‏ والعلم مطابق للمعلوم فيجب أن تكون معرفته وعلمه‏: أكبر العلوم وأعلاها‏.‏
الثاني‏: أن الله سبحانه هو الحق الموجود بنفسه، وسائر ما سواه خلق من خلقه، مربوب مقهور تحت قدرته، وهو خالق الأشياء مسبب أسبابها، فالعلم به أصل للعلم بما سواه وسبب، كما أن ذاته كذلك، والعلم بالسبب يفيد العلم بالمسبب‏.‏
الثالث‏: معرفة أن الوجود المطلق هو المعرفة بالقدر المشترك بينه وبين ما سواه، وهو علم بالحد الأوسط في قياسه على خليقته، ومعلوم أن ذلك ليس فيه علم بحقيقته، ولا بحقيقة ما سواه، وإنما هو علم بوصف مشترك بينهما، فكيف يكون العلم بوصف مشترك أعلا من العلم بحقيقة كل منهما، وسائر ما يختص به عن غيره من الأنواع، والأعيان‏؟‏
وكذلك معرفة الذات المطلقة، وما هو كل من الأمور المشتركة، هو من هذا الباب‏.‏

 

ص -88-

الرابع‏: أن الوجود المطلق، والذات المطلقة ونحو ذلك‏: إما أن يراد به الإطلاق الخاص، وهو الذي لا يدخل فيه المقيد، كما يقال‏: الماء المطلق، فهذا لا وجود له في الخارج عن العقل والذهن، كما أن الوجود الكلي العام، والذات الكلية العامة، لا وجود لها في الخارج، وإنما يعرض للحقائق هذا العموم، وهذا الإطلاق من حيث هي معقولة في الأذهان، لا من حيث هي ثابتة في الأعيان‏.‏
فكيف يكون أعلى العلوم وأشرفها معلومه هو المثل الذهنية لا الحقائق الوجودية، والمثل إنما هي تابعة لتلك، وإلا لكانت جهلا لا علما، وإما أن يراد به الإطلاق العام، وهو ما لا يمنع شيئا من الدخول فيه وهو المطلق من كل قيد، حتى عن الإطلاق‏.‏ فالمطلق بهذا الاعتبار له وجود في الخارج على القول الصحيح‏.‏
لكن لا يوجد مطلقا لا يوجد إلا معينا،فإما موجود مطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له،وهو المطلق الخاص، فالمطلق العام لما كان يدخل فيه المقيد صح أن يوجد في الخارج، فإذا كان الوجود المطلق ولواحقه ليس بموجود في الخارج مطلقًا، ولا يوجد في الخارج إلا معين امتنع أن يكون أعلى العلوم، إنما وجود معلومه في الأذهان لا في الأعيان‏.‏
ولو جاز ترجيح العلم بالمثل الذهنية على الحقائق الخارجية، لجاز ترجيح المثل على الحقائق، ولكان العلم بالرب والملائكة والنبيين أفضل من ذات الرب، والملائكة والنبيين، وهذا لا يقوله عاقل‏.‏

 

ص -89-

الخامس‏: أن القوم إنما أتوا من جهة أنهم بنوا أمرهم في علومهم جميعاً على القياس، ولابد في القياس من قضية كلية، وَحَدٍّ أوسط يكون أعم من الموصوف المحكوم عليه المبتدأ الموضوع‏.‏
وما من حد وقضية إلا وثمَّ ما هو أعم منه، مثل أن يقول‏: الإنسان، فأعم منه الحيوان، فأعم منه الجسم النامي، فأعم منه الجسم السفلي، فأعم منه الجسم، فأعم منه الجوهر، فأعم منه الموجود، سواء كان جنساً ذاتيا كما يقوله بعضهم، أو وصفاً عرضيا كما يقوله الحذاق‏.‏
فلو قيل‏: أعلى العلوم القياسية العلوم بالموجود ولواحقه، لكون معلومه أعم الموضوعات لكان له مساغ، ولعل هذا مرادهم‏.‏
لكن العلم القياسي لا يفيد بنفسه معرفة حقيقة شيء من الأشياء الموجودة، إلا إذا كان له نظير مماثل، فيعرف أحد المثلين بنفسه، والآخر بقياسه على نظيره، وهذا القدر منتف في العلم بالله، لا يوجد مثله ونظيره، ثم قد عارضهم المتكلمون بما هو أعلى من الوجود وهو المعلوم والمذكور فقالوا‏: أعلا المعلوم وأعم الأسماء والحدود‏: المعلوم والمذكور؛ لأنه يدخل فيه الموجود والمعدوم، بنوعي الوجود‏: واجبه وممكنه، ونوعي المعدوم ممكنه وممتنعه، فكان يجب أن يقال‏: العلم الأعلى الناظر في المعلوم ولواحقه، وهذا أعم وأوسع‏.‏
وكون الشيء معلوماً أمر يعرض له، لاصفة ذاتية وكذلك كونه موجوداً، إذ هو في الحقيقة، كونه بحيث يجده الواجد، هذا مقتضي الاسم،

 

ص -90-

وإن عنى به بعضهم كونه حقاً في نفسه، فهذا ليس هو حقيقته التي هي هو، كما قد قرر هذا في غير هذا الموضع‏.‏
وإن من قال من المتفلسفة أو المتكلمة‏: إن حقيقة الرب هي وجوده أو وجوب وجوده، أو أنهم علموا حقيقته فقد أخطأ في ذلك خطأ قبيحاً، وأن هذا بمنزلة من قال‏: حقيقة سائر الكائنات كونها ممكنة، وهؤلاء بعداء عن الله محجوبون عن معرفته، لم يعرفوا منه إلا صفة كلية من صفاته فظنوا أنهم عرفوا حقيقته‏.‏
وبهذا يتبين لك أن من قال‏: العلم الأعلى هو علم ما بعد الطبيعة، وهو الناظر في الوجود ولواحقه، فإنما حقيقة ذلك أنه أعلى في ذهن الطالب لمعرفة الله بالقياس علي خلقه، لا أنه أعلى في نفسه، ولا أن معلومه أعلى، ولا أعلى عند من عرف حقائق الموجودات، ولا أعلى عند من عرف الله بالفطرة، فضلا عمن عرفه بالشرعة، فضلا عمن عرفه بالولاية، فضلا عمن عرفه بالوحي والنبوة، فضلا عمن عرفه بالرسالة، فضلا عمن عرفه بالكلام، فضلا عمن عرفه بالرَّوية‏.‏
فلما كان منتهى الفلاسفة الصابئية، وأعلى علمهم هو الوجود المطلق، وكان أصل التجهم، وتعطيل صفات الرب إنما هو مأخوذ عن الصابئة، وكان هؤلاء الاتحادية في الأصل جهمية، وأنه بما فيهم من النصرانية - المشاركة للصابئة صار بينهم وبين الصابئة نسب - صار معبودهم وإلههم هو

 

ص -91-

 الوجود المطلق، وزعموا أن ذلك هو الله، مضاهاة لما عليه خلق من قدماء الفلاسفة، من تعطيل الصانع وإثبات الوجود المطلق، حتى يصح قول فرعون‏: ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏23‏]‏‏.‏
وإن كان الفلاسفة المسلمون لا يوافقون على ذلك، بل يقرون بالرب الذي صدر عنه العالم، لكنهم بتعظيمهم للوجود المطلق صاروا متفقين متقاربين، ومن تأمل كلام النصير الطوسي الصابئي الفيلسوف، وكلام الصدر القونوي النصراني الاتحادي الفيلسوف، وكلام الإسماعيلية في البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم - الذي يقول فيه‏: أقرب الناس إلينا الفلاسفة، ليس بيننا وبينهم خلاف إلا في واجب الوجود، فإنهم يقرون به، ونحن ننكره عرف ما بين هؤلاء من المناسبة‏.‏  وكذلك المراسلة التي بين الصدر والنصير، في إثبات النصير لواجب الوجود، على طريقة الصابئة الفلاسفة، وجعل الصدر ذلك هو الوجود المطلق، لا المعين، وأنه هو الله، علم حقيقة ما قلته، وعلم وجه اتفاقهم على الضلال والكفر، وأن النصير أقرب من حيث اعترافه بالرب الصانع المتميز عن الخلق، لكنه أكفر من جهة بعده عن النبوة، والشرائع، والعبادات‏.‏ وأن الصدر أقرب من جهة تعظيمه للعبادات، والنبوات، والتأله، على طريقة النصارى، لكنه أكفر من حيث إن معبوده لا حقيقة له، وإنما يعبد الوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الخارج‏.‏

 

ص -92-

ولهذا كان الصدر أكفر قولا، وأقل كفراً في عمله،والنصير أكفر عملا، وأقل كفراً في قوله،وكلاهما كافر في قوله وعمله،ولهذا يظهر للعقلاء من عموم المسلمين من كلام الصدر أنه إفك وزور وغرور، مخالف لما جاء به الرسول، كما يظهر لهم من أفعال النصير أنه مروق وإعراض عما جاء به الرسول؛ ولهذا‏: كان النصير أقرب إلى العلماء؛ لأن في كلامه ما هوحق، كما أن الصدر أقرب إلى العباد؛ لأن في فعاله ما هو عبادة‏.

 

ص -93-

وقال‏:
فصل
وقد تفرق الناس في هذا المقام الذي هو غاية مطالب العباد فطائفة من الفلاسفة ونحوهم، يظنون أن كمال النفس في مجرد العلم، ويجعلون العلم - الذي به تكمل ما يعرفونه هم من - علم ما بعد الطبيعة، ويجعلون العبادات رياضة لأخلاق النفس، حتى تستعد للعلم‏.‏ فتصير النفس عالما، معتزلاً، موازيا للعالم الموجود‏.‏
وهؤلاء ضالون، بل كافرون من وجوه‏:
منها‏: أنهم اعتقدوا الكمال من مجرد العلم، كما اعتقد جهم، والصالحي، والأشعري في المشهور من قوليه وأكثر أتباعه‏: أن الإيمان مجرد العلم، لكن المتفلسفة أسوأ حالا من الجهمية، فإن الجهمية يجعلون الإيمان هو العلم بالله، وأولئك يجعلون كمال النفس في أن تعلم الوجود المطلق، من حيث هو وجود، والمطلق بشرط الإطلاق، إنما يكون في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط لا يوجد أيضا في الخارج إلا معينا‏.‏
وإن علموا الوجود الكلي، المنقسم إلى واجب وممكن، فليس لمعلوم علمهم

 

ص -94-

 وجود في الخارج، وهكذا من تصوف وتأله على طريقتهم، كابن عربي، وابن سبعين ونحوهما‏.‏
وأيضا‏: فإن الجهمية يقرون بالرسل، وبما جاؤوا به، فهم في الجملة يقرون بأن الله خلق السموات، والأرض، وغير ذلك مما جاءت به الرسل؛ بخلاف المتفلسفة‏.‏
وبالجملة، فكمال النفس ليس في مجرد العلم، بل لابد مع العلم بالله من محبته، وعبادته، والإنابة إليه، فهذا عمل النفس وإرادتها، ودال علمها ومعرفتها‏.‏
الوجه الثاني‏: أنهم ظنوا أن العلم الذي تكمل به النفس هو علمهم، وكثير منه جهل لا علم‏.‏
الوجه الثالث‏: أنهم لم يعرفوا العلم الإلهي، الذي جاءت به الرسل، وهو العلم الأعلى، الذي تكمل به النفس، مع العمل بموجبه‏.‏
الرابع‏: أنهم يرون أنه إذا حصل لهم ذاك العلم، سقطت عنهم واجبات الشرع، وأبيحت لهم محرماته، وهذه طريقة الباطنية، من الإسماعيلية وغيرهم، مثل أبي يعقوب السجستاني، صاحب الأقاليد الملكوتية، وأتباعه، وطريقة من وافقهم من ملاحدة الصوفية، الذين يتأولون قوله‏:
‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏99‏]‏‏: أنك تعمل حتي يحصل لك العلم، فإذا حصل العلم سقط عنك العمل، وقد قيل للجنيد‏: إن قوما يقولون‏: إنهم يَصِلُون من طريق البر، إلى أن تسقط عنهم الفرائض، وتباح لهم المحارم أو نحو هذا الكلام فقال‏: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر خير من هذا‏.‏

 

ص -95-

 ومن هؤلاء من يكون طلبه للمكاشفة ونحوها من العلم، أعظم من طلبه لما فرض الله عليه، ويقول في دعائه‏: اللهم أسألك العصمة في الحركات، والسكنات، والخطوات، والإرادات، والكلمات، من الشكوك، والظنون، والإرادة، والأوهام الساترة للقلوب، عن مطالعة الغيوب، وأصل المسألة‏: أن المكنة التي هي الكمال عندهم من المكنة‏.‏
وطائفة أخرى‏: عندهم أن الكمال في القدرة والسلطان، والتصرف في الوجود نفاذ الأمر والنهي، إما بالملك والولاية الظاهرة، وإما بالباطن‏.‏ وتكون عبادتهم، ومجاهدتهم لذلك، وكثير من هؤلاء يدخل في الشرك، والسحر، فيعبد الكواكب، والأصنام، لتعينه الشياطين على مقاصده، وهؤلاء أضل وأجهل من الذين قبلهم، وغاية من يعبد الله يطلب خوارق العادات، يكون له نصيب من هذا، ولهذا كان منهم من يرى طائرا ومنهم يرى ماشيا ومنهم‏.‏ وفيهم جهال ضلال‏.‏
وطائفة تجعل الكمال في مجموع الأمرين، فيدخلون في أقوال وأعمال من الشرك، والسحر، ليستعينوا بالشياطين على ما يطلبونه، من الإخبار بالأمور الغائبة، وعلى ما ينفذ به تصرفهم في العالم‏.‏
والحق المبين‏: أن كمال الإنسان أن يعبد الله علما، وعملا، كما أمره ربه،

 

ص -96-

وهؤلاء هم عباد الله، وهم المؤمنون والمسلمون، وهم أولياء الله المتقون، وحزب الله المفلحون، وجند الله الغالبون، وهم أهل العلم النافع، والعمل الصالح، وهم الذين زكوا نفوسهم وكملوها، كملوا القوة النظرية العلمية،والقوة الإرادية العملية، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏‏[‏ص‏:‏45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏1-4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6، 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏123‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏3‏]‏‏.‏

 

ص -97-

وقال أيضا‏:
فصل ‏:
حقيقة مذهب الاتحادية - كصاحب الفصوص ونحوه - الذي يؤول إليه كلامهم ويصرحون به في مواضع - أن الحقائق تتبع العقائد، وهذا أحد أقوال السوفسطائية، فكل من قال شيئا، أو اعتقده، فهو حق في نفس هذا القائل المعتقد؛ ولذا يجعلون الكذب حقا، ويقولون‏: العارف لا يكذب أحدا، فإن الكذب هو أيضا أمر موجود وهو حق في نفس الكاذب، فإن اعتقده كان حقا في اعتقاده، وكلامه‏.‏ ولو قال ما لم يعتقده كان حقا في كلامه فقط‏.‏
ولهذا يأمر المحقق أن تعتقد كل ما يعتقده الخلائق، كما قال‏:

 عقد الخلائق في الإله عقائدا

 وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

ومعلوم أن الاعتقادات المتناقضة لا تكون معتقداتها في الخارج،لكن في نفس المعتقد؛ ولهذا يأمرون بالتصديق بين النقيضين والضدين ويجعلون هذا من أصول طريقهم، وتحقيقهم‏.‏ومعلوم أن النقيضين لا يجتمعان في الخارج،لكن يمكن اعتقاد اجتماعهما فيكون ذلك حقا في نفس المعتقد،وهم يدعون أن ذلك يحصل كشفا فكشفهم متناقض، فخاطبت بذلك بعضهم، فقال‏: ‏كلاهما

 

ص -98-

حق، كالذي كشف له أن الزهرة فوق عطارد، والذي كشف له أنها تحت عطارد، فقال هي من كشف هذا فوق عطارد،وفي كشف هذا تحت عطارد، وأمثال ذلك‏.‏ فجعلوا الحقائق الثابتة تتبع الكشف والاعتقاد، والقول‏.‏
ولهذا يقولون‏: سر حيث شئت، فإن الله ثَمَّ، وقل ما شئت فيه، فإن الواسع الله‏.‏
ومضمون هذا الأصل أن كل إنسان يقول ما شاء ويعتقد ما شاء، من غير تمييز بين حق وباطل، وصادق وكاذب، وأنه لا ينكر في الوجود شيء، وهكذا يقولون‏.‏ هذا من جهة الخبر والعلم، وأما من جهة الأمر والعمل، فإن محققهم يقول‏: ما عندنا حرام، ولكن هؤلاء المحجبون قالوا‏: ‏حرام فقلنا‏: حرام عليكم، فما عندهم أمر ولا نهي، كما قال القاضي الذي هو تلميذ صاحب الفصوص فيما أنشدنيه الشاهد ابن عمد المقلب بعرعيه

 ما الأمر إلا نسق واحد

 ما فيه من حمد ولا ذم

 وإنما العادة قد خصصت

 والطبع والشارع بالحكم

وحينئذ فما يبقى للأقوال والأفعال إلا مجرد القدرة؛ ولهذا هم يمشون مع الكون دائما، فأي شيء وجد وكان، كان عندهم حقا، فالحلال ما وجدته وحل بيدك، والحرام ما حرمته، والحق ما قلته كائنا ما كان، والباطل ما لم يقله أحد‏.‏ وهؤلاء شر من المباحية الملاحدة الذين يجرون مع محض القدر‏.‏
فإن أولئك يعطلون الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وهؤلاء

 

ص -99-

 عطلوا أيضا الصانع والرسالة والحقائق كلها، وجعلوا الحقائق بحسب ما يكشف للإنسان، ولم يجعلوا للحقائق في أنفسها حقائق تتحقق به، يكون ثابتا، وبنقيضه منتفيا، بل هذا عندهم يفيده الإطلاق‏.‏ ألا تقف مع معتقد، بل تعتقد جميع ما اعتقده الناس، فإن كانت أقوالا متناقضة فإن الوجود يسع هذا كله، ووحدة الوجود تسع هذا كله‏.‏
ومعلوم أن الوجود إنما يسع وجود هذه الاعتقادات لا يسع تحقق المعتقدات في أنفسها، وهذا مما لا نزاع فيه بين العقلاء، فإن الاعتقاد الباطل والقول الكاذب هو موجود داخل في الوجود، لكن هذا لا يقتضي أن يكون حقا وصدقا، فإن الحق والصدق إذا أطلق على الأقوال الخبرية لا يراد به مجرد وجودها، فإن هذا أمر معلوم بالحس، وعلى هذا التقدير فكلها حق وصدق‏.‏
ومن المعلوم أن السائل عن حقها وصدقها، هي عنده منقسمة إلى حق وباطل، وصدق وكذب، والمراد بكونها حقا وصدقا كونها مطابقة للخبر أو غير مطابقة، ثم قد تكون مطابقة في اعتقاد القائل دون الخارج، وهذا هو الخطأ‏.‏ وقد يسمى كذبا، وقد لا يطلق عليه ذلك‏.‏
فالأول‏: كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:
‏"كذب أبو السنابل‏"‏،وقوله‏: "‏كذب من قالها إن له لأجرين اثنين، إنه لجاهد مجاهد ".‏وقول عبادة‏: كذب أبوكم‏.‏ وقول ابن عباس‏: كذب نوف‏.‏

 

ص -100-

 

والثاني‏: كقوله صلى الله عليه وسلم‏: ‏‏"‏لم أنس ولم تقصر‏"‏فقال له ذو اليدين‏: بلى قد نسيت‏.‏ وكأن الفرق واللّه أعلم أن من أخبر مع تفريطه في الطريق الذي يعلم به صوابه وخطؤه فأخطأ سمي كاذبا بخلاف من لم يفرط،لأنه تكلم بلا حجة ولا دليل مجازفة فأخطأ، بخلاف من أخبر غير مفرط‏.‏ وهذا الفرق يصلح أن يفرق به فيمن حلف على شيء يعتقده، كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه إن حلف مجازفاً بلا أصل يرجع إليه مثل من حلف أن هذا غراب أو ليس بغراب بلا مستند أصلا فبان خطأ، فإن هذا يحنث وذلك يحنث، مثل هذا وإن لم يعلم خطؤه وإن أصاب وهي مسألة حلفه أنه في الجنة وهذا كما تقول‏: المفتى إذا أفتى بغير علم أنه أثم وإن أصاب، وكذلك المصلي إلى القبلة بغير اجتهاد، وكذلك المفسر للقرآن برأيه‏.‏
ولهذا تجد هؤلاء في أخبارهم من أكثر الناس كذبا، بل الكذب كالصدق عندهم، فيستعملونه بحسب الحاجة، ولا يبالون إذا أخبروا عن الشيء الواحد بخبرين متناقضين، وتجدهم في أعمالهم بحسب أهوائهم، فيعملون العملين المتناقضين أيضا، إذا وافق هذا هواهم في وقت، وهذا هواهم في وقت
وهم دائما مع المطاع، سواء كان مؤمنا أو كافراً، أو براً أو فاجراً، أو صديقاً أو زنديقاً‏.‏ والتتار قبل إسلامهم،وإن شركوهم في هذا، فهم أحسن منهم في الخبريات؛ إذ التتار لا يخبرون عن الأمور الإلهية بالخبرين المتناقضين بل أحدهم إما أن يعتقد الشيء علماً أو تقليداً،أو لا يعتقد شيئا، فأما أن يجمع

 

ص -101-

بين النقيضين فلا،فهؤلاء شر حالا من مثل التتار؛ولهذا ليس لهم عاقبة، فإنهم ليسوا متقين يميزون بين مأمور، ومحظور،وصدق وكذب، والعاقبة إنما هي للمتقين، وإنما قيام أحدهم بقدر ما يكون قادراً‏.‏
ومعلوم أن قدرة أحدهم لا تدوم، بل يعمل بها من الأعمال ما يكون سبب الوبال، ولا ريب أن هؤلاء مندرجون في قوله تعالى‏:
‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏: ‏1‏]‏، وفي قوله‏: ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ‏}‏ ‏[‏محمد‏: ‏3‏]‏ وقوله‏: ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏39‏]‏، وفي قوله‏: ‏{‏ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏: ‏18‏]‏، وفي قوله‏: ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏171‏]‏، وفي قوله‏: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏‏[‏الأعراف‏: ‏179‏]‏‏.‏
ولا ريب أن الحق نوعان‏: حق موجود، وبه يتعلق الخبر الصادق، وحق مقصود، وبه يتعلق الأمر الحكيم، والعمل الصالح، وضد الحق الباطل، ومن الباطل الثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏كل لهو يلهو الرجل به فهو باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق‏"‏‏.‏والحق الموجود إذا أخبر عنه بخلافه كان كذبا، وهؤلاء لا يميزون بين الحق والباطل، بين الحق الموجود الذي ينبغي اعتقاده، والباطل المعدوم الذي ينبغي نفيه في الخبر

 

ص -102-

 عنهما، ولا بين الحق المقصود الذي ينبغي اعتماده، والباطل الذي ينبغي اجتنابه، بل يقصدون ما هووه وأمكنهم منهما‏.‏  وأصدق الحق الموجود ما أخبر الله بوجوده، والخبر الحق المقصود ما أمر الله به‏.‏ وإن شئت قلت‏: أصدق خبر عن الحق الموجود خبر الله، وخير أمر بالحق المقصود أمر الله، والإيمان يجمع هذين الأصلين‏: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر‏.‏ وإذا قرن بينهما قيل‏: ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏: ‏107‏]‏،والعمل خير من القول، كما قال الحسن البصري‏: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل‏.‏

 

ص -103-

سئل الشيخ عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد
، وتعلق كل منهم بسبب‏.‏ ومنهم من قال‏: إن يونس القتات يخلِّص أتباعه ومريديه من سوء الحساب، وأليم العقاب‏.‏
ومنهم من يزعم أن علىا الحريري كان قد أعطى من الحال ما إنه إذا خلا بالنساء والمردان، يصير فرجه فرج امرأة‏.‏
ومنهم من يدعي النبوة، ويدعي أنه لابد له من الظهور في وقت، فيعلو دينه وشريعته، وإن من شريعته السوداء تحريم النساء، وتحليل الفاحشة اللوطية، وتحريم شيء من الأطعمة وغيرها، كالتين، واللوز، والليمون‏.‏ وتبعه طائفة، منهم من كان يصلي فترك الصلاة، ويجتمع به نفر مخصوصون في كثير من الأيام ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏.‏
فأجاب ‏.‏
أما قول القائل‏: إن يونس القتات يخلص أتباعه ومريديه من سوء الحساب، وأليم العذاب يوم القيامة‏.‏

 

ص -104-

فيقال جوابا عامًا‏:
من ادعى أن شيخًا من المشايخ يخلص مريديه يوم القيامة من العذاب، فقد ادعي أن شيخه أفضل من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومن قال هذا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل
فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏"‏يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، سلوني ما شئتم من مالي‏"‏، وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏: ‏"‏لا ألْفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة، وعلى رقبته بعير له رُغَاء، فيقول‏: يا رسول الله، أغثني ‏!‏ فأقول‏: لا أغني عنك من الله شيئًا قد بلغتك‏"‏ الحديث بتمامه‏.‏ وذكر مثل ذلك في غير ذلك من الأقوال‏.‏
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل هذا لأهل بيته، وأصحابه الذين آمنوا به، وعزروه ونصروه، من المهاجرين والأنصار يقول إنه ليس يغني عنهم من الله شيئا فكيف يقال في شيخ غايته أن يكون من التابعين لهم بإحسان‏؟‏وقد قال تعالى‏: ‏
{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏: 17‏: 19‏]‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 48‏]‏ أمثال ذلك من نصوص القرآن والسنة‏.‏
وقد علم أنه ليس للأنبياء وغيرهم يوم القيامة إلا الشفاعة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن الناس يأتون آدم ليشفع فيقول‏: نفسي نفسي، وكذلك يقول نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل

 

ص -105-

وهم أفضل الخلق، ويقول لهم عيسى‏: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، فيقول‏: أي محمد، ارفع رأسك وقل يسمع، واسأل تعط، واشفع تشفع، فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، وذكر مثل ذلك في المرة الثانية‏.‏
فهذا خير الخلق وأكرمهم على الله، إذا رأى ربه لا يشفع حتى يسجد له، ويحمده، ثم يأذن له في الشفاعة، فيحد له حدًا يدخلهم الجنة، وهذا تصديق قوله تعالى‏: ‏
{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 255‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏
وقد جاء في الحديث الصحيح‏: أنه تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، لكن بإذنه في أمور محدودة‏.‏ ليس الأمر إلى اختيار الشافع‏.‏ فهذا فيمن علم أنه يشفع، فلو قال قائل‏: إن محمدًا يخلص كل مريديه من النار، لكان كاذبًا، بل في أمته خلق يدخلون النار، ثم يشفع فيهم‏.‏ وأما الشيوخ فليس لهم شفاعة كشفاعته، والرجل الصالح قد يشفعه الله فيمن يشاء، ولا شفاعة إلا في أهل الإيمان‏.‏
وأما المنتسبون إلى الشيخ يونس، فكثير منهم كافر بالله ورسوله، لا يقرون بوجوب الصلاة الخمس، وصىام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، بل لهم من الكلام في سب الله ورسوله، والقرآن والإسلام، ما يعرفه من عرفهم‏.‏

 

ص -106-

وأما من كان فيهم من عامتهم لا يعرف أسرارهم وحقائقهم فهذا يكون معه إسلام عامة المسلمين، الذي استفاده من سائر المسلمين لا منهم، فإن خواصهم مثل الشيخ سلول، وجهلان، والصهباني وغيرهم، فهؤلاء لم يكونوا يوجبون الصلاة، بل ولا يشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة‏.‏
وفي أشعارهم كشعر الكوجلي وغيره من سب النبي صلى الله عليه وسلم، وسب القرآن والإسلام، ما لا يرضي به لا اليهود، ولا النصارى‏.‏ ثم منهم من يقول‏: هذا الشعر ليونس‏.‏ ومنهم من يقول‏: هو مكذوب على يونس، لكن من المعلوم المشاهد أنهم ينشدون الكفر ويتواجدون عليه، ويبول أحدهم في الطعام ويقول‏: يشرح كبدي يونس، أو ماء وَرْدِ يونس، ويستحلون الطعام الذي فيه البول ويرون ذلك بركة‏.‏
وأما كفرياتهم مثل قولهم‏: وأنا حميت الحمى، وأنا سكنت فيه، وأنا تركت الخلائق في مجاري التيه، موسى على الطور لما خر لي ناجى، وصاحب أقرب أنا جنبوه حتى جا، يوم القيامة يرى الخلائق أفواجا، إلى نبيه عيسى يقضى لهم حاجا‏.‏
ويقولون‏: تعالوا نخرب الجامع ونجعل منه جمارة، ونكسر خشب المنبر ونعمل منه زنارة، ونحرق ورق ونعمل منه طنبارة، ننتف لحية القاضي ونعمل منه أوتاره‏.‏ أنا حملت على العرش حتى صج، وأنا صرخت في محمد حتى هج، وأن البحار السبعة من هيبتي ترتج‏.‏

 

ص -107-

وأمور أخر أعظم من هذا وأعظم من أن تذكر، لما فيها من الكفر الذي هو أعظم من قول الذين قالوا‏: إن لله ولدًا‏.‏
وأما قول القائل‏: إن من الشيوخ من كان يتحول فرجه فرج امرأة، فكذب مختلق، بل في طريقه من المنكرات المخالفة لدين الإسلام ما يعرفه من يعرف دين الإسلام، وأصحابه ينقلون عنه كفريات سطروها عنه، كقوله‏: لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئا، ومعلوم أن قتل نبي واحد من أعظم الكفر، وفي الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏أشد الناس عذابًا يوم القيامة من قتل نبيًا أو قتله نبي‏"‏
وإذا قيل‏: هذا قاله مشاهدة للحقيقة، القدرية الكونية، أن الله خالق أفعال العباد كان العذر أقبح من الذنب، فإنه لو كان القدر حجة، لم يكن على إبليس وفرعون وسائر الكفار ملام، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا المحتج بالقدر لو تعدى عليه أحد لقاتله، وغضب عليه‏.‏ فإن كان القدر حجة، فهو حجة يفعل به ما يريد، وإن لم يكن حجة لم يؤذ آدميًا، فكيف يكون حجة لمن يكفر بالله ورسوله‏؟‏
وآدم عليه السلام إنما حج موسى، لأن موسى لامه لما أصابه من المصيبة، لم يلمه لحق الله تعالى في الذنب، فإن آدم تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، بل قال له‏: بماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ قال‏: تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة‏؟‏ فحج آدم موسى

 

ص -108-

وكذا يؤمر كل من أصابه مصيبة من جهة أبيه وغيره‏.‏ أن يسلم لقدر الله، كما قال تعالى‏: ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏: 11‏]‏‏.‏ قال علقمة‏: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضي ويسلم‏.‏ وأما الذنوب‏: فعلى العبد ألا يفعلها، فإن فعلها فعليه أن يتوب منها، فمن تاب وندم أشبه أباه آدم، ومن أصر واحتج أشبه عدوه إبليس، قال الله تعالى‏: ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ‏}‏‏[‏غافر‏: 55‏]‏‏.‏ فالمؤمن مأمور أن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب‏.

 

ص -109-

فصل
وأما الذي يدعي النبوة، وأنه يبيح الفاحشة اللوطية، ويحرم النكاح، وما ذكر من ذلك‏: فهذا أمر أظهر من أن يقال عنه، فإنه من الكافرين، وأخبث المرتدين، وقتل هذا ومن اتبعه واجب بإجماع المسلمين، والواحد من هؤلاء إما أن يخاطب بالحجة لعل الله أن يتوب عليه ويهديه، وإما أن يقام عليه الحد فيقتل‏.‏ فمن كان قادرًا على أحد الأمرين لزمه ذلك، ومن عجز عن هذا وهذا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكن عليه أن يعرف المعروف، ويحبه، وينكر المنكر، ويبغضه، ويفعل ما يقدر عليه من الأمرين من الأمر والنهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:
‏"‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال ذرة‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم ‏.‏

 

ص -110-

المسؤول من إحسان شيخ الإسلام مفتى الأنام تقي الدين أثابه الله الجنة:

 أن يفتينا في رجلين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين، وهما قول القائل‏:

 الرب حق والعبد حق

 ياليت شعري من المكلف

 إن قلت عبد فذاك ميت

 أو قلت رب إني يكلف

 فقال أحد الرجلين‏: هذا القول كفر، فإن القائل جعل الرب والعبد حقًا واحدًا ليس بينهما فرق، وأبطل التكليف‏.‏ فقال له الرجل الثاني‏: ما فهمت المعني، ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده، فإن القائل قال‏: الرب حق، والعبد حق، أي الرب حق في ربوبيته، والعبد حق في عبوديته، فلا الرب عبدًا، ولا العبد ربًا كما زعمت‏.‏
ثم قال‏:

 ياليت شعري من المكلف

 مع علمه أن التكليف حق

فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال‏: إن قلت‏: عبد فذاك ميت، والميت‏: ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء، وكذلك العبد وإن كان

 

ص -111-

 حيًا فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله؛ لأنه سبحانه لو لم يقوِّ العبد على القيام بالتكليف، لما قدر على ذلك‏.‏ فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازا، ودليل ذلك قول‏: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، أي لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله‏.‏
وقد علم أن الرب ليس عليه تكليف؛ لأنه لا مكلف له، والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله، والتكليف حق ‏.‏
فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال ‏!‏ وحار في ذلك مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير، فمع أيهما الحق‏؟‏
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه فقال‏:
الحمد لله، كلام هذا الثاني كلام باطل، وخوض فيما لم يحط بعلمه، ولم يعرف حقيقته، ولا هو عارف بحقيقة قول ابن عربي وأصله، الذي تفرع منه هذا الشعر وغيره، ولا هو أخذ بمقتضى هذا اللفظ ومدلوله‏.‏
فأما أصل ابن عربي فهو أن الوجود واحد‏.‏ وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، والقول بأن المعدوم شيء وأعيان المعدومات ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

 

ص -112-

ولهذا قال‏: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏: 24‏]‏ أي‏: وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، وأقروا له بذلك‏.‏ فقالوا له‏: ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏‏[‏طه‏: 72‏]‏، والدولة لك، فصح قول فرعون‏: ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏‏.‏ وإن كان عين الحق ‏.‏
قال‏: ومن أسمائه الحسنى العلى؛ على من‏: وما ثم إلا هو‏؟‏ وعن ماذا؛ وما هو إلا هو‏؟‏ إلى قوله‏: ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، فالآمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق هو الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة‏.‏
وقال‏: ألا ترى أن الحق يظهر بصفات الخلق‏؟‏فكل صفات الحق حق له، كما أن صفات المحدثات حق للخالق ونحو ذلك، مما يكثر في كلامه، وهذا الرجل له ترتيب في سلوكه، من جنس ترتيب الملاحدة، القرامطة‏.‏ فأول ما يظهر اعتقاد معتزلة الكلابية، الذين ينفون الصفات الخبرية، ويثبتون الصفات السبعة أو الثمانية، ثم بعد ذلك اعتقاد الفلاسفة، الذين ينفون الصفات ويثبتون وجودًا واجبا مجردًا، صدرت عنه الممكنات‏.‏

 

ص -113-

ثم بعد هذا يجعل هذا الوجود هو وجود كل موجود، فليس عنده وجودان‏: أحدهما واجب، والآخر ممكن‏.‏ ولا أحدهما خالق، والآخر مخلوق، بل عين الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، مع تعدد المراتب، والمراتب عنده هي الأعيان الثابتة في العدم، على زعم من يقول‏: إن المعدوم شيء، ولا ريب أن من جعل المعدوم شيئا ثابتا في الخارج عن الذهن فقوله باطل‏.‏
لكن أولئك يقولون‏: إن الخالق جعل لهذه الأعيان وجودًا مخلوقًا، وابن عربي يقول‏: بل نفس وجوده فاض عليها، فهي مفتقرة إليه في وجوده، وهو مفتقر إلى ثبوتها، ولهذا قال‏: فيعبدني وأعبده، ويحمدني وأحمده، ولهذا امتنع التكليف عنده، فإن التكليف يكون من مكلِّف لمكلَّف، أحدهما آمرًا والآخر مأمورًا، فامتنع التكليف‏.‏
ولهذا مثل ما يوجد من الكلام والسمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به‏"‏‏.‏ فلما كان المحدث هنا هو المحدث، جعل هذا مثلا لوجود الرب، فعنده كل كلام في الوجود كلامه وهو المتكلم عنده، وهو المستمع‏.‏
ولهذا يقول‏:

 إن قلت عبد فذاك ميت

 وفي موضع آخر رأيته بخطه‏

ص -114-

إن قلت عبد فذاك نفى
لأن العبد ليس له عنده وجود مخلوق، بل وجوده هو الوجود الواجب القديم عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ‏.‏
فإن كلام الرجل يفسر بعضه بعضا، وهذا الأصل وهو القول بوحدة الوجود قوله وقول ابن سبعين، وصاحبه الششتري، والتلمساني، والصدر القونوي، وسعيد الفرغاني، وعبد الله البلياني، وابن الفارض صاحب نظم السلوك، وغير هؤلاء من أهل الإلحاد، القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد‏.‏
وأما مدلول هذا الشعر‏: فإن قوله‏:
ياليت شعري من المكلف
استفهام إنكار للمكلف‏.‏ ثم قال‏:
إن قلت عبد فذاك ميت
وفي موضع آخر قال‏: فذاك نفى‏.‏ وكلاهما باطل، فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم منتف، ولكن الله هو الذي جعله موجودًا ثابتا، وهذا هو دين المسلمين، أن كل ما سوى الله مخلوق لله موجود، يجعل الله له وجودًا، فليس لشيء من الأشياء وجود إلا بإيجاد الله له، وهو باعتبار نفسه لا يستحق إلا العدم‏.‏ ‏.‏ ‏.‏
موجودًا حيًا ناطقًا فاعلا مريدًا قادرًا، بل هذا كله‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ لا يمنع ثبوت ذواتها، وصفاتها، وأفعالها‏.‏

 

ص -115-

فهو سبحانه هو الذي جعل الحي حيًا، بل هو الذي جعل المسلم مسلما، والمصلى مصليا، كما قال الخليل‏: ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 128‏]‏، وقال‏: ‏{‏رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏: 40‏]‏‏.‏
وهذه مسألة خلق أفعال العبيد، وهي مذهب أهل السنة والجماعة، مع اتفاقهم على أن العبد مأمور منهي، مثاب معاقب، موعود متوعد، وهو سبحانه الذي جعل الأبيض أبيض، والأسود أسود، والطويل طويلا، والقصير قصيرًا، والمتحرك متحركا، والساكن ساكنًا، والرطب رطبا، واليابس يابسًا، والذكر ذكرًا، والأنثي أنثى، والحلو حلوا، والمر مرًا‏.‏
ومع هذا، فالأعيان تتصف بهذه الصفات، والله تعالى خالق الذوات وصفاتها، فأي عجب من اتصاف الذات المخلوقة بصفاتها‏؟‏ ومن أين يكون الله خالق ذلك كله بالحق‏؟‏ فإذا قال القائل‏: الرب حق والعبد حق‏: فإن أراد به أن هذا الحق هو عين هذا، فهذا هو الاتحاد والإلحاد، وهذا هو الذي ينافي التكليف‏.‏ وإن أراد أن العبد حق مخلوق، خلقه الخالق، فهذا مذهب المسلمين، وذلك لا ينافي أن يكون الخالق مُمكنًا للمخلوق، كما أنه خالق له‏.‏
وقوله‏:
إن قلت عبد فذاك ميت‏.‏ كذب، فإن العبد ليس بميت، بل هو حي أحياه الله تعالى، كما قال تعالى‏: ‏{
‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏: 28‏]‏، والله لا يكلف الميت، وإنما يكلف الحي، وإذا قيل‏: إنه أراد بقوله‏: ‏[‏ميت‏]‏ أنه باعتبار نفسه لا حياة له‏.‏ قيل‏: تفسير مراده بهذا فاسد لفظًا ومعنى، أما اللفظ فلأن كلامه لا يقتضي ذلك، وأما المعنى فلأنه إذا فسر ذلك لم يناف التكليف‏.‏

 

ص -116-

 فإذا كان ميتًا لولا إحياء الله وقد أحياه الله، فقد صار حيًا بإحياء الله له، وحينئذ فالله إنما كلف حيًا لم يكلف ميتًا، وأما أقوال إخوان الملاحدة والمحامين عنهم أنه قال‏:
ليت شعري من المكلف
مع علمه بأن التكليف حق فحار لمن ينسبه في القيام به‏.‏ فقال‏:
إن قلت عبد فذاك ميت
والميت، ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء‏.‏
وكذلك العبد وإن كان حيًا فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل، ليس له من نفسه فعل بغير الله‏.‏ فيقال لهم‏: هذا العذر باطل من وجوه‏:
أحدها‏: لأنه لا حيرة هنا، بل المكلف هو العبد بلا امتراء ولا حيرة، فإن الله يمتنع أن يكون هو المكلف بالصيام، والطواف، ورمي الجمار، بل هو الآمر بذلك، والعبد هو المأمور بذلك، ومن حار‏: هل المأمور بذلك الله أو العبد‏؟‏ فهو إما يكون فاسد العقل مجنونًا، وإما فاسد الدين ملحدًا زنديقا‏.‏
وكون الله خالقًا للعبد ولفعله، لا يمنع أن يكون العبد هو المأمور المنهي، فإنه لم يقل أحد قط‏: إن الله هو الذي يركع، ويسجد، ويطوف، ويرمي الجمار، ويصوم شهر رمضان، بل جميع الأمة متفقون على أن العبد هو الراكع، الساجد، الصائم، العابد، لا نزاع في ذلك بين أهل السنة والقدرية‏.‏
الثاني‏: أن قوله‏: إن العبد وإن كان حيًا فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس بصحيح، فإن الميت ليس له إحساس، ولا إرادة، لما يقوم

 

ص -117-

به من الحركة، ولا قدرة على ذلك، ولا يوصف بأنه يحب الفعل، أو يبغضه، أو يريده، أو يكرهه، ولا أنه يركع ويسجد، ويصوم ويحج، ويجاهد العدو
وقول من قال بهذا‏: لا يحمد الميت على فعل الغاسل، ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب، وأما العبد فإن الله جعله حيًا مريدًا، قادرًا فاعلا، وهو يصوم ويصلي، ويحج ويقتل، ويزني باختياره ومشيئته، والله خالق ذاته وصفاته وأفعاله، فله مشيئة والله خالق مشيئته، كما قال تعالى‏:
‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: 28، 29‏]‏‏.‏
وله قدرة، والله خالق قدرته، وهو مصل صائم، حاج معتمر، والله خالقه وخالق أفعاله، فتمثيله بالميت تمثيل باطل‏.‏
الثالث‏: أن يقال‏: إن كان كالميت مع الغاسل، فيكون الغاسل هو المكلف، فيكون الله هو المكلف، فيلزم أن يكون الرب هو المكلف‏.‏
الرابع‏: أن عقلاء بني آدم متفقون على ما فطرهم الله عليه، من أن العبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، متفقون على أن من احتج بالقدر على ظلمه وفواحشه، لم يقبل ذلك منه، فلو ظلم ظالم لغيره، لم يقبل أحد منه أن يدفع عن نفسه الملام بالقدر‏.‏ وأما الميت فليس في العقلاء من يذمه، ولا يأمره ولا ينهاه، فكيف يقاس هذا بهذا‏؟‏
وأما قول القائل‏: فإن الله لو لم يُقَوِّ العبد على التكليف لما قدر على ذلك

 

ص -118-

‏ فكلام صحيح، لكن ليس فيه ما ينافي أن يكون مكلفًا، مأمورًا منهيًا، مصليا صائما، قاتلا زانيا‏.‏
وأما قوله‏: فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازًا، فهذا كلام باطل، بل العبد هو المصلي الصائم، الحاج المعتمر المؤمن، وهو الكافر الفاجر، القاتل الزاني، السارق حقيقة، والله تعالى لا يوصف بشيء من هذه الصفات، بل هو منزه عن ذلك، لكنه هو الذي جعل العبد فاعلا لهذه الأفعال، فهذه مخلوقاته ومفعولاته حقيقة، وهي فعل العبد أيضا حقيقة‏.‏
ولكن طائفة من أهل الكلام المثبتين للقدر ظنوا أن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله، قالوا‏: فهي فعله‏.‏ فقيل لهم مع ذلك‏: أهي فعل العبد‏؟‏ فاضطربوا، فمنهم من قال‏: هي كسبه لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق‏.‏ ومنهم من قال‏: بل هي فعل بين فاعلين‏.‏ ومنهم من قال‏: بل الرب فعل ذات الفعل، والعبد فعل صفاته‏.‏
والتحقيق ما عليه أئمة السنة، وجمهور الأمة، من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة، مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة، مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته،

 

ص -119-

وإنما يتصف بخلقه وفعله، كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعولة للرب‏.‏
لكن هذه الصفات لم يخلقها الله بتوسط قدرة العبد، ومشيئته، بخلاف أفعاله الاختيارية، فإنه خلقها بتوسط خلقه لمشيئة العبد وقدرته، كما خلق غير ذلك من المسببات بواسطة أسباب أخر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن هذا قدر ما وسعته هذه الورقة، والله أعلم‏.‏

 

ص -120-

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين‏: (كتاب فصوص الحكم)
في كتاب بين أظهر الناس، زعم مصنفه أنه وضعه وأخرجه للناس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، في منام زعم أنه رآه، وأكثر كتابه ضد لما أنزله الله، من كتبه المنزلة، وعكس وضد عن أقوال أنبيائه المرسلة، فمما قال فيه‏: إن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانًا؛ لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، الذي يكون به النظر‏.‏
وقال في موضع آخر‏: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه‏.‏ وقال في قوم نوح عليه السلام‏: إنهم لو تركوا عبادتهم لوَدٍّ، وسُوَاع، ويَغُوث، ويَعوق، ونَسْر، لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء‏.‏ ثم قال‏: فإن للحق في كل معبود وجهًا، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله‏.‏ فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة‏.‏
ثم قال في قوم هود عليه السلام بأنهم حصلوا في عين القرب، فزال البعد، فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب، من جهة الاستحقاق مما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ، من جهة المنة، فإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم، التي كانوا عليها، وكانوا على صراط الرب المستقيم‏.‏

 

ص -121-

ثم إنه أنكر فيه حكم الوعيد، في حق كل من حقت عليه كلمة العذاب من سائر العبيد، فهل يكفر من يصدقه في ذلك أم لا‏؟‏ أو يرضي به منه أم لا‏؟‏ وهل يأثم سامعه إذا كان عاقلًا بالغًا ولم ينكره بلسانه أو بقلبه أم لا‏؟‏ أفتونا بالوضوح والبيان، كما أخذ الميثاق للتبيان، فقد أضر الإهمال بالضعفاء والجهال، وبالله المستعان وعليه الاتكال، أن يعجل بالملحدين النكال، لصلاح الحال، وحسم مادة الضلال‏.‏
فأجاب‏:
الحمد لله، هذه الكلمات المذكورة، المنكورة كل كلمة منها هي من الكفر، الذي لا نزاع فيه بين أهل الملل، من المسلمين، واليهود والنصارى، فضلا عن كونه كفرًا في شريعة الإسلام‏.‏
فإن قول القائل‏: إن آدم للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، الذي يكون به النظر يقتضى أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس وبعض منه، وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه، وهذا هو حقيقة مذهب هؤلاء القوم، وهو معروف من أقوالهم‏.‏
الكلمة الثانية‏: توافق ذلك، وهو قوله‏: إن الحق المنزه، هو الخلق المشبه‏.‏
ولهذا قال في تمام ذلك‏: فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة ‏{
‏فّانظٍرً مّاذّا تّرّى‏}‏، ‏{‏يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ‏}‏ ‏[‏الصافات‏: 102‏]‏، والولد عين أبيه، فما رأى يذبح

 

ص -122-

سوى نفسه، ففديناه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش، من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة، لا بحكم ولد من هو عين الوالد، ‏{‏وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏: 1‏]‏، فما نكح سوى نفسه‏.‏
وقال في موضع‏: وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال‏: إن العالم صورته وهويته‏.‏
وقال‏: ومن أسمائه الحسنى العلى، على من ‏!‏ وما ثم إلا هو‏؟‏ وعن ماذا ‏!‏ وما هو إلا هو‏؟‏ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات‏.‏ فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها، وليست إلا هو‏.‏ إلى أن قال‏: فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات‏.‏
إلى أن قال‏: فالعلى لنفسه هو الذي يكون له الكمال، الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفًا وعقلًا وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلًا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى اللّه خاصة وقال‏: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات‏؟‏ وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص والذم، ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق ‏؟‏‏!‏ فهي من أولها إلى آخرها صفات له، كما هي صفات المحدثات حق للحق، وأمثال هذا الكلام‏.‏
فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ وأمثاله

 

ص -123-

مثل صاحبه القونوي، والتلمساني، وابن سبعين، والششتري، وابن الفارض وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه‏: أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن، وقبيح، ومدح، وذم، إنما المتصف به عندهم عين الخالق، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلا، بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق، ولا سواه‏.‏
ومن كلماتهم‏: ليس إلا الله‏.‏ فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم؛ لأنه ما عندهم له غير، ولهذا جعلوا قوله تعالى‏: ‏
{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: 23‏]‏ بمعنى‏: قدر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته، فكل عابد صنم إنما عَبَدَ الله‏.‏
ولهذا جعل صاحب هذا الكتاب عُبَّاد العجل مصيبين، وذكر أن موسى أنكر على هارون إنكاره عليهم عبادة العجل‏.‏ وقال‏: كان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبدوا إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون، لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتباعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء‏.‏
ولهذا يجعلون فرعون من كبار العارفين، المحققين، وأنه كان مصيبًا في دعواه الربوبية‏.‏ كما قال في هذا الكتاب‏: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي لذلك، قال‏
: ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏‏[‏النازعات‏: 24‏]‏

 

ص -124-

أي‏: وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيهم‏.‏
ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله، لم ينكروه، بل أقروا له بذلك وقالوا له‏: ‏
{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ‏}‏ ‏[‏طه‏: 72‏]‏، فالدولة لك، فصح قول فرعون‏: ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ وأنه كان عين الحق ‏.‏
ويكفيك معرفة بكفرهم‏: أن من أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمنا، بريا من الذنوب كما قال‏: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان، الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرًا مطهرًا، ليس فيه شيء من الخبث؛ لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام، والإسلام يَجُبُّ ما قبله‏.‏
وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين، واليهود، والنصارى‏: أن فرعون من أكفر الخلق بالله، بل لم يقص الله في القرآن قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصة فرعون، ولا ذكر عن أحد من الكفار من كفره، وطغيانه وعلوه، أعظم مما ذكر عن فرعون‏.‏
وأخبر عنه وعن قومه أنهم يدخلون أشد العذاب، فإن لفظ آل فرعون كلفظ آل إبراهيم، وآل لوط، وآل داود، وآل أبي أوفى، يدخل فيها المضاف باتفاق الناس، فإذا جاؤوا إلى أعظم عدو لله من الإنس، أو من هو من أعظم أعدائه فجعلوه مصيبا، محقًا فيما كفره به الله، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم‏؟‏

 

ص -125-

 وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته‏.‏
والسلف والأئمة كفَّروا الجهمية لما قالوا‏: إنه في كل مكان، وكان مما أنكروه عليهم‏: أنه كيف يكون في البطون، والحشوش، والأخلية‏؟‏ تعالى الله عن ذلك‏.‏ فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون، والحشوش، والأخلية، والنجاسات، والأقذار‏؟‏
واتفق سلف الأمة وأئمتها‏: أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقال من قال من الأئمة‏: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها‏.‏
وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء‏؟‏ فإن هؤلاء غاية كفرهم أن يجعلوه مثل المخلوقات‏.‏
لكن يقولون‏: هو قديم، وهي محدثة، وهؤلاء جعلوه عين المخلوقات، وجعلوه نفس الأجسام المصنوعات، ووصفوه بجميع النقائص والآفات، التي يوصف بهما كل كافر، وكل فاجر، وكل شيطان، وكل سبع، وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم، وسبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرًا‏.‏
والله تعالى ينتقم لنفسه، ولدينه، ولكتابه ولرسوله، ولعباده المؤمنين منهم‏.‏

 

ص -126-

وهؤلاء يقولون‏: إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم، حيث قالوا‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: 17‏]‏ ‏.‏ فكل ما قالته النصارى في المسيح يقولونه في الله، وكٌفْر النصارى جزء من كفر هؤلاء‏.‏
ولما قرؤوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخرىهم، قال له قائل‏: هذا الكتاب يخالف القرآن‏.‏ فقال‏: القرآن كله شرك‏.‏ وإنما التوحيد في كلامنا هذا‏: يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد، وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد، فقال له القائل‏: فأي فرق بين زوجتي وبنتي إذا‏؟‏ قال‏: لا فرق، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏: حرام، فقلنا‏: حرام عليكم‏.‏
وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم‏: إنها كفر، لم يُفْهِم هذا اللفظ حالها، فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، بل كفر كل كافر جزء من كفرهم؛ ولهذا قيل لرئيسهم‏: أنت نصيري‏.‏ فقال‏: نصير جزء مني، وكان عبد الله بن المبارك يقول‏: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهؤلاء شر من أولئك الجهمية، فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كل مكان، وهؤلاء قولهم‏: إنه وجود كل مكان، ما عندهم موجودان، أحدهما حال والآخر محل، ولهذا قالوا‏: إن آدم من الله بمنزلة إنسان العين من العين، وقد علم المسلمون، واليهود، والنصارى؛ بالاضطرار من دين المرسلين‏: أن من قال عن أحد من البشر‏: إنه جزء من الله فإنه كافر في جميع الملل؛ إذ النصارى لم تقل هذا

 

ص -127-

وإن كان قولها من أعظم الكفر لم يقل أحد‏: إن عين المخلوقات هي جزء الخالق، ولا أن الخالق هو المخلوق، ولا الحق المنزه هو الخلق المشبه‏.‏
وكذلك قوله‏: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله، كما قال الله تعالى‏:
‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: 4‏]‏‏.‏
وقال الخليل‏: ‏
{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏الشعراء‏: 75‏: 77‏]‏، وقال الخليل لأَبيِهِ وقومه ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: 26، 27‏]‏، وقال الخليل وهو إمام الحنفاء الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله -‏: ‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 78، 79‏]‏‏.‏
وهذا أكثر وأظهر، عند أهل الملل من اليهود، والنصارى فضلا عن المسلمين من أن يحتاج أن يستشهد عليه بنص خاص، فمن قال‏: إن عباد الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فهو أكفر من

 

ص -128-

اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها‏؟‏ مع قوله‏: فإن العالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، بل هو أعظم من كفر عباد الأصنام؛ فإن أولئك اتخذوهم شفعاء، ووسائط، كما قالوا‏: ‏‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏، وقال الله تعالى‏: ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ‏}‏‏[‏الزمر‏: ‏43‏]‏
وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض، وخالق الأصنام، كما قال تعالى‏:
‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏38‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏106‏]‏‏.‏
قال ابن عباس‏: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون‏: الله، ثم يعبدون غيره، وكانوا يقولون في تلبيتهم‏: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك؛ ولهذا قال تعالى‏:
‏{‏ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏[‏الروم‏: ‏28‏]‏
وهؤلاء أعظم كفرًا، من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدًا لله لا عابدًا لغيره، وأن الأصنام من الله بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان،

 

ص -129-

وبمنزلة قوى النفس من النفس، وعباد الأصنام اعترفوا بأنها غيره، وأنها مخلوقة، ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب كانوا مقرين بأن للسموات والأرض ربًا غيرهما خلقهما، وهؤلاء ليس عندهم للسموات، والأرض، وسائر المخلوقات رب مغاير للسموات والأرض، وسائر المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق‏.‏
ولهذا جعل قوم عاد، وغيرهم من الكفار، على صراط مستقيم، وجعلهم في عين القرب، وجعل أهل النار يتمتعون في النار، كما يتمتع أهل الجنة في الجنة‏.‏
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام‏: أن قوم عاد وثمود، وفرعون وقومه، وسائر من قص الله قصته من الكفار أعداء الله، وأنهم معذبون في الآخرة، وأن الله لعنهم وغضب عليهم، فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم، فهو أكفر من اليهود والنصارى، من هذا الوجه‏.‏
وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء، وبيان كفرهم وإلحادهم، فإنهم من جنس القرامطة الباطنية، والإسماعيلية، الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل، كما قال الشيخ إبراهيم الجعبري، لما اجتمع بابن عربي صاحب هذا الكتاب فقال‏: رأيته شيخًا نجسًا، يكذب بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله‏.‏

 

ص -130-

وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام لما قدم القاهرة وسألوه عنه قال‏: هو شيخ سوء كذاب مقبوح، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، فقوله‏: يقول بقدم العالم، لأن هذا قوله، وهذا كفر معروف، فكفره الفقيه أبو محمد بذلك، ولم يكن بعد ظهر من قوله‏: إن العالم هو الله، وإن العالم صورة الله، وهوية الله، فإن هذا أعظم من كفر القائلين بقدم العالم، الذين يثبتون واجب الوجود، ويقولون‏: إنه صدر عنه الوجود الممكن‏.‏
وقال عنه من عاينه من الشيوخ‏: إنه كان كذابًا مفتريا، وفي كتبه مثل الفتوحات المكية وأمثالها من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب‏.‏ هذا وهو أقرب إلى الإسلام من ابن سبعين، ومن القونوي، والتلمساني، وأمثاله من أتباعه، فإذا كان الأقرب بهذا الكفر الذي هو أعظم من كفر اليهود والنصارى فكيف بالذين هم أبعد عن الإسلام‏؟‏ ولم أصف عُشْر ما يذكرونه من الكفر‏.‏
ولكن هؤلاء الْتَبَس أمرهم على من لم يعرف حالهم، كما الْتَبَسَ أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتبعون مائلين إليهم، غير عالمين بباطن كفرهم
ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين‏: إما زنديقًا منافقًا، وإما جاهلا ضالا‏.‏
وهكذا هؤلاء الاتحادية‏: فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة

 

ص -131-

أحد منهم، إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة، الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم، ومخالفتهم لدين المسلمين، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، أو‏: من قال‏: إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهل، أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله‏.‏
فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم، ويترك دينهم كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم، ولا يستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية‏.‏
ولهذا هم يريدون دولة التتار، ويختارون انتصارهم على المسلمين، إلا من كان عاميًا من شيعهم وأتباعهم، فإنه لا يكون عارفًا بحقيقة أمرهم‏.‏
ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويجعلونهم على حق، كما يجعلون عباد الأصنام على حق، وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر، ومن

 

ص -132-

كان محسنا للظن بهم وادعى أنه لم يعرف حالهم عُرِّف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم وجعل منهم‏.‏
وأما من قال‏: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رؤوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرًا فهو أكفر من النصارى، فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا كان عن تكفير النصارى بالتثليث، والاتحاد أبعد، والله أعلم‏.

 

ص -133-

وقال شيخ الإسلام‏: ‏أحمد بن تيمية قدس الله روحه‏:  بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الحق المبين‏.‏ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى سائر إخوانه المرسلين‏.‏
أما بعد‏:
فقد وصل كتابك، تلتمس فيه بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه، وإنك كنت قد سمعت مني بعض البيان لفساد قولهم، وضاق الوقت بك عن استتمام بقية البيان، وأعجلك السفر، حتى رأيت عندكم بعض من ينصر قولهم، ممن ينتسب إلى الطريقة والحقيقة، وصادف مني كتابك موقعًا، ووجدت محلا قابلا‏.‏
وقد كتبت بما أرجو أن ينفع الله به المؤمنين، ويدفع به بأس هؤلاء

 

ص -134-

الملاحدة المنافقين، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته المخلوقات والمنزلات في كتابه المبين، ويبين الفرق بين ما عليه أهل التحقيق واليقين، من أهل العلم والمعرفة المهتدين، وبين ما عليه هؤلاء الزنادقة المتشبهين بالعارفين، كما تشبه بالأنبياء من تشبه من المتنبئين، كما شبهوا بكلام الله ما شبهوه به من الشعر المفتعل وأحاديث المفترين؛ ليتبين أن هؤلاء من جنس الكفار المنافقين المرتدين، أتباع فرعون والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسى ونحوهما من المفترين، وأن أهل العلم والإيمان من الصديقين والشهداء والصالحين، سواء كانوا من المقربين السابقين، أو من المقتصدين أصحاب اليمين، هم من أتباع إبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ومحمد المبعوث إلى الناس أجمعين‏.‏
قد فرق الله في كتابه المبين الذي جعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والمؤمنين والكافرين، وقال تعالى‏: ‏
{‏أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏‏[‏الجاثية‏: ‏12‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏‏[‏ص‏: ‏82‏]‏، وقال‏: ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏‏[‏القلم‏: ‏35، 36‏]‏وقد بين حال من تشبه بالأنبياء وبأهل العلم والإيمان، من أهل الكذب والفجور الملبوس عليهم اللابسين، وأخبر أن لهم تنزلًا ووحيا ولكن من الشياطين، فقال‏: ‏‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏121‏]‏،

 

ص -135-

وقال تعالى‏: ‏‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏‏[‏الشعراء‏: 221، 222‏]‏‏.‏
وأخبر أن كل من ارتد عن دين الله فلابد أن يأتي الله بَدَلَه بمن يقيم دينه المبين، فقال‏:
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَل ِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏54‏]‏‏.‏
وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام، وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى، وشعر مفتعل، وإليهما أشار أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به‏: يا خليفة رسول الله، تألف الناس‏.‏ فأخذ بلحيته وقال‏: يا بن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام‏؟‏ علام أتألفهم‏؟‏ أعلى حديث مفترى أم شعر مفتعل‏؟‏ يقول‏: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي‏.‏  وهذان النوعان، هما اللذان يعارض بهما القرآن أهل الفجور والإفك المبين، قال تعالى‏:
‏‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏: 38: 43‏]‏،

 

ص -136-

وقال تعالى‏: ‏‏{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏}‏ [الشعراء: 192،193]، إلى قوله‏: ‏‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏
فذكر في هذه السورة علامة الكهان الكاذبين، والشعراء الغاوين، ونزهه عن هذين الصنفين، كما في سورة الحاقة‏.‏ وقال تعالى‏: ‏
{‏إنَّهٍ لّقّوًلٍ رّسٍولُ كّرٌيمُ‏.‏ ذٌي قٍوَّةُ عٌندّ ذٌي بًعّرًشٌ مّكٌينُ َ‏}‏إلى آخر السورة‏.‏ فالرسول هنا جبريل، وفي الآية الأولى محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نزه محمدًا هناك عن أن يكون شاعرًا أو كاهنا، ونزه هنا الرسول إليه أن يكون من الشياطين‏.‏

 

ص -137-

فصل‏:
اعلم هداك الله وأرشدك أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، لا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة؛ لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيرًا في قولهم، وإنما ينتحلون شيئا ويقولونه أو يتبعونه‏.‏
ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون‏:
ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون‏.‏
وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين‏: إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علوًا في الأرض وفسادًا، أو جامع بين الوصفين، وهذه حال

 

ص -138-

أتباع فرعون الذين قال الله فيهم‏: ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏54‏]‏
وحال القرامطة مع رؤسائهم‏.‏  وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ‏
{‏إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا‏}‏
إلى قوله‏: ‏‏{‏وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏64-68‏]‏ وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏165-167‏]‏‏.‏

 

ص -139-

فصل‏:
حقيقة قول هؤلاء‏: أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال‏: هم قائلون بالحلول رأوه محجوبًا عن معرفة قولهم، خارجا عن الدخول إلى باطن أمرهم؛ لأن من قال‏: إن الله يحل في المخلوقات، فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجودين‏:
أحدهما‏: وجود الحق الحال‏.‏
والثاني‏: وجود المخلوق المحل، وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة‏.‏
ولا ريب أن هذا القول أقل كفرًا من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان‏.‏ وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة كابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة‏.‏ وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم‏.‏
ولا ريب أن إلحاد هؤلاء المتأخرىن وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها‏.‏

 

ص -140-

وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان‏: أحدهما‏: لا يرضونه؛ لأن الاتحاد على وزن الاقتران، والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر، وهم لا يقرون بوجودين أبدًا والطريق الثاني‏: صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم‏.‏
وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي، فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول‏: إن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت‏.‏ وأما على قول من لا يفرق فيقول‏: إن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف، أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية‏.‏

 

ص -141-

فصل‏:
ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه‏: أن وجود المخلوقات والمصنوعات، حتى وجود الجن والشياطين، والكافرين والفاسقين، والكلاب والخنازير، والنجاسات والكفر، والفسوق والعصيان‏: عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقا له مربوبًا مصنوعا له قائمًا به‏.‏
وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقا وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره؛ لعدم كمال شهود الحق وتصوره‏.‏

 

ص -142-

 المقالة الأولى‏: مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم‏:
وهي مع كونها كفرًا فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرًا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى‏.‏ والله أعلم بما مات عليه، فإن مقالته مبنية على أصلين‏:
أحدهما‏: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة‏.‏
وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام‏: أبو عثمان الشحام شيخ أبي على الجبائي، وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون‏: إن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم؛ لأنه لولا ثبوتها لما تميز عن المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده؛ لأن القصد يستدعى التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت‏.‏
لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها، وقد كفرهم

 

ص -143-

بها طوائف من متكلمة السنة فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون‏: إن عين وجودها عين وجود الحق‏.‏
وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون‏: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابته في العدم، متحدة بوجود الحق القائم بها‏.‏ وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه‏.‏
وابن عربي إذا جعل الأعيان ثابتة لزمه وجود كل ممكن، وليس هذا قول المعتزلة، فهذا فرق ثالث‏.‏
وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق لله أو هو الله يقولون‏: إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة، وإن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون‏: الوجود صفة للموجود‏.‏
وهذا القول وإن كان فيه شبه بقول القائلين بقدم العالم، أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته، فليس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوانات والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن
وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات، والاستحالات القائمة بالعناصر، من حركات الكواكب، والشمس والقمر والسحاب

 

ص -144-

والمطر، و الرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه‏.‏
والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة، يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون‏: إن مواد جميع العالم قديمة دون صوره‏.‏
واعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه، لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصورًا حقيقيا، فإن هذا لا يكون إلا للحق‏.‏ فأما القول الباطل فإذا بُيِّن فبيانه يظهر فساده، حتى يقال‏: كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب، فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس؛ ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم ‏
{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏18‏]‏، وأنهم ‏{‏لا يفقهون‏}‏، وأنهم ‏{‏لا يعقلون‏}‏وأنهم‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏‏[‏الذاريات‏: ‏8، 9‏]‏، وأنهم‏{‏فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏45‏]‏، وأنهم ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏‏[‏البقرة‏: 15‏]‏‏.‏
وإنما نشأ والله أعلم الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه، أو‏: ‏‏
{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏: ‏82‏]‏، فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك‏.‏
وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود، والمعدوم

 

ص -145-

الممكن، والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله به عن أهل النار، ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏28‏]‏، وأنهم ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏23‏]‏، وأنه ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏22‏]‏، وأنه ‏{‏لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏‏[‏الإسراء‏: ‏42‏]‏، وأنهم ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏47‏]‏، وأنه‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عليكم وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏21‏]‏، ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته‏.‏
فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين، ليس بمجرد تصورنا لها يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق، وإنسانًا من ذهب وفرسًا من حجر‏.‏ فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلا‏.‏
وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه، كما في صحيح مسلم‏: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏"‏إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏"‏‏.‏
وفي سنن أبي داود‏: عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏"‏أول ما خلق الله القلم فقال‏: اكتب‏.‏ قال‏: رب، وما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب

 

ص -146-

ما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏، وقال ابن عباس‏: ‏إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه‏: كن كتابا فكان كتابا‏؟‏ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال‏: ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏70‏]‏
وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال‏: قلت‏: يا رسول الله، متى كنت نبيا‏؟‏ وفي رواية‏: متى كتبت نبيا‏؟‏ قال‏:
‏"‏وآدم بين الروح والجسد‏"‏، هكذا لفظ الحديث الصحيح‏.‏
وأما ما يرويه هؤلاء الجهال كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء و الطين‏"‏، ‏"‏كنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين‏"‏‏.‏ فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ، بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طينًا، وأيبس الطين حتى صار صَلْصَالًا كالفَخَّار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والطين، ولو قيل‏: بين الماء والتراب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذا الحال لا اختصاص لها، وإنما قال‏: ‏"
‏بين الروح والجسد‏"‏، وقال‏: ‏"‏وإن آدم لمنجدل في طينته‏"‏؛ لأن جسد آدم بقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، كما قال تعالى‏: ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ‏}‏ الآية ‏[‏الإنسان‏: ‏1‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ‏}‏ الآيتين ‏[‏الحجر‏: 28‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ‏}‏ الآيتين ‏[‏السجدة‏: ‏7‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ‏} ‏الآية ‏[‏ص‏: ‏71‏]‏‏.‏

 

ص -147-

والأحاديث في خلق آدم ونفخ الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما‏.‏
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبيا، أي‏: كتب نبيا وآدم بين الروح والجسد‏.‏ وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذييكون بأيدي ملائكة الخلق، فيقدر لهم ويظهر لهم، ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات‏: حديث الصادق المصدوق، وهو من الأحاديث المستفيضة، التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها، وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال‏: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق‏:
‏"‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال‏: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح‏"‏، وقال‏: ‏"‏فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة‏"‏‏.‏
فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقى أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح‏.‏ وآدم هو أبو البشر كان أيضا من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه ما يكون

 

ص -148-

منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدرًا وأرفعهم ذكرًا‏.‏
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبيا حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته، فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كونا في الوجود العيني؛ إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين سنة من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى له‏: ‏‏
{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏: ‏52‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ الآية‏[‏الضحى‏: ‏6‏]‏‏.‏ وقال‏: ‏‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏: ‏3‏]‏‏.‏
ولذلك جاء هذا المعنى مفسرًا في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏
"‏إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري‏: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام‏"‏، هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب‏.‏
حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض، رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي‏: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏
"‏إني عبد الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك‏: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين‏"‏، وقوله‏:

 

ص -149-

‏‏"‏لمنجدل في طينته‏"‏ أي‏: ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد‏.‏
وقد روى أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق، وروي في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة، التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ‏.‏
وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له‏: متى كنت نبيا‏؟‏ قال‏: ‏"‏وآدم بين الروح والجسد‏"‏، وقد رواه أبو الحسين بن بِشْرَان من طريق الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم‏: ‏حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا محمد بن صالح، ثنا محمد بن سنان العوفي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن يزيد بن ميسرة، عن عبد الله بن سفيان، عن ميسرة قال‏: قلت‏: يا رسول الله، متى كنت نبيا‏؟‏ قال
‏: ‏"‏لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش‏: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق، والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمى فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه‏"‏‏.‏
وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة، ومن طريق الشيخ أبي الفرج‏: حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا أحمد بن رِشْدِين، ثنا أحمد بن سعيد الفهري،

 

ص -150-

حدثنا عبد الله بن إسماعيل المدني، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال‏: يارب، بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه وما محمد‏؟‏ ومن محمد‏؟‏ فقال‏: يا رب، إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا عليه مكتوب‏: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك؛ إذ قرنت اسمه مع اسمك‏.‏ فقال‏: نعم، قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك‏"‏، فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة‏.‏
وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يأتى غار حِراء فيتحنَّثُ فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق، وهو بحراء، فأتاه الملك فقال له‏: اقرأ‏.‏ قال‏: ‏"‏لست بقاريء‏"‏‏.‏ قال‏: ‏"‏فأخذني فغَطَّنِي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال‏: اقرأ‏.‏ فقلت‏: لست بقاريء‏"‏ قال‏: ‏"‏فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال‏: اقرأ‏.‏ فقلت‏: ‏لست بقارئ، ثم أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني‏"‏، فقال‏:
‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏سورة العلق‏]‏ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره‏.‏ الحديث بطوله‏.‏
فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم يكن قارئا، وهذه السورة أول ما أنزل الله عليه وبها صار نبيًا، ثم أنزل عليه سورة المدثر، وبها صار

 

ص -151-

رسولا لقوله‏: ‏‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏: ‏2‏]‏؛ ولهذا ذكر سبحانه في هذه السورة الوجود العيني والوجود العلمي، وهذا أمر بين، يعقله الإنسان بقلبه لا يحتاج فيه إلى سمع، فإن الشيء لا يكون قبل كونه‏.‏
وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها، فهذا حق لا ريب فيه، وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار‏.‏
وهذا العلم والكتاب هو القدر الذي ينكره غالية القدرية، ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار، كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏
وقد بين الكتاب والسنة هذا القدر، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الوارد عليه، وهو ترك العمل لأجله، فأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال‏: كنا في جنازة في بَقِيع الغَرْقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة فنكس، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال‏
: ‏"‏ما منكم من أحد‏"‏ أو قال ‏"‏ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة‏"‏‏.‏ قال‏: فقال رجل‏: ‏يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة‏؟‏ فقال‏: ‏"‏اعملوا فكل مُيَسر، أما أهل السعادة

 

ص -152-

فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة‏"‏، ثم قرأ‏: ‏‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى‏}‏ ‏[‏الليل‏: ‏5‏]‏ إلى آخر الآيات‏.‏ وفي رواية‏: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال‏: ‏"‏ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار‏"‏ قالوا‏: يا رسول الله، ففيم العمل‏؟‏ أفلا نتكل‏؟‏ قال‏: ‏"‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏ ثم قرأ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى‏}‏ الآية‏.‏ وفي الصحيحين أيضًا عن عمران بن حصين قال‏: قيل‏: يا رسول الله، أَعُلِم أهل الجنة من أهل النار‏؟‏ قال‏: ‏"‏نعم‏"‏ قال‏: فقيل‏: ففيم يعمل العاملون‏؟‏ فقال‏: ‏"‏كل ميسر لما خلق له‏"‏ وفي رواية‏: أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت الحجة عليهم‏؟‏ فقال‏: ‏"‏لا‏.‏ بل شيء قضى عليهم ومضي فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله‏: ‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏‏"‏ ‏[‏الشمس‏: ‏7، 8‏]‏‏.‏
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال‏: جاء سراقة بن مالك بن جُعْشُم قال‏: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم‏؟‏ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير‏؟‏ أم فيما يستقبل‏؟‏ قال‏: ‏"‏لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير‏"‏‏.‏ قال‏: ففيم العمل‏؟‏ قال‏: ‏"‏اعملوا فكل ميسر‏"‏‏.‏

 

ص -153-

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال‏: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال‏: وعرشه على الماء‏"‏
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه‏: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏.‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏إن أول ما خلق الله القلم فقال له‏: اكتب، قال‏: رب، ما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏ يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏من مات على غير هذا فليس مني‏"‏، ورواه الترمذي من وجه آخر عن الوليد بن عبادة أنه قال‏: دعاني يعني أباه عند الموت فقال‏: يا بني، اتق الله، واعلم أنك إن تتق الله تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله، خيره وشره، وإن مت على غير هذا دخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏إن أول ما خلق الله القلم فقال‏: اكتب، قال‏: ما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد‏"‏‏.‏
وفي الترمذي أيضا عن أبي خزامة عن أبيه، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏: أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله تعالى شيئا‏؟‏ قال‏: ‏"‏هي من قدر الله‏"‏‏.‏
لكن إنما ثبتت في التقدير المعدوم الممكن الذي سيكون، فأما المعدوم

 

ص -154-

الممكن الذي لا يكون فمثل إدخال المؤمنين النار وإقامة القيامة قبل وقتها، وقلب الجبال يواقيت ونحو ذلك، فهذا المعدوم ممكن وهو شيء ثابت في العدم عند من يقول‏: المعدوم شيء، ومع هذا، فليس بمقدر كونه، والله يعلمه على ما هو عليه، يعلم أنه ممكن وأنه لا يكون‏.‏
وكذلك الممتنعات مثل شريك الباري وولده، فإن الله يعلم أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ويعلم أنه ليس له شريك في الملك ولا وليُّ من الذل، ويعلم أنه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ويعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏.‏
والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف‏: ‏أن المعدوم ليس في نفسه شيئا، وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا‏: ‏
{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏9‏]‏، فأخبر أنه لم يك شيئا، وقال تعالى‏: ‏‏{‏أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا‏}‏‏[‏مريم‏: ‏67‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏: ‏35‏]‏‏.‏

 

ص -155-

فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خُلِقوا من غير شيء خلقهم أم خَلَقوا هم أنفسهم، ولهذا قال جبير بن مطعم‏: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع، ولو كان المعدوم شيئا لم يتم الإنكار إذا جاز أن يقال‏: ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم فيكون الخالق لهم شيئا معدوما‏.‏ وقال تعالى‏: ‏‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏60‏]‏‏.‏ ولو كان المعدوم شيئا لكان التقدير‏: لا يظلمون موجودًا ولا معدومًا، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم‏.‏
وأما قوله‏:
‏‏{‏إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏1‏]‏ فهو إخبارعن الزلزلة الواقعة أنها شيء عظيم ليس إخبارًا عن الزلزلة في هذه الحال، ولهذا قال‏: ‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏2‏]‏، ولو أريد به الساعة لكان المراد به أنها شيء عظيم في العلم والتقدير‏.‏
وقوله تعالى‏: ‏
{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏40‏]‏ قد استدل به من قال‏: المعدوم شيء وهو حجة عليه؛ لأنه أخبر أنه يريد الشيء وأنه يكونه، وعندهم أنه ثابت في العدم وإنما يراد وجوده لا عينه ونفسه، والقرآن قد أخبر أن نفسه تراد وتكون، وهذا من فروع هذه المسألة‏.‏
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة، وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في
الخارج زائدا على ذلك‏.‏

 

ص -156-

 وأولئك يقولون‏: الوجود قدر زائد على الماهية، ويقولون‏: الماهيات غير مجعولة، ويقولون‏: وجود كل شيء زائد على ماهيته، ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول‏: الوجود الواجب عين الماهية‏.‏ وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية‏.‏ وشبهة هؤلاء‏: ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده، وأن الوجود مشترك بين الموجودات، وماهية كل شيء مختصة به‏.‏
ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر، فإنا قد بينا الفرق بين الوجود العلمي والعيني، وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك، فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام‏: ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك، وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي، فالإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني، ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي‏.‏ فقول القائل‏: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه، ونفسه وماهيته، وما علمت وجوده، أو حصل وجوده العلمي، وما حصل وجوده العيني الحقيقي، ولم يعلم ماهيته الحقيقية، ولا عينه الحقيقية، ولا نفسه الحقيقية الخارجية، فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته، إلا أن أحد اللفظين قد يعبر به عن الذهني، والآخر عن الخارجي، فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود‏.‏
وأما قولهم‏: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيها، فالقول فيه كذلك، فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها وإنما العلم يدرك الموجود المشترك

 

ص -157-

كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة، والذهن إن أدرك الماهية المعينة الموجودة في الخارج لم يكن فيها اشتراك، وإنما الاشتراك فيما يدركه من الأمور المطلقة العامة، وليس في الخارج شيء مطلق عام بوصف الإطلاق والعموم، وإنما فيه المطلق لا بشرط الإطلاق، وذلك لا يوجد في الخارج إلا معينا‏.‏
فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه، وبين ثبوته ووجوده في العلم، فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي، وأما هذا فيقال له‏: الوجود الذهني والعلمي، وما من شيء إلا له هذان الثبوتان، فالعلم يعبر عنه باللفظ ويكتب اللفظ بالخط، فيصير لكل شيء أربع مراتب‏: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي‏.‏
ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه سورة‏: ‏
{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏}‏ ذكر فيها النوعين فقال‏: ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏‏[‏العلق‏: ‏1، 2‏]‏، فذكر جميع المخلوقات بوجودها العيني عموما ثم خصوصا، فخص الإنسان بالخلق بعد ما عم غيره، ثم قال‏: ‏{‏قْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏: ‏3‏: 5‏]‏، فخص التعليم للإنسان بعد تعميم التعليم بالقلم، وذكر القلم؛ لأن التعليم بالقلم هو الخط وهو مستلزم لتعليم اللفظ، فإن الخط يطابقه، وتعليم اللفظ هو البيان وهو مستلزم لتعليم العلم؛ لأن العبارة تطابق المعنى‏.‏

 

ص -158-

 فصار تعليمه بالقلم مستلزما للمراتب الثلاث‏: اللفظي، والعلمي، والرسمي، بخلاف ما لو أطلق التعليم أو ذكر تعليم العلم فقط لم يكن ذلك مستوعبا للمراتب‏.‏
فذكر في هذه السورة الوجود العيني والعلمي، وأن الله سبحانه هو معطيهما؛ فهو خالق الخلق وخالق الإنسان، وهو المعلم بالقلم ومعلم الإنسان‏.‏
فأما إثبات وجود الشيء في الخارج قبل وجوده، فهذا أمر معلوم الفساد بالعقل والسمع، وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع‏.‏

 

ص -159-

فصل‏:
فهذا أحد أصلي ابن عربي‏.‏ وأما الأصل الآخر فقولهم‏: إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه، وهذا انفردوا به عن جميع مثبتة الصانع من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وإنما هو حقيقة قول فرعون والقرامطة المنكرين لوجود الصانع، كما سنبينه إن شاء الله‏.‏
فمن فهم هذا فهم جميع كلام ابن عربي، نظمه ونثره، وما يدعيه من أن الحق يغتذي بالخلق؛ لأن وجود الأعيان مغتذ بالأعيان الثابتة في العدم، ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجود، وبالفرق من حيث الماهية والأعيان، ويزعم أن هذا هو سر القدر؛ لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها في العدم في أنفسها، فهي التي أحسنت وأساءت وحمدت وذمت، والحق لم يعطها شيئاً إلا ما كانت عليه في حال العدم‏.‏
فتدبر كلامه كيف انتظم شيئين‏: إنكار وجود الحق، وإنكار خلقه لمخلوقاته، فهو منكر للرب الذي خلق فلا يقر برب ولا بخلق، ومنكر لرب العالمين، فلا رب ولا عالمون مربوبون، إذ ليس إلا أعيان ثابتة، ووجود قائم بها، فلا الأعيان مربوبة ولا الوجود مربوب، ولا الأعيان مخلوقة ولا الوجود مخلوق‏.‏وهذا يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلى والمتجلي؛ لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابته في العدم، وأما الظاهر فهو وجود الخلق‏.‏

 

ص -160-

فصل‏:
وأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول‏: ‏إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه، لكنه أكفر وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ،ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان أكفر‏.‏فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم، وعنده أن الله هو الوجود، ولابد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين، فعنده أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز، وأنه إذا تعين وتميز فهو الخلق، سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها‏.‏
وهذا القول قد صرح فيه بالكفر أكثر من الأول، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة، وإن كان الأول أفسد من جهة تفرقته بين وجود الأشياء وثبوتها، وذلك أنه على القول الأول يمكن أن يجعل للحق وجوداً خارجاً عن أعيان الممكنات، وأنه فاض عليها، فيكون فيه اعتراف بوجود الرب القائم بنفسه الغني عن خلقه، وإن كان فيه كفر من جهة أنه جعل المخلوق هو الخالق، والمربوب هو الرب، بل لم يثبت خلقا أصلا، ومع هذا فما رأيته صرح بوجود الرب متميزاً عن الوجود القائم بأعيان الممكنات‏.‏

 

ص -161-

وأما هذا فقد صرح بأنه ما ثم سوى الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة، والمطلق ليس له وجود مطلق، فما في الخارج جسم مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق، ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق، بل لا يوجد إلا في شيء معين‏.‏
والحقائق لها ثلاث اعتبارات‏: اعتبار العموم والخصوص والإطلاق‏.‏
فإذا قلنا‏: حيوان عام أو إنسان عام، أو جسم عام، أو وجود عام، فهذا لا يكون إلا في العلم واللسان، وأما الخارج عن ذلك فما ثم شيء موجود في الخارج يعم شيئين؛ ولهذا كان العموم من عوارض صفات الحي‏.‏ فيقال‏: علم عام، وإرادة عامة، وغضب عام، وخبر عام، وأمر عام‏.‏ويوصف صاحب الصفة بالعموم أيضا كما في الحديث الذي في سنن أبي داود‏: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال‏: ‏"‏ يا علي، عُمَّ، فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض‏"‏،وفي الحديث أنه لما نزل قوله‏:
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏214‏]‏ عم وخص،رواه مسلم من حديث موسى بن طلحة عن أبي هريرة‏.‏
وتوصف الصفة بالعموم كما في حديث التشهد‏: ‏‏"‏السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ فإذا قلتم ذلك فقد أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض‏"‏ وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك؛ إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ، وسائر

 

ص -162-

الصفات، كالإرادة، والحب، والبغض، والغضب، والرضا يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم‏: مطر عام وخصب عام، هذه التي تنازع الناس‏: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجازاً ‏؟‏ على قولين‏:
أحدهما‏: مجاز؛ لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر، فليس هناك عموم، وقيل‏: ‏بل حقيقة؛ لأن المطر المطلق قد عم‏.‏
وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره‏: أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل‏: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن‏.‏ فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية، فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات‏.‏
وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب، فإن العقل يتصور إنساناً مطلقاً ووجوداً مطلقاً‏.‏
وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق ‏؟‏ هذا فيه قولان، قيل‏: ‏المطلق له وجود في الخارج، فإنه جزء من المعين، وقيل‏: لا وجود له في الخارج؛ إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد،والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءًا من المعين الذي لا يشركه فيه‏.‏
والتحقيق‏: أن المطلق بلا شرط أصلا يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق

 

ص -163-

بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء‏: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف، وأما المطلق لا بشرط فيدخل فيه المضاف‏.‏
فإذا قلنا‏: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏: طهور، وطاهر،ونجس،فالثلاثة أقسام الماء‏.‏ الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل فيه ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة،فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلا‏.‏
لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد‏.‏
وأما ما كان كلامنا فيه أولاً فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين، فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطاً كثيراً جداً، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معيناً لا يقبل الشركة، كأنا وهذا وزيد، ويقال له‏: المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق، وله ثلاث اعتبارات كما تقدم‏.‏
وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال‏: تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا

 

ص -164-

 في لفظ الماء، فإن الماء يطلق على المني وغيره كما قال‏: ‏‏{‏ مِن مَّاء دَافِقٍ ‏}‏ ‏[‏الطارق‏: ‏6‏]‏، ويقال‏: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في الماء عند الإطلاق، لكن عند التقييد، فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال‏: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق، لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا‏: الماء ثلاثة أقسام‏.‏ فهنا أيضا ثلاثة أشياء‏: مورد التقسيم وهو الماء العام وهو المطلق بلا شرط، لكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني اللفظ المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده‏.‏
وإنما كان كذلك؛لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم، وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص،فقيد العموم كقوله‏: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله‏: ماء الورد‏.‏
وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه، وبين تقييد المعنى وإطلاقه، عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال‏: إما أن يكون أيضا مطلقا، أو مقيداً بقيد العموم، أو مقيداً بقيد الخصوص‏.‏
والمطلق من المعاني نوعان‏: ‏مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط‏.‏
وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقا بشرط الإطلاق، كقولنا‏: الماء المطلق
 

 

ص -165-

والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقاً لا بشرط الإطلاق، كقولنا‏: إنسان‏.‏
فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق، وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد، كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان‏.‏
فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لابد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق‏.‏
وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج؛ لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ، فلا يمنع أن يكون معناه معينا، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى،والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور؛ إذ لكل موجود حقيقة يتيميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء،وإذا كان له حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقاً من كل وجه،فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له،فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال‏: هو مطلق بشرط الإطلاق، إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق، حتى يقال‏: تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها‏.‏

 

ص -166-

 وأما المطلق من المعاني لا بشرط‏: فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معينا متميزاً مخصوصا، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجوداً في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجوداً في الخارج؛ لأن هذا أخص منه‏.‏
فإذا قلنا‏: ‏حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق، فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته‏.‏
فمن قال‏: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين، فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلا ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئا أصلا‏.‏
وتلخيص النكتة‏: أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا، فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان، فيلزم محذوران‏:
أحدهما‏: أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات‏.‏
والثاني‏: التناقض، وهو قوله‏: إنه الوجود المطلق دون المعين‏.‏

 

ص -167-

فتدبر قول هذا، فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلى في جزئياته، وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة، والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم‏.‏
وصاحب هذا القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات، كما جعلها الأول في الأعيان الثابتة في العدم‏.‏

 

ص -168-

فصل‏:
وأما التلمساني ونحوه، فلا يفرق بين ماهية ووجود، ولا بين مطلق ومعين بل عنده ما ثم سوى ولا غير بوجه من الوجوه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر في البحر، وأجزاء البيت من البيت، فمن شعرهم‏:

 البحر لا شك عندي في توحده

 وإن تعدد بالأمواج والزبد

 فلا يغرنك ما شاهدت من صور

 فالواحد الرب ساري العين في العدد

ومنه‏:

 فما البحر إلا الموج لا شيء غيره

 وإن فرقته كثرة المتعدد

ولا ريب أن هذا القول هو أحذق في الكفر والزندقة، فإن التمييز بين الوجود والماهية، وجعل المعدوم شيئا، أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئا وراء المعينات في الذهن، قولان ضعيفان باطلان‏.‏
وقد عرف من حدد النظر‏: أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين‏:
أحدهما‏: وجودها‏.‏

 

ص -169-

والثاني‏: ذواتها، أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطا قويا، واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين، ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك، ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته، كما يتصور المعدومات، والممتنعات، والمشروطات ويقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أو لا يمكن، ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه، ومن الموجودات ذوات متصورة فيه‏.‏
لكن هذا القول أشد جهلا وكفراً بالله تعالى، فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر، ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوبا عن شهود الحقيقة، فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير، وأن الرائي عين المرئي، والشاهد عين المشهود‏.‏

 

ص -170-

فصل‏:
واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله‏: إن الوجود واحد، ورد ذلك‏.‏ وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين‏.‏
وإنما حدَثتْ هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنما كان الكفر الحلول العام، أو الاتحاد، أو الحلول الخاص، وذلك أن القسمة رباعية؛ لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فإما أن يقول بحلوله فيه، أو اتحاده به، وعلى التقديرين، فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق، كالمسيح، أو يجعله عاماً لجميع الخلق‏.‏ فهذه أربعة أقسام‏:
الأول‏: هو الحلول الخاص، وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول‏: إن اللاهوت حل في الناسوت، وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى،بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان أولهم في زمن المأمون،وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون‏: ‏إنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك

 

ص -171-

الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء‏.‏
والثاني‏: هو الاتحاد الخاص، وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولا، وهم السودان والقبط، يقولون‏: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام‏.‏
والثالث‏: هو الحلول العام، وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث، عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية، الذين يقولون‏: إن الله بذاته في كل مكان، ويتمسكون بمتشابه من القرآن كقوله‏:
‏{‏وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏3‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏هومعكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏: ‏4‏]‏‏.‏ والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة، وأهل المعرفة، وعلماء الحديث‏.‏
الرابع‏: الاتحاد العام، وهو قول هؤلاء الملاحدة، الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين‏: من جهة أن أولئك قالوا‏: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه، بعد أن لم يكونا متحدين،وهؤلاء يقولون‏: ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره‏.‏ والثاني‏: من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح، وهؤلاء

 

ص -172-

جعلوا ذلك ساريا في الكلاب، والخنازير، والأقذار، والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قد قال‏: ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ‏}‏الآية‏[‏المائدة‏: ‏72‏]‏‏.‏فكيف بمن قال‏: ‏إن الله هو الكفار، والمنافقون والصبيان، والمجانين والأنجاس، والأنتان وكل شيء ‏؟‏‏!‏
وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصاري لما قالوا‏: ‏
{‏نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ‏}‏ وقال لهم‏: ‏‏{‏ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏18‏]‏ فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه‏؟‏ ولا يتصور أن يعذب الله إلا نفسه‏؟‏ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع‏؟‏ كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها‏"‏ وأن الناكح عين المنكوح، حتى قال شاعرهم‏:

 وتلتذ إن مرت على جسدي يدي

 لأني في التحقيق لست سواكم

 واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم في قولهم‏: إن الله هو مخلوقاته كلها أعظم من كفر النصارى بقولهم‏: ‏{‏قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ‏}‏ وكان النصارى ضلال، أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد، إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهراً واحداً، ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم‏.‏
كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال، أكثرهم لا يعقلون قول

 

ص -173-

 رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم‏.‏
ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به، كما للنصارى، هذا ما دام أحدهم في الحجاب،فإذا ارتفع الحجاب عن قلبه وعرف أنه هو، فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر، والنهي،ويبقى سدى يفعل ما أحب،وبين أن يقوم بمرتبة الأمر، والنهي، لحفظ المراتب، وليقتدي به الناس المحجوبون، وهم غالب الخلق، ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين‏.‏

 

ص -174-

فصل‏:
مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمساني مركب من ثلاثة مواد‏:
سلب الجهمية وتعطيلهم‏.‏
ومجملات الصوفية‏: وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح، فيتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر‏.‏
ومن الزندقة الفلسفية التي هي أصل التجهم،وكلامهم في الوجود المطلق، والعقول، والنفوس، والوحي والنبوة، والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل‏.‏
فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي؛ ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم،والتلمساني أعظمهم تحقيقًا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله، وكتبه، ورسله وشرائعه، واليوم الآخر‏.‏

 

ص -175-

 وبيان ذلك أنه قال‏: هو فيَّ كان متجل بوحدته الذاتية، عالماً بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهداً لها‏.‏
فيقال له‏: قد أثبت علمه بما يصدر منه، وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدومة، فعند ذلك عبر ‏[‏ بأنا‏]‏ وظهرت حقيقة النبوة، التي ظهر فيها الحق واضحا، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن، كما أن الأول هو المسمي باسم الله‏.‏
وسقت الكلام إلى أن قلت‏: وهو الآن على ما عليه كان، فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهوداً له معدوماً في نفسه هو الحق أو غيره‏؟‏ فإن كان الحق فقد لزم أن يكون الرب كان معدوماً، وأن يكون صادراً عن نفسه، ثم إنه تناقض‏.‏ وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن‏.‏
فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوماً صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر والواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوماً ولا صادراً عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى‏: اللاهوت الناسوت، لكن هذا أكفر من وجوه متعددة‏.‏

 

ص -176-

فصل‏:
الوجه الأول‏: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها، مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق، الذي كان فيه متحداً بنفسه بوحدته الذاتية هل خلقها وبرأها وجعلها موجودة بعد عدمها، أم لم تزل معدومة ‏؟‏ فإن كانت لم تزل معدومة، فيجب ألا يكون شيء من الكونيات موجوداً، وهذا مكابرة للحس، والعقل، والشرع، ولا يقوله عاقل ولم يقله عاقل‏.‏ وإن كانت صارت موجودة بعد عدمها، امتنع أن تكون هي إياه؛ لأن الله لم يكن معدوماً فيوجد‏.‏
وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون موجوداً ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده، وهذا يبطل قولك‏: وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان‏.‏
الثاني‏: أن قولك‏: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه،أو قولك‏: ‏ظهر الحق فيه،أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع‏.‏ مثل قولهم‏: ظهر الحق وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهيُّ ومجلى إلهيّ، ونحو ذلك، أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك‏؟‏ أو

 

ص -177-

أو تعني به أنه صار ظاهراً متجلياً لها بحيث تعلمه‏؟‏ أو تعني به أنه ظهر لخلقه بها، وتجلى بها، وأنه ما ثم قسم رابع‏؟‏
فإن عنيت الأول وهو قول الاتحادية فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب، والخنازير، والنجاسات، والشياطين والكفار هي ذات الله، أو هي وذات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا‏:
‏‏{‏ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: 17، ‏72‏]‏ و‏{‏ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏73‏]‏، وإن الله يلد ويولد، وأن له بنين وبنات‏.‏ وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك، فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء، ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما ناقعا‏!‏
وإن عنيت أنه صار ظاهرًا متجليا لها، فهذا حقيقة أنه صار معلوماً لها، ولا ريب أن الله يصير معروفاً لعبده، لكن كلامك في هذا باطل من وجهين‏:
من جهة أنك جعلته معلوماً للمعدومات، التي لا وجود لها؛ لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل‏: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون، لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالماً قادراً فاعلا‏.‏
ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم‏.‏

 

ص -178-

 وأما إن قلت‏: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين‏:
أحدهما‏: أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو المتجلي لها‏.‏الوجه الثاني‏: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه، وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال‏:
‏‏{‏ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏163، 164‏]‏ وتارة يسميها نفسها آية، كما قال تعالى‏: ‏{‏وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُأَحْيَيْنَاهَا ‏}‏ ‏[‏يس‏: ‏33‏]‏ وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق‏.‏
فإذا قيل في نظير ذلك‏: تجلى بها وظهر بها كما يقال‏: علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا، لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور، وفيه إيهام وإجمال، فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين، لا سيما لفظ التجلي، فإن استعماله في التجلي للعين هو الغالب، وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال‏: فلا تقع العين إلا عليه‏.‏
وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين،بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏‏"‏واعلموا أن أحداً

 

ص -179-

منكم لن يري ربه حتى يموت‏"‏ ولا سيما إذا قيل‏: ‏ظهر فيها وتجلى،فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها، أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يري المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه، وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله‏.‏
الوجه الثالث‏: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها ب ‏[‏أنا‏]‏ واللفظة التي هي ‏[‏حقيقة النبوة‏]‏ و ‏[‏ الروح الإضافي ‏]‏ هذه الأشياء داخلة في مسمى أسماء الله، بحيث تكون مما يدخل في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة، أم ليست داخلة في مسمى أسمائه ‏؟‏ فإن كان الأول، فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءاً من الله وصفة له، وإن كان الثاني، فهذه الأشياء معدومة،ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية‏؟‏ وهذا تقسيم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس‏.‏
فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت ‏[‏ أنا‏]‏ وحقيقة نبوة، وروحاً إضافيا، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان‏:
كون جميع المخلوقات جزءًا من الله‏.‏

 

ص -180-

وكونه متغيرًا هذه التغيرات، التي هي من نقص إلى كمال، ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة عن ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها عندهم خارجة عنه، فكيف يكون الحال ‏؟‏
الوجه الرابع‏: أن عقدة حقيقة النبوة وما معها‏: إما أن يكون شيئا قائما بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائما بنفسه فإما أن يكون هو اللّه أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي‏.‏
وقد قال بعد هذا‏: إنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمداً عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله، وأعطى محمداً ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطِي ومن المعطَى ‏؟‏ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعيانا قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أوغيرها، من كل ما سوى الله من الأعيان، فهو خلق من خلق الله مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق واصفا، وأنه المسمي باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقا، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين‏: ‏
{‏قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏60‏]‏، ومن إلحاد الذين قيل فيهم‏: ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏30‏]‏،فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقاً من مخلوقاته‏.‏
وأما إن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة‏: فإما أن تكون صفة لله

 

ص -181-

 أو لغيره، فإن كانت صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم‏.‏
وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها عقدة حقيقة النبوة وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلا لتميز صفاته القديمة، وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفا يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمداً هذه العقدة‏.‏
ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى‏: ‏
{‏قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏110‏]‏ فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره، فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأبشعه‏.‏
الوجه الخامس‏: أن قوله‏: لهذه الحقيقة طرفان‏: طرف إلى الحق المواجه إليها، الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمى بالروح الإضافي‏.‏
فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء وهو متجلّ بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية

 

ص -182-

الإلهية، ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود، فظهر الحق فيه بصورة وصفه واصفا‏.‏
وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر في هذا الحق، والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء‏: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم‏: الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفا، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض‏.‏
ثم يقال له‏: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى، فقد جعلته ظاهرًا وجعلته مظهرًا، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده‏؟‏ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجودا في نفسه ‏؟‏ وإن عنيت به الوضوح والتجلي، فليس هناك مخلوق يظهر له ويتجلى؛ إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت‏: ظهر الحق فيه واصفا، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوما ولا مشهودا، فكيف يتصور أن يكون متجليا لنفسه بعد أن لم يكن متجليا‏؟‏ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها‏.‏
وأيضا، فقد قلت‏: إنه كان متجليا لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض‏.‏
الوجه السادس‏: ‏أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى، وتناقضهم في الأقانيم‏.‏

 

ص -183-

 فإنهم يقولون‏: الآب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد‏.‏
والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون‏: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة‏.‏
فيقال لهم‏: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلهاً، إلا أن يكون هو الآب، وإن كانت جواهر وجب ألا تكون إلها واحداً؛ لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً، وقد يمثلون ذلك بقولنا‏: زيد العالم القادر الحي، فهو بكونه عالمًا ليس هو بكونه قادرًا‏.‏
فإذا قيل لهم‏: هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتاً واحدة لها صفات متعددة، وأنتم لا تقولون ذلك‏.‏
وأيضا،فالمتحد بالمسيح إذا كان إلهاً امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف، وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه، وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى‏:
‏‏{‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ َّ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏171‏]‏‏.‏
فالنصارى حياري متناقضون،إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلهاً، وإن جعلوه جوهراً امتنع أن يكون الإله واحداً، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الآب والابن وروح القدس

 

ص -184-

  إلهًا واحدًا؛ ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسما غير المشركين تارة؛ لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين‏.‏
وهكذا حال هؤلاء، فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غير، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجليا لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلي لا غيره، وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم‏.‏
وهذا الرجل، وابن عربي، يشتركان في هذا، ولكن يفترقان من وجه آخر‏.‏
فإن ابن عربي يقول‏: ‏وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها، فإن شئت قلت‏: هو الحق، وإن شئت قلت‏: هو الخلق، وإن شئت قلت‏: هو الحق والخلق، وإن شئت قلت‏: لا حق من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك‏.‏
وأما هذا فإنه يقول‏: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح، حيث قالوا بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرًا واحدًا له أقنومان‏.‏
وأما التلمساني فإنه لا يثبت تعددًا بحال، فهو مثل يَعَاقِبَه النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا‏: إن اللاهوت يتدرع بالناسوت بعد أن لم يكن متدرعا به‏.‏

 

ص -185-

وهؤلاء قالوا‏: إنه في جميع العالم، وإنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصوصه وحدوثه، حتى قال قائلهم‏: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا‏.‏
وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عُبّاد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر، وهو العابد والمعبود، وأن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل، لضيق هارون، وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وإن أعظم مظهر عبد فيه هو الهوى، فما عبد أعظم من الهوى، لكن ابن عربي يثبت أعيانًا ثابتة في العدم‏.‏
وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح، لكن لا يتم معه ما طلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد وأقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضًا وهذيانًا، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر‏.‏
ومقتضى كلامه هذا‏: ‏أنه جعل وجوده مشروطًا بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائما بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقرًا إلى العالم محتاجًا إليه كاحتياج نور العين

 

ص -186-

إلى الجفنين، وقد قال الله تعالى‏: ‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءِ‏}‏إلى آخر الآية ‏[‏آل عمران‏: 181‏]‏‏.‏
فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته، وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق، ويعدم إذا عدم الجفن‏؟‏
وقد قال في كتابه‏:
‏‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا‏}‏ الآية ‏[‏فاطر‏: ‏41‏]‏‏.‏ فمن يمسك السموات والأرض‏؟‏ وَقَالَ فِي كِتَابه‏: ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ٌ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏: ‏25‏]‏‏.‏ وقال‏: ‏{‏رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏2‏]‏ وقال‏: ‏‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعلى الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏255‏]‏ لا يؤوده‏: لا يثقله ولا يكرثه‏.‏
وقد جاء في الحديث، حديث أبي داود‏: ‏"‏ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة‏"‏‏.‏ وقد قال في كتابه‏:
‏‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏الآية ‏[‏الزمر‏: ‏67‏]‏‏.‏
وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود‏: ‏"‏إن اللَّهَ يَمْسِكُ السَّمَواتِ والأرْضَ بِيَدِهِ‏"‏ فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما،

 

ص -187-

وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكهما أن تزولا، أيكون محتاجًا إليهما مفتقرًا إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر‏؟‏
وإذا كان المسلمون يكفّرون من يقول‏: إن السموات تقلِّه أو تظلِّه، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال‏: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؛ لأن الله غني عن العالمين حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول‏: إنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض، تفرق، وانتشر، وعدم فأين حاجته في الحمل إلى العرش، من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش‏؟‏
ثم يقال لهؤلاء‏: إن كنتم تقولون بقدم السموات والأرض ودوامهما، فهذا كفر‏.‏ وهو قول بقدم العالم، وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما‏؟‏ هل كان منتشرًا، متفرقًا معدومًا، ثم لما خلقهما صار موجودًا مجتمعًا‏؟‏ هل يقول هذا عاقل‏؟‏
فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم‏.‏ إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك، ينتقص من نور الحق، ويتفرق

 

ص -188-

ويعدم، بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك، زاد نوره واجتمع ووجد‏.‏
وأما إن عنى أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض، لكن لا يظهر فيه شيء، فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء‏؟‏ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله‏؟‏
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏"‏إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه‏"‏، وقال عبد الله بن مسعود‏: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه‏.‏
فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض، وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض، وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض‏؟‏
الوجه السابع‏: قوله‏: فالعلويات جفنها الفوقاني، والسفليات جفنها التحتاني، والتفرقة البشرية في السفليات أهداب الجفن الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها‏.‏ يقال له‏: فإذا كان العالم هو هذه

 

ص -189-

العين، فالعين الأخرى أي شيء هي‏؟‏ وبقية الأعضاء أين هي‏؟‏ هذا لازم قولك‏: إن عنيت بالعين المتعين، وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين فيه فقد جعلت نفس السموات والأرض والحيوان والملائكة أبعاضًا من الله، وأجزاء منه، وهذا قول هؤلاء الزنادقة، الفرعونية الاتحادية، الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‏.‏
فيقال له‏: فعلى هذا لم يخلق الله شيئا، ولا هو رب العالمين؛ لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره، فخلقه لنفسه محال، وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه؛ ولهذا قال تعالى‏:
‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏: ‏35‏]‏، يقول‏: أخلقوا من غير خالق، أم هم خلقوا أنفسهم‏؟‏
ولهذا قال جبير بن مطعم‏: لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، أحسست بفؤادي قد انصدع‏.‏ فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة، وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم؛ لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيرا له‏.‏
الوجه الثامن‏: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله، وهم دائما يزيدون وينقصون، ويموتون ويحيون، وفيهم الكافر والمؤمن، والفاجر والبر، فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال مفرقة، كاشرة فاسدة، ويكون المشركون، واليهود، والنصارى أجفان حقيقته، وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء، فكيف بمن جعلهم من نفسه‏؟‏

 

ص -190-

الوجه التاسع‏: أنه متناقض من حيث جعل الروح بياضها، والنفس الكلية سوادها، والسموات الجفن الأعلى، والأرضون الجفن الأسفل‏.‏
ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض، والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض، ليست بين السماء والأرض، كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين، فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر، ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه‏.‏
الوجه العاشر‏: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة‏.‏
وأما الروح‏: فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل، وهو أول الصادرات، وسماه هو روحًا، وهذا بناه على مذهب الصابئة، وليس هذا من دين الحنفاء، وقد بينا فساد ذلك في غير هذا الموضع‏.‏
لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء، فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول، والنفوس والأفلاك، والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونها إياه‏.‏
فقولهم إنما ينطبق على المعطلة، مثل فرعون وحزبه الذي قال‏:
‏‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏23‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏38‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعلى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏غافر‏: ‏36، 37‏]‏
فإن فرعون يقر بوجود هذا العالم، ويقول‏: ما فوقه رب، ولا له خالق غيره‏.‏

 

ص -191-

فهؤلاء إذا قالوا‏: إنه عين السموات والأرض، فقد جحدوا ما جحده فرعون، وأقروا بما أقر به فرعون، إلا أن فرعون لم يسمه إلها ولم يقل‏: هو الله‏.‏
وهؤلاء قالوا‏: هذا هو اللّه، فهم مقرون بالصانع، لكن جعلوه هو الصنعة فهم في الحقيقة معطلون، وفي اعتقادهم مقرون‏.‏
وفرعون بالعكس‏: كان منكرًا للصانع في الظاهر، وكان في الباطن مقرًا به، فهو أكفر منهم، وهم أضل منه وأجهل، ولهذا يعظمونه جدًا‏.‏
الوجه الحادي عشر‏: قول القائل‏: بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله‏.‏
فيقال‏: من الذي قال هذا الحق من الأولين والأخرين‏؟‏ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، الذي هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله، ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشائخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيرًا من التتار من هذا الوجه‏.‏
وأما محققوهم وجمهورهم، فيجوز عندهم التهود والتنصر، والإسلام

 

ص -192-

والإشراك، لا يحرمون شيئا من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء، ولا يجب عليه شيء‏.‏
ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق قاتل المرتدين بمنعهم الزكاة، فقتال هؤلاء أولى‏.‏
وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق، العالم الرباني، الغوث السابع ‏[‏في الشمعة‏]‏ من أنه قال‏: اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله، التي لا تنام‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏.‏ فالكلام عليه من وجوه‏:
أحدها‏: أن تسمية قائل مثل هذا المقال‏: محققًا، وعالمًا، وربانيًا، عين الضلالة والغواية، بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود، ولا النصارى، ولا عباد الأوثان‏.‏
فإن كان الذي قاله مسلوب العقل، كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم، وإن كان عاقلا فجرأة على الله الذي يقول‏:
‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏}‏ إلى آخر الآيات ‏[‏مريم‏: ‏88‏: 90‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏26، 27‏]‏، وقال‏: ‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏17، 18‏]‏‏.‏

 

ص -193-

 فإذا كان هذا قوله فيمن يقول‏: إنهم أبناؤه وأحباؤه، فكيف قوله فيمن يقول‏: إنهم أهداب جفنه‏؟‏ ‏!‏ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏
الوجه الثاني‏: أن هذا الشيخ الضال الذي قال هذا الكفر والضلال قد نقض آخر كلامه بأوله، فإن لفظ العين‏: مشترك بين نفس الشيء، وبين العضو المبصر، وبين مسميات أخر، وإذا قال بعين الشيء، فهو من العين التي بمعنى النفس، أي تميز بنفسه عن غيره، فإذا قال‏: إن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام فالعين هنا بمعنى البصر‏.‏
ثم قال في آخر كلامه‏: ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه، فهذا من العين بمعنى النفس، وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان، وإنما هذا بمنزلة من قال‏: نبعت العين وفاضت، وشربنا منها واغتسلنا، ووزنتها في الميزان، فوجدتها عشرة مثاقيل، وذهبها خالص‏.‏
وسبب هذا‏: أنه كان كثيرا ما كان يتصرف في حروف بلا معان‏.‏
الوجه الثالث‏: أنه تناقض من وجه آخر، فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين، فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين، فإذا قال في آخر كلامه‏: والله هو نور العين، كان الله جزءًا من العين، أو صفة له، فقد جعل في أول كلامه العالم جزءًا من الله، وفي آخر كلامه جعل الله جزءًا من العالم، وكل من القولين كفر، بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله‏:
‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏15، 16‏]‏،

 

ص -194-

 فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءًا، فكيف من جعل عباده تارة جزءًا منه، وتارة جعله هو جزءًا منهم‏؟‏‏!‏
فلعن الله أرباب هذه المقالات، وانتصر لنفسه، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده المؤمنين منهم‏.‏
الوجه الرابع‏: أنه تناقض من جهة أخرى، فإنه إذا قال‏: العين ما يتعين الله فيه، والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام، فقد جعله متعينًا في جميع العالم، فإذا قال بعدها‏: وهو نور العين، بقيت سائر أجزاء العين، من الأجفان، والأهداب والسواد، والبياض، لم يتعين فيها، فقد جعله متعينًا فيها، غير متعين فيها‏.‏
الوجه الخامس‏: أن نور العين مفتقر إلى العين، محتاج إليها لقيامه بها، فإذا كان الله في العالم كالنور في العين، وجب أن يكون محتاجًا إلى العالم‏.‏
واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية، الذين يقولون‏: هو في العالم كالماء في الصوفة، وكالحياة في الجسم ونحو ذلك، ويقولون‏: هو بذاته في كل مكان، وهذا قول قدماء الجهمية، الذين كفرهم أئمة الإسلام، وحكي عن الجهم أنه كان يقول‏: هو مثل هذا الهواء، أو قال‏: هو هذا الهواء‏.‏
وقوله أولا‏: هو حدقة عين الله، يشبه قول الاتحادية، فإن الاتحادية يقولون‏: هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة، فهو عندهم الوجود، واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة‏.‏

 

ص -195-

ولهذا كان صاحب هذه المقالات، متخبطا لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين، ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين‏.‏
فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية، والإسماعيلية، مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك، وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة، وفيهم المتخلى عنها، وهؤلاء كذلك، لكن أولئك أحذق في الزندقة، وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون، وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏.‏
الوجه السادس‏: قوله‏: إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى‏: بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا، وهذا كلام مجمل، ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين، بين الكافرين والمؤمنين، لا هو من المؤمنين، ولا من الاتحادية المحضة، لكنه قد لبس الحق بالباطل، وذلك أن الاتحادية يقولون‏: إن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله، وهذا اللفظ يصرح به بعضهم، وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة، وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين، فإن هؤلاء من جنس القرامطة، والباطنية، وأولئك إنما يصلون إلى البلاغ الأكبر، الذي هو آخر مراتب خواصهم‏.‏
ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة، أنه كان يقول‏: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف‏.‏ فقلت له‏: هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد، وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه، مثل

 

ص -196-

قوله‏: إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء‏.‏
فيقال له‏: إذا ارتفعت العلويات والسفليات‏: فما تعني بانبساطه‏؟‏ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان‏؟‏ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود‏؟‏ وما الذي ينبسط حينئذ‏؟‏ أهو نفس الله، أم صفة من صفاته‏؟‏ وعلى أي شيء ينبسط‏؟‏ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر‏؟‏
فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك، لأنك قلت‏: وإنما قلنا‏: إن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان، لتفرق نور عينه وانتشر، بحيث لا يرى شيئا أصلا، فكذلك العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا‏.‏
وقد قلت‏: إن الله هو نور العين، والروح الأعظم بياضها، والنفس الكلية سوادها‏.‏
ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان، فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط، فيكون العالم عندك شرطا في وجود الله، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه، وإن أثبت له ذاتا غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية‏.‏
فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها،

 

ص -197-

وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، وهذا تعطيل محض للصانع وهو قول القونوي والتلمساني، وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه، وتارة يجعلون له وجودًا قائما بنفسه، ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضا وجود المخلوقات، بمعنى أنه فاض عليها، وهذا أقل كفرًا من الأول، وإن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه‏.‏
وفي كلام صاحب الفصوص وغيره في بعض المواضع ما يوافق هذا القول، وكذلك كلام هذا، فإنه قد يشير إلى هذا المعنى‏.‏
ثم مع ذلك‏: هل يجعلون وجوده مشروطا بوجود العالم، فيكون محتاجا إلى العالم، أو لا يجعلون‏؟‏ قد يقولون هذا، وقد يقولون هذا‏.‏
السابع‏: أنهم يمدحون الضلال والحيرة، والظلم والخطأ، والعذاب الذي عذب الله به الأمم، ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلبا يعلم فساده بضرورات العقول مثل قول صاحب الفصوص‏: لو أن نوحا ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارًا، ثم دعاهم إسرارًا‏.‏ إلى أن قال‏: وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته‏.‏ فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه، من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان‏.‏ ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان، وإن كان فيه‏.‏
فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه، ونهى عنه، ويأتون من الإفك

 

ص -198-

والفرية على الله والإلحاد في أسماء الله وآياته، بما‏: ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏90‏]‏، كقول صاحب الفصوص في فص نوح‏:
‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏25‏]‏، فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة‏.‏
‏{‏فَأُدْخِلُوا نَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏25‏]‏ في عين الماء في المحمدتين، ف ‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: ‏6‏]‏ سجرت التنور‏: إذا أوقدته، ‏{‏فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏25‏]‏‏: فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة، لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله، وبالله، بل هو الله‏.‏ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏26‏]‏ الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم، طلبًا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر الستر، ‏{‏دَيَّارًا‏}‏ أحدًا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة، ‏{‏إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ‏}‏ أي‏: تدعهم وتتركهم ‏{‏يُضِلُّوا عِبَادَكَ‏}‏ أي‏: يحيروهم ويخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظروا أنفسهم أربابا، بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدًا، فهم العبيد الأرباب ‏{‏وَلَا يَلِدُوا‏}‏ أي ما ينتجون ولا يظهرون ‏{‏إِلَّا فَاجِرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏27‏]‏ أي مظهرًا ما ستر ‏{‏كَفَّارًا‏}‏ أي‏: ساترا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد، ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي‏}‏ أي‏: استرني، واستر مراحلي، فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك‏:

 

ص -199-

  {‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏67‏]‏، ‏{‏وَلِوَالِدَيَّ‏}‏ أي‏: ‏من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة ‏{‏وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ‏}‏ أي‏: قلبي ‏{‏مُؤْمِنًا‏}‏ مصدقا بما يكون فيه من الأخبار الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها، ‏{‏وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ من العقول ‏{‏وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ من النفوس ‏{‏وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ‏}‏ من الظلمات أهل الغيب المكتنفين داخل الحجب الظلمانية ‏{‏إِلَّا تَبَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏28‏]‏ أي‏: هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم‏.‏
وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه، ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا، فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وأنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون‏: هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏.‏
وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف، وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم، وزعموا أنها من عند الله‏.‏
تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي، فيكونون فوق النبي بدرجة‏.‏
وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله، فيكون أحدهم في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به؛ لأن الأخذ من معدن واحد‏.‏
وتارة يزعم أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في منامه هذا النفاق

 

ص -200-

 

العظيم، والإلحاد البليغ، وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه، كما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان، وكان جماعة من الفضلاء حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له يرى أنه كان يستحل الكذب، ويختارون أن يقال‏: كان يتعمد الكذب وأن ذلك هو أهون من الكفر، ثم صرحوا بأن مقالته كفر، وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب، غير واحد من عقلاء الناس، وفضلائهم، من المشايخ والعلماء‏.‏
ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله، وأنه من أحق الناس بقوله‏: ‏‏
{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏93‏]‏، وكثير من المتنبئين الكذابين كالمختار بن أبي عبيد وأمثاله لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد‏.‏
بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد، وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويقر له بالرسالة، لكن كان يدعى أنه رسول آخر، ولا ينكر وجود الرب، ولا ينكر القرآن في الظاهر، وهؤلاء جحدوا الرب، وأشركوا به كل شيء، وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن، ويفضلون نفوسهم على النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولىاء‏.‏
وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول‏: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، و إنما التوحيد في كلامنا‏.‏

 

ص -201-

وأما الضلال والحيرة، فما مدح الله ذلك قط، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏زدني فيك تحيرًا ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله، وكذلك احتجاجه بقوله‏: ‏‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏20‏]‏‏.‏
وإنما هذا حال المنافقين المرتدين، فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن، قال الله تعالى في القرآن‏: ‏‏
{‏قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏: ‏71‏]‏‏.‏
وهكذا يريد هؤلاء الضالون، المتحيرون، أن يفعلوا بالمؤمنين، يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضرهم، ولا ينفعهم، وهي المخلوقات والأوثان، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم، يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى، ائتنا، وقال تعالى‏: ‏
{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏110‏]‏ أي‏: يحارون، وقال تعالى‏: ‏{‏وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏45‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 6، 7‏]‏‏.‏ فأمر بأن

 

ص -202-

نسأله هداية الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين‏.‏ وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم، ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة مخالفة لكتب الله ورسله، ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب‏.

 

ص -203-

فصل
في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين ما ذكرنا من مذهبه، فإن أكثر الناس قد لا يفهمونه‏.‏
قال في فص يوسف بعد أن جعل العالم بالنسبة إلى الله كظل الشخص، وتناقض في التشبيه‏: فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق، فمن حيث إحدىة كونه ظلا هو الحق؛ لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن وتحقق ما أوضحناه لك‏.‏
وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك، فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه، خارج عن الوجود الحق، وليس كذلك في نفس الأمر، ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه، يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال؛ لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته، فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك، وما نسبتك إلى الحق، وبما أنت حق، وبما أنت عالم، وسوى، وغير‏؟‏ وما شاكل هذه الألفاظ‏.‏

 

ص -204-

وقال في أول الفصوص بعد ‏[‏فص حكمة إلهية في كلمة آدمية‏]‏ و‏[‏فص حكمة نفسية، في كلمة شيثية‏]‏‏: وقد قسم العطاء بأمر الله، وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال، وذكر القسم الذي لا يسأل، لأن شيئا هو هبة الله إلى أن قال‏:  ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله‏: هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل، وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر، وهم على قسمين‏:
منهم من يعلم ذلك مجملا، ومنهم من يعلم ذلك مفصلا‏.‏
والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما تعين في علم الله فيه، إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة، وعن انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى، وهو أعلى، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به؛ لأن الأخذ من معدن واحد، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له، هي من جملة أحوال عينه، يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك أي على أحوال عينه فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها؛ لأنها نسب ذاتية لا صورة لها‏.‏

 

ص -205-

فبهذا القدر نقول‏: ‏إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادتها العلم، ومن هنا يقول الله‏: ‏{‏حتى نعلم‏}‏ وهي كلمة محققة المعنى، ما هي كما يتوهم من ليس له هذا المشرب، وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق، وهو أعلى وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة، لولا أنه أثبت العلم زائدًا على الذات فجعل التعلق له لا للذات، وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والشهود‏.‏
ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول‏: إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية، فأما المنح والهبات، والعطايا الذاتية، فلا تكون أبدًا إلا عن تجل إلهي، والتجلي من الذات لا يكون أبدًا إلا لصورة استعداد العبد المتجلى له، وغير ذلك لا يكون، فإذن المتجلي له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وما رأى الحق، ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه، كالمرآة في الشاهد، إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها‏.‏
فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجليه الذاتي، ليعلم المتجلي له أنه ما رآه، وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا، واجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة، لا تراه أبدًا البتة، حتى إن بعض من أدرك مثل هذا في صورة المرئي، ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي، وبين المرآة، هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه‏.‏
وقد بينا هذا في الفتوحات المكية، وإذا ذقت هذا، ذقت الغاية التي ليس

 

ص -206-

فوقها غاية في حق المخلوق، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلى من هذا الدرج، فما هو ثم أصلا وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم، فمنا من جهل في علمه فقال‏: ‏والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومنا من علم فلم يقل مثل هذا القول، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله‏.‏
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل، وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة أعنى نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا‏.‏
فالمرسلون من حيث كونهم أولىاء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء‏؟‏ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى‏.‏
وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر، في أسارى بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل، فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل

 

ص -207-

شيء، وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم، وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه‏.‏
ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة‏.‏
وأما خاتم الأولياء، فلابد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرى في الحائط موضع لبنتين، واللبن من ذهب وفضة، فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما، لبنة ذهب ولبنة فضة، فلابد من أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين، فيكمل الحائط‏.‏
والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين‏: أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهره، وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه رأى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول‏.‏
فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع، فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي، ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود

 

ص -208-

طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏"‏، وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث‏.‏
وكذلك خاتم الأولياء، كان وليًا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية، من الأخلاق الإلهية، والاتصاف بها من أجل كون الله يسمى بالولي الحميد‏.‏
فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية، مثل نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولي الرسول النبي‏.‏
وخاتم الأولياء الولي الوارث، الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب، وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة، فعين بشفاعته حالا خاصا ما عمم، وفي هذه الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية، فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين، ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص‏.‏
فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام‏.‏ ا ه‏.‏
فهذا الفص قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبني عليها سائر كلامه، فتدبر ما فيه من الكفر الذي ‏
{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏90‏]‏، وما فيه من جحد خلق الله وأمره، وجحود ربوبيته وألوهيته وشتمه وسبه، وما فيه من الإزراء برسله، وصديقيه والتقدم عليهم

 

ص -209-

بالدعاوى الكاذبة، التي ليس عليها حجة، بل هي معلومة الفساد بأدنى عقل وإيمان وأيسر ما يسمع من كتاب وقرآن، وجعل الكفار والمنافقين والفراعنة هم أهل الله وخاصته أهل الكشوف وذلك باطل من وجوه‏:
أحدها‏: أنه أثبت له عينًا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات، وإن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجودًا من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده‏.‏ وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم‏.‏
الثاني‏: أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد، لا من نفسه المقدسة، وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك، وأن هذا هو سر القدر‏.‏
فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه، ونفى ما استحقه بنفسه، من كمال علمه وقدرته، ولزوم التجهيل والتعجيز، وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال فيه‏:
‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: ‏181‏]‏، فإنه جعل حقائق الأعيان الثابتة في العدم غنية عن الله في حقائقها وأعيانها، وجعل الرب مفتقرا إليها في علمه بها، فما استفاد علمه بها إلا منها، كما يستفيد العبد العلم بالمحسوسات من إدراكه لها، مع غنى تلك المدركات عن المدرك‏.‏

 

ص -210-

والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي، الذي هو من لوازم نفسه المقدسة، لم يستفد علمه بها منها‏: ‏‏{‏أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏: ‏14‏]‏‏.‏ فقد دلت هذه الآية على وجود علمه بالأشياء من وجوه انتظمت البراهين المذكورة لأهل النظر والاستدلال القياسي العقلي من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم‏:
أحدها‏: أنه خالق لها، والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل تكونها في الخارج‏.‏
الثاني‏: أن ذلك مستلزم للإرادة، والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام‏.‏
الثالث‏: أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب، فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه‏.‏
الرابع‏: أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضي لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها، كما هو غني بنفسه في جميع صفاته، ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها، وسمع كلام عباده ونحو ذلك؛ فإنما يدرك ما أبدع وما خلق، وما هو مفتقر إليه، ومحتاج من جميع وجوهه، لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره البتة؛ فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة، الغنية في ثبوتها عنه‏.‏

 

ص -211-

وأما جحود قدرته، فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم، الغنية عنه، فقدرته محدودة بها، مقصورة عليها، مع غناها عنه وثبوت حقائقها بدونه، وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق، فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة، ولا ينقص منه ذرة، ولا يزيد في المطر قطرة، ولا ينقص منه قطرة، ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه، ولا يغير شيئا من صفاته، ولا حركاته، ولا سكناته، ولا ينقل حجرًا عن مقره، ولا يحول ماء عن ممره، ولا يهدي ضالا ولا يضل مهتديا، ولا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا، ففي الجملة لا يقدر إلا على ما وجد؛ لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم، ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان‏.‏
وهذا التجهيل والتعجيز الذي ذكره، وزعم أنه هو سر القدر وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين‏.‏
فإن القائلين بأن المعدوم شيء يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن، ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفادًا من الأشياء قبل أن يكون وجودها، ولا أن خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها، فإنه يعلم أنواعا من الممكنات لم يخلقها فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه، ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود، بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى، هي أيضا من الممكن الثابت في العدم‏.‏
فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل، ولا إلى تعجيز من هذا الوجه، وإنما

 

ص -212-

قد يقولون‏: المانع من ذلك أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها، فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته، فيجعلون المانع أمرًا يعود إلى نفسه المقدسة، حتى لا يجعلونه ممنوعا من غيره‏.‏
فأين من لا يجعل له مانعًا من غيره، ولا راد لقضائه، ممن يجعله ممنوعا مصدودا‏؟‏ وأين من يجعله عالما بنفسه، ممن يجعله مستفيدًا للعلم من غيره‏؟‏ وممن هو غني عنه‏؟‏ هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال‏: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم‏.‏
الثالث‏: أنه زعم أن من الصنف الذي جعله أعلى أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله؛ لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم، فيعلمها من حيث علمها الله، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له، هي من جملة أحوال عينه، يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك، فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد‏.‏
الرابع‏: أنه جعل الله عالما بها بعد أن لم يكن عالما، واتبع المتشابه الذي هو قوله‏:
‏{‏حَتَّى نَعْلَمَ‏}‏‏[‏محمد‏: 31‏]‏، وزعم أنها كلمة محققة المعنى، بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب، فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه، فهو الله علم ما لم يكن علمه‏.‏
وهذا الكفر ما سبقه إليه كافر، فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول‏: إن الله علم ما لم يكن عالما، أما أنه يجعل كل ما تجدد لمخلوق من العلم فإنما تجدد

 

ص -213-

 لله، وأن الله لم يكن عالما بما علمه كل مخلوق، حتى علمه ذلك المخلوق، فهذا لم يفتره غيره‏.‏
الخامس‏: أنه زعم أن التجلي الذاتي، بصورة استعداد المتجلى والمتجلى له، ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه، وضرب المثل بالمرآة، فجعل الحق هو المرآة، والصورة في المرآة هي صورته‏.‏
وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه‏: أن وجود الأعيان عنده وجود الحق، والأعيان كانت ثابتة في العدم، فظهر فيها وجود الحق، فالمتجلى له، وهو العبد لا يرى الوجود مجردًا عن الذوات، ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود، فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبدًا‏.‏ وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق، وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه، وظهور أحكامها‏.‏
وذلك لأن العبد لا يرى نفسه التي هي عينه إلا في وجود الحق، الذي هو وجوده، والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها؛ لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات، التي بين الأعيان وبين وجود الحق، وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم، وظهور هذه الأحكام بتجلي الحق في الأعيان‏.‏
والأعيان التي هي حقيقة العيان هي مرآة الحق، التي بها يرى أسماءه، 

 

ص -214-

وظهور أحكامها، فإنه إذا ظهر في الأعيان، حصلت النسبة التي بين الوجود والأعيان وهي الأسماء وظهرت أحكامها وهي الأعيان ووجود هذه الأعيان هو الحق، فلهذا قال‏: وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم‏.‏
فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه، لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات، وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان، وأحكامها هي الأعيان، لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود للّه ولأسمائه، ولصفاته وخلقه وأمره، وعلى الإلحاد في أسماء اللّه وآياته، فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء اللّه وآياته، الآيات المخلوقة والآيات المتلوة، فإنه لم يثبت له اسمًا ولا آية؛ إذ ليس إلا وجودًا واحدًا، وذاك ليس هو اسما ولا آية، والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته، ولما أثبت شيئين فرق بينهما بالوجود والثبوت وليس بينهما فرق اختلط الأمر عليه وانبهم‏.
وهذا حقيقة قوله، وسر مذهبه، الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق، الذي جهل فقال‏: العجز عن درك الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين، الذين ما علموا ذلك إلا من مشكاته، وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها‏:
منها‏: الكفر بذات الله؛ إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق‏.‏

 

ص -215-

ومنها‏: الكفر بأسماء الله؛ فإنها ليست عنده إلا أمور عدمية، فإذا قلنا‏: ‏‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏2، 3‏]‏ فليس الرب عنده إلا نسبة إلى الثبوت‏.‏
السادس‏: أنه قال‏: فاختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم، وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال‏.‏
قال‏: فمنا من جهل في علمه فقال‏: العجز عن درك الإدراك إدراك، وهذا الكلام مشهور عندهم نسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلا، وإن كان هذا اللفظ لم يحفظ عن أبي بكر، ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحوًا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى، وإنما يرسل عنه إرسالًا من جهة من يكثر الخطأ في مراسيلهم‏.‏
كما يحكون عن عمر أنه قال‏: كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما‏.‏ وهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة‏.‏ وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال‏: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال‏:
‏"‏إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله‏"‏ فبكى أبو بكر، فقال‏: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال‏.‏
فجعل الناس يقولون‏: عجبا لهذا الشيخ، يبكي أن ذكر رسول الله

 

ص -216-

 صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة‏!‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه، وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه‏.‏
وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلى رضي الله عنه‏: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا‏؟‏ وفي لفظ‏: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس‏؟‏ فقال‏: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة‏: وفيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر‏.‏  وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة، استدل العلماء على أن كل ما يذكر عن على وأهل البيت، من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر منه الجَفْر، والبطاقة، والجدول، وغير ذلك وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره، وكذلك كذب على على رضي الله عنه وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع‏.‏
وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره، ثم قد يدعون أنهم عرفوها، وتكون حقيقتها زندقة وإلحادًا‏.‏

 

ص -217-

وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة، حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين‏: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم‏.‏ وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين، ومعرفة الله وتوحيده، الذي يختص به أولياءه‏.‏
ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة، الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن، التي تكون بين المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار‏.‏
ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك، قال ابن عمر‏: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتهدمون البيت وغير ذلك، لقلتم‏: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها؛ لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم‏.‏
وكذلك قد يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان، وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره‏: هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك، ويقال‏: إنهم كانوا هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم، ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة؛ لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة، أنه لما ذكر الفتن، وأنه أعلم الناس

 

ص -218-

 بها، بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها، ولكن حدث الناس كلهم قال‏: وكان أعلمنا أحفظنا‏.‏
ومما يبين هذا‏: أن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة‏: منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم بايعه وقال‏:
‏"‏أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى، وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه‏؟‏‏"‏‏.‏ فقال رجل من الأنصار‏: يا رسول الله، هلا أومأت إلى‏؟‏ فقال‏: ‏"‏ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏"‏‏.‏ فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوى ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنسكة ونحوهم‏.‏
السابع‏: أنه قال‏: ‏"‏ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه، إلا من مشكاة خاتم الأولياء‏.‏
فإن الرسالة والنبوة أعنى نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولىاء‏: لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء‏؟‏ وإن كان خاتم الأولياء تابعا

 

ص -219-

 في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى إلى قوله‏: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن‏.‏
ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر، وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى، وما أشبه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل‏: فخر عليهم السقف من تحتهم، أن هذا لا عقل ولا قرآن‏.‏
وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل، فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر، ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء، الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا‏.‏
وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدة الوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وحقيقة تعطيل الصانع وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون، فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلى العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء‏.‏
فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته‏.‏
ثم أخذ يبين ذلك فقال‏: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع

 

ص -220-

 ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا‏.‏ فالمرسلون من كونهم أولىاء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف بالأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا‏؟‏ وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني‏: وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع، وهذه الولاية عندهم هي أفضل من النبوة والرسالة؛ ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه‏:

 مقام النبوة في برزخ

  فويق الرسول ودون الولي

 وقال في الفصوص في ‏[‏كلمة عزيرية‏]‏‏: ‏فإذا سمعت أحدًا من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه، أنه قال‏: ‏الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه‏.‏
أو يقول‏: إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي، أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدًا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعًا له‏.‏
وإذا حوققوا على ذلك قالوا‏: إن ولاية النبي فوق نبوته، وإن نبوته فوق رسالته؛ لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي ادعوه‏.‏

ص -221-

وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع‏:
منها‏: أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما ادعوه باطل لا أصل له‏.‏
ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء، إلا أبو عبد الله محمد بن على الترمذي الحكيم، في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏ وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط، مخالف للكتاب والسنة والإجماع‏.‏
وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة، و له من الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده، ومن أشنعها ما ذكره في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏، مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرىن مَنْ درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر، وعمر، وغيرهما‏.‏
ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردًا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال‏: يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك‏.‏
ومنها‏: أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية، وهذا أيضا خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وما زال محافظا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته‏.‏

 

ص -222-

ومنها‏: ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء‏.‏ وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولىاء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وأمثالهم من السابقين الأولىن من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة‏.‏
وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح‏:
‏"‏خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏، وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر‏: ‏"‏هذان سيدا كهول أهل الجنة، من الأولىن والأخرىن، إلا النبيين والمرسلين‏"‏‏.‏ قال الترمذي حديث حسن‏.‏ وفي صحيح البخاري عن على رضي الله عنه أنه قال له ابنه‏: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏: ‏يا بني، أبو بكر‏.‏ قال‏: ثم من‏؟‏ قال‏: ثم عمر وروى بضع وثمانون نفسا عنه أنه قال‏: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر‏.‏
وهذا باب واسع، وقد قال تعالى‏: ‏
{‏فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏69‏]‏، وهذه الأربعة هي مراتب العباد‏: أفضلهم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون‏.‏  وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس بن متى مع قوله‏: ‏{‏وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ ‏[‏القلم‏: ‏48‏]‏، وقوله‏: ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏: ‏40‏]‏ تنبيها على أن غيره أولى ألا يفضل أحد نفسه عليه، ففي صحيح البخاري عن ابن

 

ص -223-

مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏"‏لا يقولن أحدكم‏: إني خير من يونس بن مَتَّى‏"‏‏.‏ وفي صحيح البخاري أيضا عنه قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏ما ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس ابن متى‏"‏، وفي لفظ‏: ‏"‏أن يقول‏: أنا خير من يونس بن مَتى‏"‏، وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏"‏من قال‏: أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب‏"‏، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يعني رسول الله‏: ‏"‏لا ينبغي لعبد أن يقول‏: أنا خير من يونس بن متى‏"‏، ‏"‏وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ‏: فيما يرويه عن ربه ‏: ‏"‏لا ينبغي لعبد أن يقول‏: أنا خير من يونس بن متى‏"‏، وهذا فيه نهي عام‏.‏
وأما ما يرويه بعض الناس أنه قال‏: ‏"‏لا تفضلوني على يونس بن متى‏"‏، ويفسره باستواء حال صاحب المعراج، وحال صاحب الحوت، فنقل باطل وتفسير باطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏اثبت أُحُد فما عليك إلا نبي، أو صديق أو شهيد‏"‏، وأبو بكر أفضل الصديقين‏.‏
ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة، ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول‏:
‏{‏أَلا إِنَّ أولياء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏: ‏62‏]‏، فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا‏.‏ وهم على درجتين‏: ‏السابقون المقربون، وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين‏.‏

 

ص -224-

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏"‏يقول الله تعالى‏: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏"‏‏.‏
فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض‏.‏ وقد قال أبو بكر الصديق في وصىته لعمر بن الخطاب‏: اعلم أن لله عليك حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة‏.‏
والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله، وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح، كما بيناه في غير هذا الموضع‏.‏
وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء، ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم، الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإنه كلما كان الولي أعظم اختصاصا بالرسول، وأخذا عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون وليا لله إلا بمتابعة الرسول باطنا وظاهرًا، فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله‏.‏

 

ص -225-

والأولياء، وإن كان فيهم محدّثون كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏"‏إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏"‏، فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق، فالمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإنه ليس بمعصوم، كما قال أبو الحسن الشاذلي‏: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام‏.‏
ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافًا عند كتاب الله، وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له، كما بين له يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة، فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه، وربما قال القول فترد عليه امرأة من المسلمين قوله، وتبين له الحق فيرجع إليها، ويدع قوله كما قدر الصداق، وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه، وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول، فيقال له‏: أصبت، فيقول‏: والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه‏؟‏
فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر، فليس فيهم معصوم، بل الخطأ يجوز عليهم كلهم، وإن

 

ص -226-

كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ، وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا، فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع‏.‏
ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة، ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث؛ لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة، فلا يأخذ إلا شيئا معصوما محفوظا‏.‏
وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ، والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه، وبهذا صار جميع الأولياء مفتقرين إلى الكتاب والسنة، لابد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول، فما وافق آثار الرسول فهو الحق، وما خالف ذلك فهو باطل، وإن كانوا مجتهدين فيه، والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم، ويغفر لهم خطأهم‏.‏
ومعلوم أن السابقين الأولىن أعظم اهتداء واتباعا للآثار النبوية، فهم أعظم إيمانا وتقوى، وأما آخر الأولياء فلا يحصل له مثل ما حصل لهم‏.‏
والحديث الذي يروى‏: ‏"‏مثل أمتي كمثل الغيث لا يدري أوله خير أم آخره‏؟‏‏"‏، قد تكلم في إسناده، وبتقدير صحته إنما معناه‏: يكون في آخر الأمة من يقارب أولها، حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير، كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب، مع القطع بأن الأول خير من الآخر؛ ولهذا قال‏: ‏[‏لا يدري‏]‏ ومعلوم أن هذا السلب ليس عاما لها، فإنه لابد أن يكون معلومًا أيهما أفضل‏.‏

 

ص -227-

ثم إن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له، وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف، وقد ادعاها غير واحد، ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص، وتابعه صاحب الكلام في الحروف، وشيخ من أتباعهم كان بدمشق، وآخر كان يزعم أنه المهدي، الذي يزوج بنته بعيسى ابن مريم، وأنه خاتم الأولياء، ويدعى هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده، كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح‏.‏
ثم صاحب الفصوص وأمثاله، بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك؛ فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب، فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدثا قد ألقى إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة‏.‏
وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه‏:
من وراء حجاب، كما كلم موسى‏.‏
وبإرسال رسول، كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء‏.‏
وبالإيحاء، وهذا فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأولياءن فإنهما للأنبياء خاصة، فالأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول

 

ص -228-

ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة، ويكون هذا الأخذ أعلى، وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى، ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم، كما نزلت على الأنبياء‏؟‏ وهذا دين المسلمين، واليهود، والنصارى‏.‏
وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية، فبنوا على أصلهم الفاسد‏: أن الله هو الوجود المطلق، الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر وإن كانت من وساوس الشيطان يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى ابن عمران، وفيهم من يزعمون أن حالهم أفضل من حال موسى بن عمران؛ لأن موسى سمع الخطاب من الشجرة، وهم على زعمهم يسمعون الخطاب من حي ناطق، كما يذكر عن صاحب الفصوص أنه قال‏:

 وكل كلام في الوجود كلامه

 سواء علىنا نثره ونظامه

وأعانهم على ذلك ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام، وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع؛ إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد، وإنما الحجاب متصل به، فإذا ارتفع شاهد الحق‏.‏
وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه، من الوجود المطلق، الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم، أو من الوجود المخلوق‏.‏ فيكون الرب المشهود عندهم الذي

 

ص -229-

يخاطبهم في زعمهم لا وجود له إلا في أذهانهم، أو لا وجود له إلا وجود المخلوقات، وهذا هو التعطيل للرب تعالى، ولكتبه، ولرسله، والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم، والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل‏.‏
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏"‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏"‏، ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة، وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه‏.‏
وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس‏.‏ فعائشة أنكرت الرؤية، وابن عباس ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال‏: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، وكذلك ذكر أحمد عن أبي ذر وغيره‏: أنه أثبت رؤيته بفؤاده‏.‏ وهذا المنصوص عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السنة، ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة‏.‏
ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية، فالنفي يقول به متكلمة الجهمية، والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية، كالاتحادية، وطائفة من غيرهم، وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين‏: عين ما ترى ذات لا تري، وذات لا ترى عين ما ترى، ونحو ذلك؛ لأن

 

ص -230-

مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين، فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح، ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح‏.‏
ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، من بعض الوجوه، فإن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي، ولا غيره من المشايخ المعروفين، بل الرجل أجل قدرًا، وأعظم إيمانا، من أن يفترى هذا الكفر الصريح، ولكن أخطأ شبرًا، ففرعوا على خطئه ما صار كفرًا‏.‏
وأعظم من ذلك‏: زعمهم أن الأولياء والرسل من حيث ولايتهم تابعون لخاتم الأولياء، وآخذون من مشكاته، فهذا باطل بالعقل والدين، فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم‏.‏
وأعظم من ذلك‏: أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله، الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك‏: أنه جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود، القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق‏.‏
فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح، درجة بعد درجة، واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر، وتأبير النخل، فهل يقول مسلم‏: إن عمر كان أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في الأسرى‏؟‏ أو أن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك‏؟‏ ثم ما قنع بذلك حتى قال‏: فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل علم وكل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم‏.‏

 

ص -231-

فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط، وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة، وغالية المتصوفة، وغالية المتكلمة، الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل، كالعلم بالله ونحو ذلك، وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام، الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم‏.‏
وقد يقولون‏: إن الشرائع قوانين عدلية، وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة، فيفضلون فيها أنفسهم، وطرقهم على الأنبياء، وطرق الأنبياء‏.‏
وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين‏: أن هذا من أعظم الكفر والضلال، وكان ذلك من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل، من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق‏.‏
وصاروا في أخبار الرسل، تارة يكذبونها، وتارة يحرفونها، وتارة يفوضونها، وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم‏.‏
ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات، يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم، إلا الغالية منهم كما تقدم فهؤلاء من شر الناس قولا واعتقادًا‏.‏
وقد كان عندنا شيخ من أجهل الناس، كان يعظمه طائفة من الأعاجم، ويقال‏: إنه خاتم الأولياء، يزعم أنه يفسر العلم بوجهين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فسره بوجه واحد، وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم،

 

ص -232-

وهذا تلقاه من صاحب الفصوص، وأمثال هذا في هذه الأوقات كثيرون، وسبب ضلال المتفلسفة، وأهل التصوف والكلام، الموافقة لضلالهم، وليس هذا موضع الإطناب في بيان ضلال هذا، وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء‏.‏
فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر صاحب الفصوص فظاهر، ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك، ولكن يرى أن له طريقًا إلى الله غير اتباع الرسول، ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصة موسى والخضر‏.‏
ولا حجة فيها لوجهين‏:
أحدهما‏: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، ولهذا جاء في الحديث الصحيح‏: ‏"‏أن موسى لما سلم على الخضر قال‏: وإني بأرضك السلام‏؟‏ قال‏: أنا موسى، قال‏: موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏: نعم، قال‏: إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه‏"‏‏.‏
ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏فضلنا على الناس بخمس‏: ‏جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى

 

ص -233-

الناس عامة‏"‏، وقال‏: ‏"‏أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي‏: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة‏"‏، وقد قال تعالى‏: ‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏سبأ‏: ‏28‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏: ‏158‏]‏‏.‏ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين‏: إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، الأولياء منهم وغير الأولياء، فليس لأحد الخروج عن متابعته باطنا وظاهرًا، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة، في دقيق ولا جليل، لا في العلوم ولا الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى، وأما موسى فلم يكن مبعوثًا إلى الخضر‏.‏
الثاني‏: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة، بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفًا لشريعته لم يوافقه بحال‏.‏
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، فإن خرق السفينة مضمونه‏: أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه، فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية، كما جاز للراعي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح الشاة، التي خاف عليها الموت، وقصة الغلام مضمونها‏: جواز قتل الصبي الصائل؛ ولهذا قال ابن عباس لنجدة‏: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر

 

ص -234-

من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم‏.‏ وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة، إذا كان لذرية قوم صالحين‏.‏
الوجه الثامن‏: أنه قال‏: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط إلى آخر كلامه وهو متضمن أن العلم نوعان‏أحدهما‏: علم الشريعة، وهو يأخذ عن الله كما يأخذ النبي، فإنه قال‏: والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره، وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة، متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا‏.‏
وهذا الذي زعمه من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع أتباعهم فيه من الإلحاد ما لا يخفي على من يؤمن بالله ورسله، فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله، ويقول‏: إنه أوحي إلى ولم يوح إليه شيء، ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك، إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه، فينبغي موافقته له لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي‏.‏
وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحوه ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة وكان يقول مؤذنه‏: أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله‏.‏

 

ص -235-

والنوع الثاني‏: علم الحقيقة، وهو فيه فوق الرسول، كما قال‏: هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول، فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية وهو علم الباطن والحقيقة هو فيه فوق الرسول؛ لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحى به إلى الرسول، والرسول يأخذه من الملك، وهو يأخذه من فوق الملك، من حيث يأخذه الملك، وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلى من الرسول، في علم من العلوم الإلهية، وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله‏.‏
ثم قال‏: فإن فهمت ما أشرت به، فقد حصل لك العلم النافع‏.‏ ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى لا ترضي أن تجعل أحدًا من المؤمنين فوق موسى وعيسى، وهذا يزعم أنه هو وأمثاله ممن يدعى أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل، وأعلم بالله من جميع الرسل، وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا، وإنما يقول مثل هذا غلاتهم، وأهل الحمق منهم، الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين‏.‏
التاسع‏: قوله‏: فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين، ليوطن لنفسه بذلك أن جميع الأنبياء لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء،

 

ص -236-

وكلاهما ضلال، فإن الرسل ليس منهم أحد يأخذ من آخر، إلا من كان مأمورًا باتباع شريعته، كأنبياء بني إسرائيل، والرسل الذين بعثوا فيهم الذين أمروا باتباع التوراة، كما قال تعالى‏: ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏44‏]‏‏.‏ وأما إبراهيم، فلم يأخذ عن موسى وعيسى‏.‏ ونوح لم يأخذ عن إبراهيم‏.‏ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى لم يأخذوا عن محمد، وإن بشروا به وآمنوا به، كما قال تعالى‏: ‏‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: ‏81‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه‏.‏
العاشر‏: قوله‏: فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏"‏‏.‏ بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأولياء، كان وليًا وآدم بين الماء والطين، كذب واضح، مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد‏.‏
فإن الله علم الأشياء، وقدرها قبل أن يكونها، ولا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته صلىالله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق، إلا كما كانت حقيقة غيره، بمعنى أن الله علمها وقدرها‏.‏
لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورًا أعظم من غيره، فإنه كان مكتوبًا

 

ص -237-

في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، كما روى الإمام أحمد في مسنده، عن العِرْباض بن سارية، عن النبي صلىالله عليه وسلم قال‏: ‏"‏إني لعبد الله، مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك‏: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏"‏‏.‏
وحديث ميسرة الفجر‏: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيًا‏؟‏ وفي لفظ‏: متي كتبت نبيًا‏؟‏ قال‏: ‏"‏وآدم بين الروح والجسد‏"‏ وهذا لفظ الحديث‏.‏
وأما قوله‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏"‏ فلا أصل له، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ، وهو باطل، فإنه لم يكن بين الماء والطين، إذ الطين؛ ماء وتراب، ولكن لما خلق الله جسد آدم قبل نفخ الروح فيه، كتب نبوة محمد صلىالله عليه وسلم وقدرها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال‏: حدثنا رسول الله صلىالله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق‏: ‏"
‏إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏: اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقيًا أو سعيدًا، ثم ينفخ فيه الروح‏"‏، وروى أنه كتب اسمه على ساق العرش، ومصاريع الجنة‏.‏ فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة‏؟‏
وما يروى في هذا الباب من الأحاديث، هو من هذا الجنس، مثل كونه كان نورًا يسبح حول العرش، أو كوكبًا يطلع في السماء ونحو ذلك، كما ذكره

 

ص -238-

ابن حمويه صاحب ابن عربي وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين، وابن سبعين وأمثالهم، ممن يروي الموضوعات المكذوبات، باتفاق أهل المعرفة بالحديث‏.‏
فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب، حتى إنه اجتمع بي قديما شيخ معظم، من أصحاب ابن حمويه، يسميه أصحابه سلطان الأقطاب، وتفاوضنا في كتاب الفصوص، وكان معظما له ولصاحبه، حتى أبديت له بعض ما فيه، فهاله ذلك، وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث، فبينت له أن هذا كله كذب‏.‏
الحادي عشر‏: قوله‏: وخاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين إلى قوله‏: فخاتم الرسل من حيث ولايته، نسبته مع الختم للولاية، كنسبة الأولياء والرسل معه إلى آخر الكلام ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله صلىالله عليه وسلم مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله، الذي هو أعلى العلم، وهو وحدة الوجود، إنه مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة‏.‏ فعين حالا خاصا ما عمم إلى قوله‏: ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص‏.‏
فكذب على رسول الله صلىالله عليه وسلم في قوله‏: إنه قال‏: أنا سيد ولد آدم في الشفاعة خاصة، وألحد وافترى من حيث زعم أنه سيد في الشفاعة فقط، لا في بقية المراتب، بخلاف الختم المفترى، فإنه سيد في العلم بالله، وغير ذلك من المقامات

 

ص -239-

ولقد كنت أقول‏: لو كان المخاطب لنا من يفضل إبراهيم، أو موسى، أو عيسى على محمد صلىالله عليه وسلم، لكانت مصيبة عظيمة لا يحتملها المسلمون، فكيف بمن يفضل رجلا من أمة محمد على محمد، وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم‏؟‏‏!‏ ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته‏؟‏ وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة‏.‏
وهذا المفضل من أضل بني آدم، وأبعدهم عن الصراط المستقيم، وإن كان له كلام كثير، ومصنفات متعددة، وله معرفة بأشياء كثيرة، وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة، والمتصوفة، والمتكلمة، والمتفقهة، والعامة، فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالا، عند أهل العلم والإيمان‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر، والتنقيص بالرسل، والاستخفاف بهم، والغض منهم، بل والكفر بهم، وبما جاؤوا به، ما لا يخفى على مؤمن، وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء‏: أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري رحمة الله عليه يقول‏: رأيت ابن عربي وهو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله‏.‏ ولقد صدق فيما قال، ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر‏.‏
وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام‏: هو شيخ سوء، مقبوح كذاب،

 

ص -240-

يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، هو حق عنه، لكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر، فإن قوله لم يكن قد تبين له حاله وتحقق، وإلا فليس عنده رب وعالم، كما تقوله الفلاسفة الإلهيون، الذين يقولون بواجب الوجود، وبالعالم الممكن، بل عنده وجود العالم هو وجود الله، وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية، الذين ينكرون وجود الصانع مطلقا، ولا يقرون بوجود واجب غير العالم‏.‏
كما ذكر الله عن فرعون وذويه، وقوله مطابق لقول فرعون، لكن فرعون لم يكن مقرًا بالله، وهؤلاء يقرون بالله، ولكن يفسرونه بالوجود، الذي أقر به فرعون، فهم أجهل من فرعون وأضل، وفرعون أكفر منهم؛ إذ في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم، كما قال تعالى‏:
‏‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏: ‏14‏]‏، وقال له موسى‏: ‏‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏102‏]‏‏.‏
وجماع أمر صاحب الفصوص وذويه‏: هدم أصول الإيمان الثلاثة، فإن أصول الإيمان‏: الإيمان بالله، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر‏.‏
فأما الإيمان بالله‏: فزعموا أن وجوده وجود العالم، ليس للعالم صانع غير العالم‏.‏
وأما الرسول‏: فزعموا أنهم أعلم بالله منه، ومن جميع الرسل، ومنهم من

 

ص -241-

يأخذ العلم بالله الذي هو التعطيل ووحدة الوجود من مشكاته، وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله‏.‏
وأما الإيمان باليوم الآخر‏: ‏فقد قال‏:

 فلم يبق إلا صادق الوعد وحده

 وبالوعيد الحق عين تعاين

 وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم

  على لذة فيها نعيم يباين

وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال‏: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب؛ لأنه أمر مستعذب‏.‏ ثم إنه في الأمر والنهي عنده الآمر، والناهي، والمأمور، والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه‏:

 الرب حق، والعبد حق

 يا ليت شعري من المكلف

 إن قلت عبد فذاك رب

 أو قلت رب أني يكلف

وفي موضع آخر‏: ‏[‏فذاك ميت‏]‏ رأيته بخطه‏.‏
وهذا مبني على أصله، فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب، فمن المكلف‏؟‏ وعلى أصله هو المكلِّف والمكلَّف كما يقولون‏: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا‏.‏

 

ص -242-

وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم، وسماها نظم السلوك‏:

 إلىَّ رسولا كنت مني مرسلا

 وذاتي بآياتي على استدلت

ومضمونها‏: هو القول بوحدة الوجود، وهو مذهب ابن عربي، وابن سبعين، وأمثالهم، كما قال‏:

 لها صلاتي، بالمقام أقيمها

 وأشهد فيها أنها لي صلت

 كلانا مصل، عابد ساجد إلى

 حقيقة الجمع في كل سجدة

 وما كان لي صلى سواي، فلم تكن

 صلاتي لغيري، في أدا كل ركعة

إلى قوله‏:

 وما زلت إياها، وإياي لم تزل

 ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت

ومثل هذا كثير، والله أعلم‏.‏
وحدثني صاحبنا الفقيه الصوفي، أبو الحسن على بن قرباص‏: أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني، فوجده يصنف كتابا‏.‏ فقال‏: ما هذا‏؟‏ فقال‏: هذا في الرد على ابن سبعين، وابن الفارض، وأبي الحسن الجزلي، والعفيف التلمساني‏.‏
وحدثني عن جمال الدين بن واصل، وشمس الدين الأصبهاني‏: أنهما كانا

 

ص -243-

ينكران كلام ابن عربي ويبطلانه، ويردان عليه، وأن الأصبهاني رأي معه كتابًا من كتبه فقال له‏: إن اقتنيت شيئا من كتبه فلا تجئ إلى، أو ما هذا معناه‏.‏
وإن ابن واصل لما ذكر كلامه في التفاحة، التي انقلبت عن حوراء فتكلم معها أو جامعها فقال‏: والله الذي لا إله إلا هو، يكذب‏.‏ ولقد بر في يمينه‏.‏
وحدثني صاحبنا العالم الفاضل أبو بكر بن سالار‏: عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد شيخ وقته عن الإمام أبي محمد بن عبد السلام، أنهم سألوه عن ابن عربي، لما دخل مصر، فقال‏: شيخ سوء كذاب مقبوح، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا‏.‏ وكان تقي الدين يقول‏: هو صاحب خيال واسع‏.‏ حدثني بذلك غير واحد من الفقهاء المصريين ممن سمع كلام ابن دقيق العيد‏.‏
وحدثني ابن بحير عن رشيد الدين سعيد وغيره أنه قال‏: كان يستحل الكذب، هذا أحسن أحواله‏.‏
وحدثني الشيخ العالم العارف، كمال الدين المراغي، شيخ زمانه، أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال‏: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئا، فرأيته مخالفًا للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال‏: القرآن ليس فيه توحيد، بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد، قال‏: فقلت له‏: ما الفرق عندكم بين الزوجة، والأجنبية، والأخت، الكل واحد‏؟‏

 

ص -244-

قال‏: ‏لا فرق بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراما، فقلنا‏: هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام‏.‏
وحدثني كمال الدين المراغي، أنه لما تحدث مع التلمساني في هذا المذهب قال وكنت أقرأ عليه في ذلك‏: فإنهم كانوا قد عظموه عندنا، ونحن مشتاقون إلى معرفة ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ فلما صار يشرحه لي أقول‏: هذا خلاف القرآن والأحاديث، فقال‏: ارم هذا كله خلف الباب، واحضر بقلب صاف، حتى تتلقى هذا التوحيد أو كما قال ثم خاف أن أشيع ذلك عنه، فجاء إليَّ باكيا وقال‏: اسْتُر عني ما سمعتَه مني‏.‏
وحدثني أيضا كمال الدين، أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي، تلميذ الشيخ أبي الحسن، فقال عن التلمساني‏: هؤلاء كفار، هؤلاء يعتقدون أن الصنعة هي الصانع‏.‏
قال‏: وكنت قد عزمت على أن أدخل الخلوة على يده، فقلت‏: أنا لا آخذ عنه هذا، وإنما أتعلم منه أدب الخلوة، فقال لي‏: مثلك مثل من يريد أن يتقرب إلى السلطان، على يد صاحب الأتون والزبال، فإذا كان الزبال هو الذي يقربه إلى السلطان، كيف يكون حاله عند السلطان‏؟‏
وحدثنا أيضا قال‏: قال لي قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد‏: إنما استولت التتار على بلاد المشرق، لظهور الفلسفة فيهم، وضعف

 

ص -245-

الشريعة، فقلت له‏: ففي بلادكم مذهب هؤلاء الذين يقولون بالاتحاد، وهو شر من مذهب الفلاسفة‏؟‏ فقال‏: قول هؤلاء لا يقوله عاقل، بل كل عاقل يعلم فساد قول هؤلاء يعني أن فساده ظاهر فلا يذكر هذا فيما يشتبه على العقلاء، بخلاف مقالة الفلاسفة، فإن فيها شيئا من المعقول، وإن كانت فاسدة‏.‏
وحدثني تاج الدين الأنباري، الفقيه المصري الفاضل، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول‏: رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية، وهو شيخ نجس، يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله‏.‏
وحدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم أنه قال‏: كنت وأنا شاب بدمشق أسمع الناس يقولون عن ابن عربي، والخسروشاهي‏: إن كليهما زنديق أوكلامًا هذا معناه‏.‏ وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري‏: أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد‏:

 إن كان منزلتي في الحب عندكم

 ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

 أمنية ظفرت نفسي بها زمنا

 واليوم أحسبها أضغاث أحلام

وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الأنباري، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول‏: رأيت في منامي ابن عربي، وابن الفارض، وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران، ويقولان‏: كيف الطريق‏؟‏ أين الطريق ‏؟‏

 

ص -246-

وحدثني شهاب الدين المزي، عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين بن الحكيم عن أبيه أنه قال‏: قدمت دمشق فصادفت موت ابن عربي، فرأيت جنازته كأنما ذر عليها الرماد، فرأيتها لا تشبه جنائز الأولياء أو قال‏: فعلمت أن هذه أو نحو هذا‏.‏ وعن أبيه عن الشيخ إسماعيل الكوراني أنه كان يقول‏: ابن عربي شيطان‏.‏ وعنه أنه كان يقول عن الحريري‏: إنه شيطان‏.‏
وحدثني شهاب الدين عن القاضي شرف الدين البازيلي، أن أباه كان ينهاه عن كلام ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين‏.

 

ص -247-

فصل‏:
في بعض ما يظهر به كفرهم، وفساد قولهم‏.‏ وذلك من وجوه‏:
أحدها‏: أن حقيقة قولهم‏: أن الله لم يخلق شيئا، ولا ابتدعه، ولا برأه ولا صوره؛ لأنه إذا لم يكن وجود إلا وجوده، فمن الممتنع أن يكون خالقًا لوجود نفسه، أو بارئا لذاته، فإن العلم بذلك من أبين العلوم، وأبدهها للعقول، أن الشيء لا يخلق نفسه‏.‏
ولهذا قال سبحانه‏: ‏
{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏: ‏35‏]‏‏.‏ فإنهم يعلمون أنهم لم يكونوا مخلوقين من غير خالق، ويعلمون أن الشيء لا يخلق نفسه فتعين أن لهم خالقا‏.‏
وعند هؤلاء الكفار، الملاحدة الفرعونية‏: أنه ما ثم شيء يكون الرب قد خلقه أو برأه، أو أبدعه إلا نفسه المقدسة، ونفسه المقدسة لا تكون إلا مخلوقة، مربوبة مصنوعة، مبروءة، لامتناع ذلك في بدائه العقول، وذلك من أظهر الكفر عند جميع أهل الملل والآراء‏.‏
وأما على رأي صاحب الفصوص‏: فما ثم إلا وجوده، والذوات الثابتة في العدم الغنية عنه، ووجوده لا يكون مخلوقا، والذوات غنية عنه، فلم يخلق الله شيئا‏.‏

 

ص -248-

الثاني‏: أن عندهم أن الله ليس رب العالمين، ولا مالك الملك، إذ ليس إلا وجوده، وهو لا يكون رب نفسه، ولا يكون الملك المملوك هو الملك المالك، وقد صرحوا بهذا الكفر مع تناقضه، وقالوا‏: إنه هو ملك الملك، بناء على أن وجوده مفتقر إلى ذوات الأشياء، وذوات الأشياء مفتقرة إلى وجوده، فالأشياء مالكة لوجوده، فهو ملك الملك‏.‏
الثالث‏: أن عندهم أن الله لم يرزق أحدًا شيئا، ولا أعطى أحدًا شيئا، ولا رحم أحدًا، ولا أحسن إلى أحد، ولا هدى أحدًا، ولا أنعم على أحد نعمة، ولا علم أحدًا علما، ولا علم أحدًا البيان، وعندهم في الجملة‏: لم يصل منه إلى أحد لا خير ولا شر، ولا نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا إضلال أصلا‏.‏ وأن هذه الأشياء جميعها عين نفسه، ومحض وجوده، فليس هناك غير يصل إليه، ولا أحد سواه ينتفع بها، ولا عبد يكون مرزوقا، أو منصورًا، أو مهديا‏.‏
ثم على رأى صاحب الفصوص‏: أن هذه الذوات ثابتة في العدم، والذوات هي أحسنت وأساءت، ونفعت وضرت، وهذا عنده سر القدر‏.‏
وعلى رأي الباقين ما ثم ذات ثابتة غيره أصلا، بل هو ذام نفسه بنفسه، ولاعن نفسه بنفسه، وقاتل نفسه بنفسه، وهو المرزوق المضروب المشتوم، وهو الناكح والمنكوح، والآكل والمأكول، وقد صرحوا بذلك تصريحا بينًا‏.‏
الرابع‏: أن عندهم أن الله هو الذي يركع ويسجد، ويخضع ويعبد،

 

ص -249-

ويصوم ويجوع، ويقوم وينام، وتصيبه الأمراض والأسقام، وتبتليه الأعداء ويصيبه البلاء، وتشتد به اللأواء، وقد صرحوا بذلك، وصرحوا بأن كل كرب يصيب النفوس فإنه هو الذي يصيبه الكرب، وأنه إذا نفس الكرب، فإنما يتنفس عنه؛ ولهذا كره بعض هؤلاء الذين هم من أكفر خلق الله وأعظمهم نفاقا وإلحادًا وعتوًا على الله وعنادًا أن يصبر الإنسان على البلاء؛ لأن عندهم أنه هو المصاب المبتلى‏.‏
وقد صرحوا بأنه موصوف بكل نقص وعيب، فإنه ما ثم من يتصف بالنقائص والعيوب غيره، فكل عيب ونقص، وكفر وفسوق في العالم، فإنه هو المتصف به، لا متصف به غيره، كلهم متفقون على هذا في الوجود‏.‏
ثم صاحب الفصوص يقول‏: إن ذلك ثابت في العدم، وغيره يقول‏: ما ثم سوى وجود الحق، الذي هو متصف بهذه المعايب والمثالب‏.‏
الخامس‏: أن عندهم أن الذين عبدوا اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، والذين عبدوا ودًا، وسواعًا، ويغوث، ويعوق، ونسرًا، والذين عبدوا الشعرى، والنجم، والشمس، والقمر‏.‏ والذين عبدوا المسيح، وعزيرًا، والملائكة، وسائر من عبد الأوثان والأصنام‏: من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، وبني إسرائيل، وسائر المشركين من العرب، ما عبدوا إلا الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله، وقد صرحوا بذلك في مواضع كثيرة، مثل قول صاحب الفصوص في فص الكلمة النوحية‏:

 

ص -250-

{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏22‏]‏، لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية‏ {‏أَدْعُو إِلَى اللّهِ‏}‏ فهذا عين المكر ‏{‏عَلَى بَصِيرَةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: 108‏]‏ ففيه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرًا كما دعاهم إلى أن قال‏: فقالوا في مكرهم‏: ‏{‏لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏23‏]‏ فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها خاصا، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله في المحمديين ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏ أي‏: حكم، فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورةظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية‏.‏ فما عبد غير الله في كل معبود، فالأدنى من تخيل فيه الألوهية، فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره؛ ولهذا قال تعالى‏: ‏{‏قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏33‏]‏ فلو سموهم لسموهم حجرًا وشجرًا وكوكبًا‏.‏ ولو قيل لهم‏: من عبدتم‏؟‏ لقالوا‏: إلها واحدًا، ما كانوا يقولون‏: الله ولا الإله، إلا على ما تخيل، بل قال‏: هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فالأدنى صاحب التخيل يقول‏: ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏، والأعلى العالم يقول‏: ‏{‏فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا‏}‏، حيث ظهر ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏34، 35‏]‏ خبت نار طبيعتهم فقالوا‏: ‏[‏إلها‏]‏ ولم يقولوا‏: ‏[‏طبيعة‏]‏‏.‏
وقال أيضا في فص الهارونية‏: ثم قال هارون لموسى‏:
‏{‏إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏طه‏: ‏94‏]‏،

 

ص -251-

فتجعلني سببًا في تفريقهم، فإن عبادة العجل فرقت بينهم، فكان فيهم من عبده اتباعا للسامري، وتقليدا له، ومنهم من توقف عن عبادته، حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك، فخشى هارون أن ينسب ذلك التفريق بينهم إليه، فكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون، لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتساعه، فإن العارف من يري الحق في كل شِيء، بل يراه عين كل شيء، فكان موسى يربي هارون تربية علم، وإن كان أصغر منه في السن‏.‏
ولذلك لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري فقال له‏:
‏{‏فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ‏}‏ ‏[‏طه‏: ‏95‏]‏ يعني‏: ‏فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل، على الاختصاص، وساق الكلام إلى أن قال‏: فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى عليه، حكمة من الله ظاهرة في الوجود، ليعبد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك‏.‏ فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية‏.‏ ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، ولابد من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في قلبه‏.‏

 

ص -252-

ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل‏: رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى ألا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيًا عبد فيها، وأعظم مجلى عبد فيه، وأعلاه الهوى كما قال‏: ‏‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏: ‏23‏]‏، فهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته‏.‏ وفيه أقول‏:

 وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى

 ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى

ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ‏!‏ كيف تمم في حق من عبد هواه، واتخذه إلهًا، فقال‏: ‏{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏: 23‏]‏ والضلالة الحيرة، وذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه، بانقياده لطاعته فيما يأمره به، من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادة الله كانت عن هوى أيضا، فإنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى، وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله، ولا آثره على غيره‏.‏
وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم، واتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى، فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه، ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين، فكل عابد أمرًا ما يكفر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى، بل لإحدىة الهوى كما ذكر، فإنه عين واحدة في كل عابد ف ‏
{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ‏}‏ أي حيره الله على علم، بأن كل عابد ما عبد إلا هواه، ولا استعبده إلا هواه، سواء

 

ص -253-

صادف الأمر المشروع أو لم يصادف‏.‏ والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه‏.‏
ولذلك سموه كلهم إلهًا مع اسمه الخاص شجر، أو حجر، أو حيوان، أو إنسان، أو كوكب، أو ملك، هذا اسم الشخصية فيه، والألوهية مرتبة تخيل العابد له، أنها مرتبة معبوده، وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد، المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص بحجر‏.‏
ولهذا قال بعض من لم يعرف مقاله جهالة‏:
‏‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏ مع تسميتهم إياهم آلهة، كما قالوا‏: ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏: ‏5‏]‏ فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك، فإنهم وقفوا مع كثرة الصورة، ونسبة الألوهية لها، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف، ولا يشهد بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم، واعتقدوه في قولهم‏: ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ لعلمهم بأن تلك الصور حجارة‏.‏
ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله‏:
‏{‏قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏33‏]‏ فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة كحجر، وخشب، وكوكب، وأمثالها‏.‏
وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه، فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور؛ لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت، لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم، الذي به سموا مؤمنين، فهم عباد الوقت، مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها، وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي،

 

ص -254-

الذي عرفوه منهم، وجهله المنكر الذي لا علم له بما يتجلى، وستره العارف المكمل من نبي أو رسول، أو وارث عنهم‏.‏
فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور، لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعًا للرسول، طمعًا في محبة الله إياهم بقوله‏:
‏‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏31‏]‏ فدعا إلى إله يصمد إليه، ويعلم من حيث الجملة، ولا يشهد، ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار للطفه وسريانه في أعيان الأشياء، فلا تدركه الأبصار، كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها، وصورها الظاهرة، فهو اللطيف الخبير، والخبرة ذوق، والذوق تجل والتجلى في الصور، فلابد منها ولابد منه، فلابد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت هذا‏.‏ اه‏.‏
فتدبر حقيقة ما عليه هؤلاء، فإنهم أجمعوا على كل شرك في العالم، وعدلوا بالله كل مخلوق، وجوزوا أن يعبد كل شيء، ومع كونهم يعبدون كل شيء فيقولون‏: ما عبدنا إلا الله‏.‏
فاجتمع في قولهم أمران‏: كل شرك، وكل جحود وتعطيل، مع ظنهم أنهم ما عبدوا إلا الله، ومعلوم أن هذا خلاف دين المرسلين كلهم، وخلاف دين أهل الكتاب كلهم، والملل كلها، بل وخلاف دين المشركين أيضا، وخلاف ما فطر الله عليه عباده مما يعقلونه بقلوبهم ويجدونه في نفوسهم وهو في غاية الفساد، والتناقض، والسفسطة، والجحود لرب العالمين‏.‏
وذلك أنه علم بالاضطرار‏: أن الرسل كانوا يجعلون ما عبده المشركون

 

ص -255-

غير الله، ويجعلون عابده عابدًا لغير الله، مشركا بالله عادلا به، جاعلا له ندًا، فإنهم دعوا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا هو دين الله، الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو الإسلام العام، الذي لا يقبل الله من الأولىن والأخرىن غيره، ولا يغفر لمن تركه بعد بلاغ الرسالة، كما قال‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏48‏]‏‏.‏
وهو الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، والسعداء والأشقياء، كما قال النبي صلىالله عليه وسلم‏:
‏"‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله‏: وجبت له الجنة‏"‏، وقال‏: ‏"‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة‏"‏، وقال‏: ‏"‏إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت، إلا وجد روحه لها روحًا، وهي رأس الدين‏"‏، وكما قال‏: ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏"‏‏.‏
وفضائل هذه الكلمة وحقائقها، وموقعها من الدين‏: فوق ما يصفه الواصفون، ويعرفه العارفون، وهي حقيقة الأمر كله، كما قال تعالى‏: ‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏25‏]‏، فأخبر سبحانه أنه يوحى إلى كل رسول بنفي الألوهية عما سواه وإثباتها له وحده‏.‏ وزعم هؤلاء الملاحدة المشركون‏: أن كل شيء يستحق الألوهية كاستحقاق الله لها، وقال تعالى‏: ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏45‏]‏،

 

ص -256-

وزعم هؤلاء الملاحدة أن كل شيء فإنه إله معبود، فأخبر سبحانه أنه لم يجعل من دون الرحمن آلهة، وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏36‏]‏‏.‏ فأمر الله سبحانه بعبادته واجتناب الطاغوت‏.‏ وعند هؤلاء‏: أن الطواغيت جميعها فيها الله، أو هي الله، و من عبدها فما عبد إلا الله، وقال تعالى‏: ‏‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ الآيتين ‏[‏البقرة‏: ‏21‏]‏‏.‏ فأمر سبحانه بعبادة الرب الخالق لهذه الآيات، وعند هؤلاء الملاحدة الملاعين‏: هو عين هذه الآيات، ونهى سبحانه أن يجعل الناس له أندادًا، وعندهم هذا لا يتصور، فإن الأنداد هي عينه، فكيف يكون ندًا لنفسه‏؟‏ والذين عبدوا الأنداد فما عبدوا سواه‏.‏
ثم إن هؤلاء الملاحدة احتجوا بتسمية المشركين لما عبدوه إلهًا، كما قالوا‏:
‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏ص‏: 5‏]‏، واعتقدوا أنهم لما سموهم آلهة كانت تسمية المشركين دليلا على أن الإلهية ثابتة لهم‏.‏
وهذه الحجة قد ردها الله على المشركين في غير موضع، كقوله سبحانه عن هود في مخاطبته للمشركين من قومه‏:
‏{‏أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏: ‏71‏]‏، هذا رد لقولهم‏: ‏{‏أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏70‏]‏، فأخبر رسول الله صلىالله عليه وسلم، أن تسميتهم إياها آلهة

 

ص -257-

ومعبودين تسمية ابتدعوها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من حجة ولا سلطان، والحكم ليس إلا لله وحده‏.‏
وقد أمر هو سبحانه ألا يعبد إلا إياه، فكيف يحتج بقول مشركين لا حجة لهم‏؟‏ وقد أبطل الله قولهم وأمر الخلق ألا يعبدوا إلا إياه دون هذه الأوثان، التي سماها المشركون آلهة، وعند الملاحدة عابدو الأوثان ما عبدوا إلا الله‏.‏
ثم إن المشركين أنكروا على الرسول، حيث جاءهم ليعبدوا الله وحده، ويذروا ما كان يعبد آباؤهم، فإذا كانوا هم ما زالوا يعبدون الله وحده، كما تزعمه الملاحدة، فلم يدعو إلى ترك ما يعبده آباؤهم، بل جاءهم ليعبد كل شيء كان يعبده آباؤهم هو وغيره من الأنبياء‏.‏
وكذلك قال سبحانه في سورة يوسف عنه‏:
‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏39، 40‏]‏، وقال سبحانه‏: ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏: ‏19‏: 23‏]‏‏.‏ وهذه الثلاثة المذكورة في هذه السورة هي الأوثان العظام الكبار، التي كان المشركون ينتابونها من أمصارهم، فاللات‏: كانت حذو قديد بالساحل

 

ص -258-

لأهل المدينة، والعزى‏: كانت قريبة من عرفات لأهل مكة، ومناة‏: كانت بالطائف لثقيف، وهذه الثلاث هي أمصار أرض الحجاز‏.‏
أخبر سبحانه أن الأسماء التي سماها المشركون أسماء ابتدعوها لا حقيقة لها، فهم إنما يعبدون أسماء لا مسميات لها، لأنه ليس في المسمى من الألوهية، ولا العزة، ولا التقدير شيء، ولم ينزل الله سلطانا بهذه الأسماء، إن يتبع المشركون إلا ظنا لا يغني من الحق شيئا، في أنها آلهة تنفع وتضر، ويتبعوا أهواء أنفسهم‏.‏
وعند الملاحدة أنهم إذا عبدوا أهواءهم فقد عبدوا الله، وقد قال سبحانه عن إمام الأئمة، وخليل الرحمن، وخير البرية بعد محمد صلىالله عليه وسلم أنه قال لأبيه‏:
‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏42‏: 45‏]‏ فنهاه وأنكر عليه أن يعبد الأوثان، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنه شيئا‏.‏
وعلى زعم هؤلاء الملحدين فما عبدوا غير الله في كل معبود فيكون الله هو الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنه شيئا، وهو الذي نهاه عن عبادته، وهو الذي أمره بعبادته‏.‏ وهكذا قال أحذق طواغيتهم الفاجر التلمساني في قصيدة له‏:

 يا عاذلي أنت تنهاني، وتأمرني

 والوجد أصدق نهَّاء وأمَّار

ص -259-

 فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي

 عن العيان إلى أوهام أخبار

 وعين ما أنت تدعوني إليه إذا

 حققته تره المنهي يا جاري‏

وقد قال أيضا إبراهيم لأبيه‏: ‏‏{‏يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏44‏]‏، وعندهم أن الشيطان مجلى إلهي، ينبغي تعظيمه، ومن عبده فما عَبَدَ غير الله، وليس الشيطان غير الرحمن حتى نعصيه، وقد قال سبحانه‏: ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏: ‏60‏: 62‏]‏، فنهاهم عن عبادة الشيطان، وأمرهم بعبادة الله سبحانه وحده، وعندهم عبادة الشيطان هي عبادته أيضا، فينبغي أن يعبد الشيطان وجميع الموجودات فإنها عينه‏.‏
وقال تعالى أيضا عن إمام الخلائق خليل الرحمن أنه لما
‏{‏رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏إلى قوله‏: ‏‏{‏وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏76‏: 82‏]‏، وقال أيضا‏: ‏‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏‏[‏الممتحنة‏: ‏4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ الآية‏[‏الزخرف‏: ‏26، 27‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏75‏: 98‏]‏،

ص -260-

وقال تعالى‏: ‏‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعلىنَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏32‏: 68‏]‏‏.‏
فهذا الخليل الذي جعله الله إمام الأئمة، الذين يهتدون بأمره، من الأنبياء والمرسلين بعده، وسائر المؤمنين قال‏:
‏‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏78، 79‏]‏‏.‏
وعند الملاحدة‏: الذي أشركوه، هو عين الحق ليس غيره، فكيف يتبرأ من الله الذي وجه وجهه إليه‏؟‏ وأحد الأمرين لازم على أصلهم، إما أن يعبده في كل شيء من المظاهر بدون تقييد ولا اختصاص وهو حال المكمل عندهم فلا يتبرأ من شيء، وإما أن يعبده في بعض المظاهر، كفعل الناقصين عندهم‏.‏
وأما التبرؤ من بعض الموجودات فقد قال‏: إن قوم نوح لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا من تلك الأوثان، والرسل قد تبرأت من الأوثان، فقد تركت الرسل من الحق شيئا كثيرًا، وتبرؤوا من الله الذي دعوا الخلق إليه، والمشركون على زعمهم أحسن حالا من المرسلين؛ لأن المشركين عبدوه في بعض المظاهر، ولم يتبرؤوا من سائرها، والرسل تبرؤوا منه في عامة المظاهر‏.‏
ثم قول إبراهيم‏:
‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏79‏]‏ باطل على أصلهم، فإنه لم يفطرها، إذ هي ليست غيره، فما أجدرهم بقوله‏: ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏: ‏51‏]‏‏.‏

 

ص -261-

ثم قول الخليل‏: ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏: ‏81‏]‏‏.‏ وهذه حجة الله التي آتاها إبراهيم على قومه بقوله‏: كيف أخاف ما عبدتموه من دون الله‏؟‏ وهي المخلوقات المعبودة من دونه، وعندهم ليست معبودة من دونه، ومن لم يخفها فلم يخف الله، فالرسل لم يخافوا الله‏.‏
وقول الخليل‏:
‏‏{‏أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عليكم سُلْطَانًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏81‏]‏ لم يصح عندهم، فإنهم لم يشركوا بالله شيئا؛ إذ ليس ثم غيره حتى يشركوه به، بل المعبود الذي عبدوه هو الله، وأكثر ما فعلوه أنهم عبدوه في بعض المظاهر، وليس في هذا أنهم جعلوا غيره شريكا له في العبادة‏.‏
وقوله‏:
‏‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 82‏]‏، وورد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏: ‏لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم وقالوا‏: أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال النبي صلىالله عليه وسلم‏: ‏"‏ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏: ‏‏{‏لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏"‏ ‏[‏لقمان‏: ‏13‏]‏‏.‏ فقد أخبر الله ورسوله أن الشرك ظلم عظيم، وأن الأمن هو لمن آمن بالله، ولم يخلط إيمانه بشرك، وعلى زعم هؤلاء الملاحدة، فإيمان الذين خلطوا إيمانهم بشرك هو الإيمان الكامل التام، وهو إيمان المحقق العارف عندهم؛ لأن من آمن بالله في جميع مظاهره وعبده في كل موجود، هو أكمل ممن لم يؤمن به حيث لم يظهر، ولم يعبده إلا من حيث لا يشهد ولا يعرف، وعندهم لا يتصور أن يوجد إلا في المخلوق، فمن لم يعبده في شيء

 

ص -262-

من المخلوقات أصلا، فما عبده في الحقيقة أصلا، وإذا أطلقوا أنه عبده فهو لفظ لا معنى له، أي إذا فسروه بالتخصيص فيكون بالتخصيص بمعنى أنه خصص بعض المظاهر بالعبادة، وهذا عندهم نقص لا من جهة ما أشركه وعبده، وإنما هو من جهة ما تركه، فليس عندهم في الشرك ظلم ولا نقص إلا من جهة قِلَّتِه، وإلا فإذا كان الشرك عاما كان أكمل وأفضل‏.‏
وكذلك أيضا قول الخليل لقومه‏: ‏
{‏إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: 4‏]‏ تبرأ عندهم من الحق الذي ظهر فيهم وفي آلهتهم، وكذلك كفره به ومعاداته لهم كفر بالحق عندهم ومعاداة له‏.‏
ثم قوله‏:
‏{‏حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏4‏]‏ كلام لا معنى له عندهم، فإنهم كانوا مؤمنين بالله وحده؛ إذ لا يتصور عندهم غيره، وإنما غايتهم أنهم عبدوه في بعض المظاهر، وتركوا بعضها من غير كفر به فيها‏.‏
وكذلك سائر ما قصه عن إبراهيم من معاداته لما عبده أولئك هو عندهم معاداة لله؛ لأنه ما عبد غير الله كما زعم الملحدون، محتجين بقوله‏:
‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏، قالوا‏: وما قضى الله شيئا إلا وقع‏.‏
وهذا هو الإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن ‏[‏قضى‏]‏ هنا ليست بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين، بل وبإجماع العقلاء، حتى يقال‏: ما قدر الله شيئا إلا وقع، وإنما هي بمعنى أمر، وما أمر الله به فقد يكون وقد لا يكون، فتدبر هذا التحريف‏.‏

 

ص -263-

وكذلك قوله ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل، فإن الحكم يكون بمعنى الأمر الديني، وهو الأحكام الشرعية، كقوله‏: ‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏1‏]‏‏.‏ وقوله‏: ‏‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا‏}‏‏[‏المائدة‏: ‏50‏]‏، وقوله‏: ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏10‏]‏، ويكون الحكم حكما بالحق والتكوين والفعل كقوله‏: ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏80‏]‏، وقوله‏: ‏{‏قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ‏}‏‏[‏الأنبياء‏: ‏112‏]‏‏.‏
ولهذا كان بعض السلف يقرؤون ‏[‏ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏]‏ ذكره ثعلب عن ابن عباس، وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف؛ ولهذا قال في سياق الكلام‏: ‏
{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏ وساق أمره، ووصاياه، إلى أن قال‏: ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏39‏]‏
فختم الكلام بمثل ما فتحه به، من أمره بالتوحيد، ونهيه عن الشرك، ليس هو إخبارا أنه ما عبد أحد إلا الله، وأن الله قدر ذلك وكونه، وكيف وقد قال‏: ‏
{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏39‏]‏، وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلها آخر، فأي شيء عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره‏.‏
ومثل معاداة إبراهيم والمؤمنين لله على زعمهم حيث عادى العابدين والمعبودين، وما عبد غير الله، وما عبد الله غير الله، فهو عين كل عابد وعين كل معبود، فكذلك قوله تعالى‏:
‏{‏لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أولياء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏1‏]‏‏.‏

 

ص -264-

وعلى زعمهم ما لله عدو أصلا، وأنه ما ثم غير، ولا سوى، بحيث يتصور أن يكون عدو نفسه أو عدو الذوات التي لا يظهر إلا بها‏.‏
السادس‏: أن عندهم أن دعوة العباد إلى الله مكر بهم، كما صرح به، حيث قال‏: إن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية‏.‏
وقال أيضا صاحب الفصوص‏:
‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏34‏]‏ الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا‏: إلها ولم يقولوا‏: طبيعة، ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا‏}‏ أي‏: حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب، ‏{‏وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ‏}‏لأنفسهم، المصْطَفِينَ الَّذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة، فقدمه على المقتصد والسابق، ‏{‏إِلَّا ضَلَالًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏24‏]‏ أي‏: إلا حيرة‏.‏ وفي المحمدي‏: زدني فيك تحيرًا‏.‏
‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏20‏]‏ له فالمحير له الدور، والحركة الدورية حول القطب، فلا يبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته، فله ‏[‏من‏]‏ و ‏[‏إلى‏]‏ وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له، فيلزمه ‏[‏من‏]‏ ولا غاية فتحكم عليه ‏[‏إلى‏]‏ فله الوجود الأتم، وهو المؤتى جوامع الكلم‏.‏ اه‏.‏

 

ص -265-

وقال بعض شعرائهم‏:

 ما بال عيسك لا يقر قرارها

 وإلامَ ضلك لا يني متنقلا‏؟‏

 فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن

 إلا إليك إذا بلغت المنزلا

فعندهم الإنسان هو غاية نفسه، وهو معبود نفسه، وليس وراءه شيء يعبده أو يقصده، أو يدعوه، أو يستجيب له؛ ولهذا كان قولهم حقيقة قول فرعون‏.‏
وكنت أقول لمن أخاطبه‏: إن قولهم هو حقيقة قول فرعون، حتى حدثني بعض من خاطبته في ذلك من الثقات العارفين‏: أن بعض كبرائهم لما دعا هذا المحدث إلى مذهبهم، وكشف له حقيقة سرهم، قال‏: فقلت له‏: هذا قول فرعون‏؟‏ قال‏: نعم، ونحن على قول فرعون، فقلت له‏: الحمد لله الذي اعترفوا بهذا، فإنه مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة‏.‏
وقد جعل صاحب الطريق المستطيل صاحب خيال، ومدح الحركة المستديرة الحائرة، والقرآن يأمر بالصراط المستقيم، ويمدحه ويثنى على أهله لا على المستدير، ففي أم الكتاب‏: ‏
{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏6‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 153‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏}‏ الآيتين ‏[‏النساء‏: 66‏]‏‏.‏
وقال تعالى في موسى وهارون‏:
‏{‏وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏: ‏117، 118‏]‏،

 

ص -266-

وقال تعالى‏: ‏{‏وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 126‏]‏، وقال عن إبليس‏: ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏: 16، 17‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عليهمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏: ‏20‏]‏‏.‏
وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه، فإنه قعد لهم على صراط الله المستقيم، فصدهم عنه حتى كفروا بربهم، وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم‏.‏
وقال تعالى في حق خاتم الرسل‏:
‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏: ‏52، 53‏]‏‏.‏
وأيضا فإن الله يقول‏: ‏
{‏وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏يونس‏: 30‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ علىنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏: ‏25، 26‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏48‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏: 6‏]‏، وهؤلاء عندهم ما ثم إلا أنت، وأنت إلى الآن مردود إلى الله وما زلت مردودا إليه، وليس هو شيء غيرك، حتى ترد إليه أو ترجع إليه أو تكدح إليه أو تلاقيه، ولهذا حدثونا أن ابن الفارض لما احتضر أنشد بيتين‏:

 إن كان منزلتي في الحب عندكم

 ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي‏

 أمنية ظفرت نفسي بها زمنا

 واليوم أحسبها أضغاث أحلام‏

ص -267-

وذلك أنه كان يتوهم أنه هو الله، وأنه ما ثم مرد إليه ومرجع إليه غير ما كان هو عليه، فلما جاءته ملائكة الله تنزع روحه من جسمه، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، تبين له أن ما كان عليه أضغاث أحلام من الشيطان‏.‏
وكذلك حدثني بعض أصحابنا، عن بعض من أعرفه وله اتصال بهؤلاء، عن الفاجر التلمساني‏: أنه وقت الموت تغير واضطرب، قال‏: دخلت عليه وقت الموت فوجدته يتأوه، فقلت له‏: مم تتأوه‏؟‏ فقال‏: من خوف الفوت، فقلت‏: سبحان الله، ومثلك يخاف الفوت، وأنت تدخل الفقير إلى الخلوة فتوصله إلى الله في ثلاثة أيام ‏؟‏‏!‏ فقال ما معناه‏: زال ذلك كله وما وجدت لذلك حقيقة‏!‏
السابع‏: أن عندهم من يدعي الإلهية من البشر، كفرعون والدجال المنتظر، أو ادعيت فيه وهو من أولياء الله نبيا كالمسيح، أو غير نبي كعلى، أو ليس من أولياء الله كالحاكم بمصر وغيرهم، فإنه عند هؤلاء الملاحدة المنافقين يصحح هذه الدعوى‏.‏
وقد صرح صاحب الفصوص بتصحيح هذه الدعوى، كدعوى فرعون، وهم كثيرًا ما يعظمون فرعون، فإنه لم يتقدم لهم رأس في الكفر مثله، ولا يأتي متأخر لهم مثل الدجال الأعور الكذاب، وإذا نافقوا المؤمنين وأظهروا الإيمان قالوا‏: إنه مات مؤمنًا، وإنه لا يدخل النار، وقالوا‏: ليس في القرآن ما يدل على دخوله النار‏.‏

 

ص -268-

وأما في حقيقة أمرهم فما زال عندهم عارفًا بالله، بل هو الله، وليس عندهم نار فيها ألم أصلا، كما سنذكره إن شاء الله عنهم، ولكن يتفطن بهذا لكون البدع مظان النفاق، كما أن السنن شعائر الإيمان‏.‏
قال صاحب الفصوص في فص الحكمة التي في ‏[‏الكلمة الموسوية‏]‏ لما تكلم على قوله‏:
‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 23‏]‏ قال‏: وهنا سر كبير، فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم، أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال له في جواب قوله‏: ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏: الذي يظهر فيه صور العالمين، من علو وهو السماء، وسفل وهو الأرض ‏{‏إن كُنتُم مُّوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏24‏]‏، أو يظهر هو بها‏.‏
فلما قال فرعون لأصحابه‏: إنه لمجنون كما قلنا في معنى كونه مجنونًا أي لمستور عنه علم ما سألته عنه إذ لا يتصور أن يعلمه أصلا، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي، لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال‏:
‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 28‏]‏، فجاء بما يظهر ويستر، وهو الظاهر والباطن ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏28‏]‏ وهو قوله‏: ‏{‏وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 101‏]‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏28‏]‏ أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن العقل للتقييد‏.‏
والجواب الأول جواب الموقنين، وهم أهل الكشف والوجود، فقال له‏:
‏{‏إِن كُنتُمْ موقنين‏}‏ أي‏: أهل كشف ووجود فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في كشفكم ووجودكم‏.‏

 

ص -269-

فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم بالجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد، وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم، فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه، وعلم موسى أن فرعون علم ذلك، أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهية، فعلم أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال؛ فلذلك أجاب، فلو علم منه غير ذلك لخطأه في السؤال‏.‏
فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم، خاطبه فرعون بهذا اللسان، والقوم لا يشعرون فقال له‏:
‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 29‏]‏، والسين في السجن من حروف الزوائد، أي‏: لأسترنك، فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول مثل هذا القول، فإن قلت لي بلسان الإشارة، فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي، والعين واحدة، فكيف فرقت‏؟‏ فيقول فرعون‏: إنما فرقت المراتب العين، ما تفرقت العين، ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وأنا غيرك بالرتبة‏.‏
وساق الكلام إلى أن قال‏: ولما كان فرعون في منصب الحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وأنه جار في العرف الناموسي؛ لذلك قال‏:
‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏: ‏24‏]‏‏: أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم‏.‏
ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لهم، لم ينكروه، وأقروا له بذلك، وقالوا له‏:
‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏‏[‏طه‏: 72‏]‏ فالدولة لك،

 

ص -270-

فصح قوله ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون، فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل؛ لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل؛ فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها؛ لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت؛ إذ لا تبديل لكلمات الله، وليست كلمة الله سوى أعيان الموجودات‏.‏

 

ص -271-

فصل‏:
ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية، الملاحدة، المدعون للتحقيق والعرفان‏: ما يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏"‏كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان‏"‏‏.‏ وهذه الزيادة وهو قوله‏: ‏"‏وهو الآن على ما عليه كان‏"‏ كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد، لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخرى متكلمة الجهمية، فتلقاها منهم هؤلاء، الذين وصلوا إلى آخر التجهم وهو التعطيل والإلحاد‏.‏
ولكن أولئك قد يقولون‏: كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان، فقال هؤلاء‏: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، وقد اعترف بأن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أعلم هؤلاء بالإسلام ابن عربي فقال في كتاب
‏"‏ما لابد للمريد منه‏"‏‏: وكذلك جاء في السنة‏: ‏"‏كان الله ولا شيء معه‏"‏ قال‏: وزاد العلماء‏: ‏"‏وهو الآن على ما عليه كان‏"‏، فلم يرجع إليه

 

ص -272-

من خلقه العالم وصف لم يكن عليه، ولا عالم موجود، فاعتقد فيه من التنزيه مع وجود العالم ما تعتقده فيه ولا عالم ولا شيء سواه‏.‏ وهذا الذي قاله هو قول كثير من متكلمي أهل القبلة‏.‏
ولو ثبت على هذا لكان قوله من جنس قول غيره، لكنه متناقض، ولهذا كان مقدم الاتحادية الفاجر التلمساني يرد عليه في مواضع يقرب فيها إلى المسلمين، كما يرد عليه المسلمون المواضع التي خرج فيها إلى الاتحاد‏.‏
وإنما الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏"‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض‏"‏
وهذه الزيادة الإلحادية، وهو قولهم‏: وهو الآن على ما عليه كان، قصد بها المتكلمة المتجهمة نفى الصفات التي وصف بها نفسه، من استوائه على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك فقالوا‏: كان في الأزل ليس مستويا على العرش، وهو الآن على ما عليه كان، فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير‏.‏
ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين معروفين‏:
أحدهما‏: أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش بمنزلة المعية،

 

ص -273-

ويسميها ابن عقيل الأحوال، وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض، من المسلمين وغيرهم؛ إذ لا يقتضي ذلك تغيرًا، ولا استحالة‏.‏
والثاني‏: أن ذلك وإن اقتضى تحولًا من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، فهو مثل مجيئه، وإتيانه، ونزوله، وتكليمه لموسى، وإتيانه يوم القيامه في صورة، ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص، وقال به أكثر أهل السنة والحديث، وكثير من أهل الكلام، وهو لازم لسائر الفرق‏.‏
وقد ذكرنا نزاع الناس في ذلك، في قاعدة الفرق بين الصفات، والمخلوقات، والصفات الفعلىة‏.‏
وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فقالوا‏: وهو الآن على ما عليه كان، ليس معه غيره، كما كان في الأزل ولا شيء معه، قالوا‏: إذ الكائنات ليست غيره ولا سواه، فليس إلا هو، فليس معه شيء آخر، لا أزلا ولا أبدًا، بل هو عين الموجودات، ونفس الكائنات، وجعلوا المخلوقات المصنوعات هي نفس الخالق البارئ المصور‏.‏
وهم دائما يهذون بهذه الكلمة‏: ‏"‏وهو الآن على ما عليه كان‏"‏ وهي أجل عندهم من‏:
‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏، ومن آية الكرسي؛ لما فيها من الدلالة على الاتحاد الذي هو إلحادهم، وهم يعتقدون أنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها من كلامه، ومن أسرار معرفته، وقد بينا أنها كذب مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلها، ولم يروها أحد من أهل العلم، ولا هي في شيء من دواوين

 

ص -274-

الحديث، بل اتفق العارفون بالحديث على أنها موضوعة، ولا تنقل هذه الزيادة عن إمام مشهور في الأمة بالإمامة، وإنما مخرجها ممن يعرف بنوع من التجهم، وتعطيل بعض الصفات، ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث، الذي أخرجه أصحاب الصحيح‏: ‏"‏كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء‏"‏‏.‏ وهذا إنما ينفى وجود المخلوقات من السموات والأرض، وما فيهما من الملائكة، والإنس والجن، لا ينفي وجود العرش‏.‏
ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن العرش متقدم على القلم واللوح، مستدلين بهذا الحديث، وحملوا قوله‏: ‏"‏أول ما خلق الله القلم فقال له‏: اكتب‏.‏ فقال‏: وما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏، على هذا الخلق المذكور في قوله‏:
‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء‏}‏‏[‏هود‏: ‏7‏]‏‏.‏
وهذا نظير حديث أبي رزين العقيلي، المشهور في كتب المسانيد والسنن، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه‏؟‏ فقال‏: ‏"‏كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء‏"‏، فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه العماء، وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله‏:
‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏210‏]‏، وفي ذلك آثار معروفة‏.‏

 

ص -275-

والدليل على أن هذا الكلام وهو قولهم‏: وهو الآن على ما عليه كان كلام باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع والاعتبار وجوه‏:
أحدها‏: أن الله قد أخبر بأنه مع عباده في غير موضع من الكتاب، عموما وخصوصا، مثل قوله‏:
‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏: ‏4‏]‏، وقوله‏: ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏‏[‏المجادلة‏: ‏7‏]‏، وقوله‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏128‏]‏، وقال‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏153‏]‏، في موضعين‏.‏ وقوله‏: ‏{‏إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏: ‏46‏]‏، ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏: 40‏]‏، ‏{‏وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏12‏]‏، ‏{‏إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 62‏]‏‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول‏:
‏"‏اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم أصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا‏"‏‏.‏ فلو كان الخلق عمومًا وخصوصا ليسوا غيره، ولا هم معه، بل ما معه شيء آخر، امتنع أن يكون هو مع نفسه وذاته فإن المعية توجب شيئين‏: كون أحدهما مع الآخر، فلما أخبر الله أنه مع هؤلاء علم بطلان قولهم‏: ‏"‏هو الآن على ما عليه كان‏"‏ لا شيء معه، بل هو عين المخلوقات، وأيضا فإن المعية لا تكون إلا من الطرفين، فإن معناها المقارنة والمصاحبة‏.‏ فإذا كان أحد الشيئين مع الآخر، امتنع ألا يكون الآخر معه، فمن الممتنع أن يكون الله مع خلقه، ولا يكون لهم وجود معه، ولا حقيقة أصلا، بل هم هو‏.‏

 

ص -276-

الوجه الثاني‏: أن الله قال في كتابه‏: ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: 39‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 213‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏: 88‏]‏
فنهاه أن يجعل أو يدعو معه إلها آخر، ولم ينهه أن يثبت معه مخلوقا، أو يقول‏: إن معه عبدًا مملوكا أو مربوبا فقيرا، أو معه شيئا موجودا خلقه، كما قال‏: ‏
{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏[‏القصص‏: 88‏]‏ ولم يقل‏: لا موجود إلا هو، أو لا هو إلا هو، أو لا شيء معه إلا هو، بمعنى أنه نفس الموجودات وعينها‏.‏
وهذا كما قال‏:
‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 163‏]‏ فأثبت وحدانيته في الألوهية، ولم يقل‏: إن الموجودات واحد، فهذا التوحيد الذي في كتاب الله هو توحيد الألوهية، وهو ألا تجعل معه ولا تدعو معه إلها غيره، فأين هذا من أن يجعل نفس الوجود هو إياه‏؟‏
وأيضًا، فنهيه أن يجعل معه أو يدعو معه إلها آخر دليل على أن ذلك ممكن، كما فعله المشركون الذين دعوا مع الله آلهة أخرى، فلو كانت تلك الآلهة هي إياه ولا شيء معه أصلا امتنع أن يدعى معه آلهة أخرى‏.‏
فهذه النصوص تدل على أن معه أشياء ليست بآلهة، ولا يجوز أن تجعل آلهة، ولا تدعى آلهة، وأيضا‏: فعند الملحدين يجوز أن يعبد كل شيء، ويدعى كل شيء، إذ لا يتصور أن يعبد غيره، فإنه هو الأشياء‏.‏

 

ص -277-

فيجوز للإنسان حينئذ أن يدعو كل شيء من الآلهة المعبودة من دون الله، وهو عند الملاحدة ما دعا معه إلها آخر ‏!‏ فجعل نفس ما حرمه الله وجعله شركا جعله توحيدًا، والشرك عنده لا يتصور بحال‏.‏
الوجه الثالث‏: أن الله لما كان ولا شيء معه، لم يكن معه سماء، ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جن ولا إنس، ولا دواب ولا شجر، ولا جنة ولا نار، ولا جبال ولا بحار، فإن كان الآن على ما عليه كان، فيجب ألا يكون معه شيء من هذه الأعيان، وهذا مكابرة للعيان، وكفر بالقرآن والإيمان‏.‏
الوجه الرابع‏: أن الله كان ولا شيء معه، ثم كتب في الذكر كل شيء، كما جاء في الحديث الصحيح، فإن كان لا شيء معه فيما بعد، فما الفرق بين حال الكتابة وقبلها، وهو عين الكتابة واللوح عند الفراعنة الملاحدة‏.‏

 

ص -278-

فصل‏:
وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمنا، وأنه لا يدخل النار، وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه، بل فيه ما ينفيه، كقوله‏:
‏{‏أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏: ‏46‏]‏، قالوا‏: فإنما أدخل آله دونه‏.‏ وقوله‏: ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏98‏]‏، قالوا‏: إنما أوردهم ولم يدخلها، قالوا‏: ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه‏.‏
وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة، بل ولا من اليهود، ولا من النصارى، بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون‏.‏
فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل، فإنه لم يكفر أحد بالله، ويدعى لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون‏.‏  ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع، فإن القصص إنما هي أمثال

 

ص -279-

مضروبة للدلالة على الإيمان، وليس في الكفار أعظم من كفره، والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع‏:
أحدها‏: قوله تعالى في القصص‏: ‏
{‏ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏32‏: 42‏]‏‏.‏
فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه، وأخبر أنهم كانوا قومًا فاسقين، وأخبر أنهم‏: قالوا‏: ‏
{‏مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى‏}‏ ‏[‏القصص‏: 36‏]‏، وأخبر أن فرعون قال‏: ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏: 38‏]‏، وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى، وأنه يظنه كاذبا، وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده، وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله، وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‏.‏
فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى، الظالمين الداعين إلى النار، الملعونين في الدنيا بعد غرقهم، المقبوحين في الدار الآخرة‏.‏ وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون، وهو في الآخرة مقبوح غير منصور، وهذا إخبارعن غاية العذاب، وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله‏: ‏
{‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏: ‏45، 46‏]‏،

 

ص -280-

وهذا إخبار عن فرعون وقومه، أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ، وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب، وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ‏.‏
وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون، فظنوا أن فرعون خارج منهم، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة، يتبين ذلك بوجوه‏:
أحدها‏: أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص، مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم‏:
‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ‏}‏ ثم قال‏: ‏{‏فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ‏}‏ يعني لوطا‏: ‏{‏إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏58، 62‏]‏، وكذلك قوله‏: ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا عليهمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏: 34‏]‏ ثم قال بعد ذلك‏: ‏{‏وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏: 41، 42‏]‏‏.‏
ومعلوم أن لوطا داخل في آل لوط في هذه المواضع، وكذلك فرعون داخل في آل فرعون المكذبين المأخوذين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:
"‏قولوا‏: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صلىت على آل إبراهيم‏"‏،

 

ص -281-

وكذلك قوله‏: ‏"‏كما باركت على آل إبراهيم فإبراهيم داخل في ذلك، وكذلك قوله للحسن‏: ‏"‏إن الصدقة لا تحل لآل محمد‏"‏‏.‏
وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال‏: كان القوم إذا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة يصلي عليهم، فأتى أبي بصدقة فقال‏:
‏"‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏"‏، وأبو أوفى هو صاحب الصدقة‏.‏
ونظير هذا الاسم أهل البيت، فإن الرجل يدخل في أهل بيته، كقول الملائكة،
‏{‏رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عليكم أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏73‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏سلمان منا أهل البيت‏"‏، وقوله تعالى‏: ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 33‏]‏، وذلك لأن آل الرجل من يؤول إليه، ونفسه ممن يؤول إليه، وأهل بيته هم من يأهله، وهو ممن يأهل أهل بيته‏.‏
فقد تبين أن الآية، التي ظنوا أنها حجة لهم، هي حجة عليهم، في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ، وفي يوم القيامة، ويبين ذلك‏: أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه، قال تعالى‏:
‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعلى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا‏}‏

 

ص -282-

إلى قوله‏: ‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏غافر‏: 32‏: 48‏]‏‏.‏
فأخبر عقب قوله‏:
‏{‏أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ عن محاجتهم في النار، وقول الضعفاء للذين استكبروا، وقول المستكبرين للضعفاء‏: ‏{‏إِنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه، ولم يستكبر أحد استكبار فرعون، فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه‏.‏
الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله تعالى‏: ‏
{‏فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏97‏: 99‏]‏، فأخبر أنه يقدم قومه ولم يقل‏: يسوقهم، وأنه أوردهم النار‏.‏ ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرىن النار، كان هو أول من يردها، وإلا لم يكن قادما، بل كان سائقا، يوضح ذلك أنه قال‏: ‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏99‏]‏، فعلم أنه وهم يردون النار، وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة‏.‏
وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب
‏{‏وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أولىاء بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏73‏]‏، وأيضا‏: فقد قال الله تعالى‏: ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏: 98‏]‏، يقول‏: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ‏؟‏

 

ص -283-

وقال تعالى‏: ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏: 82‏: 85‏]‏، فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل، أنهم آمنوا عند رؤية البأس، وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ، وأن هذه سنة الله الخالية في عباده‏.‏
وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون‏:
‏{‏آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏: 91‏]‏، فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي‏: الآن تؤمن وقد عصيت قبل‏؟‏ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعًا أو مقبولا فمن قال‏: إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن، وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏
يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا، لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس، فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين، فإن الإغراق هو عذاب على كفره، فإذا لم يكن كافرًا لم يستحق عذابًا‏.‏
وقوله بعد هذا‏:
‏{‏فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً‏}‏ ‏[‏يونس‏: ‏92‏]‏ يوجب أن يعتبر من خلفه، ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال‏: ‏"‏هذا فرعون هذه الأمة‏"‏، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى‏.‏

 

ص -284-

فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر، فكيف يكون قد مات مؤمنا‏؟‏ ومعلوم أن من مات مؤمنا‏: لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم، عن عوف بن مالك، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة‏: ‏"‏يأتي مع قارون، وفرعون وهامان، وأبي بن خلف‏"‏‏.‏

 

ص -285-

 

ص -286-

ثم بعد مدة غير البيت بقوله‏:
                                     لقد حق لي عشق الوجود وأهله
فسألته عن ذلك فقال‏: مقام البداية أن يرى الأكوان حجبًا فيرفضها، ثم يراها مظاهر ومجالى فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم‏:

 أقبل أرضًا سار فيها جِمالها

 فكيف بدار دار فيها جَمالها

قال‏: وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبي نواس‏:

 رق الزجاج وراقت الخمر

 وتشاكلا فتشابه الأمر

 فكأنما خمر ولا قدح

 وكأنما قدح ولا خمر

لبس صورة العالم، فظاهره خلقه، وباطنه حقه‏.‏
وقال بعض السلف‏: عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى، الله فقط والكثرة وهم‏.‏
قال الشيخ قطب الدين ابن سبعين‏: رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك‏.‏ الله فقط والكثرة وهم‏.‏
وقال الشيخ محيى الدين ابن عربي‏:

 يا صورة أُنس سرها معنائي

 ما خلقك للأمر ترى لولائي

 شئناك فأنشأناك خلقا بشرا

 لتشهدنا في أكمل الأشياء

ص -287-

وفيه‏: طلب بعض أولاد المشايخ من والده الحج، فقال له الشيخ‏: يا بني، طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين‏.‏
قال‏: وقيل عن رابعة العدوية‏: إنها حجت فقالت‏: هذا الصنم المعبود في الأرض، والله ما ولجه الله ولا خلا منه‏.‏
وفيه للحلاج‏:

 سبحان من أظهر ناسوته

 سر سنا لاهوته الثاقب

 ثم بدا مستترا ظاهرا

 في صورة الآكل والشارب

قال‏: وله‏:

 عقد الخلائق في الإله عقائدا

 وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

وله أيضا‏:

 بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني

 فارفع بحقك إنيي من البين

قال‏: وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول‏: وبهذه الإنيةِ التي طلب الحلاج رفعها تصرفت الأغيار في دمه، ولذلك قال السلف‏: الحلاج نصف رجل وذلك أنه لم ترفع له الإنيةُ بالمعنى فرفعت له صورة‏.‏
وفيه لمحيى الدين ابن عربي‏:

 والله ما هي إلا حيرة ظهرت

 وبي حلفت وإن المقسم الله

وقال فيه‏: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال‏: ‏"‏إن الله تبارك

 

ص -288-

وتعالى اشتاق بأن يرى ذاته المقدسة، فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور، وآدم المرآة‏.‏ قال ابن الفارض في قصيدته السلوك‏:

 وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى

 بغير مراء في المرآة الصقيلة

 أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر

 إليك بها عند انعكاس الأشعة

قال‏: وقال ابن إسرائيل‏: الأمر أمران‏: أمر بواسطة، وأمر بغير واسطة، فالأمر الذي بالوسائط رده من شاء الله وقبله من شاء الله، والأمر الذي بغير واسطة لا يمكن رده، وهو قوله تعالى‏: ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏: 40‏]‏‏.‏
فقال له فقير‏: إن الله قال لآدم بلا واسطة‏: لا تقرب الشجرة، فقرب وأكل‏.‏ فقال‏: صدقت، وذلك أن آدم إنسان كامل، ولذلك قال شيخنا على الحريري‏: آدم صفي الله تعالى، كان توحيده ظاهرًا وباطنًا، فكان قوله لآدم‏: ‏"‏لا تقرب الشجرة‏"‏ ظاهرًا، وكان أمره ‏[‏كل‏]‏ باطنا، فأكل فكذلك قوله تعالى‏.‏ وإبليس كان توحيده ظاهرًا، فأمر بالسجود لآدم، فرآه غيرًا فلم يسجد، فغير الله عليه وقال‏: ‏
{‏اخْرُجْ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏18‏]‏
وقال شخص لسيدي‏: يا سيدي حسن، إذا كان الله يقول لنبيه‏:
‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: 128‏]‏، إيش نكون نحن‏؟‏ فقال سيدي له‏: ليس الأمر كما تقول أو تظن، فقوله له‏: ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ عين الإثبات للنبي

 

ص -289-

صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى‏: ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏71‏]‏، ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏: ‏10‏]‏
وفيه لأوحد الدين الكرماني‏:

 ما غبت عن القلب ولا عن عيني

 ما بينكم وبيننا من بين

وقال غيره‏:

 لا تحسب بالصلاة والصوم تنال

 قربا ودنوا من جمال وجلال

 فارق ظلم الطبع وكن متحدًا

 بالله وإلا كُلُّ دعواك محال

وغيره للحلاج‏:

 إذا بلغ الصب الكمال من الهوى

 وغاب عن المذكور في سطوة الذكر

 يشاهد حقًا حين يشهده الهوى

 بأن صلاة العارفين من الكفر

وللشيخ نجم الدين ابن إسرائيل‏:

الكون يناديك ألا تسمعني 

 من ألف أشتاتي ومن فرقني

 انظر لتراني منظرًا معتبرًا

 ما فيَّ سوى وجود من أوجدني

وله أيضا‏:

 ذرات وجود الكون للحق شهود

 أن ليس لموجود سوى الحق وجود

 والكون وإن تكثرت عدته

 منه وإلى علاه يبدو ويعود

ص -290-

وله أيضا‏:

 برئت إليك من قولي وفعلى

 ومن ذاتي براءة مستقيل

 وما أنا في طراز الكون شيء

 لأني مثل ظل مستحيل

وللعفيف التلمساني‏:

 أحن إليه وهو قلبي وهل يرى

 سواي أخو وجد يحن لقلبه‏؟‏

 ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري

 وما بُعده إلا لإفراط قربه

وقال بعض السلف‏: التوحيد لا لسان له، والألسنة كلها لسانه‏.‏
ومن ذلك أيضا‏: التوحيد لا يعرفه إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن الواحد، وذلك أنه لا يعبر عنه إلا بغيره ومن أثبت غيرا فلا توحيد له‏.‏
قال‏: وسمعت الشيخ محمد بن بشر النواوي يقول‏: ورد سيدنا الشيخ على الحريري إلى جامع نوى، قال الشيخ محمد‏: فجئت إليه، فقبلت الأرض بين يديه، وجلست، فقال‏: يا بني، وقفت مع المحبة مدة فوجدتها غير المقصود، لأن المحبة لا تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم، ثم وقفت مع التوحيد مدة فوجدته كذلك، لأن التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، ولو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا‏.‏
وفيه‏: سمعت من الشيخ نجم الدين ابن إسرائيل مما أسر إلى أنه سمع من

 

ص -291-

شيخنا، الشيخ على الحريري، في العام الذي توفى فيه، قال‏: يا نجم، رأيت لهاتي الفوقانية فوق السموات، وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سمعت مني ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة‏.‏
فلما كان بعد ذلك بمدة، قال شخص في حضرة سيدي الشيخ حسن بن على الحريري‏: يا سيدي حسن، ما خلق الله أقل عقلا ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمروذ وأمثالهما، فقال‏: إن هذه المقالة لا يقولها إلا أجهل خلق الله أو أعرف خلق الله، فقلت له‏: صدقت، وذلك أنه قد سمعت جدك يقول‏: رأيت كذا وكذا، فذكر ما ذكره الشيخ نجم الدين عن الشيخ‏.‏
وفيه قال بعض السلف‏: من كان عين الحجاب على نفسه فلا حجاب ولا محجوب‏.
فالمطلوب من السادة العلماء‏:
أن يبينوا هذه الأقوال، وهل هي حق أو باطل‏؟‏ وما يعرف به معناها‏؟‏ وما يبين أنها حق أو باطل‏؟‏ وهل الواجب إنكارها، أو إقرارها، أو التسليم لمن قالها‏؟‏ وهل لها وجه سائغ‏؟‏ وما الحكم فيمن اعتقد معناها، إما مع المعرفة بحقيقتها‏؟‏ وإما مع التسليم المجمل لمن قالها‏؟‏

 

ص -292-

والمتكلمون بها، هل أرادوا معنى صحيحا يوافق العقل والنقل‏؟‏ وهل يمكن تأويل ما يشكل منها وحمله على ذلك المعنى‏؟‏ وهل الواجب بيان معناها، وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها، ولا يعرفون حقيقتها‏؟‏ أم ينبغي السكوت عن ذلك وترك الناس يعظمونها، ويؤمنون بها‏.‏ مع عدم العلم بمعناها‏؟‏ بينوا ذلك مأجورين‏.‏

 

ص -293-

فأجاب رضي الله عنه‏:
الحمد لله رب العالمين، هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين، مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى، مع مخالفتهما للمنقول والمعقول‏.‏
أحدهما‏: الحلول والاتحاد، وما يقارب ذلك، كالقول بوحدة الوجود، كالذين يقولون‏: إن الوجود واحد، فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة، كابن عربي، وصاحبه القونوي، وابن سبعين، وابن الفارض صاحب القصيدة التائية نظم السلوك وعامر البصري السيواسي، الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض‏.‏ والتلمساني الذي شرح ‏[‏مواقف النفري‏]‏ وله شرح الأسماء الحسنى، على طريقة هؤلاء، وسعيد الفرغاني، الذي شرح قصيدة ابن الفارض، والششتري صاحب الأزجال، الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلياني، وابن أبي المنصور المتصوف المصري، صاحب ‏[‏فك الأزرار عن أعناق الأسرار‏]‏وأمثالهم‏.‏
ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي ويزعمض

 

ص -294-

أن الأعيان ثابتة في العدم، غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان، في ظهور وجوده بها، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها، الذي هو نفس وجوده‏.‏ وقوله مركب من قول من قال‏: المعدوم شيء، وقول من يقول‏: وجود الخالق هو وجود المخلوق، ويقول‏: فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في موضع آخر‏.‏
ومنهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين، كما يقول القونوي ونحوه، فيقولون‏: إن الواجب هو الوجود المطلق لا بشرط، وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينا، وإن قيل‏: إن المطلق جزء من المعين لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوق، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا‏.‏
ومنهم من قال‏: إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، كما يقول ابن سينا وأتباعه، فقوله أشد فسادًا، فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان؛ فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول والاتحاد‏.‏
وآخرون يجعلون الوجود الواجب، والوجود الممكن بمنزلة المادة

 

ص -295-

والصورة، التي تقولها المتفلسفة، أو قريب من ذلك، كما يقوله ابن سبعين وأمثاله‏.‏
وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود، والحلول أو الاتحاد، وهم يقولون بالحلول المطلق، والوحدة المطلقة، والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعين، كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون بإلهية علىّ، أو الحاكم، أو الحلاج، أو يونس القنيني، أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية‏.‏
فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم‏.‏
ولهذا يقولون‏: إن النصارى إنما كان خطؤهم في التخصيص، وكذلك يقولون في المشركين عباد الأصنام، إنما كان خطؤهم لأنهم اقتصروا على بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقا، على وجه الإطلاق والعموم‏.‏
ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال، ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى‏.‏
وهذا المذهب شائع في كثير من المتأخرىن، وكان طوائف من الجهمية يقولون به، وكلام ابن عربي، في فصوص الحكم وغيره، وكلام ابن سعبين

 

ص -296-

وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض نظم السلوك وقصيدة عامر البصري، وكلام العفيف التلمساني، وعبد الله البلياني، والصدر القونوي وكثير من شعر ابن إسرائيل، وما ينقل من ذلك عن شيخه الحريري، وكذلك نحو منه يوجد في كلام كثير من الناس غير هؤلاء هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود‏.‏
وكثير من أهل السلوك، الذين لا يعتقدون هذا المذهب، يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال‏.‏
وأصل ضلال هؤلاء‏: أنهم لم يعرفوا مباينة الله لمخلوقاته، وعلوه عليها، وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها‏.‏
ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال‏:
فالسلف والأئمة يقولون‏: إن الله فوق سمواته، مستو على عرشه، بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى‏.‏

 

ص -297-

والقول الثاني‏: قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون‏: لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين، اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من غيرهم‏.‏
والقول الثالث‏: قول حلولية الجهمية، الذين يقولون‏: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية، وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل‏: متكملة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء‏.‏
وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودًا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه‏.‏
وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي التي لا يوصف بها إلا المعدوم لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود‏.‏
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء عند نظره وبحثه يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له‏: هذا ينافي ذلك، قال‏: هذا مقتضى

 

ص -298-

عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما‏.‏
والقول الرابع‏: قول من يقول‏: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف، كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب المكي وأتباعه، كأبي الحكم بن برجان وأمثاله ما يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا‏.‏
وفي الجملة، فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخرى الصوفية؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد لما سئل عن التوحيد فقال‏: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث‏.‏
وقد أنكر ذلك عليه ابن عربي صاحب الفصوص وادعى أن الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين الرب والعبد، بناء على دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم والمحدث إلا من ليس بقديم ولا محدث وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس ذاك، والتمييز بين هذا وذاك لا يفتقر إلى أن يكون العارف المميز بين الشيئين ليس هو أحد الشيئين، بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذلك الإنسان الآخر، مع أنه أحدهما، فكيف لا يعلم أنه غير ربه، وإن كان هو أحدهما‏؟‏

 

ص -299-

الأصل الثاني‏: الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وعلى ترك المأمور وفعل المحظور، فإن القدر يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده‏.‏
والناس الذين ضلوا في القدر على ثلاثة أصناف‏:
قوم آمنوا بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر، وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة ونحوهم‏.‏
وقوم آمنوا بالقضاء والقدر، ووافقوا أهل السنة والجماعة، على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وربه ومليكه، لكن عارضوا هذا بالأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضا للشريعة‏.‏
وفيهم من يقول‏: إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وإن العارف يستوى عنده هذا وهذا‏.‏
وهم في ذلك متناقضون، مخالفون للشرع والعقل، والذوق والوجد، فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم، وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل، والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث، ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون بينهما، ويفرقون أيضا بموجب أهوائهم وأغراضهم، لا بموجب الأمر والنهي، ولا يقفون لا مع القدر، ولا مع الأمر، بل كما

 

ص -300-

 

قال بعض العلماء‏: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب يوافق هواك تمذهبت به‏.‏
ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته‏.‏
إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد‏.‏
فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد، وإلى ما يضرهم، والله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه تبع ضده من الأهواء والبدع، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد عليه، ولزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير‏.‏

 

ص -301-

وإن قال‏: أنا أعذر بالقدر من شهده، وعلم أن الله خالق فعله ومحركه، لا من غاب عن هذا الشهود، أو كان من أهل الجحود‏.‏ قيل له‏: فيقال لك‏: وشهود هذا، وجحود هذا من القدر‏؟‏ فالقدر متناول لشهود هذا، وجحود هذا‏؟‏ فإن كان هذا موجبا للفرق مع شمول القدر لهما، فقد جعلت بعض الناس محمودا، وبعضهم مذموما مع شمول القدر لهما‏؟‏ وهذا رجوع إلى الفرق واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك، وتناقضت فيه، وهذا لازم لكل من دخل معك فيه‏.‏
ثم مع فساد هذا الأصل وتناقضه، فهو قول باطل وبدعة مضلة‏.‏
فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات، وفعل المحظورات، بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله، وكذب رسوله ناظرًا إلى أن ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، سواء كان المشرك مقرًا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلًا عنه، فقد قال إبليس‏:
‏{‏بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏39‏]‏، فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببا لمزيد عذابه‏.‏
وأما آدم عليه السلام فإنه قال‏:
‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏23‏]‏، قال تعالى‏: ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏37‏]‏‏.‏

 

ص -302-

فمن استغفر وتاب كان آدميا سعيدا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا شقيا، وقد قال تعالى لإبليس‏: ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏: ‏85‏]‏‏.‏ وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعا من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر، فيضاهئون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينا لم يشرعه الله، ويحتجون بالقدر على مخالفة أمر الله‏.‏
والصنف الثالث‏: من الضالين في القدر‏: من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر، والأمر والنهي كما يذكرون ذلك على لسان إبليس وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه‏.‏
وأما أهل الإيمان‏: فيؤمنون بالقضاء والقدر، والأمر والنهي، ويفعلون المأمور، ويتركون المحظور، ويصبرون على المقدور، كما قال تعالى‏: ‏
{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: 90‏]‏، فالتقوى تتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور‏.‏
وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم به‏.‏
وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى

 

ص -303-

الطاعات، ويدعون ربهم رغبا ورهبا، ويجتنبون محارمه ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علما منهم بأن التوبة فرض على العباد دائما، واقتداء بنبيهم، حيث يقول في الحديث الصحيح‏: ‏"‏أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة‏"‏، وفي رواية‏: ‏"‏أكثر من سبعين مرة‏"‏، وآخر سورة نزلت عليه‏: ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏سورة النصر‏]‏‏.‏ وإذا عرف هذان الأصلان، فعليهما ينبني جواب ما في هذا السؤال من الكلمات، ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات‏.‏
فقول القائل‏: إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا، هو من أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد، وهو باطل؛ فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف، وإن كان اللطيف غير الكثيف فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق، وحينئذ فالحق لا يكون خلقا، فلا يتصور أن ذات الحق تكون خلقا بوجه من الوجوه، كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه‏.‏
وكذلك قول الآخر‏: ‏[‏ظهر فيها حقيقة، واحتجب عنها مجازًا‏]‏ فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر، فلا يتصور ظهور ولا احتجاب‏.‏

 

ص -304-

ثم قوله‏: ‏[‏فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستورًا وحجبا‏]‏ كلام ينقض بعضه بعضا، فإنه إن كان الوجود واحدًا لم يكن أحد الشاهدين غير الآخر، ولم يكن الشاهد غير المشهود‏.‏ ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء‏: من قال‏: إن في الكون سوى الله فقد كذب‏.‏ فقال له آخر‏: فمن الذي كذب‏؟‏ فأفحمه‏.‏ وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه، كان هو الذي يكذب ويظلم، ويأكل ويشرب، وهذا يصرح به أئمة هؤلاء، كما يقول صاحب الفصوص وغيره‏: إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب وتصيبه الآفات، ويوصف بالمعايب والنقائص، كما أنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم‏.‏
قال‏: فالعلى بنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الثبوتية والسلبية، سواء كانت محمودة عقلا وشرعًا وعرفا، أو مذمومة عقلا وشرعًا وعرفًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة‏.‏
وقال‏: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وقد أخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم‏؟‏ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق وكلها حق له، كما أن صفات المخلوق حق للخالق‏.‏
وقول القائل‏:
                                  لقد حق لي عشق الوجود وأهله
يقتضي أنه يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب

ص -305-

والخنازير، والبول والعذرة، وكل خبيث، مع أنه باطل عقلا وشرعًا، فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذ وآلمه ألما شديدًا لأبغضه وعاداه، بل اعتدى في أذاه، فعشق الرجل لكل موجود محال عقلا، محرم شرعا‏.‏
وما ذكر عن بعضهم من قوله‏: ‏[‏عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى‏]‏ هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الشرك والإلحاد، والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة‏.‏
وقول ابن عربي‏: ‏[‏ظاهره خلقه، وباطنه حقه‏]‏ هو قول أهل الحلول، وهو متناقض في ذلك، فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان، أحدهما باطن والآخر ظاهر، والتفريق بين الوجود والعين تفريق لا حقيقة له، بل هو من أقوال أهل الكذب والمين‏.‏
وقول ابن سبعين‏: ‏[‏رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط، والكثرة وهم‏]‏ هو موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال‏: وأنتم ذلك‏.‏ فإنه جعل العبد هالكا أي‏: لا وجود له، فلم يبق إلا وجود الرب، فقال‏: وأنتم ذلك، وكذلك قال‏: الله فقط، والكثرة وهم، فإنه على قوله لا موجود إلا الله‏.‏
ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم‏: ليس إلا الله، بدل قول المسلمين‏: لا إله إلا الله‏.‏

 

ص -306-

وكان الشيخ قطب الدين ابن القسطلاني يسميهم ‏[‏الليسية‏]‏ ويقول‏: احذروا هؤلاء الليسية، ولهذا قال‏: ‏والكثرة وهم وهذا تناقض، فإن قوله‏: ‏[‏وهم‏]‏ يقتضي متوهما، فإن كان المتوهم هو الوهم فيكون الله هو الوهم، وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود، وكذلك إن كان المتوهم هو الله فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا مع أنه كفر فهو يناقض قوله‏: الوجود واحد، وإن كان المتوهم غيره، فقد أثبت غير الله، وهذا يناقض أصله، ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة وهمًا، بل تكون حقا‏.‏
والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل، فإن قوله‏:
يا صورة أنس سرها معنائي
خطاب على لسان الحق، يقول لصورة الإنسان‏: يا صورة أنس سرها معنائي، أي هي الصورة وأنا معناها، وهذا يقتضي أن المعنى غير الصورة، وهو يقتضي التعدد، والتفريق بين المعنى والصورة، فإن كان وجود المعنى هو وجود الصورة كما يصرح به فلا تعدد، وإن كان وجود هذا غير وجود هذا فهو متناقض في قوله‏.‏
وقوله‏:
ما خلقك للأمر ترى لولائي

 

ص -307-

كلام مجمل يمكن أن يريد به معنى صحيحا، أي لولا الخالق لما وجد المكلفون ولا خلق لأمر الله، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا، وأن مراده الوحدة والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال‏:

 شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا

 كي تشهدنا في أكمل الأشياء

فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية، وهذا يشير إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق لكنه متناقض في كلامه، فإنه لا يرضي بالحلول، ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده، وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا، لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه‏.‏
وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب فقال‏: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره‏.‏
وقوله‏: ‏[‏ما فارقه الله طرفة عين قط‏]‏ إن أراد به الحلول المطلق العام فهو مع بطلانه متناقض، فإنه لا فرق حينئذ بين الطائف والمطوف به، فلم يكن طواف

 

ص -308-

هذا بهذا أولى من العكس، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب، والخنازير، والكفار، والنجاسات، والأقذار، وكل خبيث وكل ملعون، لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا كله‏.‏
وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني، وقد مر بكلب أجرب ميت‏: هذا أيضًا من ذات الله‏؟‏ فقال‏: وثمَّ خارج عنه‏؟‏ ومر التلمساني ومعه شخص بكلب، فركضه الآخر برجله، فقال‏: لا تركضه فإنه منه، وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين فإنه متناقض، فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد، وإذا قيل‏: مظاهر ومجالى، قيل‏: إن كان لها وجود غير وجود الظاهر والمتجلى، فقد ثبت التعدد وبطلت الوحدة، وإن كان وجود هذا هو وجود هذا لم يبق بين الظاهر، والمظهر، والمتجلي فيه فرق‏.‏
وإن أراد بقوله‏: ‏[‏ما فارقه الله طرفة عين‏]‏ الحلول الخاص كما تقوله النصارى في المسيح لزم أن يكون هذا الحلول ثابتا له من حين خلق كما تقوله النصارى في المسيح فلا يكون ذلك حاصلا له بمعرفته وعبادته وتحقيقه وعرفانه‏.‏
وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين، فلماذا يكون الحلول ثابتا له دون غيره‏؟‏ وهذا شر من قول النصارى، فإن النصارى ادعوا ذلك في المسيح لكونه خلق من غير أب، وهؤلاء الشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق، وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة، والتحقيق والتوحيد‏.‏

 

ص -309-

وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن لهم، فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثا لا مقارنا لخلقهم، وحينئذ فقولهم‏: إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط، كلام باطل كيفما قدر‏.‏
وأما ما ذكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت‏: إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به، والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها‏: والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلام باطل عليها‏.‏
وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا المعني، فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت‏؟‏
وقول القائل‏: ما ولج الله فيه كلام صحيح‏.‏ وأما قوله‏: ما خلا منه فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى، فهو باطل وهو مناقض لقوله‏: ما ولج فيه، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ولم يزل غير حال فيه، فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب ألا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت إذ الموجودات كلها عندهم كذلك‏.‏

 

ص -310-

وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج‏:

 سبحان من أظهر ناسوته

 سر سنا لاهوته الثاقب

 حتى بدا فى خلقه ظاهرا

 في صورة الآكل والشارب

فهذه قد بين بها الحلول الخاص كما تقول النصارى في المسيح وكان أبو عبد الله ابن خفيف الشيرازي قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج يذب عنه، فلما أنشد هذين البيتين قال‏: لعن الله من قال هذا‏.‏
وقوله‏: وله‏:

 عقد الخلائق في الإله عقائدا

 وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

فهذا البيت يعرف لابن عربي، فإن كان قد سبقه إليه الحلاج وقد تمثل هو به، فإضافته إلى الحلاج صحيحة، وهو كلام متناقض باطل‏.‏
فإن الجمع بين النقيضين في الاعتقاد في غاية الفساد‏.‏ والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما‏.‏
وهؤلاء يزعمون أنه يثبت عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل، وإنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين، وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول، ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة‏.‏

 

ص -311-

ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام أعظم من الأولىاء، والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح‏.‏
ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام، يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها، فيظنونها ثابتة في الخارج، وإنما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له‏.‏
ولهذا يقولون‏: أرض الحقيقة هي أرض الخيال، كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض، وكان من شيوخهم‏.‏
وأما قوله‏:

 بيني وبينك إني تزاحمني

 فارفع بحقك إنيي من البين

فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة، يقوله الملحد، ويقوله الزنديق، ويقوله الصديق‏.‏
فالأول‏: مراده به طلب رفع ثبوت إنيته حتى يقال‏: إن وجوده هو وجود الحق، وإنيته هي إنية الحق، فلا يقال‏: إنه غير الله ولا سواه‏.‏

 

ص -312-

ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة‏: إن الحلاج نصف رجل، وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى، فرفعت له صورة‏.‏ يقولون‏: إنه لما لم ترفع إنيته في الثبوت في حقيقة شهوده رفعت صورة فقتل، وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد، فهو متناقض ينقض بعضه بعضا فإن قوله‏:
بيني وبينك إني تزاحمني
خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه، وهذا إثبات أمور ثلاثة ولذلك يقول‏:
فارفع بحقك إنيي من البين
طلب من غيره أن يرفع إنيته، وهذا إثبات لأمور ثلاثة‏.‏
وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد، وهو الفناء عن وجود السوى، فإن هذا فيه طلب رفع الإنية وهو طلب الفناء والفناء ثلاثة أقسام‏:
فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن عبادة السوى‏.‏
فالأول‏: هو فناء أهل الوحدة الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا‏.‏
وأما الثاني وهو الفناء عن شهود السوى‏: فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين، كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله وهو مقام الاصطلام، وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن

 

ص -313-

رجلا كان يحب آخر، فألقى المحبوب نفسه في الماء، فألقى المحب نفسه خلفه فقال‏: أنا وقعت فلم وقعت أنت‏؟‏ فقال‏: غبت بك عني، فظننت أنك أني‏.‏ فهذا حال من عجز عن شهود شىء من المخلوقات إذا شهد قلبه وجود الخالق، وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين‏.‏
ومن الناس من يجعل هذا من السلوك، ومنهم من يجعله غاية السلوك، حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه‏.‏
وهذا غلط عظيم، غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي، وعبادة الله وحده وطاعة رسوله، فمن طلب رفع إنيته بهذا الاعتبار، لم يكن محمودًا على هذا ولكن قد يكون معذورًا‏.‏
وأما النوع الثالث وهو الفناء عن عبادة السوى‏: فهذا حال النبيين وأتباعهم، وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له، وهو الحنيفية ملة إبراهيم‏.‏
ويدخل في هذا‏: أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه‏.‏

 

ص -314-

ومن قال‏:
فارفع بحقك إنيي من البين
بمعنى أن يرفع هو نفسه فلا يتبع هواه، ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته، بل يكون عمله لله لا لهواه، وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته، كما قال تعالى‏:
‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 5‏]‏ فهذا حق محمود‏.‏
وهذا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال‏: ‏رأيت رب العزة في المنام فقلت‏: خدايي كيف الطريق إليك‏؟‏ قال‏: اترك نفسك وتعال أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك فيكون عملك لله واستعانتك بالله، كما قال تعالى‏:
‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏123‏]‏
والقول المحكي عن ابن عربي‏:
وبي حلفت وإن المقسم الله
هو أيضا من إلحادهم وإفكهم جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله، فهو الحالف والمحلوف به، كما يقولون‏: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه، فهو المرسِل والمرسَل إليه والرسول‏.‏ وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك‏:

 لها صلواتي بالمقام أقيمها

 وأشهد فيها أنها لي صلت

 كلانا مصل واحد ساجد إلى

 حقيقته بالجمع في كل سجدة

ص -315-

 وما كان بي صلى سواي ولم تكن

 صلاتي لغيري في أدا كل ركعة



إلى أن قال‏:

 وما زلت إياها وإياي لم تزل

 ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

 وقد رفعت تاء المخاطب بيننا

 وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي

 فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن

 منادى أجابت من دعاني ولبت

 إلى رسولا كنت مني مرسلا

 وذاتي بآياتي على استدلت

وأما المنقول عن عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فهو كذب عليه، وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح، وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى، فإن قوله‏: إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم، وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة، فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض، وذلك أن الله سبحانه يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد مخلوق لله قال لأصحابه‏: ‏"‏إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من بين يدي‏"‏‏.‏ فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلفه وهو أبلغ من رؤية نفسه فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه‏؟‏ وأيضا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم، يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم‏.‏

 

ص -316-

ثم ذلك الشوق إن كان قديما، كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل، وإن كان محدثا فلابد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال‏: الشوق أيضا صفة نقص، ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى، وقد روى‏: ‏"‏طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق‏"‏ وهو حديث ضعيف‏.‏
وقوله‏: ‏"‏فخلق من نوره آدم وجعله كالمرآة، وأنا ذلك النور وآدم هو المرآة‏"‏ يقتضي أن يكون آدم مخلوقا من المسيح، وهذا نقيض الواقع، فإن آدم خلق قبل المسيح، والمسيح خلق من مريم، ومريم من ذرية آدم فكيف يكون آدم مخلوقاً من ذريته‏؟‏‏.‏
وإن قيل‏: المسيح هو نور الله فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى، فإن النصارى يقولون‏: إن المسيح؛ هو الناسوت، واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن‏.‏ وهم يقولون‏: اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون‏: إن آدم خلق من المسيح، إذ المسيح عندهم اسم اللاهوت والناسوت جميعا، وذلك يمتنع أن يخلق منه آدم، وأيضا فهم لا يقولون‏: إن آدم خلق من لاهوت المسيح‏.‏
وأيضا، فقول القائل‏: إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح‏: إن أراد به نوره الذي هو صفة لله، فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه، إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه، فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئا موجودا منفصلا قبل خلق آدم، فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقا من نور الله الذي هو المسيح‏.‏

 

ص -317-

وأيضا فإذا كان آدم كالمرآة، وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته، لا أن آدم هو ذاته، ولا مثال ذاته، ولا كذاته‏.‏
وحينئذ، فإن كان المراد بذلك أن آدم يعرف الله تعالى، فيرى مثال ذاته العلمي في آدم، فالرب تعالى يعرف نفسه، فكان المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدم نفسه مثال لله، فلا يكون آدم هو المرآة، بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة‏.‏
وأيضا، فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور، هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله أو ابن الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد، حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح‏.‏
وأما قول ابن الفارض‏:

 وشاهدْ إذا استجليت ذاتك من ترى

 بغير مراء في المرآة الصقيلة

 أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر

 إليك بها عند انعكاس الأشعة‏؟‏

فهذا تمثيل فاسد، وذلك أن الناظر في المرآة يرى مثال نفسه، فيرى نفسه بواسطة المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة، فقولهم بوحدة الوجود باطل، وبتقدير صحته ليس هذا مطابقا له‏.‏

 

ص -318-

وأيضا،فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شىء،فتخصيصهم بعد هذا آدم أو نحو المسيح يناقض قولهم بالعموم، وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص، كالنصارى والغالية من الشيعة، وجهال النساك ونحوهم‏.‏
وأيضا، فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة، فالمرآة خارجة عن نفسه، فيرى نفسه أو مثال نفسه في غيره، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى، فليس هناك مظهر مغاير للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي‏.‏
وهم يقولون‏: إن الكون مظاهر الحق، فإن قالوا‏: المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا‏: المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شىء في شىء، ولا تجلى شىء في شىء، ولا ظهر شىء لشىء، ولا تجلى شىء لشىء، وكان قوله‏:
            وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى
كلاما متناقضا؛ لأن هنا مخاطِبا ومخاطَبا ومرآة تستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثة أعيان، فإن كان الوجود واحداً بالعين بطل هذا الكلام، وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم‏.

 

ص -319-

فصل
وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل‏: الأمر أمران‏: أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، إلى آخره فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني، والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني، وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل، فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة، فإن اللّه كلم موسى وأمره بلا واسطة، وكذلك كلم محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمره ليلة المعراج، وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية‏.‏
وأما الأمر الكوني‏: فقول القائل‏: إنه بلا واسطة خطأ، بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض، وأمر التكوين ليس هو خطابا يسمعه المكون المخلوق، فإن هذا ممتنع؛ ولهذا قيل‏: إن كان هذا خطابا له بعد وجوده لم يكن قد كون بكن؛ بل كان قد كون قبل الخطاب، وإن كان خطابا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع‏.‏ وقد قيل في جواب هذا‏: إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم، وإن كان معدوما في العين‏.‏
وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب‏.‏

 

ص -320-

وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا فكان قوله‏: لا تقرب ظاهراً، وكان أمره ‏[‏بكل‏]‏ باطنا‏.‏
فيقال‏: إن أريد بكونه قال‏: ‏[‏كل‏]‏ باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع ودين، فهذا كذب وكفر‏.‏ وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه، فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏.‏
وإن قيل‏: إن آدم شهد الأمر الكوني القدري وكان مطيعاً لله بامتثاله له، كما يقول هؤلاء‏: إن العارف الشاهد للقدر يسقط عنه الملام، فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام فهو كفر باتفاق المسلمين‏.‏
فيقال‏: الأمر الكوني يكون موجودًا قبل وجود المكون، لا يسمعه العبد، وليس امتثاله مقدورًا له، بل الرب هو الذي يخلق ما كونه بمشيئته وقدرته، والله تعالى ليس له شريك في الخلق والتكوين‏.‏والعبد وإن كان فاعلاً بمشيئته وقدرته، والله خالق كل ذلك، فتكوين الله للعبد ليس هو أمرًا لعبد موجود في الخارج يمكنه الامتثال، وكذلك ما خلقه من أحواله وأعماله خلقه بمشيئته وقدرته
و‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٍ‏}‏‏[‏يس‏: ‏82‏]‏، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر

 

ص -321-

وأكل آدم من الشجرة، وغير ذلك من الحوادث، داخل تحت هذا كدخول آدم، فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم‏.‏
فقول القائل‏: إنه قال لآدم في الباطن‏: ‏[‏كل‏]‏مثل قوله‏: إنه قال للكافر‏: اكفر، وللفاسق‏: افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يوجد منه خطاب باطن، ولا ظاهر للكفار والفساق، والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعا بمشيئته، وقدرته وخلقه وأمره الكوني، فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر، بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد، أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال‏.‏فهو سبحانه الذي خلق الإنسان هلوعا‏
{‏إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏.‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏: ‏20، 21‏]‏، وهو الذي جعل المسلمين مسلمين، كما قال الخليل‏: ‏‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏128‏]‏ فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها، وأمره لهم بذلك أمر تكوين، بمعنى أنه قال لهم‏: كونوا كذلك فيكونون كذلك، كما قال للجماد‏: كن فيكون‏.‏
فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان، وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته، لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله، كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن، بخلاف ما أمره في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنا

 

ص -322-

وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنا وظاهراً، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله‏: كن باطنا وظاهرًا‏.‏
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يؤمن به ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم ألا يلام أحد، ولا يعاقب ولا يقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته ألا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحد أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا‏.‏
ولو كان القدر حجة وعذرًا، لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزاً، ولا إقامة الحدود جائزاً، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه‏.‏
ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم، لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء، الذين يطردون قولهم، فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد، لا في دنياه ولا آخرته، ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة، إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعاً من الشرع، فالشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده‏.‏

 

ص -323-

لكن الشرائع تتنوع‏: فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل، وتارة لا تكون كذلك، ثم المنزلة‏: تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم وتارة لا تغير ولا تبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل‏.‏وأما القدر،فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه، فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده، من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر، كما قال المشركون‏: ‏‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏148‏]‏، قال الله تعالى‏: ‏‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ‏.‏ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏148، 149‏]‏‏.‏ فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين، وإنما يتبعون الظن‏.‏
والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر، فإنه لو خرب أحد الكعبة، أو شتم إبراهيم الخليل، أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه، كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين، وما فعله هو أيضا من المقدور‏.‏
فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر، إن كان الاحتجاج به صحيحاً، ولكن كانوا يعتمدون

 

ص -324-

على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون‏.‏
وموسى لما قال لآدم‏: ‏"‏لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ‏؟‏‏"‏ فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى‏: ‏"‏لم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين عاماً ‏؟‏ فحج آدم موسى‏"‏،لم يكن آدم عليه السلام محتجا على فعل ما نهى عنه بالقدر، ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا، فكيف آدم وموسى‏؟‏
وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه، فكيف بنبي من الأنبياء‏؟‏ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة، ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره، وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق، ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها، كيف وقد قال موسى‏:
‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏‏[‏القصص‏: ‏16‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏155‏]‏، وهذا باب واسع‏.‏
وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال‏: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر،

 

ص -325-

فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه، فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر، لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب‏.‏والعبد مأمور أن يصبر على المقدور، ويطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر، كما قال تعالى‏: ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ‏}‏‏[‏غافر‏: ‏55‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏: ‏11‏]‏‏.‏ قال طائفة من السلف‏: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏
فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر‏.‏
فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عَظُمَ جَزَعُه وقَلَّ صَبْرُه، فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنباً أخذ يحتج بالقدر، فلا يفعل المأمور، ولا يترك المحظور، ولا يصبر على المقدور، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين، وأئمة المحققين الموحدين، وإنما هو من أعداء الله الملحدين، وحزب الشيطان اللعين‏.‏
وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان، تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلما وعدوانا، وأذل الناس إذا قهر، وأعظمهم جزعا ووهنا، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب،والمقاتلة من أصناف الناس‏.‏

 

ص -326-

والمؤمن إن قدر عدل وأحسن،وإن قهر وغلب صبر واحتسب،كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم التي أولها‏: بانت سعاد‏.‏‏.‏‏.‏إلخ في صفة المؤمنين‏:

 ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم

 يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏: رأيته يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر‏.‏
وقد قال تعالى‏: ‏
{‏أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏90‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏120‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: 125‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏168‏]‏،فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة، فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور‏.‏
فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس فلا يتقى الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر،ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر، فإن هذا حال الأشقياء، كما قال بعض العلماء‏: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏

 

ص -327-

يقول‏: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقا لطاعتك، فتنسى نعمة الله عليك أن جعلك مطيعا له، وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب،بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده،أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم، وكلاهما خطأ‏.‏
وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال‏: ‏إذا عمل العبد حسنة فقال‏: أي رب، أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه‏: أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها‏.‏ فإن قال‏: أي رب، أنت أعنتني عليها ويسرتني لها، قال له ربه‏: أنت عملتها وأجرها لك، وإذا فعل سيئة فقال‏: ‏أي رب، أنت قدرت على هذه السيئة‏.‏ قال له ربه‏: أنت اكتسبتها وعليك وزرها،فإن قال‏: ‏أي رب،إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه، قال له ربه‏: ‏أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك‏.‏ وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط، من غير شهود الأمر والنهي، والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور، وهذا أعظم الضلال
ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه، كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين، لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله
وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله‏: آدم كان أمره بكل باطنا فأكل، وإبليس كان توحيده ظاهراً فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد

 

ص -328-

فغير الله عليه وقال‏: ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏: ‏18‏]‏، فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس فإن آدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة،وأنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك، ولم يقل‏: ‏إن الله ظلمني، ولا إن الله أمرني في الباطن بالأكل،قال تعالى‏: ‏‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏37‏]‏،وقال تعالى‏: ‏‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏23‏]‏، وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال‏: ‏‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏[‏الحجر‏: ‏39‏]‏‏.‏
وأما قوله‏: ‏[‏رآه غيراً فلم يسجد‏]‏، فهذا شر من الاحتجاج بالقدر، فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين، وهو كذب على إبليس، فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيراً بل قال‏:
‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏12‏]‏، ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيراً، بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة، والله تعالى‏: ‏{‏ّوَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‏.‏قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏‏[‏البقرة‏: ‏31، 32‏]‏
وكانت الملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم، وهم مغايرون له، ولهذا دعوه دعاء العبد ربه، فآدم يقول‏:
‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏‏[‏الأعراف‏: ‏23‏]‏، والملائكة تقول‏: ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏‏[‏البقرة‏: ‏32‏]‏، وتقول‏: ‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ‏}‏الآية ‏[‏غافر‏: ‏7‏]‏، وقد قال تعالى‏: ‏‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏64‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏14‏]‏،

 

ص -329-

وقال‏: ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏114‏]‏
فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله، ولا اتخاذ غير الله ولياً ولا حكماً، فلم يكونوا يستحقون الإنكار، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غيرٍ يمكن عبادته واتخاذه ولياً وحكماً، وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى‏:
‏‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏213‏]‏، وقال‏: ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏22‏]‏،وأمثال ذلك‏.‏
وأما قول القائل‏: إن قوله‏: ‏
{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏‏[‏آل عمران‏: ‏128‏]‏ عين الإثبات للنبي صلى الله عيله وسلم كقوله‏: ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏17‏]‏، ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏: ‏10‏]‏ فهذا بناء على قول أهل الوحدة والاتحاد، وجعل معنى قوله‏: ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ أن فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة، وهذا ضلال عظيم من وجوه‏:
أحدها‏: أن قوله‏:
‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ نزل في سياق قوله‏: ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ‏.‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏127، 128‏]‏‏.‏/

 

ص -330-

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت، فلما أنزل الله هذه الآية ترك ذلك، فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر، وأنه ليس لغيره أمر، بل إن شاء الله تعالى قطع طرفاً من الكفار، وإن شاء كَبَتَهُم فانقلبوا بالخسارة، وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم‏.‏
وهذا كما قال في الآية الأخرى‏: ‏
{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏188‏]‏، ونحو ذلك قوله تعالى‏: ‏{‏ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏154‏]‏‏.‏
الوجه الثاني‏: أن قوله‏: ‏‏
{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏17‏]‏ لم يرد به أن فِعلَ العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد، حتى يقال للماشي‏: ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب‏: وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم‏: ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب، والصائم والمصلي ونحو ذلك‏.‏
وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكفار‏: ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر، ويقال للكاذب‏: ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب‏.‏
ومن قال مثل هذا فهو كافر ملحد، خارج عن العقل والدين‏.‏

 

ص -331-

ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال‏: ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏ لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته‏.‏ يقول‏: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه، فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين، بل نفى عنه الإيصال والتبليغ، وأثبت له الحذف والإلقاء، وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقاً للعادة، كان الله هو الذي أوصله بقدرته‏.‏
الوجه الثالث‏: أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية‏: ‏أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق، وقد قال الخليل‏:
‏‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏128‏]‏، فالله هو الذي جعل المسلم مسلما، وقال تعالى‏: ‏{‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا‏.‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا‏.‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏: ‏19، 21‏]‏، فالله هو الذي خلقه هلوعا، لكن ليس في هذا أن الله هو العبد، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد‏.‏
فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل‏.‏
وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد، وهذا عين الضلال والإلحاد‏.‏

 

ص -332-

الوجه الرابع‏: أن قوله تعالى‏: ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏: ‏10‏]‏ لم يرد به‏: أنك أنت الله، وإنما أراد‏: ‏أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايعك فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به‏.‏
فمن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏
: ‏‏"‏من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني‏"‏ ومعلوم أن أميره ليس هو إياه‏.‏
ومن ظن في قوله‏:
‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ أن المراد به‏: أن فعلك هو فعل الله، أو المراد‏: أن الله حال فيك ونحو ذلك، فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره‏.‏
وذلك أنه لو كان المراد به‏: كون الله فاعلا لفعلك، لكان هذا قدراً مشتركا بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله، ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا، فيكون الله قد بايع الله، إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد، فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله‏.‏
وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية، حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول‏: أقاتل الله ‏؟‏ ما أقدر أن أقاتل الله، ونحو هذا

 

ص -333-

الكلام الذي سمعناه من شيوخهم، وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة‏.‏
وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء، بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا، فإن الله سبحانه قال له‏: ‏‏
{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏128‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏‏[‏الجن‏: ‏19‏]‏، وقال‏: ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏1‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏23‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا‏.‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏: ‏18، 19‏]‏‏.‏
فقوله‏:
‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏ بيَّن قوله‏: ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ‏}‏؛ ولهذا قال‏: ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏‏[‏الفتح‏: ‏10‏]‏‏.‏ ومعلوم أن يد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مع أيديهم، كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة، فعلم أن يد الله فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول عبد الله ورسوله، فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله، فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم‏.‏
ألا ترى أن كل من وكل شخصا يعقد مع الوكيل، كان ذلك عقداً مع الموكل ‏؟‏ ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه، كانوا معاهدين لمستنيبه‏؟‏ ومن وكل رجلا في إنكاح أو تزويج، كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد‏؟‏ وقد قال تعالى‏: ‏‏
{‏إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ‏}‏الآية ‏[‏التوبة‏: ‏111‏]‏،

 

ص -334-

ولهذا قال في تمام الآية‏: ‏‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏[‏الفتح‏: ‏10‏]‏‏.‏
فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح، وأن الله إذا كان قد قال لنبيه‏: ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ فإيش نكون نحن‏؟‏ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال‏:
‏"‏لا تُطْرُوني كما أَطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا‏: عبد الله ورسوله‏"‏
وأما قول القائل‏:

 ما غبت عن القلب ولا عن عيني

 ما بينكم وبيننا من بين

فهذا قول مبنى على قول هؤلاء، وهو باطل متناقض، فإن مبناه على أنه يرى الله بعينه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏"‏واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت‏"‏
وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله علسه وسلم، والصحابة وأئمة المسلمين‏.‏
ولم يثبت عن ابن عباس، ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما، أنهم قالوا‏: إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد،

 

ص -335-

وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله‏: ‏"‏أتاني البارحة ربي في أحسن صورة‏"‏ الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، إنما كان بالمدينة في المنام، هكذا جاء مفسراً‏.‏
وكذلك حديث أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث، والمعراج كان بمكة كما قال تعالى‏:
‏‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏1‏]‏، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏
وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له‏:
‏{‏لن رآني‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏143‏]‏، وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء، كما قال تعالى‏: ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏153‏]‏، فمن قال‏: إن أحدًا من الناس يراه، فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران،ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء‏.‏
والناس في رؤية الله على ثلاثة أقوال‏:
فالصحابة والتابعونَ وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانًا، وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه، لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها‏.‏
ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه، حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه،

 

ص -336-

وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد، ومعرفته في صورة مثالية، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
والقول الثاني‏: قول نفاة الجهمية‏: أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏
والثالث‏: قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة‏.‏
وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات، فيقولون‏: إنه لا يري في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه يرى في الدنيا والآخرة، وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى، وهو وجود الحق عندهم‏.‏
ثم من أثبت الذات قال‏: يرى متجلياً فيها، ومن فرق بين المطلق والمعين قال‏: لا يرى إلا مقيداً بصورة‏.‏
وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين‏: إنكار رؤية الله، وإثبات رؤية المخلوقات، ويجعلون المخلوق هو الخالق، أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق، وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول‏: بأن المعدوم شيء في الخارج، وهو قول باطل، وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق‏.‏
وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقاً فيقتضي أن يكون الرب معدوما، وهذا هو جحود الرب وتعطيله،/

 

ص -337-

وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات،فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق، وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
وأما تناقضه فقوله‏:

 ما غبت عن القلب ولا عن عيني

 ما بينكم وبيننا من بين

يقتضى المغايرة، وأن المخاطَب غير المخاطِب، وأن المخاطَب له عين وقلب لا يغيب عنهما المخاطب، بل يشهده القلب والعين، و الشاهد غير المشهود‏.‏
وقوله‏:
ما بينكم وبيننا من بين
فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا‏: هذه مظاهر ومجالٍ، قيل‏: فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر والمتجلي، فقد ثبتت التثنية وبطلت الوحدة، وإن كان هو إياها فقد بطل التعدد، فالجمع بينهما تناقض‏.‏
وقول القائل‏:

 فارق ظلم الطبع وكن متحدا

 بالله وإلا فكل دعواك محال

إن أراد الاتحاد المطلق، فالمفارق هو المفارق، وهو الطبع وظلم الطبع، وهو المخاطب بقوله‏: وكن متحداً بالله وهو المخاطب بقوله‏: كل دعواك محال وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى‏.‏

 

ص -338-

وإن أراد الاتحاد المقيد، فهو ممتنع، لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد‏.‏
وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد، ونحو ذلك مما يثبته النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته، كسائر ما يتحد مع غيره، فإنه لابد أن يستحيل‏.‏
وهذا ممتنع على الله تعالى ينزه عنه؛ لأن الاستحالة تقتضى عدم ما كان موجوداً، والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له، يمتنع العدم على شيء من ذلك؛ ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال، فعدم شيء منها نقص يتعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب، وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق، فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل‏.‏
والرب تعالى يلازمه القدم والغنى والعزة، وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه، يستحيل عليه نقيض ذلك، فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضى أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفاً بنقيض صفاته من القدم، والغنى الذاتي، والعز الذاتي، وكل ذلك ممتنع، وبسط هذا يطول‏.‏

 

ص -339-

ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال‏: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أنه لابد من تمييز المحدث عن القديم‏.‏
ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل الرب رب، والعبد عبد‏: ‏
{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏.‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏.‏ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏‏[‏مريم‏: ‏93‏: 95‏]‏
وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي وهو أن يحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضى الله،ويغضب لما يغضب الله،ويأمر بما يأمر الله به،،وينهى عما ينهى الله عنه،ويوالي من يواليه الله،ويعادي من يعاديه الله، ويحب لله ويبغض لله، ويعطي لله ويمنع لله، بحيث يكون موافقا لربه تعالى فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله،كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
: ‏"‏يقول الله تعالى‏: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء

 

ص -340-

أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه‏"‏‏.‏
وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة‏:
منها‏: أنه قال‏: ‏"‏من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة‏"‏ فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه، وهؤلاء ثلاثة، ثم قال‏: ‏"‏وما تقرب إلىّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه‏"‏ فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل، وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه، فإذا أحبه كان العبد يسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به‏.‏
وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل، وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه، لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث، فالحديث مخصوص بحال مقيد، وهم يقولون بالإطلاق والتعميم، فأين هذا من هذا‏؟‏
وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح‏: ‏"‏إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول‏: أنا ربكم، فيقولون‏: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه‏.‏ ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة فيقول‏: أنا ربكم فيقولون‏: أنت ربنا‏"‏ فيجعلون هذا حجة لقولهم‏: إنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة‏.‏

 

ص -341-

وهذا الحديث حجة عليهم في هذا أيضا، فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة المنكرون الذين قالوا‏: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا‏.‏
وهؤلاء الملاحدة يقولون‏: إن العارف يعرفه في كل صورة، فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم‏.‏ وهذا جهل منهم، فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون، وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه، فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه؛ فلهذا قال في الحديث‏: ‏"‏وهو يسألهم ويثبتهم وقد نادى المنادي‏: ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون‏"‏
ثم يقال لهؤلاء الملاحدة‏: إذا كان عندكم هو الظاهر في كل صورة، فهو المنكر وهو المنكر، كما قال بعض هؤلاء لآخر‏: من قال لك‏: إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر‏: فمن هو الذي كذب‏؟‏
وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال‏: ما أبصر غيره أبول عليه‏؟‏ فقال له شيخه‏: فالذي يخرج من بطنك من أين هو‏؟‏ قال‏: فرجت عني‏.‏
ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت، فقال الشيرازي للتلمساني‏: هذا أيضا من ذاته‏؟‏ فقال التلمساني‏: هل ثم شيء خارج عنها‏؟‏

 

ص -342-

وكان التلمساني قد أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له‏: ‏أبو يعقوب المغربي المبتلى، حتى كان يقول‏: الوجود واحد، وهو الله ولا أرى الواحد، ولا أرى الله، ويقول‏: نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه، ويجعل هذا الكلام له تسبيحا، يتلوه كما يتلو التسبيح
وأما قول الشاعر‏:

 إذا بلغ الصب الكمال من الهوى

 وغاب عن المذكور في سطوة الذكر

 فشاهد حقا حين يشهده الهوى

 أن صلاة العارفين من الكفر

فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب‏: هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة، حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان‏.‏
وأما النوع الثالث من الفناء وهو الفناء عن وجود السوي بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة‏.‏

 

ص -343-

والمقصود هنا أن قوله‏: يغيب عن المذكور، كلام جاهل، فإن هذا لا يحمد أصلا، بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر، لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر، اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق، وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدًا، ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة، فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين، ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر‏.‏
وأما قول القائل‏:

 الكون يناديك أما تسمعني

 من ألف أشتاتي ومن فرقني

 انظر لتراني منظرًا معتبرًا

 ما فيَّ سوى وجود من أوجدني

فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة، وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين، فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده، كان ذلك الوجود هو الكون المنادي، وهو المخاطب المنادي، وهو الأشتات المؤلفة المفرقة، وهو المخاطب الذي قيل له‏: انظر‏.‏
وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي، قد أوجد نفسه وفرقها وألفها‏.‏ فهذا جمع بين النقيضين، فإن الواجب بنفسه لا يكون مفعولا مصنوعا، والشيء الواحد لا يكون خالقا مخلوقا، قديما محدثا، واجبا بنفسه واجبا بغيره، فإن هذا جمع بين النقيضين‏.‏

 

ص -344-

فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم، والممكن هو الذي تقبل ذاته العدم، فيمتنع أن يكون الشيء الواحد قابلا للعدم غير قابل للعدم، والقديم هو الذي لا أول لوجوده، والمحدث هو الذي له أول، فيمتنع كون الشيء الواحد قديما محدثا‏.‏
ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول، لأمكن أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني، وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك، لكن قد علم أنه لم يرد هذا؛ ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى، وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته، وهكذا قول القائل‏:

 ذات وجود ال

 كون للخلق شهود

 أن ليس لموجو

 د سوى الحق وجود

مراده به أن وجود الكون هو نفس وجود الحق، وهذا هو قول أهل الوحدة، وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى فليس لشيء وجود من نفسه، وإنما وجوده من ربه، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم، وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها، فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة، لا في الدنيا ولا في الآخرة لكان قد أراد معنى صحيحا وهو الذي عليه أهل العقل والدين، من الأولىن والأخرىن‏.‏
وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض؛ ولهذا يقولون‏: الشيء

ص -345-

ونقيضه، وإلا فقوله‏: منه وإلا علاه يبدي ويعيد، يناقض الوحدة، فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحدًا‏.‏ وقوله‏:

وما أنا في طراز الكون شيء  

 لأني مثل ظل مستحيل

يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل، فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين، كما إذا شبهه بالشعاع، فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس، وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره‏.‏
والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا‏.‏
وقلت لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا‏: فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار، والخالق بالنار والشمس، فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره، فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء، فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى‏؟‏ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا ‏؟‏
وجعلت أردد عليه هذا الكلام، وكان في المجلس جماعة حتى فهمه فهما جيدًا، وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له، وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره، وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل‏.‏
وذكرت له‏: ‏أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم

 

ص -346-

منها، فإن المسيح عليه السلام وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر، كالذين قالوا‏: ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ‏}‏ ثم بعثهم الله بعد موتهم‏.‏ كما قال‏: ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏: ‏55، 65‏]‏، وكالذي ضرب ببعض البقرة، وغير ذلك‏.‏
وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء والنصارى يصدقون بذلك‏.‏
وأما جعل العصا حَيّة، فهذا أعظم من إحياء الميت، فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيوانا تبتلع العِصِيّ والحبال، فهذا أبلغ في القدرة، وأنذر، فإن الله يحيي الموتي، ولا يجعل الخشب حيات‏.‏
وأما إنزال المائدة من السماء، فقد كان ينزل على قوم موسى كل يوم من المن والسلوى، وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك، فإن الحلوى أو اللحم دائما هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة، من الزيتون والسمك وغيرهما‏.‏
وذكرت له نحوا من ذلك، مما يبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من المخلوقات، وإما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى، قد يكون أكمل في ذلك منه، وأما

 

ص -347-

خلقه من امرأة بلا رجل، فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك، فإنه خلق من بطن امرأة، وهذا معتاد، بخلاف الخلق من ضلع رجل، فإن هذا ليس بمعتاد‏.‏
فما من أمر يذكر في المسيح عليه السلام إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم، فعلم قطعا أن تخصيص المسيح باطل، وأن ما يدعونه له إن كان ممكنا فلا اختصاص له به، وإن كان ممتنعا فلا وجود له فيه ولا في غيره‏.‏
ولهذا قال هؤلاء الاتحادية‏: إن النصارى إنما كفروا بالتخصيص، وهذا أيضا باطل، فإن في الاتحاد عمومًا وخصوصا‏.‏
والمقصود هنا‏: أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة، وكذلك قول الآخر‏:

 أحن إليه وهو قلبي وهل يرى

 سواي أخو وجد يحن لقلبه‏؟‏

 ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري

 وما بعده إلا لإفراط قربه

هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض، فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض؛ ولهذا قال‏: وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه‏؟‏
وقوله‏: ‏وما بعده إلا لإفراط قربه‏.‏ متناقض، فإنه لا قرب ولا بعد عند

 

ص -348-

أهل الوحدة، فإنها تقتضي اثنين يقرب أحدهما من الآخر، والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته‏.
وأما قول القائل‏: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه، فهذا أيضًا من قول أهل الوحدة، وهو مع كفره قول متناقض؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد، وأن أقوال المشركين الذين قالوا‏: ‏
{‏لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏23‏]‏، والذين قالوا‏: ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏، والذين قالوا‏: ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏53، 54‏]‏، والذين قالوا‏: ‏{‏حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏68‏]‏، ونحو هؤلاء ليس هذا هو لسان التوحيد‏.‏
وأما تناقض هذا القول على أصلهم، فإن الوجود إن كان واحدًا كان إثبات التعدد تناقضا، فإذا قال القائل‏: الوجود واحد، وقال الآخر‏: ليس بواحد، بل متعدد، كان هذان القولان متناقضين، فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر‏.‏
وإذا قال قائل‏: الألسنة كلها لسانه، فقد صرح، بالتعدد، في قوله‏: الألسنة كلها، وذلك يقتضي ألا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان، فثبت التعدد وبطلت الوحدة‏.‏

 

ص -349-

وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض أصلهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد‏.‏
فإن قالوا‏: الوجود واحد، بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح، لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا عين وجود هذا، بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي، كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسمها المنطقيون إلى جنس، ونوع، وفصل، وخاصة، وعرض عام‏.‏
فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان، وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر‏.‏ وهذا مما يعلم به أن وجود الحق مباين لوجود المخلوقات، فإنه أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود، فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا لوجود الذرة والبعوضة، فوجود الحق تعالى أعظم مباينة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر‏.‏
وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال‏: لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له‏.‏
فإن هذا الكلام مع كفره متناقض، فإن قوله‏: لا يعرف التوحيد إلا واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه وأن غيره لا يعرفه، هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه، وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه،

 

ص -350-

وإثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا‏: ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له يناقض هذا‏.‏
وقوله ‏: ‏إنه لا تصح العبارة عن التوحيد كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر عن توحيده، ورسوله عبر عن توحيده، والقرآن مملوء من ذكر التوحيد، بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد
وقد قال تعالى‏:
‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏45‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏25‏]‏، ولو لم يكن يصح عنه عبارة لما نطق به أحد‏.‏
وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:
‏"‏أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله‏"‏، وقال‏: ‏"‏من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة‏"‏
لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة الوجود أمر ممتنع في نفسه، لا يتصور تحققه في الخارج، فإن الوحدة العينية الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين، ولكن الوجود واحد في نوع الوجود، بمعنى‏: ‏أن اسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد، كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان، وهذا الجسم ليس هو ذاك، وهذا الإنسان ليس هو ذاك، وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك‏.‏

 

ص -351-

وقوله‏: لا يعبر عنه إلا بغير، يقال له‏: أولا‏: التعبير عن التوحيد يكون بالكلام، والله يعبر عن توحيده بكلامه، فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته، لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره، وصفات الله لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه، ففي أحد الاصطلاحين يقال‏: إنه غيره، وفي الاصطلاح الآخر لا يقال‏: إنه غير‏.‏
فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد؛ لئلا يقول المبتدع‏: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق، فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به، بل مخلوقة في غيره، فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد، وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف والأئمة تكفيرا مطلقًا، وإن كان الواحد المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها‏.‏
وأيضا، فيقال لهؤلاء الملاحدة‏: إن لم يكن في الوجود غيره بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق، وأكلهم وشربهم، ونكاحهم وزناهم، وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله‏.‏
ومعلوم أن من جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفرًا وضلالا، فمن قال‏: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل، فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الموجود القائم بنفسه، وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول‏:

 

ص -352-

 وكل كلام في الوجود كلامه

 سواء علىنا نثره ونظامه

فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله، وأما هذا الملحد فزاد على هؤلاء، فجعل كلام الخلق وعبادتهم نفس وجوده، لم يجعل ذلك كلامًا له، بل نفى أن يكون هذا كلامًا له لئلا يثبت غيرًا له‏.‏
وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع، وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى، وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى، ليس هو الله ولا صفة من صفات الله‏.‏
ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار قال تعالى‏:
‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏‏[‏الزمر‏: ‏64‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏14‏]‏، وقال تعالى ‏: ‏‏{‏هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏: ‏3‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏114‏]‏‏.‏
وكذلك قول القائل‏: وجدت المحبة غير المقصود؛ لأنها لا تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود؛ لأن التوحيد ما يكون إلا من عبد لرب، ولو أنصف الناس ما رأوا عبدا ولا معبودًا هو كلام فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يخفى‏.‏

ص -353-

فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين، ومحبتهم له، كقوله تعالى‏: ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏165‏]‏، وقوله‏: ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: 54‏]‏، وقوله‏: ‏{‏أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏24‏]‏، وقوله‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: 4‏]‏، ‏{‏يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏195‏]‏، ‏{‏يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 222‏]‏، ‏{‏يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏24‏]‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏: ‏"
‏ثلاث مَنْ كُنَّ فيه وجد بِهِنَّ حلاوة الإيمان‏: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار‏"‏‏.‏
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام‏.‏
وأول من أظهر ذلك في الإسلام الْجَعْد بن درْهم، فَضَحَّى به خالد بن عبد الله القَسْرِى يوم الأضحى بواسط، وقال‏: أيها الناس، ضَحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ‏!‏ ثم نزل فذبحه‏.‏
وقوله ‏: ‏المحبة ما تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم كلام باطل من كل وجه، فإن قوله ‏: ‏لا تكون إلا من غير، ليس بصحيح، فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيرًا لنفسه، والله يحب نفسه، وقوله‏: ما ثم غير، باطل؛ فإن المخلوق

 

ص -354-

غير الخالق، والمؤمنون غير الله وهم يحبونه، فالدعوى باطلة، فكل واحدة من مقدمتي الحجة باطلة قوله‏: لا تكون إلا من غير لغير وقوله‏: غير ما ثم فإن الغير موجود، والمحبة تكون من المحب لنفسه ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا القول ويقول كما قال ابن الفارض‏.‏
وكذلك قوله‏: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، ولو أنصف الناس ما رأوا عابدًا ولا معبودًا كلا المقدمتين باطل، فإن التوحيد يكون من الله لنفسه، فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى‏:
‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏18‏]‏، والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه، فقد وحد نفسه بنفسه، كقوله‏: ‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ‏[‏البقرة‏: ‏163‏]‏ وقوله‏: ‏{‏وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏النحل ‏: ‏51‏]‏، وقوله‏: ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُِ‏}‏ ‏[‏محمد‏: ‏19‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏
وأما المقدمة الثانية‏: فقوله‏: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض، فإنه إذا لم يكن ثم عابد ولا معبود بل الكل واحد، فمن هم الذين لا ينصفون إن كانوا هم الله‏؟‏ فيكون الله هو الذي لا ينصف، وإن كانوا غير الله فقد ثبت الغير، ثم إذا فسروه على كفرهم وقالوا‏: إن الله هو الذي لا ينصف، وهو الذي يأكل، ويشرب ويكفر، كما يقول ذلك كثير منهم، مثل ما قال بعضهم لشيخه‏: الفقير إذا صح أكل بالله، فقال له الآخر‏: الفقير إذا صح أكل الله‏.‏
وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش،

 

ص -355-

ويمرض ويبول، ويَنْكَح ويُنكِح، وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك هو الكمال عندهم‏.‏
كما قال في الفصوص‏: فالعلى بنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصى به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة‏.‏ وقال‏: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم‏؟‏ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق‏؟‏ فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد، كما أن صفات العبد من أولها إلى آخرها صفات الله تعالى‏.‏
وهذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه، فإنه يقال له‏: فأنت الكامل في نفسك، الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا نعاملك بموجب مذهبك فتضرب وتوجع، وتهان وتُصْفَع، وإذا تَظَلَّم ممن فعل به ذلك واشتكى وصاح منه وبكى، قيل له‏: ما ثم غير، ولا عابد ولا معبود، فلم يفعل بك هذا غيرك، بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم، والعابد هو المعبود‏.‏ فإن قال‏: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه، قيل له أيضا‏: فقل‏: عبد نفسه، فإذا أثبت ظالما ومظلوما وهما واحد، قيل له‏: فأثبت عابدًا ومعبودًا وهما واحد‏.‏
ثم يقال له‏: هذا الذي يضحك ويضرب، هو نفس الذي يبكي ويصيح‏؟‏ وهذا الذي شبع وروى، هو نفس هذا الذي جاع وعطش‏؟‏ فإن اعترف بأنه

 

ص -356-

غيره أثبت المغايرة، وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا، فبين العابد والمعبود أولى وأحرى‏.‏
وإن قال‏: بل هو هو، عومل معاملة السوفسطائية، فإن هذا القول من أقبح السفسطة‏.‏ فيقال‏: فإذا كان هو هو، فنحن نضربك ونقتلك، والشيء قتل نفسه وأهلك نفسه‏.‏
والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول‏:
‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏23‏]‏ لكون نفسه أمرته بالسوء، والنفس أمارة بالسوء، لكن جهة أمرها ليست جهة فعلها، بل لابد من نوع تعدد، إما في الذات وإما في الصفات، وكل أحد يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظلم ذاك ليس هو إياه، وليس هو بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه‏.‏ وإذا كان هذا في المخلوقين، فالخالق أعظم مباينة للمخلوقين من هذا لهذا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏
ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال‏.‏
ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق بين نوع الإنسان، فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء

 

ص -357-

والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولى الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين‏.‏
والمقصود هنا‏: رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال‏.‏
وأما توبة من قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ومن الممكنات أنه قد تاب على أصحاب هذه المقالات، والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم، والكفر وإن غلظ وجسم، فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين، كما قال تعالى‏:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏53‏]‏، وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين‏.‏
وأما قوله‏:
‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏: 48‏]‏ فإنها مقيدة خاصة، لأنها في حق غير التائبين، لا يغفر لهم الشرك، وما دون الشرك معلق بمشيئة الله تعالى
وأما الحكاية المذكورة عن الذي قال‏: إنه التقم العالم كله، وأراد أن يقول‏: أنا الحق وأختها التي قيل فيها‏: إن الإلهية لا يدعيها إلا أجهل خلق الله أو أعرف خلق الله هو من هذا الباب‏.‏

 

ص -358-

والفقير الذي قال‏: ما خلق الله أقل عقلا ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمروذ وأمثالهما هو الذي أصاب ونطق بالصواب، وسدد في الخطاب‏.‏
ولكن هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله، ويدعون أنهم خير من موسى وأمثاله، حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه رحمه الله وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء، ودعاه إلى هذا القول، وزينه له فحدثني بذلك، فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم، وأن قولهم من جنس قول فرعون، فقال لي‏: إنه لما دعاه حسن الشيرازي إلى هذا القول قال له‏: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال‏: نعم، ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد إذ ذاك لم يسلم بعد، فقال‏: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، قال له‏: ولم‏؟‏ قال‏: لأن موسى أغرق فرعون‏.‏ فانقطع، فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله به موسى لا بكونه كان رسولا صادقا‏.‏ قلت لعبد السيد‏: وأقر لك أنه على قول فرعون‏؟‏ قال‏: نعم، قلت‏: فمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة، أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول فرعون، فإذا كان قد أقر بهذا فقد حصل المقصود‏.‏
فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل، والواجب إنكارها، فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لاسيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى وفرعون، ومن عرف

 

ص -359-

معناها واعتقدها كان من المنافقين، الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى‏: ‏{‏جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عليهمْ‏}‏ ‏[‏التوبة73‏]‏ والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًا من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار‏.‏
وليس لهذه المقالات وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحًا فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها، وهؤلاء قد عرف مقصودهم، كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة، ولهم في ذلك كتب مصنفة، وأشعار مؤلفة، وكلام يفسر بعضه بعضا‏.‏
وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلفت إليه، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها، وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل، فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السُّرَّاق والخونة، الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة‏.‏
فإن هؤلاء غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله، وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببا لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأولىائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنا وليا لله، فيصير منافقا عدوا لله‏.‏

 

ص -360-

ولقد ضربت لهم مرة مثلا بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم، فذهبوا بهم إلى قبرص لينصروهم، فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم‏: لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى، وهؤلاء كانوا يجعلوننا شرًا من النصارى، والأمر كما قاله هذا القائل
وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله، وأن كلامهم كلام العارفين المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم، فمنهم من دخل في إلحادهم وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق بالمجهولات‏.‏
وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين، وهم بمنزلة من يعظم أعداء الله ورسوله، ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالى المشركين وأهل الكتاب، ظانا أنهم من أهل الإيمان وأولى الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين‏.‏
وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب، والله أعلم بالصواب‏.‏

 

ص -361-

وسئل ‏:
ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين، و هداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في الكلام الذي تضمنه كتاب ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ وما شاكله من الكلام الظاهر في اعتقاد قائله‏: أن الرب والعبد شيء واحد، ليس بينهما فرق، وأن ما ثمَّ غير، كمن قال في شعره‏:
أنا وهو واحد ما معنا شيء
ومثل ‏:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
ومثل ‏:
إذا كنت ليلى وليلى أنا
وكقول من قال‏:
لو عرف الناس الحق ما
رأوا عابدًا ولا معبودًا‏.‏
وحقيقة هذه الأقوال لم تكن في كتاب الله عز وجل، ولا في السنة، ولا في كلام الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين‏.‏
ويدعي القائل لذلك‏: أنه يحب الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول‏:
‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏31‏]‏، والله سبحانه وتعالى ذكر خير

 

ص -362-

خلقه بالعبودية في غير موضع، فقال تعالى عن خاتم رسله صلى الله عليه وسلم‏: ‏‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏: ‏10‏]‏، وكذلك قال في حق عيسى عليه السلام‏: ‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عليه‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏59‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏: ‏172‏]‏‏.‏
فالنصارى كفار بقولهم مثل هذا القول في عيسى بمفرده، فكيف بمن يعتقد هذا الاعتقاد‏: تارة في نفسه، وتارة في الصور الحسنة من النسوان والمردان‏؟‏‏!‏
ويقولون‏: إن هذا الاعتقاد له سر خفي، وباطن حق، وإنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق‏.‏
فهل في هذه الأقوال سر خفي يجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله أن يجتهد على التمسك بها والوصول إلى حقائقها كما زعم هؤلاء أم باطنها كظاهرها‏؟‏ وهذا الاعتقاد المذكور هو حقيقة الإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به، أم هو الكفر بعينه‏؟‏
وهل يجب على المسلم أن يتبع في ذلك قول علماء المسلمين، ورثة الأنبياء والمرسلين، أم يقف مع قول هؤلاء الضالين المضلين‏؟‏ وإن ترك ما أجمع عليه أئمة المسلمين، ووافق هؤلاء المذكورين، فماذا يكون من أمر الله له يوم الدين‏؟‏
أفتونا مأجورين، أثابكم الله الكريم‏.‏

 

ص -363-

فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تيمية رحمه الله‏:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ما تضمنه كتاب فصوص الحكم وما شاكله من الكلام‏: فإنه كفر باطنا وظاهرًا، وباطنه أقبح من ظاهره‏.‏ وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة، وأهل الحلول، وأهل الاتحاد‏.‏ وهم يسمون أنفسهم المحققين‏.‏
وهؤلاء نوعان‏: نوع يقول بذلك مطلقًا، كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله‏: مثل ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي، والششتري، والتلمساني، وأمثالهم ممن يقول‏: إن الوجود واحد، ويقولون‏: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون‏: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق‏.‏

 

ص -364-

ويقولون‏: إن وجود الأصنام هو وجود الله، وإن عبَّاد الأصنام ما عبدوا شيئا إلا الله‏.‏
ويقولون‏: إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم‏.‏
ويقولون‏: إن عبّاد العجل ما عبدوا إلا الله، وإن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل، وإن موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء، بل يرونه عين كل شيء، وأن فرعون كان صادقًا في قوله‏:
‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏: ‏24‏]‏، بل هو عين الحق، ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص‏.‏
ويقول أعظم محققيهم‏: إن القرآن كله شرك؛ لأنه فرق بين الرب والعبد، وليس التوحيد إلا في كلامنا‏.‏
فقيل له‏: فإذا كان الوجود واحدًا، فلم كانت الزوجة حلالا والأم حرامًا‏؟‏ فقال‏: الكل عندنا واحد، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏: حرام‏.‏ فقلنا‏: حرام عليكم‏.‏
وكذلك ما في شعر ابن الفارض في قصيدته التي سماها نظم السلوك كقوله ‏:

 لها صلواتي بالمقام أقيمها

 وأشهد فيها أنها لي صلت

 كلانا مصل واحد ساجد إلى

 حقيقته بالجمع في كل سجدة

 

 

ص -365-

 وما كان لي صلى سواي، ولم تكن

  صلاتي لغيري في أدا كل سجدة

وقوله‏:

 وما زلت إياها، وإياي لم تزل

 ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت

وقوله‏:

 إلىَّ رسولا، كنت مني مرسلا

 وذاتي بآياتي علىّ استدلت

فأقوال هؤلاء ونحوها باطنها أعظم كفرًا وإلحادًا من ظاهرها، فإنه قد يظن أن ظاهرها من جنس كلام الشيوخ العارفين، أهل التحقيق والتوحيد، وأما باطنها فإنه أعظم كفرًا وكذبًا وجهلًا من كلام اليهود والنصارى وعبّاد الأصنام‏.‏
ولهذا فإن كل من كان منهم أعرف بباطن المذهب وحقيقته، كان أعظم كفرًا وفسقا، كالتلمساني، فإنه كان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب، وأخبرهم بحقيقته، فأخرجه ذلك إلى الفعل فكان يعظم اليهود والنصارى والمشركين، ويستحل المحرمات ويصنف للنصيرية كتبًا على مذهبهم، يقرهم فيها على عقيدتهم الشركية‏.‏
وكذلك ابن سبعين كان من أئمة هؤلاء، وكان له من الكفر والسحر

ص -366-

الذي يسمى السيميا والموافقة للنصارى، والقرامطة والرافضة، ما يناسب أصوله‏.‏
فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب، ووافقهم عليه، كان أظهر كفرًا وإلحادًا‏.‏
وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين، الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانًا، ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم، وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال‏.‏
وهؤلاء من جنس الجهمية الذين يقولون‏: إن الله بذاته حال في كل مكان، ولكن أهل وحدة الوجود حققوا هذا المذهب أعظم من تحقيق غيرهم من الجهمية‏.‏
وأما النوع الثاني‏: فهو قول من يقول بالحلول والاتحاد في معين، كالنصارى الذين قالوا بذلك في المسيح عيسى، والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته، والحاكمية الذين يقولون بذلك في الحاكم، والحلاَّجية الذين يقولون بذلك في الحلاج، واليونسية الذين يقولون

 

ص -367-

بذلك في يونس، وأمثال هؤلاء ممن يقول بإلهية بعض البشر، وبالحلول والاتحاد فيه، ولا يجعل ذلك مطلقا في كل شيء‏.‏
ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان والمردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى الذين قالوا‏: إن الله هو المسيح ابن مريم‏.‏
وأما الأولون‏: فيقولون بالإطلاق‏.‏ ويقولون‏: النصارى إنما كفروا بالتخصيص‏.‏
وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يُلَبِّسون على من لم يفهمه‏.‏
فهذا كله كفر باطنا وظاهرًا بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين‏.‏
ولكن هؤلاء يشبهون بشيء آخر، وهو ما يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر، فإنه قد يعرض لأحدهم لقوة استيلاء الوجد والذكر عليه من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره، فيغيب بمعبوده عن عبادته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده‏.‏

 

ص -368-

ومثل هذا قد يعرض لبعض المحبين لبعض المخلوقين، كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في اليم، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال له‏: أنا وقعت، فما الذي أوقعك‏؟‏ فقال‏: غبت بك عني، فظننت أنك أني‏.‏
وينشدون‏:

 رق الزجاج، وراقت الخمر

 وتشاكلا، فتشابه الأمر

 فكأنما خمر ولا قدح

 وكأنما قدح ولا خمر

وهذه الحال تعرض لكثير من السالكين، وليست حالا لازمة لكل سالك، ولا هي أيضا غاية محمودة، بل ثبوت العقل والفهم والعلم مع التوحيد باطنا وظاهرًا كحال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكمل من هذا وأتم‏.‏
والمعنى الذي يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام‏: فناء عن عبادة السوي، وفناء عن شهود السوي، وفناء عن وجود السوي‏.‏
فالأول‏: أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو تحقيق ‏[‏لا إله إلا الله‏]‏ فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله، ولا يبقى في قلبه تأله لغير الله، وكل من كان أكمل في هذا التوحيد كان أفضل عند الله‏.

ص -369-

والثاني‏: أن يفنى عن شهود ما سوى الله، وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع، ونحو ذلك‏.‏
وهذا فيه فضيلة من جهة إقبال القلب على الله، وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه، فإنه إذا شهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه المعبود لا إله إلا هو، الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقا وأمرًا كان أتم معرفة وشهودًا، وإيمانًا وتحقيقا، من أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر، وشهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، وهو الشهود الصحيح المطابق‏.‏ لكن إذا كان قد ورد على الإنسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا، كان معذورًا للعجز، لا محمودًا على النقص والجهل‏.‏
والثالث‏: الفناء عن وجود السوى، وهو قول الملاحدة أهل الوحدة كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون‏: وجود الخالق هو وجود المخلوق، وما ثم غير ولا سوى في نفس الأمر‏.‏
فهؤلاء قولهم أعظم كفرًا من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام‏.‏
وأيضا، فإن ولاية الله هي موافقته بالمحبة لما يحب، والبغض لما يبغض والرضا بما يرضي، والسخط بما يسخط، والأمر بما يأمر به، والنهي عما ينهى عنه، والموالاة لأوليائه، والمعاداة لأعدائه، كما في صحيح البخاري

 

ص -370-

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏"‏يقول الله تعالى‏: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يسعى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه‏"‏، فهذا أصح حديث روى في الأولياء‏.‏
فالملاحدة والاتحادية يحتجون به على قولهم، لقوله ‏"‏كنت سمعه وبصره ويده ورجله‏"‏ والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة‏:
منها قوله‏: ‏"‏من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة‏"‏ فأثبت معاديا محاربًا ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا‏.‏
ومنها قوله‏: ‏"‏وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‏"‏ فأثبت عبدًا متقربًا إلى ربه، وربا افترض عليه فرائض‏.‏
ومنها قوله‏: ‏"‏ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه‏"‏ فأثبت متقرِِّبًا ومتقرَّبًا إليه، ومحبا ومحبوبًا غيره‏.‏ وهذا كله ينقض قولهم‏: الوجود واحد‏.‏
ومنها قوله‏: ‏"‏فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر

 

ص -371-

به‏"‏ إلى آخره، فإنه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور، وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد، وهو عندهم هذه الأعضاء‏: بطنه، وفرجه، وشعره، وكل شيء، لا تعدد عندهم، ولا كثرة في الوجود، ولكن يثبتون مراتب ومجالي ومظاهر، فإن جعلوها موجودة نقضوا قولهم‏.‏
وإن جعلوها ثابتة في العدم كما يقوله ابن عربي أو جعلوها المعينات، والمطلق هو الحق، كانوا قد بنوا ذلك على قول من يقول‏: المعدوم شيء، وقول من جعل الكليات ثابتة في الخارج زائدة على المعينات‏.‏
والأول‏: قول طائفة من المعتزلة، وهو قول ابن عربي‏.‏
والثاني‏: قول طائفة من الفلاسفة، وهو قول القونوي صاحب ابن عربي، وكلا القولين باطلان عند العقلاء، ولهذا كان التلمساني أحذق منهما فلم يثبت شيئا وراء الوجود‏.‏
كما قيل‏:

 وما البحر إلا الموج، لا شيء غيره

 وإن فرقته كثرة المتعدد

لكن هؤلاء الضلال من الفلاسفة والمعتزلة ما قالوا‏: وجود المخلوق هو وجود الخالق، وهؤلاء الملاحدة قالوا‏: هذا هو هذا، ولهذا صاروا يقولون بالحلول من وجه، لكون الوجود في كل الذوات، أو بالعكس، وبالاتحاد من وجه لاتحادهما، وحقيقة قولهم هي وحدة الوجود‏.‏

 

ص -372-

في الحديث وجوه أخرى تدل على فساد قولهم‏.‏
والحديث حق، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ولي الله لكمال محبته لله وطاعته لله يبقى إدراكه لله وبالله، وعمله لله وبالله، فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه، وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه، وما يراه مما يحبه الحق أحبه، وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه، ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته‏
: ‏"‏اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا‏"‏
فولي الله فيه من الموافقة لله ما يتحد به المحبوب والمكروه، والمأمور والمنهي ونحو ذلك، فيبقى محبوب الحق محبوبه، ومكروه الحق مكروهه، ومأمور الحق مأموره، وولي الحق وليه، وعدو الحق عدوه، بل المخلوق إذا أحب المخلوق محبة تامة حصل بينهما نحو من هذا، حتى قد يتألم أحدهما بتألم الآخر، ويلتذ بلذته‏.‏
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏"‏؛ ولهذا كان المؤمن يسره ما يسر المؤمنين، ويسوؤه ما يسوؤهم، ومن لم يكن كذلك لم يكن منهم‏.‏

 

ص -373-

فهذا الاتحاد الذي بين المؤمنين ليس هو أن ذات أحدهما هي بعينها ذات الآخر، ولا حلت فيه، بل هو توافقهما واتحادهما في الإيمان بالله ورسوله وشعب ذلك مثل محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله‏.‏
فإذا كان هذا معقولا بين المؤمنين فالعبد إذا كان موافقا لربه تعالى فيما يحبه ويبغضه، ويأمر به وينهى عنه، ونحو ذلك مما يحبه الرب من عبده‏: كيف تكون ذات أحدهما هي الأخرى أو حالة فيها‏؟‏
فإذا عرفت هذه الأصول من الحلول والاتحاد المطلق والمعين، الذي هو باطل، ومما هو من أحوال أهل الإيمان، ومن ولاية الله تعالى وموافقته فيما يحبه ويرضاه وتوابع ذلك، تبين لك جواب مسائل السائل‏.‏
وهؤلاء قد يجدون من كلام بعض المشايخ كلمات مشتبهة مجملة، فيحملونها على المعاني الفاسدة، كما فعلت النصارى فيما نقل لهم عن الأنبياء، فيدعون المحكم، ويتبعون المتشابه
فقول القائل‏: إن الرب والعبد شيء واحد، ليس بينهما فرق‏: كفر صريح، لا سيما إذا دخل في ذلك كل عبد مخلوق، وأما إذا أراد بذلك عباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين، فهؤلاء يحبهم ويحبونه ويوافقونه فيما يحبه ويرضاه ويأمر به، فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه‏.‏
ولما رضوا ما يرضي وسخطوا ما يسخط، كان الحق يرضي لرضاهم ويغضب لغضبهم، إذ ذلك متلازم من الطرفين‏.‏

 

ص -374-

ولا يقال في أفضل هؤلاء‏: إن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق، لكن يقال لأفضل الخلق كما قال الله تعالى‏: ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏: 10‏]‏، وقال‏: ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏‏[‏النساء‏: 80‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏‏[‏التوبة‏: 62‏]‏ وقال‏:{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏} ‏[‏الأحزاب‏: 57‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏ وأما سائر العباد، فإن الله خالقهم ومالكهم وربهم، وخالق قدرتهم وأفعالهم، ثم ما كان من أفعالهم موافقا لمحبته ورضاه، كان محبا لأهله مكرمًا لهم، وما كان منها مما يسخطه ويكرهه، كان مبغضا لأهله مهينا لهم‏.
وأفعال العباد مفعولة مخلوقة للّه، ليست صفة له ولا فعلًا قائما بذاته‏.‏
وقوله تعالى‏: ‏
{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: 17‏]‏، فمعناه‏: وما أوصلت إذ حذفت، ولكن الله أوصل المرمى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب، وقال‏: ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏ فأوصلها الله إلى وجوه المشركين وعيونهم، وكانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم عاجزة عن إيصالها إليهم، والرمي له مبدأ، وهو الحذف، ومنتهي وهو الوصول، فأثبت الله لنبيه المبدأ بقوله‏: ‏{‏إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ ونفى عنه المنتهي، وأثبته لنفسه بقوله‏: ‏{‏وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ وإلا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفي، فإن هذا تناقض‏.‏

 

ص -375-

والله تعالى مع أنه هو خالق أفعال العباد فإنه لا يصف نفسه بصفة من قامت به تلك الأفعال، فلا يسمي نفسه مصليا ولا صائما، ولا آكلا ولا شاربا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏
وقول القائل‏: ما ثم غير إذا أراد به ما يريده أهل الوحدة، أي ما ثم غير موجود سوى الله‏: فهذا كفر صريح‏.‏ ولو لم يكن ثم غير لم يقل‏: ‏
{‏قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 14‏]‏ ولم يقل‏: ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏‏[‏الزمر‏: 64‏]‏ فإنهم كانوا يأمرونه بعبادة الأوثان، فلو لم يكن غير الله لم يصح قوله‏:{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏} ولم يقل‏: ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا َ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 114‏]‏ ولم يقل الخليل‏: ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 75، 77‏]‏ ولم يقل‏: فّطّرّنٌي‏{‏إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: 26، 27‏]‏ فإن إبراهيم لم يعاد ربه، ولم يتبرأ من ربه، فإن لم تكن تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم الأقدمون غير الله، لكان إبراهيم قد تبرأ من الله وعادى الله، وحاشا إبراهيم من ذلك‏.‏
وهؤلاء الملاحدة في أول أمرهم ينفون الصفات، ويقولون‏: القرآن هو الله، أو غير الله‏.‏ فإذا قيل لهم‏: غير الله‏.‏ قالوا‏: فغير الله مخلوق‏.‏
وفي آخر أمرهم يقولون‏: ما ثم موجود غير الله، أو يقولون‏: العالم لا هو الله ولا هو غيره‏.‏
ويقولون‏:

 

ص -376-

 وكل كلام في الوجود كلامه

 سواء علينا نثره ونظامه

فينكرون على أهل السنة إذا أثبتوا الصفات، ولم يطلقوا عليها اسم الغير، وهم لا يطلقون على المخلوقات اسم الغير، وقد سمعت هذا التناقض من مشايخهم، فإنهم في ضلال مبين‏.‏
وأما قول الشاعر في شعره‏:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا‏؟‏
وقوله‏:
إذا كنت ليلى وليلى أنا
فهذا إنما أراد به هذا الشاعر الاتحاد الوضعي، كاتحاد أحد المتحابين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغض، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، وهو تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إذ كان قد استغرق في محبوبه حتى فنى به عن رؤية نفسه، كقول الآخر‏:

 غبت بك عني

  فظننت أنك أني

فإما أن يكون غالطًا مستغرقًا بالفناء، أو يكون عني التماثل والتشابه، واتحاد المطلوب والمرهوب، لا الاتحاد الذاتي‏.‏ فإن أراد الاتحاد الذاتي مع عقله لما يقول فهو كاذب مفتر، مستحق لعقوبة المفترين‏.‏
وأما قول القائل‏: لو رأى الناس الحق لما رأوا عابدًا ولا معبودًا، فهذا من جنس قول الملاحدة الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الرب والعبد،

ص -377-

 وقد تقدم بيان قول هؤلاء، وهؤلاء يجمعون بين الضلال والغي، بين شهوات الغي في بطونهم وفروجهم، وبين مضلات الفتن‏.‏
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
: ‏"‏إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغَيِّ في بطونكم وفروجكم‏"‏، حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون‏: هو الراهب في الصومعة، وهذه مظاهر الجمال، ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول‏: أنت الله‏.‏
ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السموات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه‏: أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك‏.‏
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوؤها الذي تفترشه، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صَرْفا ولا عَدْلا‏.‏
ومن قال‏: إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حقٍ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق، فهو أحد رجلين‏: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال‏.‏ فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرَّف حقيقة الأمر، فإن أصرَّ على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله‏.‏

 

ص -378-

  ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق‏.‏ وهذا السر هو أشد كفرًا وإلحادا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء، قد لا يفهمه كثير من الناس‏.‏
ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض، ويتواجد عليها ويعظمها، ظانا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة، وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته، فإما أن يتوقفوا عنه أو يعبروا عن مذهبهم بعبارة من لم يفهم حقيقته، وإما أن ينكروه إنكارًا مجملا من غير معرفة بحقيقته، ونحو ذلك، وهذا حال أكثر الخلق معهم‏.‏
وأئمتهم إذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه، وقالوا‏: هذا من علماء الرسوم، وأهل الظاهر، وأهل القشر، وقالوا‏: علمنا هذا لا يعرف إلا بالكشف والمشاهدة، وهذا يحتاج إلى شروط، وقالوا‏: ليس هذا عشك فادرج عنه، ونحو ذلك مما فيه تعظيم له وتشويق إليه، وتجهيل لمن لم يصل إليه‏.‏
وإن رأوه عارفا بقولهم نسبوه إلى أنه منهم، وقالوا‏: هو من كبار العارفين‏.‏

 

ص -379-

  وإذا أظهر الإنكار عليهم والتكفير قالوا‏: هذا قام بوصف الإنكار لتكميل المراتب والمجالي
وهكذا يقولون في الأنبياء ونهيهم عن عبادة الأصنام‏.‏
وهذا كله وأمثاله مما رأيته وسمعته منهم‏.‏
فضَلالُهم عظيم، وإفكُهم كبير، وتلْبيسُهم شديد، والله تعالى يظهر ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، والله أعلم‏.‏

 

ص -380-

 فصل
فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين، مما يشبه الاتحاد والحلول الباطل وهو حق وإن سمي حلولا أو اتحادًا وهو ما عليه أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة واليقين من جميع الطوائف بدلالة الكتاب والسنة‏.‏
أما الحلول‏: فلا ريب أن من علم شيئا فلابد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول‏.‏ فإن المستعلى إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول، بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه، كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان‏.‏
فإذا ذكره بلسانه، كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه، كان ذلك أعظم وأعظم‏.‏
وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرِك ومُدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة، كعبادة الله

 

ص -381-

وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة، كمحب الإخوان والولدان، والنسوان والأوطان، وغير ذلك من الأكوان‏.‏
فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه‏: تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلابد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله‏.‏
والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه؛ إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحا‏.‏
قال عمر بن عبد العزيز‏: ‏[‏من عَبَدَ اللهَ بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلح‏]‏، فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم؛ ولهذا أمر الله ورسوله بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعا‏: علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان وعمل الجوارح أيضا، فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول، وهذا ظاهر، ليس الغرض هنا بسطه، وإنما الغرض‏.‏

 

ص -382-

  فصل
وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته‏.‏
قال الله تعالى‏: ‏
{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ‏}‏الآية ‏[‏النور‏: 35‏]‏، قال أُبَيّ بن كعب‏: مثل نوره في قلب المؤمن فهذه هي الأنوار التي تحصل في قلوب المؤمنين‏.‏
وقد قيل في قوله تعالى‏: ‏
{‏وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: 5‏]‏ إنه الكفر بذلك، فإن من كفر بالإقرار الذي هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله والإسلام له، المتضمن للاعتقاد والانقياد لإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، فهو كافر، إذ المقصود لنا من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو حصول الإيمان لنا، فمن كفر بهذا فهو كافر بذاك، وهذا قد يسمى المثل والمثال؛ لأنه قد يقال‏: إن العلم مثال المعلوم في العالم، وكذلك الحب يكون فيه تمثيل المحبوب في المحب‏.‏
ثم من الناس من يدعي أن كل علم وكل حب ففيه هذا المثال، كما يقوله قوم من المتفلسفة، ومنهم من ينكر حصول شيء من هذا المثال في شيء من العلم والحب‏.‏
والتحقيق‏: أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى

 

ص -383-

 يتخيل صورة المحبوب، وقد لا يحصل تخيل حسي، وليس هذا المثل من جنس الحقيقة أصلا، وإنما لما كان العلم مطابقا للمعلوم وموافقا له، غير مخالف له، كان بين المطابِق والمطَابَق، والموافِق والموافَق نوع تناسب وتشابه، ونوع ما من أنواع التمثيل، فإن المثل يضرب للشيء لمشاركته إياه من بعض الوجوه، وهنا قطعا اشتراك ما واشتباه ما‏.‏
وقد قيل في قوله تعالى‏:
‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏: 11‏]‏، وقوله‏: ‏{‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏: 27‏]‏ أنه هذا، وفي حديث مأثور‏: ‏"‏ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين‏"‏، ويقال‏: القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم، وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال‏: إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه‏.‏
وروى مرفوعا من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان، عن جابر بن عبد الله، رواه أبو يعلى الموصلي، وابن أبي الدنيا في كتاب الذكر، ولهذا قال أبناء يعقوب‏:
‏{‏نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ‏}‏‏[‏البقرة‏: 133‏]‏، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتًا لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين‏: ‏"‏هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا‏"‏‏.‏ فصار واحد

 

ص -384-

من الآدميين خيرًا من ملء الأرض من بني جنسه، وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان‏.‏
وإلى هذا المعنى أشار من قال‏: ‏"‏ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه‏"‏، وهو اليقين والإيمان ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏وزنتُ بالأمة فرجَحْتُ، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان‏"‏، وقال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه الصديق‏: ‏"‏أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيرًا من العافية‏"‏ رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه‏.‏ وقال رقبة بن مصقلة للشعبي‏: رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه‏.‏
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن ‏[‏سيار، وحدثنا جعفر عن عمران القصير‏]‏ قال‏: قال موسى‏: ‏"‏يارب، أين أجدك‏؟‏ قال‏: يا موسي، عند المُنْكَسِرةِ قلوبُهُم من أجلي، أقترب إليها كل يوم شبرًا، ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم‏"‏
وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى، حتى يقال‏: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله عز وجل‏:
‏"‏أما علمت أن عبدي فلانا مرض‏؟‏ فلو عُدْتَه لوجدتني عنده‏"‏ ويقال‏:

 ساكن في القلب يعمره

 لست أنساه فأذكره

ويقال‏:

 

ص -385-

سئل الشيخ الإمام الرباني شيخ الإسلام بحر العلوم إمام الأئمة ناصر السنة، علامة الورى، وارث الأنبياء أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية عن كلمات وجدت بخط من يوثق به، ذكرها عنه جماعة من الناس، فيهم من انتسب إلى الدين‏.‏
فمن ذلك‏: ‏قال بعض السلف‏: ‏إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا‏.‏
وقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل‏: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة، واحتجب بها مجازًا، فمن كان من أهل الحق والجمع، شهدها مظاهر ومجالى، ومن كان من أهل المجاز والفرق، شهدها ستورًا وحجبًا‏.‏ قال‏: وقال في قصيدة له‏:

 لقد حق لي رفض الوجود وأهله

 وقد علقت كفاي جمعا بموجدي

 مثالك في عيني، وذكراك في فمي

 ومثواك في قلبي، فأين تغيب‏؟‏

وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏"‏، وقال الله تعالى في الحديث القدسي‏: ‏"‏من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعا‏"‏
لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى اللّه أو إلى بعض الأماكن‏؟‏ اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته، كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم‏: ‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏‏[‏الصافات‏: 99‏]‏‏.‏
وأما حركة روحه إلى مثل السموات وغيرها من الأمكنة، فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاؤون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقرَّ بها أهل الفطرة، وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام‏.‏
وأما القرب من الله إلى عبده‏: هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب‏؟‏
هذا فيه كلام ليس هذا موضعه‏.‏

ص -386-

ومن لم يثبت إلا الأول، فهم في قرب الرب على قولين‏:
أحدهما‏: أنه تجليه وظهوره له‏.‏
والثاني‏: أنه مع ذلك دنو العبد منه، واقترابه الذي هو بعمله وحركته‏.‏ وللقرب معنى آخر‏: وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال‏: هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه‏.‏
فصل‏:
وأما ما يشبه الاتحاد، فإن الذاتين المتميزتين لا تتحد عين إحداهما بعين الأخرى، ولا عين صفتها بعين صفتها، إلا إذا استحالتا بعد الاتحاد إلى ذات ثالثة، كاتحاد الماء واللبن، فإنهما بعد الاتحاد شيء ثالث، وليس ماء محضًا ولا لبنا محضا‏.‏
وأما اتحادهما وبقاؤهما بعد الاتحاد على ما كانا عليه فمحال، ومن هنا يعلم أن الله لا يمكن أن يتحد بخلقه، فإن استحالته محال، وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين، وتتحد الأسماء والصفات في النوع، مثل المتحابين المتخالين اللذين صار أحدهما يحب عين ما يحبه الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويتنعم بما يتنعم به ويتألم بما يتألم به، وهذا فيه مراتب ودرجات لا تنضبط، فأسماؤهما وصفاتهما صارتا من نوع واحد

 

ص -387-

 وعين الأحكام والأسباب المتعلقة بهما، التي هي مثلا المحبوب والمكروه هو واحد بالعين، كالرسول الذي يحبه كل المؤمنين، فهم متحدون في محبته، بمعنى أن محبوبهم واحد، ومحبة هذا من نوع محبته هذا، لا أنها عينها‏.‏
فهذا في اتحاد الناس بعضهم ببعض، وهي الأخوة والخلة الإيمانية، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏"‏ أخرجاه في الصحيحين، فجعل المؤمن مع المؤمن بمنزلة العضو مع العضو اللذين تجمعهما نفس واحدة‏.‏
ولهذا سمى الله الأخ المؤمن نفسا لأخيه في غير موضع من الكتاب والسنة قال تعالى‏: ‏
{‏فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النجم‏: 32‏]‏، وقال‏: ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: 128‏]‏، وقال‏: ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: 164‏]‏، وقال‏: ‏{‏فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏‏[‏النور‏: 61‏]‏، وقال‏: ‏{‏فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏[‏البقرة‏: 54‏]‏
فالعبد المؤمن إذا أناب إلى ربه، وعبده ووافقه، حتى صار يحب ما يحب ربه، ويكره ما يكره ربه، ويأمر بما يأمر به ربه، وينهى عما ينهى عنه ربه، ويرضي بما يرضي ربه، ويغضب لما يغضب له ربه، ويعطي من أعطاه ربه، ويمنع من منع ربه، فهو العبد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود من حديث القاسم عن أبي أمامة‏:
‏"‏من أحب لله، وأبغض

 

ص -388-

 لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان‏"‏ وصار هذا العبد دينه كله لله، وأتى بما خلق له من العبادة‏.‏
فقد اتحدت أحكام هذه الصفات التي له وأسبابها بأحكام صفات الرب وأسبابها‏.‏
وهم في ذلك على درجات، فإن كان نبيا كان له من الموافقة لله ما ليس لغيره، والمرسلون فوق ذلك، وأولو العزم أعظم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة العظمى في كل مقام‏.‏
فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ، سواء كان واجبا أو مستحبا، وفي مثل هذا جاءت نصوص الكتاب والسنة‏.‏ قال الله تعالى‏: ‏
{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏: 10‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: 62‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏‏[‏النساء‏: 80‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 57‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: 24‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: 1‏]‏‏.‏
ومن هذا الباب قول المسيح إن ثبت هذا اللفظ عنه‏: ‏"‏أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي‏"‏ ونحو ذلك، فإنه مثل قوله تعالى‏: ‏
{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه‏}‏، وقوله‏: ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ونحو ذلك من اللفظ الذي فيه تشابه‏.‏

 

ص -389-

 فصل‏:
وجاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا‏: فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏يقول الله تعالى‏: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏"‏‏.‏
فأول ما في الحديث قوله‏: ‏"‏من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة‏"‏ فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته، ليسا هما شيئين متميزين، ولكن ليس الله هو عين عبده، ولا جهة عداوة عبده عين جهة عداوة نفسه، وإنما اتفقا في النوع‏.‏
ثم قال‏: ‏"‏فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله‏"‏ وفي رواية في غير الصحيح‏: ‏"‏فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏"‏ فقوله‏:

 

ص -390-

  ‏"‏بي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏"‏ بين معنى قوله‏: ‏"‏كنت سمعه وبصره ويده ورجله‏"‏ لا أنه يكون نفس الحَدَقَة والشحْمَة والعَصَب والقدم، وإنما يبقى هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى وهو بمنزلتها في ذلك، فإن العبد بحسب أعضائه وقواه يكون إدراكه وحركته، فإذا كان إدراكه وحركته بالحق، ليس بمعنى خلق الإدراك والحركة، فإن هذا قدر مشترك فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، وإنما للمحبوب الحق من الحق من هذه الإعانة بقدر ما له من المعية والربوبية والإلهية، فإن كل واحدة من هذه الأمور عامة وخاصة‏.‏
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"
‏يقول الله تعالى‏: عبدي، مرضت فلم تَعُدْنِي، فيقول‏: رب، كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين‏؟‏ فيقول‏: أما علمت أن عبدي فلانا مرض‏؟‏ فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي، جُعْتُ فلم تُطْعِمْنِي‏.‏ فيقول‏: رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏: أما علمت أن عبدي فلانا جاع‏؟‏ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏"‏ ففي هذا الحديث ذكر المعنيين الحقين، ونفى المعنيين الباطلين، وفسرهما‏.‏
فقوله‏: ‏"‏جعت ومرضت‏"‏ لفظ اتحاد يثبت الحق‏.‏
وقوله‏: ‏"‏لوجدتني عنده، ووجدت ذلك عندي‏"‏ نفى للاتحاد العيني بنفي الباطل، وإثبات لتمييز الرب عن العبد‏.‏

 

ص -391-

  وقوله‏: ‏"‏لوجدتني عنده‏"‏ لفظ ظرف، وبكل يثبت المعنى الحق من الحلول الحق، الذي هو بالإيمان لا بالذات‏.‏
ويفسر قوله‏: ‏"‏مرضت فلم تعدني‏"‏ فلو كان الرب عين المريض والجائع، لكان إذا عاده وإذا أطعمه يكون قد وجده إياه، وقد وجده قد أكله‏.‏
وفي قوله في المريض‏: ‏"‏وجدتني عنده‏"‏ وفي الجائع‏: ‏"‏لوجدت ذلك عندي‏"‏ فُرْقَان حسن، فإن المريض الذي تستحب عيادته ويجد الله عنده هو المؤمن بربه، الموافق لإلهه الذي هو وليه، وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يستحب إطعامه، فإن الله يقول‏: ‏
{‏مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏‏[‏البقرة‏: 245‏]‏‏.‏ فَمَن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة، فقد أقرض الله سبحانه بما أعطاه لعبده‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏"‏من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يأخذها بيمينه فيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل العظيم‏"‏، وقال‏: ‏"‏إن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقع بيد السائل‏"‏
لكن الأشبه‏: أن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض، وهو العبد الولي الذي فيه نوع اتحاد، وإن كان الله يثيب على طعام الفاسق والذمي‏.‏
ونظير القرض النصر، في مثل قوله تعالى‏:
‏{‏وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏: 25‏]‏،

 

ص -392-

 وقوله‏: ‏{‏آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ‏}‏‏[‏محمد‏: 7‏]‏ ونحو ذلك، لكن النصر فيه معنى، لكن لا يقال في مثله‏: جعت‏.‏
فقد ذكر الله في القرآن القرض والنصر وجعله له، هذا في الرزق، وهذا في النصر، وجاء في الحديث العيادة، وهذه الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى‏: ‏
{‏وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 177‏]‏، وقوله‏: ‏{‏مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 214‏]‏، وإنما في الحديث أمر البأساء والضراء فقط، لأن ذلك ينفرد به الواحد المخاطب بقوله‏: ‏"‏عبدي، مرضت وجعت‏"‏ فلذلك عاتبه‏.‏
وأما النصر، فيحتاج في العادة إلى عدد، فلا يعتب فيه على أحد معين غالبًا، أو المقصود بالحديث التنبيه، وفي القرآن النصر والرزق، وليس فيه العيادة؛ لأن النصر والقرض فيه عموم لا يختص بشخص دون شخص‏.‏
وأما العيادة، فإنما تكون لمن يجد الحق عنده‏.‏

 

ص -393-

  فصل‏:
فهذان المعنيان صحيحان ثابتان، بل هما حقيقة الدين واليقين والإيمان‏.‏
أما الأول وهو كون الله في قلبه بالمعرفة والمحبة‏: فهذا فرض على كل أحد ولابد لكل مؤمن منه، فإن أدى واجبه فهو مقتصد، وإن ترك بعض واجبه فهو ظالم لنفسه، وإن تركه كله فهو كافر بربه‏.‏
وأما الثاني وهو موافقة ربه فيما يحبه ويكرهه، ويرضاه ويسخطه‏: فهذا على الإطلاق إنما هو للسابقين المقربين، الذين تقربوا إلى الله بالنوافل، التي يحبها ولم يفرضها، بعد الفرائض التي يحبها ويفرضها ويعذب تاركها‏.‏
ولهذا كان هؤلاء لما أتوا بمحبوب الحق من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة المنتظمة للمعارف والأحوال والأعمال، أحبهم الله تعالى‏.‏ فقال‏: ‏"‏ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‏"‏‏.‏ فعلوا محبوبه فأحبهم، فإن الجزاء من جنس العمل، مناسب له مناسبة المعلول لعلته‏.‏
ولا يتوهم أن المراد بذلك‏: أن يأتي العبد بعين كل حركة يحبها الله، فإن هذا ممتنع‏.‏ وإنما المقصود أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال الباطنة والظاهرة

 

ص -394-

 والباطنة يمكنه أن يأتي منها بأكثر مما يأتي به من الظاهرة، كما قال بعض السلف‏: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏المرء مع من أحب‏"‏، وقال‏: ‏"‏إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر‏"‏، وقال‏: ‏"‏فهما في الأجر سواء‏"‏ في حديث القادر على الإنفاق والعاجز عنه، الذي قال‏: ‏"‏لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما عمل‏"‏ فإنهما لما استويا في عمل القلب وكان أحدهما معذور الجسم استويا في الجزاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏"‏‏.

 

ص -395-

 فصل‏:
وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل، لكن لما ورد عليه ما غيب عقله أو أفناه عما سوى محبوبه، ولم يكن ذلك بذنب منه، كان معذورًا غير معاقب عليه ما دام غير عاقل، فإن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وإن كان مخطئا في ذلك كان داخلا في قوله‏: ‏‏
{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏286‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَلَيْسَ عليكم جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏5‏]‏‏.‏
وهذا كما يحكى أن رجلين كان أحدهما يحب الآخر فوقع المحبوب في اليم، فألقى الآخر نفسه خلفه‏.‏ فقال‏: أنا وقعت، فما الذي أوقعك‏؟‏ فقال‏: غبت بك عني، فظننت أنك أنِّي‏.‏
فهذه الحال تعتري كثيرا من أهل المحبة والإرادة في جانب الحق، وفي غير جانبه، وإن كان فيها نقص وخطأ فإنه يغيب بمحبوبه عن حبه وعن نفسه، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه، وبمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، فلا يشعر حينئذ بالتمييز ولا بوجوده، فقد يقول في هذه الحال‏: أنا الحق أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله ونحو ذلك، وهو سكران بوجد المحبة الذي هو لذة وسرور بلا تمييز‏.‏

 

ص -396-

  وذلك السكران، يطوى ولا يروى إذا لم يكن سكره بسبب محظور‏.‏
فأما إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورا‏.‏
وأما أهل الحلول، فمنهم من يغلب عليه شهود القلب وتجليه، حتى يتوهم أنه رأى الله بعيني رأسه‏.‏
ولهذا ذكر ذلك طائفة من العباد الأصحاء، غلطًا منهم‏.‏
وقد ثبت في صحيح مسلم‏: عن النواس بن سمعان‏: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجال، ودعواه الربوبية، قال‏: ‏"
‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏"‏، وروى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى متعددة حسنة في حديث الدجال‏.‏
فإنه لما ادعى الربوبية، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فرقانين ظاهرين لكل أحد‏:
أحدهما‏: أنه أعور، والله ليس بأعور‏.‏
الثاني‏: أن أحدًا منا لن يرى ربه حتى يموت، وهذا إنما ذكره في الدجال مع كونه كافرًا؛ لأنه يظهر عليه من الخوارق التي تُقَوِّى الشبهة في قلوب العامة‏.‏

 

ص -397-

فصل‏:
فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد الذي فيه نوع حق تبين أيضا ما في المطلق من ذلك‏.‏
فنقول‏: لا ريب أن الله رب العالمين، رب السموات والأرضين وما بينهما ورب العرش العظيم، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا، ربكم ورب آبائكم الأولىن، رب الناس ملك الناس إله الناس، وهو خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى‏.‏
وهو رب كل شيء ومليكه، وهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الرحمن على العرش استوى، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ‏
{‏مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏[‏هود‏: ‏56‏]‏
قلوب العباد ونواصيهم بيده، وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه‏.‏ وهو الذي

 

ص -398-

 أضحك وأبكى، وأغنى وأقنى‏.‏ وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، ويبث فيها من كل دابة‏.‏
وهو الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏.
‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏125‏]‏، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القائم بالقسط القائم على كل نفس بما كسبت، الخالق البارئ المصور، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وما شاء الله لا قوة إلا بالله فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ منه إلا إليه‏.‏
فهذه المعاني وما أشبهها من معاني ربوبيته وملكه، وخلقه ورزقه، وهدايته ونصره، وإحسانه وبره، وتدبيره وصنعه، ثم ما يتصل بذلك من أنه بكل شيء علىم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، يبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء‏.‏
فهذا كله حق، وهو محض توحيد الربوبية، وهو مع هذا قد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏.‏

 

ص -399-

 وهذا صنع الله الذي أتقن كل شيء والخير كله بيديه، وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما أقسم على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏: ‏"‏والله، لله أرحم بعباده من هذه الوالدة بولدها‏"‏، إلى نحو هذه المعاني التي تقتضي شمول حكمته وإتقانه، وإحسانه خلق كل شيء، وسعة رحمته وعظمتها، وأنها سبقت غضبه، كل هذا حق‏.‏
فهذان الأصلان عموم خلقه وربوبيته، وعموم إحسانه وحكمته أصلان عظيمان، وإن كان من الناس من يكفر ببعض الأول، كالقدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه، ويضيفونها إلى محض فعل ذي الاختيار، أو الطبيعة الذين يقطعون إضافة الفعل إلى الله سبحانه ويضيفونه إما إلى الطبع، أو إلى جسم فيه طبع، أو إلى فلك، أو إلى نفس أو غير ذلك مما هو من مخلوقاته العاجزة عن إقامة نفسها، فهي عن إقامة غيرها أعجز‏.‏
ومن الناس من يجحد بعض الثاني، أو يعرض عنه، متوهما خلو شيء من مخلوقاته عن إحسان خلقه وإتقانه، وعن حكمته، ويظن قصور رحمته، وعجزها، من القدرية الإبليسية، أو المجوسية وغيرهم‏.‏
وإذا كان كذلك، فجميع الكائنات آيات له، شاهدة دالة مظهرة لما هو مستحق له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وعن مقتضي أسمائه وصفاته خلق الكائنات‏.‏
فإن الرحم شُجْنَة من الرحمن، خلق الرحم وشق لها من اسمه، وهو الرزاق

 

ص -400-

 

ذو القوة المتين، يرزق من يشاء بغير حساب، وهو الهادي النصير، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهو الحكيم العلىم الرحيم، الذي أظهر من آثار علمه وحكمته ورحمته ما لا يحصيه إلا هو‏.‏
فهو رب العالمين، والعالمون ممتلئون بما فيهم من آثار أسمائه وصفاته، وكل شيء يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، من الناس من يدرك ما فيها من الدلالة والشهادة بالعلم والمعرفة، ومن خرق الله سمعه سمع تأويب الجبال والطير، وعلم منطق الطير‏.‏
فإذا فسر ظهوره وتجليه بهذا المعنى، فهذا صحيح، ولكن لفظ الظهور والتجلي فيه إجمال، كما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏
وإذا قال القائل‏: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله؛ لأنه ربه، والرب متقدم على العبد، أو رأيت الله بعده، لأنه آيته ودليله وشاهده، والعلم بالمدلول بعد الدليل، أو رأيت الله فيه، بمعنى ظهور آثار الصانع في صنعته، فهذا صحيح‏.‏ بل القرآن كله يبين هذا ويدل عليه، وهو دين المرسلين، وسبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو اعتقاد المسلمين أهل السنة والجماعة، ومن يدخل فيهم من أهل العلم والإيمان، ذوي المعرفة واليقين أولياء الله المتقين‏.‏

 

ص -401-

 فصل‏:
في الغلط في ذلك
ثم إن كثيرًا من أهل التوجه إلى الله إذا أقبلوا على ذكره وعبادته والإنابة إليه، شهدوا بقلوبهم هذه الربوبية الجامعة، وهذه الإحاطة العامة، فإنه بكل شيء محيط، وهو سبحانه الحق الذي خلق السموات والأرض، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وهو سبحانه نور السموات والأرض ‏{
‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏ الآية‏[‏النور‏: ‏35‏]‏
وهو سبحانه ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه‏.‏ هكذا قال عبدالله بن مسعود‏: ‏"‏لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، أو النار، لو كشفها لأحرقت سبُحَات وجهه ما أدركه بصره من خلقه‏"‏، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى‏.‏

 

ص -402-

 فقد يشهد العبد القدر المشترك بين المصنوعات، وهو الحق الموجود فيها، الذي هو شامل لها، فيظن أنه الخالق، لمطابقته له في نوع من العموم، وإنما هو صنعه وخلقه، ثم قد يرتقي إلى حجاب من حجبه النورية أو النارية، فيظن أنه هو، ثم يرتقي إلى نوره، وما يظهر من أثر صفاته، فقد يقع بعض هؤلاء في نحو من مذهب أهل الاتحاد المطلق العام، فإن تداركهم الله برحمته فاعتصموا بحبل الله واتبعوا هدى الله، علموا أن هذا كله مخلوق لله، وأن الخالق ليس هو المخلوق، وأن جميعهم عباد لله، وربما قد يقع هذا في نوع من الفناء أو السكر، فيكون مخطئا غالطا، وإن كان ذلك مغفورا له، إذا كان بسبب غير محظور، كما ذكرنا نظيره في الاتحاد المعين‏.‏

 

ص -403-

فصل‏:
وهو كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته، فكذلك يشهد إلهيته العامة، فإنه الذي في السماء إله وفي الأرض إله، إله في السماء، وإله في الأرض‏{
‏يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏‏[‏الرحمن‏: ‏29‏]‏، وكذلك قوله‏: ‏‏{‏وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ‏}‏الآية ‏[‏الأنعام‏: ‏3‏]‏ على أحد القولين، على وقف من يقف عند قوله ‏{‏وَفِي الأَرْضِ‏}‏ فإن المعنى‏: هو في السموات الله، و في الأرض الله، ليس فيهما من هو الله غيره‏.‏
وهذا وإن كان مشابها لقوله‏: ‏‏
{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏‏[‏الزخرف‏: ‏84‏]‏ فهو أبلغ منه‏.‏ ونظيره قوله‏: ‏‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏22‏]‏، وقد قال‏: ‏{‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏[‏الروم‏: ‏27‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏‏[‏الإسراء‏: ‏44‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏83‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏‏{‏وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏15‏]‏،

 

ص -404-

 وقوله‏: ‏‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ‏}‏‏[‏الحج‏: ‏18‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{‏وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏: ‏26، 27‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏: ‏1‏]‏، ‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏: ‏1‏]‏ ونحو ذلك من معاني ألوهيته، وخضوع الكائنات وإسلامها له، وافتقارها إليه وسؤالها إياه، ودعاء الخلق إياه، إما دعاء عبادة، وإما دعاء مسألة، وإما دعاؤهما جميعا‏.‏ ومن أعرض عنه وقت الاختيار‏: ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏‏[‏الإسراء‏: ‏67‏]‏، ‏{‏أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ‏}‏‏[‏النمل‏: ‏62‏]‏ ونشهد أن كل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه، فإنه باطل، إلا وجهه الكريم، كما نشهد أنها كلها مفتقرة إليه في مبدئها، نشهد أنها مفتقرة إليه في منتهاها، وإلا كانت باطلة‏.‏
فهذه المعاني التي فيها تأله الكائنات إياه، وتعلقها به، والمعاني الأول التي فيها ربوبيته إياهم، وخلقه لهم، يوجب أن يعلم أنه رب الناس ملك الناس إله الناس، وأنه رب العالمين، لا إله إلا هو، والكائنات ليس لها من نفسها شيء، بل هي عدم محض ونفى صرف، وما بها من وجود فمنه وبه‏.‏

 

ص -405-

 ثُم إنه إليه مصيرها ومرجعها، وهو معبودها وإلهها، لا يصلح أن يعبد إلا هو كما لم يخلقها إلا هو، لما هو مستحقه بنفسه ومتفرد به من نعوت الإلهية التي لا شريك له فيها، ولا سمى له، وليس كمثله شيء‏.‏
فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، وهو معنا أينما كنا، ونعلم أن معيته مع عباده على أنواع، وهم فيها درجات‏.‏
وكذلك ربوبيته لهم وعبوديتهم التي هم بها معبدون له، وكذلك ألوهيتهم إياه، وألوهيته لهم، وعبادتهم التي هم بها عابدون، وكذلك قربه منهم وقربهم منه‏.‏

 

ص -406-

 فصل‏:
فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين، كنبي أو رجل صالح، ونحو ذلك‏.‏
قد بينا ما فيه من الحق المحض، وما فيه من الحق الملبوس بباطل، وسنبين إن شاء الله ما فيه من الباطل المحض‏.‏
وهذا القسم إنما يقع فيمن يعبد الله سبحانه ويتولاه، أو يظن به ذلك، فإنه بذلك تظهر ألوهية الله في عبده، وتظهر إنابة العبد إلى ربه، وموافقته له في محبته ورضاه، وأمره ونهيه‏.‏
وقد يشتبه بهذا قسم آخر، وهو ما يظهره الرب من آثار ربوبيته في بعض عباده وإن كان ذلك ليس مأمورا به، ولا هو عبادة له، مثل ما يعطيه من ملكه وسلطانه بعض الملوك المسلطين، ممن قد يكون مسلمًا، وقد لا يكون، كفرعون وجنكسخان ونحوهما، وما يهبه من الرزق والمال لبعض عباده، وما يقسمه من الجمال لبعض عباده من الرجال والنساء‏.‏
وكذلك ما يهبه من العلوم والمعارف، أو يهبه من الأحوال، أو يعطيه من

 

ص -407-

 خوارق العادات من أنواع المكاشفات والتأثيرات، سواء كان هؤلاء مؤمنين، أو كفارًا مثل الأعور الدجال ونحوه‏.‏
فإنه في هذا القسم يقوم في العبد المعين من آثار الربوبية وأحكام القدرة أكثر مما يقوم بغيره، كما يقوم بالقسم الأول من آثار الألوهية وأحكام الشرع أكثر مما يقوم بغيره، وقد يجتمع القسمان في عبد، كما يجتمع في الملائكة والأنبياء والأولياء مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمسيح ابن مريم وغيرهما‏.‏
فهذا القسم وحده كاف في أحكام الكلمات الكونية، كالقسم الأول في أحكام الكلمات الدينية، فإن الحوادث إنما تكون بمشيئة الله وقدرته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ ويعوذ، ويأمر بالاستعاذة بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بَرٌّ ولا فاجر‏.‏
فالكلمات التي بها كوَّن الله الكائنات لا يخرج عنها بر ولا فاجر، فما من ملك ولا سلطان، ولا مال ولا جمال، ولا علم ولا حال، ولا كشف ولا تصرف إلا وهو بمشيئته وقدرته، وكلماته التامات، ولكن من ذلك ما هو محبوب لله مأمور به، ومنه ما هو مكروه لله منهي عنه بل مباح أو عفو‏.‏ وإذا كان واقعًا بمشيئة الله وقدرته وكلمته، ولا يقدر على ذلك غيره وهو مضاف إلى الله من جهة ربوبيته وملكه، فبينه وبين القسم الأول من الاشتراك والمشابهة ما أوجب أن أقوامًا غلطوا في أمر الله، فجعلوه في القسمين واحدًا‏.‏

 

ص -408-

 بل غلطوا أيضا في نفس الرب، فألحقوا بعض العباد المعبدين من القسم الثاني ببعض العباد العابدين من القسم الأول، ودخلوا في الاتحاد والحلول من هذا الوجه، حتى عبد من عبد فرعون والدجال، وعبد آخرون الصور الجميلة ونحو ذلك، ويزعمون أن هذا مظاهر الجمال، وكفر هؤلاء بالعبادات والإيمان تارة، وبالمعبود أخرى‏.‏
ولما كان المقصود هنا بيان الحق من ذلك، أو ما فيه حق، ذكرنا هذا‏.‏
أما الأول‏: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني‏.‏ فإن الله سبحانه خالق كل شيء، و رب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته‏.‏
وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم، فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته‏.‏ وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق‏.‏
ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية، الذين رأوا الأفعال

 

ص -409-

 واقعة بمشيئته وقدرته‏.‏ فقالوا‏: ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏148‏]‏، ولو كره الله شيئا لأزاله، وما في العالم إلا ما يحبه الله ويرضاه، وما ثم عاص، وأنا كافر برب يعصى، وإن كان هذا قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وربما استدلوا بالجبر، وجعلوا العبد مجبورًًا، و المجبور معذور، والفعل لله فيه لا له، فلا لوم عليه‏.‏
فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله، وبأمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، كفرًا لا ريب فيه، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من الصابئة والبراهمة الذين يقولون بالسياسات العقلية‏.‏
فإن هؤلاء كافرون بالديانات والشرائع الإلهية، وبالآيات والسياسات العقلية‏.‏
وأما الأولون‏: ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه‏.‏
وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحدًا أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه‏: ألا يدفع ظلم ظالم، ولا يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته، ولا بأكثر منها‏.‏
وأكثر هؤلاء إنما يشيرون إلى ذلك عند أهواء أنفسهم لرفع الملام عنهم، وإلا فإذا كان لهم هذا مع أحد قابلوه وقاتلوه واعتدوا عليه أيضا، ولا يقفون

 

ص -410-

 عند حد، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذِمَّة، بل هم كما قال الله‏: ‏{‏وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏72‏]‏، ظلمة جهال، مثل السبع العادي، يفعلون بحكم الأهواء المحضة، ويدفعون عن أنفسهم الملام والعذل، أو ما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجبر الباطل، وبملاحظة القدر النافذ، معرضين عن الأمر والنهي، ولا يفعلون مثل ذلك بمن اعتدى عليهم وظلمهم وآذاهم، بل ولا بمن قصر في حقوقهم، بل ولا بمن أطاع الله، فأمر بما أمر الله به، ونهى عما نهى الله عنه، وقد بسطت الكلام في هؤلاء القدرية والقسم الأول، وذكرت القدرية الإبليسية في غير هذا الموضع، وإنما الغرض هنا التنبيه على معاقد الأقوال‏.‏
وقد فرق الله في كتابه بين القسمين بين من قام بكلماته الكونيات، وبين من اتبع كلماته الدينيات وذلك في أمره وإرادته وقضائه، وحكمه وإذنه وبعثه وإرساله، فقال في الأمر الديني الشرعي‏: ‏‏
{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏90‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏58‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏67‏]‏‏.‏ وقال في الأمر الكوني القدري‏: ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏[‏يس‏: 82‏]‏، ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏1‏]‏، وكذلك قوله‏: ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏16‏]‏ على أحد الأقوال‏.‏
وقال في الإرادة الدينية الشرعية‏:
‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 185‏]‏،

 

ص -411-

 ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عليكم وَاللّهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏26‏]‏، ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكم مِّنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏6‏]‏ وقال في الإرادة الكونية القدرية‏: ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏125‏]‏، ‏{‏وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏34‏]‏، ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏41‏]‏‏.‏
وبهذا الجمع والتفريق تزول الشبهة في مسألة الأمر الشرعي‏: هل هو مستلزم للإرادة الكونية أم لا‏؟‏ فإن التحقيق أنه غير مستلزم للإرادة الكونية القدرية، وإن كان مستلزمًا للإرادة الدينية الشرعية‏.‏
وقال في الإذن الديني‏:
‏{‏مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏: ‏5‏]‏ وقال في الإذن الكوني‏: ‏‏{‏وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏102‏]‏‏.‏ وقال في القضاء الديني‏: ‏‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏ أي‏: أمر ربك بذلك‏.‏ وقال في القضاء الكوني‏: ‏‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏: ‏12‏]‏
وقال في الحكم الديني‏:
‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عليكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏1‏]‏،

 

ص -412-

وقال‏: ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏10‏]‏، وقال‏: ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏50‏]‏‏.‏ وقال في الحكم الكوني‏: ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: 80‏]‏
وقد يجمع الحكمين مثل ما في قوله‏:
‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏67‏]‏، وكذلك فعله‏: ‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏غافر‏: ‏20‏]‏وقال في البعثين والإرسالين‏: ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏: ‏2‏]‏، ‏{‏بَعَثْنَا عليكم عِبَادًا لَّنَا أولى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏5‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏: ‏45‏]‏، ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏: ‏25‏]‏، وقد قال‏: ‏{‏أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا‏}‏‏[‏مريم‏: ‏38‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏22‏]‏‏.‏

 

ص -413-

 فصل‏:
وأما كفرهم بالمعبود، فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى فقد يعبدونه بشبهة الحلول أو الاتحاد الفاسد، مثل من يعبد الصور الجميلة، ويقول‏: هذا مظهر الجمال، أو الملك المطاع الجبار، ويقول‏: هو مظهر الجلال، أو مظهر رباني ونحو ذلك، وليس في هذه المخلوقات نوع من الاتحاد أو الحلول الحق، لكن يشبه ما فيه الحق من جهة، إذ كلاهما بالله ومن الله، وأنه لله، ولهذا يسوى بينهما أهل الحلول والاتحاد المطلق، كما سنبينه إن شاء الله‏.‏
فهؤلاء الاتحادية والحلولية الذين يخصونه ببعض المصنوعات التي ليس فيها عبادة وإثابة هم فرع على أولئك، ليس معهم من الحق شيء ولا شبهة حق، كما مع أولئك ألفاظ متشابهة عن بعض الأنبياء والصالحين، ولكن مع هؤلاء قول فرعون‏:
‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏: ‏42‏]‏، و ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏38‏]‏، وقول الدجال‏: ‏[‏أنا ربكم‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
فهذه الألفاظ التي معهم من ألفاظ الكفار والمنافقين، ومعهم تشبيه الكونيات بالدينيات، والكونيات عامة لا اختصاص فيها، فلهذا كان هؤلاء أدخل في الاتحاد والحلول المطلق منهم في المعين، اعتقادا وقولا، وإن كانوا من

 

ص -414-

 جهة الحال والهوى يخصون بعض الأعيان كما هو الواقع لشبهة اختصاصه ببعض الأحكام الكونية، وسنتكلم عليهم إن شاء الله في الحلول الفاسد‏.‏
وإنما ذكرتهم هنا لما أردت أن أذكر كل ما فيه شَوْبُ اتحاد أو حلول بحق، فنبهت على ذلك ليفطن لموضع ضلالهم، فإذا علم حقيقة هذه الأمور علم حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏
"‏أصدق كلمة قالها الشاعر‏: كلمة لبيد‏:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏"‏
فإن الباطل ضد الحق، والله هو الحق المبين‏.‏
والحق له معنيان، أحدهما‏: الوجود الثابت، والثاني‏: المقصود النافع، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏الوتر حق‏"‏
والباطل نوعان أيضا‏:
أحدهما‏: المعدوم‏.‏ وإذا كان معدوما كان اعتقاد وجوده والخبر عن وجوده باطلا، لأن الاعتقاد والخبر تابع للمعتقد المخبر عنه، يصح بصحته، ويبطل ببطلانه، فإذا كان المعتقد المخبر عنه باطلا كان الاعتقاد والخبر كذلك، وهو الكذب‏.‏
الثاني‏: ما ليس بنافع ولا مفيد، كقوله تعالى‏:
‏‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا‏}‏ ‏[‏ص‏: ‏27‏]‏، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏كل لهو يلهو

 

ص -415-

 به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته فإنهن من الحق‏"‏، وقوله عن عمر‏: ‏"‏إن هذا رجل لا يحب الباطل‏"‏‏.‏ وما لا منفعة فيه‏: فالأمر به باطل، وقصده وعمله باطل، إذ العمل به والقصد إليه والأمر به باطل‏.‏
ومن هذا قول العلماء‏: العبادات والعقود تنقسم إلى صحيح وباطل‏.‏
فالصحيح‏: ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده‏.‏
والباطل‏: ما لم يترتب عليه أثره، ولم يحصل به مقصوده؛ ولهذا كانت أعمال الكفار باطلا‏.‏
فإن الكافر من جهة كونه كافرًا يعتقد ما لا وجود له، ويخبر عنه فيكون ذلك باطلا، ويعبد ما لا تنفعه عبادته، ويعمل له ويأمر به فيكون ذلك أيضا باطلا‏.‏
ولكن لما كان لهم أعمال وأقوال صاروا يشبهون أهل الحق، فلذلك قال تعالى‏: ‏
{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏39‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}

 

ص -416-

 إلى قوله‏: ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏: ‏133‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏23‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عليه تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏264‏]‏‏.‏ فبين أن المن والأذى يبطل الصدقة، فيجعلها باطلا، لا حقا، كما يبطل الرياء وعدم الإيمان الإنفاق أيضا‏.‏ وقد عمم بقوله‏: ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏: ‏33‏]‏ أي‏: لا تَجعلوها باطِلة، لا منفعة فيها ولا ثواب، ولا فائدة‏.‏
وقد غلط طائفة من الناس من الاتحادية وغيرهم، كابن عربي، فرأوا أن الحق هو الموجود، فكل موجود حق‏.‏ فقالوا‏: ما في العالم باطل، إذ ليس في العالم عدم‏.‏
قالوا‏: والكفر إنما هو عدم وجود الشريك مثلا‏.‏
وإنما أتوا من جهة اللفظ المجمل‏.‏
فإن الشيء له مرتبتان‏: ‏مرتبة باعتبار ذاته، فهو إما موجود، فيكون حقا، وإما معدوم، فيكون باطلا‏.‏ ومرتبة باعتبار وجوده في الأذهان واللسان والبنان، وهو العلم والقول
 

 

ص -417-

 والكتاب، فالاعتقاد والخبر والكتابة أمور تابعة للشيء، فإن كانت مطابقة موافقة كانت حقا، وإلا كانت باطلا، فإذا أخبرنا عن الحق الموجود أنه حق موجود، وعن الباطل المعدوم أنه باطل معدوم، كان الخبر والاعتقاد حقا، وإن كان بالعكس كان باطلا، وإن كان الخبر والاعتقاد أمرًا موجودًا‏.‏ فكونه حقًا أو باطلا باعتبار حقيقته المخبر عنها، لا باعتبار نفسه‏.‏
ولا يجوز إطلاق القول بأنه حق لمجرد كونه موجودًا إلا بقرينة تبين المراد‏.‏
وهكذا العمل والقصد والأمر إنما هو حق باعتبار حقيقته المقصودة، فإن حصلت وكانت نافعة، كان حقًا، وإن لم تحصل، أو حصل ما لا منفعة فيه كان باطلا‏.‏
وبهذين الاعتبارين يصير في الوجود ما هو من الباطل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، مع ما يوافق ذلك من عقل وذوق وكشف، خلاف زعم هذه الطائفة الضالة المضلة‏.‏ قال الله تعالى‏:
‏{‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عليه فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏17‏]‏‏.‏

 

ص -418-

شبه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان والقرآن، فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد، وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار، فاحتمل الزبد فقذفه بعيدًا عن القلب، وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه، وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع، فيستقر ويبقى في القلب‏.‏
وقد تقدم قوله تعالى‏: ‏
{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏: ‏1‏: 3‏]‏‏.‏
فأخبر سبحانه أن سبب إضلال أعمال هؤلاء الذين كفروا حتى لم تنفعهم، وأن أعمال هؤلاء الذين آمَنوا نفعتهم، فكفرت سيئاتِهم وأصلح اللّه بالهم أن هؤلاء اتبعوا الباطل قولا وعملا، اعتقادًا واقتصادًا، خبرًا وأمرًا، وهؤلاء اتبعوا الحق من ربهم، ولم يتبعوا ما هو من غير ربهم، وإن كان حقا من وجه‏.‏
وهذا تحقيق ما قلناه، فإن الخبر والعمل تابع للمخبر عنه، وللمقصود بالعمل، فإذا كان ذلك باطلا لاحقيقة له كان التابع كذلك، وإن كان موجودًا‏.‏
وكذلك ما تقدم من قوله‏: ‏
{‏لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏264‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏: ‏33‏]‏ ونحو ذلك من إبطال ما قد مضى ووجد، إنما هو عدم لعدم فائدته لا عدم ذاته، فإن ذاته انقضت كما انقضى ما لم يبطل من الأعمال، فكيف

 

ص -419-

يقال‏: لا باطل في الوجود‏؟‏ ثم يجعل هذا ذريعة إلى أن ذلك الموجود الذي فيه الحق والباطل هو عين الله؛ لأنه هو الحق، ولا يميز بين الحق الخالق والحق المخلوق‏؟‏فتدبر، كيف اشتمل مثل هذا الكلام على هاتين المقدمتين الباطلتين‏؟‏ وكيف استزلوا عقول الضعفاء بهذه الشبهة‏؟‏
وقالوا‏: قوله‏: ‏"‏ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏"‏ والباطل هو المعدوم، فكل ما سوى الله معدوم، والموجود ليس بمعدوم، فالموجود ليس فيه سوى، وإنما السوى هو العدم‏.‏
فإن هذا مبني على المقدمتين الباطلتين‏:
إحداهما‏: قولهم‏: إن الباطل هو المعدوم، فإنه ليس كذلك، بل المعدوم باطل، وليس كل موجود باطلا، بل في الموجود ما هو حق، وفيه ما هو باطل، كما تقدم، وهو الأعمال التي لا تنفع، والأخبار التي ليست بصدق، وما يندرج في هذين من المقاصد والعقائد‏.‏
الثانية‏: لوكان لا باطل إلا المعدوم، لكان الموجود حقًا، وكل موجود فقد يسمى حقا مع القرينة المفسرة باعتبار وجوده، وإن كان باطلا، لانتفاء حقيقته التي بها جاز إطلاق الحق عليه، لكان الحق حقان‏: حق خالق، وحق مخلوق‏.‏

 

ص -420-

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، الذي رواه ابن عباس يقول إذا قام من الليل‏: ‏"‏اللهم لك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت‏"‏
وإذا ظهر أن في الوجود ما هو باطل في الحقيقة، ومنه ما هو حق من مخلوقات الله، ليس هو الله، ظهر تمويههم بقولهم‏: إن الباطل هو السوى، وهو العدم، وأما الموجود فهو هو‏.‏
وأيضا، فنفس الحديث حجة عليهم‏.‏ فإن قوله‏: ‏[‏ألا كُل شيء ما خلا الله باطل‏]‏ لفظ عام يدخل فيه كل موجود سوى الله، فإن لفظ‏: ‏[‏الشيء‏]‏ يعم كل الموجود بالاتفاق، ويدخل فيه ما له وجود ذهني، أو لفظي أو رسمي كتابي وإن لم يكن له وجود حقيقي من المعدومات والممتنعات، فهذا نص في أن كثيرًا من الموجودات باطل، ولا يجوز أن يراد به كل معدوم ما خلا الله، فهو باطل لخمسة أوجه‏:
أحدها‏: أنه قد استثنى الله تعالى وهو الحق المبين، من لفظ إثبات، ومثل هذا الاستثناء يدل على التناول، بخلاف الاستثناء من غير موجب

 

ص -421-

كقوله‏: ‏‏{‏مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏157‏]‏ فإن ذلك لا يدل على التناول، فلو كان التقدير‏: كل معدوم ما خلا الله باطل، للزم أن يكون الحق تعالى معدومًا وهذا أبطل الباطل‏.‏
الثاني‏: أن ‏[‏كل شيء‏]‏ نص في الوجود، لا يجوز قصرها على المعدومات بالاتفاق‏.‏
الثالث‏: أن المعدوم لا يدخل في لفظ ‏[‏كل شيء‏]‏ عند أهل السنة وعامة العقلاء، فضلا عن كونه يختص به‏.‏
الرابع‏: أنه لو كان المعنى‏: كل معدوم فهو باطل، لكان هذا من باب تحصيل الحاصل، بل لفظ ‏[‏العدم‏]‏ أدل على النفي من لفظ الباطل‏.‏ فكيف يبين الجلي بالخفي‏؟‏
الخامس‏: أنه لو أراد هذا لقال‏: ‏[‏كل ما سوى الله باطل‏]‏ فإنه هذه العبارة أقرب إلى احتمال مراد هؤلاء الملاحدة من هذا اللفظ، وإن كانت تلك العبارة لا تدل أيضا على مرادهم‏.‏
وإذا لم يكن معنى الحديث ما ادعوه، فقد عرف أن كل ما سوى الله فهو باطل بوجهي الباطل اللذين تقدم تفسيرهما‏:
أحدهما‏: وهو المقصود النافع‏.‏ والباطل ما لا منفعة في قصده، وكل شيء ما خلا الله إذا كان له القصد والعمل كان ذلك باطلا، والأمر به

 

ص -422-

باطل وهذا يشبه حال المشركين، الذين كانوا يعبدون غير الله أو يعبدون الله بغير أمر الله ولا شرعه‏.‏
فإن قيل‏: فالباطل هو نفس القصد والعمل لا نفس العين المقصودة‏.‏
قلت‏: ‏بل نفس العين المقصودة باطل بالاعتبار الذي قصدت له، كما جاء في الحديث‏: ‏"‏أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم‏"‏وذلك أنه إذا كان الباطل في الأصل هو العدم، والعدم هو المنفي، فالشيء ينفى لانتفاء وجوده في الجملة، كقوله تعالى‏:
‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏: ‏3، 4‏]‏ و‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏: ‏11‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏: ‏91‏]‏، وقوله‏: ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الصافات‏: ‏35‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏لا نبي بعدي‏"‏‏.‏
وقد ينفى لانتفاء فائدته ومقصوده وخاصته التي هو بها هو، كما ذكرناه، فإن ما لا فائدة فيه فهو باطل، والباطل معدوم، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان‏: ‏"‏ليسوا بشيء‏"‏، ومنه قوله تعالى‏:
‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏68‏]‏‏.‏
وقد ينفى الشيء لانتفاء كماله وتمامه، إما مطلقًا، وإما بالنسبة إلى غيره، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏ليس المسكين بهذا الطَّوَّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا

 

ص -423-

يتفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافًا‏"‏‏.‏ ونحو ذلك قوله في المفلس والرقوب، ونظائر كل من هذه الأقسام الثلاثة كثيرة‏.‏
فالشيء المقصود لأمر هو باطل منتف إذا انتفت فائدته ومقصوده، فكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون معبودا ولا مستعانا، فقد انتفى مما سوى الله هذا المعنى المقصود، فهو باطل، وكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون صمدًا مقصودا ولا معبودا، ولا فائدة في قصده، ولا منفعة في عبادته واستعانته، فهو باطل وهذا واضح، وهذا عموم محفوظ لا يستثنى منه شيء‏.‏
وبيان ذلك‏: أن كل ما سوى الله فإما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره‏.‏
فالمقصود لغيره‏: مثل ما يقصد الخبز للأكل، والثوب للبس، والسلاح للدفع، ونحو ذلك، وهو ما خلقه الله لنفع بني آدم من الأعيان، فإن هذه إنما تقصد لغيرها لا لذاتها، وكذلك المال الذي يقصد به جلب منفعة أو دفع مضرة إنما يقصد لغيره، لا لنفسه، وكل ما قصد لغيره فإنما المقصود في الحقيقة ذلك الغير‏.‏
وهذا مراد له بحيث إن حصل ذلك الغير المقصود لنفسه وإلا كان هذا مما لا فائدة فيه ولا منفعة، فيكون من باب الباطل الذي ينفى، ويقال فيه‏: ليس بشيء، وهو باطل، ويلحق بالمعدوم‏.‏

 

ص -424-

فثبت أنه إن لم يحصل في كل قصد مقصود لنفسه، وإلا كان باطلا، والمقصود لنفسه إن لم يكن هو الله كان باطلا، فإن المقصود لنفسه هو المعبود‏.‏ ومن عَبَدَ غير الله كان باطلا، وعبادته باطلة، لأنه لا منفعة فيه ولا في عبادته، بل ذلك ضرر محض، قال الله تعالى‏: ‏{‏يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏13‏]‏ وهذا عام في كل معبود، وهذا حقيقة الدين‏.‏
فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض ليستعينوا به على عبادته، فمن لم يستعن بهذه الأشياء على عبادته فعمله كله وقصده باطل، ولا منفعة فيه، بل فيه الضرر‏.‏
فثبت أن كل قصد ومقصود سوى الله باطل، سواء كان مقصودًا لنفسه أو لغيره سوى الله، وإنما الحق أن يقصد الله، أو يقصد ما يستعان به على قصد الله‏.‏ وهذا تحقيق قوله‏:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
بأحد وجهي الحق والباطل، وهو كونه مقصودًا ومطلوبا، وهو أظهر وجهيه‏.‏
الثاني‏: أن كل ما خلا الله فهو معدوم بنفسه، ليس له من نفسه وجود، ولا حركة ولا عمل، ولا نفع لغيره منه، إذ ذلك جميعه خلق الله وإبداعه وبرؤه وتصويره، فكل الأشياء إذا تخلى عنها الله فهي باطل، يكفي في عدمها وبطلانها نفس تخليه عنها، وألا يقيمها هو بخلقه ورزقه، وإذا كانت باطلة في أنفسها والحق إنما هو لله وبالله ومن الله صدق قول القائل‏: ألا كل شيء ما خلا الله باطل باعتبارين‏:

 

ص -425-

أحدهما‏: أن صنعه على هذا التقدير ليس مستغنيا عنه، ولا قائما بسواه، ولا خارجا عنه، فأدخل في اسمه على سبيل التبع، لا لأنه جزء من المسمى، وكثيرًا ما يدخل في الاسم الجامع والأسماء العامة أشياء على سبيل التبع، لا لأنها جزء من المسمى، كما لو قال‏: بعتك هذا الفرس، دخل فيه نعله، ولو قال القائل‏: دخل زيد إلى داري، كانت ثيابه داخلة في حكم اسمه، وكذلك إذا قيل‏: حملت زيدًا، وركب زيد على الدابة، وإذا قيل‏: بنو هاشم، دخل فيهم مواليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏مولى القوم منهم‏"‏ وقد يدخل فيهم الحليف وابن الأخت، وهذا مشهور في كلام العرب وأهل المغازي‏.‏
الاعتبار الثاني‏: أن القائل إذا قال‏: جاء القوم ما خلا زيدًا، فإن ‏[‏خل‏]‏ هنا فعل ناقص من أخوات ‏[‏كان‏]‏ وزيدا منصوب به، وفيه ضمير مرفوع، وذلك الضمير عائد على ‏[‏ما‏]‏ أخت الذي، وهي الموصولة، وهذه الجملة صلة ‏[‏ما‏]‏ وكان تقدير الكلام‏: قام القوم الذين هم خلا زيدًا، لكن ‏[‏ما‏]‏ يحتمل الواحد والاثنين والجميع، والضمير يعود إلى لفظها أكثر من معناها، فقوله‏: رأيت ما رأيته من الرجال، أحسن من قولك‏: ما رأيتهم من الرجال‏.‏ وباب‏:
‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏25‏]‏ أكثر وأفصح من قوله‏: ‏[‏من يستمعون‏]‏؛ ولهذا قوي، فصار ما خلا زيدًا، يقوم مقام الذي خلا، والذين خلوا، واللاتي خلون، ونحو ذلك‏.‏ تقول‏: قامت النسوة ما خلا هندا‏.‏
ولفظ ‏[‏ما‏]‏ إما أن يكون له موضع من الإعراب، وهو الوصف لما/

 

ص -426-

قبله، أو النصب على الحال، أو لا موضع له‏.‏ وإذا كان التقدير‏: كل شيء في حال خلوه عن الله باطل، أو كل شيء خلا الله فهو باطل، أو كل الأشياء حال كونها خلت الله، أو التي خلت الله باطل، فخلوها الله قد يتضمن معنى خلوها منه‏.‏
ومعلوم أنها متى خلته، أي خلت منه كان باطلا، وإنما قيامها بألا تتخلى منه، بل تتقوم به‏.‏ وهذا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ في الأصل دون غيره من أدوات الاستثناء‏.‏
وأصل هذا المعنى مقصود من هذا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ في قول النبي صلىالله عليه وسلم‏.‏
وهذا التوحيد وتفسيره المذكور في قوله‏: ‏ألا كل شيء ما خلا الله باطل هو نحو مما ذكر في قوله تعالى‏: ‏‏
{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ بعد قوله ‏{‏فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏86‏: 88‏]‏‏.‏ فإن ذكره ذلك بعد نهيه عن الإشراك، وأن يدعو معه إلها آخر، وقوله‏: ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ يقتضي أظهر الوجهين، وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان والأعمال وغيرهما‏.‏
روى عن أبي العالية قال‏: إلا ما أريد به وجهه‏.‏ وعن جعفر الصادق‏: إلا دينه‏.‏ ومعناهما واحد‏.‏

 

ص -427-

وقد روى عن عبادة بن الصامت قال‏: يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال‏: ميِّزوا ما كان لله منها‏.‏ قال‏: فيماز ما كان لله منها، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار‏.‏
وقد روى عن على ما يعم‏.‏ ففي تفسير الثعلبي عن صالح بن محمد، عن سليمان ابن عمرو، عن سالم الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب‏: أن رجلا سأله، فلم يعطه شيئا‏.‏ فقال‏: أسألك بوجه الله‏.‏ فقال له على‏: كذبت ليس بوجه الله سألتني، إنما وجه الله الحق، ألا ترى إلى قوله‏: ‏
{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ يعني الحق ولكن سألتني بوجهك الخلق‏.‏ وعن مجاهد‏: إلا هو‏.‏ وعن الضحاك كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار، والعرش‏.‏ وعن ابن كيسان‏: إلا ملكه‏.‏
وذلك أن لفظ ‏[‏الوجه‏]‏ يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة، لكن فعله حذفت فاؤها وهي أخص من الفعل، كالأكل والأكلة‏.‏ فيكون مصدرًا بمعنى التوجه والقصد، كما قال الشاعر‏:

 أستغفر الله ذنبًا لست محصيه

 رب العباد إليه الوجه والعمل

ثم إنه يسمى به المفعول، وهو المقصود المتوجه إليه، كما في اسم الخلق، ودرهم ضرب الأمير ونظائره، ويسمى به الفاعل المتوجه، كوجه الحيوان، يقال‏: أردت هذا الوجه، أي هذه الجهة والناحية‏.‏

 

ص -428-

ومنه قوله‏: ‏‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏115‏]‏ أي‏: قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف، وإن عدها بعضهم في الصفات، وقد يدل على الصفة بوجه فيه نظر، وذلك أن معنى قوله‏: ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ‏}‏ أي‏: تتولوا، أي تتوجهوا وتستقبلوا يتعدى إلى مفعول واحد، بمعني يتولاها، ونظير‏: ‏"‏ولى وتولى‏"‏‏: قدم وتقدم، وبين وتبين، كما قال‏: ‏{‏لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏: ‏1‏]‏، وقال‏: ‏{‏بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏19‏]‏ وهو الوجه الذي لله، والذي أمر الله أن نستقبل‏.‏ فإن قوله‏: ‏‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏}‏ يدل على أن وجه الله هناك من المشرق والمغرب الذي هو لله، كما في آية القبلة‏: ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عليها قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏142‏]‏‏.‏
فلما سألوا عن سبب التولي عن القبلة أخبر أن له المشرق والمغرب‏.‏
وأما لفظ ‏[‏وجهة‏]‏ مثل قوله‏:
‏‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏148‏]‏، فقد يظن أيضا أنه مصدر كالوجه، كالوعدة مع الوعد، وأنها تركت صحيحة فلم تحذف فاؤها، وليس كذلك‏.‏
لأنه لو كان مصدرا لحذفت واوه، وهو الجهة‏.‏ وكان يقال‏: ولكل جهة أو وجه، وإنما الفعلة هنا بمعنى المفعول، كالقبلة والبدعة، والذبحة ونحو ذلك‏.‏ فالقبلة‏: ما استقبل، والوجهة‏: ما توجه إليه، والبدعة‏: ما ابتدع، والذبحة‏: ما ذبح، ولهذا صح ولم تحذف فاؤه؛ لأن الحذف إنما هو من المصدر لا من

 

ص -429-

بقية الأسماء، كالصفات وما يشبهها، مثل أسماء الأمكنة والأزمنة، والآلات والمفاعيل وغير ذلك‏.‏
وأما قول بعض الفقهاء‏: إن الوجه مشتق من المواجهة‏: فلا دليل عليه، بل قد عارضه من قال‏: هو مشتق من الوجاهة، وكلاهما ضعيف‏.‏ وإنما المواجهة مشتق من الوجه، كما أن المشافهة مشتق من الشفة، والمناظرة بمعنى المقابلة مشتق من النظر، والمعاينة من العين‏.‏
وأما اشتقاق الوجه الذي هو المتوجه، من الوجه الذي هو التوجه، فهذا أشبه؛ لأن توجهه‏: هو فعله المختص به الذي لا يفتقر فيه إلى غيره، بخلاف المواجهة، فإنها تستدعي اثنين، والإنسان هو حارث همام، وهمه هو توجهه، وإنما يتوجه بهذا العضو إلى أي شيء أراده وتوجه إليه‏.‏
ومن هذا الباب قوله تعالى‏: ‏
{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏112‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏125‏]‏، وقول الخليل ونبينا والمؤمنين في الصلاة‏: ‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏79‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏: ‏29‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عليها‏}‏ ‏[‏الروم‏: ‏30‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ‏}‏ ‏[‏الروم‏: ‏43‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏: ‏105‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم

 

ص -430-

للذي علمه دعاء النوم‏: ‏"‏اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك‏"‏، وقال زيد ابن عمرو بن نفيل‏:

 أسلمت وجهي لمن أسلمت

 له المزن تحمل عذبا زلالا

فهذه ثلاثة ألفاظ‏: أسلم وجهه، ووجَّه وجهه، وأقام وجهه‏.‏
قال قدماء المفسرين في قوله تعالى‏:
‏{‏أَسْلَمَ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏112‏]‏ أي‏: أخلص في دينه وعمله لله، وقال بعضهم‏: فوَّض أمره إلى الله، وقد قيل‏: خضع وتواضع لله‏.‏
وهذا الثالث يليق بالإسلام اللازم، فإن وجهه هو قصده، وتوجهه الذي هو أصل عمله، وهو عمل قلبه الذي هو ملك بدنه، فإذا توجه قلبه تبعه أيضا توجه وجهه، فاستتبع القصد الذي هو الأصل من القلب، الذي هو الأصل للعمل، الذي هو تبع من الوجه وسائر البدن الذي هو تبع، فيكون قد أسلم عمله الباطن والظاهر، وأعضاءه الباطنة والظاهرة لله، أي سلمه له، وأخلصه لله، كما في الإسلام اللازم، وهو قوله‏:
‏{‏أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏131‏]‏، وقوله عن بلقيس ‏{‏إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏: ‏44‏]‏، وقوله عن إبراهيم وإسماعيل‏: ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏128‏]‏ أي‏: منقادة مخلصة‏.‏ وكذلك توجيه الوجه للذي فطر السموات والأرض‏: توجيه قصده، وإرادته وعبادته، وذلك يستتبع الوجه وغيره، وإلا فمجرد توجيه العضو من غير عمل القلب لا يفيد شيئا‏.‏

 

ص -431-

قال الزجاج في قوله‏: ‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏79‏]‏، أي جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين، وكذلك قوله ‏{‏وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ‏} ‏[‏الأعراف‏: ‏29‏]‏، فإن الوجوه التي هي المقاصد، والنيات التي هي عمل القلب، وهي أصل الدين‏: تارة تقام وتارة تزاغ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه‏"‏‏.‏ فإقامة الوجه ضد إزاغته وإمالته، وهو الصراط المستقيم‏.‏
فإذا قوم قصده وسدده ولم ينحرف يمينا ولا شمالا كان قصده لله رب العالمين، كما قال‏:
‏{‏لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏35‏]‏، وكذلك قال الربيع بن أنس‏: اجعلوا سجودكم خالصا لله، فلا تسجدوا إلا لله‏.‏
وروى عن الضحاك وابن قتيبة‏: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم‏: أصلي في مسجدي‏.‏ كأنه أراد‏: ‏صلوا لله عند كل مسجد، لا تخصوا مسجدًا دون مسجد‏.‏
وعلى هذين القولين يتوجه ما ذكرناه‏.‏
وروي عن مجاهد والسدي وابن زيد‏: توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة‏.‏
وعلى هذا، فإقامة الوجه استقبال الكعبة وهذا فيه نظر، فإن هذه الآية مكية، والكعبة إنما فرضت في المدينة، إلا أن يراد بإقامة الوجه الاستقبال المأمور به‏.‏

 

ص -432-

وإنما وقع النزاع هنا لقوله تعالى‏: ‏{‏عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏29‏]‏، بخلاف قوله تعالى‏: ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏الروم‏: ‏30‏]‏‏.‏
فقوله‏:
‏‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏88‏]‏ أي‏: دينه وإرادته وعبادته، والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى، وهو قولهم‏: ما أريد به وجهه، وهو نظير قوله‏: ‏‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏‏[‏الأنبياء‏: ‏22‏]‏‏.‏ فكُلُّ معبود دون الله باطل، وكل ما لا يكون لوجهه فهو هالك فاسد باطل، وسياق الآية يدل عليه وفيه المعنى الآخر‏.‏
فإن الإلهية تستلزم الربوبية، ولهذا قال‏: ‏‏
{‏لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏88‏]‏
وفي هذا قول آخر، يقوله كثير من أهل العلم‏: أن الوجه في مثل قوله‏:
‏{‏أَسْلَمَ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏112‏]‏ و‏{‏أَقِمْ وَجْهَكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏: ‏105‏]‏ و‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏79‏]‏‏: هو الوجه الظاهر، كما أنه كذلك بالاتفاق في قوله‏: ‏‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء‏}‏، وفي قوله‏: ‏{‏فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏144‏]‏، وفي قوله‏: ‏{‏فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏6‏]‏‏.‏
وقد جاء الوجه في صفات الله في مواضع من الكتاب والسنة، ليس هذا موضعها‏.‏
قالوا‏: لكن الوجه إذا وجه تبعه سائر الإنسان، وإذا أسلم فقد أسلم سائر الإنسان، وإذا أقيم فقد أقيم سائره؛ لأنه هو المتوجه أولا من الأعضاء الظاهرة للقاصد الطالب؛ ولهذا يذكر كثيرًا على وجه الاستلزام لسائر صاحبه،

 

ص -433-

ويعبر به عنه، لكن هل هذا من باب الحقيقة العرفية التي تقلب الاسم من الخصوص إلى العموم، أو الحقيقة اللغوية باقية، وهو من باب الدلالة اللزومية‏؟‏ فيه قولان‏.‏
وكذلك في سائر الأعضاء، حتى لو قال لعبده‏: يدك، أو رجلك حر، أو قال لزوجته‏: يدك أو رجلك طالق إن أعطيتني ألفًا، ثم قطع العضو قبل الإعطاء، فمن قال‏: إن اللفظ عبارة عن الجميع أوقع الطلاق والعتق‏.‏ ومن قال‏: إن الاسم للعضو فقط، لم يسر العتق عنده إلى سائر الجملة؛ لعدم تبعيضه‏.‏ وقال‏: ‏إنه لا يقع شيء في هذه الصورة‏.‏
وإلى هذا الأصل يعود معني قول من قال‏: كل شيء هالك إلا وجهه، كما قد قيل في قوله‏: ‏‏{
‏كُلُّ مَنْ عليها فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏: ‏26، 27‏]‏، فإن بقاء وجهه المذوى بالجلال والإكرام، هو بقاء ذاته‏.

 

ص -434-

فصل‏:
وأما اتحاد ذات العبد بذات الرب، بل اتحاد ذات عبد بذات عبد، أو حلول حقيقة في حقيقة كحلول الماء في الوعاء فهذا باطل قطعًا، بل ذلك باطل في العبد مع العبد، فإنه لا تتحد ذاته بذاته، ولا تحل ذات أحدهما في ذات الآخر‏.‏
وهذا هو الذي وقعت فيه الاتحادية والحلولية من النصارى وغيرهم، من غالية هذه الأمة وغيرها، وهو اتحاد متجدد بين ذاتين كانتا متميزتين، فصارتا متحدتين، أو حلول إحداهما في الأخرى، فهذا بيِّن البطلان‏.‏
وأبطل منه قول من يقول‏: ما زال واحدا وما ثم تعدد أصلا، وإنما التعدد في الحجاب، فلما انكشف الأمر رأيت أني أنا، وكل شيء هو الله، سواء قال بالوحدة مطلقًا، أو بوحدة الوجود المطلق، دون المعين، أو بوحدة الوجود دون الأعيان الثابتة في العدم‏.‏
فهذه وما قبلها مذاهب أهل الكفر والضلال، كما أن الأولى مذهب أهل الإيمان والعلم، والهدى‏.‏
ومن كفر بالحق من ذلك أو آمن بالباطل،

 

ص -435-

فهما في طرفي نقيض، كاليهود والنصارى‏.‏
وأما المؤمنون، فيؤمنون بحق ذلك دون باطله، وكتاب الله وسنة رسوله فيهما الهدى والنور، وفيهما بيان الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏
فأما إثبات الحق من ذلك، وهو ما يحصل لأنبياء الله وأولىائه، الذين هم المتقون من السابقين والمقتصدين، وما قد يحصل من ذلك لكل مؤمن، مثل محبتهم لله تعالى، ومحبته لهم، ورضوانهم عنه، ورضوانه عنهم، فقد قال الله تعالى‏: ‏
{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏54‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏‏[‏البقرة‏: ‏165‏]‏، وقال تعالى ‏{‏وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏[‏البقرة‏: ‏195‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏[‏آل عمران‏: ‏76‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏[‏التوبة‏: ‏7‏]‏، وقال‏: ‏{‏فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏[‏التوبة‏: ‏4‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏‏[‏البقرة‏: ‏222‏]‏، وقال‏: ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏108‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏: ‏9‏]‏، وقال‏: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏: ‏4‏]‏، وَقال‏: ‏‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏‏[‏آل عمران‏: ‏31‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ‏}

 

ص -436-

إلى قوله‏: ‏‏{‏أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏24‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ‏}‏‏[‏النساء‏: ‏125‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏100‏]‏، وقال‏: ‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏: ‏22‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏‏[‏البينة‏: ‏7، 8‏]‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي‏"‏، ‏"‏إن الله جميل يحب الجمال‏"‏، ‏"‏إن الله نظيف يحب النظافة‏"‏ ‏"‏إن الله وتر يحب الوتر‏"‏، ‏"‏إن الله يحب معالى الأخلاق ويكره سَفْسَافَها‏"‏، وقال‏: ‏"‏إن الله يرضي لكم ثلاثًا‏: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم‏"‏
وفي القرآن من ذكر الاصطفاء والاجتباء والتقريب والمناجاة والمناداة والخلة ونحو ذلك، ما هو كثير، وكذلك في السنة‏.‏
وهذا مما اتفق عليه قدماء أهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة والعبادة والعلم والإيمان‏.‏
وخالف في حقيقته قوم من الملحدة المنافقين، المضارعين للصابئين ومن وافقهم، والمضارعين لليهود والنصارى، من الجهمية أو من فيه تجهم، وإن كان الغالب عليه السنة‏.‏

 

ص -437-

فتارة ينكرون أن الله يخالل أحدا، أو يحب أحدًا، أو يواد أحدا، أو يكلم أحدا، أو يتكلم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيفسرون ذلك تارة بإحسانه إلى عباده، وتارة بإرادته الإحسان إليهم، وتارة ينكرون أن الله يحب أو يخالل‏.‏
ويحرفون الكلم عن مواضعه في محبة العبد له، بأنه إرادة طاعته، أو محبته على إحسانه‏.‏
وأما إنكار الباطل، فقد نزه الله نفسه عن الوالد والولد، وكفر من جعل له ولدًا أو والدا أو شريكا، فقال تعالى في السورة التي تعدل ثلث القرآن التي هي صفة الرحمن، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سورة من القرآن ما صح في فضلها، حتى أفرد الحفاظ مصنفات في فضلها، كالدارقطني، وأبي نعيم، وأبي محمد الخلال، وأخرج أصحاب الصحيح فيها أحاديث متعددة قال فيها‏: ‏
{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏
وعلى هذه السورة اعتماد الأئمة في التوحيد، كالإمام أحمد، والفضيل بن عياض، وغيرهما من الأئمة قبلهم وبعدهم‏.‏
فنفى عن نفسه الأصول والفروع والنظراء، وهي جماع ما ينسب إليه المخلوق من الآدميين والبهائم والملائكة والجن، بل والنبات ونحو ذلك، فإنه

 

ص -438-

ما من شيء من المخلوقات إلا ولابد أن يكون له شيء يناسبه، إما أصل، وإما فرع، وإما نظير، أو اثنان من ذلك، أو ثلاثة‏.‏
وهذا في الآدميين والجن والبهائم ظاهر‏.‏
وأما الملائكة، فإنهم وإن لم يتوالدوا بالتناسل فلهم الأمثال والأشباه، ولهذا قال سبحانه‏: ‏‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏: ‏49، 50‏]‏ قال بعض السلف‏: لعلكم تتذكرون، فتعلمون أن خالق الأزْواجِ واحد‏.‏
ولهذا كان في هذه السورة الرد على من كفر من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين‏.‏
فإن قوله‏:
‏‏{‏لَمْ يَلِدْ‏}‏رد لقول من يقول‏: إن له بنين وبنات من الملائكة أو البشر، مثل من يقول‏: الملائكة بنات الله، أو يقول‏: ‏المسيح، أو عزير ابن الله، كما قال تعالى عنهم‏: ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏100‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏: ‏149‏: 158‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أنى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏30، 31‏]‏،

 

ص -439-

وقد أخبر أن هذا مضاهاة لقول الذين كفروا من قبل‏.‏
وقد قيل‏: إنهم قدماؤهم‏.‏ وقيل‏: مشركو العرب، وفيهما نظر‏.‏ فإن مشركي العرب الذين قالوا هذا ليسوا قبل اليهود والنصارى وقدمائهم منهم، فلعله الصابئون المشركون، الذين كانوا قبل موسى والمسيح بأرض الشام ومصر وغيرها، الذين يجعلون الملائكة أولادا له، كما سنبينه‏.‏
وقال تعالى‏: ‏‏
{‏وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏62‏]‏، وَهو قول من قال من العرب‏: إن الملائكة بنات الله‏.‏
وقال تعالى‏: ‏‏
{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏56‏: 60‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ  أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏‏[‏الزخرف‏: ‏15‏: 19‏]‏‏.‏

 

ص -440-

وهذا القدر الذي عابه الله على من جعل الملائكة بناته من العرب، مع كراهتهم أن يكون لهم بنات، فنظيره في النصارى، فإنهم يجعلون لله ولدًا، وينزهون أكابر أهل دينهم عن أن يكون لأحدهم صاحبة أو ولدا، فيجعلون لله ما يكرهونه لأكابر دينهم‏.‏
وقال تعالى‏: ‏‏
{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏‏[‏مريم‏: ‏88‏: 95‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏: ‏{
‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏171‏: 173‏]‏‏.‏
فنهى أهل الكتاب عن الغلو في الدين، وعن أن يقولوا على اللّه إلا الحق،

 

ص -441-

وذكر القول الحق في المسيح، ثم قال لهم‏: ‏{‏آمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏؛ لأنهم كفروا بالله بتثليثهم، وكفروا برسله بالاتحاد والحلول‏.‏ فكفروا بأصلي الإسلام العام، التي هي الشهادة لله بالوحدانية في الألوهية، والشهادة للرسل بالرسالة، وذكر أن المسيح والملائكة لا يستنكفون عن عبادته؛ لأن من الناس من جعل الملائكة أولاده كالمسيح، وعبدوا الملائكة والمسيح‏.‏
ولهذا قال‏: ‏‏
{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏‏[‏آل عمران‏: ‏79، 80‏]‏، فَذَكَرَ الملائِكَةَ وَالنَّبِيينَ جَمِيعًا‏.‏
وقد نفى في كتابه عن نفسه الولادة، ونفى اتخاذ الولد جميعًا‏.‏ فقال‏: ‏‏
{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ‏}‏‏[‏الإسراء‏: 111‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏الآية‏[‏المؤمنون‏: ‏91‏]‏، وقال‏: ‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏}‏‏[‏الفرقان‏: ‏2‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعلينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏‏[‏الأنبياء 16‏: 22‏]‏،

 

ص -442-

وقال‏: ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏26‏: 28‏]‏‏.‏
ومعلوم أن الذين خرقوا له بنين وبنات بغيرعلم، والذين قالوا‏: ولد الله، وإنهم لكاذبون، والذين قالوا‏: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، لم يرد عقلاؤهم ولادة حسية، من جنس ولادة الحيوان بانفصال جزء من ذكره في أنثاه، يكون منه الولد، فإن النصارى والصابئين متفقون على نفي ذلك وكذلك مشركو العرب، ما أظن عقلاءهم كانوا يعتقدون ذلك، وإنما وصفوا الولادة العقلية الروحانية، مثل ما يقوله النصارى‏: إن الجوهر الذي هو الله من وجه، وهو الكلمة من وجه، تدرعت بإنسان مخلوق من مريم، فيقولون‏: تدرع اللاهوت بالناسوت، فظاهره وهو الدرع والقميص بشر، وباطنه وهو المتدرع لاهوت، هو الابن الذي هو الكلمة لتولد هذا من الأب الذي هو جوهر الوجود‏.‏
فهذه البنوة مركبة عندهم من أصلين‏:
أحدهما‏: أن الجوهر الذي هو الكلمة تولد من الجوهر الذي هو الأب، كتولد العلم والقول من العالم القائل‏.‏

 

ص -443-

والثاني‏: أن هذا الجوهر اتحد بالمسيح وتدرع به، وذلك الجوهر هو الأب من وجه، وهو الابن من وجه، فلهذا حكى الله عنهم، تارة أنهم يقولون‏: المسيح ابن الله، وتارة أنهم يقولون‏: إن الله هو المسيح ابن مريم‏.‏
وأما حكايته عنهم أنهم قالوا‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏‏[‏المائدة‏: ‏73‏]‏، فالمفسرون يقولون‏: الله والمسيح وأمه، كما قال‏:
‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏116‏]‏، ولهذا قال في سياق الكلام‏: ‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏75‏]‏ أي غاية المسيح‏: الرسالة، وغاية أمه‏: الصديقية، لا يبلغان إلى اللاهوتية، فهذا حجة هذا، وهو ظاهر‏.‏
ومن الناس من يزعم أن المراد بذلك الأقانيم الثلاثة، وهي الآب والابن وروح القدس، وهذا فيه نظر‏.‏
فأما قوله‏:
‏{‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إني يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏100، 101‏]‏ فإن قوله‏: ‏‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ أي مبدعهما، كما ذكر مثل ذلك في البقرة، وليس المراد أنهما بديعة سمواته وأرضه، كما تحتمله العربية لولا السياق؛ لأن المقصود نفى ما زعموه من خرق البنين والبنات له، ومن كونه اتخذ ولدًا‏.‏

 

ص -444-

وهذا ينتفي بضده كونه أبدع السموات، ثم قال‏: ‏{‏إني يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ وذكر ثلاثة أدلة على نفي ذلك‏:
أحدها‏: كونه ليس له صاحبة، فهذا نفي الولادة المعهودة‏: ‏وقوله‏:
‏‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ نفى للولادة العقلية، وهي التولد؛ لأن خلق كل شيء ينافى تولدها عنه‏.‏ وقوله‏: ‏{‏وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏}‏ يشبه والله أعلم أن يكونَ لِمَا ادَّعَت النَّصَارَى أن المتحد به هو الكلمة التي يفسرونها بالعلم، والصابئة القائلون بالتولد والعلة، لا يجعلونه عالما بكل شيء ذكر أنه بكل شيء عليم، لإثبات هذه الصفة له، ردًا على الصابئة، ونفيها عن غيره ردًا على النصارى‏.‏
وإذا كان كذلك فقول من قال بتولد العقول والنفوس التي يزعمون أنها الملائكة أظهر في كونهم يقولون‏: إنه ولد الملائكة، وإنهم بنوه وبناته فالعقول بنوه، والنفوس بناته من قول النصارى‏.‏
ودخل في هذا من تفلسف من المنتسبة إلى الإسلام، حتى إني أعرف كبيرًا لهم سئل عن العقل والنفس فقال‏: بمنزلة الذكر والأنثى، فقد جعلهم كالابن والبنت، وهم يجعلونهم متولدين عنه تولد المعلول عن العلة، فلا يمكنه أن يفك ذاته عن معلوله ولا معلوله عنه، كما لا يمكنه أن يفصل نفسه عن نفسه، بمنزلة شعاع الشمس مع الشمس وأبلغ‏.‏

 

ص -445-

وهؤلاء يقولون‏: إن هذه الأرواح التي ولدها متصلة بالأفلاك الشمس والقمر والكواكب كاتصال اللاهوت بجسد المسيح، فيعبدونها كما عبدت النصارى المسيح، إلا أنهم أكفر من وجوه كثيرة، وهم أحق بالشرك من النصارى، فإنهم يعبدون ما يعلمون أنه منفصل عن الله وليس هو إياه، ولا صفة من صفاته، والنصارى يزعمون أنهم ما يعبدون إلا ما اتحد بالله، لا لما ولده من المعلولات‏.‏
ثم من عَبَدَ الملائكة والكواكب وأرواح البشر وأجسادهم، اتخذ الأصنام على صورهم وطبائعهم، فكان ذلك أعظم أسباب عبادة الأصنام‏.‏
ولهذا كان الخليل إمام الحنفاء مخاطبًا لهؤلاء الذين عبدوا الكواكب والشمس والقمر، والذين عبدوا الأصنام مع إشراكهم واعترافهم بأصل الجميع‏.‏
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير موضع، وأولئك هم الصابئون المشركون الذين ملكهم نمروذ‏.‏ وعلماؤهم الفلاسفة من اليونانيين وغيرهم، الذين كانوا بأرض الشام والجزيرة والعراق وغيرها، وجزائر البحر قبل النصارى، وكانوا بهذه البلاد في أيام بني إسرائيل، وهم الذين كانوا يقاتلون بني إسرائيل، فيغلبون تارة ويُغلبون تارة، وسنحاريب وبختنصر ونحوهما‏: هم ملوك الصابئة بعد الخليل، والنمروذ الذي كان في زمانه‏.‏

 

ص -446-

 فتبين بذلك ما في القرآن من الرد لمقالات المتقدمين قبل هذه الأمة والكفار والمنافقين فيها، من إثبات الولادة لله، وإن كان كثير من الناس لا يفهم دلالة القرآن على هذه المقالات؛ لأن ذلك يحتاج إلى شيئين‏: إلى تصور مقالتهم بالمعنى لا بمجرد اللفظ، وإلى تصور معنى القرآن، والجمع بينهما‏.‏ فتجد المعنى الذي عنوه قد دل القرآن على ذكره وإبطاله‏.‏
وأما اتحاد الولد فيفسر بعين الولادة‏.‏ وهو من باب الأفعال، لا من باب الصفات، كما يقوله طائفة من النصارى في المسيح‏.‏

 

ص -447-

فصل:
فهذا نفي كونه سبحانه والدًا لشيء، أو متخذا لشيء ولدًا، بأي وجه من وجوه الولادة، أو اتخاذ الولد أيا كان‏.‏
وأما نفي كونه مولودًا، فيتضمن نفي كونه متولدًا بأي نوع من التوالد من أحد من البشر وسائر ما تولد من غيره، فهو رد على من قال‏: ‏المسيح هو الله، ورد على الدجال الذي يقول‏: إنه الله، ورد على من قال في بشر‏: إنه الله، من غالية هذه الأمة في علىٍّ وبعض أهل البيت، أو بعض المشايخ، كما قال قوم ذلك في على وطائفة من أهل البيت، وقالوه في الأنبياء أيضا، وقاله قوم في الحلاج، وقوم في الحاكم بمصر، وقوم في الشيخ عدي، وقوم في يونس العنيني، وقوم يعمونه في المشايخ، ويصوبون هذا كله‏.‏
فقوله سبحانه‏: ‏‏{‏لم يولد‏}‏ نفي لهذا كله، فإن هؤلاء كلهم مولودون، والله لم يولد ولهذا لما ذكر الله المسيح في القرآن قال‏: ‏{‏ابن مريم‏}‏ بخلاف سائر الأنبياء، كقوله‏: ‏
{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏72‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏‏[‏المائدة‏: ‏75‏]‏، وقوله‏:

 

ص -448-

{‏إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عليك وَعَلَى وَالِدَتِكَ‏}‏‏[‏المائدة‏: ‏110‏]‏، وقوله‏: ‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ‏[‏المائدة‏: ‏116‏]‏، وَقوله‏: ‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏: ‏50‏]‏، وقوله‏: ‏{‏وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏: 157‏]‏‏.‏
وفي ذلك فائدتان‏:
إحداهما‏: بيان أنه مولود، والله لم يولد‏.‏
والث
bانية‏: نسبته إلى مريم، بأنه ابنها ليس هو ابن الله‏.‏
وأما قوله‏: ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ‏}‏الآية‏[‏النساء‏: ‏172‏]‏، وقوله‏: ‏{
‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏30‏]‏‏: فإنه حكى قولهم الذي قالوه، وهم قد نسبوه إلى الله أنه ابنه، فلم يضمِّنوا ذلك قولهم المسيح ابن مريم‏.‏ وقوله‏: ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏: ‏4‏]‏ نفى للشركاء والأنداد، يدخل فيه كل من جعل شيئا كفوًا لله في شيء من خواص الربوبية، مثل خلق الخلق، والإلهية، كالعبادة له، ودعائه ونحو ذلك‏.‏
فهذه نكت، تبين اشتمال كتاب الله على إبطال قول من يعتقد في أحد من البشر الإلهية، باتحاد أو حلول أو غير ذلك‏.

 

ص -449-

فصل‏:
وأما هؤلاء الملاحدة‏: فإنهم لا يقتصرون في كفرهم على أنه ولد شيئا أو اتخذ ولدا، أو أنه بشر مولود ؛ لاتحاد الرب به‏.‏
فإن هذا جميعه يقتضي إثبات شيئين متميزين، اتحد أحدهما بالآخر أو حل فيه، وهذا إنما يقوله من يقول بالاتحاد الخاص المقيد، أو الحلول الخاص المقيد‏.‏
وهؤلاء عندهم ما ثم غيره، ولا سواه، ولم يخلق شيئا، ولا هو رب شيء ولا مالك شيء، ولا له عبد ولا عابد، ولا داع يدعوه فيجيبه، ولا مضطر يضطر إليه فيجيبه، ولا سائل يسأله فيجيبه، وإنما يشهد العبد هذه المعاني، إذا كان محجوبا عن شهود الوحدة المطلقة في خياله‏.‏
فإذا انكشف حجاب قلبه عندهم، رأى ما ثم اثنين بوجه من الوجوه، حتى يكون أحدهما خالقا والآخر مخلوقا، أو أحدهما عابدًا والآخر ربا، أو أحدهما والدًا والآخر مولودًا، أو أحدهما شريكا للآخر أو شفيعا عنده، حتى يتقرب بعبادته إليه‏.‏

 

ص -450-

 وهذا قول الحذاق منهم، كالتلمساني، وابن الفارض‏.‏ والتلمساني أعرف بحقائق قولهم‏.‏
وأما ابن عربي فيقول‏: هذا كله في الذوات الثابتة في العدم، لا في شيء موجود، فأما الوجود فلا يتصور أن يكون فيه رب وعبد، وخالق ومخلوق، وداع ومجيب، وإنما الوجود لما فاض على الأعيان فظهر فيها، حصل التفرق من جهة الأعيان، كتفرق النور في الزجاج، لاختلاف ألوانه‏.‏
فهؤلاء يرد عليهم القرآن في مواضع لا تحصى، وقصص الله التي قصها عن فرعون الذي هو رئيسهم‏: يتضمن الرد عليهم، فإن فرعون أنكر رب العالمين، وأن يكون لموسى إله يطلع إليه، ولم ينكر هذا الوجود الذي هو العالم‏.‏
وكذلك هؤلاء إنما يقرون بهذا الوجود الذي هو هذا العالم، فما ثم غيره عندهم، ويقولون‏: هو الله، وهو الإنسان الكبير‏.‏

 

ص -451-

  وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏: ( رسالة إلى نصر المنبجي)
بسم اللّه الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة، السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته‏.‏
أما بعد، فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون عُلُوًا في الأرض ولا فسادا منزلة علىة، ومودة إلهية؛ لما منحه

 

ص -452-

الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى والعبادة‏.‏
وقد بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله التي هي أصل الأعمال المحبة التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى‏: ‏
{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏165‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏‏[‏التوبة‏: ‏24‏]‏‏.‏
ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني، والوجد الديني، كما في الصحيحين عن أنس قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"
‏ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه‏: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار‏"‏، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله، وبكراهة ضد الإيمان‏.‏
وفي صحيح مسلم عن العباس قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"
‏ذاق طعمَ الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا‏"‏،

 

ص -453-

فجعل ذوق طعم الإيمان معلقا بالرضي بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقا بالمحبة؛ ليفرق صلى الله عليه وسلم بين الذوق والوجد، الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله وبين غيره كما قال سهل بن عبد الله التستري‏: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، إذ كان كل من أحب شيئا فله ذوق بحسب محبته‏.‏
ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله‏: ‏
{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏31‏]‏، قال الحسن البصري‏: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله، فطالبهم بهذه الآية، فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده‏.‏
وقد ذكر نعت المحبين في قوله‏: ‏
{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ‏}‏‏[‏المائدة‏: ‏54‏]‏، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال، الذي نعت الله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال، المفرق في الملتين قبلنا، وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله، ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق، كما قال فيه كبير من كبرائهم‏:

 مشرد عن الوطن

 مبعد عن السكن

ص -454-

 يبكي الطول والدمن

 يهوى ولا يدري لمن

فالشيخ أحسن الله إليه قد جعل الله فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة، عن المجملة المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضا في التوحيد، قال الله تعالى في أم الكتاب، التي هي مفروضة على العبد وواجبة في كل صلاة أن يقول‏: ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول‏: ‏"‏قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏: نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد‏:
‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏} قال الله‏: حمدني عبدي، وإذا قال‏: ‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ قال الله‏: أثني علىَّ عبدي، وإذ قال‏: ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ قال‏: مجدني عبدي أو قال‏: فوض إلى عبدي، وإذا قال‏: ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ قال‏: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال‏: ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ قال‏: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل‏"‏ ولهذا روى أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في القرآن، ومعاني القرآن في المفصل، ومعاني المفصل في أم الكتاب، ومعاني

ص -455-

أم الكتاب، في هاتين الكلمتين‏: ‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ وهذا المعنى قد ثناه الله في مثل قوله‏: ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏123‏]‏، وفي مثل قوله‏: ‏‏{‏عليه تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏‏[‏الشورى‏: ‏10‏]‏، وقوله‏: ‏{‏عليه تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏30‏]‏‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في نسكه‏: ‏"
‏اللهم هذا منك ولك‏"‏
فهو سبحانه مستحق التوحيد، الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له‏: دعاء العبادة بالمحبة والإنابة، والطاعة والإجلال، والإكرام والخشية، والرجاء، ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه الأول والآخر، والباطن والظاهر‏.‏
ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله، وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر‏: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان‏: الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك‏.‏
وفي السؤال‏: ‏‏
{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏‏[‏الأعراف‏: ‏23‏]‏، ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏28‏]‏، ‏{‏رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ على فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏17‏]‏، ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏16‏]‏، ‏{‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏147‏]‏، ‏{‏رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏: ‏118‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

 

ص -456-

وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية، والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق، من الأعيان والصفات‏.‏
وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها فيقول‏:
‏"‏أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن‏"‏‏.‏
فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضا ومطلوب منه، وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي، الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، والحب فيه، والبغض فيه، ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول، فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا‏: ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏148‏]‏‏.‏
ومن أخذ بالثاني دون الأول، فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاء جميع الكائنات، كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في كلام كثير من المتكلمة والمتفقهة‏.‏
والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي، وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة 

 

ص -457-

الخارجين عن الشريعة خفو العدووغيرهم، فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به، فيفيدهم أحوالا فيها ما هو فاسد، يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود‏.‏
ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه‏: كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه رَوْزَنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا له‏.‏
وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية، أي أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به، ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع قدر الله بقدر الله، كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض‏"‏، وفي الترمذي قيل‏: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا‏؟‏ فقال‏: ‏"‏هن من قدر الله‏"‏‏.
وإلى هذين المعنين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏
: ‏"‏يقول الله‏: يابن آدم، إنما هي أربع‏: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي‏.‏ فأما التي

 

ص -458-

لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلى الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فائت إلى الناس بما تحب أن يأتوه إليك‏"‏
ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية، أو توحيد أحدهما، للعبد فيه ثلاثة مقامات‏:
أحدها‏: مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات‏.‏
والثاني‏: مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى وهو فناء القاصرين‏.‏
وأما الفناء الكامل المحمدي، فهو الفناء عن عبادة السوى، والاستعانة بالسوى، وإرادة وجه السوى، وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته‏.‏
ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره ولا نافع ولا ضار، ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضا

 

ص -459-

فعل المأمورات مع كثرتها، وترك الشبهات مع كثرتها لله وحده لا شريك له‏.‏
وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، والإسلام العام والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏: ‏
{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وصينَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏: ‏13‏]‏، وبقوله‏: ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏‏[‏الزخرف‏: ‏45‏]‏، وبقوله تعالى‏: ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏36‏]‏؛ ولهذا ترجم البخاري عليه‏[‏باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد‏]‏‏.‏
وقد قال تعالى‏:
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏62‏]‏، فجمع في الملل الأربع‏: ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏ وذلك قبل النسخ والتبديل‏.‏
وخص في أول الآية المؤمنين، وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه‏:
‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏48‏]‏، والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة، والدين الجامع هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية، هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين‏.‏

 

ص -460-

 فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم‏: ‏{‏خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏110‏]‏ وبها أنزلت السور المدنية؛ إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع، وسنت السنن، ونزلت الأحكام والفرائض والحدود‏.‏
فهذا التوحيد، هو الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز‏.‏
فقد يقول في تلك الحال‏: ‏سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء، وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى، إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه‏.‏
فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات‏.‏
وفي مثل هذا الحال، غَلَطَ من غَلَطَ بدعوى الاتحاد والحلول العيني، في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في عَلِىٍّ وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي‏.‏

 

ص -461-

فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏"‏يقول الله‏: عبدي، مرضت فلم تعدني، فيقول‏: كيف أعودك وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏: أما علمت أنه مرض عبدي فلان، فلو عدته لوجدتني عنده‏؟‏، عبدي، جعت فلم تطعمني، فيقول‏: رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين‏؟‏ فيقول‏: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏؟‏‏"‏
ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أنه جوع عبده ومحبوبه لقوله‏: ‏"‏لوجدت ذلك عندي‏"‏ ولم يقل‏: لوجدتني قد أكلته، ولقوله‏: ‏"‏لوجدتني عنده‏"‏، ولم يقل‏: ‏لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضي أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهي عنه‏.‏
وهؤلاء هم الذين يرضي الحق لرضاهم، ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم‏.‏
ولهذا قال تعالى فيه‏:
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏: ‏10‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏62‏]‏، وقال ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏80‏]‏
وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح قالها فهذا معناها، كقوله‏: ‏"‏أنا وأبي واحد‏.‏ من رإني فقد رأى أبي‏"‏ ونحو ذلك

 

ص -462-

وبها ضلت النصارى، حيث اتبعوا المتشابه، كما ذكر الله عنهم في القرآن، لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في المسيح‏.‏
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال‏: ‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏"‏، فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه‏.‏
وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل، وأن قرب الفرائض أن يكون هو إياه، فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل، فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية، أتباع الأنبياء والمرسلين‏.‏
وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية، وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتابًا اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد به والله واحدًا بعينه، وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين، فعلىنا أن نعينه في الدين والدنيا، بما هو اللائق به، وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إليَّ الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم‏.‏

 

ص -463-

وقد كتبت في ذلك كتابًا ربما يرسل إلى الشيخ، وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل، والله تعالى يعلم وكفى به عليما لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى، السالكين إليه من أعظم الواجبات وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق، وتهتك أستارها، ولكن الشيخ أحسن الله تعالى إليه يعلم أن مقصود الدعوة النبوية، بل المقصود بخلق الخلق، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل‏: أن يكون الدين كله لله، هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى‏: ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏45، 46‏]‏، وقال سبحانه‏: ‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏108‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏: ‏52، 53‏]‏‏.‏ وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذيأنزل اللّه تعالى به الكتب، وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيدًا، وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق‏.‏
وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من ‏[‏الفتوحات‏]‏، والكنة، والمحكم المربوط والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك‏.‏ ولم نكن بَعْدُ اطلعنا على

 

ص -464-

حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علىنا‏.‏
فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية، والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء، وجب البيان‏.‏
وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام رجال سالكون أهل صدق وطلب، أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم‏.‏
والشيخ أيده الله تعالى بنور قلبه، وذكاء نفسه وحقق قصده من نصحه للإسلام وأهله، ولإخوانه السالكين يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه ومغفرته في الدنيا والآخرة‏.‏
وهؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر، لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين، وذلك أن القسمة رباعية، فإن كل واحد من الاتحاد والحلول، إما معين في شخص وإما مطلق‏.‏
أما الاتحاد والحلول المعين، كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشائخ من جهال الفقراء والصوفية، فإنهم يقولون به في معين، إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن، وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط، وإما بالحلول وهو قول النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية‏.‏

 

ص -465-

وأما الحلول المطلق وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء، فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك‏.‏
وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام، فما علمت أحدا سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل فرعون والقرامطة وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين، ولا أنه غني، وما سواه فقير‏.‏
لكن تفرقوا على ثلاثة طرق، وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم؛ لأنه أمر مبهم‏.‏
الأول‏: أن يقولوا‏: إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية، حتى ذوات الحيوان، والنبات والمعادن، والحركات والسكنات، وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات، فوجودها وجود الحق، وذواتها ليست ذوات الحق، ويفرقون بين الوجود والثبوت، فما كنت به فى ثبوتك ظهرت به في وجودك‏.‏
ويقولون‏: إن الله سبحانه لم يعط أحدًا شيئا، ولا أغنى أحدًا، ولا أسعده ولا أشقاه، وإنما وجوده فاض على الذوات، فلا تحمد إلا نفسك، و لا تذم إلا نفسك‏.‏

 

ص -466-

ويقولون‏: إن هذا هو سر القدر، وأن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجًا عن نفسه المقدسة‏.‏
ويقولون‏: إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم، وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد، وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه؛ لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به الرسل‏.‏
ويقولون‏: إنهم لم يعبدوا غير الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى، وأن عبّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه، وأن قوله تعالى‏: ‏
{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏ معنى حكم، لا معنى أمر، فما عبد غير الله في كل معبود، فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع‏.‏
ويقولون‏: إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، وإن قوم نوح قالوا‏:
‏{‏لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏23‏]‏؛ لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم؛ لأن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه، وينكره من أنكره، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، وأن العارف منهم يعرف من عبدَ وفي أي صورة ظهر حتى عبد‏.‏
فإن الجاهل يقول‏: هذا حجر وشجر، والعارف يقول‏: هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا؛ لأنهم خصصوا، وإن

 

ص -467-

 عبّاد الأصنام ما أخطؤوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء‏.‏
والله يعبد أيضا كل شيء لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام، وهو غذاؤها بالوجود، وهو فقير إليها وهي فقيرة إليه، وهو خليل كل شيء بهذا المعنى، ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة، وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أمورًا عدمية‏.‏
ويقولون‏: من أسمائه الحسنى‏: العلى، عن ماذا وما ثم إلا هو‏؟‏ وعلى ماذا وما ثم غيره‏؟‏ فالمسمى محدثات وهي العلىة لذاتها وليست إلا هو، وما نكح سوى نفسه، وما ذبح سوى نفسه، والمتكلم هو عين المستمع‏.‏
وأن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيقه وعدم اتساعه وأن موسى كان أوسع في العلم، فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وأن أعلى ما عبد الهوى، وأن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله، وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين، وقد صدقه السحرة في قوله‏: ‏
{‏ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏: ‏24‏]‏، وفي قوله‏: ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏38‏]‏‏.‏
وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول‏: إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون، المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون، ويقولون‏: نحن على قول فرعون‏.‏

 

ص -468-

وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏: ‏10‏]‏
والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص، المضاف إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم أنه جاء به‏: وهو ما إذا فهمه المسلم علم بالاضطرار أن جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصالحين، بل جميع عوام أهل الملل، من اليهود والنصارى والصابئين‏: يبرؤون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه كله‏؟‏
ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور، الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ربهم ورب آبائهم الأولين، رب المشرق والمغرب‏.‏
ولا يقول أحد منهم‏: إنه عين المخلوقات، ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى إنهم يقولون‏: لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين‏:
أحدهما‏: ‏أن المعدوم شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة والرافضة وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب السنة والإجماع‏.‏ وكثير من متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر كفر من يقول بهذا‏.‏

 

ص -469-

وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله تعالى‏.‏ فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة‏: أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها، فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي‏.‏
ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سورة‏: ‏
{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏: ‏1‏: 5‏]‏ فذكر المراتب الأربع‏: وهي الوجود العيني الذي خلقه، والوجود الرسمي المطابق للفظي الدال على العلمي، وبين أن الله تعالى علمه، ولهذا ذكر التعليم بالقلم، فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة‏.‏
وهذا القول أعني قول من يقول‏: إن المعدوم شيء ثابت في نفسه، خارج عن علم الله تعالى وإن كان باطلا ودلالته واضحة لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة، وابن عربي وافق أصحابه، وهو أحد أصلى مذهبه الذي في الفصوص‏.‏
والأصل الثاني‏: أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق، ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن عربي أقربهم إلى الإسلام، وأحسن كلاما في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر

 

ص -470-

والمظاهر، فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشائخ من الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم، فينتفعون بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله‏.‏
وأما صاحبه الصدر الرومي فإنه كان متفلسفا، فهو أبعد عن الشريعة والإسلام؛ ولهذا كان الفاجر التلمساني الملقب بالعفيف يقول‏: كان شيخي القديم متروحنًا متفلسفًا، والآخر فيلسوفا متروحنا يعني الصدر الرومي فإنه كان قد أخذ عنه، ولم يدرك ابن عربي في كتاب مفتاح غيب الجمع والوجود، وغيره يقول‏: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين، كما يفرق بين الحيوان المطلق والحيوان المعين، والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في الخارج مطلقا، لا يوجد المطلق إلا في الأعيان الخارجة‏.‏
فحقيقة قوله‏: إنه ليس لله سبحانه وجود أصلا، ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات؛ ولهذا يقول هو وشيخه‏: إن الله تعالى لا يرى أصلا، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير، والبول والعذرة، عين وجوده تعالى الله عما يقولون‏.‏
وأما الفاجر التلمساني، فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر، فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين
ر

 

ص -471-

كما يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وإن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوبا، فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر‏.‏
ولهذا كان يستحل جميع المحرمات، حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول‏: البنت والأم والأجنبية شيء واحد، ليس في ذلك حرام علىنا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا‏: حرام، فقلنا‏: حرام عليكم‏.‏
وكان يقول‏: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، وإنما التوحيد في كلامنا‏.‏
وكان يقول‏: أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول‏: ‏القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشرح الأسماء الحسنى على هذا الأصل الذي له‏.‏
وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء، وشعره في صناعة الشعر جيد، ولكنه كما قيل‏: ‏"‏لَحْمُ خِنْزِير في طَبَق صيني‏"‏ وصنف للنصيرية عقيدة، وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر، وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه‏.‏
وأما ابن سبعين، فإنه في البدو والإحاطة يقول أيضا بوحدة الوجود، وأنه ما ثم غير، وكذلك ابن الفارض في آخر نظم السلوك، لكن لم يصرح‏: هل يقول بمثل قول التلمساني، أو قول الرومي، أو قول ابن عربي‏؟‏ وهو إلى كلام التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي

 

ص -472-

ما كفره أحد قط مثل التلمساني، وآخر يقال له‏: البلياني من مشايخ شيراز‏.‏ ومن شعره‏:

 وفي كل شيء له آية

 تدل على أنه عينه

وأيضا‏:

 وما أنت غير الكون بل أنت عينه

 ويفهم هذا السر من هو ذائقه

وأيضا‏:

 وتلتذ إن مرت على جسدي يدي

 لأني في التحقيق لست سواكم

وأيضا‏:

 ما بال عيسك لا يقر قرارها

 وإلام ظلك لا يني متنقلا‏؟‏

 فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن

 إلا إليك إذا بلغت المنزلا

وأيضا‏:

ما الأمر إلا نسق واحد 

 ما فيه من حمد ولا ذم

 وإنما العادة قد خصصت

 والطبع والشارع في الحكم

وأيضا‏:

 يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني

 والوجد أصدق نهاء وأمار

 فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي

 عن العيان إلى أوهام أخبار

ص -473-

 فعين ما أنت تدعوني إليه إذا

 حققته تره المنهي يا جاري

وأيضا‏:

 وما البحر إلا الموج لا شيء غيره

 وإن فرقته كثرة المتعدد

إلى أمثال هذه الأشعار، وفي النثر ما لا يحصى، ويوهمون الجهال أنهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة، مثل سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، والشافعي، وأبي سليمان، وأحمد بن حنبل، وبشر الحافي، وعبد الله بن المبارك، وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة‏.‏
إلى مثل المتأخرين، مثل الجنيد بن محمد القواريري، وسهل بن عبد الله التستري، وعمر بن عثمان المكي، ومن بعدهم، إلى أبي طالب المكي، إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي مدين، والشيخ عقيل، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ رسلان، والشيخ عبد الرحيم، والشيخ عبد الله اليونيني، والشيخ القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق، ومصر والمغرب وخراسان، من الأولين والأخرىن‏.‏
كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء ومن هو أرجح منهم، وإن الله

ص -474-

ولهذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال‏: ‏"‏إنه أعور‏"‏، وكونه قال‏: ‏"‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏"‏‏.‏ وابن الخطيب أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا؛ لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال، أبين من أن يستدل عليه بأنه أعور‏.‏
فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية، وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى والحلولية، ظهر سبب دلالة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بهذه العلامة، فإنه بعث رحمة للعالمين، فإذا كان كثير من الخلق يجوز ظهور الرب في البشر، أو يقول‏: ‏إنه هو البشر، كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلا على انتفاء الإلهية عنه‏.‏
وقد خاطبني قديما شخص من خيار أصحابنا كان يميل إلى الاتحاد ثم تاب منه وذكر هذا الحديث فبينت له وجهه‏.‏
وجاء إلينا شخص كان يقول‏: إنه خاتم الأولياء، فزعم أن الحلاج لما قال‏: أنا الحق كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا الباب، فبينت له فساد هذا، وأنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة موسى بن عمران، وكان من خاطبه هؤلاء أعظم من موسى، لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة وهؤلاء يسمعون من الجن الناطق‏.‏

 

ص -475-

 ولهـذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي صلى الله تعـالى عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنه أعور‏)‏، وكونه قال‏:‏ ‏"‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت"‏‏.‏ وابن الخطيب أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا؛ لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال، أبين من أن يستدل عليه بأنه أعور‏.‏
فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية، وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى والحلولية، ظهر سبب دلالة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بهذه العلامة، فإنه بعث رحمة للعالمين، فإذا كان كثير من الخلق يجوز ظهور الرب في البشر، أو يقول‏:‏إنه هو البشر، كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلا على انتفاء الإلهية عنه‏.‏
وقد خاطبني قديما شخص من خيار أصحابنا ـ كان يميل إلى الاتحاد ثم تاب منه ـ وذكر هذا الحديث فبينت له وجهه‏.‏
وجاء إلينا شخص كان يقول‏:‏ إنه خاتم الأولياء، فزعم أن الحلاج لما قال‏:‏ أنا الحق كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كان من هذا الباب، فبينت له فساد هذا، وأنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة موسى بن عمران، وكان من خاطبه هؤلاء أعظم من موسى، لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة وهؤلاء يسمعون من الجن الناطق‏.‏

 

ص -476-

وهذا يقوله قوم من الاتحادية، لكن أكثرهم جهال لا يفرقون بين الاتحاد العام المطلق الذي يذهب إليه الفاجر التلمساني وذووه، وبين الاتحاد المعين الذي يذهب إليه النصارى والغالية‏.‏
وقد كان سلف الأمة، وسادات الأئمة، يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود، كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحًا، وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان‏.‏
وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، ولكن السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه، فإن كثيرًا من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة، حتى يتدبرها ويرزق نور الهدى، فلما اطلع السلف على سر القول نفروا منه‏.‏
وهذا كما قال بعض الناس‏: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شىء ؛ وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه تأله ولا تعبد، فهو يصف ربه بصفات العدم والموات‏.‏
وأما المتعبد ففي قلبه تأله وتعبد، والقلب لا يقصد إلا موجودًا لا معدوما فيحتاج أن يعبد المخلوقات، إما الوجود المطلق وإما بعض المظاهر، كالشمس والقمر، والبشر والأوثان وغير ذلك، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم، وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات، فهم بربهم يعدلون‏.‏

 

ص -477-

ولهذا حدثني الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند، وقال‏: إن أرض الإسلام لا تسعه؛ لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان‏.‏
وهذا حقيقة قول الاتحادية، وأعرف ناسا لهم اشتغال بالفلسفة والكلام وقد تَألَّهوا على طريق هؤلاء الاتحادية، فإذا أخذوا يصفون الرب سبحانه بالكلام قالوا‏: ليس بكذا، ليس بكذا، ووصفوه بأنه ليس هو رب المخلوقات كما يقوله المسلمون، لكن يجحدون صفات الخالق التي جاءت بها الرسل عليهم السلام‏.‏
وإذا صار لأحدهم ذوق ووجد، تأله وسلك طريق الاتحادية، وقال‏: إنه هو الموجودات كلها، فإذا قيل له‏: أين ذلك النفي من هذا الإثبات‏؟‏ قال‏: ذلك وجدي، وهذا ذوقي‏.‏ فيقال لهذا الضال‏: كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد فأحدهما أو كلاهما باطل، وإنما الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات، فإن علم القلب وحاله متلازمان، فعلى قدر العلم والمعرفة يكون الوجد والمحبة والحال‏.‏
ولو سلك هؤلاء طريق الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله واتبعوا طريق السابقين الأولين، لسلكوا طريق الهدى، ووجدوا بَرْد اليقين وقُرَّة العين، فإن الأمر كما قال بعض الناس‏: ‏إن الرسل

 

ص -478-

جاءوا بإثبات مُفَصَّل ونفي مجمل، والصابئة المعطلة جاؤوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فالقرآن مملوء من قوله تعالى في الإثبات‏: ‏‏{‏إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏}‏‏[‏التوبة‏: ‏115‏]‏ و‏{‏عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏[‏فاطر‏: ‏1‏]‏، و‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏: ‏28‏]‏، ‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏غافر‏: 7‏]‏، وفي النفي‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏: 11‏]‏، ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏: 4‏]‏، ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏65‏]‏، ‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات 180، 181‏]‏‏.‏
وهذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ أيَّد الله تعالى به الإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه، وحسن مقاصده ونور قلبه فإن ما فيه نكت مختصرة، فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب، ولكن ذكرت للشيخ أحسن الله تعالى إليه ما اقتضى الحال أن أذكره وحامل الكتاب مستوفز عجلان، وأنا أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ويهديهم إلى ما يقربهم، وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير، الذين قال الله سبحانه فيهم‏:
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏104‏]‏‏.

 

ص -479-

سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه‏: ما تقول أئمة الإسلام في الحلاج‏؟‏
وفيمن قال‏: أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج‏: ماذا يجب عليه‏؟‏ ويقول‏: إنه قتل ظلمًا كما قتل بعض الأنبياء، ويقول‏: الحلاج من أولياء الله‏.‏ فماذا يجب عليه بهذا الكلام، وهل قتل بسيف الشريعة‏؟‏
فأجاب‏:
الحمد للّه، من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله‏: أنا الله، وقوله‏: إله في السماء وإله في الأرض‏.‏
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا إله إلا الله، وأن الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق و‏{
‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏‏[‏مريم‏: ‏93‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏171‏]‏ الآيات، وقال تعالى‏: ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ الآيتين ‏[‏المائدة‏: ‏72‏]‏‏.‏ فالنصارى الذين كفرهم الله ورسوله، واتفق المسلمون على كفرهم بالله

 

ص -480-

ورسوله، كان من أعظم دعواهم الحلول والاتحاد بالمسيح ابن مريم، فمن قال بالحلول والاتحاد في غير المسيح كما تقوله الغالية في على، وكما تقوله الحلاجية في الحلاج، والحاكمية في الحاكم، وأمثال هؤلاء فقولهم شر من قول النصارى؛ لأن المسيح ابن مريم أفضل من هؤلاء كلهم‏.‏ وهؤلاء من جنس أتباع الدجال، الذي يدعى الإلهية ليتبع، مع أن الدجال يقول للسماء‏: أمطري فتمطر، وللأرض‏: أنبتي فتنبت، وللخربة‏: أخرجي كنوزك، فتخرج معه كنوز الذهب والفضة، ويقتل رجلا مؤمنا ثم يأمر به فيقوم، ومع هذا فهو الأعور الكذاب الدجال، فمن ادعى الإلهية بدون هذه الخوارق، كان دون هذا الدجال‏.‏ والحلاج كانت له مخاريق وأنواع من السحر، وله كتب منسوبة إليه في السحر‏.‏ وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلها، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج‏.‏
ومن قال‏: إن الله نطق على لسان الحلاج، وإن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسانه‏: أنا الله، فهو كافر باتفاق المسلمين، فإن الله لا يَحِل في البشر، ولا تكلم على لسان بشر، ولكن يرسل الرسل بكلامه، فيقولون عليه ما أمرهم ببلاغه، فيقول على ألسنة الرسل ما أمرهم

 

ص -481-

بقوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏أما إن الله قال على لسان نبيه‏: ‏سمع الله لمن حمده‏"‏‏.‏
فإن كل واحد من المرسل والرسول قد يقال‏: إنه يقول على لسان الآخر كما قال الإمام أحمد بن حنبل للمروذي‏: قل على لساني ما شئت، وكما يقال‏: هذا يقول على لسان السلطان كيت وكيت، فمثل هذا معناه مفهوم‏.‏
وأما أن الله هو المتكلم على لسان البشر كما يتكلم الجني على لسان المصروع، فهذا كفر صريح، وأما إذا ظهر مثل هذا القول عن غائب العقل قد رفع عنه القلم، لكونه مصطلما في حال من أحوال الفنا والسكر، فهذا تكلم به في حال رفع عنه فيهما القلم، فالقول وإن كان باطلا لكن القائل غير مؤاخذ‏.‏
ومثل هذا يعرض لمن استولى عليه سلطان الحب مع ضعف العقل، كما يقال‏: إن محبوبًا ألقى نفسه في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال‏: أنا وقعت فلم وقعت خلفي‏؟‏ قال‏: غبت بك عني فظننت أنك أني‏.‏
وقد ينتهي بعض الناس إلى مقام يغيب فيه بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته‏.‏
فإذا ذهب تمييز هذا وصار غائب العقل بحيث يرفع عنه القلم لم يكن معاقبا على ما تكلم به في هذه الحال، مع العلم بأنه خطأ وضلال، وأنه حال ناقص لا يكون لأولياء الله‏.‏

 

ص -482-

وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض‏: الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب‏.‏ فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء وقد شهد مقتله وكما ذكر إسماعيل بن على الخطبي في تاريخ بغداد وقد شهد قتله وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبوبكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبوالفرج بن الجوزي، فيما جمعا من أخباره‏.‏
وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من المشايخ الذين عدهم من مشايخ الطريق‏.‏ وما نعلم أحدًا من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ، ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره، وأبلغ من يحسن به الظن يقول‏: إنه وجب قتله في الظاهر، فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد، وهذا أيضا خطأ‏.‏
وقول القائل‏: إنه قتل ظلمًا، قول باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه، صار زنديقًا، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق، فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل

 

ص -483-

المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر تقبل توبته‏.‏
وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال‏: قتل ظلمًا‏.‏
وأما قول القائل‏: إن الحلاج من أولياء الله، فالمتكلم بهذا جاهل قطعا، متكلم بما لا يعلم، لو لم يظهر من الحلاج أقوال أهل الإلحاد، فإن ولي الله من مات على ولاية الله، يحبه ويرضي عنه، والشهادة بهذا لغير من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، لا تجوز عند كثير من العلماء أو أكثرهم‏.‏
وذهبت طائفة من السلف كابن الحنفية، وعلى بن المديني ‏: إلى أنه لا يشهد بذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعضهم‏: بل من استفاض في المسلمين الثناء عليه شهد له بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه بجنازة فأثنوا خيرًا، فقال‏:
‏"‏وجبت وجبت‏"‏، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا فقال‏: ‏"‏وجبت وجبت‏"‏‏.‏ قال‏: ‏"‏هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت‏: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت‏: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض‏"‏‏.‏
فإذا جوز أن يشهد لبعض الناس أنه ولي الله في الباطن، إما بنص وإما بشهادة الأمة فالحلاج ليس من هؤلاء، فجمهور الأمة يطعن عليه ويجعله من

 

ص -484-

أهل الإلحاد إن قدر على أنه يطلع على بعض الناس أنه ولي الله، ونحو ذلك مما يختص به بعض أهل الصلاح‏.‏
فهذا الذي أثنى على الحلاج ووافقه على اعتقاده ضال من وجوه‏:
أحدها‏: أنه لا يعرف فيمن قتل بسيف الشرع على الزندقة أنه قتل ظلمًا وكان وليا لله، فقد قتل الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وغيلان القدري، ومحمد بن سعيد المصلوب، وبشار بن برد الأعمى، والسهروردي، وأمثال هؤلاء كثير، ولم يقل أهل العلم والدين في هؤلاء أنهم قتلوا ظلمًا، وأنهم كانوا من أولياء الله، فما بال الحلاج تفرد عن هؤلاء‏.‏
وأما الأنبياء فقتلهم الكفار، وكذلك الصحابة الذين استشهدوا قتلهم الكفار، وعثمان، وعلى، والحسين ونحوهم قتلهم الخوارج البغاة، لم يقتلوا بحكم الشرع على مذاهب فقهاء أئمة الدين، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم‏.‏ فإن الأئمة متفقون على تحريم دماء هؤلاء، وهم متفقون على دم الحلاج وأمثاله‏.‏
الوجه الثاني‏: أن الاطلاع على أولياء الله لا يكون إلا ممن يعرف طريق الولاية، وهو الإيمان والتقوى‏.‏
ومن أعظم الإيمان والتقوى أن يجتنب مقالة أهل الإلحاد كأهل الحلول والاتحاد فمن وافق الحلاج على مثل هذه المقالة، لم يكن عارفًا بالإيمان

 

ص -485-

والتقوى، فلا يكون عارفًا بطريق أولياء الله، فلا يجوز أن يميز بين أولياء الله وغيرهم‏.‏
الثالث‏: أن هذا القائل قد أخبر أنه يوافقه على مقالته، فيكون من جنسه، فشهادته له بالولاية شهادة لنفسه، كشهادة اليهود والنصارى والرافضة لأنفسهم على أنهم على الحق، وشهادة المرء لنفسه فيما لا يعلم فيه كذبه ولا صدقه مردودة، فكيف يكون لنفسه ولطائفته الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم أهل ضلال‏؟‏
الرابع‏: أن يقال‏: أما كون الحلاج عند الموت تاب فيما بينه وبين الله أو لم يتب، فهذا غيب يعلمه الله منه، وأما كونه إنما كان يتكلم بهذا عند الاصطلام فليس كذلك، بل كان يصنف الكتب ويقوله وهو حاضر ويقظان‏.‏
وقد تقدم أن غيبة العقل تكون عذرًا في رفع القلم، وكذلك الشبهة التي ترفع معها قيام الحجة، قد تكون عذرًا في الظاهر‏.‏
فهذا لو فرض، لم يجز أن يقال‏: ‏قتل ظلما، ولا يقال‏: إنه موافق له على اعتقاده، ولا يشهد بما لا يعلم، فكيف إذا كان الأمر بخلاف ذلك وغاية المسلم المؤمن إذا عذر الحلاج أن يدعى فيه الاصطلام والشبهة‏.‏ وأما أن يوافقه على ما قتل عليه فهذا حال أهل الزندقة والإلحاد، وكذلك من لم يجوز قتل مثله فهو مارق من دين الإسلام‏.‏

 

ص -486-

ونحن إنما علىنا أن نعرف التوحيد الذي أمرنا به، ونعرف طريق الله الذي أمرنا به، وقد علمنا بكليهما أن ما قاله الحلاج باطل، وأنه يجب قتل مثله، وأما نفس الشخص المعين، هل كان في الباطن له أمر يغفر الله له به من توبة أو غيرها‏؟‏ فهذا أمر إلى الله، ولا حاجة لأحد إلى العلم بحقيقة ذلك، والله أعلم‏.‏

 

ص -487-

سئل شيخ الإسلام وحجة الأنام أبو العباس بن تيمية رضي الله عنه عمن يقول‏: إن ما ثم إلا الله‏.‏ فقال شخص‏: كل من قال هذا الكلام فقد كفر‏.‏
فأجاب رضي الله عنه‏:
الحمد لله، قول القائل‏: ‏ما ثم إلا الله‏: لفظ مجمل، يحتمل معنى صحيحًا ومعنى باطلا، فإن أراد ما ثم خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا يجيب المضطرين ويرزق العباد إلا الله فهو الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل وهو الذي يستحق أن يستعان به ويتوكل عليه، ويستعاذ به ويلتجئ العباد إليه، فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب‏:
‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏123‏]‏، وقال‏: {‏قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏} ‏[‏الرعد‏: ‏30‏]‏‏.‏ فهذه المعاني كلها صحيحة، وهي من صريح التوحيد، وبها جاء القرآن،

 

ص -488-

فالعباد لا ينبغي لهم أن يخافوا إلا الله، كما قال تعالى‏: ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏44‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏الذ ِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ‏}‏ إلى قَوله‏: ‏‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أولياءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏173‏: 175‏]‏‏.‏ وكذلك لا ينبغي أن يرجى إلا الله، قال الله تعالى‏: ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏: ‏2‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏: 38‏]‏‏.‏ ولا ينبغي لهم أن يتوكلوا إلا على الله كما قال تعالى‏: ‏‏{‏وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏: ‏12‏]‏، ولا ينبغي لهم أن يعبدوا إلا اللّه، كما قال تعالى‏: ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏: ‏5‏]‏‏.‏ ولا يدعوا إلا الله، كما قال تعالى‏: ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏: ‏18‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏213‏]‏ سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة‏.

 

ص -489-

وأما إن أراد القائل‏: ما ثم إلا الله، ما يقوله أهل الاتحاد، من أنه ما ثم موجود إلا الله، ويقولون‏: ليس إلا الله، أي ليس موجود إلا الله، ويقولون‏: إن وجود المخلوقات هو وجود الخالق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد، ونحو ذلك من معاني الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولا يثبتون المباينة بين الرب والعبد، ونحو ذلك من المعاني، التي توجد في كلام ابن عربي الطائي، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني، ونحوهم من الاتحادية‏.‏
وكذلك من يقول بالحلول كما يقوله الجهمية، الذين يقولون‏: إن الله بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطا بالمخلوقات، حتى إن هؤلاء يجعلونه في الكلاب والخنازير والنجاسات، أو يجعلون وجود ذلك وجوده، فمن أراد هذه المعاني فهو مُلْحِد ضال، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

ص -490-

سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر‏"‏ فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية‏؟‏ بينوا لنا ذلك‏؟‏
فأجاب‏:
الحمد لله‏.‏ قوله‏: ‏"‏لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر‏"‏‏: مروي بألفاظ أخر، كقوله‏: ‏"‏يقول الله‏: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار‏"‏ وفي لفظ‏: ‏"‏لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر، يقلب الليل والنهار‏"‏ وفي لفظ‏: ‏"‏يقول ابن آدم‏: يا خيبة الدهر، وأنا الدهر‏"‏‏.‏
فقوله في الحديث‏: ‏"‏بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار‏"‏ يبين أنه ليس المراد به أنه الزمان، فإنه قد أخبر أنه يقلب الليل والنهار، والزمان هو الليل والنهار، فدل نفس الحديث على أنه هو يقلب الزمان ويصرفه‏.‏ كما دل عليه قوله تعالى‏:
‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأولى الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏43، 44‏]‏‏.‏ وإزجاء السحاب‏: ‏سوقه‏.‏ والودق‏: ‏المطر‏.‏

 

ص -491-

فقد بين سبحانه خلقه للمطر، وإنزاله على الأرض، فإنه سبب الحياة في الأرض، فإنه سبحانه جعل من الماء كل شيء حي، ثم قال‏: ‏"‏يقلب الله الليل والنهار‏"‏ إذ تقليبه الليل والنهار‏: تحويل أحوال العالم بإنزال المطر، الذي هو سبب خلق النبات والحيوان والمعدن، وذلك سبب تحويل الناس من حال إلى حال، المتضمن رفع قوم وخفض أخرىن‏.‏ وقد أخبر سبحانه بخلقه الزمان في غير موضع، كقوله‏: ‏‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏1‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏33‏]‏، وَقوله‏: ‏‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏62‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأولى الألْبَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏190‏]‏، وغير ذلك من النصوص التي تبين أنه خالق الزمان‏.‏ ولا يتوهم عاقل‏: أن الله هو الزمان، فإن الزمان مقدار الحركة، والحركة مقدارها من باب الأعراض والصفات القائمة بغيرها، كالحركة والسكون والسواد والبياض‏.‏
ولا يقول عاقل‏: إن خالق العالم هو من باب الأعراض والصفات، المفتقرة إلى الجواهر والأعيان، فإن الأعراض لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به، والمفتقر إلى ما يغايره لا يوجد بنفسه، بل بذلك الغير فهو محتاج إلى ما به في نفسه من غيره، فكيف يكون هو الخالق‏؟‏
ثم أن يستغني بنفسه، وأن يحتاج إليه ما سواه، وهذه صفة الخالق سبحانه، فكيف يتوهم أنه من النوع الأول‏؟‏

 

ص -492-

أهل الإلحاد القائلون بالوحدة أو الحلول أو الاتحاد لا يقولون‏: إنه هو الزمان، ولا أنه من جنس الأعراض والصفات، بل يقولون‏: هو مجموع العالم، أو حال في مجموع العالم‏.‏
فليس في الحديث شبهة لهم، لو لم يكن قد بين فيه أنه سبحانه مقلب الليل والنهار فكيف وفي نفس الحديث أنه بيده الأمر يقلب الليل والنهار‏.‏
إذا تبين هذا، فللناس في الحديث قولان معروفان لأصحاب أحمد وغيرهم‏.‏
أحدهما‏: وهو قول أبي عبيد وأكثر العلماء‏: أن هذا الحديث خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية، ومن أشبههم، فإنهم إذا أصابتهم مصيبة أو منعوا أغراضهم أخذوا يسبون الدهر والزمان، يقول أحدهم‏: قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا‏.‏
وكثيرًا ما جرى من كلام الشعراء وأمثالهم نحو هذا، كقولهم‏: يا دهر، فعلت كذا‏.‏ وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور، ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله تعالى، لأنه هو الذي فعل تلك الأمور وأحدثها، والدهر مخلوق له، هو الذي يقلبه ويصرفه‏.‏
والتقدير‏: ‏أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور وأنا فعلتها، فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهر لا فعل له، وإنما الفاعل هو الله وحده‏.‏

 

ص -493-

وهذا كرجل قضي عليه قاض بحق أو أفتاه مُفْتٍ بحق، فجعل يقول‏: لعن الله من قضى بهذا أو أفتى بهذا، ويكون ذلك من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه فيقع السب عليه، وإن كان الساب لجهله أضاف الأمر إلى المبلغ في الحقيقة، والمبلغ له فعل من التبليغ، لخلاف الزمان فإن الله يقلبه ويصرفه‏.‏
والقول الثاني‏: قول نُعَيْم بن حماد، وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية‏: أن الدهر من أسماء الله تعالى، ومعناه‏: القديم الأزلي‏.‏
ورووا في بعض الأدعية‏: يا دهر يا ديهور، يا ديهار، وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله سبحانه هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، فهذا المعنى صحيح إنما النزاع في كونه يسمى دهرًا بكل حال‏.‏
فقد أجمع المسلمون وهو مما علم بالعقل الصريح أن الله سبحانه وتعالى ليس هو الدهر الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان، فإن الناس متفقون على أن الزمان الذي هو الليل والنهار‏.‏
وكذلك ما يجري مجرى ذلك في الجنة، كما قال تعالى‏:
{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏[‏مريم‏: ‏26‏]‏‏.‏ قالوا‏: ‏على مقدار البكرة والعشي في الدنيا، وفي الآخرة يوم الجمعة يوم المزيد، والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولكن تعرف الأوقات بأنوار أخر، قد روى أنها تظهر من تحت العرش، فالزمان هنالك مقدار الحركة التي بها تظهر تلك الأنوار‏.‏

 

ص -494-

وهل وراء ذلك جوهر قائم بنفسه سيال هو الدهر‏؟‏ هذا مما تنازع فيه الناس، فأثبته طائفة من المتفلسفة من أصحاب أفلاطون، كما أثبتوا الكليات المجردة في الخارج، التي تسمى المثل الأفلاطونية والمثل المطلقة، وأثبتوا الهيولي التي هي مادة مجردة عن الصور، وأثبتوا الخلاء جوهرًا قائما بنفسه‏.‏
وأما جماهير العقلاء من الفلاسفة وغيرهم، فيعلمون أن هذا كله لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي أمور يقدرها الذهن ويفرضها، فيظن الغالطون أن هذا الثابت في الأذهان هو بعينه ثابت في الخارج عن الأذهان، كما ظنوا مثل ذلك في الوجود المطلق، مع علمهم أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الذهن، وليس في الخارج إلا شيء معين وهي الأعيان، وما يقوم بها من الصفات، فلا مكان إلا الجسم أو ما يقوم به، ولا زمان إلا مقدار الحركة، ولا مادة مجردة عن الصور، بل ولا مادة مقترنة بها غير الجسم الذي يقوم به الأعراض، ولا صورة إلا ما هو عرض قائم بالجسم، أو ما هو جسم يقوم به العرض، وهذا وأمثاله مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
وإنما المقصود التنبيه على ما يتعلق بذلك على وجه الاختصار، والله أعلم‏.‏
تم الموجود الآن من كتاب توحيد الربوبية ويليه كتاب مجمل اعتقاد السلف‏.

 

ص -495-